قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 6 ب 22

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 7452

قصة الحضارة -> النهضة -> الخاتمة -> أفول نجم البندقية -> بعث البندقية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب السادس: الخاتمة 1534-1576

الباب الثاني والعشرون: أفول نجم البندقية

الفصل الأول: بعث البندقية

من الأمور العجيبة التي لانجد لها تفسيراً أن هذا العصر- عصر الاستعباد والاضمحلال لسائر إيطاليا، كان عصراً ذهبياً بالنسبة للبندقية. لقد قاست هذه الدولة الأمرين من حروب حلف كمبريه، واستولى الترك على كثير من أملاكها الشرقية، وكم من مرة اضطربت تجاراتها مع بلاد شرق البحر المتوسط من جراء الحرب والقرصنة، وكانت تجارتها مع الهند تنتقل من يدها إلى يد البرتغال. فكيف استطاعت إذن أن تعين في تلك الفترة من الزمان مهندسين معماريين مثل سانسوفينو Sansovino وبلاديو Palladio، وكتاباً مثل أربيتينو، ومصورين مثل تيشيان، وتنتورتو، وفيرونيز؟ وفي هذا العصر نفسه كان أندريا جبريلي Andrea Gabrieli يعزف على الأرغن ويرأس جوقة المرنمين في كنيسة سان ماركو (القديس مرقص)، ويكتب قصائد غزل يتردد صداها في جميع أنحاء إيطاليا. وكانت الموسيقى مما يولع به الأغنياء والفقراء على السواء؛ ولم يكن يضارع القصور القائمة على القناة العظمى في ترفها وفنها من الداخل إلا قصور رجال المصارف والكرادلة في روما؛ وكان مائة من الشعراء ينشدون أشعارهم في الخيام، والحانات، والميادين العامة؛ وعشر فرق تمثل المسالي؛ وأنشئت دور التمثيل الدائمة، وكانت فيتورية بيسيني Vittoria Pusseni "ساحرة الحب الجميلة la bella mage d'Amore" محبوبة المدينة في التمثيل، والغناء، والرقص، حين حلت النساء محل الغلمان في تمثيل أدوار النساء، وبدأ من ذلك الوقت عهد المهرجانات.

وسنحاول هنا تفسير هذه الظاهرة الخفية تفسيراً أعرج هو كل ما نستطيعه في الوقت الحاضر. وأول ما نقوله في ذلك أن البندقية نفسها لم تُغز قط وإن كانت قد أوذيت أشد الأذى من جراء الحرب. ولهذا بقيت منازلها وحوانيتها قائمة سليمة. وكانت البندقية قد استردت مالها من أملاك في شبه جزيرة إيطاليا، وكانت تضم مدناً عامرة بالسكان أمثال بدوا، وفيتشندسا، وفيرونا، بين روافدها التي تمدها بالعباقرة من رجال التعليم، والاقتصاد، والفنانين (أمثال كولمبو وكرنارو Cornaro في بدوا، وبلاديو في فيتشندسا، وفيرونيز من فيرونا). وكانت لا تزال تسيطر على مساحات واسعة للتجارة في البحر الأدرياوي وبالقرب منه. ولا يزال عند أسرها الشهيرة كنوز لم تفن بعد من الثروة المكتسبة الموروثة؛ وظلت التجارة القديمة مزدهرة ووجدت لها أسواقاً جديدة في العالم المسيحي؛ مثال ذلك أن زجاج البندقية قد وصل في ذلك العصر إلى حد الكمال في التبلور؛ واحتفظت البندقية بما كان لها من زعامة في منتجات الترف، وكان هذا العصر هو الذي اشتهرت فيه منتجاتها من المحرمات. وظلت البندقية، رغم ما فرض عليها من الرقابة الدينية، تأوي اللاجئين من السياسيين والمفكرين أمثال أريتينو الذي كان يتخلل فحشه وطربه من حين إلى حين كتابات أدبية تفيض تقى وصلاحاً.

وبرهنت البندقية في أواخر هذه الفترة مرتين على مالها من نشاط مدني وقدرة على الانتعاش، ففي عام 1571 قامت بدور رئيسي مع أسبانيا والبابوية في تجهيز بحرية مؤلفة من مائتي سفينة حطمت أسطولا تركياً مكوناً من 224 مركباً بالقرب من ليبانتو Lepanto في خليج كورنث، واحتفلت البندقية بهذا النصر الذي كان من شأنه ان يحتفظ بأوربا الغربية مسيحية احتفالاً دام ثلاثة أيام بلغ فيها المرح حد الجنون: فقد علقت في حي الجزيرة بالبندقية أعلام مرصعة بالفيروزج والذهب، ورفعت في النوافذ كلها أعلام أو طناقس ازدهرت بها القناة الكبرى في المدينة، وأقيم قوس نصر فوق جسر الجزيرة، وعرضت في الشوارع صور من صنع بليفي، وجيورجوني، وتيشيان، وميكل أنجيلو. وكانت حفلات التنكر التي أعقبت هذا النصر أكثر الحفلات التي عرفتها البندقية صخباً وضجيجاً، وكانت مثلا احتذته حفلات تنكرية كثيرة فيما بعد، فقد تنكر كل امرئ في المدينة وأطلق العنان لمرحه وعبثه، واطرح إلى حين كل قوانين الأخلاق، وانتقلت إلى أكثر من عشر لغات أسماء المهرجين أمثال بنتالوني Pantalone ودساني Zonni (أي جوهاني Johanny) .

ثم شبت حرائق مروعة في قصر الدوق في عامي 1574 و 1577 دمرت كثيراُ من حجراته وأتلفت كل ما فيها، فاحترقت صور من أعمال جنتيلي دا فبريانو Gentile da Fabriano، وأسرة بليني، وأسرة فيفاريني Vivarini وتيشيان، وبردينوني، وتنتورتو، وفيرونيزي، واختفى في يومين كل ما أخرجه الفن والجهد البشري من روائع. وتجلت روح الجمهورية بأجلى مظاهرها في السرعة والعزيمة اللتين أصلح بهما داخل القصر وأعيد إلى سابق عهده. فقد عهد إلى جيوفني دا بنتي Giovanni da Bonte أن يعيد بناء الغرف بالنظام الذي كانت عليه، وصمم كرستوفورو سورتى Cristoforo Sorte سقف قاعة المجلس الكبير Sala del Magior Consiglio العجيب في تسعة وتسعين قسما، ورسم صور الجدران تنتورتو، وفيرونيزي، وبالما جيوفني، وفرانتشيسكو بسانو. وفي الحجرات الأخرى- كحجرة الاجتماع الخاصة بالدوج ومجلسه (Collegio)، وحجرة الانتظار (Antecollegio). وقاعة اجتماع مجلس الشيوخ Sala de' Pregadi- صمم رسم السقف، والأبواب، والنوافذ أعظم مهندسي العمارة- ياقوبو سان سوفينو Facopo Sansovino، وبلاديو، وأنطونيو اسكاربانيتو Antonio Scarpagnino، وألسندرو فتوريا.

وكان ياقوبو د. أنطونيو دى ياقوبو تاتي Jacopo d' Antonio di Jacopo Tatti من مواليد فلورنس (1486). "وأرسل على كره منه شديد إلى المدرسة" كما يقول فاساري، ولكنه أولع بالرسم، وشجعت أمه هذه الميل فيه، وتغلبت على معارضة أبيه الذي كان يرجو أن يكون ابنه تاجراً. وهكذا ذهب ياقوبو ليتدرب على يد المثال أندريا كنتوتشي دي مونتي سان سافينو Andrea Contucci di monte San Savino الذي أحب الغلام حباً جماً، وأخلص في تعليمه إلى حد جعل ياقوبو ينظر إليه نظرته إلى أبيه- واتخذ Sasovino وهو لقب أندريا لقباً له. وكان من حسن حظ الغلام فوق ذلك أن اتخذ صديقاً له أندريا دل سارتو Andrea del Sarto، ولعله أخذ عنه أسرار التصميم الرشيق المليء بالحياة. ونحت المثال الشاب وهو في فلورنس تمثال باخوس الذي يوجد الآن في معرض بارجيلو Bargello والذي اشتهر بتوازنه التام، وبالمهارة التي أمكنته من أن يقطع من قطعة واحدة من الرخام ذراع التمثال، ويده، وإناء الزهر المتزن بخفة فوق أطراف الأصابع. وكان كل إنسان يعطف على أندريا (دا ميكل أنجيلو)، ويساعده على تنسم ذروة التفوق والامتياز. فأخذه جيوليانو دا سانجلو Giuliano da Sangallo إلى روما، وهيأ له مسكناً فيها؛ وعهد إليه برامنتي أن يصنع صورة من الشمع للاؤكون Laocoon، فأجاد المثال صنعها إجادة جعلت الكردنال جرماني Grimani يطلب أن يصب له التمثال من البرنز. ولعل تأثير برامنتي هو الذي جعل أندريا يتحول من فن النحت إلى العمارة، ولم يلبث أن عهدت إليه أعمال تدر عليه الكثير من المال.

وكان في روما حيث نهبت المدينة، وفقد في أثناء النهب جميع ما يملك مثله في ذلك كمثل جميع الفنانين. واستطاع أن يتخذ طريقه للبندقية يرجو أن يسافر منها إلى فرنسا؛ ولكن الدوج أندريا جرني Andrea Gritti رجاه أن يعدل عن هذا السفر وأن يعمل لتقوية عمد كنيسة القديس مرقص وقبابها، وسر مجلس شيوخ المدينة من عمله سروراً جعله يعينه مهندس الدولة (1529)؛ وظل ست سنين يكدح في تحسين ميدان سان ماركو، فأزال حوانيت القصابين التي كانت تشوه منظر جوانبه، وشق شوارع جديدة، وعمل على جعل ميدان القديس مرقص ذلك المكان الرحب الذي نشاهده اليوم.

وفي عام 1536 أنشأ دار الضرب (Zecca) ثم بدأ أشهر مبانيه كلها وهو مبنى دار الكتب Libraria Vecchia، المواجه بقصر الدوج. ووضع تصميما للواجهة جعل لها فيه رواقين ذوي عمد دورية وأيونية الطراز، وشرفات وأطناف، وزينها بالتماثيل. ويقول بعضهم إن هذه المكتبة القديمة "أجمل بناء غير ديني في إيطاليا كلها"(1)؛ غير أنها يؤخذ عليها الإسراف في العمد؛ هذا إلى أن بناءها نفسه لا يضارع بناء قصر الدوج. ومهما يكن من شيء فإن ولاة الأمور أحبوها، ورفعوا من أجلها مرتب سان سوفينو، وأعفوه من الضرائب. وحدث في عام 1544 أن انهارت إحدى البواكي الرئيسية، وخرت إحدى القباب، فألقى سان سوفينو في السجن، وفرضت عليه غرامة كبيرة، ولكن أريتينو وتيشيان أقنعا ولاة الأمور بالعفو عنه. ورممت الباكية والقبة، وتم البناء بنجاح في عام 1553. وكان سان سوفينو في هذه الأثناء (1540) قد وضع تصميم اللوجيتا Logetta الجميلة أو شرفة الشرطة القائمة على الجانب الشرقي من برج الأجراس وزينها بالتماثيل المصنوعة من البرنز أو القرميد؛ وصب في كنيسة القديس مرقص أبواباً من البرنز لإحدى حجر المخلفات، وانتهز هذه القرصة فصور بين النقوش البارزة أريتينو وتيشيان، ولم يكتف بهذا بل صور نفسه أيضاً.

وكان الرجال الثلاثة وقتئذ قد أصبحوا من أحب الأصدقاء، تحسدهم الدوائر الفنية في البندقية، وتسميهم: "الحكومة الثلاثية Triumvirate . وكم من سهرة قضوها معاً يمضون الوقت في الثرثرة أو يحتفلون بإحدى الحسان التي يستطيعون الاحتفال بها وقتاً ما. ولم يكن ياقوبو يقل عن أريتينو ائتلافاً مع أذواق النساء، وقد عاش من العمر بقدر ما عاش تيشيان، فقد ظل قوي الجسم، سليم البدن، يستمتع كما يؤكد عارفوه بقوة بصره كاملة حتى بلغ سن الرابعة والثمانين(2). وظل خمسين سنة لا يستشير طبيباً، وكان في فصل الصيف يعيش على الفاكهة لا يكاد يطعم سواها. ولما استدعاه البابا بولس الثالث ليخلف أنطونيو دا سنجالو في منصب كبير المهندسين في كنيسة القديس بطرس رفض هذه الدعوة وقال إنه لا يرضى أن يستبدل بحياته في ظل الجمهورية العمل في ظل حاكم مطلق(3). وعرض عليه كل من إركولي الثاني صاحب فيرارا، وكوزيمو دوق فلورنس، مبالغ طائلة لكي يرضى بالإقامة في بلاطيهما، ولكنه رفض ما عرضاه عليه. ومات ميتة هادئة في عام 1570 بعد أن بلغ الخامسة والثمانين من العمر.

وفي ذلك العام ظهر مؤلف في العمارة كان بداية عهد جديد في هذا الفن. واسم هذا الكتاب هو أربعة كتب في العمارة ومؤلفه أندريا بلاديو الذي سمى باسمه طراز من البناء لا يزال باقيا في أماكن متفرقة حتى يومنا هذا. وسافر أندريا إلى روما كما سافر إليها كثيرون غيره من الفنانين، وتأثرت مشاعره أشد التأثر بعظمة خرائب السوق العامة، وشغف حبا بالعمد والتيجان المحطمة، ورأى فيها أجمل الأفكار التي وصل إليها فن العمارة؛ وكان يحفظ رسالة فتروفيوس عن ظهر قلب، وقد حاول في كتابه هو أن يرد إلى مباني النهضة جميع تلك المبادئ التي قام عليها، في رأيه، مجد روما القديمة. وقد خيل إليه أن أجمل المباني هي التي تبتعد عن جميع الزخارف التي لا تنبت بنفسها من طراز الإنشاء نفسه، والتي تستمسك بأدق النسب والصلات، وبتطابُق الأجزاء ومواءمتها بحيث يتكون منها كل عضو يسمو عظيماً قوياً طاهراً طهارة العذراء العفيفة، مهيباً كالإمبراطور العظيم.

وكان أول أعماله الكبيرة أحسنها على الإطلاق، وهو من أبرز المنشآت غير الدينية في إيطاليا. ذلك أنه أقام حول قاعة البلدية Palazzo della Ragione في موطنه فيتشندسا Vicenza في عام 1549 وما بعدها أروقة مقنطرة فخمة قوية حول بها مركز البناء القوطي الذي لا يمتاز بشيء عما حوله إلى باسلقا بلاديانا لا تكاد تقل شأناً عن باسلقا لوليا التي كانت قائمة في الزمن القديم في السوق الرومانية: فهي مؤلفة من صف من الأقواس تعتمد على عمد دورية أسطوانية ومربوعة، وعارضات لها قوية ضخمة، وسياج وشرفة منحوتة نحتاً رشيقاً، ثم صف آخر من العقود فوق عمد أيونية الطراز، وأطناف وسياج، وفوق كل بندريل تمثال عال يطل على المدينة ويكسبها عظمة وفخامة. وقد كتب هو نفسه عنها في كتابه بعد واحد وعشرين عاماً من بنائها يقول: "لا شك عندي في أن هذا الصرح لا يقل جلالاً عن الصروح القديمة، وأنه يمكن أن يعد من أروع وأجمل ما شيد من العمائر منذ أيام الأقدمين"(4). ولو أنه قصر هذا التحدي على المباني غير الدينية لما كان عليه في تثريب.

وأصبح بلاديو بعدئذ بطل فيتشندسا التي أحست بأنه قد تفوق على سانسو فينو، وأن هذا الصرح أعظم من بناء دار الكتب. وألح عليه أثرياء المدينة يطلبون أن يقوم لهم ببناء القصور والبيوت الريفية؛ كما ألح عليه رجال الدين ليشيد الكنائس؛ وكانت النتيجة ذلك أنه كاد يجعل المدينة قبل وفاته عام 1580 قطعة من روما. وكان مما شاده فيها شرفة مكشوفة تدار منها شؤون المدينة، ومتحف جميل، ودار تمثيل أطلق عليها اسم Teatro Olimpico. واستدعته البندقية وفيها خطط كنيستين من أجمل كنائسها هما كنيستا سان جيورجيو مجيوري، وريدينتوري Redentore، وأصبح حتى قبل وفاته ذا أثر قوي في إيطاليا. ونقل إنيجو جونز Inigo Jones في أوائل القرن السابع عشر الطراز البلاديوني إلى إنجلترا، وانتشر بعدئذ في أوربا الغربية ثم انتقل إلى أمريكا.

وربما كان انتشار هذا الطراز من سوء حظ فن العمارة. ذلك أنه لم يبلغ قط ما بلغه فن العمارة الرومانية من روعة ومهابة، فقد أربك واجهات مبانيه بما ملأها به من العمد، والتيجان، والطنوف، والصور، والتماثيل، فكانت هذه التفاصيل مما يزري بما في الصروح الرومانية الطراز من بساطة في الخطوط ووضوح في المنظر العام. ولقد نسي بلاديو وهو يعود متواضعاً إلى الطراز القديم أن الفن الحي يجب أن يعبر عن العصر الذي يعيش فيه ومزاجه، لا عن عصر آخر ومزاج آخر. ومن أجل هذا فإننا حين نفكر في عصر النهضة، لا ترتسم في عقولنا مبانيه، بل ولا تماثيله نفسها، وإنما ترتسم فيها صوره التي لا يتمثل فيها إلا القليل من تقاليد الإسكندرية وروما، التي حررت نفسها من القوالب البيزنطية المزدحمة الغير طبيعية، فكانت بذلك صوت ذلك العصر ولونه بحق.


