قصة الحضارة - ول ديورانت - م 6 ك 1 ب 2

صفحة رقم : 7647

قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> الحكومة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثاني: إنجلترا: ويكلف، وتشوسر، والعصيان الكبير 1308-1400

الفصل الأوَّل: الحكومة

أقسم إدوارد الثاني الملك السادس من آل بلانتجنت في الخامس والعشرين من فبراير سنة 1308 أثناء تتويجه أمام رجال الدين والنبلاء المجتمعين في دير وست منستر، القسم الذي تطلبه إنجلترا في كبرياء من جميع ملوكها.

كبير أساقفة كنتربري: سيدي هل تمنح أهل إنجلترا وتحتفظ لهم وتؤكد لهم بقسمك القوانين والعادات التي منحها إياهم ملوك إنجلترا الأقدمون أسلافك الصالحون المتدينون وخاصة القوانين والعادات والامتيازات التي منحها لرجال الدين والشعب سلفك الملك العظيم القديس إدوارد؟

الملك: إني أمنحهم إياها وأعدهم بها.

كبير الأساقفة: سيدي هل تؤيد أمام الله وأمام الكنيسة المقدسة لرجال الدين وللشعب السلم والوئام في سبيل الله بكل مالك من قوة.

الملك: نعم سأؤيدها. كبير الأساقفة: سيدي هل تعمل على أ، تكون جميع أحكامك متصفة بالعدالة الحقة والمساواة والحزم والرحمة والصدق وتسهى لها بجميع قواك.

الملك: سأفعل ذلك.

كبير الأساقفة: هل تعد بأن تستمسك بالقوانين والعادات الصالحة

التي قد تختارها بلادك وأن تحافظ عليها وهل تدافع عنها وتقويها تكريماً لله وتعظيماً له بأقصى ما لديك من قوة؟. الملك: أوافق على ذلك وأعد به(1).

وبعد أن أقسم الملك على ومسح بالزيت المقدس وكرس حسب الأصول المرعية عهد بالحكم إلى موظفين مرتشين عاجزين وصرف حياته في اللهو مع بيزجافستون الغلام الذي كان يعشقه. لهذا ثار عليه أعيان البلاد وقبضوا على جافستون وذبحوه (1312) وأخضعوا إدوارد وإنجلترا لحكم الأقلية الثرية والإقطاعية. ولما عاد إدوارد يجلله الخزي والعار بعد أن هزم على أيدي الاسكتلنديين في بنوكبيرن (1314) أخذ يواسي نفسه بحب جديد هو حب هيو المبذر الثالث. وتآمرت زوجته ازابلا الأميرة الفرنسية التي أهملها مع عشيقها روجردي مورتمر على خلعه عن العرش (1326). ثم اغتاله أحد رجال مورتمر في قلعة بركلي (1327)، وتوج ابنه إدوارد الثالث ملكاً على إنجلترا وهو في الخامسة عشرة من عمره. وكانت أهم الحوادث في تاريخ إنجلترا في ذلك العهد وأعلاها قدراً هو أن تقررت في عام 1322 سابقة تحتم موافقة جمعية وطنية على كل قانون تسنه الحكومة كي يصبح نافذاً مشروعاً. فقد جرت سنة الملوك الإنجليز منذ زمن طويل إذا ألزمتهم الحاجة أن يدعوا للاجتماع "مجلس الملك" المؤلف من كبار الأعيان ورجال الدين. فلما كان عام 1295 كان إدوارد الأول يحارب فرنسا واستكلندة وويلز فاشتدت حاجته إلى المال والرجال فأمر "كل مدينة، وكل بلدة كبيرة أن تبعث باثنين من مواطنيها الأحرار وكل إقليم أو مقاطعة بأن ترسل فارسين (أقل درجة من النبلاء) إلى جمعية وطنية يتألف منها هي ومجلس الملك أول برلمان إنجليزي. وكان الباعث على هذه الدعوة أن المدن على اختلاف أنواعها كان لديها المال وقد يكون مستطاعاً أن يوافق مندوبوها على إعطائه للملك، أما المقاطعات والأقاليم فكان فيها الملاك المزارعون الذين يصبحون رماة بالسهام والحراب أقوياء، وكان الوقت قد حان لإنشاء هاتين القوتين وجعلهما جزءاً من هيكل الحكومة البريطانية. ولم يكن يدعي للديمقراطية الكاملة. ذلك أن المدن كانت-أو أنها ستكون قبل عام 1400-قد رفعت عن كاهلها سيادة رجال الإقطاع، فقد قصر حق الاقتراع فيها على أقلية صغرى من الملاك الذكور. ومعنى هذا أن الأشراف ورجال الدين ظلوا كما كانوا حكام إنجلترا، فقد كانوا يملكون معظم الأرض الزراعية ويستخدمون فيها الكثرة الغالبة من السكان إما مستأجرين لها أو أرقاء أرض فيها، وكانوا هم الذين ينظمون قوى البلاد المسلحة ويوجهونها.

واجتمع البرلمان (وهو الاسم الذي سمي به أيام إدوارد الثالث) في القصر الملكي بوست منستر المقابل للدير التاريخي المسمى بهذا الاسم. وجلس فيه عن يمين الملك كبير أساقفة كنتربري ويورك، والأساقفة الثمانية عشر، ورؤساء الأديرة الكبيرة، وجلس عن يساره مائة ممن يحملون ألقاب دوق، ومركيز، وايرل، وفيكونت، وبارون، وتجمع ولي العهد ومجلس الملك قرب العرش، وجلس قضاة المملكة على أكياس من الصوف يذكرهم بأهمية تجارة الصوف لإنجلترا، وقد جاءوا ليدلوا برأيهم في النقط القانونية. ولما افتتحت الجلسة وقف نواب المدن والفرسان-الذين عرفوا فيما بعد بالعموم-عراة الرؤوس أمام حاجز يفصلهم عن رجال الدين والأعيان، وأصبحت الجمعية الوطنية وقتئذ (1295) لأول مرة مكونة من مجلس أعلى ومجلس أسفل. واستمع القسمان مجتمعين إلى الملك أو نائبه وهو يلقي خطاباً (سمي فيما بعد خطبة العرش) يشرح فيه الموضوعات التي سيدور فيها البحث والقرارات التي يراد إصدارها. ثم انسحب رجال "العموم" ليجتمعوا في قاعة أخرى-كانت هي عادة قاعة اجتماع القساوسة في دير وست منستر. وهناك تناقشوا في اقتراحات الملك المعروضة عليهم.


فلما انتهت مناقشاتهم انتدبوا "متكلما" ليبلغ المجلس الأعلى ما وصلوا إليه من نتائج، وليعرضوا ملتمساتهم على الملك. ولما انتهت دورة الانعقاد اجتمع المجلسان مرة أخرى ليستمعا إلى رد الملك وليعلنا انفضاض الدورة وكان للملك وحده حق دعوة البرلمان إلى الاجتماع وفض دورة اجتماعاته. وكان كلا المجلسين يطالب لنفسه بحرية المناقشة ويستمتع بها في الأحوال العادية. وكانا في كثير من الأحوال يرفعان إلى الحاكم ما يستقر عليه رأيهما بعبارات قوية منطوقة أو مكتوبة، غير أن الحاكم في كثير من الأحوال كان يأمر بسجن من يشتط في نقده. وكانت سلطات البرلمان تشمل من الوجهة النظرية شؤون التشريع، أما من الوجهة العملية فكان وزراء الملك هم الذين يعرضون على البرلمان مشروعات القوانين التي يقرها، غير أن المجلسين كثيراً ما كانا يقدمان توصيات وشكاوى ويؤخرون الاقتراع على الأموال المطلوبة حتى تستجاب رغباتهم كلها أو بعضها. وكانت "قوة المال" هذه هي كل ما في أيدي "العموم" من سلاح، ولكن سلطتهم هذه زاد شأنها حين زادت نفقات الإدارة وثروة المدن. فلم تكن الملكية والحالة هذه ملكية مطلقة أو دستورية فالملك مثلاً لم يكن يستطيع تغيير سنة البرلمان أو سن قانون جديد بنفسه علناً وبطريقة مباشرة، ولكنه كان خلال معظم العام يحكم دون أن يقيده البرلمان ويصدر قرارات تنفيذية لها أثرها في كل ناحية من نواحي الحياة الإنجليزية. ولم يكن يرقى العرش عن طريق الانتخاب بل عن طريق الوراثة. وكانت ذاته تُعد ذاتاً مقدسة ترعاها الحرمات الدينية، وكانت جميع قوى الدين والعادات والقانون والتربية واليمين التي تتلى عند تتويجه تبث في النفوس طاعته والولاء له. فإذا لم يكف هذا كان قانون الخيانة العظمى ينص على أن يقبض عليه متهماً بعصيان الدولة يجر في الشوارع إلى المشنقة وتنتزع أحشاؤه وتحرق أمام عينيه ثم يشنق بعدئذ(2).

ولما بلغ إدوارد الثالث الثامنة عشر من عمره في عام 1330 تولى شؤون الحكم بنفسه وبدأ عهداً من أكثر العهود حادثات في تاريخ إنجلترا. وقد كتب مؤرخ معاصر له يقول "كان وسيم الخلق، وكان وجهه كأنه وجه إله(3)، وقد ظل حتى أضعفه الإسراف في المسائل الجنسية ملكاً في سمته وفي كل جارحة من جوارحه وكاد يهمل شؤون السياسة المحلية لأنه كان محارباً لا حاكماً، وقد أسلم السلطات إلى البرلمان وهو راضٍ مغتبط مادام البرلمان يمده بما تحتاجه حروبه من المال. وقد ظل طوال حكمه الطويل يستنزف دماء فرنسا فيما كان يبذله من محاولات لضمها إلى تاجه. لكنه كان مع ذلك رجلاً ذا مروءة، كثيراً ما كان شهماً مقداماً، وقد عامل الملك جون الفرنسي حين أسه معاملة يشرف بها بلاط الملك ارثر لو أنها كانت في أيامه. ولما ثم بناء البرج المستدير في وندسور بعد أن سخر في بنائه 722 رجلاً عقد فيه اجتماعاً حول مائدة مستديرة مع المقربين إليه من الفرسان وأقام حفل مثاقفة رأسه بنفسه. ويرى فرواسار قصة لا نستطيع تحقيقها يقول فيها أن إدوارد حاول أن يغوي كونتيسة سلزبوري الحسناء، فلما صدته في أدب ومجاملة أقام حفل ألعاب فروسية لكي يستمتع خلالها بمشاهدة جمالها(4)، وتروي قصة أخرى طريفة أن الكونتيسة ألقت على الأرض بربطة ساق حين كانت ترقص أثناء حفل البلاط، فاختطفها الملك من فوق الأرض وقال "فليجلل العار من تخامره فيه فكرة سوء".

وأصبحت هذه العبارة من ذلك الوقت شعار نوط ربطة الساق الذي أنشأه إدوارد في عام 1349.

وأثبتت البس برز أنها أيسر منالاً من الكونتيسة ذلك أنها وإن كانت متزوجة قد استسلمت للملك النهم، ونالت في نظير ذلك الاستسلام هبات واسعة من الأرض، وكان لها عليه من النفوذ العظيم ما جعل البرلمان يسجل احتجاجه على هذا النفوذ. وصبرت الملكة فيلبا (كما يقول فروسار تابعها المغرم بها) على هذا كله صبر الكرام؛ وسامحته، ولم تطلب إليه وهي على فراش الموت ألا أن يوفي بما قطعه على نفسه من عهود خاصة بالصدقات وألا تختار لنفسك، حين يريد الله أن تفارق هذا العالم قبراً غير أن ترقد إلى جواري. ووعدها بذلك "والدمع يترقرق في عينيه" ثم عاد إلى أليس وأعطاها جواهر الملكية.

وخاض غمار حروبه بجد وشجاعة ومهارة، وكانت الحروب تعد وقتئذ أسمى أعمال الملوك وأنبلها، وكان من يتقاعدون عن الحروب من الملوك يحتقرون، وقد خلع من ملوك إنجلترا ثلاثة يتصفون بهذه الصفة، وكان الموت الطبيعي عاراً لا يستطيع معه إنسان ما أن يبقى حياً، إذا جاز لنا أن نتجاوز بعض الشيء عما في هذا القول من مفارقة تاريخية، وكان كل فرد من أبناء الأسرة الأوربية الشريفة يدرب على الحرب، ولم يكن يستطيع أن ينال السلطان أو الأملاك إلا بالشجاعة في الحروب والحذق في استعمال السلاح. وكان الأهلون يقاسون الأهوال من جراء الحروب، ولكنهم قلما كانوا هم أنفسهم يخوضون غمارها حتى اعتلى هذا الملك العرش، ونسي أبناؤهم ذكرى آلامها، وأخذوا يستمعون إلى قصص الفروسية القديمة التي تروي أمجاد الفرسان، ويتوجون بأحسن الأكاليل رؤوس ملوكهم الذين يريقون من دماء الأجانب أكثر قدر مستطاع.

ولما عرض إدوارد أن يفتح فرنسا لم يكد يجرؤ أحد من مستشاريه على أن يشير عليه بالتراخي والصلح، ولم ترتفع صيحة السلام من ضمائر الأمة إلا بعد أن استمرت الحرب جيلاً من الزمان، وأثقلت كاهل الأهلين حتى الأغنياء منهم بالضرائب الفادحة. وكاد استياء الشعب يبلغ حد الثورة حين تبدلت حملات إدوارد من نصر إلى هزيمة وهددت الاقتصاد القومي بالخراب. وكان إدوارد هذا قد ظل حتى عام 1370 يفيد في الحرب والسياسة من حكمة السير جون تشاندوس وولائه وإخلاصه في خدمته. فلما توفي هذا البطل حل محله في مجلس الملك دوق لا نكستر ابن الملك وهو الذي كان يطلق عليه اسم جون جونت وهو الاسم المشتق من غانت أو غنت التي ولد فيها. وأسلم جون بإهماله حكم البلاد إلى القراصنة السياسيين الذين أثروا على حساب الشعب، ورفع البرلمان عقيرته يطلب الإصلاح، وأخذ الصالحون من الرجال يدعون الله على الأمة سعادتها بالتعجيل بموت الملك، وكان في مقدور ابن آخر من أبنائه يسمى الأمير الأسود-ولعل هذا الاسم مأخوذ من لون درعه-أن يبعث روح القوة والنشاط في الحكومة، ولكنه فارق هذا العالم في عام 1176 على حين أن حياة الملك قد طالت بعد وفاته.

وأصدر "البرلمان الصالح" في ذلك العام قرارات ببعض الإصلاحات، وزج في السجن باثنين من المجرمين وأمر بطرد أليس بروز من البلاط، وأخذ على الأساقفة عهداً بأن يحرموها من حظيرة الدين إذا عادت إلى البلاط مرة أخرى. ولما انتهت الدورة البرلمانية أغفل إدوارد قراراته، وأعاد جون جونت إلى سابق سلطانه وأليس برز إلى فراش الملك، ولم يجرؤ أحد من الأساقفة على أن يوجه إليها التأنيب أو اللوم. ثم رضي الملك العنيد آخر الأمر أن يموت (1377)، وخلفه على العرش ابن للأمير الأسود وتسمى باسم ريشارد الثاني، وكان غلاماً في الحادية عشرة من عمره. وكانت البلاد حين تولى الحكم تضطرب فيها عوامل الفوضى الاقتصادية والسياسية وتختمر فيها أسباب الثورة الدينية.

الفصل الثاني: جون ويكلف 1320-1384

ترى ما هي الظروف التي جعلت إنجلترا تستجيب لنداء الإصلاح الديني في خلال القرن الرابع عشر؟ أكبر الظن أن أخلاق رجال الدين لم يكن لها إلا دور ثانوي في هذه المسرحية. فقد رضي كبارهم وقتئذ بحياة العزوبة، نعم أننا نسمع أن أسقفاً يدعى بيرنل كان له خمسة أبناء ذكور، ولكن حالته كانت في أغلب الظن حالة شاذة. ويتفق ويكلف ولايخلاند، وجوور، وتشوسر فيما لاحظوه من ميل بعض الرهبان والإخوان إلى الطعام الشهي والنساء الفاسدات، ولكن البريطانيين ما كانوا ليستولي عليهم الغيظ وينتشر بين أمتهم بسبب خروج هؤلاء على هذا الصراط الذي كان الزمن قد مهده لهم من قبل، بسبب الراهبات اللائى كن يأتين إلى الصلاة وفي أيديهن مقاود كلابهن وعلى أذرعهن طيورهن المدللة، أو بسبب الرهبان الذين كانوا يسرعون في صلواتهم المتقطعة غير المتماسكة (وقد خص الإنجليز الفكهون الشيطان بمعاون خاص يجمع له جميع المقاطع التي "تتساقط من أفواه القابضين، والقافزين، والمسرعين، والمتمتمين والسابقين في الوثب والجري" وهم يقومون بصلواتهم المرخمة، ثم كان الشيطان يختص هؤلاء الآثمين بعام في الجحيم جزاء لهم على هذه المقاطع التي يغفلونها أو يطئونها بأقدامهم).

أما الذي كان يقض مضاجع غير رجال الدين ويفت في عضدهم هم ورجال الحكم على السواء فهو الزيادة المطردة في ثروة الكنيسة الإنجليزية وتداولها بين أيدي رجال الدين. نعم إن رجال الدين كانوا يسهمون بأداء عشر إيرادهم للدولة، ولكنهم كانوا يصرون على ألا تفرض عليهم ضريبة إلا بموافقة مجامعهم الدينية. ذلك أنهم كانوا يجتمعون بأشخاصهم أو بمن يختارونهم للنيابة عنهم، في مجامع يرأسها كبير أساقفة كنتربري ويورك، وذلك فضلاً عن انهم كان لهم ممثلون في مجلس اللوردات هم أساقفتهم ورؤساء الأديرة، وكان رجال الدين يقررون في هذه المجالس كل الأمور ذات الصلة بالدين أو برجاله وقد جرت العادة على أن يختار الملك أكبر موظفي الدولة من بين رجال الدين بوصفهم أعظم الطبقات علماً في إنجلترا. وكانت القضايا التي يقيمها العلمانيون على رجال الدين، والتي تمس أملاك الكنيسة، ترفع إلى محاكم الملك، ولكن محاكم الأساقفة كانت هي المختصة بالنظر في الجرائم التي يرتكبها رجال الدين. وكانت الكنيسة في كثير من المدن تؤجر أملاكها للأفراد، وتطالب أن يكون لها السلطة القضائية الكاملة على هؤلاء المستأجرين، حتى إذا ارتكبوا جرائم عادية . وكانت هذه كلها أمور تضايق الأهلين، ولكن أكثر ما كان يضايقهم هو انتقال الثروة من الكنيسة الإنجليزية إلى الباباوات، أي انتقالها في القرن الرابع عشر إلى افنيون أي إلى فرنسا نفسها. وقد قدرت الثروة الإنجليزية التي حصل عليها البابا بأكثر من التي حصلت عليها الدولة أو الملك.

وتألف في بلاط الملك حزب مناهض لرجال الدين، وسنت شرائع تجعل القسط الذي تسهم به الكنيسة في نفقات الدولة أكبر وأعظم ثباتاً مما كان. ولما كان عام 1333 أبى إدوارد الثالث أن يستمر في أداء الجزية التي تعهد جون ملك إنجلترا عام 213 بأدائها للباباوات، وفي عام 1351 حاول البرلمان في "قانون الشروط" أن يضع حداً لسلطان الباباوات على موظفي الكنيسة الإنجليزية وإيراد ممتلكاتها. ونص "قانون السجن والمصادرة" (1353) على أن يحرم من حماية القانون كل إنجليزي يتقاضى في المحاكم الأجنبية (البابوية) في جميع المسائل التي يرى أنها في دائرة اختصاص السلطة الدنيوية. وفي عام 1376 شكا مجلس العموم رسمياً من أن جباة البابوية في إنجلترا يبعثون إلى البابا بمبالغ طائلة من المال، وان الكرادلة الفرنسيين غير المقيمين في إنجلترا يحصلون على إيرادات كبيرة من كراسي الأسقفية الإنجليزية. وكان زعيم الحزب المناهض لرجال الدين في بلاط الملك هو جون جونت. وكانت الحماية التي بسطها جون على ويكلف هي التي جعلته يموت ميتة طبيعية.

وكان مولد أول المصلحين البريطانيين في هبسول القريبة من قرية ويكلف، من أعمال مقاطعة يوركشير في حوالي عام 1320 ودرس في جامعة أكسفور، وصار أستاذاً للاهوت، وقضى عاماً (1360) بعد ذلك رئيساً لكلية بالبول. ورسم قسيساً، وتلقى من الباباوات عدداً من المناصب أو المرتبات من كنائس الأبرشيات، ولكنه ظل خلال ذلك يدرس في الجامعة. وكان نشاطه الأدبي كبيراً إلى حد روع معاصريه، فقد كتب رسائل في الفلسفة المدرسية عما وراء الطبيعة، وعن اللاهوت، والمنطق، وكتب مجلدين في فن الجدل، وأربعة مجلدات في المواعظ، ورسائل كثيرة متنوعة قصيرة التأثير منها رسالة في السلطة المدنية. وكان معظم ما كتب بلغة لاتينية خالية من الرشاقة عسيرة الفهم من شأنها أن تجعلها قليلة الضرر إلا لعلماء النحو. ولكنه كان يخفي في ثنايا هذا الغموض أفكاراً جد خطيرة، كانت تفصل بريطانيا عن الكنيسة الرومانية قبل أن يفصلها هنري الثامن بمائة وخمس وخمسين عاماً، وتقذف ببيوهيميا في أتون الحرب الأهلية وتسبق جميع أفكار الإصلاح التي نادى بها جون هوس ومارتن لوثر إلا القليل منها.

وبدأ ويكلف عمله بداية سيئة، فاستسلم لمنطق أوغسطين وفصاحته، وبنى عقيدته على مبدأ الجبرية الخطير، وهو المبدأ الذي قدر له أن يبقى حتى يومنا هذا أشبه بالمغناطيس الذي يجذب إليه المذهب البروتستنتي اللاهوتي وينجي القائلين به من العقاب. وفي ذلك يقول ويكلف إن الله يمنح بركته ورحمته لمن يشاء، وقد كتب على كل إنسان مصيره المحتوم في الأزل قبل مولده كتب عليه الخسران أو النجاة إلى الأبد. وليست الأعمال الصالحة هي التي تنجي صاحبها، بل إنها تدل على إن من يعملها قد تلقى رحمة الله ونعمته وأنه ممن اختارهم وخصهم بهذه النعمة وتلك الرحمة ونحن نصدر في أعمالنا حسبما قسمه الله لنا، ومصيرنا هو خلقنا وليس خلقنا هو مصيرنا كما قال هرقليطس. وكان آدم وحواء وحدهما هما اللين استمتعا بحرية الإدارة، ثم خسرا وأبناؤهما من بعدهما هذه الحرية بمعصيتهما. ولله سيدنا ذو السلطان الكامل علينا، وولاؤنا له ولاء مباشر أشبه ما يكون باليمين التي يقسمها كل إنجليزي أمام الملك، وليس هو ولاء غير مباشر عن طريق ولاء لسيد تابع كما هي الحال في فرنسا الإقطاعية. ومن ثم كانت العلاقة القائمة بين الإنسان والله علاقة مباشرة لا تحتاج إلى وسيط، ولذلك يجب أن يرفض كل ما تدعيه الكنيسة أو يدعيه أي قس من أن تكون هي أو يكون هو واسطة لا بد منها. وبهذا المعنى يكون كل مسيحي قسيساً وليس في حاجة إلى أن يرسم كذلك والله مالك الأرض وما عليها، وليس في مقدور الآدمي أن يمتلك شيئاً منه بحق إلا بوصفه تابعاً له طائعاً لأمره. وكل ما يحمل وزراً-يكون بذلك عاصياً للملك القدوس-يفقد بذلك كل حق له فيما يملك لأن الامتلاك الحق يتطلب أن يكون المالك متمتعاً بنعمة الله. وواضح مما جاء في الكتاب المقدس أن المسيح قد قصد ألا يكون للحواريين ولمن خلفهم، ولمن رسموا بعدهم مندوبين عنهم ألا يكون لهؤلاء جميعاً أملاك ما وأذن فكل كنيسة، وكل قس يمتلكان شيئاً يعصيان أوامر الله، وهما لذلك آثمان، ومن ثم فهما لا يستطيعان تقديم العشاء الرباني. ومن ثم فإن أعظم ما تحتاجه الكنيسة ويحتاجه رجال الدين من إصلاح هو أن تتخلص ويتخلص رجالها من الأملاك الدنيوية.

وكأن هذا لم يكن يثير من المتاعب ما فيه الكفاية، فاستنتج ويكلف من مذهبه الديني مذهباً آخر من مذاهب الشيوعية النظرية والفوضى النظرية، فقال إن كل شخص تحل عليه نعمة الله وبركته يشارك الله في امتلاك الطيبات، أي أن كل شيء من الوجهة النظرية يمتلكه جميع الصالحين مجتمعين. أما الملك الخاص والحكومة فهما أثر من آثار خطيئة آدم وخطيئة الإنسان التي ورثها عنه أي أنهما متأصلان في الطبيعية البشرية. كما كان ينادي بذلك بعض الفلاسفة المدرسيين. والمجتمع الذي تعمه الفضيلة لا يكون فيه ملك فردي، ولا قانون يضعه الإنسان وتسنه الكنيسة أو الدولة. وخشي ويكلف أن يفسر ذلك المتطرفون الذين كانوا يفكرون وقتئذ في الخروج على الحكومة في إنجلترا تفسيراً حرفياً، فقام يفسر هو شيوعيته على أنها يجب أن تؤخذ بمعناها المثالي، وأن السلطات التي تقوم بمقتضاها هي التي نادى بها القديس بولس والتي أمر بها الله ومن ثم كانت واجبة الطاعة. وقد كرر لوثر في عام 1525 تكراراً يكاد يكون دقيقاً كل الدقة ما لمح به ويكلف في أقواله عن الثورة.

ورأى الحزب المناهض للكنيسة شيئاً من المعنى في تنديد ويكلف بثروة الكنيسة، إن لم يره في شيوعية ويكلف. ولما رفض البرلمان مرة أخرى أن يؤدي الخراج الذي تعهد الملك جون أن يؤديه للبابا (1366) عين ويكلف قساً في خدمة الملك ليعد دفاعاً عن هذا العمل، وعينه إدوارد الثالث في عام 1374 رئيساً لكنيسة أبرشية لوثر وورث ويبدو أنه قصد بذلك أن يكون إيرادها أجراً له يحتفظ به لنفسهِ. ثم عين ويكلف في عام 1376 عضواً في اللجنة المكلفة التي أرسلت إلى بروج لتبحث مع عمال البابا ما تصر عليه إنجلترا من رفض أداء الخراج، ولما أن اقترح جون جونت أن تصادر الحكومة بعض أملاك الكنيسة، دعا ويكلف إلى الدفاع عن هذا الاقتراح في سلسلة من الخطب الدينية يلقيها في لندن. ولبى ويكلف الدعوة (في سبتمبر من عام 1376)، وكان جزاؤه أن وسمه الحزب المناصر لرجال الدين بأنه آلة في يد جونت. وقرر كورتناي أسقف لندن أن يشن هجوماً غير مباشر على جونت، فاتهم ويكلف بأنه رجل مارق خارج عن الدين. واستدعي الواعظ للمثول أمام مجلس من الأحبار في كنيسة القديس بولس في شعر فبراير من عام 1377. وأطاع الأمر، ولكنه جاء ومعه جون جونت تتبعهما حاشية مسلحة. وشجر نزاع بين الجنود وبعض النظارة، قامت على أثره ضوضاء، فرأى الأسقف أن من الحكمة تأجيل المحاكمة، وعاد ويكلف إلى أكسفورد دون أن يمسسه سوء. وبعث كورنتاي إلى روما اتماماً مفصلاً نقل فيه اثنتين وخمسين عبارة من كتب ويكلف، فلما كان شهر مايو أصدر جريجوري الحادي عشر مراسيم بابوية يطعن فيها على ثمانية عشر من أقوال ويكلف، معظمها من رسالتهِ "عن الحكم المدني"، وأمر سدبري كبير الأساقفة والأسقف كورنتاي أن يبحثا الأمر ليعرفا هل لا يزال ويكلف معتنقاً لهذه الآراء، فإذا تبينا أنه لا يزال يعتنقها فعليهما أن يلقيا القبض عليه ويحتفظا به في الأغلال حتى تصدر إليهما تعليمات أخرى.

وكان ويكلف في هذه الأثناء قد كسب تأييد طائفة كبيرة من الرأي العام فضلاً عن تأييد جون جونت ولوردبيرسي لورد نورثمبرلند. وكان البرلمان الذي اجتمع في شهر أكتوبر مناهضاً للكنيسة أشد المناهضة. وكانت حجة القائلين بمصادرة أموال الكنيسة تستهوي كثيرين من الأعضاء، فقد كان هؤلاء يحسبون أنه إذا ما استولى الملك على الثروة التي يستحوذ عليها الأساقفة، ورؤساء الأديرة والرهبان، فإن في وسه أن يقيم بها خمسة عشر نبيلاً يحملون لقب ايرل، وألفاً وخمسمائة فارس، وستة آلاف ومائتين من أتباع الفرسان، وأن يتبقى له بعد ذلك عشرون ألف جنيه. وكانت فرنسا وقتئذ تستعد لغزو إنجلترا، وكانت الخزانة الإنجليزية تكاد تكون خاوية، وبدا أن من الحمق أن يسمح لوكلاء البابا بأن يجمعوا الأموال من الأبرشيات الإنجليزية لبابا فرنسي ولمجلس من الكرادلة كثرته الغالبة من الفرنسيين. وسأل مستشارو الملك ويكلف "هل يحق لمملكة إنجلترا شرعاً، إذا كانت الضرورة تحتم عليها لتعمل لصد ما يتهددها من الغزو الفرنسي، أن تمنع أموال الدولة من الوصول إلى البلاد الأجنبية، وإن طلبها البابا وهدد من يمنعها بالعقاب معتمداً في ذلك على وجوب طاعة أوامره؟" وأجاب ويكلف عن هذا الاستفتاء بمنشور كان في الواقع دعوة لفصل الكنيسة الإنجليزية عن البابوية وقد جاء في هذا المنشور: "إن البابا لا يستطيع أن يطلب هذا المال إلا على سبيل الصدقة.. ولما كانت أهل البلاد أولى من غيرهم بهذه الصدقات، فإن توجيه صدقات الدولة إلى البلاد الخارجية إذا كانت البلاد نفسها في حاجة إليها، يخرج بها عن نطاق الصدقات ويجعلها حماقة وبلاهة. ورد ويكلف على الدعوة القائلة بأن الكنيسة الإنجليزية جزء من الكنيسة العالمية الكاثوليكية وإن من واجب الكنيسة الإنجليزية لهذا السبب أن تطيعها وتخضع لأوامرها، رد ويكلف على هذه الدعوة بأن أوصى باستقلال إنجلترا الكنسي وقال: "إن الدولة الإنجليزية، بنص الكتاب المقدس يجب أن تكون هيئة واحدة، وأن يكون رجال الدين، واللوردات، والسكان العاديون أعضاء في هذه الهيئة". وقد بلغت هذه الدعوة، التي استبق بها هنري الثامن من الجرأة حداً جعل مستشاري الملك يطلبون إلى ويكلف أن يمتنعون عن الإدلاء بآراء جديدة في هذا الموضوع.

وأجل البرلمان جلساته في يوم 8 نوفمبر. وفي الثامن عشر من ديسمبر نشر الأساقفة-وكانوا قد أعدوا العدة للقتال-قرارات التنفيذ التي أصدرها البابا، وأمروا مدير جامعة أكسفورد أن ينفذ أمر البابا القاضي باعتقال ويكلف. وكانت الجامعة وقتئذ في ذروة استقلالها العقلي، وكانت في عام 1322قد اتخذت لنفسها حق خلع أي مدير لها لا ترضى عنه دون أن تأخذ في ذلك رأي أسقف لنكولن رئيسها الرسمي الأعلى، وكانت في عام 1367 قد نبذت كل ما كان للأساقفة من إشراف عليها. وأيد نصف كليات الجامعة حق ويكلف في أن يجهر برأيه على الأقل وأبى مدير الجامعة أن يطيع الأساقفة، وأنكر كل حق حبر من الأحبار على الجامعة في المسائل الخاصة بالعقائد، ولكنه أوصى ويكلف في الوقت نفسه بأن يبقى إلى حين في عزلة متواضعاً، غير أنه قلما يوجد بين المصلحين من يستطيع الصمت، ظهر ويكلف في شهر مارس من عام 1378 أمام مجلس الأساقفة في لامث ليدافع عن آرائهِ. ولما أوشك النقاش أن يبدأ تلقى كبير الأساقفة رسالة من والدة الملك إدوارد الثاني تستنكر فيه أي قرار نهائي بإدانة ويكلف، وبينما كانت إجراءات المحاكمة تجري في مجراها شق جمهور من الأهلين طريقه من الشارع إلى قاعة الاجتماع، وأعلن أن الشعب الإنجليزي لا يسمح بقيام أية محكمة للتفتيش في إنجلترا. وخضع الأساقفة لرأي الشعب المتفق مع رأي الحكومة وتأجل اتخاذ قرار وعاد ويكلف مرة أخرى إلى داره دون أن يصيبه أذى، بل إنه في الحق عاد ظافراً منتصراً. وتوفي جوريجوري الحادي عشر في السابع والعشرين من شهر مارس وحدث الانشقاق البابوي الذي قسم البابوية وأضعف سلطان الكنيسة بوجه عام. وعاد ويكلف إلى الهجوم، وأخذ يصدر المنشور تلو المنشور، وكان الكثير منها باللغة الإنجليزية، وكلها تزيد في مخالفته للكنيسة وثورته عليها.

والصورة التي يصور لنا بها تلك السنين هي صورة الرجل الذي أبهظ الجدل كاهله، وجعله كبير السن متزمتاً في آرائه الدينية. ولم يكن بالرجل المتصوف، بل كان إنساناً محارباً ومنظماً، ولعله قد ذهب بمنطقه إلى أبعد حدود التطرف، وأخذ وقتئذ يطلق العنان للقدح والطعن بلا حساب، يطعن على الإخوان الرهبان بسبب دعوتهم إلى التمسك بالتقى، في حين أنهم يجمعون المال ويكدسونه، وكان يرى أن بعض الأديرة إن هي إلا مأوى للصوص، وعششاً للأفاعي، وبيوتاً للأحياء من الشياطين"، وعارض النظرية القائلة بأن فضائل القديسين يمكن أن يستعان بها على إنقاذ الأرواح من المطهر، وقال إن المسيح والقديسين لم يأتوا إلى الناس بشيء من صكوك الغفران، "إن الأحبار يخدعون الناس بصكوك الغفران الزائفة أو وثائق المغفرة. وينهبون بذلك أموالهم لعنة الله عليهم.. وما أشد حماقة من يبتاعون هذه الصكوك بهذه الأثمان الغالية؟ وإذا كلن في مقدور البابا أن ينتزع الأرواح من المطهر، فلم لم ينتزعها منه على الفور عملاً بروح الإحسان المسيحية؟ وذهب ويكلف إلى أبعد من هذا في عنفه فقال إن "كثيرين من رجال الدين يدنسون أعراض الزوجات، والعذارى، والأرامل، والراهبات، بكل ضروب الفسق والفجور"، وطالب بأن يحاكم رجال الدين على جرائمهم أمام المحاكم المدنية غير الدينية، وهاجم الكهنة الذين يتملقون الأغنياء، ويزدرون الفقراء، والذين لا يترددون في أن يغفروا ذنوب الأثرياء، ولكنهم يحرمون الفقراء المدقعين من حظيرة الدين لأنهم لا يؤدون العشور للكنيسة، والذين يقضون أوقاتهم في صيد الحيوان والطير ولعب الميسر، ويقصون على الناس أنباء المعجزات الكاذبة. أما أحبار إنجلترا فقد اتهموا بأنهم "ينتزعون من الفقراء أرزاقهم، ولكنهم لا يقاومون الظلم" وبأنهم "يقدرون البنس العطن أكثر مما يقدرون دم المسيح الثمين". ولا يصلون إلا تظاهراً وادعاء ويأخذون الأجر عن كل صلاة دينية يقومون بها ويحيون حياة الترف، فيمتطون الجياد الثمينة، ذات السروج المصنوعة من الفضة والذهب"، وهم نهابون... خبثاء، ثعالب ماكرة،...وذئاب ناهشة.. نهمون شرهون.. شياطين.. قردة". وهو بهذه الأقوال يستبق لوثر في لغته "والاتجار بالمقدسات منتشر في جميع أقسام الكنيسة.. وأكثر ما ينتجه هذا الاتجار من الضرر اتجار كنيسة روما لأنه أوسع ضروب الاتجار انتشاراً، تحت ستار ادعاء من القداسة، ولأنه يحرم بلادنا من الرجال والمال أكثر مما يحرمها غيره".وأن ما هو قائم بين الباباوات "في انقسامهم" من تنازع شائن، تبادلهم الحرمان من حظيرة الدين، واقتتالهم على السلطان اقتتالا يجللهم العار" يجب أن يدفع الناس إلى ألا يؤمنوا بالباباوات إلا بقدر ما يتبع هؤلاء تعاليم المسيح"، إن مقام البابا والقسيس في مقام اللورد بل قل في مقام الملك"، في الشؤون الروحية، ولكنه إذا ما جمع لنفسه الأملاك الدنيوية، أو السلطة السياسية، أصبح غير خليق بمنصبه، إن المسيح لم يكن له مكان يريح فيه رأسه أما هذا البابا فيقول عنه الناس إنه يمتلك الإمبراطورية... وكان المسيح وديعاً... أما البابا فيجلس على عرشه، ويجعل الأعيان يقبلون قدميه". ثم يشير ويكلف إشارة رقيقة فيقول أن البابا هو عدو المسيح الذي تنبأت به الرسالة الأولى من رسائل الرسول يوحنا، وأنه الوحش الوارد ذكره في سفر الرؤيا، والذي ينبئ بعودة المسيح.

ويقول ويكلف أن هذه المشكلة لا تحل إلا بتجريد الكنيسة من كل الأملاك والسلطات المادية، ويقول أن المسيح وحوارييه قد عاشوا فقراء وأن من واجب القسيسين أن يعيشوا هم أيضاً فقراء، أما الرهبان والإخوان فيجب أن يعودوا إلى ما كانت عليهم قوانين طوائفهم، فيبتعدوا عن كل ملك وترف. والقساوسة "يجب أن يبتهجوا حين تنتزع منهم كل أسباب السيادة الزمنية"، ويجب أن يقنعوا بالطعام والكساء، وأن يعيشوا على الصدقات التي يقدمها الناس إليهم طائعين مختارين. وإذا لم يتخلَ رجال الدين عن ثروتهم ويعودوا باختيارهم إلى الفقر الذي أمرتهم به الشريعة المسيحية، وجب أن تتدخل الدولة فتصادر أملاكهم "ألا يصلح السادة والملوك من شأن رجال الدين، ويرغموا القساوسة على الاستمساك بالفقر الذي أمرهم به المسيح". ومن واجب الملك حين يفعل هذا ألا يخشى ما يصبه عليه البابا من اللعنات، لأن "اللعنة الصادرة من الآدمي أياً كان ليست لها قوة، إلا إذا كانت اللعنة صادرة من الله نفسه". والملوك مسئولون أمام الله وحده، وهم يستمدون سلطانهم منه. ويقول ويكلف في هذا إن الدولة يجب أن تعد نفسها ذات السلطان الأعلى في جميع الشؤون الزمنية، وأن عليها أن تستحوذ على جميع أملاك الكنيسة. بدل أن تقبل المبدأ الذي يقول به جريجوري السابع وبونيفاس الثامن وهو أن سلطة الحكومات الدنيوية يجب أن تخضع هي نفسها للكنيسة، وعلى هذا يجب أن يكون الملك هو الذي يرسم القساوسة.

وكانت سلطة القس تعتمد على حقه في أن يقدم العشاء الرباني، ولهذا ولى ويكلف وجهه نحو هذا القربان مستبقاً في ذلك ما قام به لوثر وكلفن استباقاً فيه كل معانيه، وأنكر ضرورة الاعتراف الجهري أمام القس، ونادى بالعودة إلى الاعتراف الاختياري العام الذي كان يفضله المسيحيون الأولون، ومن أقواله في هذا المعنى: "لا حاجة إلى الاعتراف السري أمام القساوسة.. فذلك اعتراف أدخله الشيطان أخيراً في الدين.. ذلك أن المسيح لم يكن يعمل به، كما لم يعمل به أحد من الحواريين من بعده. وبه استحال الناس الآن عبيداً لرجال الدين، وهو يستخدم الآن أسوأ استخدام للأغراض الاقتصادية والسياسية" و "بهذا الاعتراف السري يستطيع الراهب والراهبة أن يرتكبا الخطيئة معاً" وقد يكون في وسع الصالحين من غير رجال الدين أن يغفروا ذنوب الإثم خيراً مما يستطيع أن يغفرها له القساوسة الأشرار، ولكن الحق الذي لا ريب فيه أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب. ومن واجبنا أن نرتاب بوجه عام في صحة العشاء الرباني الذي يقدمه القس الآثم أو الخارج على الدين، كما أن القس، صالحاً كان، أو طالحاً، لا يستطيع أن يحيل الخبز المقدس إلى جسم المسيح ودمه. ولم يكن شيء يبدو أبشع في نظر ويكلف من تفكيره في أن بعض من يعرفهم من القساوسة يستطيعون أن يأتوا بهذه المعجزة التي هي من صنع الله وحده.

وكان ويكلف ينكر فكرة التجسد كما ينكرها لوثر، ولكنه لم يكن ينكر حضور المسيح بحق ويقول أن المسيح كان يحضره حضوراً روحياً، حقيقياً، صادقاً، قوي الأثر، ولكن حضوره هذا كان مع الخبز والنبيذ اللذين لم ينعدم وجودهما كما تدعي الكنيسة. أما كيف يكون ذلك فهو سر غامض لم يحاول كلا الرجلين أن يفسره.

ولم يكن ويكلف يعترف بأن في هذه الأفكار خروجاً على الدين، ولكن فكرة "اتحاد الجوهر" روعت بعض أنصاره، فأسرع جون جونت إلى أكسفورد، وألح على صديقه ألا يذكر شيئاً آخر عن العشاء الرباني (1381)، ورفض ويكلف نصيحته، وعاد فأكد آراءه في اعتراف له أصدره بتاريخ 10 مايو 1381. واندلعت نيران ثورة اجتماعية في إنجلترا بعد شهر من ذلك التاريخ، ارتاع لها كل ذوي الأملاك، وجعلتهم يقاومون كل مذهب فيه خطر على الملكية أياً كان شكلها، كنيسة كانت أو علمانية. وخسر ويكلف إذ ذاك معظم ما كانت تنفحه به الحكومة من تأييد، وكان اغتيال سدبري كبير الأساقفة سبباً في ارتقاء الأسقف كورنتاي ألد أعدائه إلى منصب كبير أساقفة إنجلترا بدلاً منه. وظن كورتناي أنه إذا سمح لفكرة العشاء الرباني التي يقول بها ويكلف أن تنتشر، فإن انتشار سيقضي على منزلة رجال الدين، أي القضاء على أساس سلطة الكنيسة الأدبية والأخلاقية. ولهذا دعا في شهر مايو من عام 1381 مجلساً من رجال الدين ينعقد في دير بلاكفرايز في لندن. وأقنع كبير الأساقفة هذه الجمعية بأن تستنكر أربعة وعشرين من آراء ويكلف قرأها هو من مؤلفاته، ثم بعث بأمر عاجل إلى مدير جامعة أكسفور ليمنع مؤلف هذه الكتب من الاستمرار في التعليم أو الوعظ إلا بعد أن يثبت استمساكه بأصول الدين القويم. وأضاف الملك رتشارد الثاني إلى هذا أمراً أصدره إلى مدير الجامعة بأن يطرد منها ويكلف وجميع مؤيديه، وكان ذلك جزءاً من الخطة التي انتهجها لمقاومة الفتنة التي كادت تطوح به عن عرشه. فما كان من ويكلف إلا أن انسحب إلى أملاكه في لتر وورث، وكان لا يزال وهو فيها تحت حماية جون جونت على ما يبدو.

وارتبك ويكلف وتحير بما أبداه من إعجاب به القس جون بول زعيم الثورة، فأصدر عنه منشورات يتنحى فيها عن العصاة، ويبرأ فيها من كل آراء اشتراكية، ويحث أتباعه على الخضوع لسيادتهم من غير رجال الدين، وأن يصبروا ويصبروا وهم أقوى ما يكونون إيماناً بأنهم سينالون خير الجزاء بعد الموت. لكنه مع ذلك ظل يصدر المنشور تلو المنشور ضد الكنيسة، وأشأ طائفة من "القساوسة الوعاظ الفقراء" لينشروا إصلاحاته بين الشعب. وكان من هؤلاء "الأتباع" من لم يتلقوا من العلم إلا أقله، كما كان منهم رجال من جامعة أكسفورد، وكانوا جميعاً يرتدون أثواباً من الصوف الأسود ويمشون حفاة، كما كان يفعل "الإخوان" الأقدمون، كما كانوا كلهم تعمر قلوبهم حماسة الرجال الذين تكشفت لهم من جديد حقيقة المسيح. وكانت عقيدتهم المتأصلة في نفوسهم هي أن الكتاب المقدس لا يأتيه الباطل بخلاف تقاليد الكنيسة وعقائدها المعرضة للخطأ، وكانوا يصرون على أن يعظوا الناس بلغتهم القومية لا بالطقوس الغامضة التي تتلى عليهم بلغة أجنبية. وكتب ويكلف إلى هؤلاء القساوسة العلمانيين وإلى من يستمعون إليهم من المتعلمين بلغة إنجليزية سهلة قوية خالية من التنميق ثلاثمائة موعظة، وكثيراً من المقالات الدينية.وإذ كان يجث الناس إلى العودة إلى المسيحية كما جاءت في كتاب العهد الجديد، فقد شرع هو ومساعدوه يترجمون الكتاب المقدس ليكون هو المرشد الوحيد المنزه عن الخطأ إلى الدين الحق ولم يكن قد ترجم حتى ذلك الوقت (1381) إلا جزء قليل من الكتاب المقدس إلى اللغة للإنجليزية، وإن كانت ترجمة فرنسية منه كانت معروفة إلى الطبقات المتعلمة، وترجمة من اللغة الإنجليسكسونية، لا تفهمها إنجلترا في أيام ويكلف، قد وصلت إليها في عهد الملك الفرد. ووجدت الكنيسة أن الخارجين على الدين أمثال طائفة الولدرسيين يفيدون كثيراً من الكتاب المقدس، فأخذوا يثبطون عزيمتهم على قراءة التراجم غير المعترف بها، وأخذت تندد بما تتوقعه من فوضى في العقائد الدينية حين تعمد كل شيعة إلى ترجمة الكتاب المقدس لنفسها، وتلون تلك الترجمة بآرائها، وحين يكون كل قارئ حراً في أن يفسر نصوص الكتاب المقدس كما يشاء. ولكن ويكلف كان صادق العزيمة في أن يكون الكتاب المقدس في متناول كل إنجليزي يستطيع القراءة. ويلوح أنه هو نفسه قد ترجم أسفار العهد الجديد، وترك ترجمة العهد القديم لنقولاس هيرفور وجوبير وقد تمت هذه التراجم كلها بعد عشر سنين من موت ويكلف. وكان الأصل الذي ترجم الكتابان عنه هو ترجمة جيروم اللاتينية. لا الترجمة العبرية للعهد القديم أو اليونانية للعهد الجديد. ولم تكن الترجمة نموذجاً يحتذى في النثر الإنجليزي، لكنها كانت حدثاً خطيراً في التاريخ الإنجليزي. ولما كان عام 1384 دعا البابا أربان السادس ويكلف للمثول بين يديه في روما. ولكن دعوة أخرى كانت ذات سلطان أكبر من سلطان دعوة أربان. ذلك أن المصلح المريض أصيب في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر عام 1384 بضربة شلل وقت أم كان يقوم بالقداس ثم وافته المنية بعد ثلاثة أيام من تلك الإصابة. ودفن في لثروت، لكن عظامه قد أخرجت من قبره بناءً على قرار من مجلس كنستانس (4 مايو سنة 1415) وألقيت في مجرى ماء قريب من هذا القبر. ودار البحث عن كتاباته وأبيد كل ما عثر عليه منها.

