قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 5 ب 19
صفحة رقم : 7232
قصة الحضارة -> النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفنون الخفية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكِتابُ الخامس: الصَّدعُ
الباب التاسع عشر: الثورة العقلية
الفصل الأوَل: الفنون الخفية
الحضارة في كل عصر من العصور وعند كل أمة من الأمم نتاج أقلية من الأهلين تستمتع بامتيازاتها وتتحمل تبعاتها. والمؤرخ العليم بما تتصف به السخافات من عناد شامل نفاذ يوطن نفسه على الاعتقاد بما سوف يكون للخرافات من مستقبل باهر مجيد؛ ذلك أنه لا يتوقع أن تنشأ دول كاملة على أكتاف خلائق ناقصة؛ ويدرك أن نسبة قليلة من الناس في أي جبل هي وحده التي تستطيع به أن تفكر تفكيره الخاص بدل تفكير أسلافها أو من يحيطون بها؛ ويتعلم هذا المؤرخ أن يبتهج إذا استطاع أن يجد في كل فترة من الفترات عددا قليلا من الرجال والنساء رفعوا أنفسهم بقوة عقولهم أو بفضل مولدهم أو ظروفهم من وهدة الخرافات، والفنون الخفية، والسذاجة العقلية إلى مستوى من الذكاء القائم على العلم وعلى المودة يدركون به ما هم فيه من جهل لاحد له.
ومصداقا لهذا كانت الحضارة في إيطاليا إبان عصر النهضة ميزة يختص به القليلون، وينشئها القليلون، ولا يستمتع بها إلا القليلون. أما الرجل العادي الساذج، الذي ليس أكثر من فرد في جماعة، فكان يحرث الأرض ويستخرج منها المعادن، ويجر عربات النقل أو يحمل الأثقال، ويكد ويكدح من مطلع الفجر إلى غسق الليل، حتى إذا أمسى المساء أنهكه التعب فلم يجد في نفسه قدرة على التفكير. ومن أجل هذا كان يتلقى آراءه، ودينه، وما يجيب به عن ألغاز الحياة من الهواء الذي يحيط به، أو يرثها من كوخ آبائه وأجداده؛ فكان يترك غيره يفكرون لأن غيره من الناس كانوا يرغمونه على أنه يعمل لهم؛ ولم يكن يكتفي بقبول العجائب التي تخلب لبه، وتربح نفسه، وتلهمه وتروعه، والتي يحتويه دينه التقليدي- وهي عجائب كان يتكرر انطباعه في عقله كل يوم عن طريق العدوى، والتلقين، والفن- بل كن يضيف إليها من ثنايا عقله الشياطين، والسحر والنذر، والتنبؤ بالغيب، والتنجيم، وعبادة المخلفات، وصنع المعجزات التي يتألف منها ما يمكن أن نسميه الميتافيزيقا الشعبية التي لا تجيزها الكنيسة وتستنكرها وترى فيه مشكلة تسبب لها من المتاعب أكثر مما يسببه عدم الأيمان. وبينا كان الرجل الممتاز في إيطاليا أرقى من مثيله في طبقته من أبناء ما وراء الألب في الثروة والثقافة بنصف قرن أو أكثر، كان الرجل العادي المقيم في جنوب الألب يشارك نظراءه في شمال تلك الجبال في كل ما كان سائدا في ذلك العصر من خرافات وأوهام.