الفصل الثاني: أريتينو 1492 - 1556

وكأن الأقدار أرادت أن تخلد ذكرى عام 1492 فقدرت أن يولد بيترو أريتينو، المنكل بالأمراء، وأمير المبتزين المغتصبين، كما قدرت أن يخرج إلى العالم في يوم الجمعة الحزينة من ذلك العام. وكان والده حذاء فقيراً في أرتسو لا نعرف من اسمه إلا لوكا Luca. وسمي بيترو في الوقت المناسب، كما كان يسمى كثيرون غيره من الأيطاليين، باسم مسقط رأسه فصار أريتينو. وكان أعداؤه يصرون على أن أمه كانت عاهراً؛ ولكنه كان ينكر ذلك ويقول إنها كانت فتاة حسناء تدعى تيتا Tita يتخذها المصورون نموذجاً لرسم صورة العذراء، غير أنها في ساعة من الاستهتار حملت بييترو وهي في أحضان عشيق عارض ولكنه نبيل يدعى لويجي باتشي Luigi Bacci. ولم يكن أريتينو يعبأ بأنه نغل، لأن له زملاء ممتازين من هذا الصنف من الناس، كذلك لم يكن أبناء لويجي الشرعيون يغضبهم أن يسميهم بيترو، بعد ان ذاع صيته، اخوته. لكن أباه كان هو لوكا.

ولمما أتم الثانية عشرة من عمره شرع يعمل لكسب عيشه، فاشتغل مساعد مجلد كتب في بيروجيا؛ وهناك درس الفن دراسة تكفي لأن تجعله فيما بعد نقاداً وخبيراً ممتازاً. ورسم هو بعض الصور الملونة. واتفق أن كانت في أشهر ميادين بيروجيا صورة دينية يعزها أهل المدينة ويجلونها، تمثل صورة مجدلية خاشعة عند قدمي المسيح. فما كان من أريتينو في إحدى الليالي إلا أن رسم عوداً في أحضان مجدلية فحول بذلك دعاءها إلى أغنية. ولما استشاطت المدينة غضباً من هذه الفعلة الطائشة، تسلل بيبرو من بيروجيا وأخذ يطوف في إيطاليا، فعمل خادماً في روما، ومغنيا في شوارع فيتشندسا، وصاحب نزل في بولونيا. واشتغل فترة من الزمان في مطبخ بعض السفن وعاملا مأجوراً في دير، لكنه طرد منه لاتهامه بالدعارة، فعاد إلى روما (1516)، حيث عمل خادماً عند أجوستينو تشيجي. ولم يكن الرجل المصرفي يقسو في معاملته، ولكن أريتينو كان قد كشف عما امتاز به من عبقرية، وتضايق من الاشتغال بالخدمة؛ فكتب قطعة من الهجاء اللاذع يصف فيها حياة الخادم الحقير الذي يقضي وقته في تنظيف المراحيض، وتلميع المباول... وإشباع شهوات الطباخين ورؤساء الخدم، ولا يلبث أن يرى جسمه مرقطاً ومزداناً بالزهري"(6). وعرض قصائده على بعض ضيوف تشيجي، وترامت الأنباء بأن بيترو أحد الهجائين لساناً وأعظمهم فكاهة. وبدأت قصائده تنتشر، وسر منها البابا ليو، وبعث في طلب مؤلفها، وضحك من فكاهته الخشنة الصريحة، وضمه إلى الموظفين البابويين ليكون في مركز وسط بين الشاعر والمهرج، وظل بيترو ثلاث سنين في خدمة البابا يستمتع بلذيذ المأكل والمشرب.

ثم مات ليو فجأة، وبدأ أريتينو حياة التجوال مرة أخرى. ولما أبطأ مجمع الكرادلة في اختيار من يخلفه، كتب عدة قصائد يهجو فيها الناخبين والمرشحين، ولصقها على تمثال بسكوينو Pasquino وأخذ يكيل السخرية لكثيرين من الكبار حتى لم يكد يبقى له في المدين كلها صديق. ولما انتخب أدريان السادس، وبدأ حملة للإصلاح نفر منه أهل المدينة، فر بيترو إلى فلورنس، ثم إلى مانتوا (1523)، حيث عينه فيديريجو شاعر بلاطه بمرتب غير كبير. ولما استجيب دعاء روما ومات أدريان، وجلس ثري من آل ميديتشي مرة أخرى على عرش العروش، بادر بيترو بالذهاب إلى العاصمة كما بادر بالذهاب إليها آلاف غيره من الشعراء، والفنانين، والأوغاد، والرقعاء. وما كان يصل إليها حتى قضى بنفسه على ما لقيه فيها من ترحيب.

ذلك أن جيوليو رومانو كان قد رسم عشرين صورة ، تصف عدة مواقف غرامية مختلفة. ووضع مركانتونيو نقوشاً محفورة لهذه الصور، "وكتببيترو أريتينو". كما يقول فاساري "أغنية بلغت من الفحش درجة لا أستطيع معها أن أقول أيهما شر من الأخرى: الرسوم أو الألفاظ"(7). وتداول المفكرون الصور والأغاني حتى وصلت إلى جبيرتي Giberti وهو الموظف المنوط ببحث حالات موظفي الحكومة البابوية ولياقتهم لوظائفهم، وكان هذا الموظف معروفاً بعدائه لأريتينو. وسمع بذلك بيترو فخرج من المدينة هائماً على وجهه مرة أخرى. ولما وصل إلى بافيا افتتن به فرانسس الأول الذي أوشك أن يفقد كل شيء عدا الشرف. وفي ذلك الوقت بدل أريتينو موضوعه، وانقلب من النقيض إلى النقيض، ودهشت لذلك روما وحبست أنفاسها من فرط الذهول؛ فقد كتب ثلاثة قصائد في المديح، واحدة منها عن كلمنت، وثانية عن جبيرتي، وثالثة عن فيديريجو. وشفع له المركيز لدى البابا، ورق له قلب جبيرتي، وأرسل كلمنت في طلب أريتينو وعينه فارساً في رودس ورتب له معاشاً. وقد وصفه فرانتشيسكو بيرتي منافسه الوحيد بين الهجائين وقتئذ بقوله:

إنه يسير في شوارع روما في زي الأدواق، ويشترك في جميع مغامرات الأشراف، ويشق لنفسه الطريق بالإهانات المتخفية في الألفاظ الماكرة الخادعة. وهو يجيد الحديث، ويعرف كل قصة من قصص الطعن والتشهير في المدينة. ويسير متأبطاً أذرع أفراد أسرة أوست وجندساجا، ويستمع هؤلاء إلى ثرثرته: وهو يحترمهم ولكنه يشمخ بانفه على كل واحد سواهم، ويعيش من هباتهم، والناس يخشونه لما له من قدرة على الهجاء، ويسره أن يستمع الناس يصفونه بأنه ساخر نمام وقح. وكل ما كان يحتاجه أن يظفر بمعاش، وقد حصل عليه من البابا بعد ان وجه له قصيدة من الدرجة الثانية(8).

ولم يكن أريتينو يشك في أنه سيحصل على هذا كله. وكأنما أراد أن يثبت هذا فطلب إلى سفير مانتوا أن يرجو فيديريجو أن يهبه "قميصين مطرزين بالذهب... وآخرين مشغولين بالحرير، ومعها قلنسوتان من الذهب". فلما أبطأت عليه هذه المطالب أنذر بأنه سوف يهجو المركيز هجوا يقضي عليه من فوره. وحذر السفير فيديريجو من هذا بقوله: "إن سموك لتعلم قوة لسانه؛ ولن أقول لك شيئاً غير هذا". وسرعان ما وصلت أربعة قمصان مطرزة بالذهب، وأربعة مطرزة بالحرير، وقلنسوتان من الذهب، وقبعتان من الحرير، وكتب السفير يقول: "إن أريتينو راض قانع". وكان في وسع بيترو أن يرتدي وقتئذ رداء الأدواق.

وقضى على فترة الرخاء الثانية في روما حادث روائي إلى إصابته خفية بطعنات خنجر. وتفصيل ذلك أن أريتينو قال أبياتاً أهان بها فتاة تعمل في مطبخ جبيرتي، فهاجمه خادم آخر من خدم جبيرتي يدعى أتشيلي دلا فولتا Achille della Volta في أحد شوارع المدينة في الساعة الثانية صباحاً (1525)، وطعنه بخنجر في صدره طعنتين، كما طعنه طعنة شديدة في يده اليمنى أدت إلى بتر إصبعين من أصابعهما. ولم تكن الجراح مميتة، وسرعان ما شفي منها أريتينو، وطالب باعتقال أتشيلي، ولكن كلمنت وجبرتي لم يتدخلا في الأمر. وظن بيترو أن جبيرتي يعمل لقتله، فاستقر رأيه على أن الوقت قد آن للطواف مرة أخرى بإيطاليا، فانتقل إلى مانتوا والتحق مرة أخرى بخدمة فيديريجو (1525). ولما سمع بعد عام من ذلك الوقت أن جيوفني دلى باندى نيرى يجهز جيشاً يقصد به غزو فرندسبرج، ثارت في نفسه ذرة خفية من النبل والكرامة، فسافر راكباً نحو مائة ميل لينضم إلى جيوفني في لودى Lodi. وغلى كل ما في عروقه من الدم حين فكر في أنه وهو الشاعر المسكين قد يصبح رجل جد وعمل، وأنه قد يبلغ من أمره أن ينشئ لنفسه إمارة يتولى هو رياستها، بدل أن يكون مجرد خادم مهين لأمير.

والحق أن القائد الشاب كان كريماً معه كرم دون كيشوت، فوعده بأن يجعله مركيزاً إن لم يكن أعظم من مركيز. ولكن جيوفني الباسل قتل، وخلع أريتينو الخوذة التي أعطيها وعاد إلى مانتوا وإلى قلمه.

وألف وقتئذ تقويماً هزلياً لعام 1527 تنبأ فيه بنبوءات سخيفة أو سيئة لمكن كلن يبغضهم، وضم إلى ضحايا قلمه البابا كلمنت لغضبه عليه بسبب ضعف المعونة التي قدمها إلى جيوفني دلى باندي وتردده في تقديمها. وأظهر كلمنت دهشته من أن يأوى فيديريجو مثل هذا العدو للبابوية الذي لا يظهر لها شيئاً من الإجلال، فما كان من فيديريجو إلا أن نفح أريتينو بمائة كرون وأشار عليه بأن يبتعد عن متناول يد البابا. فر عليه بيترو بقوله: "سأذهب إلى البندقية، ففي البندقية وحدها تمسك العدالة بكفتين متزنتين".. ووصل إليها في شهر مارس عام 1527، واتخذ له بيتاً على القناة الكبرى. وافتتن بالمناظر التي كان يراها من وراء الأمواه الضحلة، وبحركة المرور التي كان يشاهدها فيما أسماه "أجمل طريق كبير في العالم كله"؛ وكتب في ذلك يقول: "لقد استقر رأيي على أن أعيش في البندقية طول حياتي". وبعث بخطاب يهدي فيه تحياته وثناءه العظيم إلى الدوج أندريا جبيرتي، ويمتدح فيه جمال البندقية وجلالها وعدالة شرائعها، وما يستمتع به أهلها من أمن وطمأنينة، وإيواءها اللاجئين السياسيين والمفكرين، واضاف إلى ذلك في عظمة وجلال: "أنا، الذي قذفت الرعب في قلوب الملوك.. أسلم نفسي إليكم يا آباء شعبكم"(9). وقدره الدوج التقدير الذي قدر به نفسه، وأكد له أنه سيبسط عليه حمايته، ووظف له معاشاً، وشفع له عند البابا، وبقي أريتينو مقيما في البندقية وفياً لها طوال السنين التسع والعشرين الباقية من حياته، وإن كانت قد جاءته الرسائل تدعوه إلى الإقامة في بلاط الكثيرين من رؤساء البلاد الأجنبية.

ويشهد ما جمعه في بيته الجديد من أثاث وتحف فنية بما كان لقلمه من قوة، لأن هذا كله إنما صنع أو جمع نتيجة لكرم أنصاره أو خوفهم منه. من ذلك أن نتورتو نفسه هو الذي نقش سقف حجرات بيترو الخاصة، وسرعان ما ازدانت جدرانها بصور من عمل تيشيان، وسباستيانو دل بيومبو، وجيوليو رومانو، وبرندسينو، وفاساري؛ وكان في الدار تماثيل من صنع ياقوبو سانسو فينو، وألسندرو فتوريا. وكانت فيها علبة من خشب الأينوس تحوي الرسائل التي تلقاها أريتينو من الأمراء، والأحبار، وقواد الجيوش، والفنانين، والشعراء، والموسيقيين، وكرائم السيدات؛ وقد نشر هذه الرسائل فيما بعد في مجلدين يحتويان على 875 صفحة كثيرة السطور. وكان في الدار فوق ذلك صناديق وكراسي محفورة، وسرير من خشب الجوز يليق بجسم بيترو الذي كان قد تضخم. وكان أريتينو يعيش وسط هذا الترف وهذه التحف الفنية، يرتدي ثياب الأمراء، ويوزع الصدقات على الفقراء من الجيران، ويولم الولائم لعدد لا يحصى من الأصدقاء وللعشيقات اللاتي اتخذهن واحدة بعد واحدة. ترى من اين جاء بالمال الذي يحيا به هذه الحياة المترفة؟ لقد جاء يبغضه من بيع كتاباته للناشرين، وبعضه من الهدايا والمرتبات التي كان يبعث بها إليه من يخشى سخريته أو يلتمس مديحه من الرجال والنساء. وكان أكثر الناس يقظة وشأناً في إيطاليا يسارعون إلى ابتياع ما يخطه قلمه من هجاء، وقصائد؛ ورسائل، ومسرحيات، وكلهم حريص على أن يعرف ما يقوله عن الأشخاص والحوادث، ويسر من هجماته على ما هو منتشر في تلك الأيام من سفاد، ونفاق، وظلم، وسوء خلق. وقد أضاف أريستو إلى الطبعة التي أصدرها في عام 1532 من أرلندو فيوزيوسو Orlando Furioso يتبين من الشعر أضافا لقبين إلى اسم بيترو إذ قال: "انظروا إلى المنكل بالأمراء، بيترو أريتينو القدسي؛ وسرعان ما أصبح الطراز المألوف أن يتحدث الناس عن أكبر كاتب فظ بذئ في ذلك الوقت بـأنه "قدسي".

وذاعت شهرته في أنحاء القارة الأوربية، وسرعان ما ترجم هجاؤه إلى اللغة الفرنسية، وجمع أحد باعة الكتب في شارع سان جاك في باريس ثروة طائلة من بيعها مفردة(11)، ورحب بها سكان إنجلترا، وبولندا والمجر، وقال في ذلك أحد معاصريه إن أريتينو ومكيفلي هما دون غيرهما المؤلفان اللذان تقرأ مؤلفاتهما في ألمانيا، وفي روما حيث يقيم ضحايا قلمه المحببون كانت كتاباته تنفذ في يوم نشرها، وإذا جاز لنا أن نأخذ بتقديره هو فإن ايراده من مؤلفاته المختلفة بلغ ألف كرون (12.500 دولار؟) في العام الواحد. وفضلا عن هذا فإن "كيمياء قلمي قد جاءت إلي بأكثر من 25.000 كرون ذهبي من أشحاء مختلف الأمراء". وكان الملوك، والأباطرة، والأدواق، والبابوات، والكرادلة، والسلاطين، والقراصنة، ممن يعطونه الجزية عن يد وهم صاغرون. وهاهو ذا شارل الخامس يعطيه طوقاً يقدر بثلاثمائة كرون، وفيليب الثاني يعطيه طوقاً آخر يقدر بأربعمائة، وفرانسس الأول يهبه سلسلة أعظم منها قيمة(12). وكان فرانسس وشارل يتنافسان في كسب مودته بما يعدانه به من معاش ضخم، وقد وعده فرانسس بأكثر مما وهبه، وقال عنه أريتينو: "لقد كنت أجلَه أعظم إجلال، ولكن عجزي عن استثارة سخائه والحصول من هذه الاستثارة على المال ليكفي لأن يبرد أفران مورانو (الضاحية التي تتركز فيها صناعة الزجاج، بالبندقية)"(13). وعرض عليه لقب "فارس" من غير أن يصحب اللقب إيراد ما، فرفضه وقال "إن الفروسية بلا دخل كالجدار الذي لا يحمل علامة "ممنوع" فعنده يرتكب كل إنسان ما يشاء من المضايقات"(14). وهكذا سخر أريتينو قلمه للثناء على شارل وخدمه بإخلاص لم يألفه قط. ودعي مرة لمقابلة الإمبراطور في بدوا، فلما أقبل على المدينة خرجت جموع كبيرة تحييه كما تحيي أعظم العظماء المشهورين، وآثر شارل أريتينو على جميع الحاضرين فاختاره للركوب إلى جانبه وهو يطوف بالمدينة، وقال له:

"إن كل سميذع في أسبانيا يعرف كتاباتك، ويقرأ كل ما يصدر منها فور طبعه". وجلس ابن الحذاء في تلك الليلة عن يمين الإمبراطور، الذي دعاه لزيارة أسبانيا، فرفض بيترو بعد أن عرف ما هي البندقية. وكان أريتينو وهو جالس إلى جانب فاتح إيطاليا أول مثل لما أسماه الناس بعدئذ قوة القلم، فما من نفوذ شبيه بنفوذه ظهر بعدئذ في الأدب حتى جاء فلتير.