وكانت آراء ويكلف تحوي كل عناصر الإصلاح الكبيرة، تحوي انهماك رجال الدين في متاع الدنيا، والدعوة إلى إتباع قانون أخلاقي شديد صارم، والعودة من الكنيسة إلى ما جاء في الكتاب المقدس، ومن توما الأكيوني إلى أوغسطين، ومن حرية الإرادة إلى الجبرية، ومن النجاة عن طريق العمل الصالح إلى النجاة باختيار الرحمة الإلهية. وكانت هذه الآراء تحوي كذلك رفض صكوك الغفران، والاعتراف السري للقسيس، وعقيدة التجسد، وأن القس واسطة بين الله والعبد، وتحتج على إرسال الثروة القومية إلى روما، ودعوة الدولة إلى نبذ طاعة البابوية، والهجوم على أملاك رجال الدين (وبذلك مهد الطريق لهنري الثامن). ولو لم تقض الثورة الكبرى على حماية الحكومة لجهود ويكلف، لتأصل الإصلاح الديني وعلت قواعده في إنجلترا قبل أن تشب ثورة الإصلاح في ألمانيا بمائة وثلاثين عاماً.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الثورة الكبرى 1381

كان عدد سكان إنجلترا وويلز في عام 1307 يقدر تقديراً غير موثوق به بثلاثة ملايين من الأهلين، أي أنه قد ارتفع ارتفاعاً بطيئاً من 2.500.000 وهو ما كان يطن أنه عدد السكان سنة 1066 وهذان الرقمان يوحيان بأنه قد حدث تقدم بطئ أيضاً في الفنون الزراعية والصناعية-وتحديد قوي لعدد السكان بسبب القحط، والمرض والحروب-في جزيرة زراعية ضيقة الرقعة، لا ينتظر منها بمواردها الخاصة أن تعول عدداً كبيراً من الأهلين. وأكبر الظن أن ثلاث أرباع السكان كانوا من الزراع، وأن نصف هؤلاء السكان كانوا من أرقاء الأرض، وكانت إنجلترا من هذه الناحية متأخرة عن فرنسا بقرن من الزمان.

وكانت الفروق بين الطبقات أشد منها في أرض القارة الأوربية وبدا أن الحياة كانت ترتكز على نقطتين الأعيان الطيبين الراحمين أو المتغطرسين من جهة، والخدمات يؤديها الزراع يغلي في صدورهم الغضب أو يحدوهم الرجاء من جهة أخرى. وكان الأعيان سادة كل ما هو لهم والكثير مما يتجاوزوه، إذا استثنينا من ذلك ما عليهم للملك من واجبات محددة وكان لأدواق لانكستر، ونورفوك، وبكنجهام ضياع تنافي ضياع التاج، ولم يكن آل نيفيل وبيرسي قد فقدوا من ثروتهم إلا القليل الذي لا يكاد يذكر، وكان السيد الإقطاعي يحتم على الفرسان الذين يدينون له بالولاء وعلى أتباع هؤلاء أن يخدموه ويدافعون عنه، ويلبسوا ثياب زينته الخاصة.غير أنه كان في وسع الإنسان أن يرقى من طبقة إلى طبقة، وكان في مقدور ابنة تاجر ثري أن تحظى بزوج نبيل ولقب من ألقاب الشرف، ولو أن نشوس قد عاد إلى الحياة بعد موته لدهش إذ رأى أن حفيدته قد أصبحت دوقة وتصنعت الطبقات الوسطى ما استطاعت أن تتصنعه من عادات الأشراف، فبدأ أفرادها يخاطب بعضهم بعضاً في إنجلترا بلفظ سيد وفي فرنسا بلفظ Monsieur، وسرعان ما أصبح كل رجل في كلا البلدين سيداً كما أصبحت كل امرأة سيدة .

وكان تقدم الصناعة أسرع من تقدم الزراعة، فلم يحل عام 1300 حتى كادت جميع مناجم الفحم في إنجلترا تستغل، وحتى كان الحديد، والفضة، والرصاص، والقصدير يستخرج من باطن الأرض، وحتى كان تصدير المعادن من أهم الصادرات إلى البلدان الأجنبية، وكان من الأقوال التي تجري على الألسنة أن "قيمة المملكة في باطن الأرض أعظم منها في ظاهرها". وبدأت صناعة الصوف في ذلك القرن تزيد من ثراء إنجلترا فأخذ كبار الملاك ينتزعون الأرض شيئاً فشيئاً من المستأجرين وأرقاء الأرض الذين كانوا يستخدمونها في الزراعة ويحيلون أجزاء واسعة منها إلى مراعٍ لتربية الضأن إلا إن بيع الصوف كان يدر عليهم من المال أكثر مما يدره حرث الأرض، وأتى على تجار الصوف حين من الدهر كانوا فيه أغنى التجار في إنجلترا، وكان في مقدورهم أن يقدموا للملك إدوارد الثالث أموالاً طائلة في صورة ضرائب وقروض، ومع ذلك فقد عمل الملك على خرابهم. ذلك أن إدوارد الثالث قد ساءه أن يرى الصوف الغفل يخرج من إنجلترا ليغذي صناعة النسيج في فلاندرز، فأغرى النساجين بالمجيء إلى بريطانيا (1311 وما بعدها)، وعمل الإنجليز بناء على إرشادهم على إقامة صناعة النسيج فيها، ثم حرم تصدير الصوف واستيراد معظم الأقمشة الأجنبية، ولم ينته القرن الرابع عشر حتى أصبحت صناعة النسيج لا تجارة الصوف أهم مصادر الثروة السائلة في إنجلترا وحتى وصلت إلى مرحلة قريبة من الصناعات الرأسمالية.

وكانت الصناعة الجديدة تتطلب التعاون التام بين عدة حرف-النسيج، والتقصير، والتمشيط، والصباغة، والصق، لم يكن في وسع نقابات الحرف القديمة أن تنظم ما يحتاج إليه الإنتاج الاقتصادي من تعاون، فعمل أصحاب المشروعات الكبرى على جميع الأخصائيين المختلفين من العمال في منظمة واحدة، يشرفون عليها ويمدونها بالمال. على أنه لم يقم في هذه البلاد نظام للمصانع كالذي كان قائماً في فلورنس وفلاندرز، بل ظل معظم العمل يتم في حوانيت صغيرة على يد معلم كبير، وصبيانه، وعدد قليل من البائعين المتجولين، أو يتم في مصانع ريفية صغيرة تدار بقوة الماء، أو في بيوت ريفية حيث كانت الأصابع الدائبة الكادحة تدير الأنوال إذا أتاحت لها أعمالها المنزلية الرتيبة فسحة من الوقت. وقاومت نقابات الحرف النظام الجديد بالإضراب ولكن تفوقه في الإنتاج تغلب على كل ضروب المقاومة، وأصبح العمال الذين ينافسون الصناعات الجديدة في بيع نتائج كدحهم وحذقهم تحت رحمة الذين يمدون هذه الصناعات برؤوس الأموال وبالمدربين، وازدادت سيطرتها عليهم شيئاً فشيئاً وأصبح الكادحون في المدن "لا يدخرون شيئاً لغدهم..وملابسهم رثة، وبيوتهم قذرة..يجدون كفايتهم من العيش في أوقات الرخاء، ولكنهم لا يجدون ما يقيم أودهم في أيام الشدة". وكان جميع الذكور من سكان المدن في إنجلترا معرضين لأن يجندوا للعمل في الأعمال العامة، ولكن كان في وسع الأغنياء منهم أن يشتروا أنفسهم بالمال. وكان الأهلون بوجه عام يعيشون في فقر مدقع، وإن لم يبلغ فقرهم في أغلب الظن من الشدة ما كان عليه في أوائل القرن التاسع عشر، وكان المتسولون في البلاد كثيرون، وقد نظموا أنفسهم تنظيماً يقصد به حماية مهنتهم وحكمها، وكانت الكنائس، والأديرة، ونقابات الحرف تقدم قليلاً من الصدقات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وفاجأ البلاد-وهذه حلها-الوباء المعروف في الموت الأسود، ولم يكن هذا الوباء كارثة حلت بها فحسب، بل كاد يكون ثورة اقتصادية. ذلك أن سكان إنجلترا كانوا يعيشون في جو يصلح للزراعة والإنبات ولكنه يضر بالصحة فقد كانت الحقول خضراء طوال أيام السنة، ولكن الأهلين كانوا يقاسون آلام النقرس، والروماتزم، والربو، وعرق النسا، وذات الرئة، والاستسقاء، وأمراض العين والجلد. وكانت الطبقات كلها تتخم معدتها بالطعام (إن وجدته) وتدفئ أجسامها بالمشروبات الكحولية. وقد وصفهم رتشارد رول في عام 1340 بقوله: "قلما يصل الآن أحد منهم إلى سن الأربعين، وأقل من تلك القلة من يصل إلى سن الخمسين". وكانت النظم الصحية العامة بدائية، فكانت روائع المدابغ العامة، وحظائر الخنازير، والمراحيض تفسد الهواء، وكان الأثرياء وحدهم هم الذين يحصلون على الماء الجاري من أنابيب تمتد إلى بيوتهم، أما كثرة السكان فكانوا ينقلونه من القنوات المغطاة أو من الآبار، وكان أثمن من أن يضيعوه في الاستحمام كل أسبوع. ولهذا كله كانت الطبقات الدنيا ضحايا سهلة للأوبئة التي كانت تفتك بالأهلين من حين إلى حين من ذلك أن الطاعون الدملي انتقل في عام 1349 من نورماندي إلى إنجلترا وويلز ثم انتقل بعد عام من ذلك الوقت إلى اسكتلندة وايرلندة، ثم عاد إلى إنجلترا في أعوام 1361، 1368، 1375، 1382، 1390، 1438، 1464، وقضى في هذه السنين كلها على ثلث سكان البلاد، وهلك فيه ما يقرب من نصف رجال الدين، ولعل بعض المساوئ التي شكت منها الكنيسة الإنجليزية فيما بعد ترجع إلى اضطرارها إلى حشد رجال في خدمتها حشداً سريعاً، وكانت تنقصهم الكفايات التي ينتجها التدريب والخلق القويم، وكان لهذه الظروف أسوأ الأثر في الفن، وتوقف بناء الكنائس أو كاد نحو جيل من الرومان، وفسدت الأخلاق، وانحلت روابط الأسر، وطغت العلاقات الجنسية على القيود التي حاول نظام الزواج أن يقيدها بها مراعاة لمصلحة النظام الاجتماعي، ولم تجد القوانين مشرفين ينفذونها، وكثيراً ما يتجاهلونها.

وتعاون الطاعون مع الحرب للتعجيل باضمحلال النظام الإقطاعي، فقد هجر كثيرون من الزراع الأراضي التي كانوا يستأجرونها ونزحوا إلى المدن بعد أن فقدوا أبناءهم وغيرهم ممن كانوا يساعدونهم في فلاحتها، واضطر الملاك إلى أن يستأجروا عمالاً أحراراً، يؤدون لهم ضعفي ما كانوا يؤدونه قبل من الأجور، وأن يغروا عندهم مستأجرين بشروط خير من الشروط السابقة، وأن يستبدلوا بالمال الخدمات الإقطاعية. وإذ كان الملاك أنفسهم قد اضطروا إلى ابتياع كل ما يشترونه بأثمان عالية، فقد اضطروا إلى أن يطلبوا إلى الحكومة أن تتدخل لتثبيت موازنة الأجور. واستجاب المجلس الملكي إلى هذا الطلب بأمر أهم ما جاء فيه:

لما كان قسم كبير من أفراد الشعب وبخاصة طبقة العمال والخدم قد ماتوا أخيراً بسبب الوباء...ولما كان الكثيرون يرفضون العمل إلا في نظير أجور باهظة، بل إن بعضهم يفضلون التوسل والتعطل على العمل لكسب أقواتهم، فقد نظرنا نحن فيما قد يحدث فيما بعد من اضطراب مخزن من نقص في الأيدي العاملة وبخاصة بين العمال والفلاحين، وبعد مناقشة هذه المسائل، اتفقنا مع كبار رجال الدين وأعيان البلاد، ورجال العلم واستعنا بهم وتبادلنا وإياهم المشورة أمرنا بما هو آت:

1- كل شخص صحيح الجسم تقل سنة عن ستين عاماً، وليست له (وسيلة) للعيش، وإذا طلب إليه (شخص آخر أن يعمل) يجب عليه أن يقوم بخدمة من يطلب ذلك إليه، وإلا زج به في السجن حتى يقدم من يضمن قيامه بالعمل.
2- إذا غادر الخدمة عامل أو خادم قبل الوقت المتفق عليه، حكم عليه بالسجن.
3- لا يعطى الخادم إلا الأجور القديمة لا أكثر منها.
4- إذا تقاضى صانع أو عامل أجراً يزيد على ما كان يتقاضاه عادة زج به في السجن.
5- يجب أن تباع مواد الطعام بأسعار معقولة.
6- ليس لإنسان أن يعطى شيئاً لمتسول يستطيع العمل.

لكن العمال وأصحاب الأعمال أهملوا هذا القرار إهمالاً واسعاً اضطر معه البرلمان أن يصدر (في التاسع من فبراير سنة 1351 ("قانون العمال" الذي ينص على ألا تزيد الأجور على ما كانت عليه في عام 1346، والذي حدد أثمان عدد كبير من السلع والخدمات وقرر وجوب استخدام الآلات. ثم صدر قانون آخر في عام 1360 ينص على جواز إرغام الزراع الذين يتركون الأرض التي تعاقدوا على زراعتها أو استئجارها قبل انتهاء الموعد المحدد للعقود أو الإيجار على العودة إليها، كما ينص على أن لقضاء الصلح إذا شاءوا أن يسموا هؤلاء المخالفين على جباههم. واتخذت فيما بين عامي 1377، 1381 إجراءات أخرى مختلفة في قسوتها، ولكن الأجور ارتفعت على الرغم من هذه القوانين والقرارات، غير أن الأحقاد التي ولدتها هذه الأعمال في صدور العمال ورجال الحكم أثارت النزاع بين الطبقات وكانت سلاحاً جديداً في أيدي دعاة الفتنة.

وكان للثورة التي تأجج لهيبها على أثر هذه الحوادث أكثر من عشرة مصادر، فقد أخذ الزراع الذين كانوا لا يزالون من أرقاء الأرض يطالبون بحريتهم، وطالب المستأجرون بأن يحددوا إيجار الأرض بأربعة بنسات (1.67 دولار) للفدان الواحد في السنة. وكانت بعض البلدان لا تزال خاضعة للسادة الإقطاعيين، وكانت هذه تتوق إلى أن تتمتع بالحكم الذاتي، وكان العمال في البيئات المحررة يكرهون الأقلية الغنية من التجار، كما كان التجار المتنقلون يتذمرون من فقرهم وعدم اطمئنانهم على مصادر رزقهم. وكان الزراع في الريف، والعمال في المدن، بل كان قساوسة الأبرشيات أنفسهم-كانوا هؤلاء جميعاً ينددون بسوء الحكم في السنين الأخيرة من عهد إدوارد الثالث، والسنين الأولى من عهد رتشارد الثاني، ويتساءلون لم توالت الهزائم على الجيوش الإنجليز بعد عام 1369، ولم تجن الضرائب الفادحة لتميل هذه الهزائم نفسها. وكان أشد حقدهم ينصب على سدبري كبير الأساقفة وعلى روبرت هاليز وهما كبيرا وزراء الملك الشاب وجون جونت ويتهمونهم بأنهم أنصار الفساد والعجز في دوائر الحكومة وأجدر من يجب أن توجه إليهم التهم.

ولم يكن لواعظ اللورد (أتباع ويكلف) إلا أقل صلة بهذه الحركة، ولكن نصيبهم كان هو تهيئة الأذهان للثورة، فقد كان جون بول زعيمها الفعلي يكرر أقوال ويكلف ويحبذها، وكان وات تيلر يطالب كما كان يطالب ويكلف بالاستيلاء على أملاك الكنيسة. وكان بول، "قس كنت المجنون" (كما كان يلقبه فرواسار)، يعلم الشيوعية لجماعة المصلين معه، وقد صدر قرار بحرمانه من حظيرة الدين في عام 1366. فأصبح بعدئذ واعظاً جائلاً يندد بالمال الحرام الذي جمعه الأحبار والأعيان، ويطالب بعودة رجال الدين إلى الفقر الذي يدعو إليها الإنجيل ويسخر من الباباوات المتنافسين الذين كانوا بانشقاقهم يقتسمون ثياب المسيح. وتعزو إليه الرواية المتواترة ذلك البيت المشهور:

حيث كان آدم يحفر وكانت حواء تقيس
من كان وقتئذ السيد العظيم


أي حيث كان آدم يحفر الأرض وحواء تعمل على النول، هل كان في الجنة أقوام مقسمون طبقات، وكان فرواسار ينقا الآراء المعزوة إلى بول في طول يد على شدة عطفه عليها، وإن كان في الوقت نفسه محباً لطبقة الأشراف البريطانيين:

أصدقائي الأعزاء إن الأمور لا تستطيع أن تسير في إنجلترا سيراً حسناً حتى يصبح كل شيء مشاعاً، وحتى لا يكون في البلاد سادة ولا أتباع، وحتى لا يكون الملاك سادة إلا بقدر ما نكون نحن، ألا ما أسوأ ما يعاملوننا به. ولأي سبب يتحكمون فينا ويسترقوننا هذا الاستراق؟ ألسنا جميعاً أبناء آدم وحواء؟ وأي شيء يستطيعون أن يظهروه لنا ليسودوا به علينا؟...إنهم ليسموننا عبيداً، وإذا لم نقم بخدمتهم ضربونا بالسياط. فلنذهب إلى الملك ونحتج إليه، فهو شاب وفي مقدورنا أن نحصل منه على جواب فيه الخير لنا، فإذا لم نحصل عليه فلنعمل بأنفسنا لإصلاح أمورنا.

وقبض على "بول" ثلاث مرات وكان في السجن عندما اندلعت الثورة. وبلغ السخط مداه بضريبة الرؤوس التي فرضت عام 1380، وأشرفت الحكومة على الإفلاس، وكادت تخسر جواهر الملك المخزونة، وألحت الحرب في فرنسا مطالبة بأموال جديدة. ففرضت على الشعب ضريبة مقدارها 100.000 جنيه تجبى من كل نفس تناهز الخامسة عشرة من العمر. واتخذت عناصر الثورة المفرقة بهذه الضريبة الجديدة. وتنكب آلاف الناس طريق الحياة، وكانت حصيلة الضريبة أقل من المطلوب بكثير..وأرسلت الحكومة مندوبين آخرين للكشف عن الممتنعين عن دفع الضريبة فجمع العامة قواهم متحدين إياهم، ورجموا عملاء الملك إلى خارج مدينة برنتود عام (1381)، وحدث مثل ذلك في مدن فوينج دكورنجهام وسنت الينز. وعقدت اجتماعات شعبية للاحتجاج على الضريبة في لندن، وأرسل المجتمعون إلى الثائرين في الريف يشجعونهم ويدعونهم أن ينضموا إلى الثائرين في العاصمة وبذلك يرغمون الملك على ألا يكون هناك رقيق في إنجلترا.

ولقي فريق من الجباة عند دخولهم مدينة كنت مقاومة عارمة، وفي السادس من يونية سنة 1381، حطم جماعة من الغوغاء غياهب السجن في دوشستر، وأطلقوا سراح المسجونين، ونهبوا القلعة. وانتخبوا الثوار في اليوم التالي وات تيلر قائداً لهم. ولا يعرف شيء عن ماضيه قبل ذلك، ومن الواضح أنه كان جندياً مسرحاً، لأنه نظم الجمع المشتت للقيام بعمل موحد، واكتسب طاعته السريعة لأوامره.

وفي الثامن من يونية هاجم الجمع الهائج دور المبغضين إليه من الإقطاعيين والمحامين وموظفي الحكومة، وقد تسلح بالقسى والسهام والهراوات والفؤوس والسيوف، وتلقى مدداً من المتطوعين من جميع قرى كنت تقريباً. وفي اليوم العاشر دخل هذا الجمع مدينة كانتر بري فرحب به أهلها ونهب قصر سدبري كبير الأساقفة، وفتح أبواب السجن، وانتهب دور الأغنياء. وهكذا انظم سكان الجانب الشرقي من كنت بأسره إلى الثورة، وأخذت المدن تنضوي تحت لواء الثورة، واحدة بعد أخرى، وبادر الموظفون المحليون إلى الفرار من وجه العاصمة.. ولجأ الأغنياء إلى مناطق أخرى من إنجلترا، أو اختبئوا في أماكن بعيدة عن طريق الثائرين، أو تجنبوا الأخطار الأخرى بتقديم المساعدة بصورة ما إلى الثورة. وفي اليوم التالي وجه تيلر جيشه إلى لندن. فلما بلغ مدلستون أفرج عن "جون بول" فانظم إلى فريق الفرسان وأخذ يقدم إليه عظاته كل يوم وقال الآن يبدأ حكم الديمقراطية الذي طالما حلم به ودافع عنه، وتزول جميع الفوارق الاجتماعية، ولن يكون هناك بع الآن أغنياء وفقراء، إقطاعيون وعبيد، بل يكون كل إنسان ملكاً في ذاته(61).

ونشبت في الوقت نفسه ثورات مماثلة في نورفولك وسفولك وبيفرلي وبردجوتر وكمبردج واسكس ويدلسكس وستسكس وهرتفورد وسومرست وجز الشعب في يوري سانت ادموند رأس كبير الرهبان وهو الذي حافظ بصلابته على حقول الدير الإقطاعية على المدينة. وقتل المتمرد لشستر عدداً من التجار الفلورنسيين، وظناً منهم أنهم يقطعون الطريق على التجارة البريطانية. وأتلفوا ما وقع تحت أيديهم من الأضابير والعقود أو الوثائق التي تسجل الملكية الإقطاعية أو العبودية، وهكذا أحرق الأهالي في كمبردج وثائق الجامعة، وألقوا في مدينة ولدام كل وثيقة في محفوظات الدير طعمة للنيران.

وفي الحادي عشر من يونية أشرف جيش الثوار الذي نصفه من إسكس وهرتفورد على الضواحي الشمالية لمدينة لندن، وفي الثاني عشر بلغ ثوار كنت مدينة سوزوارك، على الشاطئ الثاني من التيمز مباشرة. ولم يبدأ أنصار الملك مقاومة منظمة واختبأ رتشارد الثاني وسدبري وهيلز في الحصن. وبعث تيلر إلى الملك يطلب مقابلته ورفض طلبه. وأغلق وليام ولورث عمدة لندن أبواب المدينة، ولكن الثوار في داخلها أعادوا فتحها. وفي الثالث عشر رحب الشعب بقوات كنت التي دخلت العاصمة فانظم إليها آلاف العمال. وأمسك تيلر بزمام جموعه في حزم، ولكنه هدأ من ثورتها بأن سمح لها أن تحاصر قصر جون اف جونت. فلم يسرق منه شيء، وقتلت الجماهير شخصاً من المتمردين حاول أن يسرق كأساً من الفضة. بيد أن كل شيء قد دمر، وألقي بالأثاث الفاخر من النوافذ، ومزقت الستائر النفيسة خرقاً، وسحقت الجواهر سحقاً، وأتت النيران على القصر كله، وتناست الجموع بعض المتمردين الذين استبد بهم الطرب وسكروا حتى غابوا عن الوعي في أقبية فذهبوا طعمة للنيران. ثم تحول الجيش بعد ذلك إلى تمبل، وهي قلعة رجال القانون في إنجلترا، وتذكر الفلاحون أن هؤلاء الفقهاء هم الذين صاغوا صكوك عبوديتهم، أو صادروا ممتلكاتهم في مقابل الضرائب، فوضعوا هناك أيضاً محرقة تلتهم الوثائق، وأشعلوا النيران في المباني حتى أتت عليها. وقوض السجن في نيوجيت كما دمر الأسطول. وانظم المسجونون السعداء إلى الغوغاء، وألح التعب على الجموع من الجهود المضنية التي بذلتها لتجمع انتقام قرن كامل في يوم واحد فرقدت في ظاهر المدينة ونامت.

وفي المساء رأى مجلس الملك أن يسمح له بالحديث مع تيلر وهو خير من الرفض على كل حال. وأرسل دعوة إلى تيلر وأتباعه لمقابلة رتشارد في الصباح التالي في ضاحية شمالية تُعرف بـ"مايل اند". وبعد بزوغ الفجر من اليوم الرابع عشر من يونية، ركب الملك، وكان في الرابعة عشرة من عمره، إنقاذاً لحياته، فخرج من القلعة يصحبه جميع مستشاريه ما عدا سدبري وهيلز الذين خافا أن تتعرض حياتهما للخطر. وشقت الجماعة الصغيرة طريقها وسط الجماهير المعادية إلى مايل اند، حيث تجمع الثائرون من اسكس، وتبعهم فريق من جيش كنت على رأسه تيلر الذي أدهشه استعداد رتشارد للاستجابة لجميع المطالب. وهي أن تلغى العبودية في كل أنحاء إنجلترا، وتزول جميع الأعباء والخدمات الإقطاعية، وتحدد قيمة إيجار العقار كما طلب المؤجرون، ويعلن عفو عن جميع الذين اشتركوا في الثورة. وبادر ثلاثون من الكتاب في صياغة مواثيق الحرية والعفو لجميع المناطق التي ثار أهلوها. وبيد أن الملك رفض مطلباً واحداً، وهو أن يسلم للشعب وزراءه وغيرهم من الخونة. وأجاب رتشارد بأن جميع الأشخاص المتهمين بإساءة استعمال السلطة سيحاكمون طبقاً للإجراءات التي ينظمها القانون، ويعاقبون إذا ثبت أدانتهم.

ولما لم يقنع تيلر بهذه الإجابة، ركب في فرقة مختارة من رجاله واتجهوا مسرعين إلى القلعة فوجدوا سدبري يرتل القداس في الكنيسة. فسحبوه إلى الفناء وبسطوه على الأرض ورقبته على كتلة من الخشب. ولم يكن جلاده حاذقاً، ففصل رأسه عن جسده بثماني ضربات من الفأس. ثم جز المتمردون رأس هيلز واثنين آخرين. وثبتوا على رأس كبير الأساقفة تاجه بمسمار نفذ من الجمجمة، ووضعوا الرؤوس على أسنة الرماح، وساروا بها في أنحاء المدينة، ثم علقوها على باب جسر لندن وانقضى ما بقي من ذلك النهار في سفك الدماء. وطالب تجار لندن، الذين أبو المنافسة الفلمنكية الجماهير أن تقتل كل فلمنكي تجده في العاصمة. وكان يقدم إلى المشكوك في جنسيته الخبز والجبن، ويطلب إليه أن يسميهما، فإن نطق اسميهما بلهجة فلمنكية دفع حياته ثمناً لذلك. وقتل في ذلك اليوم نيف ومائة وخمسون من التجار وأصحاب المصارف الغرباء في مدينة لندن وسقط كثير من رجال القانون الإنجليز، وجباة الضرائب وأنصار جون أف جونت بضربات الفؤوس في ثورة انتقامية لا تميز بين مذنب وبرئ. وقتل الصبيان في مختلف المهن والصناعات معلميهم والمدينون دائنيهم. وحتى إذا جاء منتصف الليل انسحب المنتصرون لينعموا بالراحة مرة أخرى بعد أن أشبعوا نهمهم.

وأبلغ الملك بهذه الأحداث فعاد أدراجه إلى مايل اند، ولم يتجه إلى البرج، بل إلى جناح والدته بالقرب من كنيسة سانت بول وقفل في الوقت نفسه عدد كبير من فرق اسكس وهرتفورد راجعين إلى ديارهم، ابتهاجاً بالمواثيق التي سجلت حريتهم. وفي الخامس عشر من يونية بعث الملك رسالة مهذبة، إلى فلول الثوار، يطلب إليهم في ظاهرة شمثفيلد خارج الدرجيت. ووافق تيلر على ذلك ولما كان رتشارد يخاف على حياته فقد قام بالاعتراف وتناول الأسرار المقدسة قبل الموعد المضروب، ثم ركب في حاشية تتألف من مائتي رجل أخفوا سيوفهم تحت أرديتهم غير العسكرية. وتوجه تيلر إلى شمنفيلد ولم يكن معه غير رفيق واحد يحرسه. وتقدم بمطالب جديدة غير معروفة على التحقيق ويبدو أنها كانت تتضمن مصادرة أملاك الكنيسة وتوزيع دخلها على الشعب. وأعقب ذلك نزاع، فقد وصف أحد حاشية الملك، تيلر بأنه لص فأمر تيلر مساعده، بقته فوقف العمدة ولورث في الطريق فما كان من تيلر إلا أن طعن ولورث الذي أنقذه الدرع المستور تحت عباءته وطعن ولورث بخنجره تيلر وأنفذ أحد سراة رتشارد سيفه في تيلر مرتين فعاد تيلر إلى رجاله صائحاً الخيانة، وسقط ميتاً عند أقدامهم فذهلوا من هذه الخيانة المفضوحة وأعدوا سهامهم وتأهبوا لإطلاقها. ومع أن عددهم كان قد أخذ في النقصان إلا أنهم ظلوا قوة لا يستهان بها وقد أحصاهم فروسافرت بعشرين ألف رجل من المحتمل أنهم كانوا يستطيعون الإحداق بحاشية الملك. ولكن رتشارد خرج إليهم في شجاعة وهو يصيح "أيها السادة، أتقتلون مليككم؟ سأكون رئيسكم وقائدكم، وستنالون مني ما تطلبون. وليس عليكم إلا أن تتبعوني إلى الحقول بعيداً " ومضى غير واثق أوعوا كلامه؟ أيتركونه حياً؟ وتردد الثوار. ثم اتبعوه واختلط معظم الحرس الملكي بهم.

أما ولورث فقد ركض بفرسه عائداً إلى المدينة، وأصدر أوامره إلى شيوخ النواحي الأربع والعشرين أن ينضموا إليه بكل القوات المسلحة التي يستطيعون حشدها. وكان كثيرون من المواطنين الذين عطفوا على الثورة أول الأمر قد أخذوا يحسون القلق من جراء أعمال القتال والتخريب، وشعر كل امرئ، يمتلك عقاراً أن أملاكه وحياته في خطر، وهكذا وجد العمدة لفوره جيشاً تحت إمرته يتألف من سبعة آلاف رجل كأنما انشقت عنهم الأرض. فعاد بهم إلى شمثفيلد، وهناك لحق بهم الملك وأحاط به، وعرض عليه أن يعمل السيف في الثائرين. فأبى رتشارد، فهم الذين وهبوا له الحياة عندما كان تحت رحمتهم، وهو لا يريد أن يبدو أقل منهم كرماً وقد أعلن إليهم أنهم أصبحوا أحراراً يستطيعون أن يرحلوا بسلام. وسرعان ما انقشع الذين بقوا من ثوار اسكس وهرتفورد، واختفى عصاة لندن في ديارهم، ولم تبق إلا ثلة كنت فاعترض رجال ولورث المسلحون، طريقهم إلى داخل المدينة ولكن رتشارد أمر أن لا يمسهم أحد بسوء، فتركوا المدينة آمنين، ثم اضطرب نظامهم ثانية على طول طريق كنت القديم. وعاد الملك إلى والدته، التي رحبت به ودموع الفرحة بسلامته في عينيها. وقالت: "آه، يا بني الصحيح، كم تحملت من الألم والعذاب من أجلك اليوم. "فأجاب الصبي": حقاً يا سيدتي أنني أحس ذلك جيداً، ولكن عليك الآن أن تبتهجي وتحمدي الله، لأنني اليوم استعدت ميراثي وكان مفقوداً، واستعدت ملك إنجلترا أيضاً(63).

وأصدر رتشارد في اليوم نفسه وهو الخامس عشر من يونية-وربما كان ذلك بتأثير العمدة الذي أنقذه-قراراً، ينفي من لندن، كل امرئ لم يقض فيها السنة الماضية بأسرها وإلا تعرض للموت صبراً. وأخذ ولورث وجنوده يفتشون في الطرقات والمساكن عن الغرباء، وقبضوا على كثيرين وقتلوا البعض. وكان بينهم رجل يدعى ستروا، اعترف، تحت وطأة التعذيب من غير شك، أن رجال كنت رسموا خطتهم لينصبوا تيلر ملكاً. وجاء في الوقت نفسه وفد من ثواراسكس إلى ولتام وطلبوا من الملك تصديقاً رسمياً للوعود التي قطعها على نفسه في الرابع عشر من يونية. فأجاب رتشارد بأن هذه الوعود قد صدرت بالإكراه، وليس في نيته أن يبقي عليها، وأخبرهم بنقيض ما توقعوا "لا تزالون أوغاداً، وستظلون أوغاداً"، وتوعد بالانتقام الرهيب من كل رجل يظل على عصيانه المسلح(64). ودعا المندوبون الناخبون أتباعهم أن بعثوا الثورة من جديد، فاستجاب البعض بيد أن رجال ولورث أبادوهم في مذبحة هائلة في الثامن والعشرين من يونية.

وألغى الملك المغيظ الحانق في الثاني من يولية جميع المواثيق وعهود الأمان التي أصدرها إبان الثورة، ومهد الطريق إلى تحقيق قضائي عن هوية زعماء الفتنة وأعمالهم. فقبض على المئات، وحوكموا، وقتل مائة وعشرة أو اكثر. واعتقل جون بول في كوفنتري، فاعترف جريئاً بدوره القيادي في الثورة، ورفض أن يطلب العفو من الملك. فشنق، وسحل، وقطعت جثته أربعة، ووضعت رأسه مع رأس تيلر وجاك سترو في مكان رأسي سديري وهيلز لتزين جسر لندن. وفي الثالث عشر من نوفمبر عرض رتشارد على البرلمان تقريراً عن أعماله، وقال، إذا كان المجتمعون من الأساقفة والأعيان والعامة يرغبون في تحرير رقيق الأرض، فإنه يرغب في ذلك أيضاً. ولكن كان جلهم من أصحاب الأراضي، الذين لا يستطيعون أن يقبلوا حق الملك في تجريدهم من أملاكهم، وكانت نتيجة التصويت وجوب الإبقاء على جميع العلاقات الإقطاعية"(65). وعاد الفلاحون المنهزمون إلى محاريثهم، والعمال المنحوسون إلى مغازلهم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأدب الجديد

كادت اللغة الإنجليزية تصبح، بعد أن مرت بمراحل بطيئة، وسيلة ملائمة للأدب. فقد أوقف الغزو النورمندي عام 1066، تطور اللغة الانجلوساكسونية إلى الإنجليزية، وظلت الفرنسية هي اللغة الرسمية للمملكة فترة من الزمان. ونشأت بالتدريج مفردات ولهجة جديدة، أساسها ألماني، يخالطها وتزينها كلمات وصيغ غالية. ولعل الحرب الطويلة مع فرنسا قد حفزت الأمة إلى أن تتمرد على السيطرة اللغوية لعدوها. فأعلن عام 1361 أن الإنجليزية هي لغة القانون والمحاكم، واستحدث حامل أختام الملك سابقة دستورية عام 1363 بافتتاحه البرلمان بخطية إنجليزية. وظل العلماء والمؤرخون والفلاسفة (إلى عهد فرنسيس بيكون) يكتبون باللغة اللاتينية لتصل كتاباتهم إلى قراء من دول مختلفة، بيد أن الشعراء ومؤلفي المسرحيات أنشئوا من ذلك بلغة إنجلترا.

وأقدم مسرحية باقية بالإنجليزية "من مسرحيات الخوارق"-هي عرض درامي لقصة دينية-أخرجت في مدلاندز. حوالي عام 1350 بعنوان القضاء على الجحيم، وقد مثلت مفاخرة بين الشيطان والمسيح عند مدخل الجحيم وأصبح مألوفاً في القرن الرابع عشر بين نقابات كل مدينة أن تعرض حلقة من مسرحيات الخوارق، بأن تعد النقابة مشهداً، من الكتاب المقدس عادة، وتنقل الممثلين والمعدات في سفينة، وتؤدي المشاهد على مسارح مؤقتة تشيد في الساحات الشعبية في للمدينة، وتعرض نقابات أخرى في الأيام التالية ما يليها من المشاهد من قصص الكتاب المقدس نفسه.وأقدم ما يعرف الآن من هذه الحلقات هي خوارق شستر، التي مثلت عام 1328، حتى إذا جاء عام 1400 عرضت حلقات مشابهة في يورك وبيفولي وكمبردج وكفنتري وريكفيلد ولندن ولقد أثمرت الخوارق اللاتينية، في فترة مبكرة ترجع إلى عام 1182، نوعاً جديداً أطلق عليه "المعجزة" التي تدور حول كرامات بعض القديسين وآلامهم وظهر حوالي عام 1378 نوع آخر-هو المسرحية الأخلاقية-يبرز مغزى أخلاقياً، بتمثيل إحدى الحكايات، لا بما بلغ هذا القالب ذاته في مسرحية "كل إنسان" (1480). ونحن نسمع في فترة مبكرة من القرن الخامس عشر عن قالب مسرحي آخر، أقد عهداً بلا شك وهو "الفاصل" ولم يكن تمثيلية بين تمثيليات، ولكنه عرضاُ يقوم به ممثلان أو أكثر ولا ينحصر موضوعه في الدين أو الأخلاق، وربما كان دنيوياً مرحاً مسفاً مفحشاً. ومثلت فرق من المنشدين الجوالين هذه الفواصل في أبهاء قصور الأمراء أو دور النقابات، وساحات المدن والقرى، أو فناء إحدى الحانات. وأنشأت اكستر عام 1348 أول دار إنجليزية معروفة للتمثيل، هي أول مبنى أوربي وقف على العرض المسرحي وحصص له منذ المنشآت الرومانية الكلاسيكية ولعل الكوميديات قد نشأت عن هذه الفواصل، أما تراجيديات المسرح الاليزابيثي الخصب فلعلها نشأت عن الخوارق والأخلاقيات.

وأول قصيدة عظيمة- هي من أعجب وأقوى القصائد-في اللغة الإنجليزية هي الموسومة بعنوان "رؤيا وليام المتعلقة ببترز الحراث". ولا يعرف عن مؤلفها شيء إلا ما يستشف من قصيدته، ونحن إذا افترضنا أنها سيرة ذاتية، فإننا نستطيع أن نسمه وليام لانجلاند ونجعل مولده من عام 1332. ولعله شغل مراتب كنيسة دنيا، ولم يصبح قط قسيساً، وأخذ يجوب الأنحاء حتى بلغ لندن، وحصل على الكفاف، بترتيل المزامير في القداس من أجل الموتى وعاش ماجناُ يتأثم بـ"جشع النظرة وشهوانية الجسد"، وكانت له ابنة لعله تزوج أمها، وعاش معها في خص متواضع في كونهيل. ويصف نفسه بأنه طويل، نحيل، يرتدي إزاراً قاتماً يناسب حطام آماله الغبراء وشغف بقصيدته التي أصدرها ثلاث مرات (1362، 1377، 1349)، وكان يطيل في نسجها كل مرة مثله مثل الشعراء الانجلوسكسونيين، لا يستعمل القافية، وإنما يصطنع النظم الذي يجانس أوائل الكلمات مع اضطراب الوزن. وبدأ بتصوير نفسه وقد غلبه النوم على أحد تلال مالفرن، فرأى فيما يرى النائم "حقلاً يعج بالناس" جماهير من الأغنياء والفقراء ومن الأخيار والأشرار، ومن الصغار والكبار بينهم سيدة جميلة نبيلة يرمز بها إلى الكنيسة المقدسة. وهو يركع أمامها ويسألها "لا أن تمنحيني كنزاً من الكنوز، ولكن خبريني كيف أنقذ روحي" فتجيب:

إذا امتحنت جميع الكنوز، فالصدق أحسنها..ومن يصدق بلسانه، ولا يقول غير الصدق، ولا يسيء إلى أحد بعمله، ولا ينوي له الشر بقلبه، فإنه حري في نظر الإنجيل أن يكون إلهاً. وفي منزلة مولانا(67).

ورأى في منام آخر، الكبائر سبع، واتهم الإنسان في كل واحدة منها باللؤم في سخرية لاذعة. وغلب عليه في فترة من الزمن، تشاؤم ساخر جعله يتوقع نهاية قريبة للعالم. وإذا ببترز (بطرس) الحراث يظهر في القصيدة. وهو فلاح نموذجي أمين ودود كريم يثق به الجميع كادح يخلص لزوجته وأطفاله وهو ابن بار للكنيسة دائماً. ورأى وليام في أحلام تالية نفس الرجل يبرز، على أنه المسيح المتجسد في صورة البشر، في صورة بطرس الرسول، في صورة بابا، ثم يختفي بانشقاق الكنيسة ومجيء المسيح الدجال. ويقول الشاعر، إن رجال الدين، لم يعودوا الخلف القادر على إنقاذ الأرواح، فقد فسد معظمهم، إذ يخدعون البسطاء، ويغفرون للأغنياء ويتقاضون ثمن غفرانهم ويتجرون في المقدسات، ويبيعون الجنة نفسها في مقابل فلس واحد. وما الذي يستطيع المسيح أن يفعله في هذه المحنة العامة؟ يقول وليام، عليه أن يعود مرة أخرى، ويتامى على كل الجماعات الحية المتداخلة على ضروب الفساد، ويبحث عن المسيح نفسه.

وفي قصيدة بترز الحراث نصيب من الهذو، أما مجازاتها الغامضة ففيها إملال، لكل قارئ يدرك أن الوضوح، مسئولية معنوية، يجب أن ينهض بها المؤلفون. وهي على ذلك قصيدة صادقة تنكل بالأشرار في غير تعصب، وتصور المشهد الإنساني تصويراً حقاً، وترفع بلسان العاطفة والجمال إلى ذروة لا تضارعها سوى حكايات كانتربري في الأدب الإنجليزي إبان القرن الرابع عشر، وكان تأثيرها عظيماً، حتى لقد أصبح بترز بالنسبة إلى ثوار إنجلترا، رمزاً للفلاح الجريء المستقيم، ولقد امتدحه جون بول لثوار اسكس عام 1381،وبعث اسمه، بعد ذلك بكثير في عصر الإصلاح عند نقد النظام الديني القديم والمطالبة بنظام جديد (69). وختم الشاعر أحلامه بأن تحول منبترز الذي يمثل البابا، إلى بترز الفلاح مرة أخرى وهو يقول في الختام، إذا كنا جميعاً مثل بترز فلاحين بسطاء، نتبع المسيحية فذلك أعظم الثورات وآخرها، ولن يحتاج العالم إلى غيرها أبداً.

أما جون جور، فشاعر أقل من لا نجلد العجيب، خيالاً وأضعف شخصية. ذلك أنه كان من أصحاب الأراضي الأغنياء في كنت. فامتلأ ذهنه بالكثير من عناصر التحذلق والعلم، وكان بليد القريحة. فيما أنشأ بثلاث لغات. وهاجم أيضاً أخطاء رجال الدين، ولكنه كان يرتعد فرقاً من هرطقة المصلحين الإنجليز الأوائل اللولارد وتعجب من وقاحة الفلاحين الذين قنعوا يوماً بالقمح والجعة، وإذا بهم اليوم باللحم واللبن والجبن. ويقول جور ثلاثة أشياء لا ترحم، إذا لم يكبح جماحها: الماء، والنار، والغوغاء، ألح الضيق بجوير المثالي من هذا العالم فانشغل بالآخرة، واعتزل في شيخوخته بصومعة. واتفق السنة الأخيرة من حياته في الصلاة وكف البصر. ولقد أعجب معاصريه بأخلاقياته، وأسفوا على سلوكه وأسلوبه، وتخلصوا منه إلى تشوسر.


جفري تشوسر 1340 - 1400

كان رجلاً يتدفق فيه دم إنجلترا المبتهجة وخمرها، رجلاً قادراً على أن يطوي في قلبه الحياة الطبيعية، وأن يرسم وخزها في مرح متسامح، ويصور جميع مراحل المجتمع الإنجليزي، بريشة جد عريضة كريشة هوميروس، وروح شهوانية كروح رابليه. وكان اسمه، كأكثر مفردات لغته، فرنسي الأصل، ومعناه الإسكاف، وربما كان ينطق شوساير، وللوراثة مداعباتها لأسمائنا، وهي إنما تذكرنا بأن نصوغ أنفسنا طبقاً لهواها..فهو ابن جون تشوسر، خمار لندني. لقد نال حظاً طيباً من العلم بفضل الكتب والحياة معاً، وينضح شعره بمعرفة الرجال والنساء من ناحية والأدب والتاريخ من ناحية أخرى. ولقد سجل اسم "جيوفري تشوسر" رسمياً عام 1375، وليكن في حاشية دوق كلارنس المقبل. وبعد ذلك بعامين رحل ليحارب في فرنسا، وأسر، ثم افتداه إدوارد الثالث. ونحن نجده عام 1367 أحد الأعيان في مجلس الملك، بمعاش مقداره عشرون مارك سنوياً. وكاد إدوارد كثير الرحلة مع حاشيته وأغلب الظن أن تشوسر كان يصحبه مستمتعاً بجمال إنجلترا وتزوج عام 1366 فيليبا، إحدى وصيفات الملكة، وظل على خلاف معها حتى ماتت واستمر ريتشارد الثاني يجري عليه معاشاً، أضاف إليه جون أمير جونت، عشرة جنيهات كل سنة كما حصل على هبات أخرى من الطبقة العليا وهذا يفسر السبب الذي من اجله لم ينتبه تشوسر إلى الثورة الكبرى مع أنه كان خبيراً بالحياة.