وكثيرا ما كان الكتاب الإنسانيون أنفسهم يسلمون عقولهم لسخافات بيئتهم، وينثرون في الصحف التي تفيض بالفصاحة الشيشرونية روح هذه البيئة أو سخافاتها إن شئت. فها هو ذا بجيو مثلا يرتع ويمرح وسط النذر وغرائب المخلوقات كالفرسان الذين لا رؤوس لهم والذين يهاجرون من كومو إلى ألمانيا؛ أو آلهة البحار الملتحين الذين يخرجون من أعماق البحار ليختطفوا النساء الحسان من شواطئها(1). وها هو ذا مكيفلي المتشكك في الدين لا يستبعد أن يكون "الهواء مليئا بالأرواح" ويجهر باعتقاده أن الحوادث الخطيرة تسبقها وتدل عليها خوارق الطبيعة، والنبوءات، والوحي، والعلامات التي تظهر في السماء(2). وكان أهل فلورنس الذين يظنون أن الهواء الذي يتنفسونه يجعلهم مهرة لا يجاريهم في ذلك غيرهم من الناس، يعتقدون أن جميع الحوادث الخطيرة تقع في أيام السبت، وأن السير إلى الحرب في شوارع معينة من المدينة يجر عليهم مصائب لا يستطيعون النجاة منها(3). واضطرب عقل بولتيمان من جراء مؤامرة باتسى Pazzi اضطرابا لم يسعه معه إلا أن يعزو إليها ما أعقبها من مطر مدمر, وعفا عن الشبان الذين أردوا أن يضعوا حدا للمطر، بأن أخرجوا جثة زعيم المؤامرة، وعرضوها في شوارع المدينة، ثم ألقوها في نهر الأردن.(4). وكتب مرسيلو فنشينو بدافع عن التنبؤ بالغيب، والتخمين، ووجود الشياطين، واعتذر عن عدم زيارة بيكو دلا ميرندولا Pico della Mirandola لأن النجوم وقتئذ لم تكن في اقترانها مبشرة بالخير(5). ولعل ذلك الاقتران كان وهما صوره له الخيال. وإذا كان يسع الكتّاب الإنسانيين أن يؤمنوا بهذا، فهل يحق لنا أن نلوم عامة الشعب الذين لا نصيب لهم من الفراغ ولم ينالوا حظا من التعليم إذا ظنوا أن العالم الطبيعي مليء بالقوى الخارقة وأن أداة لها تستخدمه لاغير. وكان سكان إيطاليا يعتقدون أن كثيرا من الأشياء من مخلفات المسيح أو الرسل حقا. وقد بلغت هذه المخلفات من الكثرة درجة يستطيع الإنسان معها أن يجد في الكنائس الرومانية في عهد النهضة أشياء تمثل جميع مناظر الأناجيل. فواحدة منها تدعى أن قطعة من قماط الطفل يسوع، وأخرى تقول إن بها عود دريس من مزود بيت لحم، وثالثة تزعم أنها تضم قطعاً من الأرغفة والسمك التي تضاعف عددها، ورابعة تنادي أن بها المائدة التي استخدمت في العشاء الأخير؛ وواحدة تعتقد أن بها صورة العذراء التي رسمها الملائكة للقديس لوقا(6). وكانت كنائس البندقية تعرض جسم القديس مرقص، وقطعة من ذراع القديس جورج وإحدى أذني القديس بولس، وبعض السمك المحمر الذي أكل منه القديس لورنس، وبعض الحجارة التي قتلت القديس استيفن(7).
وكان الاعتقاد السائد أن لكل جسم - بل لكل عدد وكل حرف - قوة سحرية. ويقول أرتينو إن بعض العاهرات الرومانيات كن يطعمن عشاقهن لحم الجثث البشرية المتعفنة يسرقنه من المقابر ليقوين به باههم(8). وكانت الرقى تستخدم لألف غرض من الأغراض؛ ويقول أبوليان إنك إذا تلوت الرقبة الصحيحة استطعت أن تقي نفسك شر الكلاب. وكانت الأرواح الخيرة والشريرة تملأ الهواء؛ وكثيراً ما كان الشيطان يظهر بنفسه أو يلبس جسم من ينيبه ليغوي أو يرهب، أو يخدع، أو ينفث القوة أو العلم فيمن يريد؛ وكان لدى العفاريت طائفة لا تنفد من العلم الخفي يستطيع المرء أن ينال منها إذا استطاع أن يستميلها إليه بطريقة خاصة. وظل بعض رهبان الكرمل المقيمين في بولونيا (حتى أدانهم سكستس الرابع في عام 1474) يعلمون الناس أن لا ضرر مطلقا من أخذ العلم عن الشياطين(9)، وكان السحرة المحترفون يعرضون رقاهم المجربة الصحيحة التي ينالون بها معونة الشياطين على من يؤدون ثمنها من الطالبين. وكان المعتقد أن الساحرات- ونقول الساحرات لأنهن كن في العادة من النساء- أقدر بنوع خاص على الاتصال بأولئك العفاريت الذين يقدمون هذا العون، وكن يعاملنهم كأنهم عشاقهن أو آلهة لهن. وكانت اللاتي خُلعت عليهن هذه القوى الشيطانية يستطعن- كما يعتقد الناس- أن يتنبأن بالمستقبل، ويطرن في أقصر اللحظات مسافات شاسعة، ويدخلن من الأبواب المغلقة صغيرة أو كبيرة، ويصبن بشرهن المستطير من يسيء إليهن من الناس. وكان في مقدورهن أن يبعثن في النفوس الحب أو البغض، ويحدثن الإجهاض، ويصنعن السم، ويحدثن الموت برقية أو نظرة.