وقلما يسترعي هجاؤه انتباهنا في هذه الأيام، ذلك أن قوته تعتمد في الغالب على الإشارات اللاذعة لحوادث محلية، وثيقة الصلة بظروف ذلك الوقت إلى حد يحرمها من أن يكون لها أثر دائم. وكان سبب انتشار ذلك الهجاء وشهرته أنه يصعب على الإنسان ألا يستمتع بكشف عورات غيره من الناس، ولأن قائله يعرض بالمساوئ الحقة، ويهاجم بشجاعة العظماء والأقوياء، ولأنه حشد جميع ما في لغة الشوارع من قوة لخدمة الأدب والتجريح الأدبي النافع. وقد استغل أريتينو اهتمام الناس الفطري بالشؤون الجنسية وبالخطايا، فكتب في ذلك أحاديث Ragionamenta بين العاهرات عن أسرار الراهبات، والزوجات، والعشيقات وأعمالهن. وكانت الصفحة الأوبى من الكتاب تعلن أنه محاورات نانا وأنطونيو... ألفه أريتينو القدسي لقرده المدلل كبريتشيو Capricio، ولإصلاح شأن طبقات النساء الثلاث. قدم للطباع في هذا اليوم من شهر إبريل سنة 1533 بمدينة البندقية الذائعة الصيت"(15). وفي هذا الكتاب يستبق أريتينو ما تتسم به كتابات ربليه Rabelais من فحش، وسخرية، وولع بالأوصاف يصل إلى حد الجنون، وهو يهيم حباً بالعبارات التي لاتزيد على أربعة أسطر، ويؤلف منها أحياناً عبارات فذة مدهشة كقوله: ("أراهن بروحي نظير حبة فستق")، وأوصافاً رائعة كوصفه الزوجة الحسناء التي فيسن السابعة عشرة والتي هي "أجمل قطعة من اللحم أظن أني لقيتها في حياتي"- والتي تزوجت برجل في سن الستين، واعتادت المشي وهي نائمة تتخذه وسيلة لمقارعة حراب الليل"(16). والنتيجة التي تستخلص من المحاورات هي أن المومسات أجدر طبقات النساء الثلاث بالمديح، لأن الزوجات والراهبات ينكثن بأيمانهن، أما الموسمات فيعشن كما تحتمه عليهم حرفتهن، ويقضين الليلة في أداء ما تناولن عنه أجرهن. ولم تروع أقواله إيطاليا، بل تلقتها بالضحك والابتهاج.

وألف أريتينو في ذلك الوقت نفسه أكثر مسرحياته كلها انتشاراً وهي مسرحية المومس. وقد سلك فيها النهج الذي سارت عليه معظم المسالي الإيطالية في عهد النهضة، فقد جرت على التقاليد البلوتينية، التي تجعل الخدم يسخرون من أسيادهم، ويحيكون لهم ما يريدون من الدسائس، ويعملون لهم قوادين، ويتولون عنهم التفكير. غير أن أريتينو أضاف إلى ذلك شيئاً خاصاً به: هو سخريته وفكاهته الفاجرة الفاحشة، وعلاقته الوثيقة بالعاهرات، وكراهيته لحاشية الملوك والأمراء،- وخاصة حاشية البابا- ووصفه الصادق الطليق للحياة كما شاهدها في المواخير وفي قصور روما. وقد أزاح الستار عن حاجة رجل البلاط إلى النفاق، والتذبذب، والتذلل، والملق؛ وعرف النميمة في سطر مشهور بأنها "قول الحق"، وكان ذلك لأقوى وأحكم دفاع عن حياته وتبرير لها. وكتب أريتينو مسلاة أخرى هي أطلنطا جعل فيها الشخصية الهامة عاهراً أيضاً، وجعل محور القصة ما تحتال به من الحيل على محبيها، والطرق التي تبتز بها المال منهم بعد أن تهيجهم. وله مسرحية أخرى تدعى Ipocrita شبيهة كل الشبه بمسرحية طرطوف لمليير، بل الحق أن مسالي مليير ليست إلا حلقات فرنسية من مسالي أريتينو أصلحت وطهرت من رائحتها الخبيثة.

وألف أريتينو في نفس العام الذي أخرج فيه أناشيد المواخير طائفة كبيرة من المؤلفات الدينية منها إنسانية المسيح، ومزامير التوبة السبعة، وحياة مريم العذراء، وحياة كترين العذراء، وحياة القديس تومس، سيد أكوينا وغيرها.. ومعظم هذه المسرحيات قصص لا تاريخ، وقد أقر بيترو بأنها "أكاذيب شعرية"، ولكنها أكسبته ثناء الرجال الصالحين، وحتى ثناء فتوريا كولنا الصالحة الفاضلة. وكانت بعض الجهات ترى أنه دعامة كبرى للكنيسة، وراجت في وقت ما إشاعة بأنه سيعين كردنالا.

وأكبر الظن أن رسائله هي التي أبقت على شهرته كما أبقت على ثروته وكانت الكثرة الغالبة منها مدائح بعث بها إلى الممدوحين أو إلى أشخاص متصلين بهم. وكان يقصد بها صراحة أن ينال رفدهم، أو معاشاً منهم، أو غير هذا وذاك من المساعدات؛ وكان في بعض الأحيان يعين ما يريد أن يناله والوقت الذي يناله فيه. وكان أريتينو لا يكاد يكتب هذه الرسائل حتى يطبعها، وكان هذا أمراً تستلزمه قوتها الإيحائية. وكانت إيطاليا تتخاطبها لأنها تتيح لها بطريق غير مباشر أن تكون وثيقة الصلة بالمشهورين من الرجال وبشهيرات النساء، ولأنها كتبت بطريقة مبتكرة مليئة بالحياة، والبهجة، والقوة، لا يسمو إليها أي كاتب آخر في ذلك الوقت. وكان أريتينو من ذوي الأسلوب الممتع وإن لم يسع هو إلى أن يكون له هذا الأسلوب. وكان يسخر من آل بمبو الذين كانوا يعملون لصقل كتاباتهم صقلا كاملا يفقدها الحياة كلها، وقد قضى على عبادة الكتاب الإنسانيين؛ اللغة اللاتنية، والدقة المتناهية في مراعاة قواعد اللغة ورشاقة اللفظ. وكان يتظاهر بأنه يجهل الأدب، ولهذا كان يشعر بالتحرر من النماذج الموضوعة المعقدة الملتبسة، ولم يكن يتقيد في كتاباته إلا بقاعدة واحدة تسيطر عليه دون غيرها وهي أن تكون كتابته تلقائية في لغة بسيطة خالية من اللف والدوران، معبرة عن تجاربه في الحياة ونقده لها، وعن حاجاتها البسيطة المألوفة من طعام وكساء. وفي وسعنا أن نجد بين أكداس السخافات التي تحتويها هذه الرسائل ماسات متلألئة: رسائل رقيقة لعاهر محبوبة في مرضها، وقصصاً مضطربة من التاريخ المحلي، ومغرب الشمس يصفه في رسالة إلى نيشيان لا تكاد تقل جمالا عن صورة من صنع نيشيان أو تيرنر Turner؛ ورسالة لميكل أنجيلو يشير عليه فيها بوضع تصميم لصورة العشاء الأخير أليق بها من التصميم الذي وضعه الفنان.

وكان إدراك أريتينو للفن، وتقديره إياه من بين الصفات الطيبة في خلقه وكان أقرب أصدقائه الذكور إليه وأوثقهم صلة به تيشيان وسانسوفينو. وكثيراً ما اجتمعا في ولائم تزدان في العادة بصحبة النساء، وكن من الساقطات؛ فإذا ما دار الحديث فيها حول الفن لم يكن أريتينو تعوزه القدرة على مجاراة الفنان الكبير. وكان يتغنى في رسائله بمديح تيشيان لعدد كبير ممن يتوسم فيهم مناصرة الفن؛ وقد استطاع أن يحصل له على عدد من الأعمال ربما كان له هو نصيب في إنجازها. وكان أريتينو هو الذي أقنع الدوج، والإمبراطور، والبابا، بأن يجلسوا أمام تيشيان ليصورهم، كذلك صور تيشيان أريتينو مرتين. وادعى سانسوفينو أنه ينحت صورة لأحد القديسين، ووضع رأس الشهواني العجوز فوق باب غرفة من غرف المقدسات في كنيسة القديس مرقص، وربما كان ميكل أنجيلو قد صوره هو على أنه القديس بارثولميو في صورة العشاء الأخير.

وكان أحسن وأسوأ من الصورة التي رسمت له؛ وقد اجتمعت فيه الرذائل كلها تقريباً، وكان اللواط من التهم التي رمى بها. وكان نفاقه مما جعل صورة إبوكريتا (النفاق) تبدو صورة صادقة إذا قورنت بأخلاقه هو نفسه. وكان يستطيع إذا شاء أن يجعل لغته ستاراً لحمأة من الأقذار. وكان في وسعه أن يكون وحشياً مجرداً من صفات الرجولة، يشهد بذلك ما أظهره من الشماتة في سقوط كلمنت؛ ولكنه أوتي من الكرم ما جعله يكتب فيما بعد: "إني لأستحي من أنني حسن ذممته قد فعلت ذلك وهو في أفدح الخطوب"(17). وكان جباناً لا يستحي من جبنه؛ ولكنه أوتي من الشجاعة ما يستطيع به أن يشنع على الأقوياء، ويندد بالمساوئ التي يعتز بها بعضهم أعظم اعتزاز. وكان السخاء أبرز فضائله. فقد كان يعطي أصدقاءه ويهب الفقراء جزءاً كبيراً مما يحصل عليه من المعاش، والمكاسب، والهدايا، والرشا.

ونزل عن حقه في أرباح رسائله حتى يستطاع بيعها رخيصة، وحتى يذيع صيته ويعلو قدره. وكان يصل إلى حافة الإفلاس في كل عام قرابة عيد الميلاد لكثرة ما يهبه من الأموال، وفي ذلك يقول جيوفني دلى باندي نيري لجوتشارديني: "لست أقل سخاء من أحد من الناس إلا إذا قورنت ببيترو إن أوتي المال الذي يسخو به"(18). وكان يساعد أصدقاءه على بيع رسومهم، وعلى أن يطلق سراحهم من السجون (كما فعل سانسوفينو). وقد كتب مرة يقول: "ما من أحد إلا يأتي إلى كأني خازن بيت مال الملوك؛ فإذا اعتقلت بنت فقيرة، وفي بيتي بما تطلبه من نفقات، وإذا سجن إنسان ما تحملت أنا نفقة إخراجه، والجنود الذين ينقصهم العتاد، والغرباء الذين خانهم الحظ، والفرسان الجائلون الذين لا يحصى لهم عدد، يأتون إلى بيتي ليجهزوا بما يحتاجون"(19). وإذا كان قد آوى في بيته في وقت من الأوقات اثنتين وعشرين امرأة، فإن هاته النسوة لم يكن كلهن حريمه، فمنهن من كن يربين أطفالاً غير شرعيين، وقد وجدن لهن ملجأ في بيته، ومما هو جدير بالملاحظة أن أسقفاً بعث بحذاءين إلى إحدى هاته النسوة. وكانت كثيرات من السناء اللاتي يستخدمهم أو يعولهن يحببنه ويجللنه، وقد تسمت ست من عشيقاته المحببات باسم أريتيني Aretine وكن يفتخرن بهذه التسمية. وكان له ما يمكن أن تتضمنه الروح الحيوانية القوية من فضيلة، فكان في حياته الخاصة حيواناً طيب القلب لم يعرف قط القانون الأخلاقي معنى، وكان يظن- وكان لظنه هذا بعض ما يبرره في ذلك الوقت- أنه ما من رجل ذي مكانة يتقيد حقاً بالقانون الأخلاقي. وقد قال مرة لفاساري إنه لم ير قط عذراء لا تنم معارفها عن مسحة شهوانية(20). وكانت شهوانيته هو عارمة فظيعة، ولكنها لم تكن تبدو لأصدقائه أكثر من نشاط تلقائي للحياة، وكان مئات من الناس يجدون فيه ما يدعو إلى حبه؛ وكان الأمراء والقساوسة يسرون من حديثه؛ ولم يؤت حظاً من التعليم، ولكن يبدو أنه كان يعرف كل إنسان وكل شيء. وكان إنساناً في حبه لجيوفني دلى باندي نيري، ولكترينا والطفلين اللذين ولدتهما له، ولبيرينا رتشيا Pierina Riccia الضعيفة، المسلولة، الرشيقة الخائنة.

وقصة رتشيا هذه أنها جاءت إلى بيته وهي زوجة لأمينه في الرابعة عشرة من عمرها. وكانت هي وزوجها يعشيان معه، وجعل نفسه أباً لها، وسرعان ما شعر نحوها بحب أبوي عارم ملك عليه قلبه. فأصلح أخلاقه ولم يحتفظ في داره من عشيقاته إلا بكترينا وإبنهما أدريا Adria. ثم حدث في الوقت الذي كان يتطلع إلى أن يكون رجلا محترماً، أن أتهمه نبيل من أهل البندقية، كان قد خدع زوجته، أمام المحكمة بالتجديف واللواط. فأنكر التهمتين. ولكنه لم يجرؤ على أن يعرض نقسه للفضائح والمحاكمة، لأن إدانته كان معناها الحكم عليه بالسجن مدة طويلة أو بالإعدام. ففر من بيته واختفى عدة أسابيع عند بعض أصدقائه. وأقنع هؤلاء المحكمة برفض الاتهام، وعاد أريتينو إلى بيته منتصراً، وحيته الجماهير المصطفة على جانبي القناة الكبرى. ولكن قلبه تحطم حين توسم في عيني بيرينا أنها تظنه مذنباً. ثم هجرت بيرينا وزوجها. فلما جاءته تطلب إليه أن يواسيها اتخذها عشيقة له: وأصابها السل وظلت ثلاثة عشر شهراً بين الحياة والموت، فعنى بتمريضها عناية الرجل الرحيم المشفق عليها، القلق على حياتها، حتى رد إليها الحياة. وبينما كان حبه وإخلاصه في ذروتهما هجرته واتخذت لها عشيقاً أصغر منه سناً، وحاول أن يقنع نفسه أن ذلك خير له، ولكن روحه تحطمت في ذلك اليوم، وأسرعت إليه الشيخوخة وغلبته على أمره.

وترهل جسمه، ولكنه ما فتئ يزدهي بقواه الجنسية، فكان يتردد على المواخير، وإن كان قد أخذ يزداد تديناً؛ وهو الذي كان في صباه يسخر من فكرة البعث ويصفها بأنها "هراء، لا يحملها على محمل الجد غير الغوغاء"(21). وسافر في عام 1554 إلى روما يرجو أن يتوج رأسه بقلنسوة الكرادلة الحمراء، ولكن يوليوس الثالث لم يزد على أن ضمه إلى فرسان القديس بطرس. وفي ذلك العام طرد من بيته (Casa Aretino) لعجزه عن الوفاء بديونه، واتخذ له مسكناً أقل كلفة بعيداً عن القناة الكبرى، ثم مات بالسكتة بعد عامين، وهو في الرابعة والستين من العمر. وكان قد اعترف بجزء قليل من خطيئاته، وهو في الرابعة والستين من العمر. وتلقى القربان المقدس والمسحة الأخيرة، ودفن في كنيسة سان لوكا كأنه لم يكن أكبر داعية للفجور، وأكثر الناس اقترافاً له. وقد ألف أحد الظرفاء أبياتاً يصح أن تكتب على شاهد قبره فقال:

هنا يرقد الشاعر التسكاني أريتينو

الذي لم يترك أحداً لم يتحدث عنه بالسوء إلا الله،

وقال معتذراً عن تركه إياه "إنني لم أعرفه قط".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: تيشيان والملوك 1530-1576

في عام 1530 وفي مدينة بولونيا عرَف أريتينو شارل الخامس بتيشيان. وكان الإمبراطور وقتئذ منهمكاً في إعادة تنظيم إيطاليا فجلس إلى تيشيان ليصوره وهو قلق نافذ الصبر، ودهش الفنان حين لم يعطه إلا دوقة واحدة (دولاراً ونصف دولار). فما كان من فيديريجو دوق مانتوا إلا أن نفح الفنان من جيبه الخاص بهبة سخية قدرها 150 دوقة تكملة لأجره. وما لبث الدوق في أثر في شارل أقنعه برأيه هو في تيشيان. ثم التقى الفنان والإمبراطور مرة أخرى في عام 1532،وفي خلال الأعوام الستة عشر التالية رسم تيشيان طائفة مدهشة من الصور للإمبراطور: رسم شارل في عدته الحربية الكاملة (1532 وقد ضاعت)؛ ورسمه في سترة موشاة بالقصب، وصدارة مطرزة، وسروال قصير أبيض، وجورب وحذاء، وقلنسوة سوداء، تعلوها ريشة بيضاء غير ملائمة لها (1533؟)؛ ورسمه مع الإمبراطورة إزبلا (1538)؛ ورسمه في حلة من الزرد براقة على جواد وائب، في واقعة موهلبرج Muhlberg (1548)- بلغت الذروة في جمال اللون والافتخار؛ ورسمه في ثياب سود، جالساً جلسة المفكر في إحدى الشرفات (1548). ومما يذكر بالفضل للمصور والمليك على السواء أن هذه الصور لا تحاول قط أن تجعل من موضوعها مثلاً أعلى إلا من حيث الملبس؛ فهي تكشف عن ملامح شارل غير الجذابة، وعن إهابه غير الحسن، وعن روحه المكتئبة، وعن بعض المقدرة على القسوة؛ ومع هذا فإنها تظهر الإمبراطور رجلاً ثقيل الأعباء، عظيم السلطان، ذا عقل بارد جامد، أخضع نصف أوربا لسلطانه. لكنه رغم ذلك يستطيع أن يكون رحيماً، وأن يكفر بسخاء عن شحه الأول. من ذلك أنه بعث إلى تيشيان في عام 1533 ببراءة يعينه بها أميراً في قصره، وفارساً من طبقة المهماز الذهبي، وأصبح تيشيان من ذلك الحين مصور البلاط الرسمي لأقوى مليك في العالم المسيحي. وكان تيشيان في هذه الأثناء قد بدأ يراسل فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الذي تزوج اليونور جندسا، أخت فدريجو وابنة إزبلا. وإذ كان فرانتشيسكو وقتئذ القائد الأعلى لجيوش البندقية، فكثيراً ما كان هو والدوقة زوجته يأتيان إلى البندقية؛ وفيها رسم تيشيان صورهما: رسم فرانتشيسكو رجلا تسعة أعشاره مغطاة بالزرد (لأن تيشيان كان يحب بريقه) ورسم الدوقة امرأة شاحبة اللون مستسلمة لقدرها بعد أن انتابتها الأمراض. ورسم لها تيشيان على الخشب صورة مجدلية ليس فيها ما يجعلها جذابة إلا اختلاف الضوء واللون اللذين أضفاهما الفنان على شعرها الأصحم؛ ثم رسم لهما صورة أخرى جميلة؛ باللونين الأخضر والأسمر تعرف باسم La Bella "الجميلة" لا أكثر، وتوجد الآن في معرض بتي. ورسم تيشيان للدوق جويدوبلدو الثاني الذي خلف فيديريجو صورة من أعظم الصور العارية هي صورة فينوس أربينو (حوالي 1538). ويقال إن تيشيان كان له بعض اللمسات النهائية في صورة فينوس النائمة لأربينو؛ وهاهو ذا يقلد هذه الآية الفنية في كل شيء عدا ملامحها ومصاحباتها. وفيها ترى الوجه يعوزه الهدوء البريء الذي نشاهده في صورة جيورجيوني؛ ونشهد بدل المنظر الطبيعي الهادئ منظراً داخلياً من ستار أخضر، وجوخ بني، واريكة حمراء، كما ترى فتاتين تبحثان عن رداءين يبلغان من العظمة درجة تليق بإهاب السيدة الذهبي.