وفي التقاليد الحسنة في تلك الأيام التي كلف الناس فيها بالشعر والفصاحة، أن يوفد الأدباء في مهام سياسية في الخارج. فانتدب تشوسر مع آخرين للمفاوضة على عقد اتفاقية تجارية في جنوة عام 1372، كما ذهب عام 1378، بصحبته سير إدوارد بيركلي، إلى ميلان. ومن يدري لعله لقي هناك بوكاشيو العليل، أو بترارك الطاعن في السن؟ ومهما يكن من شيء فقد كانت إيطاليا نقطة تحول في إلهامه. ذلك أنه رأى فيها الثقافة أكثر صقلاً وعلماً وبراعة من إنجلترا، وتعلم أن يحتفي بالآداب الكلاسية، وباللاتينية منها على وجه خاص، وتحول عن الثائر الفرنسي الذي صاغ قصائده الأولى، إلى الإيطالي في الأفكار، وقوالب النظم والموضوعات. حتى إذا عاد إلى موطنه، وإلى مشاهده وشخصياته، كان قد أصبح فناناً بارعاً، ومفكراً ناضجاً.

وما من امرئ في إنجلترا وقت ذاك استطاع أن يكسب عيشه من القريض، ونحن نعتقد أن معاش تشوسر قد يسر له السكن والغذاء والكساء، ذلك أن مجموع ما حصل عليه عام 1378، كان قريباً من عشرة آلاف دولار بالحساب النقدي في أيامنا، يضاف إلى ذلك المعاش الذي كانت تحصل عليه زوجته من جون اوف جونت ومن الملك. ومهما يكن من شيء فقد أحس تشوسر الحاجة إلى استكمال دخله بالتعيين في مناصب حكومية مختلفة. فعمل اثني عشر سنة (من عام 1374-1386) "ومراقباً للجمارك والمكوس" واتخذ له في هذه الفترة مسكناً في قلعة "الدجيت" ودفع في عام 1380، مبلغاً لم يذكر مقداره إلى سيسيليا تشومبين لتتنازل عن ادعائها بأنه أغتصبها. وعين بعد ذلك بخمسة أعوام قاضي الصلح لمقاطعة كنت، وفي عام 1386 سعى حتى انتخب في البرلمان. وكان يقرض شعره في فترات الراحة من العمل. ووصف نفسه في قصيدته "دار الشهرة" بأنه يعود إلى بيته "بعد أن يسدد ما عليه، وينسى نفسه في كتبه، ويجلس جامداً كالصخر، ويعيش كالناسك في كل شيء إلا الفقر والعفة والطاعة. ويقف ملكاتهِ على تقنية كتبه وأغانيه وأناشيده". ويخبرنا بأنه نظم في شبابه "كثيراً من الأغاني وقصائد التشبيب" ولقد ترجم كتاب فينوس "عزاء الفلسفة". في نثر جيد، وجزءاً من قصيدة جويوم دولوريس "قصة الورد" في نظم بارع. وبدأ فيما يمكن أن يسمى المقطعات الشعرية الهامة "دار الشهرة"، "كتاب الدوقة"، "برلمان الدجاج"، "أسطورة النساء الطيبات"، ولقد سبق وأوضح لنا بأنه لم يكن قادراً على إتمامها. وهذه القصائد جهود تنبئ عن طموح وإن كانت تقليداً صريحاً للأصول الأوربية في الموضوع والشكل جميعاً.

ودأب تشوسر على التقليد بل الترجمة في أحسن قصائده المفردة وهي ترويلوس وكريسيد، فاستعار من "الفلستر اتو" لبوكاشيو 2730 بيتاً وأضاف 5696 بيتاً من مصدر آخر أو صاغها بنفسه. ولم يبذل محاولة ما ليخدع القارئ عن هذه الحقيقة، فهو يذكر مصدره مراراً ويعتذر عن عدم ترجمته بأسره، وبعد هذا التحول من أدب إلى آخر مقبولاً ومفيداً فإن الذين نالوا حظاً من كبيراً من التعليم لم يكونوا يستطيعون وقت ذاك أن يفهموا غير لهجتهم الخاصة. فموضوع القصة حق مشاع كما اعتقد مؤلفو التمثيليات من الإغريق والإنجليز في عهد إليزابيث، والفن إنما يتركز في الشكل.


وتعد ترويلوس التي نظمها تشوسر على الرغم من جميع هذه النقائص، أول قصيدة، قصصية عظيمة في اللغة الإنجليزية. ولقد وصفها سكوت بأنها "طويلة مملة" وأنها كذلك وقال روزيتي "لعلها أجمل قصيدة قصصية على شيء من الطول في اللغة الإنجليزية"، وهذا أيضاً صحيح. ذلك لأن القصائد الطويلة كلها مملة مهما كان جمالها، فالعاطفة من مقومات الشعر فإذا استغرقت 8386 بيتاً، فإنها تصبح نثراً بسرعة انطفاء الرغبة. ولن تحتاج أي سيدة إلى مثل هذه الأبيات الكثيرة لكي تنام، وقلما تردد الحب وتأمل وماطل وأذعن بهذه البلاغة الفاخرة والأخيلة المطربة، والقافية السهلة السلسة. ولا يضارع هذا النهر العظيم الفياض من النظم سوى رتشارد سون في نثره المتدفق كنهر المسيسبي في تصوير الحب، بأناة، تصويراً نفسياً. ومع ذلك فإن الخطابية المجنحة في سرف وصياغة الكلمات التي لا تحد وسعة المعرفة المعترضة لم تستطيع أن تفسد القصيدة. فهي فوق هذا كله حكاية فلسفية تصور كيف خلقت المرأة للحب، وسرعان ما تحب شخصاً ثانياً إذا طالت غيبة الأول عنها. وفيها شخصية واحدة رسمت وكأنها حية تسعى: بندارس الذي كان في الألياذة قائد جيش ليشيا في طروادة ولكنه يصبح هنا شخصية مفرطة داهية ديوثا جريئاً يقود العاشقين إلى الخطيئة وحسبنا هذه الكلمة تعليقاً عليه. أما ترويلوس فهو محارب مشغول بمدافعة اليونان ويحتقر الرجال الذين يتلكأون على الصدور اللينة ويصبحون عبيد الشهوة، وهو يجن بكريسيد حباً من أول نظرة. ولم يفكر بعد ذلك إلا في جمالها ودلالها ورقتها. وبعد أن انتظرت كريسيد في شوق، مدى ستة آلاف بيت من الشعر، من هذا الجندي الحي أن يصرح بحبه، تقع بين ذراعيهن وقد تنفست الصعداء آخر الأمر، وسرعان ما ينسى ترويلوس عالمين في وقت واحد:

مرت منه جميع الهموم الأخرى.
هموم الحصار وهموم خلاص الروح.

وما إن أجهد شوسر نفسه في الحصول على هذا الوجد، حتى يتخطى مسرعاً نعيم العاشقين إلى المأساة التي تنقذ القصيدة من الإملال. فقد هجر والد كريسيد قومه إلى اليونان، فأرسل الطرواديون وقد لاح عليهم الغضب كريسيد إلى هناك في مقابل الأسير أنتينور. وافترق العاشقان البائسان بعد أن قطعا على نفسيهما العهود بالوفاء إلى الأبد. ولما وصلت كريسيد إلى اليونان منحت إلى دياميدس، الذي أوقع أسيرته في شراكه برجولته ووسامته-فاستسلمت في صحيفة واحدة من القصيدة وهو ما كان قد حشد قبل ذلك في كتاب. وفطن ترويلوس إلى ذلك، فبادر إلى الحرب باحثاً عن دياميديس وإذا به يلقى مصرعه برمح اخيل. وختم تشوسر ملحمته الغرامية بابتهال إلى لبثلوث المقدس، بعث بها وقد أنبه ضميره "إلى جوور الأخلاقي لتصححها بسماحتك".

وربما يكون قد بدأ "حكايات كانتبري" عام 1387 وكان مشروعاً رائعاً، أن ينظم إلى جمع مختلف من البريطانيين في حانة تابرد في سوث وارك، حيث تعاطى شوسر أقداحاً كثيرة من الجعة-ثم يركب معهم في عطلة الحج إلى ضريح بكت في كانتربري، ويضع على أفواههم الحكايات والأفكار التي جمعها الشاعر من رحلاته طوال نصف قرن. ولقد استعملت هذه الوسائل لجمع القصص بعضها إلى بعض، قبل ذلك مراراً، ولكن هذه الوسيلة أحسنها جميعاً. ولقد حشد بوكاشيو في مجموعته "ديكاميرون" طبقة واحدة فقط من الرجال والنساء، ولم يظهرهم شخصيات مختلفة، أما تشوسر فخلق حانة زاخرة بالشخصيات، بلغت حداً من الواقعية في عدم التجانس، حتى بدت أقرب إلى الحياة الإنجليزية من الأعلام التاريخية الجامدة، إنهم يعيشون ويتحركون كما يتحرك الأحياء بالضبط، إنهم يحبون ويكرهون، ويضحكون ويبكون، نحن لا نسمع وهم يجسون خلال الطريق الحكايات التي يقصونها فقط، ولكنا نسمع متاعبهم ومشاجراتهم وفلسفاتهم. ومن الذي يعترض على ذكر هذه الأبيات المخضلة بنضارة الربيع مرة أخرى؟


عندما يحل ابريل بشآبيبه



تكون رياح مارس قد نفذت إلى الجذور،



وغسلت كل يوم كرم برحيق أغصانها،



وتكون الزهرة هي الفضيلة التي أثمرت،



وعندما ألهمت الريح القرية بأنفاسها الحلوة



في كل حقل وكل مرج، أيضاً



النباتات الندية، تكون الشمس الفتية



قد سارت نصف مدارها في برج الحمل ،



فترسل بغاث الطير أنغامها،



وهي التي أنفقت الليل بطوله مفتوحة الأعين،..



ثم يذهب الناس المشوقين إلى الحج...



إلى الأضرحة البعيدة، المعروفة في بقاع شتى..



وفي سوثورك في تاباد حيث أقطن



أسعد لأقوم بالحج



إلى كانتربري بغرم خالص كامل،



وجاء إلى المنزل في الليل.



تسعة وعشرون صحبة واحدة،



من أناس مختلفين، التقوا بالصدفة



وألفوا زمراً، وهم جميعاً حجاج،



يتجهون راكبين إلى كانتربري


ثم يقدمهم تشوسر الواحد بعد الآخر في رسومه الطريفة من استهلاله


الذي لا يضارع،



وكان بينهم فارس، وهو رجل محترم،



وهو في ذلك الزمان أول من بدأ



الخروج راكباً، فقد كان يحب الفروسية،



والصدق، والشرف، والحرية والتهذيب..



وقد خاض المعارك الدامية،



وحارب من أجل عقيدتنا في ترامسين...


ومع أنه كان جديراً بالاحترام، إلا أنه كان حكيماً، يشبه في هيئته


العذراء



ولم يصدر عنه الخبث ولم يقله



في كل حياته، ولم يعرف عنه خلق فظ؟



فلقد كان فارساً كاملاً دقيقاً.



وابن الفارس:



...سيد شاب،



عاشق، وأعزب شهواني..



وقد توله في عشقه، حتى أنه في كثير من الليالي.



لا ينام أكثر مما ينام العندليب.



وحارس يخدم الفارس والسيد، وراهبة بارعة الجمال:



وكانت هناك أيضاً راهبة، رئيسة راهبات،



وفي بسمتها البساطة والخفر،



وقسمها الأعظم هو بالقديس لويس،



وكانت تدعى مدام اجلنتين.



تحسن ترتيل الصلاة،



مفعمة بالغنى الكامل...



وكانت جد محسنة رحيمة



تجهش بالبكاء، إذا رأت فأراً



وقع في مصيدة، فمات أو جرح



ولها جراء صغار، تطعمها



باللحم المقلي أو اللبن وفتات الخبز،



وتبكي بحرارة إن مات أحدها..



وتلف معصمها بسوار من المرجان الصغير



وخرزتين مذهبتين ومزخرفتين باللون الأخضر.



ويتلألأ على صدرها دبوس من الذهب،



منقوش على أوله حرف "ا" متوجاً،



وبعده عبارة "الحب ينتصر على الجميع".



يضاف إلى هؤلاء راهبة أخرى، وثلاثة قسس. وناسك مرح "يجب



الصيد"، وراهب لا يضارع في إخراج الاكتتاب من حوافظ المتقين،



ومع أنه كان أرملاً لا ينتعل حذاءاً،



إلا أنه راضياً في مبادئه. يستطيع أن يحصل على فلس، قبل أن



يمضي


ويكلف تشوسر بطالب الفلسفة الشاب أكثر من غيره:


وكان بينهم أيضاً كاتب من أكسفورد،



قطع في دراسة المنطق مرحلة طويلة.



وجواده ضامر مثل الكلب الأعجف،



لقد رأيته غير بدين.



يبدو نحيلاً، غاية في ال تعقل.



تلفه سترة من الخيط،




فلم يكن يحصل على صدقة من الكنيسة،



ولم يكن خبيراً بشؤون الدنيا ليحصل على وظيفة.



فوضع لنفسه على رأس السرير.



عشرين كتاباً مجلدة بالأسود أو الأحمر،



عن أرسطاليس وفلسفته.



وهي عنده أفضل من الثياب النفيسة أو القيثارة الطروب..



وبذل في دراسته فائق عنايته وغاية انتباهه. ولا يلفظ بكلمة لغو.



ولم يكن يسمع إلا متحدثاً عن الفضيلة الأخلاقية. وكان يسره أن يتعلم،



وأن يعلم:



وهناك أيضاً "زوجة باث" وسنتحدث عنها بعد قليل، وراعي كنيسة



فقير "وهو غني بأفكاره وأعماله الدينية" وفلاح، وطحان، على أطراف



أنفه......وتقف دونها خصلة من شعر أحمر كالشعر الخشن على أذني



خنزير، وأحد زبائن حانة أوزميل، أو ناظر ضيعة، أو محضر محكمة:



كان وغداً رقيقاً حنوناً،



ولا يجد الناس خيراً منه.



وهو يجاهد للحصول على ربع نبيذ،



وقرينة حسنة تصبح له حظية



اثني عشر شهراً، ثم تخليه وهي حامل



...ويركب معه بائع غفران طيب..



وجعبته أمامه على حجره،


تمتلئ إلى حافتها بصكوك غفران لا تزال كلها دافئة من روما، وكان هناك تاجر، ورجل قانون، وصاحب أعمال، ونجار ونساج، وصباغ، ومنجد وطباخ وبحار، وكان هناك جيوفري تشوسر نفسه، يقف جانباً في خجل، بديناً من العسير احتضانه "ويفحص الأرض بنظراته كأنما يفتش عن أرنب" ولم يكن مضيفاً أقلهم شأناً، وه صاحب حانة تابارد، الذي يقسم أنه لم يرفه عن جماعة كبيرة العدد كهذه، والواقع أنه عرض عليهم أن يذهب معهم وأن يكون دليلهم، واقترح لكي يقضوا الرحلة الستة والخمسين ميلاً، أن يروي كل حاج قصتين في الذهاب وأخريتين في الإياب، وأن من يروي أحسن قصة، سيتناول العشاء على حساب الجميع، عندما يعودون إلى الحانة. واتفق الكل على ذلك، واكتمل المشهد المتحرك لهذه الملهاة الإنسانية، وبدأ الحج، وروى الفارس المهذب الحكاية الأولى-كيف أن صديقين حميمين بلاجونوارسيت، رأيا فتاة تجمع الأزهار في بستان فوقع كلاهما في حبها، واختصما من أجلها في مبارزة دامية... لتكون المكافأة السنية لمن ينتصر منهما.

ومن ذا يصدق أن فلما رومنسياً كهذا، يستطيع أن يتحول في بيت واحد، من إطناب الفروسية إلى الإفحاش في قصة الطحان؟ ولكن الطحان كان يحتسي الخمر وتوقع أن عقله ولسانه قد ينفلتان في شراكهم المنصوب. ويعتذر تشوسر عنه وعن نفسه-فيجب عليه أن يسجل كل شيء بإخلاص-ويدعو القارئ المتعفف أن يتجاوزها إلى قصة أخرى "فإن هذا يخدش الحياء؟ والأخلاق والدين". وتبدأ حكاية رئيسة الراهبات بنبرة دينية حلوة، ثم تردد الأسطورة الفاجعة التي تتحدث عن غلام مسيحي، يقال أن يهودياً ذبحه، وكيف أن محافظ المدينة قام بواجبه وقبض على يهودها وعذب عدداً منهم حتى ماتوا.وينتقل تشوسر من هذا الورع الديني في الاستهلاك، إلى حكاية تاجر صكوك الغفران.. إلى سخرية لاذعة بباعة متجولين لصكوك الغفران، وأصبح عمر هذا الموضوع قرناً من الزمان، عندما أذاعه لوثر في العالم، ثم تحول في الاستهلاك إلى حكاية زوجة باث، وبلغ شاعرنا الحضيض في أخلاقياته والذروة في قوته. إنه احتجاج معربد على العذرية والعزوبة، أجرى على لسان فاجر مدرب على شئون الزواج، لسان امرأة حصلت على خمسة أزواج، مذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، ودفنت أربعة منهم، وتبحث السادس ليخفف من سورة شبابها.


لقد دعانا الله إلى أن ننمو ونتكاثر..



ولم يذكر العدد الذي نبلغه،



الزواج من اثنين أو ثمانية،



فلماذا يتحدث المرء عنه بسوء؟



يا عجباً.. هذا هو الملك الحكيم سيدنا سليمان،



أحسب أنه اتخذ أكثر من زوجة،



كما ترك الله الأمر لي



أن أجدد حياتي كالرجل أكثر من مرة...



وا أسفاً وا أسفاً أن يعد الحب خطيئة!


ولن نورد هنا اعترافاتها الفسيولوجية، ولا ما يناظرها من اعتراف مذكور في حكاية سنمور، حيث يعكف تشوسر على دراسة تشريح البطن المنتفخة. ويصبح الجو مهيأ عندما نصل إلى جريزلدا المطيعة أبداً، في حكاية أكسفورد الكهنوتية، ولم يستطع بوكاشيو أو بترارك أن يرويا هذه الخرافة التي حلم بها رجل ألح الضيق عليه بنفس الجودة التي رواها بها تشوسر.

ولم يعطنا تشوسر غير ثلاث وعشرين من الحكايات الثمانية والخمسين التي وعدنا بها في المقدمة، ولعله شعر مع القارئ أن الخمسمائة صحيفة تكفي، وأن نبع ابتكاره قد جف. بل إننا نجد في هذا التيار المتدفق فقرات كدرة. تتجاوزها العين الناقدة. ومهما يكن من شيء فإن التيار البطيء العميق، يحملنا على صفحته وينشر جواً من النضارة، كان الشاعر قد عاش على طوال الشواطئ الخضراء، لا عند بوابة لندن-ومع ذلك فليس نهر التاميز بعيداً عن العين. وتعد بعض الأناشيد من ناحية الجمال الخارجي تمرينات أدبية جامدة، ومع ذلك فإن الصورة المتحركة تأتي حية بشعور وحديث طبيعيين مباشرين، وقلما توجد مثل هذه الملاحظة الكاشفة السريعة للناس والأخلاق بين دفتي كتاب واحد، ولن يزودنا غير شكسبير بعد ذلك بمثل هذا الحشد من الصور والتشبيهات والمجازات (ويعتلي بائع صكوك الغفران المنبر ويومئ يميناً وشمالاً بين الجمهور كحمامة على سقف مخزن للحبوب) ولقد أصبحت لهجة شرق مدلاند التي استعملها تشوسر، لغة إنجلترا الأدبية، وكانت مفرداتها قد كثرت إلى الحد الذي يتيح لها التعبير عن جمال الفكر ومناهجه وهكذا صارت لغة الحديث عند الإنجليز للمرة الأولى وسيلة الفن الأدبي العظيم.

وكانت مادة أدبه، كما هو الحال عند شكسبير، مطروقة من قبل. ذلك أن تشوسر استعار قصصه من كل مكان. حكاية الليل من تيسيد لبوكاشيو، وجريزلدا من مجموعة "ديكاميرون"، وأكثر من عشر حكايات من الخرافات الفرنسية. ويفسر المعنى الأخير ما اتسم به تشوسر من فحش، ومع ذلك، فإن أنكر قصصه لا يعرف له مصدر غير شخصه. وليس من شك في أنه كان يشارك كتاب المسرح في عهد اليزابث، في الاعتقاد بأن الأشخاص الذين تدور عليهم يجب أن يعطوا جرعة فاجرة بين حين وآخر لكي يظلوا أيقاظاً، ولقد جعل تشوسر رجاله ونساءه يتكلمون كأنما يناظرون طبقتهم الاجتماعية وأسلوبهم في الحياة، وهو يكرر، أنهم أكثروا من احتساء الجعة الرخيصة. ومرحه في الغالب غير مريض من القلب، تحفزه الشهوة، لا بد أن تكون ممتلئة حسنة الغذاء لقوم من الإنجليز قبل تزمت الطهريين، ولقد مزج هذا المرح مزجاً بارعاً بكل ما في البديهة الإنجليزية الحديثة من حيلة ودهاء.

وكان تشوسر على علم بأخطاء البشر وذنوبهم، وجرائمهم وحماقاتهم وغرورهم، ولكنه أحب الحياة على الرغم من هذا كله، وصبر على كل امرئ لا يسرف في التبجح وقلما يفضح، وحسبه أن يصف. وأن يسخر من نساء الطبقة الوسطى الدنيا في حكاية زوجة باث، ولكنه أعجب بقوتها الحيوية العارمة. وكان قاسياً غير مهذب مع المرأة، قد تكشف كلماته وانتقاداته اللاذعة عن الزوج الجريح المنتقم بقلمه عن حياء لسانه عن التعبير بالليل. وهو على الرغم من ذلك يتلطف في الحديث عن الحب، ولا يعرف نعمة أعظم منه، ويملأ معرضاً كاملاً بصور النساء الطيبات. ولا يعترف بالفضل الذي يرتكز على الوراثة، ويرى "أن الفاضل إنما هو الذي يقوم بعمل فاضل" بيد أنه لا يثق في تردد العامة، والمغفل عنده هو كل من يربط حظه بالشهرة أو يندمج مع الغوغاء. وكان متحررا إلى حد كبير من خرافات عصره. فعرض بأدعياء اليكاويين، ومع أن الذين سردوا حكاياته ذكروا التنجيم، إلا أن تشوسر نفسه قد استنكره. وكتب إلى ابنه رسالة عن الإسطرلاب، أظهر فيها دراية حسنة بالمعارف الفلكية الشائعة. ولم يكن عالماً متبحراً، وإن كان شغوفاً بإظهار علمه، فحشا صفحاته بفقرات من "بيوشيوس" بل إنه جعل زوجة باث تستشهد "بسينكا". ويورد مشكلات في الفلسفة وعلوم الدين، ولكنه يهز كتفيه أمامها عجزاً ولعله شعر، بما يشعر به الرجل العلمي، بأن الفيلسوف الفطن لا يتوسل في حياته اليومية بمعارفه عما وراء الطبيعة.

أكان مسيحياً مؤمناً؟ لا يوجد شيء يضارع غلظته وفظاظته في هجائه للرهبان، في الاستهلال وفي تضاعيف حكاية "سومنور"، ولكم صوب نفر من المؤمنين المحافظين للإخوان مثل هذه الطعنات. وهو يثير الريب هنا وهناك، حول بعض العقائد الدينية الجامدة، ولم يكن يستطيع أن يفعل أكثر من لوثر في التوفيق بين العلم الإلهي السابق وبين إرادة الإنسان الحرة، وهو يجعل ترويلوس يشرح النظرية الجبرية، ولكنه يرفضها في الاستهلال له. وهو يؤكد اعتقاده في الجنة والنار، ولكنه يعلق على ذلك في شيء من الطول،بأنهما غايتان لا يعود منهما مسافر يشهد على صدق وجودهما.


وكانت الشرور تقلق باله وبخاصة تلك التي لا تنسجم مع القدرة المطلقة على الخير. ويجعل "اركمسيت" يتساءل عن العدل الإلهي بعبارات جريئة كعبارات عمر الخيام:


أوه أيتها الربة القاسية، يا من تحكمين



هذه الدنيا برباط من كلمتكِ الخالدة،



وكتبتِ في لوح قدّ من صخر



كلامكِ وعظمتكِ الخالدة،



وماذا تكون البشرية في تقديركِ



أكثر من خراف تزدحم في حقل؟



لأن الإنسان يحق عليه الذبح كغيره من الأنغام.



وهو يعيش أيضاً بين السجن والاعتقال،



ويلم به المرض وتنزل عليه المصائب الكبار.



ولم يقترف ذنباً في كثير من الأحيان، يؤاخذ عليه.



وأي حكم في العلم السابق،



بأن الذنب يعذب البراءة؟..



وعندما يموت الحيوان فإنه لا يحس بألم،



ولكن الإنسان بعد أن يموت عليه أن يبكي ويشكو.. وأنا أترك



الجواب عن هذا كله للآلهة.


وحاول تشوسر في سنواته الأخيرة، أن يعوض التقوى التي أفلتت منه في شبابهِ. وألحق بحكايات كانتربري، التي لم تتم "صلاة تشوسر"، يطلب فيها العفو من الله والناس عن مجونه وانشغاله بغرور الدنيا، وأوصى "عندما تحين منيتي انتحبوا على ذنوبي، واعملوا على انقاذ روحي".

وتحول في هذه السنوات الأخيرة من الاستمتاع بالحياة إلى كآبة امرئ، يسترجع، وقد اضمحلت صحته وحواسه، ذكريات شهواته الطائشة في صباه. وفي عام 1381 عينه رتشارد الثاني "مسجلاً لأعمالنا في قصرنا وستمنستر" وغيره من القصور الملكية. ويبدو أن صحته قد ساءت بعد ذلك بعشرة أعوام، مع أنه كان قد تجاوز الخمسين بقليل، ومهما يكن من شيء، فقد أثبتت الأعباء التي أنيطت به أنها فوق طاقته، فصرف عن منصبهِ. ولم نجده بعد ذلك يشغل وظيفة ما. ونضبت موارده المالية. وهان قدره حتى طلب إلى الملك ستة شلنات وثماني بنسات(79). وفي عام 1394 منحه رتشارد الثاني معاشاً مقداره عشرون جنيهاً في السنة مدى الحياة. ولم يكن هذا المعاش يكفيه، فطلب إلى الملك أن يمنحه برميلاً كبيراً من الخمور كل سنة، فأجيب إلى سؤالهِ عام 1389. ولما حكم عليه بأن يسدد ديناً قدره أربعة عشر جنيهاً عجز عن الدفع(80). ومات في الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1400، ودفن في وستمنستر أبي، وهو أول وأعظم الشعراء الكثيرين الذين نهضوا بعد ذلك بنظم الكلام الموزون .


رتشارد الثاني

"أقسم عليك بالله أن تدعنا نفترش الأرض ونروي القصص الفاجعة عن وفيات الملوك(81)."

يقول هولنشد "كان رتشارد الثاني حسن الهيئة والطويلة والفطرة، إذا لم يؤثر فيها لؤم الذين حوله وخبث سيرتهم. كان متلافاً، طموحاً، مستسلماً للذات الجسمية. ولقد أحب الكتب، وأعان تشوسر وفرواسارت. وأبدى شجاعة وحضور بديهية، وقام بأعمال حكيمة في الثورة الكبيرة، ولكنه بعد تلك الأزمة المنهكة، تورط في ترف منهك، وترك دفة الحكم إلى وزراء مبددين، فقامت في وجه هؤلاء الرجال معارضة قوية، يتزعمها توماس دوق جلوستر، ورتشارد إرل أروندل وهنري بولنجيروك، حفيد إدوارد الثالث. وسيطر هذا الفريق على "برلمان لا يرحم" برلمان عام 1388، الذي حكم بخيانة عشرة من رجال رتشارد وأعدمهم، فجمع الملك عام 1390، وكان لا يزال شاباً في الثالثة والعشرين، أزمة الأمور في يديه، وحكم البلاد حكماً دستورياً مدى سبع سنوات- أو بعبارة أخرى، حكم متمشياً مع القوانين، والتقاليد، ومنسجماً مع نواب مختارين من الأمة.

وحرم بموت زوجته الملكة آن البوهيمية الموطن (1394) ناصحاً معتدلاً رشيداً وتزوج عام 1396 إيزابل، ابنه شارل السادس، أملاً أن يوطد من وراء ذلك السلام مع فرنسا، وكانت لا تزال صبية في السابعة من عمرها، فأنفق الملك موارده على الحظايا والمقربين من الرجال والنساء وأحضرت الملكة الجديدة معها إلى لندن حاشية فرنسية. وجلب هؤلاء معهم أنماطاً فرنسية من الأخلاق وربما جلبوا أيضاً نظريات فرنسية عن الملكية المطلقة. ولما أرسل برلمان عام 1397 إلى رتشارد قراراً بالشكوى من تبذير بلاطه، أجاب متعاظماً أن الحكم في مثل هذه الأمور ليس من اختصاص البرلمان. ولب اسم العضو الذي اقترح الشكوى، فأذعن البرلمان وحكم على صاحب الاقتراح بالإعدام، ولكن رتشارد عفى عنه.

وسرعان ما ترك جلوستر وأروندل لندن وظن الملك أنهما يتآمران على خلعه، فأمر باعتقالهما وشنق أروندل، وقتل جلوستر خنقاً (1397). ومات جون أوف جونت عام 1399، فخلف إقطاعاً عامراً، فصادر رتشارد أملاكه لحاجته إلى تمويل حملة يوفدها إلى ايرلندا، فذعرت الطبقة الأرستقراطية من هذا الصنيع. وانتهز ابن دوق جنت، المنفى المجرد من ميراثه، فرصة انشغال الملك بإعادة الأمن إلى نصابه في ايرلنده، ونزل إلى البر في يورك على رأس جيش صغير، سرعان ما زاد عدده، بانضمام النبلاء الأقوياء له. ووجد رتشارد عند عودته إلى إنجلترا قواته قد نقصت إلى أقصى حد، وأصدقاءه يفرون منه خائفين، فسلم شخصه وملكه إلى بولنجبروك، الذي توج على عرش إنجلترا باسم هنري الرابع (1399) وهكذا انتهت الأسرة البلانتاجينية التي بدأت بالملك هنري الثاني عام 11، وبدأت الأسرة اللانكسترية التي تنتهي بالملك هنري السادس عام 1461. ومات رتشارد الثاني سجيناً في بونيتفراكت (1400)، بالغاً من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، وربما كان السبب في موته أنه أصيب، كما يهذب إلى ذلك هولنشد وشكسبير، بنزلة برد في سجنهِ، ولعله قتل غيلة على يد أعوان الملك الجديد.

الفصل الرّابع: فرنسا تحاصر 1300 - 1461

المشهد الفرنسي

لم تكن فرنسا عام 1300 المملكة العظيمة التي تصل إليها حدودها اليوم من القناة الإنجليزية إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن الفوج والألب إلى المحيط الأطلسي. وكانت تصل شرقاً إلى نهر الرون فقط. ولقد ضمت في الجنوب الغربي، مساحة كبيرة-جوين وجاسكونيا-إلى التاج الإنجليزي بزواج هنري الثاني من اليانور من أسرة اكويتين (1152)، وفي الشمال أخذت إنجلترا إقليم بونثيو، ومعه ابيفيل، ومع أن الملوك الإنجليز استولوا على هذه الأراضي باعتبارها إقطاعيات، تابعة للملوك الفرنسيين إلا أنهم فرضوا عليها سيادتهم الكاملة. أما بروفانس والدوفينية والكونتية الحرة فقد كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان أباطرتها من الألمان في العادة. ولقد حكم الملوك الفرنسيين حكماً غير مباشر، عن طريق أقربائهم الإمارات، فالوا وأنجوا وبوربون وأنجوليم. وحكموا حكماً مباشراً الربوع الآتية باعتبارها التزاماً ملكياً، وهي نورمانديا وبيكاردي وشامباني، وبواتو وأوفرن ومعظم لانجويدوك، وجزيرة فرنسا-وهي "الجزيرة" التي على الجانب الشمالي من وسط فرنسا وتتركز حول باريس. وكانت أرتو وبلوا ونيفبر وليموج، وأرمانياك ووفالنتينوا يحكمها سادة إقطاعيون يخضعون لملوك فرنسا خضوعاً اسمياً حيناً ويحاربونهم حيناً آخر. وكانت بريتاني وبرجنديا وفلاندرز إقطاعيات فرنسية، ولكنها كانت كما أسماها شكسبير "أقرب إلى الدوقيات الملكية"، تتصرف كأنها دول مستقلة في الواقع. ولم تكن فرنسا قد أصبحت فرنسا بعد.

وكانت أهم الإقطاعات الفرنسية وأكثرها تقلباً، في مستهل القرن الرابع عشر، كونتية فلاندرز. ولم تنافس إيطاليا في تقدمها الاقتصادي في أوربا بأسرها شمالي جبال الألب، سوى فلاندرز. وكانت حدودها تتذبذب في غير انتظام في الزمان والمكان، وحسبنا أن نشير إليها، بأنها الإقليم الذي يضم بروج وجنت وبيرز وكورتراي. وتوجد شرقي شيلد، دوقية برابانت، التي كانت تضم وقتذاك انتورب وميشلين (مالين) وبروكسل وتورناي ولوفين. وتقع جنوبي فلاندرز الأسقفيتان المستقلتان: لييح وكامبراي، وكونتية هانو حول فالنسين. وتضم فلاندرز ومع التوسع برابانت ولييج وكامبراي وهانو. وتقع إلى الشمال سبع مقاطعات صغيرة، تؤلف تقريباً هولندا كما نعرفها اليوم. ولم تستطع هذه الأقاليم الهولندية أن تبلغ أوجها حتى القرن السابع عشر، عندما اتسعت إمبراطوريتها، إذا صح التعبير، من رمبرانت إلى بتافيا. وكانت فلاندر وبرابانت عام 1300 قد خنقتها الصناعة والتجارة وحرب الطبقات ووصلت قناة، طولها اثنا عشر ميلاً بروجيس ببحر الشمال، تمخرها مائة سفينة كل يوم، تأتي بالتجارة من مائة ميناء في ثلاث قارات، ويعد اينياس سيلفيوس، مدينة بروجيس، واحدة من أجمل المدن الثلاث في العالم. وألف صاغة بروجيس، فرقة كاملة من حرس المدينة، ونساجو جنت، سبعة وعشرين فرقة من قواتها العسكرية، التي بلغ مجموعها 189.000 رجل.

وكانت المنظمة النقابية في القرون الوسطى، وهي التي منحت الصانع كرامة الحرية، والاعتزاز بالحذق، تفسح الطريق في صناعات النسيج والمعادن في فلاندرز وبرابانت لنظام رأسمالي يمد فيه الممول رأس المال والمواد والآلات إلى عمال المصانع الذين يأخذون أجرهم بالقطعة، ولم تعد النقابة تحميهم وأصبح الالتحاق بالنقابة باهظاً، وأصبح آلاف العمال رجال تراحيل-عمال اليومية-يتنقلون من بلد إلى آخر، ومن مصنع إلى مصنع، ولا يجدون إلا عملاً مؤقتاً ويحصلون على أجور تفرض عليهم العيش في مساكن قذرة. ولا تسمح لهم إلا بالقليل من المتاع لا يتجاوز الملابس التي يرتدونها. وظهرت أفكار شيوعية بين العمال والفلاحين، وتساءل الفقراء، لماذا فرض عليهم أن يعيشوا جائعين وصوامع النبلاء ورجال الدين تطفح بالغلال؟ وحكم على جميع اللذين لا يعملون بأيديهم بأنهم من الطفيليين. وشكا أصحاب الأعمال بدورهم، من الخطر الذي يتهدد أموالهم، ومن عدم الاستقرار في الحصول على مواد الصناعة وموسميتها، ومن تعرض شحناتهم للغرق، وتذبذب الأسعار في السوق، ومن الحيل التي يلجأ إليها المتنافسون، والإضراب المتكرر الذي يرفع الأجور والأسعار، واضطربت العملة، فقلت أرباح رجال الأعمال، إلى حد العجز عن الوفاء بالديون. وناصر لويس دي نيفير أمير فلاندرز، أصحاب الأعمال. فثار العامة في بروجز وبيرز يؤيدون الفلاحين المجاورون، وخلعوا لويس، ونهبوا الكنائس، وذبحوا نفراً من أصحاب الملايين. فما كان من الكنيسة إلا أن أصدرت قراراً بحرمان المناطق الثائرة، ومع ذلك فقد أرغم الثائرون القساوسة على ترتيل القداس، وانتحل أحد الزعماء نشيداً يسبق ديودورو بأربعمائة وخمسين سنة، يقسم بأنه لم يقنع حتى يشنق آخر قسيس.. واستغاث لويس بمولاه، ملك فرنسا، فجاء فيليب السادس، وهزم القوات الثائرة في كاسل (1328)، وشنق عمدة بروجز، وأعاد المقاطعة، وجعل فلاندرز تابعة لفرنسا.

وكانت فرنسا على وجه العموم أقل تصنيعاً بكثير من فلاندرز، وبقيت أغلب صناعاتها في مرحلة العمل اليدوي، ولكن ليل ودوراي وكمبراي وأميين اقتبست صناعة النسيج من المدن الفلمنكية القريبة. وعوقت الطرق السيئة والمكوث الإقطاعية التجارة الداخلية، بيد أنها أفادت من القنوات والأنهار التي ألفت شبكة من الطرق الطبيعية الكبيرة عبر فرنسا. وكانت طبقة رجال الأعمال النامية، المتحالفة مع الملوك، قد وصلت عام 1300 إلى مكانة رفيعة في الدولة، وإلى درجة من الثراء أذهلت الإقطاعيين، والنبلاء الفقراء جميعاً. وحكمت قلة من التجار المدن، وسيطرت على النقابات، وأمضت في تقييد الإنتاج والتجارة. وحدثت هنا، كما حدث في فلاندرز، ثورة كادحين في المدن. فقد انتفض عام 1300 فلاحون فقراء، عرفوا في التاريخ بالرعاة، واصطخبوا في المدن، لما حدث عام 1251، وأخذوا يجمعون في انتفاضتهم العمال الكادحين المتمردين. وساروا جنوباً، يتزعمهم راهب ثائر، وأغلبهم حفاة عراة من السلاح، معلنين أن القدس غايتهم. ودفعهم الجوع إلى انتهاب الدكاكين والحقول، ولما تعرضوا للمقاومة، استطاعوا أن يحصلوا على الأسلحة، ويؤلفوا جيشاً. حتى إذا بلغوا باريس حطموا أبواب السجن، وهزموا قوات الملك. فحبس فيليب الرابع نفسه في اللوفر، وانسحب النبلاء إلى معقلهم، وجبن التجار في دورهم. وواصل الحشد سيره، وزاد عدد أفراده بانضمام المعدمين في العاصمة إليهم، حتى بلغوا أربعين ألفاً من الرجال والنساء ومن الأوباش والأتقياء. وذبحوا فردن وأوخ وتولز جميع من وقع في أيديهم من اليهود. ولما تجمعوا في ايجوز مورت، على البحر الأبيض المتوسط، أحدق بهم عمدة كاركاسون بقواته، وقطع عنهم المؤن، ولبث كذلك حتى مات جميع الثوار من الجوع أو الوباء، وشنق القليلين الذين بقوا منهم.

وأي نوع من الحكومة ذلك الذي يترك فرنسا، تحت رحمة الثروة الجشعة، والفقر الذي لا يعبأ بقانون؟ ولقد كانت حكومة فرنسا أقدر حكومة في أوربا من نواح كثيرة. فإن ملوك القرن الثالث عشر الأقوياء، أخضعوا أمراء الإقطاع للدولة. وأنشأوا محكمة وإدارة قويتين، بموظفين مدنيين مدربين، واستدعوا للاجتماع في مناسبات مجالس مقاطعات أو مجالس عامة وكانت في الأصل تجمعاً عاماً لأصحاب المقاطعات، ثم أصبحت مجلساً استشارياً يتألف من مندوبين عن النبلاء ورجال الدين، والطبقة الوسطى. وأعجبي أوربا كلها بالبلاط الفرنسي، حيث اختلط الأمراء والنبلاء والفرسان الأقوياء بالنساء ذوات الأردية الحريرية، في الحفلات الطريفة، والمجون الرشيق، والمبارزات الصاخبة في برجاس لامع، ببريق الفروسية، ولقد وصف جون ملك بوهيميا باريس بأنها "أعظم مقر للفروسية في العالم" وجاهر بأنه لا يستطيع أن يعيش خارجها. أما بترارك الذي زارها عام 1331 فكان وصفه إياها أقل خيالاً: قال: "إن باريس مدينة عظيمة من غير شك ولو أنها دائماً أقل من شهرتها، وتدين كثيراً لأكاذيب أهلها عنها، والحق أنني لم أشهد مكاناً أقذر منها سوى افينيون. وتضم في الوقت نفسه أعلم الرجال، وهي كالسلة العظيمة تجمع فيها، أندر الثمرات في العالم. ولقد مر على الفرنسيين حين من الدهر، وصفوا فيه بأنهم برابرة لشراستهم. أما الآن، فقد تغير الحال تماماً. فإنهم يمتازون بمزاج مرح، وحب للمجتمعات، وسهولة وتلاعب في الحديث..وهم ينتهزون كل فرصة لإظهار امتيازهم، وشن الحرب على جميع الأعباء بالتندر والضحك، والغناء والأكل والشراب.

وخلف، فيليب الرابع، لابنه عام 1314 خزانة خاوية أو تكاد على الرغم من مصادرته التي تشبه القرصنة لأموال الداوية واليهود، ومات لويس العاشر بعد حكم قصير (1316) ولم يخلف وريثاً للعرش، وإنما خلف زوجة حاملاً. وما هي إلا فترة حتى توج أخوه باسم فيليب الخامس. وظهر فريق منافس يطالب بالعرش لابنته لويس جان، البالغة من العمر أربع سنوات، ولكن مجلساً من النبلاء ورجال الدين أصدر عام 1316 قراره المشهور الخاص بتوارث العرش وهو "أن القوانين والعادات المرعية بين الفرنج تستبعد البنات من وراثة العرش". ومات فيليب (1322) بلا ولد يخلفه، فطبقت القاعدة مرة أخرى لتحول بين ابنته وبين ولاية الملك، ونودي بأخيه ملكاً باسم شارل الرابع. والراجح أن القرار استهدف أيضاً أن يستبعد عن وراثة العرش إيزابل شقيقة فيليب الرابع، وهي التي تزوجت من إدوارد الثاني ملك إنجلترا، وأنجبت إدوارد الثالث عام 312، لأن الفرنسيين صمموا ألا يحكم فرنسا ملك إنجليزي.

ومات شارل الرابع بلا خلف من الذكور (1328) فانتهت بموته دولة الملوك من أسرة كابيتان وعرض إدوارد الثالث، الذي اعتلى عرش إنجلترا قبل ذلك بعلم، على مجلس النبلاء في فرنسا، مطالبته بالعرش الفرنسي، باعتباره حفيداً لفيليب الرابع، وأقرب الأعقاب الأحياء لهيو كابت، فرفض المجلس، على أساس أن أم إدوارد لا تستطيع أن تنقل إليه تاجاً استبعدت هي نفسها عنه بقرار التوريث الذي صدر عامي 1316، 1322. وفضل البارونات عليه ابن أخ لفيليب الرابع، وهو الكونت فالو، وبذلك يكون فيليب الرابع هو الذي بدأ أسرة فالو المالكة، التي حكمت فرنسا، إلى أن استهل هنري الرابع أسرة البربون عام 1589. واعترض على هذا الاختيار إدوارد، ولكنه جاء إلى "أمين" عام 1329، وأعلن خضوعه وأقسم يمين الولاء لفيليب الرابع باعتباره مولاه الإقطاعي على جاسكونيا وجويين وبونثيو. ولما أنضجت إدوارد السنون، وزاد دهاؤه، ندم على خضوعه وحلم مرة أخرى بالجلوس على عرشين في وقت واحد. وأكد له مستشاروه، بأن فيليب الجديد مستضعف، يدبر وشيكاً للخروج في حملة صليبية إلى الأراضي المقدسة. وظهر أن الوقت مناسب للبدء في حرب المائة عام.


الطريق إلى كريسي 1337 - 1347

وطالب إدوارد عام 1337 رسمياً من جديد بالعرش وكان رفض طلبه السبب المباشر للحرب. وأصبحت نورمانديا، بعد فتحها إنجلترا تابعة للملوك الإنجليز، مائة وثمانية وثلاثين عاماً، وأعاد فيليب الثاني فتحها باس م فرنسا (1204) ورأى كثير من النبلاء الإنجليز، الذين انحدروا من أصل نورماندي، في الحرب المقبلة محاولة لاستعادة موطنهم الأصلي واقتطع فيليب الرابع وشارل الرابع جزءاً من مقاطعة جوين الإنجليزية التي كانت عامرة بالكروم، وكانت تجارة النبيذ في بوردو مورداً ثميناً لإنجلترا حتى مات في الدفاع عنها إلى حين عشرة آلاف إنجليزي. أما اسكتلندا فكانت شوكة في جنب إنجلترا، وتحالف الفرنسيون مراراً معها في حروب مع إنجلترا. وكان بحر الشمال عامراً بالسمك، فادعى الأسطول الإنجليزي السيادة على هذه المياه في القناة وخليج بسكاى واستولى على السفن الفرنسية التي سولت لنفسها أن تسخر هذا الادعاء الأول بالسيادة الإنجليزية على البحار. وكانت فلاندرز منفذاً حيوياً للصوف البريطاني، وأنف النبلاء الإنجليز الذين يجز الصوف من أغنامهم والتجار الذين يصدرون هذا الصوف، أن تعتمد سوقهم الأساسية على النية الطيبة لملك فرنسا.