وأصدر إنوسنت الثامن في عام 1484 مرسوما بابويا يحرم في الالتجاء إلى الساحرات، ويسلم فيه بصحة بعض ما يدعينه من القوى، ويعزو إليهن بعض العواصف والأوبئة، وشكا من أن بعض المسيحيين، الذين حادوا عن الشعائر الدينية الصحيحة، كانوا قد اتصلوا اتصالا جسميا بالشياطين، وأنهم استعانوا بالرقى، والعبارات السحرية المسجعة؛ واللعنات، وغيرها من الفنون الشيطانية. فاوقعوا ضرراً شديداً ببعض الرجال والنساء، والأطفال، والحيوانات(10). وأشار البابا على عمال محاكم التفتيش أن يكونوا يقظين حذرين من هذه الأعمال. ولم يفرض هذا المرسوم على الناس الإيمان بالسحر على أنه من العقائد الرسمية للكنيسة. ولم يبدأ به عقاب الساحرات؛ ذلك أن اعتقاد الناس بوجود الساحرات، وعقابهن في بعض الأحيان قد حدث قبل صدور هذا المرسوم بزمن طويل. وكان البابا حين أصدره أميناً على ما جاء في العهد القديم إذ يقول: "لا تدع ساحرة تعيش"(11). وكانت الكنيسة قد ظلت قروناً طوالاً تؤمن بإمكان تأثير الشياطين في الآدميين(12). ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحته ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحة هذا التأثير، وكان التحذير الذي وجهه لأعضاء محكمة التفتيش بعض الأثر في اضطهادات الساحرات(13). فقد حدث في العام الأول بعض هذا المرسوم أن حرقت إحدى وأربعون امرأة في كومو وحدها بتهمة أنهن من الساحرات(14). وقضى المفتشون في بريشيا عام 1486 على عدد من الساحرات المزعومات بأن يسلمن إلى السلطة الزمنية أي أن يعدمن، ولكن الحكومة رفضت تنفيذ الحكم، وغضب لذلك إنوسنت أشد الغضب(15). وسارت الأمور سيرا أكثر من هذا انسجاما بين السلطتين في عام 1510، فنحن نسمع أن 140 امرأة قد أحرقن في بريشيا متهمات بالسحر، وفي عام 1514 في بابوية ليو الرحيم الظريف أحرق ثلاثمائة أخريات في كومو(16).
وازداد عدد الأشخاص الذين يعتقدون. أو يعتقد غيرهم فيهم أنهم يمارسون السحر زيادة سريعة وبخاصة في إيطاليا الواقعة في جنوب جبال الألب، ولعل ذلك كان بسبب ما أحدثه الاضطهاد من استفزاز للنفوس أو لغيره من الأسباب. وأخذ الأمر يتفاقم حتى اتخذت صورة وباء في طبيعته وكثرة المصابين به. وقال الناس وقتئذ إن 25.000 شخص حضروا "سيتا للساحرات" على سهل قريب من بريشيا، وفي عام 1518 أحرق عمال محكمة التفتيش سبعين ساحرة مزعومة من أهل ذلك الإقليم. وزج آلاف في سجون المحكمة. واحتج مجلس السيادة في بريشيا على زج الناس جملة في السجون، وحال دون الاستمرار في قتل السحرة والساحرات، فما كان من ليو إلا أن أصدر مرسوما (15 فبراير سنة 1521)، يأمر فيه بحرمان أي موظف يأبى أن ينفذ دون تحقيق أو جدل أحكام عمال محكمة التفتيش، ووقف جميع الخدمات الدينية بين أية جماعة تمتنع عن هذا التنفيذ. وتجاهل مجلس السيادة هذا المرسوم، وعين أسقفين، وطبيبين من أهل بريشيا، وعامل من عمال محكمة التفتيش للإشراف على ما يحدث بعدئذ من محاكمات للسحرة والساحرات، وللبحث في عدالة ما صدر من أحكام سابقة؛ وخول هؤلاء الرجال دون غيرهم سلطة إصدار الأحكام على المتهمين. وأنذر مجلس السيادة المندوب البابوي بأن يضع حدا لإدانة الناس لكي يستطيع بذلك مصادرة أملاكهم(16). وكان هذا إجراء غاية في الجرأة ولكن الجهالة وشهوة القتل والتعذيب تغلبتا آخر الأمر، وظل إحراق الناس بتهمة السحر وصمة عار لا تمحى من تاريخ البشرية في القرنين التاليين، في البلاد البروتستنتية والكاثوليكية، وفي العالم الجديد والعالم القديم على حد سواء.