وانتقل تيشيان من رسم الدوق والإمبراطور إلى رسم البابا. ولم يكن البابا بول الثالث يقل في العظمة عن الإمبراطور: كان رجلا قوي الخلق، عظيم الدهاء، ذا وجه طبع عليه جيلان من التاريخ. وقد وجد فيه تيشيان فرصة خيراً مما وجده في ملامح الإمبراطور الخفية التي لا تفصح عن شيء من نفسيته. وواجه بولس في بولونيا عام 1535 في شجاعة ما وجده في صورة تيشيان له من واقعية. وكان البابا وقتئذ في السابعة والستين من عمره، متعباً ولكن الأحداث لم تنل من قواه. وقد جلس أمام المصور في ثياب البابوية الفضفاضة، وأحنى رأسه الطويل، ولحيته العريضة، فوق جسمه الذي كان من قبل قوياً، وظهر خاتم السلطان واضحاً في يده الأرستقراطية. وهذه الصورة وصورة يوليوس الثاني تتنازعان تلك الميزة الكبرى وهي: أيهما أجمل وأعمق صورة في النهضة الإيطالية. وفي عام 1545 دعا البابا نيشيان وكان وقتئذ في الثامنة والستين من عمره إلى روما. وهيأ للفنان مسكن في بلدفير، وقدمت له المدينة جميع مظاهر التكريم؛ وعمل فاساري مرشداً له فأطلعه على عجائب روما في عهدها القديم وفي عصر النهضة، وحتى ميكل أنجيلو نفسه رحب به، وأخفى عنه في ساعة من ساعات المجاملة رأياً له عبر عنه لاصدقائه وهو أن تيشان كان يصبح مصوراً أعظم مما هو لو أنه تعلم الرسم(22). وهناك صور تيشيان البابا بولس مرة أخرى فأظهره أكبر سناً، وأكثر انحناء، وأشد قلقاً وضجراً مما كان قبل، بين اثنين من أحفاده الخانعين لم يلبثا أن خرجا على البابا بعد قليل. وهذه الصورة أيضاً من أعمق الصور التي أخرجتها يد تيشيان. وقد رسم كذلك لأحد هذين الحفيدين وهو أتافيو فارنيزي Ottavio Farnese صورة دانائي Danae الشهوانية المحفوظة في متحف نابلي. وأقام تيشيان ثمانية أشهر في روما سافر بعدها عائداً على مهل إلى البندقية عن طريق فلورنس (1546)، وهو يرجو أن يقضي فيها الأيام الباقية من حياته في راحة وسلام.

ولكنه لم يكد يتم العام حتى أرسل إليه الإمبراطور دعوة عاجلة يطلب إليه فيها عبور جبال الألب إلى أوجزبرج Augsburg. وأقام في هذه المدينة تسعة أشهر رسم فيها للإمبراطور صورتين من الصور التي ذكرناها قبل، وخلد فيهما عظماء الأسبان والتيوتون أبناء الجبال مثل المنتخب جوهان فريدريخ السكسوني Elector Johann Eriedrlch والتقى تيشيان في زيارة أخرى لأوجزبرج (1550) بالأمير الذي أصبح فيما بعد فيليب الثاني ملك أسبانيا، ورسم له عدة صور؛ منها واحدة في البرادو Prado تعد من آيات التصوير في عهد النهضة. وأجمل من هذه على جمالها الصورة التي مثل فيها الإمبراطورة وإزبلا زوجة شارل البرتغالية. وكانت هذه الزوجة قد توفيت في عام 1539، ولكن الإمبراطور أعطى تيشيان بعد أربع سنين من وفاتها صورة لها وهي نَصَفٌ رسمها لها مصور مغمور، وطلب إليه أن يحيلها تحفة فنية رائعة. وربما كانت الصورة النهائية غير شبيهة بالإمبراطورة، ولكنها حتى إذا كانت إزبلا البرتغالية صورة خيالية فإنها يجب أن تكون في أسمى مرتبة من مراتب صور تيشيان: فهي ذات وجه رقيق حزين، وثياب ملكية فخمة، وفي يدها كتاب صلوات يسري عنها ما تتوقعه من موت قريب، وفي الصورة منظر طبيعي بعيد يضيف إليها منظراً يجمع بين الخضرة، والسمرة، والزرقة. وشعر تيشيان بعد عودته من أجزبرج (1552) أنه قد نال كفايته من الأسفار. فقد كان وقتئذ في الخامسة والسبعين من عمره، وما من شك في أنه كان يظن أنه لم يبق له من الحياة الشيء الكثير. ولعل عمله كان من شأنه أن يطيل الحياة، فقد أنساه انهماكه في الصورة بعد الصورة أن يموت. وقد صور في سلسلة طويلة من الصور الدينية (1522-1570) فكرته الواضحة الرائعة عن العقيدة المسيحية وقصة الخلق من آدم إلى المسيح . وقد خلد في صور قوية حياة الرسل والقديسين، وأحسن هذه الصور وأكثر ما تعافه النفس منها صورة استشهاد القديس لورنس (1558 وهي الصورة رقم 1 في متحف جزويتي Gesuiti، بالبندقية): وفيها يرى القديس يشويه على السفود جنود وعبيد رومان يزيدون آلامه بكيه بالحديد المحمي وجلده بالسياط. وهذه الصور الدينية لا تؤثر في النفس كما تؤثر فيها أمثالها من صور الفنانين الفلورنسيين. نعم إنها تسمو عليها من حيث التشريح، ولكنها لا تشعر الإنسان بالتقى، فنظرة واحدة إلى أجسام المسيح والحواريين الرياضية توحي بوضوح أن تيشيان لم يكن يهتم إلا بالفن، وأنه كان يفكر في الأجسام الرائعة، لا في أجسام القديسين النساك. ذلك أن المسيحية في الفترة الواقعة بين آل بليني وتيشيان، فقد فقدت سيطرتها الروحية على فن البندقية، وإن كانت لا تزال توحي إلى الفنانين بالموضوعات(23).

وبقي العنصر الجنسي الذي هو من مستلزمات فن التصوير بالألوان أو بالمواد اللينة، قوياً عند تيشيان مدة تكاد تصل إلى قرن من الزمان. وقد كرر صورة دانائي Danae الفرنيزية في عدة أشكال مختلفة، ورسم عدة صور لفينوس طلبها إليه حماة الدين. وكان فيليب الثاني ملك أسبانيا خير عميل له في ابتياع هذه "الأساطير"؛ فقد زينت مساكن الملك في مدريد يصور لدانائى، وفينوس وأدونيس، وبرسيوس وأندرمدا، وجبسن وميديا Jassa & Medea وأكتائيون وديانا Actaeon & Diana، واغتصاب أوربا The Rapc of Europa، وتاركون ولكريشيا Tarquin & Lucretia، وجوبتر وأنتيوبي Jupiter & Antiope (وتعرف أيضاً بصورة فينوس الباردوئية) Venus of Pardo. وكل هذه الصور عدا الأخيرة منها قد صورها تيشيان بعد عام 1553، وهو في سن السادسة والسبعين أو بعدها. ومما يزيدنا تقديراً للفنان العظيم أن نرى خياله خلاقا مبدعاً في سن الثمانين وما بعدها فيصور نساء عاريات لا تقل كمالا عن الصور التي رسمها في عنفوان شبابه، فصور ديانا بشعرها الأصحم المرفوع إلى أعلى من الطراز الذي كان فيرونيز يصوره، فهي فينوس الشقراء تكاد تكون أجمل من صور أفروديتي اليونانية. ولعل صورة فينوس والمرأة (حوالي 1555 وتوجد الآن في واشنجتن) وهي صورة لهذه السيدة نفسها بعد ان امتلأ جسمها؛ وهي بعينها أيضاً فينوس التي تتعلق بأرنيس في الصورة الموجودة في برادو، والتي تحاول أن تتودد إليه وتبعده عن كلابه. ولسنا نجد مثل هذه الشهوانية الصريحة واضحة في جسم انثى حتى صور كرجيوني. وتوجد صور أخرى لفينوس منتشرة في معارض الصور في أنحاء العالم ولكنها كانت في يوم ما تحتل مكانها في رأس تيشيان: منها صورة فينوس أناديوميني Venus Anadyomene (حوالي 1520) الموجودة في بردجووتر هوس Bridgewater House، وتمثلها الصورة واقفة في الحمام ومغطاة من تحت الركبتين في حياء؛ وصورة فينوس وكيوبد (حوالي 1545)، الموجودة في معرض أفيزي- وهي ذات شقرة ألمانية ويدين ناصعتين، وفينوس المكتسبة في صورة تعليم كيوبد (حوالي 1565)، وفي معرض بورغير، وفينوس العازف على الأرغن (حوالي 1545) المحفوظة في برادو والتي يظهر فيها العازف عاجزاً عن تركيز عقله على الموسيقى؛ وفينوس والعازف على العود (1560) المحفوظة في المتحف الفني بنيويورك. على أننا يجب أن نقول إن النساء في هذه الصور لسن إلا جزءاً مما فيها من سحر وفتنة، ذلك أن تيشيان يهتم بالطبيعة اهتمامه بالنساء، ويصور في عدد من هذه اللوحات مناظر طبيعية رائعة لا تقل جمالا في بعض الأحيان عن الإلهة فينوس نفسها.

وأعظم من هذه الصور الأسطورية وأكثر عمقاً صور الآدميين، فإذا كانت صور فينوس تكشف عن الإحساس بجمال الصورة ولاتفقد قط روعتها، فإن صور الآدميين تكشف في تيشيان عن مقدرة على الإلمام بالأخلاق البشرية ونقلها بقوة فنية لا تضارعها في معارضها جميعاً صور غيره من الفنانين مجتمعة. وهل ثمة ما هو أرق من صورة الرجل ذي القفاز (حوالي 1520 في متحف اللوفر) وهي صورة لا يُعرف شخصية من تمثله- وفيها ترى اليد اليسرى المقفزة، والمخصل الأبيض الرقيق الملتف بالعنق يوائمان أحسن موائمة الروح الحساسة التي تنم عليه العينان. وصورة الكردينال إيوليتو ده ميديتشي (1533 في متحف بتي) أقل من السابقة عمقاً، ولكننا مع ذلك نرى في الوجه ما يتسم به آل ميديتشي من دهاء، وإحساس فني، وحب للسلطان. وصورة فرانسس الأول (حوالي 1538 المحفوظة في اللوفر) أذاعت شهرة ملامح ملك فرنسا، فقد بعثت في أنحاء العالم في مائة ألف نسخة منقولة عنها القبعة المراشة، والعينين المرحتين، والأنف الأقنى، واللحية الجميلة، والقميص القرمزي يرتديه الرجل الذي خسر إيطاليا ولكنه كسب ليوناردو وتشيلني ومائة امرأة. وقد تطلب منصب تيشيان الرسمي منه أن يرسم صوراً لعدد من أدواج البندقية، ولكن هذه كلها تقريباً قد ضاعت. وبقيت ثلاث صور عظيمة لأشخاص حقيقيين: صورة نقولو مارتشلو Niccolo Marcello (الذي مات قبل أن يولد تيشيان)- وهي ذات وجه قبيح ورداء فخم-؛ وصورة أنطونيو جرماني (التي تظهر في صورة الإيمان في قصر الدوج)، وصاحبها ذو وجه كوجه النساك وثوب فخم؛ وصورة أندريا جرتي، ويرتدي صاحبها ثوباً أقل من الثوبين السابقين فخامة ولكنه ذو وجه قوي يتركز فيه كل ما في البندقية من جلال وصدق عزيمة. وتختلف عن هذه في طرازها صورة كلاريس استروتسي الرقيقة التي أثنى عليها أريتينو ثناء جماً مستطاباً. وليست الصور التي تمثل أريتينو والمحفوظة في معرض بني بفلورنس وفي مجموعة فرك Frick في نيويورك إلا صراخاً مجرداً من الرحمة صادراً من وغد فاتن ساحر رسمها أعز أصدقائه. وأرق من هذه الصور التي خلد بها تيشيان ذكرى بمبو محب الشعراء الذي صار وقتئذ كردنالا (1542). ومن أروع الصور التي يضمها معرض تيشيان صورة المشترع إبوليتو رمنالدي (1542)، والتي كانت تعرف في يوم من الأيام بأنها صورة دوق فورفوك وهي ذات شعر منفوش أغبش، وجبهة عالية، وشاربين ولحية قليلة الشعر، وشفتين قويتين، وانف رقيق، ونظرات نفاذة. وإنا لنبدأ في أن نفهم إيطاليا والبندقية أحسن فهم حين نرى أنهما أنجبتا أمثال أولئك الرجال، وهم رجال ليست أجسامهم وأثوابهم الجميلة إلا الصورة الظاهرة للإرادة القوية المتأهبة للقاء كل تحد؛ وللعقل النافذ المتيقظ لكل صور التجارب والفن. وأكثر ما يثير اهتمامنا من رسوم تيشيان الصور التي رسمها لنفسه. وهي كثيرة متنوعة آخرها صورة له في التاسعة والثمانين من عمره. وإذا ما وقفنا أمام صوره الذاتية في معرض برادو رأينا وجهاً قد غضنه مر الأيام التي لا تحصى ولكنه زاده صفاء، ورأينا فوق جمجمته قلنسوة لا تغطي شعره الأبيض كله، ولحية صهباء تكاد تغطي وجهه كله، وأنفاً كبيراً ينفث القوة، وعينين زرقاوين، تغشاها كآبة قليلة، تريان الموت أقرب إليه مما كان في الواقع، وبدا تمسك بفرشاة- لأن شغفه العظيم بالفن لم تكن تارة قد خبت بعد. لقد كان هذا الرجل- لا الأدواج، ولا الشيوخ، ولا التجار- هو سيد البندقية نصف قرن من الزمان، يهب الخلود للأشراف والملوك العابرين القصار الآجال، ويسمو بالبلد الذي اتخذه موطناً له ويضعه إلى جانب فلورنس وروما في تاريخ النهضة.