وأمر كونت فلاندرز عام 1336 بحبس جميع البريطانيين هناك، ويبدو أن فيليب السادس أيد هذا العمل وقاية من الدسائس الإنجليزية. فرد إدوارد الثالث على ذلك بأن أمر بالقبض على جميع الفلمنكيين في إنجلترا.وتحريم تصدير الصوف إلى فلاندرز وما هو إلا أسبوع حتى توقفت المغازل الفلمنكية لافتقارها إلى المادة الخام، وتزاحم العمال في الطرقات مطالبين بالعمل. واتحد العمال اليدويون والآليون في جنت معلنين خروجهم عن طاعة الكونت، وانتخبوا متآمرا دعيا هو جاكوب فان ارتفليد حاكماً على المدينة، وأيدوا سياسته التي تنشد صداقة إنجلترا وصوفها (1337) فألغى إدوارد الحظر، وفر الكونت إلى باريس، وأقر أهل فلاندرز جميعاً ديكتاتورية أرتفيلد ووافقوا على الانضمام إلى إنجلترا في حربها مع فرنسا. وفي نوفمبر عام 1337 سار إدوارد الثالث على تقاليد الفروسية وأرسل إلى فيليب السادس إعلاناً رسمياً بأن إنجلترا ستشرع في الحرب بعد ثلاثة أيام.

وكان أول لقاء له أهميته في حرب المائة سنة، معركة بحرية في سلويز بعيداً عن الساحل الفلمنكي (1340)، حطم فيها الأسطول الإنجليزي مائة زاثنتين وأربعين سفينة من المائة والاثنتين والسبعين التي تؤلف الأسطول الفرنسي ثم تركت في العام نفسه جان أميرة فالوا أخت فيليب وحماة إدوارد، ديرها في فونتنل، وألحت على الملك الفرنسي أن يوفدها رسول سلام. فتعرضت في طريقها إلى معسكر القادة الإنجليز لأخطار كثيرة، فوافقوها على عقد مؤتمر وأقنع توسطها البطولي الملكين بأن يعقدا هدنة لمدة تسعة أشهر. وساد السلام بفضل الجهود التي بذلها البابا كليمنت السادس إلى عام 1346. ولكن حرب الطبقات احتلت المسرح في فترة الصفاء هذه. وكان النساجون المنظمون في جنت يؤلفون أرستقراطية العمل في الأراضي الواطئة. ورفضوا الخضوع لأرتفيلد باعتباره طاغية قاسياً، ومبدداً للأموال العامة، وأداة طيعة في يد إنجلترا والبرجوازية. واقترح أرتفيلد أن تنادي فلاندرز بأمير ويلز حاكماً عليها فجاء إدوارد الثالث إلى سلويز تأكيداً للاتفاق.حتى إذا رجع أرتفيلد من سلويز إلى جنت وجد داره محاطة بجمهور ساخط ودافع عن حياته مؤكداً أنه وطني فلمنكي أصيل، ولكنه سحل وضرب إلى أن فاضت روحه (1345). وأنشأ النساجون ديكتاتورية عمالية في جنت، وبعثوا مندوبين عنهم في أنحاء فلاندرز يدعون العمال للثورة. فاشتبك القصارون مع النساجين وأجلوهم عن الحكم وقتل كثير منهم، وضاق الشعب بالحكومة الجديدة وبسط لويس دي ميل، وكان قد أصبح كونت فلاندرز، سلطانه على جميع مدنها.

وما أن انتهت الهدنة، حتى غزا إدوارد الثالث نورمانديا واجتاحها. وفي السادس والعشرين من أغسطس عام 1346، التقى الجيشان: الإنجليزي والفرنسي، وتأهبا للمعركة الفاصلة. واستمع القادة والرجال من الجانبين إلى القداس، وأكلوا جسم المسيح وشربوا دمه وطلبوا معونة في إجهاز أحدهما على الآخر. ثم تحاربا في شجاعة ووحشية بلا هوادة. واكتسب إدوارد، الأمير الأسود، في ذلك اليوم ثناء والده المنتصر، وصمد فيليب السادس في حومة الوغى، حتى لم يبق من رجاله إلا ستة جنود. وهلك في تلك المعركة الواحدة، ثلاثون ألف رجل، كما ذهب إلى ذلك فرواسار في تقديره غير الدقيق. وأشرف الإقطاع على الموت هناك أيضاً: فوقف فرسان فرنسا الراكبون، المسلحون في رشاقة بالحراب القصار، بلا حول ولا قوة، أمام حائط من الرماح الإنجليزية الطوال المصوبة إلى صدور أفراسهم، بينما نشر حملة القسى من الإنجليز عند الجناحين، الموت بين الفرسان الفرنسيين. وكادت شمس الفروسية تأفل في يوم الحصاد الطويل الذي تنفس فجره قبل ذلك ادريانوبل بتسعمائة وثماني وستين سنة، وجاءت المشاة إلى المقدمة، وضعُفت سيادة العسكرية الأرستقراطية. واستعملت المدفعية في كرسي على نطاق ضيق، وجعلتها صعوبة النقل وحاجتها إلى إعادة التعمير أكثر مشقة وأقل جدوى، ولذلك قصر فلاني فائدتها على صخبها . وقاد إدوارد جيشه من كريسي إلى حصار كاليه، واستخدم المدفع في تحطيم الأسوار (1347). وصمدت المدينة عاماً كاملاً، حتى ألحت المجاعة عليها، فأذعنت لشروط إدوارد، وهو أن يخرج الباقون على قيد الحياة بسلام، إذا توجه ستة من أعيان المدينة إليه، والحبال حول أعناقهم، وفي أيدهم مفاتيح المدينة. وتطوع ستة منهم بالفعل ولما مثلوا أمام الملك، أمر بشنقهم. فجثت ملكة إنجلترا أمامه، تتوسل الإبقاء على حياتهم، فاستجاب لها، وأرسلت الرجال مخفورين إلى دورهم بسلام. وللنساء في التاريخ فضل أعظم من الملوك وهن يخضن بشجاعة معركة يائسة لتحويل الرجال من جفوة التوحش إلى صقل الحضارة. وهكذا أصبحت كاليه، جزءاً من إنجلترا، ولبثت إلى عام 1558، منفذاً استراتيجياً لبضائعها وجيوشها على القارة. وثارت عام 1348، فحاصرها إدوارد مرة أخرى وحارب بنفسه متنكراً في المعمعة. واستطاع فارس فرنسي، اسمه أوستاس دي ريبومونت، أن يطعن إدوارد مرتين، ولكنه غلب على أمره وأسر، ولما استعاد إدوارد المدينة دعا أسراه النبلاء إلى الغذاء، ووقف اللوردات الإنجليز وأمير ويلز على خدمتهم، وقال إدوارد للفارس الذي طعنه ريبومونت "ياسير أوستاس، إنك أشجع فارس رأيته في العالم المسيحي يهاجم عدوه..ولذلك فأنا أمنحك تقدير الشجاعة وأجعلك فوق جميع رجال بلاطي". ونزع الملك الإنجليزي عن رأسه إكليلاً نفيساً ووضعه على رأس الفارس الفرنسي، قائلاً:

"أيها السيد أوستاس، إنني أهديك هذا الإكليل..وأرجوك أن تضعه على رأسك هذا العام في محبتي. وإني لأعلم أنك مقبل على الحياة، نزاع إلى الغزل، مغرم بصحبة السيدات والآنسات، لذلك قل، أينما ذهبت، إنني أعطيتك إياه. وأنا أمنحك حريتك أيضاً بلا فدية، ولك أن تذهب حيث شئت". وعاشت الفروسية هنا وهناك، بين الجشع والقتل، واقتربت وكادت أساطير أرثر تشبه التاريخ الحي على صفحات فرواسارت.


الموت الأسود وغيره 1348 - 1349

لقد كان الطاعون العظيم محايداً حين دهم إنجلترا العامرة بالغنائم الفرنسية وفرنسا التي أصابتها الهزيمة بالخراب. ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى، فلقد أزعج أوربا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر، وإحدى وأربعون سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر، وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان، هذان وهما عاملان ثابتان متوسيان من ناحية، مع الحرب والمجاعة من ناحية أخرى، على الحد من استغراق الإنسان في النسل. وكان الموت الأسود شر هذه النوازل، ولعله أنوح ملمة طبيعية تعرض لها الإنسان في عصور التاريخ.ولقد وفد على برفانس وفرنسا من إيطاليا، ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بوساطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا. وذهبت رواية، غير محققة في ناربون، إلى أن ثلاثين ألف شخص ماتوا في هذا الوباء، وفي باريس خمسين ألفاً وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً، وربما كان المجموع "ربع سكان العالم المتحضر" وعجزت مهنة الطب أمامه، فلم تكن تعلم سبب المرض (ولقد اكتشف كيتا زاتو، برسن، باسيليات الطاعون الدملي عام 1894)، وكل ما كانت توصي به هو، المعضدات، ومطهرات الجوف، والمنعشات، ونظافة المسكن والجسم، والتبخير ببخار الخل(7).ورفض عدد قليل من الأطباء والقساوسة علاج المرضى، خوفاً من العدوى، ولكن أكثرهم واجهوا المحنة برجولة، وضحى آلاف من الأطباء ورجال الدين بحياتهم. وكان على قيد الحياة ثمانية وعشرون كاردينالا عام 1348 توفي منهم تسعة بعد ذلك بعام واحد، ومن الثمانية والأربعين رئيساً للأساقفة، مات خمسة وعشرون، ومن الخمسة والسبعين والثلثمائة أسقف مات سبعة ومائتان.

وكان للوباء آثاره على جميع نواحي الحياة وطبيعي أن يموت الفقراء، بنسبة أكبر من الأغنياء، فأدى ذلك إلى نقص في العمال، وهجرت آلاف الأفدنة بلا فلاحة، ونفقت ملايين الأنعام. واكتسب العمال قدرة جديدة على المساومة إلى حين، فرفعوا أجورهم، ونفضوا عن كواهلهم كثيراً من الأعباء الإقطاعية، وقاموا بثورات جعلت النبلاء، لا يستطيعون النيل منهم مدى نصف قرن، بل أضرب القسس أنفسهم، من اجل زيادة رواتبهم. وهجر عبيد الأرض، المزارع إلى المدن، واتسعت الصناعة، وحصلت طبقة رجال الأعمال على مغانم جديدة من الأرستقراطية التي تملك الأرض. ونالت الصحة العامة قسطاً من الإصلاح المعتدل. وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين، فأدت إلى أمراض عصيبة معدية، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنَّت مثل "الفلاجلان" الذين ساروا عام 1349، كما فعلوا في القرن الثالث عشر، في طرقات المدينة عراة أو يكادون، يضربون أنفسهم في ندم، ويعظون بيوم الحساب، والمدن الفاضلة، ويدعون إلى ذبح اليهود. واستمع الناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار، ومفسري الأحلام، والعرافين، والدجالين وغيرهم من المشعوذين. وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة. وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة. فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار. فقتل اليهود في حوالي خمسين مدينة، يميد من بروكسل إلى برسلو بين عامي 1348-1349، وكاد يقضي على النظام الاجتماعي، بموت آلاف من رجال الشرطة، والقضاة وموظفي الحكومة، والأساقفة والقسس. بل إن صناعة الحرب قد تعرضت للاضمحلال، وتلكأت حرب المائة عام، بين حصار كاليه ومعركة بواتييه (1356) في هدنة متراخية، بينما عوض النقص الهائل في صفوف المشاة، برجال بلغ منهم الفقر مبلغاً، جعلهم يرون الحياة تفضل الموت ببضعة شلنات!

وتأسى فيليب السادس، عن الطاعون والهزيمة، بالزواج، وهو في السادسة والخمسين، من بلانش أميرة نافار، البالغة من العمر ثماني عشرة سنة، وهي التي كان ينوي خطبتها لابنه. وتوفي بعد ذلك بسبعة أشهر فقط. وكان هذا الابن، جون الثاني "الطيب" (1350-1364)، طيباً حقاً مع النبلاء، وأعفاهم من الضرائب، ومنحهم الأموال ليصيدوا الإنجليز عن أرضهم، وأبقى على أشكال الفروسية ومزاياها جميعاً وخفض سعر العملة، كوسيلة قديمة، للوفاء بديون الحرب، وزاد الضرائب مراراً، على الطبقتين الدنيا والوسطى، وسار في أبهة ليلتقي بالإنجليز عند بواتييه. وهناك أبيد رجاله الخمسة عشر ألفاً من الفرسان والاسكتلنديين، والحشم وذبحوا وأسروا، على يد سبعة آلاف من رجال الأمير الأسود، بل إن الملك نفسه، الذي حارب بعنف، وقاد جيشه بحماقة، كان بين الأسرى هو وابنه فيليب، وسبعة عشر ايرل، وعدد لا يحصى من البارونات، والفرسان، والأعيان. وسمح لمعظمهم أن يفتدوا أنفسهم على الفور، وأطلق سراح كثيرين، بعد أن وعدوا بإحضار الفدية إلى بوردو في عيد الميلاد وعامل الأمير الأسود الملك بما يليق بمقامه من إجلال، واصطحبه على أكف الراحة إلى إنجلترا.


الثورة والتجديد 1357-1380

أصيبت فرنسا كلها بالفوضى بعد محنة بواتييه. وكان من نتائج عدم النزاهة والكفاءة في الحكومة، ونقص سعر العملة إلى حد كبير، والمبالغ الباهظة التي دفعت فدية للملك والفرسان، والخراب الذي جره الحرب والطاعون، والضرائب غير المشجعة التي فرضت على الزراعة والصناعة والتجارة، أن قامت الأمة بثورة يائسة. ودعا ولي العهد دوفان وهو شارل صاحب فالوا البالغ من العمر تسع عشرة سنة، مجلس الطبقات للولايات الشمالية إلى الانعقاد في باريس. وذلك ليفرض ضرائب جديدة، فأخذ على عاتقه أن ينشئ حكومة برلمانية في فرنسا. وكان لباريس وغيرها من المدن برلمانات منذ عهد طويل، ولكنها كانت جماعات صغيرة معينة، معظمها من رجال القضاء عادة، ومهمتها محصورة في الاستشارة القانونية للحاكم المحلي أو الملك، وتسجيل مراسيمه باعتبارها جزءاً من القانون الفرنسي. واستجوب هذا المجلس، الذي سيطر عليه تحالف مؤقت بين رجال الدين والبرجوازية، مجلس البلاط، لماذا أدت المبالغ الكبيرة التي جمعت للحروب، إلى وجود فرق غير منظمة وهزيمة منكرة، وأمر باعتقال اثنين وعشرين من عملاء الحكومة، كما أمر مديري الخزانة أن يعيدوا المبالغ التي اتهموا باختلاسها. وفرض قيوداً على امتيازات التاج، بل إنه فكر في خلع جون الطيب، وإبعاد أبنائه عن ولاية العهد، وإسناد عرش فرنسا إلى الملك شارل السيء صاحب نافار، وهو من أعقاب هيوكابت. بيد أن المجلس تأثر من خضوع ولي العهد وحكمته، ونادى به نائباً للملك، وأجمعوا رأيهم على إعطائه نفقات، ثلاثين ألف رجل مدججين بالسلاح، ولكن المجلس طالبه في الوقت نفسه أن يطرد الموظفين الفاسدين أو الجهلاء، وحذره من العبث بسعر العملة، وعين لجنة من ستة وثلاثين رجلاً للرقابة على أعمال الحكومة ونفقاتها. وأدان القضاة لإسرافهم على حاشيتهم، وتراخيهم في العمل، فقد كان تقويمهم القضائي متأخراً عشرين سنة، وفرض عليهم أن يفتتحوا جلساتهم عند شروق الشمس، في نفس الوقت الذي يبادر فيه المواطنون الأمناء بالذهاب إلى محال أعمالهم، أو حقولهم. وهذا "القانون العظيم" الذي صدر عام 1357، حرم على النبلاء أيضاً مغادرة فرنسا، أو شن حرب خاصة بهم، ووجه تعليماته إلى السلطات المحلية للمدن، أن تعتقل كل نبيل، يخرج على هذا المرسوم. وتصبح الأرستقراطية بتنفيذه خاضعة للعامة، والنبلاء لطبقة رجال الأعمال وعلى الملك والأمير والبارون أن يطيعوا المندوبين الذين اختارهم الشعب. وكأنه قد قدر لفرنسا أن تحصل على حكومة دستورية، قبل الثورة بأربعة قرون. ووقع ولي العهد هذا القانون في شهر مارس ولكنه بدأ يتملص منه في أبريل. وطالب الإنجليز بفدية عن أبيه، يؤدي الوفاء بها إلى الخراب، وتوعدوا بالتقدم إلى باريس. وتباطأ الناس في دفع الضرائب، متذرعين بالقاعدة الجديدة التي تقول أنه لا يفرضها غير مجلس الطبقات. وألحت الحاجة الماسة إلى المبادرة بالدفع، ودعا شارل هذا المجلس إلى الاجتماع ثانية في أول فبراير عام 1358، وأنقص في الوقت نفسه سعر العملة ليزيد مورده. وكان لاتين مارسل، التاجر الغني، شأن عظيم في الثاني من فبراير إذ أسهم بنصيب كبير، باعتباره رئيساً لنقابة التجار في صياغة "القانون العظيم" وأتيح له أن يحكم باريس لمدة سنة، فقاد فرقة مسلحة من المواطنين-يرتدون جميعاً قبعات بلوني المدينة الرسميين، الأزرق والأحمر-إلى القصر الملكي وأنب شارل على عدم طاعته لأوامر "القانون العظيم" ولما لم يعلن الأمير طاعته، دفع مارسيل رجاله، فقتلوا اثنين من الحجاب اللذين كانا يحرسان ولي العهد، حتى انتثرت دمائهما على الرداء الملكي.

وأخذ مجلس الطبقات يثير الفزع بهذا العنف الجريء، ومهما يكن من شيء فقد سبق الثورة الفرنسية بأن سن قانوناً _مايو عام 1358) يحصر مهمة التشريع لفرنسا في هذا المجلس، ويفرض على الملك ألا يتصرف في الأمور الهامة إلا بموافقة الولايات، ففر عدد كبير من النبلاء ورجال الدين من فرنسا، وترك كثيرون من الموظفين الإداريين مناصبهم خوفاً على حياتهم. فما كان من مارسيل إلا أن عين مكانهم جماعة من الأهالي. وحاول تجار باريس أن يحكوا فرنسا فترة من الزمان. والتجأ ولي العهد مع النبلاء إلى بيكاردي، وألف جيشاً، ونادى أهل باريس، أن يسلموا إليه زعماء الثورة، وأعد مارسيل العاصمة للدفاع، وأحاطها بأسوار جديدة، واحتل اللوفر، وكان وقتذاك مقر الملك ورمزه.

وفي الوقت الذي احتلت فيه الثورة مدينة باريس، رأى الفلاحون في الريف، أن الفرصة مواتية، للثأر من سادتهم. وكان معظمهم عبيد أرض، تفرض عليهم الضرائب لينعم سادتهم بأسباب الترف ولدفع الفدية عنهم، وينتهبهم الجند وقطاع الطريق، ويعذبون ليشفوا عن مدخراتهم. ولما أهلك الطاعون عدداً عظيماً منهم، وعرضتهم الحروب للمجاعة، ثاروا في عنف لا حد له، وشقوا طريقهم في قلاع الإقطاع، ودقوا أعناق النبلاء التي وصلت إليهم خناجرهم، ووجدوا الخلاص من جوعهم وظمئهم في مخازنهم وأقبيتهم. وكان النبلاء يطلقون على مثال الفلاح الطيب اللقب التقليدي " جاك المغفل"، ونفذ صبر آلاف من هؤلاء، فاندفعوا في أعمال وحشية، وذبحوا سادتهم، واغتصبوا السيدات، وقتلوا الذراري، وألبسوا زوجاتهم حلي اللائى توفين. وأرسل مارسيل ثمانمائة من رجاله لمعاونة الفلاحين أملاً أن تصرف هذه الثورة الريفية ولي العهد عن مهاجمة باريس. واشتد ساعدهم، وساروا إلى ميوكس التي التجأ إليها أميرات أورليان ونورمانديا، وكثيرات من سيدات الطبقات الراقية، فشاهدن حشداً من عبيد الأرض والمستأجرين يتدفق على المدينة، واستسلمن، معتقدات أنهن فقدن الشرف والحياة. وإذا بفرقة من الفرسان كأنها معجزة من بعض أساطير أرثر، تدخل ميوكس عائدة من الحروب الصليبية وتباغت الفلاحين، وتحصد آلافاً منهم، وتلقي بهم أكواماً في الجداول المجاورة فخرج النبلاء من مخابئهم، وفرضوا الغرامات على القرى عقاباً لها. وساروا في أنحاء الريف، وأعملوا القتل في عشرين ألف فلاح، ولم يفرقوا بين ثائر وبريء (يونيه 1358).

واقتربت قوات ولي العهد من باريس، وقطعت عنها المؤن، ويئس مارسيل من المقاومة بجميع الوسائل، فأهدى التاج إلى شارل السيء، ومهد لرجاله دخول المدينة وأنكر جان مايلادن، صديق مارسيل ويده اليمنى، هذا الصنيع وعده خيانة، فعقد اتفاقاً سرياً مع ولي العهد، وفي الواحد والثلاثين من شهر يولية قتا جان وآخرون مارسيل بضربة فأس. فدخل ولي العهد باريس على رأس النبلاء المسلحين. وكان معقولاً حذراً في تصرفه وعكف على افتداء أبيه، واستعادة الروح المعنوية، والحياة الاقتصادية لفرنسا، وانسحب الرجال الذين حاولوا أن يخلقوا سيادة برلمانية، في صمت وغموض. والتف النبلاء المعترفون بالجميل حول العرش، وأصبح مجلس الطبقات أداة طيعة في يد ملكية زادت شوكتها.

وفي نوفمبر عام 1359 نزل إدوارد الثالث إلى البر بجيش جديد في كاليه. وتنكب باريس، مقدراً الأسوار الجديدة التي شيدها مارسيل، ولكنه أخضع الريف المحيط بها من ريمز إلى شارترز بإبادة المحاصيل، حتى اجتاحت المجاعة باريس مرة أخرى. وطلب شارل الصلح بشروط مهينة. فعلى فرنسا أن تسلم جاسكونيا وجوين إلى إنجلترا بريئة من كل التزام إقطاعي عليها لملك فرنسا، وأن تتنازل أيضاً عن بواتو وبريجوري وكويرسي وسانتونج ورورج وكاليه وبونثيو وأونيس وإنجوموا وأجنوا وليموزين وبيجور وأن تدفع، ثلاثة مليون كراون، ليعود مليكها. وفي مقابل ذلك يتنازل إدوارد، وجميع أعقابه، عن كل ادعاء، في عرش فرنسا، ووقعت معاهدة بريتاني هذه في الثامن من مايو عام 1360، وهكذا ابتلي ثلث فرنسا بالحكم البريطاني، واستشاط منه غضباً. وأرسل اثنان من أبناء الملك جون وهما-دوق انجو ودوق بري-إلى إنجلترا، رهينتين على إخلاص فرنسا للمعاهدة. وعاد جون إلى باريس، وسط قرع الأجراس، وابتهاج النبلاء والدهماء. ولما خرج الدوق انجو على كلمة الشرف، وفر للحاق بزوجته، عاد الملك جون إلى إنجلترا بنفسه، ليكون رهينة في مكان ابنه، مناشداً الدخول في مفاوضات من أجل صلح أخف وطأة. فاستقبله إدوارد على أنه ضيف لا أسير، وكرمه كل يوم على أنه زهرة من زهريات الفروسية. ومات جون في لندن عام 1364، ودفن في كنيسة سانت بول، أسيراً في موته. وأصبح ولي العهد البالغ ستة وعشرين سنة ملكاً على فرنسا باسم شارل الخامس. واستحق لقب "الحكيم"، الذي أسبغه شعبه عليه، لهذا السبب وحده، وهو أنه عرف كيف ينتصر في معارك، دون أن يحرك يداً. فلقد كانت يده اليمنى، متضخمة دائماً، وذراعه مترهلة، ولم يكن يستطيع أن يرفع حربة، وقيل أن شارل السيء دس له السم. وإذا كان قد فرض عليه أن يعيش مقيداً، فقد أحاط نفسه بمستشارين حكماء. فأعاد تنظيم كل إدارة، وأصلح الجهاز القضائي، وأعاد تكوين الجيش، وشجع الصناعة، وثبت سعر العملة، وأيد الأدب والفن، وجمع في اللوفر المكتبة الملكية، التي زودت النهضة الفرنسية باللصوص القديمة والترجمات، وكانت نواة المكتبة القومية. وسلم للنبلاء الحق في استعادة المكوس الإقطاعية، ولكنه تخطاهم وعين-قائداً عاماً للجيوش الفرنسية-رجلاً بريتانياً اسمه برتراند دي جويسكلين. وهو رجل أسمر، أفطس الأنف، غليظ العنق، ضخم الرأس. ولقد ساعد الاعتقاد، في تفوق هذا "النسر البريتاني" على جميع القادة الإنجليز، على تصميم الملك، استرداد فرنسا من الحكم الإنجليزي. فأرسل عام 1369، إلى إدوارد الثالث إعلاناً رسمياً بالحرب.

وكان رد الأمير الأسود، أن ×ضع ليموج، وأعمل السيف في ثلاثة آلاف بين رجل وامرأة وطفل، وهذا هو مذهبه في التربية السياسية. وثبت أنه لم يكن موفقاً فقد تحصنت كل مدينة في طريقه، وتزودت بالجند، واختزنت المؤن للمقاومة الناجحة، واضطر الأمير إلى أن يقنع، بتخريب الريف، وإحراق المحاصيل، واقتلاع منازل الفلاحين الخاوية، ولم يشأ دي جويسكلان أن يخوض معركة، ولكنه ناوش مؤخرة الأمير، وأسر العلافين، وانتظر أن تشرف القوات الفرنسية على الموت جوعاً. وحدث ما توقعه فانسحبت، وتقدم دي جويسكلان، وأخذت الولايات تعلن تخلصها الواحدة بعد الأخرى من التبعية، وبعد عامين من القيادة الممتازة، والولاء المشترك بين القائد والملك، طرد الإنجليز من فرنسا بأسرها باستثناء بوردو وبرست وشرير، وكاليه، وبلغت فرنسا لأول مرة جبال البرانس. ومات الملك وقائده في العام نفسه (1380) في ذروة النصر.


الملك المجنون 1380-1422

الملكية الوراثية تشبه لعبة الميسر، تضع المغفل المحبوب، في مكان الحاكم القدير، فلقد كان شارل السادس في الثانية عشر من عمره عندما توفي أبوه، فعمل أعمامه أوصياء على الملك حتى بلغ العشرين، وسمحوا له أن ينغمس في مجون لا يعرف المسئولية، في الوقت الذي سار فيه نصف أوربا، إلى حافة الثورة. وكان صناع بروجس وعلى رؤوسهم قبعات حمراء، قد اقتلعوا في عام 1359 دار البلدية التاريخية في ثورة جامحة. وفي عام 1366 ثارت الطبقة الدنيا في بيرس، معلنة الحرب المقدسة على الأغنياء. وفي عام 1378 أنشأ الكيومين في فلورنسا، ديكتاتورية الكادحين. وفي عام 1379 بدأ الفلاحون الجائعون في لانجدوك- جنوبي فرنسا- حرب عصابات، استمرت ست سنوات، ضد النبلاء ورجال الدين، تحت لواء قائد أمرهم قائلاً "اقتلوا جميع أصحاب الأيدي الناعمة" وثار العمال في ستراسبورج عام 1380، وفي لندن عام 1381، وفي كلونيا عام 1396. وقامت في جنت، حكومة ثورية من عام 1379 إلى عام 1382. وتوجت ثورة من عمال مدينة روين، بزازاً قوياً وقتل الشعب في باريس، جباة الضرائب التابعين للملك بمطارق من الرصاص (1382).

وأمسك شارل السادس بأزمة الحكم في يديه عام 1388، وحكم أربع سنوات، حكماً صالحاً، فاستحق بذلك لقب "المحبوب" ولكنه جن في عام 1392. فلم يعد يعرف زوجته، وطلب إلى المرأة الغريبة عنه. أن تمسك عن توسلاتها. وسرعان ما انفض جميع الناس من حولهِ ولم يكترث به سوى أحط الخدم. ولبث خمسة أشهر لا يبدل ثيابه، ولما رؤى أخيراً أن يغتسل احتاج الأمر إلى اثني عشر رجلاً للتغلب على مقاومتهِ، ولبس تاج فرنسا ثلاثين سنة، أبله يرثى له، بينما تأهب ملك إنجليزي شاب شهم لغزو فرنسا من جديد.

ولقد أبـحر هنري الخامس من إنجلترا في الحادي من أغسطس عام 1415، في ألف وثلاثمائة سفينة، وإحدى عشر ألف رجل. فوضعوا مراسيهم في الرابع عشر بالقرب من هارفلير، عند مصب نهر السين. وقاومت هارفلير ببسالة، ولكن بلا جدوى. وسار الإنجليز، تغمرهم العزة بالنصر، ويسرع بهم داء الزرب إلى كاليه. والتقى بهم فرسان فرنسا في اجنكورت، بجوار كريسي (25 أكتوبر). وكأنما لم يتعلم الفرنسيون شيئاً من معركتي كريسي، وبواتييه، إذ ظلوا يعتمدون على الفرسان. ولم يستطع أكثر أفراسهم الحركة بسبب الأحوال، أما الذين استطاعوا التقدم، فقد واجهوا الأوتاد المسننة، التي غرسها الإنجليز، على زاوية الأرض، حول حملة القسى. فارتدت الخيل المتحيرة، وحملت على جيشها، ونزل الإنجليز على هذا الحشد المضطرب، بالقضبان الفؤوس، والسيوف، وقادهم مليكهم هال، ببسالة، وتوتر شديد من الخوف، وكان انتصارهم مذهلاً. ويقدر المؤرخون الفرنسيون، خسائر الإنجليز بألف وستمائة رجل، وخسائر الفرنسيين بعشرة آلاف رجل.

وعاد هنري إلى فرنسا عام 1417، وحاصر روين وأكل المواطنون ما ادخروه من طعام، ثم التهموا جيادهم، وكلابهم وقططهم. وألقى بالنساء والأطفال والطاعنين بالسن، خارج أسوار المدينة، توفيراً للطعام، فبحثوا عن معبر في خطوط الإنجليز، فلم يسمح لهم بالمرور، وظلوا كذلك بلا طعام ولا مأوى بين أقربائهم وأعدائهم، فهلكوا جوعاً، ومات خمسون ألف فرنسي من الجوع، في هذا الحصار الذي لم يرحم. ولما استسلمت المدينة، كبح هنري جماح جيشه من تقتيل الذين بقوا على قيد الحياة، ولكنه فرض عليهم غرامة مقدارها ثلثمائة ألف كراون، ووضعهم في السجن حتى يتسلم حصيلة المبلغ وفي عام 1419، تقدم نحو باريس التي لم يبقَ منها سوى الفساد، والانحلال، والتوحش، وحرب الطبقات. وتجاوز لإذلال ما حدث عام 1360 فقد سلمت فرنسا، بمقتضى معاهدة ترويس (1420)، كل شيء حتى الشرف. وقدم شارل السادس ابنته كاترين، زوجة لهنري الخامس، وتعهد بأن يورثه العرش الفرنسي، ونقل إليه قيادة فرنسا، ولإزالة كل التباس لم يقر ببنوة ولي العهد. ولم تدافع الملكة ايزابيل عن هذا الاتهام بالفسق في مقابل أربعة وعشرين ألف فرنك كل سنة، والواقع أنه لم يكن من السهل على المرأة في البلاط الملكي، لذلك الزمان، أن تعترف من هو والد ابنها على التحقيق. وأنكر ولي العهد المعاهدة، وكان يبسط نفوذه على جنوب فرنسا، ونظم فرق جاسكونيا وأرمانياك امواصلة الحرب. بيد أن ملك إنجلترا بدأ يحكم من اللوفر.

وبعد سنتين مات هنري الخامس بداء الزرب (الدوسنطاريا)، فإن الميكروبات لم توقع المعاهدة، ولما لحق به شارل السادس (1422) توج هنري السادس ملك إنجلترا على فرنسا، وكان دون السنة الأولى من عمره، فحكم دوق بدفورد وصياً عليه. وكان قاسياً في حكمهِ، ولكنه عادل مثل كل إنجليزي، يقدر له أن يحكم فرنسا. فأمن السفر بأن شنق عشرة آلاف رجل من قطاع الطريق في سنة واحدة، وأخذ يراقب منذ ذلك أحوال البلاد. وعاث الجنود المسرحون بالطرق الرئيسية فساداً، وأفزعوا حتى المدن الكبيرة مثل باريس، وديجون. واكتسحت الحرب، نورمانديا بالخراب، من الأمام ومن الخلف، كتيار قاتل خبيث، بل هلك ثلث سكان لانجدوك، وهي تعد أحسن حظاً، وهرب الفلاحون إلى المدن، واعتصموا بالكهوف، أو تحصنوا بالكنائس، كلما اقتربت الجيوش أو أحزاب الإقطاع أو عصابات اللصوص. ولم يعد الكثيرون من الفلاحين إلى ممتلكاتهم المضطربة وإنما عاشوا بالتكفف والسرقة، أو هلكوا من الجوع أو الطاعون. وأقفرت الكنائس، والمزارع ومدن بأسرها وتركت للبلي. وقد كان في باريس وحدها عام 1422، أربعة وعشرون ألف بيت مقفر، وثمانون ألف متسول من مجموع السكان الذي يبلغ عددهم ثلثمائة ألف نسمة. وأكل الناس لحم الكلاب وامعائها. وملأت الطرقات صيحات الأطفال المشرقين على الموت جوعاً.


الحياة بين الأطلال

كانت الأخلاق، كما يتوقع المرء في كل إقليم يصاب بالشلل الطويل المحزن في الاقتصاد والحكومة. ولقد ألف جيوفري دي لاتور لاندري، حوالي عام 1372، كتابين يرشد بهما أطفاله في هذه الفوضى، ولم يبقَ منهما غير ما وجهه إلى بناتهِ. وهو مجلد رقيق لطيف عامر بالحب الأبوي، مشوب بالهم على عفة غير آمنة وبخاصة، في زمن اقترفت فيه نساء كثيرات، الخطايا بلا جزع مما أوقعهن في فضائح مزرية. ورأى الفارس الطيب أن يقاوم هذه المغريات، وذهب إلى أن خير وقاية هي الإكثار من الصلاة. ويعرض الكتاب لعصر، لم يزل متشبثاً بالمشاعر المصقولة، والحس الأخلاقي. ونحن نلتقي بعد ذلك بسبعين سنة بشخصية منكرة، هي شخصية المارشال دي ريز أورتز، وهو رجل غني عظيم وسيد بريتاني. واعتاد أن يدعو الأطفال إلى قلعتهِ. بحجة تدريبهم على الترتيل الكنسي، ثم يقتلهم الواحد بعد آخر ويقدمهم قرباناً للشياطين، التي كان ينشد عندها القوى السحرية.


ولكنه قتل من أجل المتعة أيضاً و(لقد أنبئنا) أنه كان يضحك على صياح مرتليه المعذبين أو المحتضرين. واتبع هذا النهج أربع عشر سنة، حتى اجترأ، والد أحد ضحاياه، باتهامه، فاعترف بهذه التفاصيل كلها، وشنق عام 1440 ولولا أنه أساء إلى دوق بريتاني، لما اقتص منه، ذلك لأن الرجال من طبقته قلما كانوا يقدمون إلى ساحة القضاء، مهما كامن جرائمهم ومع ذلك، فإن الأرستقراطية التي ينتمي إليها، كثيراً ما أخرجت الأبطال أمثال الملك جون صاحب بوهيميا، أو جاستون فيوبس دي فوا، الذي أحبه فرواسارت وأثنى عليه. وفي هذه الأوحال الأزهار الأخيرة للفروسية. وأسهمت أخلاق الشعب في هذا الانحلال. فأصبحت القسوة والخيانة والفساد أمراضاً متوطنة. وكان السوقي والحاكم سواء في قبول الرشوة. وانتشر المجون، وشكا الوزير جرسون من أن أقدس الأعياد تنفق في لعب الورق والميسر والتجديف في الرين. وكان المحتالون والمزيفون واللصوص والصعاليك والشحاذون يسدون الطرقات بالنهار، ويجتمعون بالليل ليستمتعوا بحصادهم، في باريس، في ساحات المعجزات، التي سميت كذلك لأن المتسولين الذين يبدون في المظهر مقعدين، يظهرون هناك فجأة وكل عضو من أعضاء جسمهم في صحة مذهلة.

وفشا اللواط، وشاعت الدعارة، وكاد المجون يصبح عاماً. ودعت فرقة "الآدميين" في القرن الرابع عشر، إلى مذهب العري، وظلت تمارسه علناً إلى أن منعته محاكم التفتيش. وكانت الصور الفاحشة المخلة بالآداب، رائجة كما هي الآن، ويروي جرسون، أنها كانت تباع حتى في الكنائس وأيام الأعياد الدينية. ونظم شعراء مثل ديشان قصائد غرامية للسيدات النبيلات. ووصف نيقولا دي كليمانج كبير شماسة باييه، دير منطقته بأنه معبد مخصص للقيام بشعائر فينوس. وكان من المألوف أن يتخذ الملوك والأمراء، خليلات لهم، وكان الكثير من الزيجات الملكية-وزيجات النبلاء ينطوي على أغراض سياسية، ولذلك لم تكن هذه الزيجات جديرة بالحب. واستمرت السيدات، ذوات الحسب والنسب، في مناظرات رسمية، حول جواز العلاقات الجنسية، وأنشأ فيليب الجسور ، صاحب برجنديا، في باريس محكمة حب عام 1401. ولقد وجدت وسط هذا الخضم من الاستهتار أو في كنفهِ سيدات فضليات، ورجال شرفاء ونحن نجد لمحة عابرة عن هؤلاء، وفي كتاب عجيب ألفه حوالي عام 1393،رجل مجهول الاسم في الستين من عمرهِ، عرف بأنه مدير باريس: "أعتقد أنه عندما يزف اثنان شريفان طيبان، أحدهما إلى الآخر. فإن كل حب يزول.. إلا حب كل منهما للآخر. وأرى أنهما عندما يصطحبان، يهتم كل منهما بالآخر، أكثر من اهتمامهِ بغيرهِ، ويربط كل منهما على الآخر ويمسك بهِ، ولا رغبة لهما في الحديث أو الإشارة إلا لبعضهما.. وكل متعتهما الخاصة ورغبتهما الكبرى وسرورهما الكامل، إنما هو يمتع أحدهما الآخر ويطيعه".

وأضيف إلى صور هذا العصر اضطهادات اليهود (1306، 1384، 1396) والمجذومين (1321)، ومحاكمة الحيوانات وإعدامها، لإيذاء الناس وتسافدها معهم، والشنق علناً، الذي يدعو إلى حشد متطلع. وكانت الناس تنبش القبور في جبانة الأبرياء في باريس، كلما سقط لحم الميت عن عظمهِ، لإفساح المجال لأموات جدد، وتجمع العظام في غير نظام، في مدافن خاصة بها، على طول الأروقة، التي كانت مع ذلك، أماكن مألوفة، للقاء العاشقين، فأنشئت هناك الدكاكين، ودعت البغايا الزبائن. ورسم أحد الفنانين، مدة شهور على حائط الدير، صورة لرقصة الموت عام 1424، تبدو الشياطين وهي تدور حول نفسها مع الرجال والنساء والأطفال المسوقين في خطوات مرحة متعاقبة إلى الجحيم. وأصبحت هذه الصورة مضموناً رمزياً لعصر يائس، ومثلته إحدى المسرحيات في بروجس عام1449، وصوره ديرل، وهلبين، وبوش في آثارهم الفنية. وغلب التشاؤم على نصف شعر هذا العصر. وهجا ديشان الحياة في كل جوانبها تقريباً، وبدت الدنيا له، كشيخ واهن جشع، مضطرب منحل ولقد ختم كلامه بقولهِ "إن كل شيء سيئ السيرة". ووافقه جرسن قائلاً: "إننا نعيش في شيخوخة الدنيا"، وإن يوم القيامة لقريب. واعتقدت امرأة عجوز، أن كل وخزة ألم في أصابع قدميها، تعلن ذهاب إحدى الأرواح إلى الجحيم، وكان تقديرها معتدلاً، فإن الاعتقاد الشائع وقتذاك أنه لم يدخل الجنة أحد من الناس في الثلاثين سنة الماضية.

وماذا عسى أن يصنع الدين، في تصدع أمة مغلوبة على أمرها؟ لقد كان الباباوات الحبيسون في افنيون يتلقون حماية الملوك الفرنسيين، وأوامرهم في السنوات الأربعين الأول من حرب المائة عام، وكانت معظم الموارد، التي يجمعها ألئك الباباوات من أوربا، تذهب إلى هؤلاء الملوك، تمويلاً لحرب الحياة أو الموت مع بريطانيا، واستطاعت الكنيسة أن تجمع للملكية في إحدى عشر سنة (1345-1355) مبلغ 3.392.000 فلورن (84.800.000 دولار؟) وحاول الباباوات مراراً أن يضعوا حداً للحرب ولكنهم فشلوا. وعانت الكنيسة مشقة مضنية، من جراء الخراب الطويل الذي منيت به فرنسا قرناً من الزمان، فأفقرت مئات الكنائس والأديرة أو خربت، وشاركت الطبقة الدنيا من رجال الدين فيما اتسم به العصر من انحلال الأخلاق. وتجاهل الفرسان والمشاة الدين لا يذكرونه إلا عند المعركة أو الوفاء، ولا بد أنهم ارتابوا، في العقيدة بسبب عدم اكتراث السماء، الذي يدعو إلى الجنون، واعتصم الناس في عصيانهم أوامر الدين بالكنيسة والعقيدة مفزعين، وجملوا أمولهم وهمومهم إلى مزارات العذراء تسكيناً لروعهم، وكانوا يصابون في القداس، بوجد ديني، عندما يستمعون إلى العظات المخلصة للراهب رتشارد أو القديس فنسانت فرر. وابتدعت في بعض البيوت، تماثيل صغيرة تفتح بطونها بلمسة من اليد، فينكشف الثالوث.

وكان معظم قادة الفكر للكنيسة، في هذا العصر، من الفرنسيين. ولم يكن بيير دايلي واحداً من العلماء، أصحاب الرأي فحسب، وإنما كان من أقدر زعماء الكنيسة وأبعدهم عن الفساد، وأحد السياسيين من الرجال، الاكليروس، الذين عالجوا في مجمع كنستانس، الفرقة في البابوية. وكان بين تلاميذه، وهو مدير كلية نافار في باريس، شاب، أصبح فيما بعد، أعلم علماء الدين في جيله. وزار جان دي جرسون الأراضي الواطئة، فأعجب كثيراً من تصوف ريوزبرويك، والورع الجديد عند "أخوة الحياة العادية". فلما أصبح مديراً لجامعة باريس (1395)، فكر في إدخال هذا النوع من التقوى إلى فرنسا على الرغم من نقده أنانية المذهب الصوفي وما فيه من القول بوحدة الوجود واقتنع أخواته الست بقدوته وحججه، ولقد أنبئنا أنهن ظللن عذارى إلى نهاية حياتهن. وذم جوسر، خرافات الدهماء، ودجل التنجيم والسحر والطب، ولكنه اعترف بأن الرقي، ربما يكون لها تأثير بالتسلط على المخيلة (74). ورأى أن معرفتنا بالنجوم، ممعنة في النقص، حنى إننا لا نستطيع، أن نتصور تنبؤات محددة، بل إننا لا نستطيع أن نعين بالضبط مدى سنة شمسية، ولا يمكننا أن نخبر عن الموضع الحقيقي للنجوم، لأن أضواءها تتكسر، في سيرها إلينا، عبر أوساط متعددة. ودعا جوسون إلى ديمقراطية مقيدة، وإلى سيادة المجامع، في الكنيسة، بيد أنه حبذ ملكية قوية في فرنسا، ولعل الأحوال السائدة في بلاده تبرر تناقضه، وهي التي كانت أحوج إلى النظام منها إلى الحرية.


وكان رجلاً عظيماً في طرازه وجيله، وكانت فضائله خاصة به، أما أوهامه فمن عدوى عصره،كما يجب أن يقول جيته. وتزعم الحركة التي استهدف التخلص من الباباوات المتنازعين، وقصدت إصلاح الكنيسة، وأسهم في إرسال جون هس وجيروم البراغي إلى الموت.

وأخذت الطبقات العليا، تمدح أشخاصها، وتزين دورها، وسط مظاهر الفاقة التي يعانيها شعبها. وارتدى أفراد العامة البسيط من السترات، والقمصان، والسراويل، والأحذية ذوات الرقاب، وقلدت الطبقات الوسطى الملوك، على الرغم من القوانين الخاصة بالنفقات، فارتدى أفرادها، الأردية الطويلة، وربما كانت قرمزية اللون أو محفوفة بالفراء، كما ارتدى السادة النبلاء الصديريات، والجوارب الطويلة، والألفعة الأنيقة والقبعات الرائشة التي تمسح الأرض عند الانحناءات المهذبة ووضع بعض الرجال قروناً على أصابع نعالهم، لتطابق ما على رؤوسهم من رموز غير جلية. وآثرت سيدات من ذوات الحسب، القبعات المخروطية كأبراج الكنيسة، وكن يشددن أجسامهن بسترات ضيقة وسراويل زاهية اللون، وتنورات من الفرو، تتدلى أطرافها على الأرض في جلال ويظهرن صدورهن بينما يزدن من جمال وجوههن بإسدال النقاب عليها. وبدأت الأزرار تستعمل لحبك الملابس(40)، وكانت قبل ذلك مجرد حلي، ونحن نعكس هذه الحركة الآن. وكن يتلألأن، حتى البدينات منهن، بالحرائر والأنسجة المذهبة والمطرزة، والأشرطة والجواهر على الشعر وعلى الرقبة واليدين والرداء والحذاء، وتحت هذا البريق الوقائي، كثرت عند كل نساء الطبقة العليا تقريباً.