وكانت الرغبة الجنونية في معرفة المستقبل عوناً كبيراً للمتنبئين بحظوظ الناس بأنواعهم المألوفة- قراء الكف، ومفسري الأحلام، والمنجمين؛ وكان هؤلاء أكثر عددا وأعظم قوة في إيطاليا منهم في سائر أنحاء أوربا. وكادت كل حكومة إيطالية يكون لها منجم رسمي يحدد لها بالنظر في مواقع النجوم الأوقات الملائمة للبدء في المشروعات الهامة. ولم يشأ يوليوس الثاني أن يغادر بولونيا إلا بعد أن أنبأه منجمه أن الوقت ملائم لمغادرتها, وكان سكتس الرابع وبولس الثالث يطلبان منجميهما تحديد الساعات التي يعقدان فيها مؤتمراتهما الكبرى(16ب). وقد بلغ انتشار العقيدة القائلة بأن النجوم تسيطر على أخلاق البشر وشؤونهم حدا جعل كثيرا من اساتذة الجامعات في إيطاليا يصدرون في كل عام تنبؤات قائمة على أساس التنجيم(16حـ)، وكان من أفانين أرتينو المضحكة أن يحاكى هذه التقاويم التي يضعها أولئك العلماء. ولما أن أعاد لورندسو ده ميديتشى جامعة بيزا، لم يقرر ضمن مواد الدراسة فيها منهجا للتنجيم؛ ولكن الطلاب ضجوا طالبين وضع هذا المنهج، ولم يجد بداً من الخضوع لمطلبهم(16د). ووجه بيكو دلا ميندولا أحد العلماء الأعلام المحيطين بلورندسو هجوماً كتابياً شديداً على التنجيم، ولكن مرسيليو فتشينو الأغزر منه علماً دافع عنه. وصاح جوتشيارديني قائلا: "ألا ما أسعد المنجمين الذين يؤمن الناس بأقوالهم ولو صدقوا مرة واحدة وكذبوا مائة مرة على حين أن غيرهم من الناس يفقدون الثقة بهم إذا كذبوا مرة واحدة وصدقوا مائة مرة"(12هـ). لكن التنجيم مع ذلك كان ينطوي على شيء من التطلع نحو النظرة العلمية إلى الكون؛ وكان فيه إلى حد ما مهرب من الاعتقاد بوجود كون تسيطر عليه مشيئة الله أو نزعات الشياطين، ويهدف إلى العثور على قانون طبيعي شامل. ينسق المظاهر الطبيعية ويوفق بينها.
الفصل الثاني: العلوم
لم يكن سبب تأخر العلوم هو مقاومة الكنيسة. بل كان ما يتمسك به الناس من خرافات وأوهام. ولم تكن الرقابة على النشر عقبة كأداء في سبيل العلم إلى أن قامت حركة الإصلاح المعارضة عقب مجلس ترنت (1545 وما بعدها)، فقد جاء سكستس الرابع إلى روما (1463) بأشهر منجم عاش في القرن الخامس عشر وهو جوهان ملر رجيو "مونس" Johan Muller ."Regiomontnus" وكان كوبرنيق في عهد البابا ألكسندر يدرس العلوم الرياضية والفلك في جامعة روما، ولم يكن كوبرنيق هذا قد وصل بعد إلى نظريته التي هزت كيان العالم والتي تقول بدوران الأرض في فلكها حول الشمس، ولكن نقولاس الكوزائي Nicholas of Cusa كان قد أشار إليها قبل ذلك الوقت، وكلاهما من رجال الدين. وكانت محكمة التفتيش ضعيفة ضعفا نسبيا في إيطاليا طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وكان من أسباب هذا الضعف بعد البابوات عنها في أفنيون، وما قام بينهم من نزاع أثناء عهد الانشقاق، وما وصل إليهم من عدوى الاستنارة في عهد النهضة. وحدث في عام 1440 أن حاكمت محكمة التفتيش في ميلان أماديو ده لاندى Amadeo de' Landi صاحب النزعة المادية، وبرأته مما عزى إليه، وحمى نصير جبريلي ده سالو Gabriele de Salo هذا الطبيب الملحد من محكمة التفتيش مع أنه "اعتاد أن يقول إن المسيح ليس هو الله بل هو ابن يوسف"(67). وكان التفكير في إيطاليا أكثر حرية والتعليم فيها أكثر تقدما مما كانا في أي بلد آخر خلال القرن الخامس عشر وفي أوائل القرن السادس عشر. وكانت مدارسها التي تعلم الفلك، والقانون، والطب، والآداب ملتقى الطلاب من أكثر عشرة أقطار، ولما أن أتم تومس ليماكر Thomas Lamacrel الطبيب والعالم الإنجليزي دراسته الجامعية في إيطاليا وقفل راجعا إلى إنجلترا في جبال الألب الإيطالية مذبحاً، ودشنه وهو يلقي آخر نظرة على إيطاليا باسم هذه البلاد الأم الحنون للعلم منشئة الدراسات وجامعة العالم المسيحي التي يواصل فيها العلماء دراساتهم بعد تخرجهم.