وكان في الوقت الذي نتحدث عنه رجلا ثرياً، وإن كانت ذكرى حاجته الأولى وعدم طمأنينته قد جعلته جماعاً للمال إلى آخر حياته. وقد أعفته مدينة البندقية من بعض الضرائب "تقديراً لموهبته الممتازة النادرة"(34) وكان يرتدي لباساً ظريفاً رشيقاً، ويسكن بيتاً مريحاً ذا حديقة واسعة تطل على مياه البندقية الضحلة. وإنا لنتصوره ونحن نكتب هذه السطور يستضيف الشعراء والفنانين، والأشراف أبناء الأسر العريقة، والكرادلة، والملوك. ولما ماتت في عام 1530 عشيقته التي تزوجها في عام 1525 بعد أن ولدت له ولدين قبل الزواج؛ عاد إلى حريته التي كانت له وهو أعزب والتي استمتع بها ما يقرب من نصف قرن. وكانت ابنته لافينيا مصدر بهجة وفخر له؛ وقد رسم لها صوراً تدل على محبته لها حتى بعد أن كبرت وتزوجت. ولكنها هي أيضاً توفيت بعد سنين قلائل من زواجها. وأصبح أحد ولديه وهو بمبونيو Pomponio مهملاً فاسداً، أحزن قلب الرجل في شيخوخته ورسم الثاني في بعض الصور التي ضاعت، وأكبر الظن أنه اشترك في بعض الصور التي تعزى لأبيه في سنيه الأخيرة. وربما ساعده في ذلك الوقت أيضاً تلميذ آخر من تلاميذ تيشيان يدعى دومينيكو ثيوتوكوبولوس Domenico Theotocopulos، المسمى إلجريكو Elgireco (الإغريقي) ولكننا لانجد دليلاً على هذه المساعدة في صور أشخاص تيشيان المرحين ولا في مناظره البهيجة. وظل حتى بعد أن تقدمت به السن كثيراً لا يكاد ينقطع عن الرسم يوماً واحداً من أيامه، وكان يجد في الفن سعادته الباقية الوحيدة. ففيه كان يعرف أنه السيد الذي لا يبارى، وأن العالم كله يثني عليه، وأن يده لم تفقد قدرتها على الإبداع، كما أن عينه لم تفقد حدتها ونفاذها؛ وحتى عقله، وخياله ظلا، فيما يبدو، يحتفظان بقوتهما إلى آخر أيامه. وقد شكا بعض من ابتاعوا صوره الأخيرة بأن هذه الصور أرسلت إليهم من قبل أن تتم. وحتى إذا كان هذا صحيحاً فإنها كانت معجزات بحق. وأكبر الظن أنه ما من فنان غيره- إذا استثنينا رافائيل- كان له ما لتيشيان من يسر في أصول فنه، وسيطرة على اللون والتركيب، والضوء الساحر المبرقش. أما أخطاؤه فهي الأخطاء الناتجة من السرعة في التنفيذ، ومن الإهمال في الرسم أحياناً وقد كانت الكثرة الغالبة من رسومه التخطيطية الأولى تجريبية؛ ولكنه كان إذا غنى بالتأني والتؤدة، يستطيع أن يخرج عجائب مثل صورة ميدورو وانجيلكا التي رسمها بالقلم والمحفوظة في متحف بنات Bonnat في بايون Bayonne. أما في الصور الملونة فقد كان لابد له ان يعمل مسرعاً. ذلك بأن من يجلسون أمامه ليصورهم كانوا منهمكين في العمل لا يصبرون على الجلسات الطويلة أو الكثيرة التي لابد منها لإتقان الصور؛ ومن أجل هذا كان يرسم رسماً تخطيطياً سريعاً، ثم يرسم منه الصورة الملونة، ولعله كان يضع في رأس نموذجه ووجهه أكثر مما فيه حقيقة. أما في الصور التي كان يرسمها لغير الأحياء فكان يبرز الملامح أكثر مما ينبغي، وقلما كان يتعمق إلى الجوهر الروحي، ولهذا فإنه لم يصل في عمق النظرة النافذة ولا في الشعور إلى مثل ما وصل إليه ليوناردو أو ميكل أنجيلو، ولكن ما أصح وأسلم فنه إذا قورن بفنهما! فلسنا نرى فيه انهماكاً في التفكير الداخلي يفسده، كما لا نرى فيه ثورة عارمة على طبيعة العالم والإنسان. لقد قبل تيشيان العالم بالصورة التي رآه عليها، وأخذ الرجال كما وجدهم، والنساء كما وجدهن، واستمتع بكل أولئك. وكان وثنياً صريحاً، يتأمل بابتهاج بناء جسم المرأة طوال سنيه التسعين؛ وحتى عذاراه صحيحات الأجسام سعيدات صالحات للزواج؛ وقلما كان لما في الحياة من فقر، وحزن، واضطراب مكان في فن تيشيان، بل كل ما فيه جمال وبهجة إذا استثنينا قليلا من صور الشهداء والمسيح المصلوب.

وتقدمت به السن وهو يواصل عمله في الرسم، وعاش ربع قرن بعد أجل الناس المعتاد؛ وسافر إلى بريشيا وهو في الثامنة والثمانين من عمره، وقبل فيها مهمة شاقة هي نقش سقف قصر البلدية. ولما زاره فاساري وهو في سن التسعين وجده يعمل وفرشاته في يده. ورسم وهو في الواحدة والتسعين من عمره صورة لياقوبو دا استرادا Jacopo da Strada (توجد الآن في فينا) متلألئة الألوان قوية تكشف عن خلق الرجل. ولكن يده أخذت في آخر الأمر ترتعش، وضعفت عيناه، وأحس أن قد آن أوان التقى والصلاح. ورضى في عام 1576 وهو في التاسعة والتسعين من العمر أن يرسم صورة دفن المسيح لتوضع في كنيسة فيرارى Frari بدلاً من مدفن فيها، كانت له في صورتان من أعظم صوره. غير أنه لم يتم الصورة وتوفي وقد نقصت سنه سنة واحدة عن قرن كامل. وانتشر في ذلك العام وباء الطاعون في البندقية، وكان يودي كل يوم بحياة مائتين من أهلها، وهلك به ربع سكان المدينة. ومات تيشيان نفسه في أثناء الوباء، وأكبر الظن أنه لم يمت به، بل مات بضعف الشيخوخة (26 أغسطس سنة 1576). وألغت الحكومة أوامرها التي تحرم الاجتماعات العامة لكي تكون له جنازة سمية، ودفن في كنيسة سانتا ماريا جلوريوزا ده فيراري Santa Maria Gloriosa de Frari تنفيذا لرغبته. وكان موته خاتمة حياة عظيمة وعصر عجيب.


الفصل الرابع: تنتورتو 1518-1594

لا، لم يكن موته خاتمة لكل شيء، لأن قوة وروحاً تكادان تقلان عظمة عن قوته وروحه قد عاشتا بعد موته ثمانية عشر عاماً، ورسمتا صورة الجنة. كان ياقوبو روبستي Jacopo Robusti ابن صباغ، وهذا هو أصل هذا اللفظ المصغر الذي سماه به من قبيل السخرية الإيطاليون الهوائيون والذي انحدر إلينا من خلال أحقاب التاريخ. والحق أنه اصبح صانعاً إذا فهمنا من هذا اللفظ أنه كان ملونا عظيما. غير أن اسم أسرته كان أليق به من غيره من الأسماء لأن روحه القوية وحدها هي التي مكنت ياقوبو من أن يخرج ظافراً من الكفاح الطويل الذي خاض غماره حتى اعترف للناس بفضله. ويكاد يكون أول ما عرفناه عنه إنه أرسل ليتدرب عند تيشيان في سن غير معروفة، ثم فصل من العمل بعد أيام قليلة. وقد كتب ريدلفي Ridolfi بعد مائة عام من ذلك الوقت يصف الحادث كما ينظر إليه ابنا نتورتو قال: لما عاد تيشيان إلى بيته ودخل المكان الذي يعمل فيه تلاميذه رأى أوراقاً بارزة من أحد الأدراج، وعليها بعض رسوم، فسأل عن رسمها، فأجاب ياقوبو في خوف إنها من صنع يده. وأدرك تيشيان من هذه البدءات أن هذا التلميذ سيصبح رجلاً عظيماً، وأنه سيسبب له بعض المتاعب من ناحية الفن، فلم يكد يصعد الدرج إلى حجرته ويخلع ميدعته حتى أمر كبير تلاميذه جيرولامو دانتي، وهو نافض الصبر، أن يمنع ياقوبو من دخول البيت من تلك اللحظة. وهكذا تحدث الغيرة، مهما تكن ضئيلة، أثرها في القلوب البشرية(25).

ونحن نميل إلى تكذيب هذه القصة، ولكن أريتينو صديق تيشيان الحميم، يشير إلى هذه الحادثة في رسالة له كتبها عام 1549. فأما فصل ياقوبو من عمله فحقيقة مؤكدة، أما أسباب هذا الفصل فموضع للأخذ والرد؛ ذلك أن من أصعب الأمور أن نعتقد أن تيشيان، الذي كان وقتئذ مصوراً للملوك حين لم يكن ياقوبو إلا صبياً في الثانية عشرة من عمره، يغار من هذا المنافس المفترض، أو أنه يستطيع أن يرى مستقبل نتورتو من اطلاعه على رسوم طالب قبل تواً في مدرسته. ولعل الرسوم قد أغضبت تيشيان لما بدا فيها من إهمال لا بما كانت عليه من الجودة والإتقان، ولقد بقي الإهمال. الرسم من عيوب نتورتو كثيراً من السنين. وظل ياقوبو نفسه طوال حياته يعجب بتيشيان أشد الإعجاب، ويعتز بصورة أهداها إليه تيشيان، ويضع على جدار مرسمه ما يذكره على الدوام بما كان يطمح إلى أن يبلغه برسومه مبلغ "ميكل أنجيلو في التصميم وتيشيان في التلوين"(26).

ويقول تيشيان، وتقول الرواية المتواترة، إن ياقوبو لم يتلق تعليماً منظماً بعد أن افترق عن تيشيان، ولكنه علم نفسه بمداومته على التجربة والتقليد. وكان يشرح الأجسام ليتعلم التشريح، ولا يكاد يفتر هن ملاحظة كل ما يعترض سبيله في تجاربه بحرص يبلغ حد الشراهة والنهم، ويصمم على ألا تفوته منه كبيرة أو صغيرة في هذا الرسم من رسومه أو ذاك. وكان يصنع نماذج من الشمع، أو الخشب، أو الورق المقوى، ويلبسها الأثواب، ويرسمها من كل زاوية كي يجد طريقة يستطيع بها أن يصور أبعاداً ثلاثة في بعدين اثنين. وكانت تصنع له صور منقولة عن اللوحات الرخامية القديمة في فلورنس وروما وعن تماثيل ميكل أنجيلو وترسل له حيث يقيم؛ وكان يضع هذه النسخ في مرسمه، وينقل عنها صوراً ملونة ذات ظلال وأضواء مختلفة. وقد افتتن بما شاهد من الاختلاف الناشئ في مظهر الأشياء نتيجة لتغير كمية الضوء، وطبيعته، وطريقة سقوطه؛ ورسم مائة صورة وصورة في ضوء المصابيح أو الشموع؛ وأسرف في حبه للخلفيات القائمة، والظلال الثقيلة، وأصبح أخصائياً خبيراً في تمثيل أثر الضوء والظل على اليدين، والوجه، والثياب، والمباني، والمناظر الطبيعية، والسحب، ولم يترك وسيلة يستعين بها في كفاحه للتفوق والامتياز إلا سلكها.

غير أنه مع ذلك كان متسرعاً في عمله نافذ الصبر، ينقصه الصقل- ولعل هذا كان جزاء له على أنه علم نفسه بنفسه- وتلك عيوب أخرت اعتراف الجمهور بفنه. وقد ظل كثيراً من السنين، بعد أن بلغ دور الرجولة، يتحين الفرص ويسعى إليها. وكان يرسم الأثاث. وينشئ المظلمات في واجهات البيوت، ويرجو البنائين أن يحصوا له على أعمال بأجور قليلة، ويحاول أن يبيع صوره بعرضها في ميدان القديس مرقص(27). لكن الناس كلهم كانوا يريدون تيشيان؛ وكان تيشيان وأريتينو يعملان على ألا يعامل أي إنسان ذي مال يمكن الحصول عليه منه غير تيشيان، فإذا كان هذا الفنان مشغولا فلن يلجأ واحد منهم إلى غير بنيفادسيو فيرونيري Bonifazio Veronese. وما من شك في أن ياقوبو قد ساءته طريقة أريتينو في التصوير؛ ولكن حدث انه حين جاء الجلاد الكبير إلى ياقوبو ليصوره، أخرج الفنان مسدساً رهيباً من جيبه، وتظاهر بأنه يصوبه على كل جزء من جسم أريتينو الضخم، وسر أيما سرور مما شاهده من مظاهر الخوف على وجه ذلك المبتز لأموال الناس(28). ولم يسع أريتينو بعد هذه الحادثة إلا أن يراعي الأدب فيما يكتبه عن نتورتو. ولما أن رأى ياقوبو الجدران الواسعة الطويلة التي يبلغ ارتفاعها خمسين قدماً في مرنمة كنيسة مادنا دل أورتو Madonna dell Orto، عرض أن يغطيها كلها بالرسوم الجصية نظير أجر إجمالي قدره مائة دوقة (1250؟ دولاراً)، فما كان من المصورين البنادقة إلا أن شكوا من أنه "قد أضر بالحرفة" إذ قدر الفن هذا التقدير الضئيل. ولكن نتورتو صمم على أن يقوم بالعمل.

وقد بلغ الثلاثين من العمر قبل أن يحرز أول نصر له. ذلك أن مدرسة القديس مرقص Scula di San Marco أجرت مباراة لرسم قديسها ينقذ عبداً من العذاب والقتل. وقد وردت هذه القصة في كتاب القصة الذهبية لياقوبو ده فوراجيني Liacopo de Voragine: وخلاصتها أن خادماً من بروفنسال قد نذر أن يحج إلى قبر القديس مرقص في الإسكندرية، ولكن سيده لم يأذن له بالسفر، غير أنه سافر على الرغم من هذا التحريم. فلما عاد أمر سيده يشمل عينيه، ولكن أطراف الحديد انثنت فلم تنفذ فيها. فما كان من سيده إلا أن أمر بتحطيم أطرافه، ولكن القضبان الحديدية لم تحدث أي أثر فيها. وأدرك السيد ما للقديس مرقص من أثر في هذا فعفا عن العبد. وروت صورة نتورتو هذه القصة في ألوان فخمة، وواقعية مقنعة، وقوة مسرحية عظيمة: صورت الرسول المبشر ممسكاً بالإنجيل، هابطاً من السماء لينقذ الرجل المتعبد، الذي يوشك أن يخر صريعاً بضربة يوجهها إليه مغربي، ومن حوله نحو عشرين من مختلف الأشخاص ينظرون إليه وقد بلغ اهتياجهم غايته. وانتهز ياقوبو كل ما أتاحته له القصة من فرص: فصور رجالا أقوياء ونساء ظريفات رشيقات، وحرص على دراسة أثر الضوء على المخملات والحرير والعمامات الشرقية، وعمل على غمر المنظر بالألوان التي تعلمها من جيورجيوني وتيشيان. وساور مديرو المدرسة بعض الخوف حين شاهدوا ما في التصوير من واقعية مجسمة، وأخذوا يتناقشون في هل يليق بهم أن يعلقوا الصورة على جدرانهم، فما كان من نتورتو إلا أن اختطف الصورة من أيديهم في عنف وكبرياء، وأخذوها إلى منزله. فجاءوه وتوسلوا إليه أن يعيدها لهم، فتركهم قليلا من الوقت تأديباً لهم، ثم أعادها إليهم، وبعث إليه أريتينو كلمة ثناء، ومن ذلك الوقت تفتحت الأبواب أمام مواهبه.

وانهالت عليه الطلبات مجتمعة، فطلبت إليه نحو ست كنائس ودعاه نحو اثني عشر من الأعيان، وستة من الأمراء، ومثل هذا العدد من الدول للقيام بأعمال فنية. وقص لهؤلاء مرة أخرى في مائة من الصور الملحمة المسيحية الكبرى ملحمة خلق العالم، والدين، وفلسفة الموت والبعث والدار الآخرة، من بدء الخليقة إلى يوم الحساب... ولم يكن نتورتو مسيحياً متديناً،- وقلما كان من الفنانين في هذا القرن السادس عشر في البندقية من هو متدين- فقد أثرت في نفوسهم وعقيدتهم المبادئ المنتشرة في بلاد الشرق والإسلام. وكان دينه هو الفن، يقرب له القرابين بالليل والنهار، ولكن أي موضوعات يستطيع المصور أن يتخيلها أرق وأظرف من قصص آدم وحواء، وقصة مريم وطفلها، مأساة الصلب، وتعذيب القديسين وأعمالهم العجيبة، ثم تلك الغاية التاريخية الرهيبة وهي جمع الأحياء والأموات في صعيد واحد أمام قضاء المسيح؟ وخير ما في هذه المجموعة كلها هي صورة التنصيب (حوالي عام 1556)، التي رسمها نتورتو لكنيسة مادنا دل أورتو: وفيها يرى هيكل بيت المقدس وقد صور في بهائه القديم؛ ومريم الضئيلة الجسم الواجفة يرحب بها القس الأكبر وهو مبسوط الذراعين ملح؛ وامرأة فخمة الصورة لاتقل في ذلك عن فخامة صور فيدياس تعرف ابنتها بمريم؛ وإلى جانبها صور نساء غيرها ومعهن أطفالهن واضحية واقعية، ومتنبئ يلقي نبوءات غامضة، ومتسولون ومقعدون نصف عرايا راقدون على درج المعبد. تلك صورة تضارع أحسن ما صوره تيشيان وهي من أعظم ما صور في عهد النهضة.

وتأكد نجاح تنتورتو حين رشحته الاسكولا دي سانت ركو Scuola di San Rocco أو أخوه القديس رك لزخرفة قاعات اجتماعها (الألبرجو Albergo). وتفصيل ذلك أن المشرفين على هذه الطائفة أرادوا أن يختاروا مصوراً لنقش سطح الجدران الواسع، فدعوا الفنانين لتقديم رسوم لصورة تلتئم مع سقف بيضي الشكل تظهر القديس روك في مجده، فتقدم باولو فيرونيز، وأندريا شيافوني Andrea Shiavone وغيرهما برسوم تخطيطية، أما نتورتو فرسم صورة نهائية زاهية الألوان حية بالحركات والأعمال، وعمل سراً على أن يلصق قماش الصورة في مكانها المعين وأن يغطي. ولما أقبل اليوم الذي تقدم فيه الفنانون الآخرون برسومهم، أمر بكشف هذه الصورة النهائية، وروع القضاة والمتنافسون. وقد برر هو هذا التدبير غير السليم بقوله إنه يستطيع العمل بهذه الطريقة السريعة الحاسمة بدلا من طريقة الرسوم الأولية. ولكن الفنانين الآخرين نددوا بها، وانسحب نتورتو من المباراة، ولكنه ترك الرسوم هدية إلى الجماعة؛ فقبلته آخر الأمر، وعينت نتورتو عضواً بها، وخصصت له مرتباً قدره مائة دوقة في العام مدى الحياة، وطلبت إليه في نظير ذلك أن يرسم لها ثلاث صور كل سنة.