وظلت دور الفقراء كما كانت في القرون السابقة، إلا أن النوافذ من الزجاج شاعت فيها، أما القصور الصغيرة وبيوت الأغنياء في المدن فلم تعد سجوناً مظلمة، كانت قصوراً مريحة حسنة التأثيث بساحات فسيحة بها نوافير ماء، ودرجات محواة عريضة، وطنف معلقة، وسقوف شديدة الانحدار تناطح السماء وتغوص في الثلج، وقد زودت بغرف للخدم، ومخازن، وغرفة للحراسة وأخرى للبواب، وغيرها للبياضات، ومغسل، وقبو للخمر ومخبز، بالإضافة إلى القاعة وغرف النوم لأسرة صاحب البيت. وكانت بعض القصور، كالتي يملكها بيير فوند (1390) وشاتودن (حوالي 1450) ارهاصاً بقلاع اللوار الملكية. وتعد دار الرأسمالي الكبير جاك كور في بورجس، أصون قصور ذلك العهد، وهي عمارة كاملة لها برج قوطي من الحجر المنقوش، وأفاريز وطنف مزخرفة، ونوافذ على طراز عصر النهضة، ولقد أخبرنا، أنه قد تكلف كله حوالي 4.000.000 دولار، بحساب النقد في أيامنا. وأثثت بالفاخر من الطنافس: مدافئ فخمة، تدفئ على الأقل، جانباً من الغرفة وسكانها، ومقاعد ومناضد متينة، دأب الصانع على نقشها بالحفر، دون كلل، وأرائك عليها حشيات على طول الجدران مبطنة بقماش(57) مزركش، وخزائن تحف وصواوين ضخمة تعرض الصحاف الذهبية والفضية، تليها أكواب زجاجية أبهى منها، وسجاجيد سميكة، وأرضيات من البلوط المصقول أو قرميد مطلي بالميناء، ومخادع معرشة مرتفعة وعريضة تتسع للسيد وزوجته وطفل أو اثنين. ولقد نام على هذه السرر المريحة رجال القرنين الرابع عشر والخامس عشر ونساءهما، عراة، ولم تكن قمصان النوم قد أصبحت ضرورة لا غنى عنها.


الآداب

ولقد واصل الرجال والنساء تأليف الكتب بين هذه الأطلال ومنها الرسائل الباقية (1322-1331) التي وضعها نيقولا من ليرا، وقاموا بإضافات محققة لفهم نصوص الكتاب المقدس، فمهدت الطريق لـ"العهد الجديد" لأرازمس ولترجمة لوثر الألمانية. وغلبت على قصص هذا العصر، الحكايات الغرامية الخفيفة مثل مائة حكاية جديدة التي ألفها انتوان دولاسال أو قصص خيالية عن الفروسية مثل فلور وبلانشفلير. أما الكتاب الذي ألف جيهان ذو اللحية وهو طبيب يسمى السير جون ماندفيل فلا يقل عنها خيالاً، ولقد نشر (حوالي 1370) وصفاً لرحلاته المزعومة في مصر وآسيا وبولنده. وادعى جون أنه زار جميع الأماكن التي وردت أسماؤها في الأناجيل، "الدار التي ذهبت إليها مريم العذراء للتعلم"، والموضع الذي سخنت فيه الماء التي غسل بها إلهنا أقدام الرسل، والكنيسة التي فرت إليها مريم لتدر اللبن من صدرها الجليل، وفيها عمود من الرخام، اتكأت عليه، ولا يزال مرطباً بلبنها، ولم تزل الأرض لينة بيضاء حيث تساقط لبنها الأمثل، وبلغ جون ذو اللحية أوجه في وصفه الصين، فلم تكن فصاحة مقيدة بالعلم إلا قليلاً. ولكنه كان يدنو من العلم، بين الحين والحين، كما هو الحال في قوله كيف ظل أحد الناس يتجه ناحية الشرق إلى أن عاد إلى وطنه الجديد، مثل مستر باسبارتو في رواية جيل فيرن. وشرب مرتين من "نبع الشباب"، ولكنه عاد إلى أوربا كسيحاً بداء النقرس، الذي ربما أصيب به لعدم مغادرته ليبج على الإطلاق.

ولقد ترجمت هذه الرحلات إلى مائة لغة وكان لها وقع أدبي عظيم بين الناس أواخر القرون الوسطى.

وأروع ما أنتجه الأدب الفرنسي، في لبقرن الرابع عشر فيما نعلم هو كتاب "التواريخ" الذي نظمه جان فرواسار. هذا المؤلف ولد في فالنسيين عام 1338، وعكف على نظم الشعر في بواكير حياته، حتى إذا بلغ الرابعة والعشرين، عبر البحر إلى لندن، ليضع أشعاره، عند قدمي فيليبا أميرة هانو، زوجة الملك إدوارد الثالث. فأصبح كاتم سرها، ولقي أشراف الإنجليز، وأعجب بهم إعجاباً صريحاً، جعله غير محايد في تاريخه. وسرعان ما انتزعه غرامه بالرحلة، فساقه إلى اسكتلتد، وبردو وسافوي وإيطاليا. ولما عاد إلى هانو أصبح قسيساً وكاهن شيماي. وهناك صمم على أن يعيد تأليف كتابه نثراً، وأن يتوسع فيه من أوله ومن آخره. ورحل مرة أخرى إلى إنجلترا وفرنسا، يجمع المواد في مثابرة ودأب. حتى إذا عاد إلى شيماي وقف على إتمام هذا التاريخ "النبيل الممتع.. الذي ستشتد الحاجة إليه بعد وفاتي.. ليشجع كل القلوب الباسلة، ويعطلها على مثل شريفة". وليست هناك قصة خيالية أروع منها، والقارئ الذي يبدأ هذه الصفحات، المسهبة، الألف والمائتين، وهو ينوي أن يقفز من قمة إلى قمة، سيجد الأدوية مشوقة أيضاً، وسيسير في القراءة في بهجة وأناة إلى النهاية. ولم يشغف هذا القسيس-مثله في ذلك مثل يوليوس الثاني-بغير الحرب. وفتن بالحركة والشهامة والأرستقراطية، أما العامة فلم يلجوا صفحاته إلا باعتبارهم ضحايا النزاع الذي شجر بين الأشراف. ولم يبحث في الحوافز، واعتمد في ثقة بالغة على الروايات المزوقة والمنحازة، ولم يزعم أنه يفلسف الأخبار. فقد كان إخبارياً فحسب بل إنه أعظم الإخباريين جميعاً.

وتحدد المسرحية العصر الذي تمثل فيه، ولقد احتلت المسرحيات الدينية والأخلاقية التي عرفت باسم "المعجزة" كما احتلت الفواصل والهزليات المسارح المؤقتة التي تشيد في المدن. وأخذت الموضوعات غير الدينية تزداد على الأيام واقترن المرح بالفحش في العادة، بيد أن الموضوعات الدينية ظلت مسيطرة، ولم يستشعر الناس الملل قط من المناظر التي تمثل آلام المسيح. ولقد تخصصت أهم فرقة تمثيلية في هذا العصر وهي فرقة الإخوان الباريسية التي تمثل آلام السيد المسيح في تمثيل قصة الفترة القصيرة التي قضاها المسيح في أورشليم. وبلغت إحدى هذه المسرحيات التي ألفها "أرنول جريبان" خمسة وثلاثين ألف سطر.

وكانت للشعر جماعاته أيضاً. فقد أنشأت تولوز عام 1323 أكاديمية للعلم البهيج، وعملت المباريات العامة تحت رعايتها على إحياء فن الشعراء الجوالين "التروبادور" وطابعهم. وتألفت جمعيات أدبية مماثلة في أمين ودواي وفالنسين، وهي التي مهدت الطريق للأكاديمية الفرنسية التي أنشأها ريشيليو. واتخذ الملوك والسراة لهم شعراء مثلما اتخذوا منشدين ومهرجين يلحقون بحاشيتهم. وضم "رينيه الطيب" دوق انجوواللورين، وملك نابلي بالاسم فقط، رهطاً من الشعراء والفنانين إلى بلاطه في كل من نانسي وتاراسكوان وايكس ان بروفنس، ونافس أحسن ناظم للقوافي، حتى لقب "بآخر التروبادور". وبسط شارل الخامس رعايته على أوستاش ديشان، الذي شبب بالنساء، وتزوج ثم شهر بالزواج في قصيدة عنوانها مرآة الزواج، تبلغ اثني عشر ألف بيت ونعى على عصره الشقاء والخسة:


يا عصر الرصاص، أيها الزمن المفسود، أيتها السماء من النحاس،


أيتها الأرض بلا ثمر، مجدبة لا خير فيها،



أيها الناس الملعونون، بكل أسى مفجع..



أليس من الحق أن أندبكم جميعاً؟



لأنني لا أرى شيئاً في عالم الغد،



المفعم بالحزن الممعن في الاضطراب.



ويشمل في فعاله كل شر.



واليوم يحل زمن البلاء..


ونشأت كريستين دي بيزان في باريس، على أنها ابنة الطبيب الإيطالي لشارل الخامس، فلما ترملت كان عليها أن تعول ثلاثة أطفال أقارب فوفقت إلى ذلك بأعجوبة بقرض الشعر الرائع وتأليف التاريخ الوطني، وهي تستحق منا تحية عابرة بوصفها أول امرأة في أوربا الغربية استطاعت أن تعيش بقلمها. أما ألين شارتيه فكان أسعد حظاً، فإن قصائده في الحب مثل قصيدته "الفاتنة بلا رحمة" ذات الإيقاع الحسن التي زجر فيها النساء على إخفاء مفاتنهن-قد أسرت الطبقة الأرستقراطية، حتى قيل أن مارجريت أميرة اسكتلندا، التي أصبحت ملكة فرنسا بعد ذلك، قبلت شفتي الشاعر وهو نائم على إحدى الأرائك. وسرد أتين باسكييه، هذه الأسطورة، في قصص خلاب، بعد مرور قرن من الزمان..

لقد أعجب الكثيرون من هذا الصنيع ولكي أقول الحقيقة فإنني أقرر أن الطبيعة، قد وضعت روحاً جميلة في جسم ممعن في القبح-وهنا قالت السيدة أنهم ألا يعجبوا من هذا الغموض، فليس الرجل، هو الذي رغبت في تقبيلهِ ولكنني قبلت الشفتين اللتين نطقتا بهذه الكلمات الذهبية.

ولم يكن مقدراً على أرق شعراء فرنسا في هذا العصر أن يقول الشعر، إذ كان ابن أخي شارل السادس ووالد لويس الثاني عشر. ولكن شارل دوق أورليان أسر في أجنكور، وأمضى خمساً وعشرين سنة (1415-1440) معتقلاً اعتقالاً ليناً بإنجلترا. فغمر الهم قلبه وتأسى بنظم الشعر الرقيق في الغزل ومحنة فرنسا. ولبثت فرنسا بأسرها تنشد أغنيتين في الربيع:


لقد بدل العام وشاحه البارد.

وشاح الريح والمطر والهواء المرير،


وسار مؤتزراً حلة من الذهب.


حلة من الشمس الضاحكة والفصل الجميل،


وما من طائر أو وحش من وحوش الغابة أو الفلاة


إلا ويعلن بصياحه أو غنائه،



إن العام يطوي وشاحه البارد.


بل إن إنجلترا كان فيها فتيات جميلات، فنسي شارل أحزانه عندما مر به الحب الهادئ:


يا إلهي.. ما أجمل أن أراها،


يا إلهي الرحيم الودود العادل..



إن كل فضيلة من الفضائل المختارة التي فيها



لجديرة بالمديح النادر.



ومن ذا الذي يمل جمالها،



النضر كل يوم نضرة لا تضارع؟



يا إلهي.. ما أجمل أن أراها،



يا إلهي الرحيم الودود العادل..


وسمح له آخر الأمر أن يعود إلى فرنسا، فجعل من قلعته في بلوا، موئلاً بهيجاً للأدب والفن، حيث استقبل فيللون على الرغم من فقرهِ وجرائمه، ولما بلغ شارل من العمر أرذله، ولم يعد قادراً على المساهمة في مرح أصدقائه الشبان، نظم اعتذاره إليهم في أبيات رقيقة، تصلح أن تكتب على قبرهِ:


حي بالنيابة عني جميع الصحاب



الذين تلقاهم الآن في ألفة،



وقل كم أكون سعيداً



إذا أصبحت واحداً من ثلتهم لو كان ذلك ممكناً،



فإن الشيخوخة تقتلني.



ولقد تحكم الشباب في حياتي مرحاً في زمن طال به العهد



ولكنه الآن ولى وذهب.



وكنتُ عاشقاً، ولن يقدر لي أكثر من ذلك أبداً،



ولقد عشتُ في باريس حياة ممعنة في الحرية.



وداعاً فلن أشهد بعد ذلك أياماً طيبة..



حيّ بالنيابة عني جميع الصحاب.




الفن

كان فنانو فرنسا لهذا العهد أكثر تفوقاً من شعرائها، ولكنهم شقوا أيضاً بإمحالها. ولم تقدر لهم هناك رعاية كريمة يعتمدون عليها في المدينة أو الكنيسة أو عند الملك. "والولايات التي عبرت عن كرامة طوائفها، بالمعابد الضخام، وتسامت بهذا التعبير إلى عقيدة لا يرقى الشك إليها، أضعفها وقضى عليها ازدياد سلطان الملك إلى جانب التوسع في الاقتصاد من المجال المحلي إلى المحال القومي ولم تعد الكنيسة الفرنسية تمول أو تلهم، مثل المباني الهائلة، التي ارتفعت على أرض فرنسا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ولقد انحطت العقيدة، كما اضمحلت الثروة، وتبدد الأمل الذي دفع في هذه القرون إلى الحروب الصليبية، وتشييد الكاتدرائيات في وقت واحد أي العمل والصلاة التي تحث عليه-فقد نشوته المنتجة وكان الأمر يحتاج في العمارة إلى طاقة أكبر من طاقة القرن الرابع عشر، ليتم ما بدأه عصر أشد فتوة. وعلى الرغم من هذا فقد أنجز جان رافي كاتدرائية نوتردام في باريس (1351)، وأضافت "رون" كنيسة صغيرة للعذراء عام (1302) إلى كاتدرائية سبق أن أنشئت باسمها، وشيدت بواتييه لكاتدرائيتها عام (1379) واجهتها الغربية الشامخة.

وأخذ الطراز المشع للتخطيط القومي (1275)، يسلم قيادة شيئاً فشيئاً، إلى طراز قوطي هندسي، يعتمد على أشكال اقليدية بدلاً من الخطوط المشعة. وعلى هذا النحو شيدت بودو، كاتدرائيتها (1320-1325) وأقامت كان عام (1308) برجاً رشيقاً، مستدق الطرف، على كنيسة سان بيير، ولقد تحطم هذا البرج في الحرب العالمية الثانية، وزودت اكسير كاتدرائيتها بصحن جديد عام (1355)، وأضافت كوتانس عام (1371-1386) وأمين عام (1375)، كنائس صغيرة رائعة إلى مزاريهما التاريخيين، وأكدت رون مجدها المعماري بإقامة الكنيسة المجيدة لسانت أوين (1318-1545).

ولما تصورت فرنسا أنها منتصرة، في الرابع الأخير من القرن الرابع عشر، أظهر معماريوها طرازاً قوطياً جديداً، مرحاً في روحهِ، مسرفاً في تفاصيل النقوش المحفورة، معقداً مبهرجاً في تفريقاته الزخرفية، مسرفاً إلى حد غير معقول في الزينة. وأصبح العقد القوطي، أو العقد المدبب لقوس متصل، وقتذاك عقداً مخروطياً لقوس مقلوب، كلسان اللهب الذي أعطى هذا الطراز اسمه (المشع). ولم تعد تستعمل تيجان العمد، وتلولبت العمد أو خططت، وأفرط في حفر أماكن المرتل، وحجبت بستائر حديدية من شرائط دقيقة، وأصبحت الزخارف المدلاة كأعمدة الثلج الجامد المتدلي من سقوف المغاور والكهوف، وصارت القباب تيهاً من الأضلاع التي تتراوح بين الظهور الخفاء، وابتدعت فواصل النوافذ، عن الأشكال الهندسية القديمة الجامدة، وفاضت في رشاقة فاتنة وتعمد لا يوصف، وبدت الأبراج وكأنها شيدت من الزخرف، واختفى البناء خلف الزينة. وكانت غرة هذا الطراز الجديد في الكنيسة الصغيرة التي شيدت باسم القديس يوحنا المعمدان عام (1375) في كاتدرائية أمين، وما أن جاء عام 1475)، حنى كان هذا الطراز قد غلب على فرنسا، وبدأ عام 1436، يحقق إحدى معجزاته الرقيقة، وهي كنيسة سان ماكلو في رون. وربما ساعد، على انتصار الطراز المشع في النصف الأول من القرن الخامس عشر، استرداد الثقة وبعث الروح العسكرية على يد جان دارك وشارل السابع، ونمو الثروة التجارية، كما يمثلها جان كير، ونزوع الطبقة البرجوازية، الصاعدة إلى الزينة المترفة. وظل الطراز القوطي في هذا الشكل النسوي، إلى أن أعاد الملوك والنبلاء الفرنسيون من حروبهم في إيطاليا، أفكار عصر النهضة المعمارية الكلاسيكية.

ويحمل نمو العمارة المدنية في أعطافهِ، ظهور الطابع الدنيوي لهذا العصر. ورأى الملوك والأمراء، أن هناك ما يكفي من الكنائس، فابتنوا لأنفسهم قصوراً، تكون فتنة للشعب، ومأوى لحظياتهم، وأنفق الأغنياء من نواب المقاطعات، ثروات طائلة على دورهم وأعلنت المجالس البلدية عن غناها بتشييد دور البلدية الفخمة، وصممت بعض المستشفيات مثل مستشفى بون تصميماً جميلاً طليقاً لا بد أنه قد أسبغ الصحة على المرضى. وجمع الباباوات والكرادلة، حشداً منوعاً من الفنانين، وعضدوهم، بيد أن بنائي فرنسا ورساميها مثاليها، كانوا يلتفون حول نبيل أو ملك. وشيد شارل الخامس قصر فنسن عام (1364-1373)، والباستيل عام (1369)، واستقدم الفنان واسع الأفق أندريه بونيفو ليحفر صوراً لفيليب السادس، وجون الثاني وشارل نفسه للمقابر الملكية، المصففة، الرائعة، التي تزحم ممشى كنيسة سانت دينيس وسردابها عام (1364). وشيد لويس أمير أورليانز قصر بيرفوند، وكان جون دوق بري، على الرغم من قسوتهِ على الفلاحين، واحداً من أعظم رعاة الفنون في التاريخ.

وهو الذي صور له بونيفيه عام 1402 كتاب المزامير. وهو ليس إلا واحداً من سلسلة المخطوطات المزوقة، الموضوعة بالقرب من القمة، فيما يمكن أن يسمى غرفة الموسيقى، في فنون الرسم. ولهذا السيد الفطن نفسه، صور جاك دي هسدن "الساعات الصغيرة" و "الساعات الجميلة" و "الساعات الكبيرة"، وهي تمثل كتب "الساعات" للصلوات اليومية الكنيسة. وأخرج الإخوان بل جيهنانيكان وهرمان مالويل من لمبورج، الساعات الغنية (1416) وهي خمس وستون منمنمة تصور الحياة في فرنسا ومناظر منها: النبلاء يصيدون، والفلاحون يعملون، ومنظر ريفي يضفي عليه الجليد صفاء. وتعد هذه الساعات الغنية المستورة الآن، حتى عن أعين السائحين، في متحف كونديه في شانتلي، والمنمنمات التي صورت للملك الطيب، رينية صاحب انجو آخر انتصارات فن التزويق، ذلك لأن هذا الفن قد نافسه في القرن الخامس عشر الحفر على الخشب وانتشار المدارس الموفقة في الرسم على الجدران واللوحات في فونتنبلو وأمين وبورجس، وتورومولان وافنيون وديجون إذا لم تتحدث عن أساتذة الفن الذين كانوا يعملون لدوق برجنديا. وأدخل بونيفيه وفان ايكس، طرز التصوير الفلمنكية إلى فرنسا، وكذلك عن طريق سيمون مارتيني وغيره من الإيطاليين في افنيون، وعن طريق الدولة الإنجيفية في نابلي عام (1368-1435). ولقد أثر الفن الإيطالي في الفرنسي، قبل أن تغزو الجيوش الفرنسية إيطاليا بزمن طويل. حتى إذا جاء عام 1450، كان الفن الفرنسي، قد نهض على قدميه، وسجل انتسابه إلى هذا العصر بصورة الورع لفيلينوف وهي بلا توقيع، وتوجد الآن في اللوفر.

ويعد جان فوكيه، أول شخصية واضحة، في فن التصوير الفرنسي، ولقد ولد في تور عام (1416)، وتعلم سبع سنوات في إيطاليا (1440-1447)، وعاد إلى فرنسا، وهو متحيز للمهاد المعمارية الكلاسية التي أصبحت في القرن السابع عشر، هوساً، على يد نيكولاس بوسان وكلود لورين. ومهما يكن من شيء، فقد رسم صوراً متعددة لأشخاص وهي تكشف بقوة عن مقومات شخصياتهم: مثل جوفينال كبير أساقفة أورسان وحاكم فرنسا- وهو عبوس حازم، وليس ممعناً في التقوى إلى الحد الذي جعله غير صالح للحكم، وأتين شيفالييه وهو القائم على خزانة المملكة- رجل مهموم، منزعج من استحالة الحصول على المال بالسرعة، التي تنفقه بها الحكومة، وشارل السابع نفسه، بعد أن جعلت منه أنييه سورل رجلاً ، وآنيته في اللحم الوردي، وتحول على يد فوكيه إلى عذراء هادئة سنية بعينين خفيفتين وصدر بارز وزوق جان لشفاييه، كتاب الصلوات، وبدد ملل إقامة بمناظر، نظرة، من وادي الوار. وتحتفظ رصيعة مطلية بالميناء في اللوفر، بصورة فوكيه كما رأى نفسه- صورة ليس لها مثل رفائيل سيما الأمارة، يصعد إلى أعلى، وإنما صانع بالفرشاة، في رداء العمل، حازم حي، مهموم مصمم، وعلى جبينه سمة قرن كامل من الفقر. مع ذلك، فقد مضت حياته، بلا ملمات من حكم ملك آخر، وارتقى، إلى أن أصبح آخر الأمراء "مصور الملك" لويس الحادي عشر وبعد جهد السنين يأتي بالنجاح، وسرعان ما يأتي الموت بعد ذلك.


جان دارك 1412 -1431

في عام 1422 نادى ابن شارل السادس عشر الذي تبرأ منه أبوه، بنفسه ملكاً باسم شارل السابع. ونظرت فرنسا في عزلتها، إليه لينقذها، ثم ران عليها يأس عظيم وكان هذا الشاب الجبان، فاتر الهمة عديم الاكتراث في العشرين من عمره، لم يصدق أنه يستحق الملك الذي أعلنه، وربما شارك الفرنسيين شكوكهم في شرعية مولده. وتظهر الصورة التي رسمها فوكيه له، وجهاً حزيناً ساذجاً، تحت عينيه جيوب، وأنف ممتد. وكان متديناًً إلى درجة الفزع، يسمع ثلاث صلوات كل يوم، ولا يترك ساعة من ساعات الكنيسة تمر دون أن يتلو، ما يناسبها من صلاة، وكان يخلوا بين هذه الأوقات، إلى رتل طويل من الحظايا، وأنجب اثني عشر مولوداً فرضهم على زوجته الفاضلة. ورهن جواهره، ومعظم الملابس التي على كاهله، ليمول مقاومة بلاده إنجلترا، ولكنه لم يكن مفطوراً على الحرب، فترك الصراع لوزرائه وقواده. ولم يكن أحد منهم متحمساً أو متيقظاً، وتشاجر بعضهم مع بعض في حقد- اللهم إلا جان ذينو الأمين، والابن غير الشرعي للويس، دوق اورليان. ولما تحرك الإنجليز جنوباً لمحاصرة تلك المدينة عام (1428)، لم يتفقوا على خطة للوقوف في وجههم، وكانت الفوضى، طابع ذلك الزمان، وتقع اورليان، على حنية اللوار، فإن سقطت، انظم الجنوب بأسره، وهو المتردد في الولاء وقتذاك لشارل السابع إلى الشمال، ليجعل من فرنسا مستعمرة إنجليزية. وأخذ الشمال والجنوب معاً يرقبان الحصار، ويصليان من أجل حدوث معجزة.

وأخذت دمريمي القرية البعيدة، الهاجعة إلى جوار الموز على حدود فرنسا الشرقية تراقب الصراع بعاطفة دينية وطنية. وكان الفلاحون هناك من أبناء القرون الوسطى في إيمانهم وشعورهم، في العقيدة والشعور، يعيشون من الطبيعة، ولكن فيما هو فوق الطبيعي، وكانوا واثقين من أن الأرواح تعيش في الهواء المحيط بهم، وأقسم كثير من النساء، أنهن رأينها وتحدثن معها-واعتقد الرجال مثلما اعتقد النساء، وهو ما كان سائداً في أنحاء الريف الفرنسي، أن الإنجليز شياطين، تخفي أذنابها، في أذيال معاطفها وراجت نبوءة في القرية، وهي أن الله سيرسل في يوم من الأيام، فتاة عذراء، تنقذ فرنسا من هؤلاء الشياطين، وتضع حداّ لحكم الحرب الشيطانية. وهمست زوجة عمدة دمريمي، بهذه الآمال إلى جان ابنتها في العماد. وكان أبوا جان واسمه جاك دارك، فلاحاً ناجحاً، ولعله لم يلق بالاً، إلى مثل هذه الحكايات. وقد عرفت جان التقوى، بين هؤلاء القوم الأتقياء، وأغرمت بالذهاب إلى الكنيسة، وكانت تعترف بانتظام وحرارة وشغلت نفسها بجمع الصدقات للكنيسة وألفت الدواجن والطيور، في حديقتها الصغيرة، أن تأكل من يدها. واتفق لها في أحد الأيام، أن تخيلت، وهي صائمة، أنها رأت، نوراً عجيباً فوق رأسها، وأنها سمعت صوتاً يهتف بها "ياجان كوني طفلة طيبة مطيعة. واذهبي دائماً إلى الكنيسة". وكانت وقتذاك (1424) في الثالثة عشرة من عمرها، وربما أسبغت عليها التغيرات في وظائف أعضائها، مسحة صوفية في هذه المرحلة الممعنة في الانفعال من مراحل حياتها. وتحدثت "هواتفها"- كما نعتت هذه الرؤى- بأحاديث كثيرة طوال السنوات الخمس بعد ذلك، حتى خيل إليها آخر الأمر، أن الملك ميكائيل نفسه يأمرها: "اذهبي لإغاثة ملك فرنسا، ولسوف تستعيدين ملكه..اذهبي إلى السيد بودريكورت، القائد في فوكولور، وسيقودك إلى الملك". وقال الهاتف في مرة أخرى: "يا ابنة الله، ستقودين الدوفان إلى ريمز، حتى يستطيع هناك أن يحصل على رسامته وتتويجه" ذلك لأن فرنسا كانت تشك في حق شارل الإلهي في الحكم، فلم يحصل على رسامته من الكنيسة، ولكن إذا صب الزيت المقدس على رأسه، فإن فرنسا تقف من ورائه صفاً واحداً وفي ذلك إنقاذها.

وبعد تردد طويل مزعج أطلعت أبويها على رؤياها. فذهل أبوها عندما فكر في فتاة بريئة تضطلع بمثل هذه الرسالة الخيالية، قال إنه لن يسمح لها بذلك وتوعدها بأن يغرقها بيديه. وأراد أن يمعن في تقييدها فأقنع، شاباً قروياً، أن يصرح بأنها وعدته بأن تمنحه يدها بالزواج، فأنكرت قوله، وفرت بعذريتها التي نذرتها لقدسيتها، ولكي تطيع أوامرهم، إلى عم لها، وألحت عليه، أن يأخذها إلى فوكلير عام (1429). وهناك نصح قائد بودريكور، عمها، أن يصفع الفتاة، البالغة من العمر سبع عشرة سنة، وأن يعيدها إلى والديها، ولكن جان لما شقت طريقها، ومثلت أمامه، وصرحت بجنان ثابت، أنها مبعوثة من الله لمساعدة الملك شارل على إنقاذ أورليان، ذاب القائد المتعاظم، فأرسل إلى شينون، وهو يفكر في أن في الفتاة مساً من الشياطين، يطلب إذن الملك بلقائها. وجاء الإذن الملكي، وأعطى بودريكور الفتاة سيفاً، وابتاع لها أهل فوكولير، جواداً، ووافق ستة من الجنود أن يدلوها على الطريق، في الرحلة الطولة المحفوفة بالمخاطر، عبر فرنسا إلى شينون. وتسربلت بزي الرجال العسكري-، سترة وصدار وجوربين طويلين وطماق ومهمازين-وقصت شعرها كالفتيان- ولعلها فعلت ذلك منعاً لتقحم الرجال، وتيسيراً لركوب الجواد اكتساباً لموافقة القواد والجند. وعبرت في رصانة وثقة مدنا، اختلفت في النظر إليها بين الخوف منها باعتبارها ساحرة، أو إجلالها باعتبارها قديسة.

وبعد أن قطعت في رحلتها أربعمائة وخمسين ميلاً، في أحد عشر يوماً، بلغت الملك ومجلسه. ومع أن حلته البسيطة، لم تكن تنبئ عن أبهة الملك، فقد عرفته جان (كما أنبئنا-وكيف ترفع الأسطورة يدها من تاريخ هذه الفتاة) لفورها، وحيته بأدب قائلة.."أمدك الله بطول العمر، أيها الدوفان الكريم...إن اسمي جان لا بوسل إن إله السموات يتحدث إليك بواسطتي، وهو يقول إنك سترسم وتتوج في ريمز، وتكون وكيلاً لملك السموات، الذي هو ملك فرنسا". وقال أحد القساوسة وهو الذي أصبح راعي كنيسة العذراء، فيما بعد، إنها أكدت للملك، في مجلس خاص، شرعية مولده. وظن بعضهم، أنها قبلت في أول لقاء لها مع شارل، أن يكون رجال الدين أصحاب الحق في تفسير هواتفها، وأنها اتبعت قيادتهم في حديثها مع الملك، وعن طريقها يحل الأساقفة، محل القادة في صياغة السياسة الملكية. ولما كان شارل ما يزال مرتاباً من أمرها، فقد أرسلها إلى بواتييه ليمتحنها العلماء هناك. فلم يجدوا فيها شراً وكلفوا بعض النسوة أن يتأكدوا من عذريتها، واطمأنوا من هذه الناحية الحساسة أيضاً. لأنهم اعتقدوا أن للعذراى، مثلهن في مثل مريم العذراء بعض المزايا باعتبارهن وسائل الله ومبعوثاته.

وكان دينوا، قد أكد للحامية في أورليان، أن الله سيغيثهم قريباً بشخص ما. فلما سمع عن جان، كان بين مصدق ومكذب لآماله، ورجا البلاط، أن يرسلوها إليه تواً. فوافقوا، وأعطوها حصاناً أسحم وأحاطوها بدرع أبيض، ووضعوا بيدها علماً أبيض، مزيناً بزهرة فرنسا، وأرسلوها إلى دينوا، مزودة بجمع من الحرس، يحملون الزاد للمحصورين. ولم يكن من العسير، أن تجد منفذاً إلى المدينة (29 إبريل عام 1429)، فلم يكن الإنجليز، يحدقون بها إحداقاً تاماً، ولكنهم قسموا رجالهم الذين يتراوحون بين ألفين وثلاثة آلاف (أي أقل من حامية أورليان) على اثني عشر حصناً، في أماكن استراتيجية بالضواحي. وحيا أهل أورليان جان، باعتبارها مريم العذراء مجسدة، واتبعوها مؤمنين بها إلى الأماكن المحفوفة بالمخاطر، وصحبوها إلى الكنيسة، يصلون إذا صلت، ويبكون إذا بكت. وترك الجند، حظياتهم بأمرها، وجاهدوا، لكي يثبتوا تطهرهم، ووجد أحد قادتهم وهو لاهير، أن ذلك مستحيلاً، وجاءته فتوى من جان، أن يقسم على عصا قيادته. وهذا المغامر الجاسكوني، الذي نطق بالدعاء المشهور "إلهي مولاي أتوسل إليكَ أن تعمل من أجل لاهير، ما يعمله هو من اجلك لو أنك كنت القائد، وكان لا هيرا هو الله".

وأرسلت جان كتاباً إلى تالبوت، القائد الإنجليزي، تقترح عليه، أن يتحد الجيشان وأن يكونوا إخوة، وأن يتقدموا إلى فلسطين، لتخليص الأرض المقدسة من الترك، ورأى تالبوت، أن هذا يخرج عن نطاق مهمته. وبع ذلك بأيام قلائل، تجاوز فريق من الحامية الأسوار، دون أن يعلموا دينوا أو جان وهاجموا حصناً بريطانياً, فأبلى الإنجليز بلاءً حسناً، وتقهقر، الفرنسيون، ولكن دينوا وجان، سمعا بهذه الفتنة، فركبا جواديهما واستحثا رجالهما أن يعودوا إلى الهجوم من جديد، ونجح الهجوم، وترك الإنجليز مكانهم وفي اليوم التالي هاجم الفرنسيون حصنين آخرين، واستولوا عليهما، وكانت العذراء وسط المعمعة، وفي الصدام الثاني، اخترق سهم كتفها، فضمد الجرح وعادت إلى المعركة. وأخذ مدفع جويوم ديزي، القوي يصب في الوقت نفسه على قلعة الإنجليز في ليه توريل، قذائف، تزن كل منها مائة وعشرين رطلاً. وأعفيت جان من رؤية الفرنسيين وهم يذبحون خمسمائة من الإنجليز عندما سقط هذا المعقل الحصين. وانتهى تالبوت إلى أن قواته، لا تفي بالحصار، فأمرها بالانسحاب شمالاً (8 مايو). وابتهجت فرنسا بأسرها، ورأت في "عذراء أورليان" إرادة الله ولكن الإنجليز، قالوا إنها ساحرة، وأقسموا أن يأخذوها حية أو ميتة.

وفي اليوم التالي لانتصارها خرجت جان لتلقى الملك، المتقدم من شينون، فحياها بقبلة، ووافق على خطتها، في السير عبر فرنسا إلى ريمز، وإن كان معنى ذلك المرور بأرض معادية. وقابل جيشه قوات إنجليزية في مونج وبوجنسي وباتاي، وأحرز انتصارات حاسمة، لطخوها بمذابح انتقامية، أفزعت العذراء، ولما رأت جندياً فرنسياً، يذبح أسيراً إنجليزياً، ترجلت عن جوادها، وأمسكت برأس الرجل المحتضر في يديها، وواسته، وأرسلت تطلب كاهناً، يعترف له. وفي الخامس عشر من يوليو، دخل الملك ريمز، وفي السابع عشر، رسم وتوج في احتفالات رائعة في الكاتدرائية العظيمة. ورأى جاك دارك، وهو عائد من دومري ابنته، في زي الرجال، تمتطي صهوة جوادها في أبهة عبر عاصمة فرنسا الروحية، فلم يدع الفرصة تفوته، وضمن بواسطتها، إعفاء قريته من الضرائب. واعترت جان نوبة عابرة، اعتقدت فيها أن مهمتها، قد انتهت، وفكرت، "إن رضى الله أن أرحل وأرعى الأغنام مع أختي وأخي".

ولكن حمى القتال مازجت دماءها. ومع أن نصف فرنسا اعتقد أنها ملهمة ومقدسة، فقد كادت تنسى الآن أنها قديسة، وأصبحت محاربة. كانت حازمة مع جنودها، تؤنبهم في حب، وجردتهم من وسائل التسلية التي يعدها جميع الجنود حقاً لهم، ولما رأت بغيتين في صحبتهم، جردت سيفها من غمده، وضربت إحداهما بقوة، تحطم معها السيف وماتت المرأة، وتبعت الملك وجيشه في غارة على باريس، وكان الإنجليز لا يزالون يحتلونها، وكانت في العربة عند تطهير الخندق الأول، وما أن اقتربت من الخندق الثاني، حتى أصيبت بسهم في فخذها، ولكنها تحث الجنود. وفشل هجومهم، وبلغت إصاباتهم ألفاً وخمسمائة، فلعنوها لأنها ظنت أن الصلاة قد تسكت مدفعاً، ولم يكن ذلك من تجاريبهم. واتهمها بعض الفرنسيات اللائي كن يتسقطن أول إخفاق لها بأنها قادت هجوماً يوم ميلاد العذراء (8 سبتمبر 1429). فانسحبت بفرقتها إلى كومبيين، ولما حاصرها هناك البرغنديون المتحالفون مع الإنجليز، قادت هجوماً ببسالة، ولكنه صد، وكانت آخر من انسحب، ووجدت أبواب المدينة قد أوصدت قبل أن تبلغها. فسحبت عن جوادها، وأخذت أسيرة إلى جون صاحب لكسمبورج (24 مايو 1430) وكرمها هذا السيد وأسكنها في قلاعه في بوليو وبوريفوار.

وأوقعه حسن حظه في مأزق خطير. فإن مولاه، فيليب الطيب صاحب برجنديا، طالب بالغنيمة الثمينة، وحث الإنجليز، سيرجون على أن يسلم الفتاة إليهم، آملين أن يؤدي إعدامها العلني إلى تحطيم ذلك السحر الذي طالما قوى من عزائم الفرنسيين. وأرسلوا بيير كوشون، أسقف بوفيه، الذي طرد من كنيسته لمناصرته الإنجليز، إلى فيليب بالسلطة والمال ليتفاوض على نقل العذراء إلى السلطات الإنجليزية، ووعدوه إن وفق في مهمته، أن ينصبوه كبيراً لأساقفة روين. وكان دوق بدفورد، يدير جامعة باريس، فناشد علمائها، أن ينصحوا فيليب بأن يسلم جان. فقد تكون ساحرة خارجة على الدين، إلى كوشون باعتباره رئيس الكهنوت في المنطقة التي أسرت فيها. ولما وفضت هذه المطالب، قدم كوشون إلى فيليب وجون رشوة مقدارها عشرة آلاف كراون من الذهب. ولم تنجح هذه المحاولة أيضاً، ففرضت الحكومة الإنجليزية حظراً على جميع الصادرات إلى الأراضي الواطئة. فواجهت فلاندرز الإفلاس، وهي أغنى مصدر لموارد الدوق. ووافق جون على الرغم من توسلات زوجته، كما وافق فيليب على الرغم من لقب "الطيب" الذي يتسمى به، على قبول الرشوة آخر الأمر، فأسلما العذراء إلى كوشون، الذي أخذها إلى روين. ومع أنها كانت من الناحية الرسمية هناك، من سجناء محكمة التفتيش، إلا أنها وضعت تحت الحراسة الإنجليزية في برج قلعة، يحتلها ايرل ورويك بصفته حاكم روين. ووضعت الأغلال في قدميها، ولفوا وسطها بقيد وربطت إلى جذع من الخشب.

وبدأت محاكمتها في الواحد والعشرين من فبراير عام 1431، واستمرت إلى يوم الثلاثين من مايو. ورأس كوشون المحاكمة، وقام أحد كهانه مدعياً عاماً. ومثل راهب دومينيكي محكمة التفتيش، وأضيف حوالي أربعين من علماء الدين والشريعة إلى هيئة المحكمة. وكانت التهمة هي الهرطقة. وأفتت الكنيسة بأن ادعاء تلقي الوحي الإلهي هرطقة عقوبتها الإعدام، وذلك لكي تقمع الفريق المفزع من المتجرين بالسحر، الذين ابتليت بهم أوربا. فأحرقت الساحرات، لادعائهن القوى الخارقة، والرأي الشائع، بين رجال الكنيسة والمدنيين، أن الذين يدعون مثل هذا الادعاء، يكونون قد حصلوا في الواقع على القوى الخارقة من الشيطان. ويبدو أن بعض قضاة جان، كانوا يعتقدون هذا في قضيتها، وفي رأيهم أن رفضها الاعتراف بأن سلطة الكنيسة باعتبارها، وكيل الله على الأرض، تنسخ أوامر هواتفها، يثبت أنها ساحرة. ثم أخذ أغلبية أعضاء المحكمة بهذا الرأي، ومع ذلك فقد تأثروا من بساطتها الصريحة في أجاباتها، وبتقواها وطهارتها الواضحتين، فقد كانوا بشراً، ويبدو أنهم شعروا بقدر عظيم من الشفقة نحو هذه الفتاة التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها، وكان من الواضح أنها ضحية الخوف من الإنجليز. قال وروك بصراحة الجندي "إن ملك إنجلترا قد دفع فيها ثمناً باهظاً، وهو لن يتركها مهما يكن، تموت ميتة طبيعية". واقترح بعض أعضاء المحكمة أن الأمر ينبغي أن يعرض على البابا-وذلك يخلصها ويخلص المحكمة من السلطة الإنجليزية. وأبدت جان رغبتها في أن ترسل إليه، ولكنها عقدت مفاضلة قضت عليها، فإنها تعترف بسلطة العليا في شؤون العقيدة، أما فيما يتعلق بما فعلته إطاعة لهواتفها، فليس لها من قاضٍ غير الله. وأجمع القضاة على أن قولها هذا هرطقة. وقضت في المحاكمة شهوراً أنهكتها، وأقنعت ب، توقع على تنازل عما سبق أن قالته، ثم رأت أنها بهذا ستقضي حياتها سجينة في نطاق القضاء الإنجليزي، فسحب تنازلها، وأحاط الجنود الإنجليز بالمحكمة، وهددوا القضاة بالقتل، إذا لم تمت العذراء حرقاً. وفي الواحد والثلاثين من مايو، اجتمع نفر من القضاة وحكموا عليها الإعدام.

وفي الصباح نفسه، وضعن أكوام مرتفعة من الحطب في ساحة السوق بمدينة روين. ونصبت منصتان بالقرب منها-إحداهما لونشستر كاردينال إنجلترا وأساقفة، والأخرى لكوشون والقضاة، ووقف للحراسة ثمانمائة من الجنود البريطانيين. وأحضرت العذراء في عربة، يصحبها راهب أوغسطيني، واسمه، إسامبار، الذي صادقا إلى النهاية، معرضاً حياته للخطر. وطلبت صليباً، فسلمها أحد الجنود الإنجليز إياه، وقد صنعه من قضيبين من الخشب، فقبلته، ولكنها طلبت أيضاً، صليباً باركته الكنيسة، وأقنع إسامبار الموظفين، أن يحظروا إليها صليباً من كنيسة سانت سوفير. فزمجر الجند من التأخير لأن الوقت أصبح ظهراً. وسأل قائدهم "أتريدوننا أن نتناول غذاءنا هنا؟". فانتزعها رجاله من أيدي القساوسة، وساقوها إلى القائمة التي تشد إليها. ورفع إسامبار، أمامها صليباً، وصعد راهب دومينيكي معها إلى المحرقة. وأشعلت أكوام الحطب، وارتفعت ألسنة اللهب إلى قدميها. فلما رأت الراهب الدومينيكي، لا يزال إلى جانبها، ناشدته أن يهبط آمنا. وابتهلت إلى هواتفها، وقديسيها، والملك ميكائيل والمسيح، ودخلت في سكرات الموت. وتنبأ أحد كتاب سر الملك الإنجليزي بحكم التاريخ باكياً.. "قضى علينا، لقد أحرقنا قديسة".

وفي عام 1455 أمر البابا كاليكستاس Calixtus الثالث، بوحي من شارل ال"ابع، أن يعاد فحص الأدلة التي أدينت بها جان، وفي عام 1457 (وكانت فرنسا منتصرة حينذاك) أعلنت المحكمة الدينية التي أعادت النظر في الموضوع، إن الحكم الذي صدر عام 1431، ظالم وباطل. وفي عام 1920 عد البابا بيندكت الخامس عشر عذراء أورليان، بين قديسي الكنيسة.


فرنسا تبقى 1431-1453

يجب علينا ألا نبالغ في الأهمية الحربية لجان دراك، وربما كان في استطاعة دينوا ولاهير، أن ينقذا أورليان بدونها، فإن خططهما في الهجوم المتهور أحرزت النصر في بعض الوقائع والهزيمة في الأخرى، وكانت إنجلترا تحس تكاليف حرب المائة عام. ولقد وقع فيليب صاحب برجنديا وحليف إنجلترا، معاهدة منفصلة مع فرنسا، بعد أن مل الحرب، وزعزع تخلفه، قبضة الإنجليز على المدن التي غزوها في الجنوب، فتمكنت الواحدة بعد الأخرى من طرد الحاميات الأجنبية عنها. وأجلت باريس، البريطانيين عام 1436 بعد أن ظلت محتلة سبع عشرة سنة، وحكم شارل السابع آخر الأمر في عاصمة ملكه.

ومن عجيب ما يروى، أن هذا الرجل الذي لبث طويلاً كالخيال لا حول له ولا قوة، قد تعلم في ذلك الحين أن يحكم ويختار الوزراء الأكفاء، وأن يعيد تنظيم الجيش ويهدئ من ثورة البارونات وأن يفعل كل ما يحقق الحرية لبلاده، فما الذي أحدث هذا التحول؟ لقد حفزه إليه وحي جان، فما كان أضعفه-فيما يبدو-إذ لم يرفع إصبعاً لإنقاذه.. ويروي أن حماته الجديرة بالاحترام، يولاند أميرة أنجو هي التي أعانته بالرأي السديد، وشجعته على استقبال العذراء ومناصرتها. ونحن-إذا صدقنا الرواية-قلنا إنها قدمت لزوج ابنتها الحظية، التي ظلت تتحكم في قلب الملك عشر سنوات.