وإذا لم يكن العلم قد تقدم خلال القرنين السابقين على أيام فيساليوس Vesalius، (1514-1564) إلا تقدما يسيرا في هذا الجو المشبع بالخرافات من أسفل، وبالتحرر العقلي من أعلى، فقد كان أكبر السبب في هذا أن المناصرة والتكريم كانا موجهين إلى الفن، والمنح مخصصة للادب، وللشعر، ولم تكن قد قامت بعد دعوة واضحة للأساليب والأفكار العلمية في حياة إيطاليا الاقتصادية والعقلية. وكان يسع رجلا مثل ليوناردو أن يكون ذا نظرة كونية شاملة، ويمس أكثر من عشرة علوم بعقلية الطُّلعَة المتشوف، ولكن البلاد كانت خالية من المعامل العلمية الكبرى، وكان تشريح الأجسام لا يزال في بدايته، ولم يكن ثمة مجهر يستعان به على دراسة علم الاحياء أو الطب، أو مرقب يكبر الكواكب ويأنى بالقمر على حافة الأرض. وكان حب الجمال السائد في العصور الوسطى قد نضج حتى عاد فنا فخما جليلا، ولكن لم يكن في تلك العصور حب للحقيقة ينمو حتى يصير علما، وكان كشف الآداب القديمة قد بعث في الناس نزعة أبيقورية متشككة تمجد القديم وتتخذه مثلا أعلى بدل أن تجعلهم يخلصون إخلاص الرواقيين للبحوث العلمية التي تهدف إلى تشكيل المستقبل. ذلك أن النهضة قد وهبت روحها للفن، ولم تترك للادب منها إلا القليل، وتركت أقل من هذا القليل للفلسفة، وأقل من هذا وذاك العلوم. ولهذا كان ينقصها من هذه الناحية ذلك النشاط العقل الأشكال والذي أمتاز به العصر الذهبي اليوناني من أيام بركليز وإسكلس إلى زينون الرواقي وارستاخوس الفلكي. ولم يكن في مقدور العلوم أن تتقدم حتى تمهد الفلسفة لها الطريق.