وبذلك استطاع أن يضع على حجرات قاعات الاجتماع سنة وخمسين منظرا في السنين الثمان عشرة التالية (1564-1581). وكانت الحجرات التي يعمل فيها قليلة الضوء، واضطر نتورتو أن يشتغل فيما يشبه الظلام، وكان يعمل بسرعة، ويضع الألوان في غير إتقان كأنها تشاهد من تحتها بعشرين قدماً. وكانت الصور أشهر ما صوره رجل بمفرده في تاريخ البندقية كله، وجاء الفنانون فيما بعد ليدرسوها كما ذهب الطلاب إلى فلورنس ليدرسوا رسوم ماساتشيو. وأثر المطر والرطوبة في الصور على مر السنين. ولكنها لا تزال تبعث في النفس الروعة بحجمها وقوتها؛ وقد كتب عنها رسكن قبل وقتنا هذا بمائة عام يقول: "وقد أنزلت هذه الصور منذ عشرين أو ثلاثين عاماً لإصلاحها وإعادتها إلى ما كانت عليه، ولكن الرجل الذي عهد هذا العمل إليه مات لحسن الحظ ولم تتلف إلا واحدة منها"(29).

وقد روى نتورتو في هذا المتحف المدهش القصة المسيحية مرة أخرى؛ ولكنها لم تكن قد رسمت من قبل بهذه الواقعية الجريئة التي انتزعت الحوادث من عالم العواطف المثالية ووضعتها في هذه البيئة الطبيعية، ولهذا بدا أن هذه القصة قد استحالت تاريخاً من أعظم التواريخ صدقاً وأبعدها عن الشك. وكان الشرر الذي أوقد النار في قلب نتورتو هو قدرته على النظر، وأن يلاحظ كل دقائق المنظر، وأن يحس بأن هذه الدقائق تهب الحياة، وأن بادر بوضعها على الجدار بضربة أو ضربتين من الفرشاة- كالماء الذي يراه الناظر من خلال جذور الغار في صورة مجلية. وخصص نتورتو الطابق الأسفل من الحجرات لصور مريم العذراء: فصور فيها دهشتها الذليلة من البشارة، ورشاقتها المتواضعة عند الزيارة، ورهبتها الساذجة عندما قدمت لها الهداية الشرقية في عبادة المجوس، وسيرها البطيء على ظهر حمار مجتازة منظراً هادئاً في صور الهروب إلى مصر فراراً من "مذبحة البريئين"، وهي أقوى صورة في هذه المجموعة. وروى نتورتو على جدران الحجرة العليا الكبرى حوادث في تاريخ المسيح نفسه: تعميده بيد يوحنا، ومحاولة الشيطان إغواءه، والمعجزات والعشاء الأخير. وكانت هذه الصورة الأخيرة واقعية بعيدة كل البعد عن العرف المألوف إلى حد جعل رسكن يصفها بأنها "أسوأ ما عرف عن نتورتو"(30). وقد رسم المسيح في الطرف البعيد، والقديسين منهمكين في الأكل أو الحديث، والخدم رائحين بالطعام وغادين، وكلباً يسأل متى يتناول هو أيضا الطعام. ورسم نتورتو في حجرة داخلية في الطابق الأعلى صورتين من أعظم صوره. إحداهما صورة المسيح أمام بيلاطس ويظهر فيها شخص لا يمكن أن ينساه الإنسان قط يرتدي ثوباً أبيض كأنه كفن، ويقف متعباً، مستسلماً، ولكنه يقف مهيباً كريماً أمام بيلاطس الذي يحاول التكفير عن خطيئة الخضوع إلى تعطش الغوغاء للدماء. وآخر ما نذكره من هذه الصور صورة يرى نتورتو أنها خير صوره على الإطلاق- صورة الصلب، التي تتحدى صورة يوم الحساب لميكل أنجيلو وتسمو عليها في قوتها واتساع مدى تكوينها، وتنفيذها الفني، فها هي ذي أربعون قدماً من الجدار تغطيها ثمانون صورة لأشخاص، وخيول وجبال، وأبراج، وأشجار، روعيت فيها الأمانة في رسم التفاصيل، مراعاة لا يكاد يتصورها العقل، ويرى فيها المسيح يمضه الألم الجثماني والنفساني، ولص من اللصوص يلقى فوق صليب مطروح على الأرض، وهو يقاوم إلى آخر لحظة؛ ولص آخر جبار في قوته وتهوره، ثم يرفعه للقتل جنود غلاظ شداد يحول غضبهم من ثقله دون أن تأخذهم به رأفة، وترى النساء وقد انكمشن جماعات من شدة الرعب، والنظارة يتزاحمون في حرصهم على أن يروا الرجال يعذبون ويموتون. ويرى من بعيد جو مكفهر لا يستجيب إلى المأساة البشرية، ولكن فيه رعداً وبرقاً ومطراً لا تعبأ بها. وفي هذه الصورة بلغ نتورتو الذروة وضارع أحسن المصورين.

وأضاف نتورتو إلى كل هذه الآيات الفنية التي رسمها في قاعات الاجتماع ثماني صور أخرى رسمها لكنيسة هذه الجماعة نفسها معظمها خاص بالقديس روك نفسه. وأظهر ما في هذه المجموعة كلها صورة بركة بيت جسدا وذلك لما تبعثه في النفس من رهبة إن لم يكن لشيء سواها. ويستمد الفنان موضوعه من الإصحاح الخامس من الإنجيل الرابع: "في هذه كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى، وعمى، وعسم " ينتظرون أن تتاح لهم الفرصة للاستحمام في بركة ذات الماء الشافي. وتنتورتو لا ينظر إلى معجزة شفاء المرضى، بل يرى الجماهير المصابة بمختلف الأمراض، ويصورها كما يراها وهو ساكن هادئ بأجسامها المشوهة وأسمالها البالية، وأقذارها، وآمالها، ويأسها. إن هذا المنظر كأنه أخذ من منظر الجحيم لدانتي أو الأثقال لزولا.

وهذا الرجل الذي يستطيع أن يحدث بفنه هذه السورة العارمة ضد الشرور التي يتعرض لها الجسم الإنساني بفطرته: هذا الرجل نفسه قد استجاب بحماسة بالغة لمباهج الجسم الإنساني في صحته وجماله، وكاد يضارع تيشيان وكريجيو في رسم العرايا. ونحن وإن كان يحق لنا أن نتوقع من روحه القلقة وفرشاته السريعة أن تعجزا عن نقل الإحساس القديم بالجمال أثناء راحته؛ لنجد مع ذلك في أماكن كثيرة في أوربا أشكالا أنيقة أمثال صورة دانائي المحفوظة في متحف ليون بفرنسا، والمزدانة بالجواهر، وصورة ليدا والبجع الموجودة في معرض أفيدسي، وفينوس وفلكان المحفوظة في متحف ميونخ وصورة إنقاذ أرسينوئي، المحفوظة في متحف درسدن، وعطارد وربات الجمال وباخوس وأدرياني المحفوظتين في قصر الدوج بالبندقية... ويظن سيمندس أن هذه الصورة الأخيرة هي أجمل صورة بالزيت موجودة في هذه الأيام، إن لم تكن أعظم الصور كلها"(31). على أن أكمل منها صورة أصل المجرة الموجودة في معرض لندن الفني التي تعزو هذا الأصل إلى ضغط كيوبد على ثديى Juno- وهو تفسير لا يقل في صدقه عن أي تفسير آخر تقدم به العلماء. وفي متاحف اللوفر، والبرادو وفينا، ومعرض واشنجتن الغني أربع صور مختلفة من رسم نتورتو تمثل سوزنا والكبراء. وفي معرض برادو حجرة ممتلئة بصور تمثل جمال النساء "منها صورة فتاة بندقية تزيح رداءها لتكشف عن صدرها، وحتى في صورة معركة الترك والمسيحيين نرى ثديين ناهدين يستلفتان الأنظار بين بريق الأسنة والرماح: وفي متحف فيرونا صورة تمثل جوقة مكونة من تسع نساء موسيقيات ثلاث منهن عاريات إلى أوساطهن- كأن الآذان تحسن السمع إذا كان في وسع العيون أن ترى هذا القدر الكبير من الجمال. وليست هذه الصور أحسن ما أبدعه تنتورتو، بل إن قدرته لتظهر أعظم ما تظهر في تمثيل الرجولة في الحياة، والبطولة في الموت على أوسع نطاق؛ ولكن هذه الصور تدل هي الأخرى على أنه يستطيع كما يستطيع جيورجيوني وتيشيان أن يرسم الانحناءات الخطرة بيد ثابتة؛ ولسنا نرى فيما رسمه من صور للنساء العاريات شيئاً من فساد الخلق، بل نجد فيها المتعة الحسية السليمة. فهؤلاء الآلهة وهذه الإلاهات يرون العري من طبيعة الأشياء، وهو لا يشعرون به؛ ويرون أن من صفاتهم الإلهية أن يحيوا الشمس "وكل أجسامهم وجوه"، يحيونها بأجسامهم كلها غير مضيق عليها الأزرار، والأشرطة والأربطة.

وظل نتورتو ممتنعاً عن الزواج فوستينا ده فيسكوفي Faustina de Vescovi، ولكنها وجدته مضطرباً مسكيناً إلى حد لم يسعها معه إلا أن تجد السعادة في أن تكون له أماً. وولدت له ثمانية أبناء أصبح ثلاثة منهم مصورين لابأس بأعمالهم. وكانوا يسكنون بيتاً متواضعاً غير بعيد من كنيسة مادنا دل أورتو (عذراء أورتو)، وقلما كان الفنان الكبير يبتعد عما حول البيت إلا إذا ذهب ليصور في كنيسة بالبندقية، أو في القصر، أو في مقر الإخوان. ولهذا فإنا لا نستطيع تقدير قوته وتنوع صوره إلا في نطاق المدينة التي ولد فيها. وقد عرض عليه دوق مانتوا منصباً في بلاطه، ولكنه رفضه؛ ذلك أنه لم يكن سعيداً إلا في مرسمه، حيث لم يكن ينقطع عن العمل لا ليلا ولا نهارا، وكان زوجا وأبا طيبا، ولكنه لم يكن يعني أقل عناية بالمتع الاجتماعية. وكاد يبلغ في عزلته، واستقلاله، ونكده، واكتئابه، وتوتر أعصابه، وعنفه، وكبريائه، كاد يبلغ في هذا كله مبلغ ميكل أنجيلو الذي ظل طول حياته يعبده، ويحاول أن يتفوق عليه. ولسنا نجده عنده السلام لا في روحه ولا في أعماله، وكان كميكل أنجيلو يعظم قوة الجسم، والعقل، والروح، أكثر مما يعظم الجمال الظاهر، ولهذا نرى صور العذراء التي رسمها منفرة كصورة عذراء دوني Doni. وقد ترك لنا صورة له (توجد الآن في متحف اللوفر)، رسمها وهو في الثانية والعشرين من عمره. ولا نكاد نرى فيها فرقاً بين رأسه ووجهه وبين وجه أنجيلو ووجهه نفسه. -فالوجه قوي مكتئب، عميق مندهش حائر، ترتسم عليه علامات مائة عاصفة.

والصور التي رسمها لنفسه خير صوره جميعاً، ولكنه رسم صوراً أخرى تشهد بعميق نظراته النافذة ووحدة فنه. ذلك أنه في هذه الناحية أيضا ظل واقعياً، لا يجرؤ امرؤ على أن يجلس أمامه ليصوره إذا كان يرجو أن يخدع الخلف. وكم من عظيم من أهل البندقية قد انتقل إلينا من خلال القرون بفضل فرشاة نتورتو: أدواج، وأعضاء في مجلس الشيوخ، ووكلاء دعاو؛ وثلاثة من مديري دار سك النقود، وستة من أصحاب بيت المال؛ وخير من هؤلاء كلهم في هذه المجموعة صورة ياقوبو سوراندسو- وهي من أعظم الصور التي أخرجها فن البندقية. ومن هذه الصور أيضاً صورة سان سوفينو المهندس المعماري وكرنارو Cornaro المعمر. ولتنتورتو صور لا يفوقها إلا صورة السوراندسو Soranzo ولا يعرف من تمثله وهي صورة الرجل لابس الزرد (في برادو) وصورة الشيخ (في بريستشنسا) وصورة رجل (في الخلوة بلينينجراد)؛ وصورة مغربي في مكتبة مورجان بنيويورك. وحدث في عام 1574 أن تخفى تنتورتو في ثياب خادم من خدم الدوج ألفيزي متشينيجو Dege Alvise Mocenigo واستطاع الوصول إلى البارجة بوتشنتور Bucentaurs بارجة أمير الأسطول، ورسم خلسة بالبسطل صورة تقريبية لهنري الثالث ملك فرنسا. ثم استطاع فيما بعد أن يتخذ له مكاناً في ركن حجرة كان هنري مجتمعاً فيها مع اعيان البلاد ومن هذا المكان أتم الصورة. وبلغ من حب هنري لها أن عرض على الفنان لقب فارس، ولكنه رجاه أن يقبل اعتذاره.

وكانت معرفته بأعيان البندقية قد بدأت في عام 1556 حين عهد إليه هو وفيرونيزي أن يرسم صوراً على القماش في قصر الدوق. رسم في قاعة المجلس الكبير Sala del Maggior Consiglo صورتين هما تتويج فردريك بربرسا وحرمان الاسكندر الثالث لبربرسا. وفي القاعة المعروفة باسم صالا دل اسكروتينو Saladel Scrutinio (قاعة البحث والتحقيق) غطى جداراً كاملا بصورة يوم الحساب. وسر مجلس الشيوخ من الصورتين سروراً حمله على أن يختاره في عام 1572 لتخليد ذكرى الانتصار العظيم في ليبانتو. غير أن هذه الصور الأربع قد دمرتها النار التي شبت في عام 1577، وفي عام 1574 عهد مجلس الشيوخ إلى نتورتو أن يصور حجرة الانتظار (الانتيكاليجيو Anticollegio). وهنا رسم للمشترعين الكبار صورة عطارد وربات الجمال وأندريا ياخوس. وكيرفلكان ومينيرقا تطارد المريخ.. وفي قاعة مجلس الشيوخ Sata de Predadi رسم نتورتو (1574- 1585) طائفة من اللوحات الكبيرة يطري بها أدواج أيامه، فصوره ومن خلفهم الميدان الفخم العظيم: كنيسة القديس مرقص بقبابها البراقة أو برج الساعة، أو برج الأجراس، أو الواجهة الفخمة لمكتبة فيتشيا أو بواكي قصر الدوبرج البراقة، أو مناظر القناة الكبرى تحجبها الغيوم أو تسلط عليها أشعة الشمس. ثم توج هذه الرسوم بصور توائم ذوق الحكومة الفخورة المزهوة فرسم على السقف صورة رائعة فاقت كل ماعداها وهي صورة البندقية ملكة البحار؛ ترتدي أثواباً ذات روعة وجلال تحيط بها دوائر من الأرباب المعجبين بها، وتتلقى من آلهة البحر وحورياته هدايا الماء- المرجان والأصداف، واللآلئ.

ولم يثن الحريق الكبير من عزم مجلس الشيوخ فطلب إلى نتورتو أن يعوضه عن الخسارة بصور تمحو من ذاكرة الناس كل شيء عنها. فنفش في "قاعة البحث" منظر معركة كبرى هي الاستيلاء على زارا، وصور على جدار إحدى حجرات المجلس الكبير لإمبراطور فردريك بربرسا يستقبل الوفود من عند البابا والدوج، كما رسم على السقف آية فنية رائعة هي الدوج نقولو بنتي يتلقى خضوع المدن المغلوبة.

ولما قرر مجلس الشيوخ (1586) أن يغطي المظلم القديم الذي صوره جوارينتو Guariento على الجدار الشرقي من حجرة المجلس، اعتقد أن تنتورتو، وكان وقتئذ في الثامنة والستين من عمره. قد بلغ من الكبر حداً لا يستطيع معه أن يقوم بهذه المهمة. ولهذا قسم العمل كما قسم الجدار بين فاولو فيرونيزي، وكان وقتئذ في الثامنة والخمسين، وفرانتشيسو بسانو، البالغ وقتئذ سبعا وثلاثين سنة. لكن فيرونيزي توفي عام 1588 قبل أن يبدأ العمل فعلا، وعرض نتورتو أن يحل محله، وأن يغطى الجدار كله بصورة واحدة هي مجد الجنة، ووافق مجلس الشيوخ على هذا العرض، ووضع الشيخ الطاعن في السن، بمساعدة ابنه دومينيكو وابنته ماريتا Marietta، في الاسكولا دلا ميزيربكورديا Scuola della Misericordia قطع القماش التي ستتألف منها الصورة الأخيرة. ورسمت كثير من الرسوم التخطيطية الأولية؛ منها رسم، يعد في حد ذاته آية فنية، يوجد الآن في متحف اللوفر. ولما وضعت هذه الأجزاء كلها في مكانها (1590)، وبعد أن لون دومينيكو مواضع الاتصال بين الأجزاء وأخفاها، كانت الصورة أكبر صورة بالزيت وقعت عليها العين حتى ذلك الوقت- فقد كان طولها اثنتين وسبعين قدماً وارتفاعها ثلاثا وعشرين. وأجمعت الجماهير التي احتشدت لرؤيتها على أنها أعظم أعمال التصوير التي تمت في مدينة البندقية- وأنها "أعجب قطعة في العالم كله من الصور الزيتية النقية، السامية التي تمثل الرجولة الحقة"(33). وعرض مجلس الشيوخ على نتورتو أجراً بلغ من الارتفاع حداً لم يسعه معه إلا أن يرد إليه جزءاً منه واستاء من ذلك زملاؤه الفنانون.