وكانت انييه سورل-وهذا اسمها-ابنه سيد في تورين. وكانت يتيمة في طفولتها، فنشأتها على الأخلاق الحميدة، إيزابل دوقة لورين. ثم صحبتها، وهي إذ ذاك في الثالثة والعشرين من عمرها، لزيارة البلاط الملكي في شينون عام (1432) أي بعد عام واحد من وفاة جان. وفتن شارل بجدائل شعرها الكستنائي، وأغرم بضحكتها، فآثرها لنفسه. ووجدتها يولاند سهلة الانقياد، فرأت أن تصطنعها في التأثير على الملك، وناشدت ابنتها ماري، أن تقبل هذه الحظية الأخيرة من حظيات زوجها. واستمرت مخلصة للملك، خائنة لعهود الزواج طوال حياتها، حتى إن ملكاً ممن جاءوا بعد ذلك وهو فرنسيس الأول، وكان صاحب خبرة طويلة بهذه الأمور امتدح، "سيدة الجمال كله" بأنها خدمت فرنسا أكثر من أي راهبة حبيسة في دير. " والتذ شارل طعم الحكمة من هاتين الشفتين". ولقد سمح شارل لها أن تخرجه من عادة الخمول والجبن إلى الجد والعزم. فجمع حوله رجالاً قادرين مثل الياور ريشمون، الذي قاد جيوشه، وجاك كير الذي أعاد الاستقرار إلى مالية الدولة، وجان بيرو، الذي جعلت مدفعيته، النبلاء المعارضين يلوذون الفرار والإنجليز يسرعون إلى كاليه. وكان جاك كير مغامراً في التجارة، ورجلاً لا يعرف نسبه وحظه من التعليم قليل، ومع ذلك، كان يجيد العد، كما كان فرنسياً اجترأ على أن ينافس بنجاح البندقيين والجنوبيين والقطلانيين في التجارة مع الشرق الإسلامي. وكان يملك سبع سفن تجارية مجهزة، يعمرها بمجرمين يستأجرهم، ومشردين يختطفهم من عرض الطريق، ثم يرسل سفنه تخوض البحار يرفرف عليها علم العذراء. واستطاع أن يجمع أعظم ثروة في فرنسا لعهده، حوالي 27.000.000 فرنك، عندما كان الفرنك يساوي ما يقرب من خمسة دولارات بالعملة الهزيلة في أيامنا. وفي عام 1436 عينه شارل مشرفاً على دار سك النقود، وسرعان ما جعله مشرفاً على موارد الحكومة، ومصروفاتها. ولقد أيد مجلس الولايات عام 1439، الملك بحماسة في تصميمه على طرد الإنجليز من الأرض الفرنسية، فشد من عزيمته بقوانين متعاقبة (1443-1447) ليستولي على جميع الضرائب في فرنسا-أو بعبارة أخرى جميع الضرائب، التي كان يدفعها المستأجرون لسادتهم الإقطاعيين، فزاد دخل الحكومة سنوياً إذ ذاك إلى 1.800.000 كراون، فأصبحت الملكية الفرنسية، منذ ذلك الوقت، تختلف عن الملكية الإنجليزية، في استقلالها عن السلطان المالي للولايات، وتستطيع أن تقاوم نمو ديمقراطية الطبقة الوسطى. وأمد هذا النظام القومي للضرائب، الحكومة بالمال من أجل انتصار فرنسا على إنجلترا، ولكن الملك كان قادراً على زيادة معدل الضريبة، فقد أصبح ذلك وسيلة من وسائل الضغط الملكي، وهو من أسباب اندلاع ثورة عام 1789. وكان لجاك كور شأن كبير في هذا التطور المالي، فاكتسب إعجاب الكثيرين وعداوة قلة من الأقوياء. فقبض عليه عام 1451 بتهمة-لم تثبت أبداً-استأجر عملاء ليدسوا السم لأنييه سورل وأدين ونفي من البلاد وصادرت الدولة جميع أمواله-وهي خطة بارعة للاغتصاب بطريق غير مباشر. ففر إلى روما، حيث نصب، أمير بحر على أسطول بابوي، أرسل لتخليص رودس ومرض في كيوس، ومات هناك عام 1456، بالغاً من العمر إحدى وستين سنة. وفي ذلك الوقت نفسه سار شارل السابع على منوال كير، فأنشأ عملة مستقرة، وجدد بناء القرى المخربة، وارتقى بالصناعة والتجارة، وأعاد الحيوية الاقتصادية إلى فرنسا. وأمر بتسريح الفرق الخاصة من الجنود، وألحق هؤلاء المسرحين بخدمته، وهكذا تكوّن أول جيش نظامي في أوربا، (1436). وأصدر مرسوماً، نص على أن يجب أن يوجد في كل ناحية، مواطن شديد البأس، منتخب من زملائه، يعفى من الضرائب كلها، وأن يكون مسلحاً، مدرباً على استعمال الأسلحة، مستعداً في كل لحظة، لينضم إلى أمثاله في الخدمة العسكرية للملك. وهؤلاء الرجال الأحرار من حملة القسى هم الذين طردوا الإنجليز من فرنسا.

وما أشرف عام 1449 حتى كان شارل متأهباً للخروج على الهدنة التي وقعت عام 1444. وتعجب الإنجليز وصدموا وكانت قد أضعفتهم المنازعات الداخلية، ووجدوا أن إمبراطوريتهم الآفلة في فرنسا تكلفهم في القرن الخامس عشر ما لا طاقة لهم به كما تثقل عليهم الهند في القرن العشرين، فلقد تكلفت فرنسا على إنجلترا عام 1427 ثمانية وستين ألف جنيه في حين حصلت منها على سبعة وخمسين ألفاً فقط. وحارب الإنجليز بشجاعة ولكن بغير تبصر، إذ اعتمدوا طويلاً على القسى والقضبان، ولم تعد الخطط التي صدت الفرسان الفرنسيين في كرسي وبواتييه تجدي في فورميني (1450) وفي الصمود أمام مدفع بيرو. وفي عام 1449 جلا الإنجليز عن معظم نورمانديا، وتركوا عاصمتها روين عام 1451. وهزم تالبوت العظيم عام 1453 وقتل في كاسنلون، واستسلمت بوردو، وعادت جوين بأسرها فرنسية مرة أخرى، واحتفظ الإنجليز بمدينة كالييه فقط. ووقعت الأمتان في التاسع عشر من أكتوبر عام 1453 المعاهدة التي وضعت حداً لحرب المائة عام.

الفصل الخامس: بلاد الغال الخالدة 1453 - 1515

لويس الحادي عشر 1461 - 1483

وكان ابن شارل السابع وولي عهده متعباً على غير العادة. ولقد زوج وهو في الثالثة عشرة من عمره، رغم إرادته (1436) من مارجريت صاحبة اسكتلندا، وكان عمرها إذ ذاك إحدى عشرة سنة، فانتقم لنفسه بإهمالها واتخاذ الخليلات. وأغرمت مارجريت بالشعر، ووجدت السلام الأبدي في الموت المبكر (1444) وقالت وهي تلفظ أنفاسها "تباً للحياة..امسكوا الحديث عنها.." وانتقض لويس على أبيه مرتين، وفر إلى فلاندرز بعد المحاولة الثانية، وانتظر نافذ الصب أن يؤول السلطان إليه. وأعانه شارل على بلوغ مأربه، بأن انقطع عن الطعام إلى أن مات (1461)، وحكم فرنسا بذلك واحد من أعجب الملوك وأعظمهم طيلة اثنتين وعشرين سنة.

وكان إذ ذاك في الثامنة والثلاثين، نحيلاً غليظ القلب، غير منغمس في الترف، له عينان مرتابتان وأنف طويل، أقرب إلى الفلاح في مظهره، يتخذ زي الحاج الزاهد الذي يتألف من رداء أغبر خشن وقبعة رثة من اللباد، وكان يصلي كالقديس، ويحكم كأنما قرأ كتاب "الأمير" قبل أن يولد مكيافلي.. واحتقر أبهة الإقطاع، ة وسخر من التقاليد والمراسيم، وبحث في شرعية مولده، وأذهل جميع العروش ببساطته. وعاش في قصر دي تورنل الكئيب بباريس، أو قصر بلسية ليه تور، بالقرب من مدينة تور، كالأعزب، وإن تزوج مرتين، وكان شحيحاً وإن كان يمتلك فرنسا، ولم يحتفظ من الخدم إلا بالنفر الذين كانوا معه في النفي، ولا يأكل من الطعام إلا بمقدار ما يتاح لأحد الفلاحين، ولم يكن مظهره ينبئ عن شيء، وإن كان ملكاً في كل شيء.

فلقد أخضع كل عنصر في شخصه لأرادته المصممة، وكان على فرنسا، أن تتحول بمطرقتهِ، من التمزق الإقطاعي إلى وحدة ملكيو ودولة موحدة، إذ يجب على هذه الحكومة الملكية المركزية أن ترفع فرنسا من رماد الحرب إلى حياة جديدة وبأس جديد، ووقف لوس فكره أثناء الليل وأطراف النهار، على هدفه السياسي، بعقل واضح ماكر، لا يهدأ، مثله في ذلك مثل قيصر، يرى أنه ما من شيء يتحقق، ما دامت له بقية تحتاج إلى عمل. "أما السلام فلا يكاد يحتمل مجرد التفكير فيه"، كما قال كومينيس. ومع ذلك فلم يكن موفقاً في الحرب، وآثر الدبلوماسية والتجسس، والرشوة على استعمال القوة، وجمع الناس حوله لتأييد أهدافه بالإقناع والتملق والتخويف، واحتفظ بحشد كبير من الجواسيس في خدمته في داخل البلاد وخارجها، وكان يدفع مرتبات سرية بانتظام لوزراء ملك إنجلترا ادوارد الرابع. ويستطيع أن يستسلم ويحتمل الإهانة ويتظاهر بالخضوع، وينتظر فرصة للنصر أو الانتقام. ووقع في أخطاء جسام، ولكنه تخلص منها ببراعة مذهلة غير هيابة. ولقد عني بكل ما يتصل بالحكومة من تفاصيل، ولم يكن ينسى شيئاً. وادخر مع ذلك فسحة من الوقت للآداب والفن، فقرأ بنهم، وجمع المخطوطات، وفطن إلى الثورة التي ترهص بها المطبعة، واستمتع بصحبة المثقفين، وبخاصة إذا كانوا "بوهيميين" بالمفهوم الباريسي. وانظم وهو في منفاه بفلاندرز إلى كونت شاروليه، في تأليف أكاديمية للعلماء، الذين أساغوا حذلقتهم بحكايات مرحة على منهج بوكاشيو، ولقد جمع انتوان دي لارسال، بعضها في مصنفه "مائة حكاية جديدة" واشتدت وطأة الملك على الأغنياء، ولم يحفل بالفقراء، وكان معادياً لنقابات العمال، وآثر الطبقة الوسطى باعتبارها أقوى مؤيد له، ولم يرحم الذين يعارضونه أياً كانت طبقتهم وأمر، بعد ثورة بربينيان، بأن تجب مذاكير، كل ثائر منفي، يجسر على العودة. وفي حروبه مع النبلاء حبس بعض الأعداء أو الخونة السنوات الطوال في أقفاص من حديد طولها ثمانية أقدام وعرضها مثل ذلك وارتفاعها سبعة، وهي وسائل ابتكرها أسقف فردان، الذي شغل قفصاً منها بعد ذلك أربع عشرة سنة. واشتد إقبال لويس في الوقت نفسه على الكنيسة، لحاجته إلى معونتها ضد النبلاء والدول، وكانت معه مسبحة لا تكاد تفارق يده، يردد عليها الصلاة الربانية وينقطع لصلاة العذراء، انقطاع راهبة في سكرات الموت، ولقد افتتح عام 1472 صلاة التبشير-وهي صلاة ظهر للعذراء من أجل سلم المملكة. وزار الأضرحة المقدسة، وسجل الآثار الدينية، ورشا القديسين ليقوموا بخدمته، وأخذ العذراء معه في حروبه. ولما قضي، عرض كقديس على حامل في كنيسة في مدينة تور.

وخلق بأخطائه هذه فرنسا الجديدة إذ وجدها مجموعة منحلة من الإمارات الإقطاعية والكهنوتية، فجعل منها أقوى أمة في العالم المسيحي اللاتيني. واجتلب نساجي الحرير من إيطاليا. وعمل المناجم من ألمانيا، وعمل على تحسين الموانئ ووسائل المواصلات، وحماية السفن الفرنسية، وفتح أسواقاً جديدة للصناعة الفرنسية، وجعل حكومة فرنسا حليفة للبرجوازية التجارية والمالية الناهضة. ورأى أن التوسع في التجارة عبر الحدود المحلية والقومية في حاجة إلى إدارة قوية مركزية. ولم يعد الإقطاع ضرورياً لحماية الزراعة والإشراف عليها، وكانت طبقة الفلاحين تحرر نفسها ببطء من العبودية الجامدة، ولقد مضى الزمن الذي كان فيه الأمراء الإقطاعيون يشرعون القوانين الخاصة بهم، ويضربون سكتهم، ويمارسون السيادة على ولاياتهم، وألزمهم شارل بوسائل صالحة وطالحة بالخضوع والنظام واحداً بعد واحد.

وقيد حقهم في الاعتداء على أملاك الفلاحين في صيدهم، وأنشأ إدارة بريد حكومية تخترق ولا ياتهم (1464)، وحرم عليهم، أن يخوضوا حروباً خاصة بهم، وطالبهم بالمتأخر من الالتزامات التي أخفقوا في دفعها لسادتهم في الإقطاع وهم ملوك فرنسا. ولم يكن الأمراء الإقطاعيون يحبونه. فاجتمع ممثلون لخمسمائة أسرة نبيلة في باريس وألفوا جبهة الصالح العام (1464) ليبسطوا أيديهم على امتيازاتهم بشعار الصالح العام. وانظم كونت شاروليه إلى هذه الجبهة، فقد جعلته وراثته لعرش برجنديا مشوقاً لضم شمال شرقي فرنسا إلى دوقيته. ورحل شارل دوق بري وهو شقيق الملك لويس نفسه، إلى بريتاني وتزعم الثورة... فتجمعت الأعداء والجيوش من كل جانب ضد الملك، ولو استطاعوا أن يتحدوا لقضوا على الملك، وكان أمله الوحيد أن يهزمهم مترفقين فرادى. فاندفع جنوباً عبر نهر آلييه، وأكره قوة معادية على التسليم، وأسرع عائداً إلى الشمال في الوقت المناسب ليحول بين جيش برجندي وبين دخول عاصمته. وادعى كل فريق أنه انتصر في معركة مونتلهيري، وانسحب البرجنديون، ودخل لويس باريس وعاد البرجنديون مع حلفائهم وحاصروا المدينة. ولم يشأ لويس أن يخاطر بدفع الباريسيين إلى الثورة عليه، وهم الذين يأبى عليهم ذكائهم أن يموتوا جوعاً فسلم بمقتضى معاهدة كنفلان (1465) كل ما كان يطلبه أعداؤه تقريباً-الأرض-والمال والمناصب، وأخذ أخوه شارل نورمانديا. ولم يذكر شيء عن صالح الشعب، وكان لا بد من فرض ضرائب على جميع الناس لجمع الأموال المطلوبة. وانتظر لويس وقته الملائم.

وسرعان ما انزلق شارل إلى محاربة الدوق فرنسيس صاحب بريتاني، الذي أسره، وسار لويس إلى نورماندي واستعادها بلا إراقة دماء. ولكن فرنسيس، الذي توقع بحق، أن لويس يطلب بريتاني أيضاً، تحالف مع كونت شاروليه- وكان قد أصبح وقتذاك الدوق شارل الجسور صاحب برجنديا- في معاهدة هجومية، ضد الملك الذي لا رادع له. وشحذ لويس كل وسيلة من وسائل الدبلوماسية، فعقد صلحاً منفرداً مع فرنسيس، واتفق على حضور مؤتمر شارل في بيرون. وكانت نتيجة ذلك، أن سجنه شارل، وأرغمه على التنازل عن بيكاردي والاشتراك في تطويق لييج.وعاد لويس إلى باريس وقد بلغ الحضيض من السمعة والسلطان، بل إن الببغاوات دربت على السخرية منه (1468). وبعد عامين، من تبادل الخيانة والغدر، انتهز لويس فرصة انشغال شارل في جلدرلاند، وسير جيوشه إلى سانت كونتان وأمين وبوفيه. فألح شارل على ادوارد الرابع أن يتحد معه على فرنسا، ولكن لويس أبعد إدوارد عن هذا المشروع بالمال. وكان يعرف كلف إدوارد بالنساء، فدعاه إلى الحضور، ليلهو مع نساء باريس، كما أبدى استعداده أن يعين لادوارد، كاردينال بوربون، ليكون صاحب كرسي الاعتراف الملكي، الذي "يسره أن يحله، إن اقترف خطيئة ما بواسطة الحب والشهامة". واحتال حتى جعل شارل يقع في حرب مع سويسرا، حتى إذا قتل شارل لم يأخذ لويس بيكاردي فحسب وإنما برجنديا نفسها أيضاً (1477). وهدّأ من سورة النبلاء البرجنديين بالذهب، وأرضى الشعب بأن اتخذ له خليلة برجندية. وأحس عندئذ أنه أصبح من القوة بحيث يستطيع أن يواجه البارونات الذين طالما حاربوه، وقلما لبوا نداءه، أن يخرجوا للحرب من أجل فرنسا. وكان أكثر الأمراء الذين تآمروا عليه عام 1465 قد ماتوا، أو أقعدتهم الشيخوخة.وتعلم خلفاؤهم أن يخشوا ملكاً، يقطع رؤوس الخونة من الأرستقراطية ويصادر ضياعهم، ملكاً أنشأ جيشاً قوياً من المرتزقة، وأنه مستعد على الدوام لجمع الأموال الطائلة لشراء الضمائر ودفع الرشى. وآثر لويس أن ينفق أموال شعبه لا أرواحه، فاشترى سردينيا وروسيلون من أسبانيا. وحصل على روشل بموت أخيه، وأخذ النسون وبلوا عنوة، وألح على رينييه أن يتنازل عن بروفنس للتاج الفرنسي (1481)، وبعد ذلك بعام عادت أنجوومين إلى الملكية، وفي عام 1483 تنازلت فلاندرز، وكانت تنشد معنونة لويس ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، عن كونتية ارتوا مع المدنيتين المزدهرتين اراس ودواي. وهكذا قهر لويس البارونات وسيطر على مجالس البلديات والولايات فأنجز بذلك لفرنسا تلك الوحدة القومية والإرادة المركزية التي أنجز مثلها بعد عشر سنوات هنري الرابع، لإنجلترا، فرديناند وايزابلا لأسبانيا، واسكندر السادس للولايات البابوية. وهذا الصنيع وإن أحل طغيان أفراد كثيرين، إلا أنه كان في ذلك الوقت حركة تقدمية، توطد النظام في الداخل والأمن في الخارج، وتثبت العملة والمقاييس، وتذيب اللهجات في لغة واحدة، وتعين على نمو أدب وطني لفرنسا. ولم تكن الملكية مطلقة، فقد احتفظ النبلاء بسلطات كبيرة، وكانت موافقة مجلس الولايات ضرورية، في العادة لإقرار الضرائب الجديدة. وأعفى النبلاء والموظفون ورجال الدين من الضرائب. أعفى النبلاء على أساس أنهم حاربوا من أجل الشعب، والموظفون لأنهم كانوا يبخسون في الأجر والرشوة، ورجال الدين لأنهم يحمون الملك والوطن بصلواتهم. وكان الرأي العام والعرف السائد يحدان من سلطة الملك، وكانت المجالس المحلية لا تزال تزعم أن أي مرسوم ملكي بقانون لا يصبح نافذاً في مناطقهم إلا إذا وافق الأعضاء عليه ووثقوه. ومهما يكن من شيء فقد فتح الطريق للملك لويس الرابع عشر ونظام "أنا الدولة".

وأخذ لويس نفسه بين هذه الانتصارات جميعاً يذوي جسماً وعقلاً. فسجن نفسه في بليسيه- ليه- تور، خوفاً من الاغتيال، وارتاب في الجميع، وقلما رأى إنساناً، وعاقب على الأخطاء والنقائض بقسوة، وارتدى بين الحين والآخر حللاً تناقض فخامتها أرديته الخشنة في مطلع حكمه وأصبح نحيلاً شاحباً حتى الذين رأوه تعذر عليهم أن يصدقوا أنه على قيد الحياة. وكابد الآلام سنوات من البواسير. وأصيب الفالج في بعض الأحيان. وفي الخامس والعشرين من أغسطس عام 1483، أصابته نوبة من الفالج أفقدته النطق، وما لبث خمسة أيام حتى مات.

فابتهج رعاياه، لأنه أجبرهم على أن يدفعوا ما لا طاقة لهم به من تكاليف هزائمه وانتصاراته، مما زاد الشعب فقراً، وفرنسا عظمة ومجداً، في كنف سياسته التي لا ترحم. ومع ذلك فإن العصور التي جاءت بعده، أفادت من إخضاع النبلاء، وإعادة تنظيم المالية والإدارة والدفاع، ورقيه بالصناعة والتجارة والطباعة، وتكوينه دولة موحدة حديثة. ولقد كتب كومنيس "إذا أحصيت جميع أيام حياته وعقدت موازنة بين المسرات والمباهج وبين آلامه ومتاعبه، فستكون النتيجة، عشرين يوماً محزناً في مقابل يوم واحد بهيج. ولقد دفع هو وجيله ثمن ازدهار فرنسا وأبهتها في المستقبل".


المغامرة الإيطالية

وكان شارل الثامن في الثالثة من عمره عندما مات أبوه فلبثت أخته آن دي بوجيه، ولم تكن تكبره بغير عشر سنين، تحكم فرنسا بتعقل ثمان سنوات. فخفضت نفقات الحكومة، وأعفت الشعب من ربع ضريبة الرؤوس، وأعادت كثيرين من المنفيين، وأطلقت سراح كثيرين من المسجونين، ووفقت في مقاومة محاولات البارونات، "الحرب الحمقاء" (1485)، لاستعادة سيادتهم المحلية التي انتزعها لويس. ولما اشتركت بريتاني مع أورليان ولورين وانجوليم وأورانج ونافار في عصيان آخر، استطاعت بدبلوماسيتها وقيادة لويس دي لاترمويل أن تهزم الجميع، وكانت مظفرة في وضع حد لهذه المشكلة بأن أعدت لزواج شارل من آن صاحبة بريتاني، التي قدمت دوقيتها العظيمة صداقاً لتاج فرنسا (1491). وعندئذ اعتزلت نائبة الملك الحكم وعاشت بقية حياتها، وهي إحدى وثلاثين سنة آمنة في زوايا النسيان.

أما الملكة الجديدة، وإن اتفقت معها في الاسم إلا أن شخصيتها كانت مختلفة تمام الاختلاف، فلقد كانت قصيرة مسحاء نحيفة عرجاء، غليظة الأنف واسعة الفم على وجه قوطي طويل، ولها عقلها الخاص بها، وفيها من الدهاء والبخل ما كان في كل بريتاني. ومع أنها كانت بسيطة في ثيابها، بحلتها وقلنسوتها السوداوين، إلا أنها كانت في المناسبات الرسمية-تتلألأ بالجواهر والثياب الموشاة بالذهب، وهي لا شارل التي قربت الفنانين والشعراء، وكلفت جان بورديشون أن يصور "صلوات آن أميرة بريتاني". ولم تنسَ قط موطنها الحبيب بريتاني وطرائقها في الحياة، فغلفت كبريائها بالتواضع، وعكفت على حياكة الثياب، وكافحت من أحل إصلاح أخلاق الملك وحاشيته.

ويقول برنتوم الثرثار "إن شارل يشغف بالنساء أكثر مما تحتمله، بنيته النحيلة". واقتصر بعد زواجه على خليلة واحدة. ولم يكن يستطيع أن يشكو من منظر زوجته، فلقد كان هو نفسه طويل الرأس أحدب، قسماته تنم عن السذاجة، عيناه واسعتان بلا لون، قصير النظر، وشفته السفلى غليظة ومتدلية، وتردد في الحديث، ويداه ترتعشان في تشنج. ومع ذلك كان حسن الطبع، رحيماً مثالياً في بعض الأحيان. ويقرأ قصص الفروسية، وامتلأ رأسه بفكرة إعادة فتح نابلي لفرنسا وبيت المقدس للعالم المسيحي. وظلت أسرة انجو، تبسط يدها على مملكة نابلي (1268-1435) إلى أن انتزعها منهم ألفونسو صاحب أراجون، وانتقلت مطالبة دوقات انجو بملكها إلى لويس الحادي عشر بالوراثة، ثم جهر شارل بالمطالبة. واعتقد مستشاروه أنه آخر إنسان في العالم يستطيع أن يقود جيشاً في حروب كبيرة، ولكنهم أملوا أن تمهد الدبلوماسية طريقه، وأن الاستيلاء على نابلي، سيسمح للتجارة الفرنسية، أن تتحكم في البحر الأبيض المتوسط. وتركوا أرتوا فرانش- كونتيه إلى ماكسمبليان صاحب النمسا وسردينيا وروسيلون لفرديناند ملك أسبانيا وذلك لحماية أطراف المملكة، ورجوا أن يحصلوا على نصف إيطاليا من أجل الأجزاء التي اقتطعت من فرنسا واستطاع لودوفيكو نائب الملك في ميلان أن يجمع جيشاً قوامه أربعون ألف رجل، ومائة مدفع حصار وست وثمانون سفينة حربية. وذلك بفضل الضرائب الباهظة والجواهر المرهونة والقروض التي سحبت من رجال المال في جنوا.

وخرج شارل مبتهجاً (1494)، ولعله لم يرَ بأساً من أن يخلف وراءه أخته وزوجته. فقوبل في ميلان بالترحيب (وكان بينهما وبين نابلي حزازة تريد أن تحسمها). ولم يجد عند سيادته مقاومة ما وخلف بعد مسيره جمعاً من الأبناء غير الشرعيين، ولكنه أبى في شهامة أن يمس عذراء ناشزة جلبها وصيفه لإمتاعه، وما كان منه إلا أن أرسل يطلب حبيبها، ورأس بنفسهِ حفل خطوبتهما، ومنحها صداقاً مقداره خمسمائة كراون. ولم تكن عند نابلي قوة عسكرية تقاوم جيشه فانتصر عليها في يسر ودخلها (1495)، واستمتع بجمال مناظرها، ومطاعمها ونسائها، ونسي بيت المقدس.

ومن الواضح أنه كان من الفرنسيين السعداء، الذين لم يصابوا بذلك المرض التناسلي الذي سمي فيما بعد "بالداء الغالي" لأنه انتشر بسرعة في فرنسا بعد عودة الجنود إليها. وعقدت "محالفة مقدسة" بين الإسكندر السادس والبندقية ولودوفيكو صاحب ميلان (الذي تحول عن ولائهِ السابق) فأرغموا شارل على الجلاء عن نابلي والانسحاب عبر إيطاليا التي تناصبه العداء. وحارب جيشه الآخذ في النقصان معركة غير حاسمة في فورنوفو (1495)، وعاد مسرعاً إلى فرنسا، حاملاً معه مقومات النهضة فيما حمل من أسباب العدوى.

وفي فورنوفو أبدى بيير تيراي سيد بايار، لأول مرة وكان إذ ذاك في الثانية والعشرين من عمره، شجاعة أكسبته نصف اللقب المشهور الذي عرف به وهو "الفارس الذي لا يخاف ولا يلام": ولقد ولد في قصر بايار بإمارة ولي العهد، وهو من أسرة نبيلة، لم يمت رئيس من رؤسائها طوال قرنين إلا في حومة القتال، ولعل بيير أراد في هذا اللقاء، أن يواصل ذلك التقليد. ونفق من تحته جوادان، وظفر بأحد ألوية العدو، فجعله مليكه فارساً تقديراً لبسالتهِ. واستطاع أن يحتفظ في عصر انتشرت فيه الفظاظة والعبث والخيانة بجميع فضائل الفروسية-فقد كان، في غير تظاهر شهماً، مخلصاً في غير خنوع. شريفاً في غير تيه، وخاض اثني عشر حرباً بروح رحيمة مرحة حتى لقبه معاصروه "الفارس الطيب"، وسنلقاه مرة أخرى.

وعاش شارل بعد رحلته إلى إيطاليا ثلاث سنوات. وذهب لمشاهدة مباراة تنس في امبواز فصفع رأسه باب غير محكم، ومات من نزيف في المخ بالغاً من العمر ثمانية وعشرون سنة. ولما كان أبناؤه قد ماتوا قبله، فقد تحول العرش إلى ابن أخيه دوق أورليان، ا لذي أصبح الملك لويس الثاني عشر (1498) والذي ولد لشارل صاحب أورليان، وهو شاعر عندما كان في السبعين من عمره، وكان لويس عند توليه العرش في السادسة والثلاثين سقيم البنية منذ أمد. وكانت أخلاقه مهذبة على غير عادة ذلك العصر، وسجاياه صريحة توحي بالمحبة، حتى لقد تعلمت فرنسا أن تحبه، رغم حروبه التي لا نفع فيها وكان يبدو متهماً بعدم اللياقة، لأنه طلق عام تتويجه جان دي فرانس، ابنه لويس الحادي عشر، ولكن ذلك الملك العنيد في مرونة ولين هو الذي أرغمه على الزواج من تلك الفتاة التي لا جاذبية لها، عندما بلغ الحادية عشر من عمره فقط. ولم يكن يستطيع أن يحبها، فهو الآن يطلب إلى الإسكندر السادس أن يلغي ذلك الزواج على أساس قرابة العصب، وأن يقر بناءه بالأرملة آن صاحبة بريتاني- في مقابل عروس فرنسية وكونتية ومعاش لابن البابا: قيصر بورجيا-وحملت آن معها دوقيتها كجزء من جهاز العروس. واتخذا مسكنهما في بلوا، وأعطيا فرنسا نموذجاً ملكياً للحب الإخلاص المتبادلين.

ويمثل لويس الثاني عشر سيادة الشخصية على الفكر. ولم يكن في دهاء لويس الحادي عشر، بيد أن له النية الطيبة والرزانة الحسنة، والفطنة، التي تتيح له أن يجسم الكثير من قوته في أعوانه الذي أحسن اختيارهم. وترك الإدارة، ومعظم السياسة، إلى صديق عمره جورج، كاردينال امبواز، فأدار هذا الكاهن الحكيم الطيب، الأمور بحذق، حتى أن الشعب المقلب كان كلما جد أمر، هز كتفيه، وهمس "دع جورج ينهض به". وتعجبت فرنسا عندما وجدت الضرائب المفروضة عليها تخفض، خفض أولاً الثلث ثم العشر. وافق الملك الذي نشأ في النعيم أقل ما يمكن على نفسه وعلى بلاطه، ولم يسمن على حسابه مقربون. وألغى بيع الوظائف، وحرم على الحكام قبول الهدايا، وأباح البريد الحكومي للجمهور. وقيد نفسه بأن يختار، لكل منصب إداري شاغر، واحداً من ثلاثة، تعينهم الهيئة القضائية، وألا يفصل موظفاً من موظفي الدولة إلا بعد محاكمة علنية وثبوت عدم النزاهة أو الكفاية عليه. وسخر بعض الهزليين ورجال البلاط من اقتصادياته ولكنه كان يقابل مزاحهم بروح متسامحة. وقال "قد يقولون لنا بين بذاءاتهم حقائق نافعة، دعهم يسلون نفسهم، وعليهم أن يحترموا شرف النساء... وخير لي أن أجعل رجال البلاد يضحكون من تقتيري، على أن أجعل شعبي يبكي من تبذيري"، وكانت أفضل وسيلة تسري عنه هي أن تدله على طريقة جديد تنفع الشعب، عن اعترافهم بالجميل له بأن لقبوه "بأبي الشعب" ولا تذكر فرنسا في تاريخها مثل هذا الازدهار.

ومن المؤسف، أن هذا الحكم السعيد تلطخ صحيفته بغزوة أخرى لإيطاليا. وربما نهض لويس وغيره من الملوك بهذه الهجمات، ليشغلوا النبلاء المشاغبين ويتخلصوا منهم، وهم بغير ذلك يزعجون فرنسا بالحروب الداخلية، مهددين بذلك الملكية والوحدة القومية اللتين لم تستقرا بعد. وكان على لويس بعد اثني عشر عاماً من النصر في إيطاليا، أن يسحب جنوده من شبه الجزيرة، ثم خسر معركة مع الإنجليز في جوينجيت، (1513)، وهي التي أطلق عليها الوصف الساخر "معركة المهاميز" لأن الفرسان الفرنسيين، فروا من المعركة بسرعة غير عادية. ووقع لويس صلحاً، وقنع بعد ذلك بأن يكون ملك فرنسا فحسب.

وزاد موت آن (1514) من أحزانه، ولم تنجب له وريثاً للعرش، وزوج، وهو غير راضٍ تمام الرضى، ابنته كلود إلى فرنسيس، كونت انجوليم، ويعد الثاني في ولاية العرش. وألح عليه مساعدوه، أن يتخذ زوجة ثالثة، وكان في الثانية والخمسين، وأن يحجب فرنسيس، الثائر بإنجاب ولد. فقبل ماري تيودور، أخت هنري الثامن، البالغة من العمر ست عشرة سنة، فجعلت الملك يسير في حياة مرحة منهكة وتشبثت بكل ما يجب للجمال والشباب. وتوفي لويس في الشهر الثالث من زواجه (1515) فخلف لزوج ابنته، فرنسا المزدهرة، التي ظلت تذكر بالحب أبا الشعب على الرغم من هزيمتها في عهده.

نهضة القصور

أحس الفن الفرنسي الآن كله، اللهم إلا العمارة الدينية، تأثير الملكية الآخذة بأسباب القوة وفتوحها الإيطالية ذلك لأن الكنيسة تشبثت بالطراز القوطي المشع، في العمارة معبرة عن اضمحلالها بالزينة المسرفة والتفاصيل المبالغ فيها، ولكن هذا الطراز، كان يحتضر، مثله في ذلك، مثل امرأة خليعة تجمع وهي تجود بأنفاسها كل المظاهر النسوية، من رقة وزينة ورشاقة. ومع هذا كله بدأ تشييد بعض الكنائس الفخمة في هذا العصر: سانت ولفرام في ابيفيل، سانت أتين دي مون في باريس، والمزار الصغير المتقن الذي شيدته مرجريت أميرة النمسا في برو، تخليداً لزوجها فيلبرت الثاني ملك سافوي. وأدخلت على المباني القديمة، زخارف جديدة، ووصفت كاتدرائية روين، بابها الشمالي باسم "الباب المكتبي" نسبة إلى حوامل الكتب في صحن الكنيسة، وأنفقت المبالغ التي جمعت للانغماس في أكل الزبد في لنت، على إقامة البرج الجنوبي الرائع، وهو البرج الذي أسمته الفكاهة الفرنسية: "برج الزبدة"، واستطاع كاردينال امبواز أن يحصل على أموال يشيد بها الواجهة الغربية، على الطراز المشع نفسه. ومنح بوفيه، جناح الكنيسة الجنوبي، رائعتها التي لم تتم. ويفوق بابها ونافذتها الوردية معظم الواجهات الرئيسية، وحسّن سينلس، وتور وترويس هياكلها، وشيد جان لوتكسبيه في شارترز، برجاً شمالياً غربياً مشرفاً، وحاجزاً ضخماً للمرتلين، وقد ظهرت فيها أفكار عصر النهضة التي تغلب الخطوط القوطية. أما برج سانت جاك الرائع في باريس، فهو البقية المـَرمَّمة من كنيسة، أقيمت في هذا العهد لسانت جيمس الأعظم.

وأفصحت مباني النبلاء المدنية عن الصراع والفوضى في ذلك العصر وأنشئت البلديات للمدن في أراس ودواي وسانت-أومر ونويون وسانت كنتان وكومبيين ودرين وايفريه وأورليان وسومور-وشيدت جرينوبل "دار القضاء" عام 1505، وشيدت روين داراً أكثر بهاءً عام 1494، صممها روبرت انجو ورولان ليرو على الطراز القوطي المزخرف، وأعاد القرن التاسع عشر زخرفتها. ثم جاءت الحرب الثانية فخربتها.

وهذا هو القرن الأول الذي ظهر فيه القصر ذو الطابع الفرنسي، ذلك لأن الكنيسة أخضعت للدولة، فغلب الاستمتاع بالحياة في الدنيا على الاستعداد للآخرة، وأصبح الملوك يستطيعون أن يكونوا آلهة، وأن ينشئوا، تزجية لفراغهم، فردوساً على طول نهر اللوار. وتحول "القصر المنيع" أو القلعة بين عامي 1490، 1530 إلى "قصر الملذات". وطلب شارل الثامن بعد أن عاد من حملته على نابولي، إلى معمارييه، أن يشيدوا له قصراً، في فخامة ما شاهده في إيطاليا. وكان قد أخضر معه المعماري الإيطالي فراجوفاني جوكوندو، والمثال الرسام جويدو ماتزوني، والنقاش على الخشب دومينيكو برنابي "بوكادور"، وتسعة عشر فناناً إيطالياً آخرين، وكان بينهم معماري تخصص في المباني الخلوية هو دومينيكو باتشيلو. وهو الذي أصلح قبل ذلك قلعة أمبواز القديمة، وكلف الملك هؤلاء الرجال، يعاونهم بناءون وعمال فرنسيون، أن يحولوها إلى مسكن مترف يليق بالملك "على الطراز الإيطالي". وكانت النتيجة بالغة الفخامة: فقد نهضت بجلال، على منحدر يشرف على النهر الوديع، مجموعة من الأبراج، والقباب والطنف، وزخارف من الرفارف ومخادع وشرفات. وهكذا ولد نوع جديد من العمارة.

فضايق هذا الطراز الوطنين والمحفظين على القديم، بالمزاوجة بين الأبراج القوطية وبين قصور عصر النهضة، وبإحلال الأشكال والتفاصيل الكلاسية، محل الزخرف المشع. وظلت الجدران، والأبراج الأسطوانية والأسقف العالية المنحدرة، والشرفات الخاصة بالدفاع والخنادق العارضة، تتسم بطلع القرون الوسطى، تذكر بالوقت، الذي كان فيه دار المرء، يجب أن تكون قلعته وحصنه في وقت واحد، ولكن الروح الجديدة أخرجت المسكن من غلافه العسكري الكثيف، وعرضت النوافذ وحددتها بخطوط مستقيمة لتسمح بدخول أشعة الشمس، وجملتها بأطر من الحجر المنقور، وزينت الداخل بأنصاف عمد كلاسيكية مربعة وأفاريز وزينات مدلاة وتماثيل ونقوش عربية وزخارف بارزة، وأحاطت البناء بالبساتين والنوافير والأزهار وغابة للصيد أو سهم بسام. ولقد أخلى الظلام في هذه الدور المترفة مكانه للنور، كما انقشع الخوف والكآبة، اللذان اتسمت بهما القرون الوسطى وحل محلها اطمئنان عصر النهضة وجرأته ومرحه. وأضحى حب الحياة طرازاً معمارياً. ونحن نبالغ في الحكم على هذه القصور في عصرها الأول إذا ألحقنا بها أصلها أو إذا عرضنا لتطورها الكامل. فإن كثيراً منها كان موجوداً قبل ذلك في صورة القلاع، ولم يحدث فيها غير مجرد التعديل، وأكمل القرنان السادس عشر والسابع عشر، هذا الشكل الفني حتى بلغا به الانسجام الأرستقراطي، وغير القرن الثامن عشر هذا الاتجاه وأحل ملحمة فرساي العظيمة، محل روح القصور الغنائية المرحة. وكان قصر شينون الحصين، قديماً، عندما استقبل فيه شارل السابع، جان (1429)، كما مر لوشي بتاريخ طويل باعتباره مرقاً ملكياً وسجناً، عندما وفد عليه لودوفيكو المورو سجيناً (1504) وذلك بعد أن استولى لويس الثاني عشر على ميلان للمرة الثانية. وأصلح جا بوريه، وهو وزير لويس الحادي عشر حوالي عام 1460، قلعة لانجيه، التي أنشئت في القرن الثالث عشر، في شكل، يتسم أساساً بطابع القرون الوسطى، وإن كانت من أحسن القصور الباقية إلى الآن. وشيد شارل دامبواز حوالي عام 1473، في شومون، قصراً آخر على نهج القرون الوسطى، وأقام أخوه الكاردينال في جايون، قصراً حصيناً فخماً (1497-1510) أتلفته الثورة الرعناء. ورمم دينوا وهو نبيل "ابن سفاح من أورليان" قصر شاتودن (1464)، وأضاف كاردينال أورليان لونجفيل، جناحاً جديداً لهذا القصر، على الطراز الذي يزاوج بين القوطي وعصر النهضة. ولا تزال في قصر بلوا، أجزاء على نمط القرن الثالث عشر، وقد أنشأ له لويس الثاني عشر، جناحاً شرقياً، في وحدة متجانسة من الآجر والحجر، ومن الأبواب القوطية ونوافذ عصر النهضة، ولكن ذروة فخامته كانت تنتظر فرنسيس الأول.

وكانت المرحلة الأخيرة للنحت القوطي رائعة إلى أقصى حد بالزخرف المنقور ببراعة في المقابر، وبالمحفة في كنيسة برو، حيث تبدو سيبيل أجربا، في شكل لا يقل جمالاً عما هي في شارترز أو ريمز. ولكن الفنانين الإيطاليين كانوا يعيدون في الوقت نفسه، صياغة النحت الفرنسي على طراز عصر النهضة، استقلالاً وانسجاماً ورشاقة. وزاد الاتصال بين فرنسا وإيطاليا بفضل زيارة رجال الدين والسفراء والتجار والرحلة، وقامت الأشياء الفنية الإيطالية المستوردة وبخاصة الأدوات الصغيرة المصنوعة من البرونز، مقام المبعوثين من عصر النهضة من الذوق والشكل الكلاسيين. وتحولت الحركة، بمجيء شارل الثامن وجورج وشارل صاحب أمبواز، إلى تيار كتدفق والفنانون الإيطاليون هم الذين أنشأوا "مدرسة أمبواز" ذات التأثير الإيطالي في المقر الريفي للملوك. وتعد مقابر الملوك الفرنسيين، في كنيسة سانت دينيس، سجلاً أثرياً، للتحول، ومن جلال النحت القوطي الجهم، إلى الأناقة الرقيقة والزخرف الذي ينم على المرح، الذين اتسم بهما تصميم عصر النهضة، معلنة المجد محتفلة بالجمال حتى في انتصار الموت.

ويتجسم هذا التحول في شخص ميشل كولومب. ولد عام 1431، ووصف عام 1467 بأنه "أعظم نحات في المملكة الفرنسية قبل أن تغزو فرنسا إيطاليا وتبتلعها بزمن طويل. وكان النحت الغالي من الآن فصاعداً، كله تقريباً من الحجر، فاستورد كولومب رخام جنوا، وحفر عليها صوراً لا تزال عابسة جامدة بمسحة قوطية واضحة، لكنها وضعت في أطر زاخرة بالزينة الكلاسيكية. لقد نقش لقصر جايون، نقشاً بارزاً مرتفعاً يمثل "القديس جورج والتنين"-في صورة فارس لا حياة فيه على صهوة جواد ناشط خفيف الحركة، وهما محاطان بأعمدة وأفاريز ورفرف في تصميم عصر النهضة. وبدأ في "عذراء العمود" المنقوشة على الحجر، لكنيسة سانت جالمييه، وأن كولومب حقق الوداعة الكاملة التي يتسم بها الأسلوب الإيطالي في بساطة الملامح ولطفها، وفي الخطوط الناعمة للشعر المرجل. وربما كان كولومب هو الذي نقر، في شيخوخته "المدفن الشرقي" (1496) في سرداب كنيسة سولزمس .

وتأثرت فرنسا في التصوير بالأراضي الواطئة، كما تأثرت بإيطاليا فقد بدأ نيكولاس فرومنت بواقعية هواندية في صورته "بعث لازارو"" ولكنه انتقل عام 1476 من أفنيون إلى ايكس آن بروفانس ورسم لرينيه صاحب أنجو الصور ثلاثية الطيات "علـّيقة موسى"، وتظهر الصورة الرئيسية فبها، وهي العذراء على العرش، سمات إيطالية مهادها، وفي العذراء السمراء، وموسى المهيب، والمـَلَك الفاتن، وكلب الصيد المتحفز والأغنام المخلصين، وهنا أحرزت إيطاليا انتصاراً كاملاً. وطبع تطور مماثل في الأسلوب أعمال "أستاذ مولان"، ولعله جان بريال. فلقد ذهب إلى إيطاليا مع شارل الثامن ثم مع لويس الثاني عشر، فرجع ومعه نصف فنون عصر النهضة في سجل مؤهلاته- فكان رسام منمنمات ونقوش جدارية ومصور أشخاص ومثالاً ومعمارياً. وصمم في نانت- ونقش كولومب على الحجر- المقبرة الرائعة لفرنسيس الثاني دوق بريتاني، وخلد في مولان ذكر أوليائه آن وبيير البيجومي، مع الرسوم الجميلة للأشخاص التي توجد الآن في اللوفر.

ولم تحتفظ الفنون الصغيرة بالامتياز الذي كان لها في القرون الوسطى المتأخرة. فقد تحول المزخرفون الفلمنكيون، منذ زمن طويل إلى الموضوعات الدنيوية والمناظر الأرضية. وتمثل منمنمات جان بورديشون في "صلوات آن أميرة بريتاني" (1508) العودة إلى البساطة والتقوى اللتين تتسم بهما القرون الوسطى مثل الأساطير المحببة عن العذراء وطفلها، ومأساة جلجوثا وانتصار القديسين، والرسم رديء والمهاد كلاسية واللون قوي صاف، كل هذا في جو هادئ من التأنق والشعور النسويين. واتخذ الزجاج الملون في هذا العصر-وقد يكون ذلك على سبيل المقابلة- واقعية فلمنكية عند النظرة الأولى لا تلائم النوافذ التي تدخل الضوء الساطع على أرضية الكاتدرائيات، ومع ذلك فإن الزجاج الذي نقش في هذا العصر لاوخ وروين وبوفيه، فيه آثار من روعة القرن الثالث عشر. وأعادت ليموج إشعال أفرانها، التي خمدت طوال قرن كامل، ونافست إيطاليا والبلاد الإسلامية، في طلاء الأواني بالميناء الصافية. ولم يفقد الحفارون على الخشب حذقهم، وذهب رسكين إلى أن مواضع الممثلين في كاتدرائية أمين هي خير ما في فرنسا بأسرها، وأثارت السجاجيد الملونة التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الخامس عشر، انتباه جورج صاند في قصر بريساك (1847)، وأصبحت ذخيرة متحف كلوني في باريس، وفي متحف جوبلنز سجاجيد رائعة (حوالي 1500) تصور موسيقيين يعزفون في حديقة أزهار السوسن.

وكان القرن الخامس عشر مجدباً بصورة عامة في الفن الفرنسي باستثناء عمارة القصور. فلقد حرثت أقدام الجنود الأراضي وأخصبتها بدماء الحروب، ولكن ختام هذه المرحلة، هو الذي شاهد رجال عندهم الوسائل والفراغ نثروا البذور التي استطاع فرنسيس الأول أن يجني ثمارها. فإن صورة فوكيه لنفسه إنما تنم على عصر خنوع وبأس، وتعكس منمنمات تلميذه بورديشون، السلام العائلي في الزواج الثاني للويس الثاني عشر، والطمأنينة المبتسمة للأرض المسترجعة. فقد تجاوزت فرنسا أسوأ عهودها، ويوشك أحسنها أن يجيء.

فرانسوا فيون 1431-1480

ومهما يكن من شيء، فإن هذا القرن من الصراع والفوضى قد أفزع، شاعراً فحلاً ومؤرخاً كبيراً. وكانت إحدى النتائج الطبيعية للاقتصاد القومي والحكومة مركزية، أن استعمل الأدب الفرنسي لغة باريس، أياً كان موطن المؤلف: برجنديا أو بريتاني أو بروفانس. وكأنما أثرها فيليب دي كومين على اللاتينية، ليثبت أن الفرنسيين قد نضجوا، وسجل بها مذكراته. وا"تعار لقبه من كومين في فلاندر"، حيث ولد. وهو من أ"رة ممتازة، لأن الدوق فيليب الخامس كان اشبينه، ونشأ في البلاط البرجندي، ولما بلغ السابعة عشر (1564) كان بين موظفي كونت شاروليه. حتى إذا أصبح الكونت، شارل الجسور، وأسر لويس الحادي عشر في بيرون، لم يرضَ كومين عن سلوك الدوق، ولعله تنبأ بسقوطه، فتحول راشداً إلى خدمة الملك. فجعله لويس حاجباً له وأسبغ عليه الإقطاعيات، وأرسله شارل الثاني في وفادات دبلوماسية هامة. وأنشأ كومين في الوقت نفسه أثرين كلاسيين من الأدب التاريخي: أحدهما مذكرات وتاريخ الملك لويس الحادي عشر، وثانيهما تاريخ الملك شارل الثامن-وهما سرد نثري بلغة فرنسية واضحة بسيطة كتبهما رجل عرك الدنيا وشارك في الأحداث التي وصفها.