من أجل هذا كان من الطبيعي أن يجد القارئ، الذي يعرف عشرة من أسماء الفنانين، مشقة في تذكر اسم عالم إيطالي واحد في عصر النهضة عدا اسم ليوناردو, وهو لا يذكر اسم أمرجو فسيوتشي نفسه إلا إذا ذُكِّر به، وأما جليليو فهو من رجال القرن السابع عشر (1564-1642). والحق إنا لانجد أسماء خالدة في ذلك العصر إلا في الجغرافية والطب. ففي أولهما اشتهر أودريك البردنوني Oderic of Pordenone الذي سافر إلى الهند والصين للتبشير بالدين (حوالي عام 1321) وعاد عن طريق التبت وبلاد الفرس، وكتب وصفا لما شاهد، وأضاف معلومات كثيرة قيمة لما كتبه ماركوبولو قبل جيل من ذلك الوقت. ولاحظ باولو تسكانيلي Paolo Toscanelli الفلكي، والطبيب، والجغرافي مذنب هالي في عام 1456. ويقال إنه أمد كولمبس بالمعلومات وبالتشجيع في مغامرته لاجتياز المحيط الأطلنطي(16و). وقام أمرجو فسبوتشي الفلورنسي بأربع رحلات بحرية إلى العالم الجديد (1497 وما بعدها)، وقال إنه أول من كشف أرض القارة وأعد لها خرائط، نشرها مارتن وولد سيملر Martin Waldseemuller واقترح أن تسمى القارة "أمريكا"، وأعجب الإيطاليون بالفكرة وأذاعوها في كتاباتهم(16خ). وكانت علوم الأحياء آخر ما نشأ من العلوم، لأن نظرية خلق الإنسان خلقاً خاصاً منفصلا عن سائر الكائنات- وهي التي كان يؤمن بها الناس كافة تقريبا- قد جعلت من غير الضروري ومن الخطر أن يبحث الناس في أصله الطبيعي. وكانت هذه العلوم تقتصر في الأغلب الأعم على البحوث والدراسات العلمية في علم النبات الطبي، وفلاحة البساتين، وتربية الأزهار، والزراعة. من ذلك أن بيترو ده كريستشندسي Pietro de Crescenzil نشر وهو في سن السبعين (1306) كتيبا في الجغرافية خليقاً بالإعجاب وإن كان قد تجاهل كتابات مسلمي أسبانيا في ذلك الميدان، وهي خير من كتابته. وأنشأ لورندسو ده ميديتشى في كاريجى Careggi حديقة شبه عمومية من النباتات النادرة الوجود، وأما أولى الحدائق العمومية المخصصة لعلم النبات فهي التي أنشأها لوكا غيني Luca Ghini في بيزا عام 1544. وكان للحكام ذوي النزعة الحديثة كلهم تقريبا حدائق للحيوان، كما كان الكردينال أبوليتو ده ميديتشى Ipolito de Medici يحتفظ بمعرض من الآدميين- هم طائفة من الهمج ينتمون إلى عشرين قومية مختلفة كلهم من ذوي الأجسام القوية الممتازة.
الفصل الثالث: الطب
وكان الطب أكثر العلوم ازدهاراً لأن الناس يضحون بكل شيء ماعدا الحرص على صحة الأجسام؛ وكان الأطباء ينالون من الثروة الإيطالية الجديدة قسطا موفورا مشجعا؛ فقد كانت بدوا مثلا تؤدى لواحد منهم ألفي دوقة في العام ليكون مستشارا طبيا لها، وتركته في الوقت نفسه حرا يتقاضى ما يشاء من الأجور في عمله الخاص. وكان بترارك الذي يعيش من مرتباته يندد أشد التنديد بأجور الأطباء العالية وبأثوابهم القرمزية وقلانسهم المصنوعة من فرو السنجاب(16). وخواتمهم البراقة ومهاميزهم الذهبية. وقد حذر بجد وحرارة البابا المريض كلمنت السادس من الوثوق بالأطباء فقال:
"أعرف أن الأطباء يحاصرون فراش مرضك، وطبيعي أن يملأ هذا قلبي خوفاً عليك. ذلك أن آراءهم متضاربة على الدوام؛ وأن من لا يجد منهم جديدا ينطق به يجلله عار التخلف عن غيره من الأطباء. وهم ينجرون بحياتنا لكي تذيع شهرتهم بما يستحدثون من جديد كما يقول بلني Plini. وحسب الواحد منهم أن يقول إنه طبيب لكي يؤمن الناس بكل كلمة يقولها، وليس هذا شأن الحرف الأخرى، مع أن كذبة الطبيب يكمن فيها من الأخطار ما لا يكمن في كذبة غيره. وهم يتعلمون مهنتهم على حسابنا، وحتى موتنا يهيأ لهم أسباب الخبرة، فالطبيب وحده من حقه أن يقتل الناس دون أن يخشى عقابا؛ ألا أيها الآب يا أرحم الراحمين! انظر إلى عصبتهم نظرتك إلى جيش من الأعداء، وأذكر القبرية المحذرة التي نقشها رجل بائس على شاهد قبره: "لقد مت من كثرة الأطباء!"(17).