وعدا الزمان على هذه الجنة، واليوم إذا ما دخل الإنسان قاعة المجلس الكبير، والتفت إلى الجدار القائم خلف عرش الدوج، لم يجد الصورة التي تركها تنتورتو هناك، بل وجد صورة سودها الدخان والرطوبة اللذين تناوبا عليها مئات السنين، حتى لا يستطيع أن يتبين من الأشكال الخمسمائة التي كانت تملأها إلا أقلية صغرى واضحة للعين. أما فيما عدا هذا فدوائر داخل دوائر تهتز وترتجف- وتتكون من السذج المباركين، والعذارى، والمؤمنين بالدين، والشهداء، والمبشرين بالإنجيل، والحواريين، والملائكة، وكبار الملائكة- كلهم محتشدون حول مريم وابنها، كأن هؤلاء جميعاً قد أصبحوا هم الآلهة الحقيقيين للعالم المسيحي اللاتيني، وقد جاءوا يعترفون بجلال قدرة المرأة والرجل اعترافاً جديراً بهم. ويشعرنا تنتورتو بما وراء الأشكال المائة التي تستطيع أن تراها بالعين من مئات أخرى يخطئها الحصر.

والحق أنه حتى إذا لم يكن اللذين يدخلون الجنة إلا قلة تختار من اللذين يدعون إليها، فإن من دخلوها فعلا في ستة عشر قرناً من التاريخ المسيحي ليبلغون عدداً كبيراً من الجماهير السعيدة، وقد أخذ تنتورتو على نفسه أن يصور لنا هذا العدد الكبير، ويمثل لنا سعادتهم. وهو لم يمِت الجنة فيصفها مكاناً مكتئباً كما وصفها دانتي، بل تصورها مكاناً مليئاً بالمرح والطرب، لا يقبل فيه إلا السعداء المبتهجون. وكأن هذا العمل كان هو الرقية التي أخرجت الفنان من سابق كراهيته للمجتمع.

لكن تلك الأيام من حياة الفنان لم تكن خالية من أسباب الحزن؛ ففي السنة التي أزيح فيها الستار عن الصورة العظيمة ماتت ابنته المحبوبة ماريتا، وكان حذقها التصوير والموسيقى من أكبر مباهجه وأسباب سلواه في شيخوخته. فلما أن فارقته لاح كأنه لا يفكر إلا في أن يراها تحيا حياة أخرى. فكان يتردد أكثر من ذي قبل على مادنا دل أورتو-سيدة الحديقة- حيث يقضي الساعات الطوال في التفكير والدعاء بعد أن أصبح آخر الأمر رجلا ذليلا. وكان لا يزال يصور، وأخرج في هذه السنين الختامية طائفة من الصور تمثل القديسة كترين لتوضع في الكنيسة المسماة باسمها. لكنه أصيب في السابعة والسبعين من عمره بمرض في معدته سبب له آلاما ممضة حرمت النوم على عينيه. فكتب وصيته، وودع زوجته، وأطفاله، وأصدقاءه؛ ومات في الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة 1594، وأودعت جثته في مادنا دل أورتو. وإذا ما حاول الإنسان أن يتبين فن هذا المصور الكبير بعد أن يطوف بقاربه في مياه البندقية الضحلة ويقف أمام كل صورة من فنانها الذي لا يقل قدراً عن ميكل أنجيلو، إذا ما فعل هذا فإن أول ما ينطبع في ذهنه هو طابع الكثرة والضخامة، إذ يرى الجدران الكبيرة مغطاة بصور الآدميين والحيوانات على درجات متفاوتة من الجمال والقبح لا تقل عن الألف عدا، تختلط فيها الأجسام وتضطرب اضطراباً لا نجد له ما يبرره إلا قولنا إنه هو الحياة. ذلك أن هذا الرجل الذي كان يبتعد عن الجماهير ويبغضها، يواجهها في كل مكان، ويصورها تصويراً صادقاً دقيقاً غاية في الصرامة. ويبدو أنه كان قليل الاهتمام بالأفراد؛ وإنه إذا رسم صوراً لهم فإنما كان يقصد بذلك كسب العيش صراحة. وكان يرى الإنسانية جملة، ويفسر الحياة والتاريخ على أنهما كتل من الخلائق البشرية تكافح، وتنافس، وتحب، وتستمتع، وتعذب، طابعها الرجولة والجمال، مريضة ومعقدة، ناجية أو معذبة. وكان يغطي بصوره قطعاً من قماش الرسم ذات حجم مروع في كبره، لأن هذه السعة وحدها هي التي كانت تفسح له المجال ليصور ما يشهده. ومع أنه لم يكن يتقن أصول فن التصوير، كما يتقنها تيشيان، فإنه قد استخلص لنفسه الطريقة التي رسم بها هذه الصور الضخمة، وإليه يرجع أكبر الفضل في روعة الحجرات التي في قصر الأدواج، لهذا لا ينبغي لنا أن نطلب إليه رقة الصقل أيا كان نوعها، فهو في فنه خشن، فج، سريع، يخلق أحياناً منظراً بضربة واحدة من فرشاته.على أن خطأه الحقيقي ليس هو خشونة السطح- لأن السطح الخشن ذاته قد ينير ما ينطوي عليه الرسم من معنى-، أما هذا الخطأ فهو العنف المسرحي لما يختاره من الأحداث، وثوران أهوائه ونزواته ثوراناً سقيما، والكآبة التي يغرق فيها الحياة كما يصورها، وتكرار صور الجماهير تكراراً متعبا مملا. لقد كان تنتورتو مفتتناً بكثرة العدد، كما كان ميكل أنجيلو مفتتناً بالأشكال، وروبنز Rubens، مفتتناً بالأجسام. ولكن ما أكثر ما نجده في هذه الكثرة نفسها من دقائق وتفاصيل عظيمة الدلالة، وما أعظم ما نجده من دقة ونفاذ في الملاحظة، ومن تنوع وانفرادية في الأجزاء لا ينضب لهما معين، وواقعية جريئة حيث لم نكن نجد قبل إلا خيالا وعاطفة!

وآخر ما نشعر به ونحن نقف أمام هذه الصور هو الاستجابة لها استجابة صريحة أكيدة قائلين: هذا هو الفن في أعظم طراز له. لقد صور غيره من الفنانين الجمال كما فعل رافائيل، أو القوة كما فعل ميكل أنجيلو، أو عمق النفس كما فعل رمبرانث أما عنا في هذه الرسوم العالمية- سواء كانت تمثل صخب مدينة، أو لجماهير صامتة تؤدي الصلاة، أو دخائل ألف بيت وبيت وما تضمه من متاعب أو محبة وولاء- نقول أما هنا فإنا نجد الحياة الإنسانية نفسها. وقد نحس أحياناً ونحن وقوف صامتون أمام هذه الجدران الحائلة في قصر أدواج البندقية، أو في حجرات إخوان القديس روك، أن صور غيره من الفنانين الأرقى منه درجة تنمحي من ذاكرتنا" وأنه لو استطاع الصباغ الصغير أن يصقل صوره صقل الجوهري بعد أن فكر فيها تفكير الجبابرة، لكان أعظم المصورين أجمعين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: فيرونيزي 1528-1588

ولسنا نحب أن يفوتنا، قبل أن نطوي صحيفة هذا الباب، أن نكرم بعض نجومه اللامعة وإن كانت من الطبقة الثانية بعد الفنانين السابقين؛ فقد كان هؤلاء أيضاً ممن تلألأ ضياؤهم في البندقية. من هؤلاء أندريا مليولادا Andrea Melolda وهو من إقليم سلافونيا وسمى شيافوني Shiavone. وقد تلقى الفن مع تيشيان، ورسم صورة من العاج لسيدة على صندوق في قلعة ميلان. ثم حاول أن يرسم صورتين أكبر من هذه وهما جوبتر وأنتيوبي (المحفوظة في لينينجراد) وعطية العذراء (البندقية)، وكانتا صورتين بديعتي اللون، وأثنى عليه الفنانون، وأعرض عنه المناصرون؛ واضطر أندريا أن يسير بلحيته الوقورة في أسمال بالية. وكان باريس بوردوني Paris Bordone ابن سراج وحفيد حذاء، ولكنه استطاع بفضل ديمقراطية العبقرية، التي تظهر في جميع الطبقات أن يشق طريقه إلى الذروة في مدينة البندقية الممتلئة بذوي المواهب والكفايات. وقد جاء بوردوني من تريفنزو ليلتقي أصول الفن على تيشيان، ونضج نضوجاً بلغ من سرعته أن دعاه فرانسس الأول إلى باريس وهو في سن الثامنة والثلاثين. وفيها أخرج بعض الصور الدينية الممتازة مثل الأسرة المقدسة (ميلان)، وبلغ أعلى مكانة له في صورة الصائد يهدي خاتم القديس مرقص إلى الدوج (البندقية)؛ ولكن الصورة التي خلدت اسمه على مر السنين هي صورة فينوس وإيروس (أفيدسي) وهي تمثل فتاة بضة شقراء ترتدي ثوباً أبيض لتكشف به عن نهديها، بينما يصيح كيوبد ليلفتها إليه .

ونال ياقوبو دا بنتي Jacopo da Ponte، المسمى البسانو Il Bassano نسبة إلى مسقط رأسه، شهرة وسطى وثروة غير كبيرة حين اشترى تيشيان صورته الحيوان ذاهبة إلى سفينة نوح واستطاع أن يعيش حتى بلغ الثانية والثمانين دون أن يترك وراءه أية صورة لآدميين لا تغطيهم الأثواب من رؤوسهم إلى أقدامهم.

وجاء من فيرونا إلى البندقية في عام 1553 شاب في الخامسة والعشرين من العمر يدعى باولو كاليارى Paolo Caliari، وهو طراز من الشبان يختلف كثيراً عن طراز نتورتو: فهو هادئ، ودود محب للألفة، ينتقد عيوب نفسه، لا ينفعل إلا نادراً. وكان يحب الموسيقى ويمارسها، مثله في ذلك كمثل تنتورتو وجميع الإيطاليين المتعلمين تقريباً. وكان سخياً كريم الخلق، لم يسئ قط إلى منافس له، ولم يغضب نصيراً له أبداً. وسمته البندقية إل فيرونيزي Il Veronese وهو الاسم الذي يعرفه به العالم، وإن كان قد أحب البندقية فيما أحب من المدن واتخذها موطنا له. وكان له فى فيرونا عدد من المعلمين، منهم عمة أنطونيو باديلي Antonio Badile الذي زوجه فيما بعد بابنته؛ وقد تأثر فيها بجيوفني كاروتو Giovanni Caroto برساسورسي Brusasorc؛ ولكن هذه العوامل التي كانت ذات أثر في نشأة أسلوبه سرعان مازالت في لألاء فن البندقية وحياتها القويين. فقد كان تغير منظر السماء وألوانها فوق القناة الكبرى مصدر دهشته على الدوام؛ وكان يعجب بقصور المدينة وانعكاس خيالها واهتزازه في ماء البحر؛ وكان يحسد عالم الأشراف على دخلهم الثابت، وصداقتهم للفنانين، وآدابهم العالية، وأثوابهم المنسوجة من الحرير والمخمل التي تكاد تكون أكثر إغراء للمس من النساء الحسان اللائى يلبسنها. وكان يتمنى أن لو كان من أولئك الأشراف؛ وكان فعلا يرتدي أثواباً شبيهة بأثوابهم محلاة بالمخرمات والفراء، ويقلد مراسيم التكريم التي كان يعزوها إلى الطبقات العليا من أهل البندقية. ولا نكاد نجد له صورة للفقراء من الناس، أو للفقر ذاته، أو للمآسي ، لأن الغرض الذي كان يسعى إليه هو أن يخلد بصوره هذا العالم المتلألئ المحظوظ من أهل البندقية، وأن يجعله أرق وأجمل مما يستطيع أن يبلغه الثراء بغير الفن. ولهذا هرع إليه النبلاء والنبيلات، والأساقفة ورؤساء الأديرة، والأدواج وأعضاء مجلس الشيوخ، وأحبوه، وسرعان ما كانت لديه أكثر من عشر مهام يقوم بأدائها.

وطلب إليه في ذلك التاريخ المبكر من حياته أي في عام 1553 ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره أن ينقش سقف مجلس العشرة في قصر الدوق. وقد شبه في هذا النقش المجلس بجوبتر قصور جوبتر يقضي على الرذائل، وتوجد هذه الصورة الآن في متحف اللوفر. ولم يكن نجاحه في هذه الصورة نجاحاً يستلفت الأنظار؛ ذلك أن الأشكال الثقيلة تقفز مزعزعة في الهواء، لأن باولو لم يكن قد سرى فيه حتى ذلك الوقت روح البندقية. ثم لم يمض على ذلك الوقت إلا عامان حتى عرف قدر نفسه، وصار غير بعيد من أساتذة الفن في صورة انتصار موردكاي التي رسمها على سقف كنيسة سان سباستيانو. وقد أظهر في هذه الصورة وجه البطل اليهودي وشكله واضحين قويين، والخيل نفسها تبدو كأنها خيل بحق. وربما كان تيشيان نفسه قد تأثر بهذه الصورة، وشاهد ذلك أنه لما عهد إليه القائمون على كنيسة القديس مرقص أن يزخرف مكتبة فيتشيا بصورة مدليات مصورة، عهد إلى فيرونيز بثلاثة من هذه المداليات، ولم يسبق لنفسه ولكل واحد آخر من الفنانين الذين اشتركوا معه في العمل إلا واحدة. ووعد هؤلاء المشرفون أن يمنحوا صاحب أحسن مدلاة سلسلة ذهبية، فكان باولو هو الذي نال هذه المكافأة نظير تمثيله الموسيقى في صورة ثلاث فتيات- واحدة منهن تعزف على العود، وواحدة تغني، وواحدة منكبة على الكمان الدجمبي - ومعهن كيوبد يضرب على معزف من نوع البيان، وبان Pan بنفخ في مزاميره. وقد رسم فيرونيز بعدئذ يتحلى بهذه السلسلة الذهبية.

ولما أن أحرز باولو هذه الشهرة العظيمة في التصوير الزخرفي عهدت إليه أعمال درت عليه المال الوفير. من ذلك أن أسرة بربارو Barbaro الشريفة الغنية شادت في عام 1560 بيتاً ريفياً في ماتشير Macer قرب أسولو Asolo حيث كانت تقيم كترينا كرنارو ملكة قبرص السابقة، وحيث كان بمبو العاشق الأفلاطوني الواله. ولم يختر آل برباري إلا كبار الفنانين ليجعلوا من هذا البيت: "أجمل بيت للنزهة شيد في عصر النهضة"(35). فاختاروا أندريا بلاديو لتصميمه. وألسندرو فتوريا لزخرفته بالتماثيل الجصية، وفيرونيزي لعمل المظلمات في السقف والجدران، والبندريلات والكوات، مستمدة من مناظر من الأساطير الوثنية والمسيحية. فقد صور على السطح الداخلي من القبة الوسطى أولمبس- الآلهة الذين يستمتعون بجميع مباهج الحياة ولكنهم لا يهرمون ولا يموتون. ورسم صغار الفنانين وسط مناظر سماوية صورة صائد، وقرد، وكلب بلغ من دقة شكله ويقظته وحيويته ما يجعله خليقاً بأن يكون من كلاب السماء. ورُسم عى أحد الجدران خادم يتطلع عن بعد إلى صورة عذراء، وتتطلع هي الأخرى إليه، ثم تمضي لحظة يطعمون هم أيضاً فيها طعام الآلهة، وبهذا بلغ جمال القصر وبهجته درجة لا يمكن أن يعلو عليها إلا الفنانون الصينيون من مواطني كوبلاي خان Kublai Khan، ولم يكن بد من أن يطلب إلى باولو أن يرسم صورة النساء العرايا في وسط هذا الجمع الحاشد من مناظر الحب. على أن العرى لم يكن الميدان الذي يبرز فيه؛ فقد كان يفضل عليه الأثواب الثمينة الملساء الناعمة تغطي أجساماً شبيهة بالأجسام التي يصورها روبنز، تعلوها وجوه ذات جمال عادي يميزها عن غيرها من الوجوه، ويتوجها شعر ذهبي مسدل مسرح. ويرى الإنسان في صورة المريخ وفينوس المحفوظة في متحف متروبوليتان الفني إلهة بدينة قبيحة المنظر، ذات ساق لا شكل لها مصابة بداء الاستسقاء. لكن فينوس تبدو جميلة في صورة فينوس وأدونيس الموجودة في برادو لا يفوقها في هذه الصورة إلا شكل الكلب الرابض عند قدميها. وأجمل ما في صور فيرونيزي الأسطورية صورة اختطاف أوربا الموجودة في قصر الأدواج! وتمثل هذه الصورة منظراً ذا أشجار قائمة، والثور المجنح يلقى بالأكاليل وأوربا (الأميرة الفينيقية) جالسة وهي مبتهجة فوق ظهر الثور العاشق، الذي يلعق إحدى قدميها الجميلتين، وتستبين أنه هو بعينه جوبتر متخف بزي جديد. وقد أظهر هذا الفنان الذي صور مناظر في السماء ذوقاً لطيفاً في تصوير مناظر الآلهة. ذلك أنه صور أوربا وعلى نصف جسمها ثياب ملكية، وقد أحرز فيرونيزي في هذه الصور أتم نجاح في رسم أجسام النساء، وبلغ بها حد الكمال في هذا التركيب فجعلها خليقة بأن يترك زيوس من أجلها مقامه في السماء. وتروي خلفية الصورة البعيدة بقية القصة، فتظهر الثور يحمل أوربا فوق مياه البحر إلى كريت، ومن هنا أعطت اسمها للقارة الأوربية- كما تقول القصة اللطيفة. وسار باولو نفسه على مهل قبل أن يستسلم لتصوير النساء. فقد ظل يجمع النماذج حتى بلغ الثامنة والثلاثين من العمر، ثم تزوج بعدئذ إيليتا باديلي Elena Badile، فولدت له ولدين هم كارلو وجبريلي، علمهما التصوير وتنبأ بنبوءة مبعثها الرغبة والأمل أكثر من بعد النظر، فقال "سيفوقني شارلي Carletto me Vincera"(36). وفعل فيزونيزي ما فعله كريجيو فابتاع مزرعة في سانت أنجيلو دي تريفيزو حيث قضى معظم سني زواجه، يصرف شئونه المالية بحكمة واقتصاد، وقلما كان يبتعد عن كرمته. ولما بلغ سن الأربعين كان أكثر من يسعى إليه الطالبون بين المصورين في إيطاليا كلها، بل كان يتلقى دعوات من البلاد الأجنبية نفسها؛ ولما أن طلب إليه فيليب الثاني زخرفة الإسكوريال، قدر هذا التكريم حق قدره ولكنه قاوم هذا الإغراء الشديد.