وهذان الكتابان شاهدان على الثروة غير العادية الأدب الفرنسي في المذكرات. ولهما أخطاؤهما: فالحرب تكاد تستغرقهما وليس فيهما من الطرافة والحياة ما في فرواسار أو فيلاارودين أو جوانفيل، وفيهما كثير جداً من عبارات حمد الله والثناء عليه، ذلك عند الإعجاب بسياسة لويس الحادي عش الغاشمة. وكثيراً ما ينقطع عن السرد ويتعثر في سقطات من اللغو. وعلى الرغم من هذا كله فإن كومين هو أول مؤرخ فلسفي: فهو يبحث عن العلاقة بين العلة والمعلول، ويحلل الشخصيات والحوافز والمزاعم ويحكم على الأخلاق حكماً موضوعياً ويدرس الأحداث والوثائق الأصلية ليوضح طبيعة الإنسان والدولة. ولقد سبق بهذه الملاحظات ميكافلي وجويكشيارديني في تقديره المتشائم للإنسانية في قوله: "لا الفعل الفطري، ولا معرفتنا، ولا حبنا لجارنا ولا شيء آخر غير هذا، يكفي دائماً لأن يمنعنا من استعمال العنف بعضنا مع بعض أو يحول بيننا وبين الاحتفاظ بما كان معنا. أو يصرفنا عن اغتصاب أملاك الآخرين بكل الوسائل الممكنة.. والأشرار يصبحون أكثر شراً على معرفتهم، أما الأخيار فيزداد صلاحهم إلى أقصى حد". وكان عنده، مثل مكيافلي، أمل في أن كتابه يعلم الأمراء الحيلة أو حيلتين قال: " ولعل السفلة لا يزعجون أنفسهم بقراءة هذه المذكرات، أما الأمراء... فقد يقبلون عليها، ويجدون بعض المعارف التي تكافئهم على متاعبهم... لأنه على الرغم من أن الأعداء والأمراء ليسوا دائماً سواء، فإن، أعمالهم واحدة في العادة، ومن المفيد دائماً أن تخبر عما مضى.. فإن من أعظم الوسائل التي تجعل الإنسان حكيماً، أن يدرس التواريخ.. وأن يتعلم كيف يحدد ويلائم بين أحاديثنا وأعمالنا وبين النموذج والمثال اللذين كان عليهما أسلافنا. وما حياتنا إلا فترة قصيرة، غير كافية لتمدنا بالتجربة عن أشياء جد كثيرة".

واتفق شارل الخامس، أحكم الحكام المسيحيين في عصره، مع ديكومين ووصف "المذكرات" بأنها كتاب صلواته. وفضل الجمهور القصص الخيالي والمسرحيات الهزلية والهجائيات وفي عام 1508 ظهرت النسخة الفرنسية من "أماديس دي جول" واستمرت حوالي عشر فرق تعرض مسرحيات الخوارق والأخلاقيات والهزليات والمساخر وهي حماقات تسخر من كل إنسان حتى القسس والملوك. وكان بيير جرنجور من أساتذة هذا الفن يكتب ويمثل هذه المساخر بحماسة ونجاح طوال جيل كامل. وأقدم مسرحية هزلية في الأدب الفرنسي هي "السيد بيير باتيلان، ولقد مثلت أول مرة حوالي عام 1464 كما مثلت بعد ذلك بأمد طويل عام 1872.وباتيلان محام فقير يتلهف على القضايا. وهو يلح على بائع صوف أن يبيعه ستة أذرع من الثياب ويدعوه إلى الغداء معه في ذلك المساء ليتسم الثمن. فلما جاء التاجر، كان باتيلان في فراشه يئن من حمى مزعومة. ويصرح أنه لا يعرف شيئاً عن أذرع الثياب والغذاء. فينصرف التاجر مشمئزاً، فيلعن راعي أغنامه، ويتهمه بالتصرف سراً في بعض الخراف، ويجره أمام القاضي. وهنا يبحث الراعي عن محامٍ زهيد الأجر فبعثر على باتيلان، الذي دربه على أن يمثل دور الأبله وأن يجيب على جميع الأسيئلة بثغاء "الشاه" باء، وتحير القاضي من هذا الثغاء وارتبك من خلط التاجر في شكواه بين الراعي والمحامي، فأعطى فرنسا كلمة مأثورة تدعو فيها كل فريق وهي "فلنعد إلى هذه الأغنام" ولما يئس من الحصول على دليل منطقي في هذه الضجة، رفض القضية وطالب باثيلان المنتصر بأجره ولكن الراعي أجابه بثغاء الشاة "با"، ومكر الأبله بالمحتال البارع. وتتكشف لبقصة بكل ما في الروح الغالية من مهاترة. ولعل رابيليه قد ذكر باتيلان عندما فكر في بانورج، وموليير قد تقمص جرنجور والمؤلف المجهول لهذه المسرحية. والشخصية التي لا تنسى في الأدب الفرنسي في القرن الخامس عشر هي شخصية فرانسوا فيون. فلقد كذب وسرق وغش وارتكب الفاحشة وقتل، مثله في ذلك مثل ملوك عصره ونبلائه، ولكنه كان أكثر تعقلاً. وبلغ الفقر منه مبلغاً جعله لا يملك حتى اسمه. ولقد ولد فرنسوا دي مونتكوربييه (1431) ونشأ في غمرات الطاعون والبؤس بباريس، وتبناه قسيس طيب اسمه جويوم دي فيون، فأخذ فرانسوا لقب هذا "الكفيل" فلطخه بالعار وأسبغ عليه الخلود في وقت واحد، وصبر جويوم على فرار الصبي من المدرسة وعبثه ودفع له نفقات تعليمه في الجامعة، واستراح في زهو عندما حصل فرنسوا على درجة ماجستير في الآداب (1452)، وزوده بالطعام والمسكن في أروقة كنيسة سانت بنوا ثلاث سنوات بعد ذلك منتظراً أن يبلغ الأستاذ مرحلة النضج.

وليس من شك في تحول فرنسوا من التقوى إلى الشعر ومن علوم الدين إلى السرقة قد أحزن جويوم وأم فيون وكانت باريس تزخر بالخلعاء والبغايا والدجالين والنشالين والشحاذين وحماة العاهرات والقوادين والسكارى، فما كان من الشاب المستهتر إلا أن اتخذ له أصدقاء في كل طائفة، وعمل ديوثاً فترة من الزمان. ولعله حصل من الدين فوق ما يطيق، ولم يسغ الحياة في الدير، فمن العسر بوجه خاص أن يستجيب ابن رجل الدين للوصايا العشر. وفي الخامس من يونيه عام 1455 بدأ "قسيس يدعى فيليب شرموي، العراك مع فرنسوا (كما يقول بنفسه)، وقطع شفته بمدية، فما كان من فيون إلا أن أصابه بجرح عميق في فخذه، ولم يمضِ أسبوع حتى كان فيليب قد أسلم الروح وأصبح بطلاً بين رفاقه، وخارجاً على القانون يطارده الشرطة، ففر الشاعر من باريس، وظل حوالي سنة مختفياً في الريف.

وعاد هزيلاً شاحباً، جامد الملامح وخشن البشرة، ساهر العين حذر الشرطة، يحطم الأقفال حيناً والجيوب أحياناً، يستشعر الجوع إلى الطعام والحب. وأصبح عاشقاً لصبيه بورجوازية، احتملته حتى تجد فارساً أخيراً منه، يتغلب عليه، فزاد حبه لها، ولكنه سجل ذكراه بعد ذلك بأنها "سيدتي ذات الأنف الأعوج". وأنشأ حوالي ذلك الوقت (1456) "العهد الصغير"، وهو أقصر وصاياه، الشعرية فقد كان عليه أن يفي بديون كثيرة وأن يصلح أخطاء كثيرة أيضاً، ولا يستطيع أن يتنبأ متى يختم حياته على حبل مشنقة. وهو يهجو عشيقته على قلة لحمها، ويبعث بجوربه الطويل إلى روبرت فاليه، "لكي يلبس خليلته رداء أكثر احتشاماً"، وأوصى لبرنيه مارشان "بثلاث حزم من القش أو العشب الجاف، ليضعها فوق الأرض العارية لينام عليها، ويمارس لعبة الحب"، ويمنح حلاقه "أطراف شعري وقصاصاته"، ويترك قلبه، محزوناً شاحباً ميتاً لا إحساس فيه، إلى التي "أبعدت عينها عني".


وبعد أن تجرد من كل هذه الثروة، وجد نفسه مفتقراً إلى الخبز واشترك ليلة عيد الميلاد عام 1460 مع ثلاثة آخرين في السطو على كلية نافار، وسرقت العصابة حوالي خمسمائة كراون. ولما اطمأن فرنسوا إلى نصيبه الكبير من هذه المغامرة استأنف إقامته في الريف. واختفى عن نظر التاريخ عاماً واحداً، ثم نجده في شتاء عام 1457 بين الشعراء الذين أكرم وفادتهم، شارل صاحب أورليان، في بلوا... وأسهم فيون في مباراة شعرية هناك، ولا بد أنه قد أمتع، لأن شارل أبقاه ضيفاً عليه أسابيع، وأفعم كيس الشاب الخاوي بالمال ، ثم حدثت بينهما مشادة أو مشاجرة قضت على صداقتهما، وعاد فرانسوا إلى عرض الطريق، ينظم قصيدة اعتذار. وتجول جنوباً إلى بورجس، واستبدل بقصيدة هدية من الدوق جون الثاني أمير بوربون، وطوف حتى بلغ روسلون. ونحن نتصوره من شعره، رجلاً يعيش على الهبات وتاديون، على الفاكهة والجوز والدجاج يلتقطها من المزارع على طوال الطريق، يتحدث إلى الفتيات الريفيات وبنات الهوى في الحانات. مغنياً أو مصفراً على الطريق الكبيرة، يراوغ الشرطة في المدن. ثم لا نقع له على أثر مرة أخرى، وإذا به يظهر فجأة بأحد السجون في أورليان (1460) وقد حكم عليه بالإعدام.

ولسنا نعرف ما الذي أوصله إلى هذا المصير، وكل ما نعرفه أن ماري أميرة أورليان ابنة الدوق الشاعر، دخلت في يولية من هذا العام المدينة رسمياً، وأن شارل احتفل بهذه المناسبة بأن أعلن عفواً عاماً عن المسجونين. فانتقل فيون من الموت إلى الحياة في نشوة من الفرح. وسرعان ما استبد به الجوع فعاد إلى السرقة، فقبض عليه وحوسب على فراره المتنكر قبل ذلك- وزج به في سجن ينفذ منه المطر في قرية مونج- سير- لوار بالقرب من أورليان. وعاش هناك شهوراً مع الجرذان والضفادع يعض على شفتهِ الممزقة، ويقسم ليثأر من عالم يعاقب اللصوص ويترك الشعراء يموتون جوعاً. ولم يكن العالم كله قاسياً. فقد أصدر لويس الحادي عشر، وهو يمر في أورليان، عفواً عاماً آخر. وأختير فيون أنه أصبح حراً، فرقص على حصير السجن الفاند انجو . واندفع إلى باريس أو قريباً منها ونظم إذ ذاك وهو عجوز أصلع مفلس في الثلاثين. أعظم قصائده، التي أسماها ببساطة "الأناشيد"، وأطلق أعقابه عليها، وقد ودجدوا الكثير منها يصاغ مرة أخرى في صورة وصايا تهكمية با"م "العهد الكبير" (1461-1462).

وهو يهب نظارته إلى المستشفى للمكفوفين المعوزين حتى يميزوا "إن استطاعوا" الطيب من الخبيث والعظيم من الوضيع، بين العظام في مدافن الأبرياء. وسرعان ما استولت عليه إبان حياته فكرة الموت. فتفجع على زوال الجمال وتغنى بأنشودة جميلات الأمس:


قل لي أين، وفي أي أرض للظلال،



تقيم فلورا الجميلة من روما، وأين



تاييس وارشيبياد،



بنتا العم بجمالهما النادر



والصدى، وجماله الخارق



وهو الذي كلما ناداه المرء عند تدفق نهره



أو سار، أجاب من خارج الأرض؟



وماذا صار إليه جليد العام الماضي؟


وهو يرى خطيئة الطبيعة التي لا تغتفر، أن تفتننا بالمحبة ثم تذيبها بين أذرعنا. وأشد قصائد مرارة "مرثية الجميلة صانعة الخوذات":


أين ذلك الجبين الواضح البلوري؟



والحاجبان المقوسان والشعر الذهبي؟


العينان البراقتان، أين هذا الآن،



وقد فتن أحكم الحكماء؟



الأنف الصغير المستقيم الجميل،



والأذن الصغيرة الرقيقة البديعة،



أين الذقن الذي له طابع الحسن، وأين



والشفتان المضمومتان الحمراوان الواضحتان؟


ويستمر الوصف من فتنة إلى فتنة، ولم يترك شيئاً، ثم تذوي كل واحدة منها صلاة مرددة حزينة...


وتغصن النهدان وانقشعا،



وانسحب الردفان كالنهدين



ولم يعد الفخذان فخذين،



لقد ذبلت جميعاً كما ذبلت العضلات


ومن العجيب أنها تعني هنا المنبار المحشو، وهكذا لم يعد فيون يعشق الحب أو الحياة، فيوصي بجمسه إلى التراب:


إنني أهب جسمي، أيضاً



إلى الأرض، جدتنا



وستجد الديدان فيه مع ذلك غنيمة صغيرة؟



فقد أنهكه الجوع أعواماً طوالاً.


ويترك كتبه إلى أبيه الذي تبناه معترفاً بجميلهِ، وهدية وداعه لأمه العجوز، أنشودة متواضعة ينظمها للعذراء. وهو يطلب الرحمة للجميع إلا الذين زجوا به في السجن: الرهبان والراهبات والمهرجين والمغنين والحشم والشجعان، "أيها الماجنون الذين يبرزون كل مفاتنهم.. أيها المشاغبون والمحتالون والبهلوانات المرحة، والمهرجون يعرضون قردهم، وينشرون سجاجيدهم... الطيبون البسطاء الأحياء منهم والأموات-إنني أدعوا بالرحمة الشاملة، لكل فرد منكم وللجميع". وهكذا..


وهنا ختام عهد فيون (الكبير والصغير معاً).



ختام عهد فيون المسكين.. فعندما يطويه الموت،



أناشدكم أن تحضروا جنازته،



عندما يصلصل الجرس فوق الرؤوس..



أيها الأمير، الرقيق كصقر محول،



اسمع ما صنعه مع آخر زفراته،



لقد احتسى رشفة طويلة من رحيق النبيذ الأحمر،



عندما شعر باقتراب منيته.


وعلى الرغم من هذه الوصايا وتحيات الوداع، فإنه لا يستطيع أن يفرغ كأس الحياة متعجلاً. وفي عام 1462 عاد إلى جويوم دي فيون وأروقة الدين، وابتهجت به أمه. ولكن القانون لم يغفل عنه. وطلبت كلية نافار أن يقبض عليه، ووافقت على إخلاء سبيله يشرط أن يدفع نصيبه من السرقة، منذ ست سنوات-أي أن يدفع أربعين كراون سنوياً لمدة ثلاث سنوات. وكان سيئ الطالع في ليلة إخلاء سبيله. لوجوده مع اثنين من رفاقه المجرمين القدامى، عندما دفعهم السكر إلى شغب طعن فيه أحد القساوسة. ويبدو أن فيون كان لا مؤاخذة عليه في هذا الأمر، فانسحب إلى غرفته، وصلى ينشد الطمأنينة، ومع ذلك فقد فبض عليه مرة أخرى، فعذب بصب الماء في حلقه حتى كاد ينفجر، ومما أدهشه أن يحكم عليه بالإعدام شنقاً. ولبث في سجن ضيق، أسابيع، بين اليأس والرجاء وتوقع الموت لنفسه ولصاحبيه فأنشأ وداعاً مؤثراً للعالم:


أيها الناس، أيها الاخوة الذين يعيشون بعدنا،



لا تجعلوا قلوبكم جد قاسية علينا،



فإنكم إن منحتمونا نحن المساكين بعض حسراتكم،



فإن الله سرعان ما يأخذ عنكم هذه الحسرات.



نحن هنا خمسة أو ستة معلقون، كما ترون،



وهنا اللحم، الذي كان كله حسن الغذاء،



مأكولاً متعفناً قطعته بعد، مقطعاً ممزقاً،



ونحن العظام نصير مع الجمع إلى تراب ورماد،



لا تدعوا أحداً يضحك علينا نحن الأشقياء،



بل ادعوا إلى الله أن يغفر لنا جميعاً..



لقد غمرنا المطر وغسلنا نحن الخمسة جميعاً،



وجففتنا الشمس وأحرقتنا، نعم، هلكنا،



فالغربان والجوارح بمناقيرها التي تشوه وتمزق،



قد سلمت أعيننا، وانتزعت لحانا وحواجبنا



أجراً لها، لن نكون أحراراً أبداً،



ولا مرة واحدة، لنستريح، وإنما تتعجلنا هنا وهناك



وتستاقنا بإرادتها الغشوم الرياح المتقلبة،



وتنقرنا الطيور أكثر مما تنقر الفاكهة على أسوار البساتين،



أيها الناس، أقسم عليكم بحب الله، ألا تدعوا كلمة سخر تقال هنا،



ولكن ادعوا الله أن يغفر لنا جميعاً.


وكان لا يزال عنده بصيص من الأمل، فألح فيون على سجانه أن يحمل رسالة إلى أبيه الذي تبناه، ليحمل إلى محكمة البرلمان استئنافاً لحكم واضح الظلم. وتدخل جويوم دي فيون من أجل الشاعر مرة أخرى، وهو الذي يستطيع أن يغفر للناس مرات ومرات، فلا بد أن تكون للشاعر بعض الفضائل تشجع على حبه. وفي الثالث من يناير عام 1463، نطقت المحكمة بحكمها وأمرت بالآتي: .. يلغى الحكم السابق، وبعد أن وضعت في الاعتبار سوء خلق فيون المذكور-ينفى عشر سنوات من المدينة.. وكونتية وباريس. فشكر فرانسوا المحكمة في نشيد مرح، والتمس مهلة ثلاثة أيام "للإعداد لرحلتي ووداع قومي". فسمح له بذلك، وأغلب الظن أنه رأى أباه وأمه للمرة الأخيرة. وجمع أمتعته، وأخذ زجاجة النبيذ وكيس النقود اللذين أعطاهما إياه جويوم الطيب، وتلقى بركاته وخرج من باريس ومن التاريخ. ولم نعد نسمع عنه شيئاً بعد ذلك.

كان لصاً، ولكنه كان لصاً مطرباً، والعالم في حاجة إلى الطرب. وكان يستطيع أن يكون فظاً مريراً كما في أنشودة "ماجو البدينة" ورمى النساء اللائى لا يستجبن لرغباته بالأوصاف المفحشة، وكان يتجاوز الحد في تصريحه بتفاصيل الجسم الإنساني. ونحن نستطيع أن نغتفر هذا كله من أجل الآثام التي اقترفت في مقابل آثامه، والرقة المنبعثة من روحه دائماً، الموسيقى الشجية في شعره. ولقد دفع عقوبة ما كان عليه، وخلف لنا المثوبة فقط.



الفصل السادس: إنجلترا في القرن الخامس عشر 1399 - 1509

الملوك

وما كاد يجلس هنري الرابع على العرش، حتى تحدته الثورة. فلقد تخلص أوين جلن دُوير من السيطرة الإنجليزية في ويلز إلى حين (1401-1408)، ولكن هنري الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الخامس، وكان يوم ذاك أمير ويلز، تغلب عليه بخطة عسكرية مباغتة، ومات أوين جلندوير، بعد لحظات من تبليغه العفو الكامل عنه، من المنتصر الشهم وذلك بعد أن أمضى ثماني سنوات مطارداً في حصون ويلز ونجادها. وقاد هنري برسي ايرل نورثمبرلند، بعض نبلاء الشمال في ثورة، أراد لها أن تساير في الزمن ثورة أوين جلندوير، ضد ملك لم يستطع أن يفي بالعهود التي قطعها لهم على نفسه، في مقابل معونتهم إياه على خلع رتشارد الثاني؛ وقاد هاري، الابن المستهتر للايرل، الملقب "بالمهماز الحاد" (وهو الذي صورة شكسبير شخصية محبوبة بلا مبرر) قوة عسكرية مترددة غير كافية ضد الملك في شروزبري (1403)، وهناك مات الفتى في بطولة حمقاء، وأبلى هنري الرابع في الصفوف الأولى من القتال بلاءً حسناً، وأطهر ابنه "أمير هل" المرح المتلاف شجاعة جديرة بالظفر بأجنكورت وفرنسا. ولم تترك هذه الثورات وغيرها من المتاعب لهنري إلا فسحة ضئيلة من الوقت أو الحماسة للسياسة، وكانت موارده أقل من نفقاته، كما اختلف بلا كياسة مع البرلمان، وختم ملكه بين الفوضى المالية وأصابته بمرض الجذام، وهبوط المستقيم والمرض التناسلي. قال هولنشد "إنه انتقل إلى جوار ربه في السادسة والأربعين من عمره.. في ارتباك عظيم ومتاع قليل".

وتذهب الروايات ويذهب شكسبير إلى أن هنري الخامس قد أمضى شباباً طليقاً ماجناً، وأنه تآمر للاستيلاء على العرش، حتى على أب، أقعده المرض وإن تشبث بالسلطان. ويكتفي المؤرخون المعاصرون بمجرد الإشارة إلى ملذاته، ولكنهم يؤكدون لنا، أنه بعد توليه العرش "تحول إلى رجل آخر، ودرس كيف يكون أميناً شجاعاً مهذباً". وهذا العابث مع السكارى والخليعات، يقف نفسه الآن، على قيادة عالم مسيحي موحد ضد الأتراك الزاحفين، وأضاف إلى ذلك أنه يجب أولاً أن يغزو فرنسا ولقد حقق غايته القريبة بسرعة مذهلة، وهكذا جلس أحد الملوك الإنجليز على عرش فرنسا لحظة مضطربة. وقدم له الأمراء الألمان فروض الولاء وفكروا في تنصيبه إمبراطوراً. وقد نافس قيصر بصورة مجملة في وضع خطط المعارك، وإمداد جيوشه بالمئونة، وحب جنده له. وفي تعريض نفسه لجميع الوقائع والأجواء. ومات فجأة بالحمى في بوادي فنسن (1422) ولما يزل شاباً في الخامسة والثلاثين.

وأنقذ موته فرنسا، وكاد يقوض أركان إنجلترا. وربما كانت شيعته تغري، دافعي الضرائب بإنقاذ الحكومة من الإفلاس، ولكن ابنه هنري السادس كان، عند توليه العرش، في الشهر التاسع من عمره فقط، وكانت النتيجة السيئة أن أغرق نواب الملك الفاسدون والقادة غير الأكفاء، الخزانة في دين تعجز عن تسديده. كما كان الحاكم الجديد أقصر باعاً من الملك، فهو دارس دقيق عصبي المزاج شغوف بالدين والكتب، ترتعد فرائصه من فكرة الحرب، وندب الإنجليز حظهم العاثر الذي أفقدهم ملكاً وأكسبهم قديساً.. وفي عام 1452 أصيب هنري السادس بالجنون على منوال شارل السادس ملك فرنسا. ووقع وزراؤه بعد عام واحد، صلحاً يعترف بهزيمة إنجلترا في حرب المائة عام.

وحكم رتشارد، دوق يورك، عامين باعتباره حامياً للملك. وصرفه هنري عن منصبه (1454) في لحظة من لحظات التعقل، فادعى الدوق الغاضب، العرش لأنه من نسل إدوارد الثالث، واتهم الملوك من أسرة لانكستر بأنهم مغتصبون، وانظم سالسبوري ووروك وغيرهم من البارونات في حرب الوردتين-الوردة الحمراء تمثل آل لانكستر والبيضاء آل يورك-التي ظلت إحدى وثلاثين سنة (1454-1485) يتحرش فيها النبيل بالنبيل وكأنما تقدم الأرستقراطية الأنجلو نورماندية على انتحار متواصل، وتركت إنجلترا فقيرة ومنعزلة، وكان لا بد أن يسرح الجنود نتيجة لسلام غير مألوف لهم، فكرهوا أن يعودوا إلى زمر الفلاحين، وانظموا إلى كل من الفريقين، ونهبوا القرى والمدن، وقتلوا بلا وازع من ضمير كل من يقف في طريقهم. وقتل دوق يورك في موقعة عند ويكفيلد التي ذكرها جولد سمث في روايته المشهورة (1460)، ولكن ابنه إدوارد ايرل مارش، استمر في الحرب بلا رحمة، وذبح جميع الأسرى، المنتسبين وغير المنت"بين، بينما قادت مرجريت أميرة أنجو، والزوج العقيم لهنري الطيب، آل لانكستر في دفاعهم عن حوزتهم في وحشية لا تعترف بالحياء وانتصر مارش في توتن (1461)، فقضى بذلك على أسرة لانكستر الماكلة، وأصبح أول ملك من أسر يورك، وتلقب بإدوارد الرابع.

ولكن الرجل الذي حكم إنجلترا في واقع الأمر، السنوات الست التالية، هو رتشارد نيفيل، اريل وروك. وهو رأس عشيرة غنية كبيرة العد، وكانت له شخصية آسرة محببة، كما كان داهية في السياسة، بارعاً في الحرب، فإن الفضل إنما يرجع إلى "وروك صانع الملك" في الانتصار في توتن، وهو الذي أجلس إدوارد على العرش. ووقف الملك التي استراح من الصراع، نفسه على النساء، في حين أحسن وروك الحكم حتى إن إنجلترا بأسرها جنوبي تاين وشرقي ستون (لأن مارجريت كانت لا تزال تحارب) أسبغت عليه جميع ألقاب التشريف ما عدا لقب الملك. ولما ثار إدوارد على الواقع وناصبه العداء، انظم وروك إلى مارجريت وطرد إدوارد من إنجلترا وأعاد هنري السادس إلى السلطة الإسمية (1470) وأخذ يحكم مرة أخرى. ولكن إدوارد نظم جيشاً بمعونة برجنديا. وعبر إلى هل، وهزم وروك وقتله في بارنت وهزم مارجريت في توكسبري (1471) وأمر بقتل هنري السادس في القلعة، وعاش سعيداً في آخر حياته بعد ذلك. وكان إذ ذاك لا يزال في الواحدة والثلاثين من عمره. ولقد وصفه كومين بقولهِ "كان من أجمل رجال عصره، لا متعة له غير النساء والرقص والتسلية والقنص". ولقد أفعم خزانته بمصادرة ضياع آل نيفيل، وبقبول رشوة من الملك لويس الحادي عشر في مقابل الصلح معه مقدارها مائة وخمسة وعشرون ألف كراون مع وعد بخمسين ألفاً أخرى كل سنة. وبلغ من طمأنينته أن تجاهل البرلمان، الذي كانت فائدته بالنسبة إليه، الموافقة على ما يريد من المال. وأحس بالاستقرار، فاستسلم مرة أخرى للترف والخمول، ولبس الفاخر من الثياب، وأصبح سميناً مرحاً، ومات في الواحدة والأربعين من عمره، وقد بلغ أوج سلطانه واكتملت جوانب شخصيته (1483).

وخلف ولدين: إدوارد الخامس البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة، ورتشارد، دوق يورك، في التاسعة. وكان عمهما رتشارد، دوق جلوسستر، خدم الدولة في السنوات الست التي خلت رئيساً للوزارة، في جد وورع وبراءة، حتى إنه لما نصب نفسه نائباً للملك، وافقت إنجلترا عليه بلا معارضة، على الرغم من أطرافه المشوهة وظهره المقوس وملامحه الجافية وكتفه اليسرى المرتفعة على كتفه اليمنى. وسواء أكان الباعث نشوة السلطان أو مجرد الشك في تدبير المؤامرات لخلعه، فإن رتشارد سجن عدداً من الأعيان، وأعدم أحدهم. وفي السادس من يوليو عام 1483 توج نفسه ملكاً باسم رتشارد الثالث، وفي الخامس من الشهر نفسه قتل الأميران الصغيران في القلعة، ولم يعرف أحد من الذي قتلهما. وثار النبلاء مرة أخرى، يقودهم في هذه المرة، هنري تيودور، ايرل رتشمند. ولما التقت قواتهم الصغيرة، بجيش الملك، المتفوق في العدد إلى حد كبير في بوسورث (1485)، رفض معظم جنود رتشارد القتال، ومات في مطاردة يائسة، مفتقراً إلى الملك وإلى جواد.. وانتهت بذلك أسرة يورك المالكة، وبدأ ايرل رتشمند، أسرة تيودور وتلقب بالملك هنري السابع، وهي الأسرة التي تنتهي بإليزابث.

ومارس هنري، تحت وطأة الضرورة، الفضائل والرذائل التي تصور له أن منصبه يتطلبها. ولقد رسم له هلبين صورة جدارية في هوايت هول يبدو فيها طويلاً، ممشوقاً لا لحية له، مفكراً عطوفاً. لا تكاد تنم ملامحه على التدبير الماكر الغامض، والكبرياء العبوس الثابتة، والعزيمة المرنة وإن كانت صلبة في مصابرتها، وهي الصفات التي نقلت إنجلترا من الانحلال والفقر، في عهد الملك هنري السادس، إلى الثروة والسلطة المركزة في عهد هنري الثامن. ويقول بيكون أنه كان يحب "ما تجلبه الخزائن المفعمة للناس من غبطة"، لأنه عرف قدرتها على الإقناع في السياسة. فبرع في فرض الضرائب على الأمة، واستنزف دماء الأغنياء بالصدقات والهدايا بالإكراه، واستغل الغرامات في شراهة لتكون مورداً لخزانته ورادعاً للجريمة، وكان يبتهج كلما رأى القضاة يلائمون بين الغرامة وبين جيب المحكوم عليه، لا بينها وبين المخالفة. وهو أول ملك إنجليزي منذ عام 1216 جعل نفقاته في حدود دخله، وصدقاته وهباته تخفف من وطأة شحه. ووقف نفسه بإخلاص على شؤون الإدارة، وقلل من ملاهيه ليستكمل عمله: وأظلم الشك الدائم حياته، ولم يكن ذلك بغير سبب، فلم يثق في أحد، وكان يخفي أغراضه، ويحقق أهدافه بوسائل مشروعة أو غير مشروعة. وأنشأ محكمة ستارتشمبر لمحاكمة النبلاء المشاغبين، الذين بلغ سلطانهم حداً يخشى منه على التأثير في القضاة المحليين والمحلفين. وذلك في جلسات سرية. واستطاع عاماً بعد عام أن يخضع الأرستقراطية المتخلفة، وطبقة رجال الدين الخائنة للملكية. وعارض بعض الأفراد الأقوياء، القضاء على الحرية وتعطيل البرلمان، ولكن الفلاحون صفحوا، عن ملك كبح جماح سادتهم، وأثنى الصناع والتجار عليه، لعمله الحكيم على النهوض بالصناعة والتجارة. ولقد وجد إنجلترا في فوضى إقطاعية، وحكومة جد فقيرة، لا سمعة لها بحيث تحصل على الطاعة والولاء، وخلف لهنري الثامن دولة محترمة منظمة، مؤتمنة موحدة وفي حالة سلم.

نمو الثروة الإنجليزية

من الواضح أن ثورة عام 1381 العظيمة لم تسفر عن كسب ما. فلم يزل الكثير من فروض العبودية يؤخذ قسراً، بل إن مجلس اللورادت قد رفض بعد ذلك بزمان، في عام 1537 قانوناً يقضي بالتحرير الكامل لعبيد الأرض. وازداد الضيق على "العامة"، وأصبح آلاف من رقيق الأرض المتحررين عمالاً يدويين في المدن لا يملكون شيئاً، وقال توماس مور، إن الأغنام كانت تأكل الفلاحين.. وكانت هذه الحركة طيبة من بعض الوجوه: فقد كانت الأغنام الراعية للكلأ، تسمد الأرض المشرفة على البوار, وما إن جاء عام 1500 حتى كان واحد في المائة من السكان فقط عبيد أرض. فنشأت طبقة من الفلاحين الملاك، الذين يزرعون أرضها بأنفسهم وهي التي منحت تدريجياً للرجل الإنجليزي العادي، الشخصية المستقلة القوية التي صهرت الكومنولث وكونت دستوراً غير مكتوب لحرية غير مسبوقة.

ولم يعد النظام الإقطاعي مجدياً، لأن الصناعة والتجارة ارتقيتا بحيث اتخذتا الطابع القومي، وتحولتا إلى اقتصاديات المال المنقول المرتبطة بالتجارة الخارجية. فحينما كان رقيق الأرض ينتج لسيده، لم يكن عنده إلا حافز ضئيل للتوسع أو الإقدام، ولكن عندما يستطيع الفلاح المتحرر والتاجر، أن يبيعا إتناجهما في السوق الحر، فإن الرغبة الملحة في الربح تبعث الحياة الاقتصادية في الأمة، وأخذت القرى ترسل مزيداً من الطعام إلى المدن، وتنتج المدن مزيداً من السلع للوفاء بثمن هذا الغذاء، هكذا تجاوز تبادل الفائض، حدود البلديات القديمة وقيود النقابات لتغمر إنجلترا، وتصل إلى ما وراء البحر.

وتحولت بعض النقابات إلى "شركات تجار" صرح الملك لها أن تبيع المنتجات الإنجليزية في الخارج. وكانت معظم التجارة الإنجليزية تحمل في القرن الرابع عشر على سفن إيطالية، أما الآن فإن البريطانيين يبنون سفنهم، ويسيرونها في بحر الشمال والساحل الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. وقاوم تجار جنوه والاتحاد الهنسياتي، هؤلاء الوافدين الجدد، وحاربوهم بالقرصنة ومصدارة السفن، ولكن هنري السابع، اقتنع بأن تقدم إنجلترا يتطلب التجارة الخارجية، فوضع الملاحة الإنجليزية في حماية الحكومة، وأعد مع أمم أخرى، اتفاقيات تجارية، أقرت النظام والأمن البحريين. حتى إذا وافى عام 1500، كان "التجار المغامرون" في إنجلترا، يسيطرون على بحر الشمال. وكان الملك بعيد النظر فأوفد وهو يستشرف التجارة مع الصين واليابان الملاح الإيطالي جيوفاني كابوتو، الذي عاش إذ ذاك في بريستول باسم جون كابوت، ليبحث عن ممر شمالي عبر الأطلنطي (1497). وقنع كابوت، باكتشاف نيوفوندلاند، والساحل من لبرادور إلى ديلاوير في رحلة ثانية (1498)، ومات في تلك السنة، وتحول ابنه سيباستيان إلى خدمة أسبانيا. وربما لم يدرك الملاح والملك أن هذه الرحلات، استهلت التوسع الإمبراطوري البريطاني؛ وفتحت للتجارة الإنجليزية والمستعمرين البريطانيين، إقليماً يمكن أن يصبح على الأيام-القوة الخلاص لإنجلترا. ودعّمت الرسوم الجمركية الوقائية، الصناعة القومية، وخفض النظام الاقتصادي، سعر الفائدة، تخفيضاً كبيراً بلغ 5% أحياناً، وقضى قانون هنري السابع (1490) بـ:

"على كل رئيس عمل أو عامل أن يكون في عمله، بين منتصف شهري مارس وسبتمبر، قبل الساعة الخامسة صباحاً، وله نصف ساعة فقط لتناول إفطار، وساعة ونصف لغذائه (في الظهيرة) وهو يستطيع النوم، إن وجد فسحة له في تلك الفترة.. وعليه ألا يترك عمله.. إلا بين الساعة السابعة والثامنة مساء..، وعلى كل رئيس عمل وعامل أن يكون في عمله عند انبلاج الصبح وذلك في منتصف سبتمبر إلى منتصف مارس، وألا يغادره إلا بمجيء الليل.. ولا يسمح لأحدهم بالنوم نهاراً". ومع ذلك فإن العمال كانوا يستريحون ويشربون الخمر أيام الآحاد، إلى جانب إجازة أربع وعشرين يوماً في السنة. ووضعت الدولة أسعاراً عادلة "لكثير من السلع، وقد سمعنا عن اعتقالات حدثت، لتجاوز هذه الأسعار. وكانت الأجور الحقيقية، بالنسبة إلى الأسعار، أعلى بشكل واضح في أواخر القرن الخامس عشر، عما كانت عليه أوائل القرن التاسع عشر. وأدى ضغط ثورات العمال في إنجلترا، إبان ذلك العصر إلى الحصول على حقوق سياسية والوقوع في أخطاء اقتصادية واستمرت دعوة شبيهة بالشيوعية في كل سنة تقريباً، وذكر العمال مراراً "بأنكم مخلوقون من نفس الطينة والمادة اللتين خلق منهما الأشراف، فلماذا أذن يتريضون ويلعبون، وأنتم تعملون وتكدحون؟-ولماذا يملكون الكثير جداً مما في هذا العالم من ثروات وكنوز، وأنتم تملكون أقل القليل؟" وكانت أعمال الشغب كثيرة، ضد التضييق على الأرض المشاع، كما قامت خلافات موسمية بين التجار والعمال، ولكننا نسمع أيضاً عن قلاقل من أجل الديمقراطية المحلية في المدن، وعن تمثيل العمال في البرلمان وعن تخفيض الضرائب. وفي شهر يونيه عام 1450، سارت قوة منظمة كبيرة من الفلاحين وعمال المدن إلى لندن، وعسكرت في بلاك هيث. وعرض زعيمهم جاك كيد ظلامتهم، في وثيقة منظمة "إن جميع الناس من العامة، لا يستطيعون أن يعيشوا من كد أيديهم وفلاحتهم، بسبب الضرائب والمغارم وغيرها من المظالم". ولا بد أن يلغى هذا الدستور العمالي، وأن تتألف وزارة جديدة. فاتهمت الحكومة زعيمهم كيد بالدعوة إلى الشيوعية . والتقى جنود هنري السادس، وأتباع بعض النبلاء، بجيش الثوار في سنفوكس (18 يونيه سنة 1450) ومما أثار دهشة الجميع أن الثوار انتصروا وتدفقوا إلى لندن. وأمر مجلس الملك تهدئة لخواطرهم باعتقال لورد ساي ووليم كرومر، وهما موظفان مكروهان لابتزازهما الأموال وطغيانهما. وفي الرابع من يوليه، سلما إلى الغوغاء الذين حاصروا القلعة، فحاكمهما الثوار، وقد رفضا الدفاع عن نفسيهما وأعدما. ويقول هولنشد: إن الرأسين رفعا على قضيبين، وحملا عبر الطرقات في موكب مرح، وكان فم كل منهما يصفع بقبلة دامية، بين حين وآخر. وتفاوض كبير أساقفة كانتربري وأسقف ونشستر للصلح، الذي منح بعض المطالب ووعد بالعفو العام. ووافق الثوار وتفرقوا. ومع ذلك فقد هاجم جاك كيد قلعة كوينز بورد في شيبي، فاعتبرته الحكومة خارجاً على القانون، وأصيب بجرح مميت وهو يقاوم اعتقاله وذلك في الثاني عشر من يوليه. وحكم على ثمانية من المتواطئين معه بالإعدام وعفا الملك عن الباقين، فابتهج كلفة رعاياه ابتهاجاً عظيماً".


الأخلاق والطباع

كتب سفير البندقية حوالي عام 1500، تقريراً إلى حكومته: "معظم الإنجليز-سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، وفي جميع الأعمار-حسان وأجسامهم ممشوقة.. وهم يحبون أنفسهم حباً عظيماً، ويحبون كل شيء يتعلق بهم ويعتقدون، أنه ليس في الناس سواهم، وليس هناك عالم آخر سوى إنجلترا، وكلما رأوا غريباً جميلاً قالوا "إنه يشبه الإنجليزي، ومن الأسف الشديد أنه ليس كذلك". وقد يجيب الإنجليز، بأن معظم هذا الوصف، بشيء من التعديل الضروري ينطبق على كل الشعوب.. ومن المؤكد أنهم كانوا شعباً قوياً في الجسم والأخلاق والحديث. وهم يقسمون بحرارة حتى إن جان دارك أسمتهم دائماً الملاعين. وكان النساء أيضاً يتكلمون ببساطة، ويتحدثن عن مسائل فسيولوجية وجنسية بحرية، قد تذهل السفسطائيين اليوم. ومزاجهم كحديثهم خشن مفحش. وطباعهم جافية، حتى عند الطبقة الأرستقراطية، وعليهم أن يدربوا ويستأنسوا، بقانون سلوكي صارم. ولقد نشأت الروح الشهوانية التي اتسم بها الإنجليز في عهد أليزابث في القرن الخامس عشر، نتيجة لحياة يكتنفها الخطر والعنف والقحة. وكان على كل امرئ أن يكون شرطي نفسه، مستعداً أن يقابل الصفعة بالصفعة، وأن يقتل عند الضرورة برباطة جأش. وهؤلاء الحيوانات القوية نفسها يمكن أن تكون كريمة، شهمة ورقيقة في بعض الأحيان. فلقد بكى محاربون جفاة، عندما مات سيرجون تشاندوس وهو فارس مغوار، وتظهر رسالة مارجريت باستون إلى زوجها المريض (1443)، كيف يكون الحب، لا عصر له ولا يضارعه شيء.


ويجب أن نذكر أن هذه السيدة نفسها، قد هشمت رأس ابنتها، عندما رفضت أن تتزوج من اختاره أبوها. ونُشّئت البنات في حصانة رصينة واحتشام، لأن الرجال كانوا حيوانات مفترسة، وكانت العذرة عدة اقتصادية في سوق الزواج. ويعد الزواج حادثاً من أحداث تنقل المتاع. فالفتيات قد يتزوجن زواجاً شرعياً في سن الثانية عشرة، والصبيان في سن الرابعة عشرة، حتى بغير موافقة والديهم، ولكن الخطبة كانت تعد في الطبقات العليا تعديلاً للمعاملات المالية، بواسطة الآباء والأمهات، عقب بلوغ الأطفال السنة السابعة من العمر مباشرة. وما دام زواج الحب شاذاً، والطلاق محرماً، فقد شاع الزنا، وبخاصة في الطبقة الأرستقراطية. ويقول هولنشد: "لقد سادت هناك، الرذيلتان الوبيئتان السكر والزنا، مع الفحش البغيض، وبخاصة عند الملك" واختار إدوارد الرابع، بعد أن مر بتجارب عديدة في الحب، جين شور، لتكون الحظية الأثيرة لديه. وقد خدمته بإخلاص نزق، وأثبتت أنها صديقة رحيمة في البلاط لكثيرين من ذوي الحاجات. ولما مات إدوارد، أرغمها رتشارد الثالث أن تجوب شوارع لندن، في ثوب الندم الأبيض وربما كان ذلك استعراضاً لآثام أخيه، وإخفاء لآثامه هو؛ وعاشت حتى بلغت أرذل العمر، محتقرة من أولئك الذين ساعدتهم.

ولم يحدث في التاريخ المعروف إطلاقاً أن شعباً كان يماثل الإنجليز (الذين يتشبثون بالقانون اليوم) في استهتارهم إذ ذاك بالقانون إلى حد بعيد. ولقد جعلت الحرب المائة سنة الناس قساة مستهترين، واستمر النبلاء بعد عودتهم من فرنسا، يحاربون في إنجلترا، واستخدموا جنوداً مسرحين في منازعاتهم. وشارك أبناء الطبقة العليا، التجار الجشعين الذين داسوا كل فضيلة للحصول على المال. وكانت السرقات لا تحصى. وباع التجار الرديء من السلع واصطنعوا الزائف من الموازين، وكاد التدليس في نوع الصادرات ومقدارها يقضي على تجارة إنجلترا الخارجية، في فترة من الفترات. واستغلت التجارة في البحار القرصنة، وكانت الرشوة عامة أو تكاد: وقلما يحكم القضاة دون أن يحصلوا على "هدايا"، وكان جباة الضرائب يرشون، تيسيراً للتخلص منها، ويطلب إلى الضباط المجندين مثل فولستاف الذي صوره شكسبير، أن يتغاضوا عن مدينة من المدن، فقد استطاع الأعداء، أن يشتروا جيشاً إنجليزياً، كان يغزو فرنسا، واشتد جشع الناس للمال وقتذاك إلى حد الجنون كما هو الآن، وأنكر شعراء مثل تشوسر الجشع في شعرهم، ولنهم مارسوه في واقع حياتهم وكان من الممكن أن يتقوض الكيان الأخلاقي للأمة، لولا أن أسسه قد دعمتها حياة البساطة التي اتسم بها الرجل والمرأة في الطبقة العامة، ففي الوقت الذي كان فيه من هم أفضل منهم، يدبرون الحروب والشرور لذلك العصر، احتفظ هؤلاء العامة بالحياة المنزلية وحافظوا على الجنس.

وعاشت جميع الطبقات، ما عدا التجار والعمال، في الريف أطول مدة يستطيعونها كل سنة. وتحولت القلاع التي لم تعد حصينة، بعد انتشار المدفع، ببطء إلى منازل كبيرة. وحل الآجر محل الحجر، ولكن البيوت المتواضعة، كانت لا تزال تقام من الخشب والطين. وفقدت الردهة الوسطى، مساحتها وفخامتها القديمتين وهي التي كانت تستعمل في يوم من الأيام لجميع الأغراض، وتقلصت إلى دهليز يؤدي إلى غرفة معيشة كبيرة، وغرف صغيرة، وقاعة استقبال للحديث الخاص. وضعت السجاجيد على جدران بيوت الأغنياء، وأضاءت النوافذ، وهي من زجاج ملون في بعض الأحيان المدخل الذي كان مظلماً من قبل. أما دخان المواقد الذي كان يترسب قبلاً من النافذة والباب والسقف، فقد جمع في مدخنة، ومدفأة ضخمة تزين غرفة المعيشة. وقد تعلقت السقوف بالخشب والأرضيات بالبلاط، في حين ظلت السجاجيد قليلة نادرة. إذا نحن صدقنا أقوال إراسموس التي يغلب فيها الجانب الأدبي على الدقة في التصوير.