ولقد كان الأطباء في جميع البلاد والعهود المتحضرة ينافسون النساء فيما يمتزن به من أنهن أكثر من يشتهى بنو الإنسان أكثر من بهجون. وكان الأساس الذي قام عليه تقدم الطب هو بعث التشريح. ذلك أن خدم الكنائس كانوا يتعاونون مع الأطباء كما كانوا يتعاونون مع الفنانين، فيقدمون جثث الموتى لتشرح في المستشفيات التي يشرف عليها أولئك الأطباء. فكان مندينو ده لوتسى Mondino de' Luzzi مثلا يشرح جثث الموتى في بولونيا وكتب كتابا في "التشريح Anatomia (1316) بقى مرجعا من أهم المراجع مدى ثلاثة قرون. على أنه كان يصعب على الأطباء مع ذلك أن يحصلوا على الجثث، وحدث في عام 1319 أن سرق بعض الطلاب في بولونيا جثة في إحدى المقابر وجاءوا بها إلى أستاذ في الجامعة شرحها أمامهم ليدرسوا أجزاءها، فسبق الطلاب للمحاكمة، ولكنهم برئوا، وأخذ ولاة الأمور المدنيون من ذلك الوقت يغضون الطرف عن استخدام جثث المشنوقين التي لا يطالب بها أحد في "التشريحات"(18). ويعزى إلى بيرينجاريودا كبرى Berengario de Capri، (1470-1550) أستاذ التشريح في جامعة بولونيا أنه شرح مائة جثة(19). وكان التشريح يحدث في جامعة بيزا منذ عام 1341 إن لم يكن قبله، وسرعان ما سمح به في جميع مدارس الطب بإيطاليا ومنها مدرسة الطب البابوية القائمة في روما، وأجاز سكستس السادس (1471-1484) هذا التشريح رسميا(20).
واستعاد التشريح في عهد النهضة على مهل تراثه المنسي في عهد اليونان والرومان الأقدمين؛ وحرره رجال أمثال أنطونيو بنيفيني Antonio Beniveni، وألسندرو أكيلنى Alessandro Achillnni ، وألسندرو بينيدتي Alessandro Beneditti وماركانطونيو دلانورى Marcantonio della Torre، حرره هؤلاء من سيطرة العرب، وعادوا به إلى جالينوس وأبقراط، وشكوا حتى في هذين العميدين المقدسين، وأضافوا إلى المعارف العلمية في الجسم البشري كل عصب، وعظم، وعضلة فيه. ووجه بينيفيني بحوثه في التشريح لمعرفة الأسباب الداخلية للأمراض، وكانت رسالته في الأسباب الخفية والعجيبة الأمراض وعلاجها (De abditis nonullis ac Mirandts Morborum et Canatiornm Causis 1507). أساس التشريح المرضى (الباثولوجي) وجعل فحص الجسم بعد الموت عاملا اساسيا في نمو الطب الحديث. وزاد فن الطباعة الجديد في هذه الأثناء سرعة تقدم الطب لأنه يسر انتشار الكتب الطبية وتبادلها بين الدول المختلفة.
وفي وسعنا أن نقدر بعض التقدير انتكاس العلوم الطبية في العالم المسيحي اللاتيني خلال العصور الوسطى إذا لاحظنا أن أعظم المشرحين والأطباء في ذلك العصر لم يكادوا يبلغون من العلم قبل عام 1500 ما بلغه أبقراط، وجالينوسن وسورانوس Soranus في الفترة المحصورة بين 450 ق.م و 200 بعد الميلاد. وكان العلاج في خلال العصور الوسطى لا يزال قائما على نظرية الأخلاط لأبقراط. وكانت الحجامة هي العلاج الشافي من كل العلل. وكانت أول محاولة معروفة لنقل الدم هي التي قام بها طبيب يهودي لعلاج البابا إنوسنت الثامن (1492)؛ وأخفقت هذه المحاولة كما قلنا من قبل. وكان الراقون لا يزالون يدعون لعلاج العجز الجنسي وفقدان الذاكرة بالرقى الدينية أو تقبيل المخلفات؛ ولعل سبب التجائهم إلى هذه الأساليب أن هذا العلاج الإيحائي كان يساعد على الشفاء في بعض الحالات. وكان الصيادلة يبيعون حبوبا وعقاقير عجيبة ويكثرون أموالهم بأن يضموا إلى سلعهم الكتب والورق، والأدهان، والحلوى، والتوابل، والحلى(21). وألف ميشيل سفنرولا والد الراهب الثائر رسالة الطب التجريبي (حوالي عام 1440) ورسائل أخرى أقصر منها، بحث في إحداها كثرة إصابة الفنانين العظام بالأمراض العقلية؛ وتحدث في رسالة أخرى عن مشهوري الرجال الذين طال عمرهم نتيجة تعاطيهم المشروبات الكحولية كل يوم.