ودعى كما دعى من سبقوه من الفنانين ليرسم القصة المقدسة للكنائس والعابدين وإنا لنرى كل شيء جديداً جذاباً في صورة عذراء أسرة كوتشينو (الموجودة في درسدن) بعد أن رسمت للعذراء ألف صورة وصورة! نرى أصحاب الهبات الوسيمي الوجوه ذوي اللحى السوداء، ونرى الأطفال السذج الحيارى، ونرى شبح الغدر المتشح بلفاعة بيضاء- في صورة امرأة ذات جمال رائع قلما يضارعه جمال آخر حتى في فن البندقية نفسه.

وكانت صورة الزواج في كانا (المحفوظة في متحف اللوفر) هي ذات المنظر الذي يحب فيرونيزي أن يصوره: وقد جعل خلفية الصورة مباني رومانية، وجعل في مقدمتها كلباً أو كلبين، ومائة شخص في نحو مائة موقف مختلف، وقد رسمهم كلهم كأنه يريد أن يجعل كل واحد منهم صورة كبرى قائمة بذاتها، وكان من بينهم صور تيشيان، وتنتورتو، وبسانو، وصورته هو نفسه. ومع كل منهم آلة موسيقية وترية يعزف عليها. وكان باولو يختلف عن نتورتو في أنه لم يكن يعنى أقل عناية بالواقعة؛ فهو لم يجعل في صورته المحتفلين رجالا ونساء ممن قد تحتويهم بلدة يهودية صغيرة، بل جعل المضيف من اصحاب الملايين البنادقة، وجعل له قصراً خليقاً بأن يكون قدر الإمبراطور أغسطس، فيه الضيوف والكلاب المعروفة السلالة والنسب، واحتوت الموائد ما لذ وطاب من الطعام والشراب. وإذا جاز للإنسان أن يحكم على المسيح من صور فيرونيزي، قال إنه قد استمتع بولائم كثيرة بين محنه؛ فنحن نشاهده في اللوفر يتغذى في بيت سمعان الفريسي، ومجدلية تغسل قدمه، ومن حوله نساء حسان يتحركن بين العمد الكورنثية؛ وفي توريز يتعشى في بيت سمعان الأبرص؛ وفي معرض البندقية يتغذى في بيت لاوي. لكننا نرى المسيح في معرض صور فيرونيزي يغشى عليه تحت ثقل الصليب (درسدن)، ونراه يصلب في جو مكفهر وأبراج أورشليم قائمة من تحته عن بعد (اللوفر). ولا يفصح فيرونيز عن خاتمة المأساة: فنحن نرى في أموس حجاجاً سذجاً يتعشون مع المسيح ومعهم أطفال ظراف يدللون كلباً يظهر دائماً في صور الفنان.

واعظم من هذه الصور الموضحة للعهد الجديد صور فيرونيزي المستمدة من حياة القديسين وأقاصيصهم: كصورة القديسة هيلينا يكسوها الجمال الرائع، وهي تعتقد أنها ترى الملائكة ينقلون الصليب (لندن)؛ والقديس أنطونيوس يعذبها شاب مفتول العضلات، وامرأة مَلَكية (كائن)؛ والقديس جيروم في البرية؛ تواسيه وتطرد عنه السآمة كتبه (تشكاجو)؛ والقديس جورج يرحب في وجد ونشوة بالاستشهاد (في كنيسة سان جيورجيو بالبندقية)؛ والقديس أنطونيوس في بدوا؛والقديس فرانسس يتلقى الوسمات (البندقية)؛ القديس مناس تتلألأ عليه الدرع (مودينا) ويستشهد (برادو)؛ القديسة كترين الإسكندرية تتزوج زواجاً باطنياً بالطفل المسيح (كنيسة القديسة كترينا بالبندقية)؛ والقديس سباستيان يرفع علم الأيمان والأمل وهو يقاد إلى ساحة الاستشهاد (كنيسة سان سباستيانو في البندقية)؛ والقديسة جوستينا تواجه الاستشهاد وتتعرض للتهلكة المزدوجة في معرض أفيدسي وفي كنيستها في بدوا؛ كل هذه صور لا يمكن موازنتها بأحسن ما صور تيشيان أو نتورتو، ولكنها مع ذلك خليقة بأن تعد من الآيات الفنية، ولعل أجمل منها كلها صورة أسرة دارا أمام الاسكندر (لندن) وهي تمثل ملكة مكتئبة، وأميرة حسناء، راكعة أمام قدمي الفاتح الوسيم الكريم.

وقد سبق القول إن باولو بدأ حياته في البندقية بالتصوير في قصر الدوق، ونقول الآن إنه ختمه في هذا القصر نفسه بصور جدارية عظيمة خليقة بأن تستثير شعور كل روح وطنية في تلك المدينة. ذلك أن زخرفة داخل القصر بعد الحرائق التي شبت فيه في عامي 1574 و 1577 عهد أكثرها إلى نتورتو وفيرونيزي، وطلب إليهما أن يكون موضوع الزخرفة هو البندقية نفسها، التي لم ترهبها الحرائق والحروب؛ ولا الأتراك والبرتغاليون. وقد رسم باولو ومساعدوه في قاعة الاجتماع Sala del Collegio على السقف المحفور المذهب إحدى عشرة صورة رمزية غاية في الرشاقة- للوداعة وحمَلها... والجدل ينظر من خلال نسيج عنكبوت من صنعه... والبندقية في صورة ملكة مرتدية فرو القاقوم الثمين، وأسد القديس مرقص راقد في هدوء عند قدميها يتلقى التكريم من العدالة والسلام. وفي إطار بيضي الشكل عظيم الشأن في سقف قاعة المجلس الكبير Sala del Maggior Consiglio رسم صورة انتصار البندقية مثل فيها المدينة العظيمة التي لا تضارعها مدينة سواها بإلهة متربعة على عشرها بين الأرباب الوثنيين، تتلقى تاج المجد يهبط عليها من السماء؛ وعند قدميها كبار أعيان المدينة وكرائم سيداتها، وبعض المغاربة يؤدون الجزية؛ ومن تحت هؤلاء كلهم محاربون يقفزون استعداداً للدفاع عنها، وخدم يمسكون بكلاب الصيد من مقودها. تلك أعظم صورة صورها فيرونيزي.

واختير في عام 1586 لينشئ بدل مظلمات جوارينتو Guariento الحائلة اللون صورة تتويج العذراء في قاعة المجلس الكبير نفسها. وقدم الرسم التمهيدي وقبل، وبينما هو يستعد لرسم الصورة على القماش إذ انتابته الحمى؛ وروعت البندقية حين ترامى إليها النبأ بأن مصور مجدها الذي لا يزال في عنفوان الشباب توفي في أبريل من عام 1588. وطلب آباء كنيسة سان سباستيانو أن تدفق جثته في كنيستهم، وفعلاً دفن باولو في هذه الكنيسة أسفل الصور التي جعلت منها موطناً لفنه الديني.

ولقد قلب الدهر حكم معاصريه ووضعه في المرتبة الثانية بعد معاصره القوي تنتورتو. ونحن نظرنا إليه من حيث أصول الفن وجدناه يفوق تنتورتو؛ فقد بلغ في التنفيذ، والـتأليف، والتلوين أعلى درجة بلغها فن البندقية. ولسنا نجد صوره المزدحمة مضطربة مهوشة، بل نرى حوادثه ومناظره واضحة، وخلفيات صورة وضاءة ساطعة. على حين يبدو تنتورتو أمير الظلمة إذا وضع إلى جانب هذا العابد للضوء. كذلك كان فيرونيزي أعظم مصور زخرفي في النهضة الإيطالية، وكان على استعداد دائم لأن يبتكر بدعة سارة أو مدهشة في اللون والشكل كصورة الرجل الذي يخرج فجأة من وراء ستار نصف مزاح، مخترقاً مدخلاً قديماً، والتي نشاهدها في بيت ماتشر الريفي. ولكنه كان ينهمك مسروراً في تصوير السطوح المؤتلفة إلى حد يحول بينه وبين إدراك الدقائق الصغيرة، والمتناقضات المفجعة، والتناسق العميق وهي الخصائص التي بدونها لا يكون التصوير العظيم عظيماً. لقد كان ضعيف النظر لا يرى كل شيء، وكان حريصاً في فنه على أن يصور كل ما يراه، وأكثر مما كان يتخيله مجرد تخيل- كصورة الأتراك يشاهدون تعميد المسيح، والتيوتون في بيت لاوي، وللبنادقة عند إموس، والكلاب في كل مكان. وما من شك في أنه كان يحب الكلاب، وإلا لما صور كل هذا العدد الكبير منها. وكان يرغب في تصوير أكثر نواحي الحياة بهجة ولألاء، وحقق رغبته إلى حد لا يضارعه فيه غيره. وقد صور البندقية في رونق شمسها الغاربة ومتعة الحياة الآخذة في الزوال. ولسنا نجد في عالمه الذي مثله في صوره إلا نبلاء ذوي جمال، وزوجات ذوات فخامة وعظمة، وأميرات ساحرات، وفتيات شقراوات شهوانيات، وإنا لنجد بين كل صورتين من صوره واحدة تمثل احتفالا أو عيداً.

وإن عالم الفن كله ليعرف كيف استدعى رجال محكمة التفتيش فيرونيزي أمامهم (1573) تنفيذاً لقرار صادر من مجلس ترنت يحرم كل تعليم خاطئ في الفن، وطلبوا إليه أن يفصح لهم عن سبب إدخاله كثيراً من الأشياء التي لا تمت قط بصلة إلى الحقيقة في صورة الحفل المقام في بيت لاوي (البندقية)، كالببغاوات، والأقزام، والألمان، والمهرجين، وحاملي فئوس الحرب... ورد عليهم باولو في جرأة قائلا إن "مهمتي هي زخرفة الصورة بما أراه أنا صالحاً، وإنها كانت كبيرة تتسع لشخوص كثيرة... وإذا ما وجدت في صورة ما مكاناً خالياً يحتاج إلى ما يملؤه، وضعت فيه من الأشكال ما يوحي به خيالي"- ليتوازن به تأليف الصورة من جهة، وتستمتع به عين الشاهد استمتاعاً لا ريب فيه من جهة أخرى. وأمرته محكمة التفتيش أن يصلح الصورة على نفقته الخاصة، ففعل(37)، وكانت هذه المحاكمة بداية انتقال فن البندقية من عهد النهضة إلى عهد حركة الإصلاح المضادة.

ولم يكن لفيرونيزي تلاميذ ممتازون، ولكن تأثيره تخطى عدة أجيال ليسهم في صياغة الفن في إيطاليا، وفلاندرز، وفرنسا، تيبولو Tiepolo بميوله الزخرفية بعد فترة بينهما خلت من هذا التأثير، ودرسه روبنز بعناية؛ وتعلم أسرار ألوانه، وضخم نساء فيرونيزي البدن يوائم بينهن وبين ما يتسم به الفلمنكيون من سعة ورحابة. كذلك وجد فيه نقولاس بوسَّن Nicolas Poussin وكلود لورن Claude Lorrain من يرشدهما لاستخدام الزخارف المعمارية، في مناظرهم الطبيعية، وسار شارل ليرون Charles Lebrun على سنن فيرونيزي في تصميم الصور الجدارية الكبرى. وكان المصورون الفرنسيون في القرن الثامن عشر يستمدون الوحي من فيرونيزي وكريجيو في أناشيد الرعاة أيام الأعياد الريفية، وأناشيد العشاق الأشراف الذين يلعبون في أركاديا. ومن هنا نشأ واتو Watteau وفراجونار Fragonard؛ ومن هنا أيضاً نشأت العرايا ذوات اللون الوردي اللائى صورهن بوشيه Boucher، والأطفال الظراف الذين تصورهم جريز Grueze، والنساء الرشيقات اللاتي أبدع تصويرهن. ولعل تيرنر Turner قد وجد هنا شيئاً من شروق الشمس الذي أضاء به لندن.

وهكذا اختتم العصر الذهبي للبندقية ملكة البحر الأدرياوي بما امتازت به صور فيرونيز من توهج الألوان. وكان سبب هذا الختام أن الفن كان عسيراً عليه أن يظل سائراً إلى أبعد مما سار في الاتجاه الذي تبعه من عهد جيورجيوتي إلى عهد فيرونيزي. بعد ان وصل إلى حد الكمال في أصوله، وتسلق أعلى الدرج. ولهذا بدأ يهبط رويداً رويداً حتى جاء القرن الثامن عشر فحدثت فيه نوبة أخيرة من الإبداع والفخامة قبل موت الجمهورية ضارع بها تيبولو Tiepolo فيرونيزي في الرسم الزخرفي، وكان جلدوني Goldoni هو أرستوفانيز البندقية.


الفصل السادس: نظرة شاملة

إذا ما ألقينا نظرة على فن البندقية إبان مجده، وحاولنا في حياء أن نقدر ما كان له من شأن في تراثنا الفني، حق لنا أن نقول على الفور إن فن فلورنس وفن روما هما وحدهما اللذان يضارعانه في جودته، وبهائه، واتساع مجاله. ولسنا ننكر أن مصوري البندقية، ومنهم تيشيان نفسه لم يتعمقوا كما تعمق الفنانون الفلورنسيون في أسرار مشاعر الناس، وأسباب يأسهم، ومآسيهم، وانهم كثيراً ما أولعوا باللباس والجسد ولعاً حال بينهم وبين الوصول إلى الروح. ولقد كان رسكن على حق حين قال إن الدين الحق قد ذوى غصنه من أدب البندقية بعد بليني(38). ولم يكن البنادقة هم الملومين إذا ما أخفقت الحروب الصليبية، وانتصر الإسلام وانتشر في الآفاق، وانحط شأن البابوية أثناء إقامتها في أفنيون وفي اثناء الانقسام البابوي، ثم استحالة البابوية إلى سلطة دنيوية في عهد سكتس الرابع واسكندر السادس، ثم انفصال ألمانيا وإنجلترا آخر الأمر عن الكنيسة الرومانية، وإذا ما أدى هذا كله إلى إضعاف إيمان الخلق حتى المؤمنين أنفسهم، فلم يبق الكثير من النفوس القوية فلسفة خير من فلسفة الأكل والشرب والزواج ثم الزوال. غير أننا والحق يقال لم نجد غير البندقية مكاناً عاش فيه الفن المسيحي والفن الوثني متآلفين راضيين. فقد كانت الفرشاة التي صورت العذراء هي نفسها التي صورت بعدئذ فينوس، ولم يشكٌ من هذا أحد شكوى ذات بال. كذلك لم يكن هذا الفن مخنثاً ولا فن ترف وراحة؛ بل كان الفنانون ينهمكون في العمل انهماكاً، وكثيراً ما كان الذين يقوم هؤلاء الفنانون بتصويرهم رجالا يخوضون المعارك ويحكمون الدول، وكانت النساء اللائى يصورونهن نساء يحكمن أمثال هؤلاء الرجال.

وكان الفنانون البنادقة مولعين باللون ولعا حال بينهم وبين أن يضارعوا حذق الأساتذة الفلورنسيين، ولكنهم كانوا رغم ذلك رسامين مجيدين، وقد قال في هذا المعنى يوماً ما أحد الفرنسيين "إن الصيف مُلوّن، والشتاء مصمم L'ete c'est un coloriste l'liver c'est un dessinsteur(39)، فالأشجار العارية من الأوراق تكشف عن الخطوط الواضحة في هيكلها، ولكن هذه الخطوط تظل موجودة لا تزول تحت خضرة الربيع، وسمرة الصيف، وذهب الخريف. وكذلك نشهد تحت مجد اللون في جيورجيوني، وتيشيان، وتنتورتو خطوطاً ولكنها خطوط يمتصها اللون كما أن شكل السمفونية التركيبي يخفيه انسيابها.

وكان فن البندقية وأدبها يتغنيان بمجدها حتى في الوقت الذي اضمحلت فيه الحياة الاقتصادية وتحطمت في حوض البحر المتوسط بعد أن سيطر الأتراك على طرف منه، وهجرته من الطرف الآخر أوربا التي أخذت تبحث عن الذهب الأمريكي. ولعل الفنانين والشعراء كانوا على حق. فلم تكن تقلبات التجارة أو الحرب بقادرة على أن تطفئ جذوة الذكرى التي يعتز بها ذلك القرن العجيب 1480-1580- الذي أقام فيه مونشينيجو Mocenigo وبريولي Priuli ولورنداني Lorendani البندقية الإمبراطورية وأنجوها من الدمار، والذي زينها فيه آل لمباردي، ولبوباردي بالتماثيل والأنصاب، وتوج سانسوفينو وبلاديو مياهها بالكنائس والقصور، ورفع فيه بليني، وجيورجيوني، وتيشيان، وتنتورتو، وفيرونيزي مقامها فجعلوها زعيمة الفن في إيطاليا؛ والذي غنى فيه بمبو أغاني منزهة عن العيوب، واخرج فيه مانوتيوس Manutius لكل من يعنيهم الأدب، تراث اليونان وروما الأدبي، وجلس فيه الشيطان المنكل بالأمراء، ذلك الشخص الذي لايعوض، ولايقهر، جلس على عرش القناة الكبرى يحكم العالم ويعتصره.