"كانت جميع الأرضيات تقريباً من الصلصال، مفروشة بحصير من حلفاء المستنقعات، وقليلاً ما تجدد حتى إن الأسس تظل عشرين سنة، تردد أسافلها بالبصاق والقيء من الناس والكلاب والنبيذ والجعة، وبقايا السمك وغيرها من القاذورات التي لا تسمى، ويتصاعد منها، بتغير الفصول، بخار غير صحي في رأيي". وكانت المخادع فخمة مزينة بالنقوش المحفورة ، ومزودة بالأغطية عليها رسوم أزهار وتعلوها كُنَّة. كما كانت مائدة الطعام، في المنازل المريحة، فنية ضخمة رائعة، بنقوشها البارزة من خشب الجوز أو البلوط ويقوم بالقرب منها، أوفي القاعة بصفة عامة، صوان للأواني أو الفضيات والتحف حيث ترتب للعرض أو الزينة. ونظمت ردهة الجلوس التي أعدت في الأصل للحديث، لتناول الطعام. وكانوا يتناولون وجبات الطعام الرئيسية نهاراً، وذلك للاقتصاد في زيت الإضاءة و"الغداء" في الساعة العاشرة صباحاً، والعشاء في الخامسة مساءً. وحرص الرجال على ارتداء قبعاتهم عند الجلوس إلى المائدة، ليمنعوا شعورهم الطويلة، من مخالصة الطعام. واحتفظ بالشوك لأغراض خاصة مثل تناول الكامخ أو تجمير الجبن، وظهر استعمال الإنجليز لها على النمط الحديث، أول مرة عام 1463، أما السكين، فقد كان الضيف هو الذي يأتي بها معه، يحملها في جراب، معلق بمنطقته، ويتطلب آداب السلوك إذ ذاك أن يصل الطعام إلى الفم، بواسطة الأصابع. ولم تكن المناديل مستعملة، حتى منتصف القرن السادس عشر، فقد كان على الرجال أن يتمخطوا باليد التي تمسك السكين بدلاً من تلك التي تنقل الطعام إلى الفم. وكانت الفوط غير معروفة، ويحذر الطاعمون بألا ينظفوا أسنانهم بغطاء المائدة، وكانت الوجبات دسمة، ذلك أن الغذاء العادي لواحد من أصحاب الوجاهة، كان يتألف من خمسة عشر أو عشرين صحناً. واحتفظ اللوردات العظام بموائد عظام، فقد كانوا يطعمون يومياً، مائة من الندماء والزوار والحشم، وكان وروك صانع الملك يذبح ستة ثيران كل يوم لمائدته، وأطعم أحياناً خمسمائة مدعو. وكانت اللحم هي الطعام القومي والخضرات نادرة أو غير مجبوبة. والجعة هي الشراب القومي، ولم يكن النبيذ موجوداً أو منتشراً، كما كان الحال في فرنسا أو إيطاليا بيد أن المسموح به من الجعة، هو جالون للفرد كل يوم حتى الراهبات. وقال السير جون فورتسكيو (توفي عام 1470) "لا يشرب الإنجليز الماء، إلا في أوقات معينة لأغراض دينية. أو للتكفير عن الذنب". وكان الرداء فاخراً عند الطبقة الأرستقراطية. أما البسطاء فكانوا يرتدون جلباباً فضفاضاً وقلنسوة، أو معطفاً قصيراً لايئم العمل، وكلف الموسورون بالقبعات المكسوة بالفراء أو الريش، وأردية مزينة بالزهور، أو سترات مزركشة تنتفخ عند الأكمام، وجوارب طويلة، شكا منها قسيس تنشوسر بقوله "تظهر الساقين في صورة مفزعة منتفخة ينفتق إحداها عن الأخرى بالإضافة إلى أرداف.. وكأنها الجانب الخلفي من قردة في ليلة مقمرة". وارتدى تشوسر نفسه عندما كان تابعاً في حاشية الملك، سترة مشعة وجوربين أحدهما أحمر والآخر أسود. واختفت في القرن الخامس عشر الأحذية المدببة، التي شاعت في القرن الرابع عشر، واستدارت الأحذية واتسعت عند الإصبع الكبير من القدم. أما "زي النساء" فهو يثير السخط، وعلى الرغم من أن محيا بعضهن، ينم على العفة والطيبة الكاملتين، إلا أنهن يبرزن بقلة ردائهن غير المتناسق فتنتهن ودلالهن". ومع ذلك، فإن الصور التي وصلت إلينا، تظهر الجنس المثير، وقد حبس بإحكام في حشد من الملابس من قمة الرأس إلى أخمص القدم. وتراوحت ألعاب التسلية في الداما والشطرنج، إلى النرد، ومن صيد السمك إلى قنص الوحوش، ومن رمي السهام إلى المبارزة. ودخلت لعبة الورق إلى إنجلترا حوالي نهاية القرن الخامس عشر، وهم لا يزالون يلبسون ملوكهم وملكاتهم، على طراز ذلك العصر. وكان الرقص والموسيقى شائعين كالميسر، وكل إنجليزي تقريباً، يشارك في الأغاني الجماعية، ولقد نافس هنري الخامس جون دستيبل، مع أعاظم الملحنين في ذلك العهد . واعترفت القارة الأوربية بالمغنين الإنجليز. ولعب الرجال التنس، وكرة اليد وكرة القدم وغيرها من ألعاب الكرة القديمة ومي الأطواق، وتصرعوا وتلاكموا، وأعدوا الديكة للعراك، وتراهنوا وتحرشوا بالدببة والثيران. واحتشد الناس لمشاهدة البهلوان والسائرين على الحبال يعرضون فنونهم التي كانت تسري على القدماء، وتدهش المحدثين. واحتفظ الملوك والنبلاء بالمشعوذين والمضحكين والمهرجين، وكان الملك أو الملكة يعينان من يشرف على ألعاب ومشاهد عيد الميلاد، ومنحوه لقب لورد.والنساء يخالطن الرجال في حرية في كل مكان. يحتسين الخمر في الحانات، يركبن وراء كلاب الصيد، ويصدن الصقور، ويصرفن لمشاهدين عن المتصارعين في بعض الدورات، وهن اللائى قادتهن الملكة للتحكيم في رمي الأطواق ومنح التاج الذهبي. وكانت الرحلة لا تزال مجهدة، وكلن ما من أحد استقر في داره، على ما يبدو-وذلك من مساوئ الزواج من واحدة. والطرق موحلة أو متربة، ولم يميز اللصوص بين عنصر جنس وطبقة أو مهنة. والفنادق بهيجة المنظر على الرغم من قذارتها تزدحم فيها الصراصير والفئران والبراغيث. ويجد كل رجل منهم بائعة هوى، وقلما تجد الفضيلة مخدعاً صالحاً لها هناك. يذهب الفقراء راجلين والأوساط على صهوات الخيل، في جموع مسلحة عادة، ويستعمل الأغنياء عربات، تجرها خيول مطهمة، ونسب ابتكارها إلى رجل مجري في قرية كوكر من أبناء القرن الخامس عشر. وكانت عربات اللوردات مزينة بالنقوش البارزة وموشاة ومذهبة، لها حشيات وستائر وبسط، ومع ذلك فقد كانت أقل راحة من ظهور الإبل، وكانت تترنح كمركب صيد بشراع واحد. ولم تكن السفن خيراً مما كانت عليه في العصر القديم، ولعلها أسوأ حالاً، وأخذت السفينة التي جاءت بالملك جون من بوردو، إلى لندن عام 1357 اثني عشر يوماً. وانتشرت الجرائم وبلغت المدن من الفقر حداً لا تستطيع معه، إلا أن تستخدم شرطة من المتطوعين غير المأجورين. ولكنه الذكور كان يطلب إليهم جميعاً أن يسهموا في "ملاحقة" مجرم هارب، وكان يبحث عن الموانع في الحكومات الصارمة من أجل القلة الذين يقبض عليهم، وكانت عقوبة السطو الاختلاس والحريق العمد وانتهاك حرمة المعابد المقدسة، كعقوبة القتل والتآمر، وهي الشنق على أقرب شجرة وتترك الجثة ردعاً للآخرين وطعمة الغربان. وانتشر التعذيب-كلل من المتهم والشهود-إبان حكم إدوارد الرابع، واستمر مائتي سنة. وكثر المحامون. وقد يكون حكمنا على هذا العصر ممعناً في القسوة، متغافلين عن فظائع قرننا المتحضر. ولقد كان سير جون فورتسكيو القوام على العدالة في عهد الملك هنري السادس، أحسن ظناً بعصره، وكتب تمجيداً له مصنفين اشتهر في وقت من الأوقات. وفي محاورة امتدح قوانين إنجلترا. ومجد صحة المحاكمة بواسطة المحلقين، ونعى التعذيب، وكان مثاله، مثل الآلاف الفلاسفة، في تحذير الأمراء الذين يجدر بهم أن يكونوا خدام الشعب المعتصمين بالقانون. ولقد وازن في كتبه "الملكية" أو "حكومة إنجلترا" بين فرنسا وإنجلترا على أساس من العطفة الوطنية: فالناس من فرنسا قد يحكم عليهم بغير محاكمة علنية: وقلما يدعى مجلس الولايات للاجتماع. والملك يفرض الضرائب على الحاجات الضرورية كالملح والخمر. وبعد أن بالغ في تمجيد بلاده على هذا النحو، ختم السير جون كلامه بقوله إن جميع الحكومات، يجب عليها أن تخضع البابا ولو أدى ذلك إلى تقبيل قدميه.


اللولارد

أعاد أرندل كبير الأساقفة عام 1407، تأكيد سيادة الشريعة أو القانون الكنسي، على كل تشريع وضعي، وحكم بالكبيرة أو الهرطقة الكاملة على رفض أي مرسوم بابوي. وأقامت الكنيسة بعد ويكليف، وازدادت قوتها في إنجلترا، إبان القرن الخامس عشر، وفاضت الثورة المتدفقة على خزائنها. وشاع الاكتتاب الديني: فإن الأشخاص الذين يتوقعون الموت، كانوا يتبرعون لبناء كنيسة، ولإقامة القداس للتعجيل بدخولهم الجنة. وسيطرت الكنيسة على مجلسي البرلمان، فقد كان لها في مجلس الشيوخ حوالي عشرين أسقفاً وستة وعشرين من رؤساء الأديرة، في حين مل يكن في المجلس من غير رجال الدين سوى سبعة وأربعون عضواً. وأصر هنري السابع-وهنري الثامن فيما بعد- لموازنة ذلك الوضع على تعيين أساقفة ورؤساء أديرتها من بين رجال الدين، ويسر اعتماد الرتب الكهنوتية على الملكية، تسليم رجال الدين، لجهود هنري الثامن في سبيل تحقيق السيادة الملكية على الكنيسة الإنجليزية. وفي الوقت نفسه استقر وعاظ وكيليف المساكين على نشر أفكارهم المناهضة لرجال الدين. ولقد ذكر أحد مؤرخي الأديرة، في فترة مكبرة، 1382 في مبالغة تنم عن الفزع "أنهم كانوا يتكاثرون بسرعة فائقة، كالبراعم، حتى غمروا المملكة بأسرها.. ومن النادر أن تلقى رجلين في الطريق دون أن يكون أحدهما من تلاميذ وكيليف. ولقد وجدوا الجمهور المستعد للاستماع إليهم بين صفوف عمال الصناعة، وبخاصة نساجي نورفولك. وفي عام 1395 أحس جماعة اللولارد، أنهم بلغوا من القوة حداً، أتاح لهم أن يقدموا إلى البرلمان، بياناً جريئاً بمبادئهم. فقد عارضوا عزوبة رجال الدين، واستحالة القربان دم المسيح ولحمه



 صفحة رقم : 7813   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> إنجلترا في القرن الخامس عشر -> اللو لارد


وعبادة الصور وزيارة القديسين والصلوات على أرواح الموتى، وثروة الكنيسة وكثرة الموقوف عليها، واستخدام رجال الكهنوت في وظائف الحكومة وضرورة الاعتراف بالقسس والاحتفال بالتعاويذ، وعبادة القديسين. وأوصوا في بيانات أخرى، بأن الجميع يجب عليهم أن يعكفوا على قراءة الكتاب المقدس، وأن يتبعوا تعاليمه باعتبارها فوق مراسيم الكنيسة. ورفضوا الحرب باعتبارها منقضة للمسيحية، والترف لأنه منافٍ الأخلاق، وطالبوا بإصدار قوانين خاصة بالنفقات، تفرض على الناس العودة إلى البساطة في الغذاء والكساء، وكرهوا الإيمان، ووضعوا في مقابل صفته القسم، حيناً آخر مثل "أنا متأكد أن" و "إنها الحقيقة"، وكان العقل الطهري ووجهة النظر الطهرية، يتخذان شكلهما في إنجلترا قبل ذلك، ولقد مزج نفر من الوعاظ، الاشتراكية بعقيدتهم الدينية،ولكن معظمهم، كان ينفر من مهاجمة الملكية الخاصة، وسعوا إلى تأييد الفرسان والنبلاء إلى جامب تأييد الفلاحين والعمال. ومهما يكن من شيء فإن الطبقات العليا لم تستطع أن تنسى المأزق الشديد الذي نجت منه ثورة 1381، ووجدت الكنيسة فيهم، استعداداً جديداً لحمايتها، باعتبارهم قوة استقرار في المجتمع. وهدد رتشارد الثاني ممثلي اللولارد في البرلمان بالاعتقال وأجبرهم على الصمت. وطالب أساقفة إنجلترا عام 1397، الملك بإعدام الهراطقة المتعمدين "أسوة بجميع الممالك الخاضعة للدين المسيحي". ولكن رتشارد الثاني، كره أن يسايرهم إلى هذا المدى، ومع ذلك فقد أصدر هنري الرابع وبرلمانه عام 1401 المرسوم المشهور بحرق جميع الأشخاص الذين تحكم عليهم إحدى المحاكم الدينية بأهم هراطقة بالإصرار، وتباد جميع كتب الهرطقة. وفي العام نفسه، أحرق وليام سوتري، وهو قسيس على مذهب اللولارد، بعد أن شد إلى القائمة الخاصة بالإحراق. وقبض على غيره من أنصار المذهب نفسه، وأجبروا على



 صفحة رقم : 7814   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> إنجلترا في القرن الخامس عشر -> اللو لارد


تغيير آرائهم وعوملوا برفق. وقدم أمير ويلز، إلى هنري الرابع عام 1406، عريضة تقضي بأن دعوة اللولارد، وهجومهم على أملاك الأديرة يهددان كيان المجتمع بأسره. وأمر الملك بزيادة التشدد في محاكمة الهراطقة. ولكن انغماس الأساقفة في سياسة البابوية، جرف نشاطهم، عن الهرطقة والهراطقة إلى حين. وفي عام 1410 أدانت الكنيسة جون بادبي، وهو خياط لولاردي، وأحرق في سوق سمثفيلد. وقبل أن تشعل المحرقة، رجا الأمير هال، بادبي، أن يرجع عن آرائه، وأن يمنح في مقابل ذلك الحياة والمال، فأبى الرجل، وارتقى المحرقة حيث لقي الموت. وجلس الأمير على العرش عام 1413 باسم هنري الخامس ومنح تأييده الكامل لسياسة القمع. وكان أحد أصدقائه هو سير جون ألد كاسل لورد كوبهام، وهو الذي رأى نظارة مسرحيات شكسبير، بعد ذلك، أنه عين فلستاف. ولقد أبلى ألد كاسل البلاء الحسن في الحرب في سبيل الأمة، ولكنه تسامح مع دعاة اللولارد، وبسط عليهم حمايته في ضياعه بهير فوردشاير وكنت. وطالب الأساقفة بمحاكمته ثلاث مرات، وأبى حضور المحاكمة ثلاثاً، ولكنه استسلم بناءً على دعوة مكتوبة من الملك، وقتل أمام الأساقفة (1413) في نفس الموضع من كنيسة سانت بول، حيث حوكم، ويكلف قبل ذلك بست وثلاثين سنة. وأكد اعتقاده السابق في المسيحية، ولكنه لم يقبل التخلي عن آراء اللولارد في الاعتراف أو القربان. فأدين بالهرطقة، وسجن في برج لندن، وأعطي مهلة أربعين يوماً، على أن يعود عن هذه الآراء، ولكنه بدلاً من ذلك، فر هارباً. وما أن بلغ اللولارد الذين كانوا حول لندن، خبر فراره، حتى جهروا بالثورة، وحاولوا أن يقبضوا على الملك (1414). وفشلت المحاولة، وقبض على بعض الزعماء وأعدموا. واختفى الكاسل، ثلاث سنوات في جبال هيرفورشاير وويلز، ثم قبض عليه آخر الأمر، وأعدم بتهمة الخيانة، ثم أحرق بتهمة الهرطقة (1417)، لأن الدولة والكنيسة طالبت كل منهما بحقها.



 صفحة رقم : 7815   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> إنجلترا في القرن الخامس عشر -> اللو لارد


ونحن إذا قسنا اضطهاد اللولارد إلى غيرهم، نرى أنه كان معتدلاً، وبلغ عدد الذين أعدموا أحد عشر رجلاً بين عامي 1400، 1485. ولقد سمعنا عن طوائف من اللولارد عاشت إلى عام 1521، وفي سنة متأخرة هي سنة 1518، قتل توماس جان على المحرقة، وهو الذي زعم أنه حول سبعمائة شخص إلى المذهب اللولاردي، وأحرق ستة آخرون عام 1521. وأما فصل هنري الثامن إنجلترا عن روما، وقابلت الأمة هذا التحويل بلا ثورة، فإن اللولارد من حقهم، أن يزعموا، أنهم مهدوا الطريق إلى هذا التحول إلى حد ما. ونشر ريجفالد تيلوك، أقف تشيشستر عام 1450 كتاباً، اتخذ له عنواناً، على طريقة العصر المقبلة، كبح جماح اللوم الزائد عن الحدلرجال الدين. كان رداً صريحاً على المذهب اللولاردي، وقد افترض وجود نزعة قوية ضد رجال الدين بين الناس. واقترح القضاء على هذه الآراء، لا بالسجن في المحرقة، ولكن بالاحتكام إلى العقل فحسب. وأمعن الأسقف المتمحس في الاحتكام إلى العقل، حتى أغرم بالعقل ذاته، وأوقعه ذلك في الهرطقة، وألفى نفسه، بفند بالعقل بعض حجج اللولارد، من الكتاب المقدس. ووضع العقل فوق الكتاب المقدس بصورة قاطعة كميزان للحقيقة، في "رسالة من الاعتقاد"-وهو موقف احتاجت أوربا فيه إلى مائتي سنة لاستعادته. وأضاف مؤلف "كبح جماح اللوم الذي لم يكبح جماحه" أن آباء الكنيسة لا يوثق بهم دائماً، وأن أرسطو ليس ثقة لا يناقش، وأن الرسل، لا يد لهم في العقيدة، وأن هبة قسطنطين كانت انتحالاً. وطالب الأساقفة الإنجليز بيكوك المعجب بنفسه بالمثول أمام محكمتهم (1457)، وخيروه بين الرجوع عن آرائه أو الإعدام حرقاً. وكان يكره الإحراق، وقرأ علانية بالرجوع عن أقواله، وشلح عن رتبته الكنسية، واعتزل الناس في دير كنيسة تورني إلى آخر حياته (1460).


الفن الإنجليزي 1300-1506

كانت الكنيسة، على الرغم من الهرطقة واللاكهنوتية، من القوة والثراء، بحيث استطاعت أن ترفع فن العمارة الإنجليزية إلى مستوى من التفوق رفيع إلى حد ما. ولقد مول: نمو التجارة وغنائم الحرب: الكاتدرائيات والقلاع والقصور، وأسبغت على أكسفورد وكمبردج جلالاً بما شيدت من دور جميلة للعلم لا تضارع. ولقد أخذت مواد البناء في إنجلترا من رخام بربك ومرمر نوتنجهام إلى غابات شرود وأجر أي مقاطعة، ثم تحولت إلى صروح النبلاء وأبراج اللوردات ذوات الأطراف الدقيقة، والسقوف الخشبية التي كانت تماثل في متانتها وجمالها القباب القوطية من الحجر. واستبدلت بالدعائم القبيحة التي تربط السقف، والتي تصل الجدار بالآخر في صورة متكلفة، الدعائم البارزة المطروقة، تحمل بأكتاف ضخمة من خشب البلوط، والعقد المرتفع فوقها، وبهذه الطريقة، قوصرت بعض من أجمل كنائس إنجلترا صحونها. وهكذا حصلت كاتدرائية سلبي على سقف من خشب البلوط مضلع ومعقد، تضارع الرسوم التي على شكل عقد ومروحة، مما يسقف كنيسة "باث" ومنصة التريتل في "إلي"-والجناح الجنوبي لكنيسة جلوسستر بأحجار متداخلة. وأعطت نماذج من الزخارف الحجرية المفرغة في النوافذ، ومن تغليف الجدران وحواجز المرتلين، أسماءها لطرز معمارية متعاقبة، تتداخل في الزمان وتختلط عادة في بناء واحد. واصطنع الطراز القوطي ذو الزخارف الهندسية (حوالي عام 1250-1315) الأشكال الإقليمية، كما هو الشأن في كاتدرائية اكستر.وانصرف الطراز القوطي الذي توسل بالأقواس في الزخرف (حوالي 1315-1380)، عن الرسوم المحدودة، إلى الخطوط التي تتماوج بحرية، التي سبقت في شيء من التحفظ، طراز فرنسا المشع، كما هو الحال في النافذة المستديرة الجنوبية في لكولن. وركز الطراز القوطي الرأسي (حوالي عام 1330-1530)، على الخطوط الأفقية والرأسية في داخل العقد، كما في كنيسة هنري السابع في دير وستمنستر. وخفف الألوان الزاهية، التي اتسم بها الزجاج الملون في القرن الثالث عشر، بأصباغ أخف أو بصباغ فضي أو رمادي شاحب، ونافست صور الفروسية الآفة، الأساطير المسيحية، على هذه النوافذ. وبلغ الفن القوطي بذلك أوجه فاضمحلاله. وقلما عرفت أوربا هذا الشغف بالبناء. فلقد جهدت ثلاثة قرون (1376-1517) لكي تشيد الصحن الحالي في دير وستمنستر، ونحن نستطيع أن نحس إحساساً ضيقاً في الهوادج الطوال لتلك السنوات، جهد العقل واليد الذين اشتركا في معل مقام لا يضارع العبقريات الإنجليزية، في خير أعمالها. ويعد تجديد بناء وندسور أقل روعة؛ فلقد ابتنى ادوراد الثالث هناك على مساحة ضخمة، البرج المدور الكبير (1344)، وبدأ ادوارد الرابع (1473) تشييد كنيسة سانت جورج بمنصاتها الجميلة للمرتلين وعقدها الذي على شكل مروحة وزجاجها الملون. وصمم الن دي ولسنجهام، على الطراز القوطي المتوسل بالأقواس في الزخرف، كنيسة رائعة للعذراء وبرج "مصباح" لأيلي. وزودت كاتدرائية جلوسستر ببرج ويسط وعقد للمرتلين ونافذة شرقية ضخمة، وأروقة متسعة، وتعد سقوفها التي على شكل مروحة من عجائب إنجلترا. ووسعت ونشستر صحنها الكبير وزينت واجهتها الجديدة بالطراز الرأسي. وشيدت كفنتري، على هذا النحو الكاتدرائية، التي لم ينفذ منها في الحرب العالمية الثانية، سوى برجها المدبب الفخم. وأقامت



 صفحة رقم : 7819   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> إنجلترا في القرن الخامس عشر -> الفن الإنجليزي


ببتر بره، عقدها الشاهق على شكل المروحة، وأكملت يورك منستر صحنها، وأبراجها الغربية ومنصة المرتلين فيها. وكانت الأبراج هي المجد الذي يتوج العصر، تسبغ النبل على كليتي مرتن والمجدلية في أكسفورد ودير فاونتين أبي وكنتربري وجلاستبري ودربي وتونتن وغيرها من مئات الأضرحة. واستعمل وليام الويكهامي الطراز الرأسي في تصميم كلية أكسفورد الجديدة، واتبع هذا النهج وليم وينفليت، وهو معمر آخر في التسعين، في "المربع الكبير" بكلية ايتون، وختمت كلية الملك وكمبردج، العصر بكنيسة قد تغري بنوافذها وعقدها ومنصات مرتلين كاليبان بالعلم وتيمون الأثيني بالصلاة. وفي الطراز القوطي الرأسي طابع دنيوي واقعي يناسب تماماً عمارة الكليات والقلاع والحصون وأبنية النقابات والبلديات. وشيد أمراء وروك على هذا الطراز في القرنين الرابع والخامس عشر، قلعتهم المشهورة بالقرب من ليمنجتن. وشيدت الجيلد هول في لندن وهي مفخرة الطبقة التجارية في العاصمة، بين عامي 1411، 1435 ولكنها أحرقت في عام 1666. فأعاد كريستوفرورن بناءها، وأضيف إليها الجزء الداخلي الجديد عام 1866 وهو الذي انهار تحت وطأة القنابل في الحرب العالمية الثانية. كما اتخذت دكاكين المدينة، في قوائم نوافذها نموذجاً من الطراز الرأسي، وهي تخلب مع رؤوسها المنقوشة وأفاريزها وطنفها البارزة، ألبابنا بسحر مجد بائد. ولقد احتفظ فن النحت الإنجليزي في هذا العصر بالسمعة التي غلبت عليه ذلك لأن التماثيل لواجهات الكنائس قد تخلف كثيراً عن العمارة التي كان الغرض منه أن يزينها كما هو الحال في لنكولن واكستر. واستخدمت حواجز المذبح الكبير في كاتدرائية وستمنستر ودير سانت البان، قوالب للتماثيل ولكن هذا شيء لا يؤبه له لكي نضيفه إلى قصتنا. وأجود الأمثلة



 صفحة رقم : 7820   



قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> إنجلترا في القرن الخامس عشر -> الفن الإنجليزي


على هذا الفن إنما توجد في الآثار الجنائزية. ولقد حفرت صورة جميلة لادوارد الثاني على المرمر في كاتدرائية جلوسستر، وللسيدة البانوربرس في بيفرلي منستر واهنري الرابع والملكة جان في كنتر بري، ولرتشادر بوشان في وروك. وبلغ المثالون الإنجليز أوج براعتهم في عرض أزهار أرضهم الخضراء ونباتها. وكان الحفر الجيد يمارس على الخشب: وتبهر منصات المرتلين في ونشستر ولنكولن ونوروتش الأنفاس بالجمال الذي بذل في إظهاره غاية الجهد. وكان الرسم لا يزال فناً ثانوياً في إنجلترا، تخلف كثيراً عن معاصره في فلاندرز وفرنسا وظل تزيين الكتب القديمة فناً محبباً، ولقد دفع ادوارد الثالث مبلغ ستة وستين جنيهاً في مقابل مجلد مزين للقصص الخيالي. وقدم روبرت من أورمزبي إلى كاتدرائية نوروتش، نسخة مزينة من المزامير تعدها مكتبة بدليان "أجمل مخطوطة إنجليزية" بين مجموعاتها. واضمحل فن المنمنمات بعد عام 1450 بظهور الرسوم الجدارية واللوحات الحائطية، وأفل نجم هذا الفن في القرن السادس عشر قبل ظهور معجزة الطباعة الطريفة.


كاكستون ومالوري

في تاريخ مجهول من القرن التاسع عشر، أنشأ مؤلف، لا يعرف اسمه الآن، أشهر المسرحيات الأخلاقية الإنجليزية، فإن تمثيلية "كل إنسان" عبارة عن مجاز وأخلاقه تجريدات منفرة منفذ البداية، مثل المعرفة والجمال والمقولات الخمسة والرشد والقوة والفضل والمآثر والصداقة القرابة الاعتراف والموت وكل إنسان والله. ونحن نجد في استهلال، أن الله غاضب، لأن وصاياه يتجاهلها تسعة من عشرة أشخاص في ستة أيام من كل أسبوع، فيرسل الموت، ليذكر سكان الأرض، بأنهم لا بد أن يبادروا بالعودة إليه، وأن يقدموا حساباً عن أعمالهم. وهبط الموت من السماء إلى الأرض، في مساحة خط واحد، فوجد كل إنسان قد امتلأ فكره بالنساء والذهب، فما كان منه إلا أن أمره بالانتقال إلى الأبدية. فاحتج كل إنسان بعدم الاستعداد، وطالب بفسحة من الوقت، وقدم ألف جنيه على سبيل الرشوة، ولكن الموت يمنحه مسكناً واحداً-وهو أن يصطحب معه إلى الأبدية صديقاً يختاره. فأخذ الرجل يطلب المزاملة في هذه المغامرة العظيمة، ولكن من طلب مزاملته يعتذر عن نفسه بشجاعة قائلاً:


"إن كنت ستتناول الطعام، وتحتسي الشراب وتبتهج،



أو تغنم معاً صحبة المرأة الشهية،



فإنني لا أتركك....



فيجيبه كل إنسان: إذاً فتعال معي في رحلتي الطويلة.



الزميل: قسماً بإيماني، لن أذهب معك الآن.



إلا إذا قتلت رجلاً: وأزهقت روحه،



عند ذاك أعاونك صادقاً.


فالتجأ كل إنسان إلى قريبه، إلى ابن عمه÷ الذي رفض الدعوة بحجة "أنني مصاب بتقلص في إصبع رجلي". فناشد الرجل، الفضل لمعاونته، ولكنه كان حبيساً ليست عنده الحرية لتقديم أي مساعدة. فتوسل الرجل آخر الأمر بالمآثر فابتهجت، لأنه لم ينسها تمام النسيان، فقدمته إلى معرفة، التي قادته إلى الاعتراف، الذي طهره. ثم هبطت المآثر معه إلى قبره، ورحبت أناشيد ملائكية بدخول الآثم المطهر إلى الجنة. ولقد انتصر المؤلف في معظم الأحيان-ولا تقول انتصر تماماً-على قالب درامي عصبي. فإن تشخيص صفة من الصفات، لا يمكن أن يكون لها من الوصف ما للشخص، ذلك لأن كل إنسان عبارة عن تناقض مركب متفاعل، وهو فريد إلا إذا كان واحداً من جماعته، والفن العظيم يجب أن يصور العام عن طريق الخاص كما في هاملت أو كيخوتة، أو أديب أو بانبرج واحتاجت التجربة والعبقرية قرناً آخر، لكي تحول المسرحية الأخلاقية الفاترة، إلى المسرحية الإليزابيثية، التي تصور ، الإنسان المتغير إلى ما لا نهاية. والحادث الأدبي العظيم في إنجلترا إبان القرن الخامس عشر، إنما هو إنشاء أول مطبعة إنجليزية. ولقد هاجر وليم كاكستون، المولود في كنت إلى بروجس للتجارة. وترجم في أوقات فراغه عن الفرنسية، مجموعة من القصص الخيالي الفرنسي. وطلب أصدقاؤه نسخاً من هذه المجموعة، فكان ينسخها لهم بنفسه، ولكنه يخبرنا بأن يده "كلت ولم تعد تستطيع الكتابة الكثيرة بسرعة". وعشيت عيناه من النظر الطويل على الورق الأبيض. ولعله رأى في زياراته إلى كولونيا، إنشاء المطبعة هناك (1466) على يد أولرتش زل، الذي تعلم هذا الفن الجديد في مينز. وأسس في أيام 1471 كولاردمانسيون، مطبعة في بروج ولجأ كاكستون إليها، باعتبارها وسيلة لإخراج نسخ كثيرة من ترجمته. وفي عام 1476 عاد إلى إنجلترا وأنشأ بعد ذلك بسنة في وستمنستر الحروف-ولعلها المطابع-التي أحضرها معه من بروج. وكان قد بلغ إذ ذاك الخامسة والخمسين من عمره، ولم يبقَ له من حياته سوى خمس عشرة سنة، بيد أنه طبع في هذه الفترة ثمانية وتسعين كتاباً، ترجم أكثرها بنفسه عن اللاتينية أو الفرنسية. وكان لاختياره عنوان كتبه، ولأسلوب مقدماته الطريف الخلاب، طابع لا يمحى على الأدب الإنجليزي. ولما توفي (1491) تابع زميله الإلزاسي وينكين دي ورد هذه الثورة. ولقد حقق كاكستون ونشر عام 1485 نصاً من أروع نصوص النثر الإنجليزي وهو-التاريخ الشريف للملك ارثر وعدد معين من فرسانه. وكان مؤلفها العجيب قد مات وربما كان ذلك في السجن-قبل ذلك بحوالي ست عشرة سنة. فلقد خدم السير توماس مالوري، في حرب المائة سنة، كواحد من حاشية ريتشارد دي بوشان أمير وروك، ومثل وروك في البرلمان عام 1445، ولما شعر بالوحدة في إجازة الحرب، اقتحم دار هيوسمث، واغتصب زوجة الرجل، وسلب بالإكراه مائة شلن من مارجريت كنج ووليم هيلز، ثم اقتحم دار هيوسمث مرة أخرى واغتصب زوجته ثانية. وسرق سبعة بقرات وعجلين وخمساً وثلاثين وثلاثمائة من الغنم، وانتهب كنيسة الرهبان البندكتيين في كومب مرتين، ووضع في غياهب السجن مرتين. ويبدو من غير المعقول أن يؤلف مثل هذا الرجل، تلك الأغنية الرقيقة التي تترنم بالفروسية الإنجليزية وهي التي نسميها الآن "موت الملك آرثر"، وبعد أن اشتد الخلاف، حول مؤلفها قرناً من الزمان، أصبح من المجمع عليه أنها من تأليف السير توماس مالوري إبان سجنه.

وأخذ معظم القصص من الرويايات الفرنسية عن الأساطير المتعلقة بالملك آرثر، فرتبها في سياق مقبول، وصاغها بأسلوب محبب خلاب. وأصدرها لطبقة أرستقراطية تفقد ماضي فروسيتها من فظائع الحرب وأهوالها، ودعا من أجل إلى العودة إلى القيم العليا التي اتسم بها فرسان الملك آرثر متناسياً مظالمهم ومظالم نفسه. ومل آرثر الفسق والفجور فاستقر مع صاحبته الجميلة الجريئة جينفير، وحكم إنجلترا-بل كان أوروبا في الحقيقة-من عاصمته في كاميلون (ونشستر) وطلب إلى فرسانه مائدته المستديرة المائة والخمسين أن يقطعوا على أنفسهم عهداً: "ألا ينتهكوا حرمة أو يقتلوا نفساً... وألا يكونوا غلاظاً بأي حال من الأحوال، وأن ريحموا من يطلب الرحمة... وأن يغيثوا النساء الضعيفات، ولو واجهوا الموت دون ذلك. والحب والحرب هما الموضوعان الممتزجان في كتاب يردد وقائع فرسان لا ضريب لهم، من أجل سيدات وفتيات يفقن الصوف جمالاً وفتنة وكان تريسترام ولانسيلون يجعلان من كل من ملوكهما ديوثاً، ولكنهما يمثلان رغم ذلك الشرف والشجاعة. ولما التقيا وقد تحصن كل منهما بالدرع والخوذة واللامة، تبارزا، وقد اختفت شخصية كل منهما أربع ساعات حتى كل سيفاهما وثلما. ثم انبرى لانسيلو آخر الأمر قائلاً: أيها الفارس، إنك تبلى في النزال، النبلاء الحسن كأعظم ما رأيت من الفرسان، لذلك أطلب إليك أن تتفضل فتخبرني باسمك. فأجاب تريسترام: سيدي لقد أقسمت ألا أبوح باسمي لأحد. فقال سير لانسيلو، الحق أنني إذا طلبت فلا يحول قسم بيني وبين البوح باسمي. فقال سيرتريسترام، أحسنت، ولذلك فأنا أطلب إليك أن تبوح باسمك. فقال: أيها الفارس الوسيم، إن اسمي سير لانسيلو دي ليك. فقال: سير تريسترام: يا عجباً، ما الذي فعلت؟ فأنت أحب رجال العالم إلي. فقال السير لانسيلو أيها الفارس الوسيم، أخبرني باسمك. فأجاب حقاً، إن اسمي سير تريسترام دي ليون. فقال سير لانسيلو، يا للمسيح، أي مغامرة مرت بي.. وهنا ركع سير لانسيلو وسلمه سيفه. وهنا ركع سير تريسترام بدوره وسلمه سيفه.... واصطحبا إلى صخرة، وجلسا عليها وخلعا خوذتيهما... وقبل كل منهما الآخر مائة مرة".

وأي قفزة هذه، من تلك المملكة الخيالية، التي لا يعمل فيها أحد من أجل العيش.. كل النساء فيها "منعمات" إلى مادة الواقع الحقيقي إلى رسائل باستون وهي تلك الرسائل الحية التي جمعت أسرة مفرقة على الحب والمال في إنجلترا، إبان القرن الخامس عشر!! ونحن نجد هنا جون باستون، الذي مارس القانون في لندن أو ضواحيها، في حين أخذت مارجريت تربي أطفالها وتدير أملاكه في نوروتش، إن نفسه كلها للعمل وهو جاد، لاذع نزاع إلى المنافسة، أما هي فكلها استسلام، زوجة متواضعة، قادرة، شديدة الحياء، ترتعد لمجرد التفكير في أنها أساءت إليه. وهكذا كان آل جنيفر في صميم العالم الواقعي. ومع ذلك فنحن نجد هنا أيضاً العواطف الرقيقة، والهموم المشتركة بل الخيال، وتعترف مارجريت بروز لسير جون باستون الثاني أنها تحبه، وأنها تأسف، لأن الصداق، الذي تستطيع أن تقدمه له، أقل بكثير من مكانته، "ولكن إن كنت تحبني، كما أثق أنك حقاً كذلك، فإنك لن تتركني لهذا السبب" وهو الذي آلت إليه ثروة آل باستون، فيتزوجها على الرغم من اعتراض أهله، ويموت في غضون سنتين. وهكذا نجد قلوباً رقيقة، تحت السطح الجافي لهذا العصر المضطرب.


الإنسانيون الإنجليز

يجدر بنا ألا ندهش من أن وفرة الدراسة للكلاسيات في إيطاليا لعهد كوزيمو ولورنزو دي مدتشي، لم تثر إلا صدى ضئيلاً في إنجلترا، التي كان تجارها لا يعبأون بالأدب إلا قليلاً، والتي كان نبلاؤها لا يخجلون من أميتهم على الرغم من ثرائها. ورأى السير توماس مور: في مطلع القرن السادس عشر أن أربعين في المائة من الشعب الإنجليزي فقط يستطيعون القراءة. وكانت الكنيسة، والجامعات التي تسيطر عليها، هي التي ترعى الدارسين وحدها. وإلى إنجلترا يرجع الفضل في أن رجالاً أمثال جروسيني وليناكر ولانيمير وكوليت: استطاعوا، في هذه الظروف، وتحت وطأة الحرب المدمرة الضارية، أن يقتبسوا من الشعلة الإيطالية: وأن يحملوا قدراً كافياً من ضوئها وحرارتها إلى إنجلترا، فيجعل ذلك رجلاً مثل أرازمس الحكم الفيصل في الأدب يشعر بأنه في وطنه عندما هبط الجزيرة عام 1499. ووقف الإنسانيون أنفسهم، على دراسة الثقافتين الوثنية والمسيحية على السواء، فأنكرتهم قلة غير ناضجة من "الطرواديين" الذين خافوا أن تأتي هؤلاء اليونان "بالنفائس من إيطاليا، ولكنهم وجدوا من يدافع عنهم بشجاعة ومن يصادقهم بين أكابر رجال الكنيسة، أمثال وليم الوينفليتي، أسقف ونشستر ووليم ورهام رئيس أساقفة كانتربري وجون فيشر، أسقف روشستر، وفيما بعد توماس كاردينال وُلـْسي، رئيس قضاة إنجلترا.

واستشعر بعض الدارسين من الإنجليز، منذ زيارة مانويل شريسو لوراس، (1408) لإنجلترا بحمى لا يطفئها في نظرهم غير الرحلة إلى إيطاليا للدراسة أو المجون، ولقد عاد همفري، دوق جلوسستر، من إيطاليا، مغرماً بالمخطوطات، وجمع مكتبة، أثرت فيما بعد، مكتبة بودليان. ودرس جون تيتوفت، إيرل جوارينو الفيروني في فيرارا وجون أرجيرو بولوس في فلورنسه.ثم عاد إلى إنجلترا وبين يديه من الكتب أكثر مما في نفسه من الفضائل. ودرس الراهب وليام تيلي من عام 1464-1367 في بادوا وبولونيا وروما، وأحضر معه كثيراً من الآثار الكلاسية، ثم أخذ يدرس اللغة اليونانية في كانتربري.

وكان توماس ليناكر أحد تلاميذه المتحمسين هناك. ولما عاد تيلي، (1487) إلى إيطاليا، اصطحبه ليناكر معه، وظل اثنتي عشرة سنة. ودرس في فلورنسة على بوليتيان وشالكوند يليز وحقق كتباً يونانية لالدس مانوتيوس، وعاد إلى إنجلترا متبحراً في فروع مختلفة من المعرفة، حتى استدعاه الملك هنري السابع، ليؤدب آرثر، أمير ويلز. وأوجد مع جروسين ولاتيمر في أكسفورد "حركة أكسفورد" لإحياء اللغات والآداب القديمة، فألهمت محاضراتهم جون كولت وتوماس مور، واجتذبت أرازمس نفسه. وكان ليناكر أشهر الإنسانيين الإنجليز، يجيد اللغتين اليونانية واللاتينية، وترجم جالينوس، وارتقى بالطب العلمي، وأسس الكلية الملكية الأطباء وأوقف ثروته على تمويل كراسي أستاذية الطب في أكسفورد وكمبردج. وقال أرازاموس، إن الفضل يرجع إليه، في أن الدراسة الجديدة، بلغت من الاستقرار في بريطانيا، حظاً لا يحتاج معه أي إنجليزي إلى أن يرحل إلى إيطاليا في سبيل العلم.

وكان وليم جروسين قد بلغ الأربعين عندما انضم إلى ليناكر في فلورنسه. فلما عاد إلى إنجلترا عام 1492، استأجر غرفاً في كلية أكستر وفي أكسفورد وكان يحاضر عن اللغة اليونانية، على الرغم من احتجاج المحافظين الذين كانوا يرتعدون خشية، أن تقضي النسخة اليونانية الأصلية للعهد الجديد على ترجمة جيروم اللاتينية الشائعة وهي التي ظلت الحجة ألف سنة، ولكن جروسين أكد من جديد، أنه صحيح المعتقد، مستقيم إلى حد التزمت. ولم ينشأ في نفس الإنسانيين الإنجليز أي عداء للمسيحيين حتى العداء المضمر الخفي، كما حدث لبعض الدارسين في عصر النهضة الإيطالية، ولقد حرص هؤلاء الإيطاليون على التراث المسيحي، وجعلوه مقدماً على جميع عناصر التربية العقلية، ولم يجد أشهر هؤلاء، حرجاً من تولي منصب نائب مطران كنيسة سانت بول.

ولقد كان جون كولت أكبر أبناء سير هنري كولت، وهو تاجر غني أنجب أثنين وعشرين طفلاً وتولى منصب عمدة لندن مرتين. وفي أكسفورد مست الشاب، جذوة الإنسانيين من ليناكر وجروسين "فالتهم بشغف" كتب أفلاطون وأفلوطين وشيشيرون روحل عام 1493 إلى فرنسا وإيطاليا، وقابل أرازمس وبوديه في بالريس، وتأثر بسافونارولا تأثراُ عميقاً في فلورنس، وهاله نزق الكرادلة والبابا اسكندر السادس وتحررهم في روما. ولما عاد إلى إنجلترا، ورث ثروة أبيه، وأصبح من اليسير عليه أن يحرز مكانة مرموقة في السياسة، ولكنه آثر حياة الدرس في أكسفورد وتجاهل التقليد القديم الذي يجعل تدريس علوم الدين وقفاً على القساوسة وأخذ يحاضر أهل روما عن إنجيل القديس بولس، فأحل النقد والشرح للنص الشائع، محل الحذلقة والجدل، وانتعشت جماهيره الغفيرة بطرافة منهجه، وبتركيزه على الحياة الفاضلة باعتبارها أسمى علوم الدين، ولقد وصفه أرازموس الذي رآه في أكسفورد عام 1499، بأنه قديس تغريه الشهوة والترف دائماً، ولكنه "احتفظ بزهرة عذرته إلى وفاته" واحتقر الحياة اليسيرة التي يعيشها الرهبان في زمانه، وأوصى بثروته للأعمال الدينية والخيرية.

وكان يمثل معارضة الكنيسة مع ولائه لها، فقد أحبها على الرغم من أخطائها. وتسائل عن الصدق الحرفي لسفر التكوين، ولكنه قبل القول بأن الكتاب المقدس منزل بالوحي. وسبق المصلحين الدينيين بتأكيده صحة الكتب المقدسة على روايات الكهنوت وأشكاله، ورفضه أن تكون الفلسفة المدرسية للقرون الوسطى، المزيج العقلي المخفف للمسيحية البسيطة، وشكه في قدرة القسس على التطهير بالاعتراف، ووجود المسيح بالفعل في القربان، وفي استنكار الحياة الدنيوية التي يعيشها رجال الدين:

"ولو أن الأسقف الأكبر، الذي نسميه البابا... كان أسقفاً بحق، لما فعل شيئاً بنفسه، ولكن الله فيه هو الذي يفعل. فإن حاول شيئاً بنفسه، فإنه يكون نافث سم.... لقد حدث هذا كثيراً بالفعل منذ سنوات طوال، وازداد في هذه الأيام زيادة كبيرة، حتى سيطر على جميع أعضاء الكنيسة المسيحية، وإذا لم يقبض المسيح بيده على كنيستنا الممعنة في الاضطراب فإنها تشرف على الموت.....، إن أولئك القساوسة اليائسين، الذين يوجد منهم في هذا العصر كثرة هائلة ليترددون في الفجور الشنيع، فهم لا يخشون الخروج من بطن بغي حقيرة إلى هيكل الكنيسة وإلى مذبح المسيح وإلى الأسرار الإلهية.. ولسوف تحل عليهم نقمة الله في يوم من الأيام.

وفي عام 1504 نصب كولت نائباً امطران كنيسة سانت بول، ومن هذا المنبر الرفيع عارض بيع الأسقفية، والفساد الناجم عن قوامة رجل واحد على موارد كنائس متعددة. وأثار بآرائه هذه معارضة عنيفة، ولكن ورهام كبير الأساقفة، عمل على حمايته. وكان ليناكر وجروسين ومور، قد استقروا وقتذاك في لندن وقد برئوا من جمود أكسفورد وتعصبها القديم، وشحذت عقولهم زيارات أرازموس وسرعان ما حظوا بتأييد الملك هنري الثامن. وبدا أن كل شيء ممهد لنهضة إنجليزية، ستتحرك مصطحبة، إصلاحاً دينياً سليماً.