وكان الأطباء الدجالون لا يزالون كثيري العدد، ولكن القانون أصبح وقتئذ يعنى بتنظيم مهنة الطب أكثر من ذي قبل؛ فكانت العقوبات توقع على الذين يمارسون الطب دون أن يحصلوا فيه على درجة علمية؛ وكان حصولهم عليها يتطلب دراسة منهج فيه يدوم أربع سنوات (1500)؛ ولم يكن يسمح لأي طبيب بأن يشخص مرضا خطيرا إلا إذا ضم إليه زميلا له. وكانت شرائع البندقية تحتم على الأطباء والجراحين أن يجتمعوا كل شهر ليتبادلوا المذكرات الطبية، وأن يحتفظوا بجدة معلوماتهم بالاستماع إلى منهج في التشريح مرة كل عام على الأقل. وكان يفرض على طالب الطب وقت تخرجه أن يقسم بألا يطيل على مريض زمن مرضه، وأن يشرف على تحضير الدواء الذي يصفه له، وألا يشارك الصيدلي في الثمن الذي يتقاضاه نظير إعداد الدواء. وحدد هذا القانون نفسه (قانون البندقية الصادر في عام 1368) أجر الصيدلي نظير تحضير الدواء بعشرة صلديات(22). والصلدى عملة لا يستطاع الآن تقدير قيمتها. وقد وصلت إلى علمنا عدة حالات جعل فيها شفاء المريض شرطاً لتقاضي الطبيب أجره وذلك بناء على تعاقد خاص بينهما(23).
وأخذت الجراحة ينتشر صيتها انتشاراً سريعاً كلما اقترب سجل عملياتهم وآلاتها مما كان عليه من التنوع والانفاق في عهد المصريين الأقدمين. من ذلك ان برناردو دا رابلو Bernardo da Rapallo ابتكر الجراحة العجائبية لاستخراج الحصوة (1451)؛ واشتهر مريانو سانتو Mariano Santo بكثرة نجاحه في استخراج حصاة المثانة بالشق الجانبي (حوالي 1530) وابتكر جيوفني دا فيجو جراح يوليوس الثاني وسائل لربط الشرايين والأوردة خيرا من الوسائل التي كانت معروفة من قبل؛ وعادت الجراحة التعويضية التي كانت معروفة للأقدمين إلى الظهور في صقلية حوالي عام 1450؛ وكانت الأنوف، والشفاه، والآذان المشدوهة تصلح بترقيعها بالجلد المأخوذ من أجزاء أخرى من الجسم، وقد بلغ من إتقانها أن الناظر إليها لا يكاد يتبين خطوط الالتحام(24).
وأخذت أساليب الصحة العامة تتحسن تحسنا مطردا. من ذلك أن أندريا دندولو حين كان دوج البندقية (1343-1354) أنشأ أول لجنة بلدية معروفة للصحة العامة(25)، وحذت حذو البندقية في ذلك غيرها من المدن الإيطالية. وكانت هذه اللجان الخاصة بالصحة العامة تختبر جميع الأطعمة والعقاقير التي تعرض للبيع على الجماهير، وتأمر بعزل من يصابون ببعض الأمراض المعدية. ولما فشا الموت الأسود في أوربا منعت البندقية في عام 1374 جميع السفن التي تحمل أشخاصا يرتاب في أنهم مصابون بالمرض أو بضائع مشتبها في أنها مصابة به من الدخول في موانيها. وفي راجوسا Ragusa كان القادمون يحجزون في أماكن خاصة ثلاثين يوما قبل أن يسمح لهم بالدخول إلى المدينة. وكانت البضائع المشتبه فيها تعامل هذه المعاملة نفسها. وأطالت مرسيليا مدة الحجر الصحي (1383) (الكرنتينة la quarantine) فجعلته أربعين يوماً، وحذت البندقية حذوها في عام 1403(26).
وأخذت المستشفيات يتضاعف عددها بهمة رجال الدين وغير رجال الدين وغيرتهم، فأنشأت سينا في عام 1305 مستشفى اشتهر بسعته وبما كان يؤديه من خدمات، وأسس فرانتشيسكو اسفوردسا المستشفى الكبير Ospedalc Maggiore في ميلان (1456)، وحولت البندقية في عام 1423 جزيرة سانتا ماريا دي نادساريت Santa Maria di Nazaret إلى محجر صحي لإيواء المصابين بالجذام؛ وكان في فلورنس في القرن الخامس عشر ثلاثة وخمسون مستشفى(28)؛ وكانت هذه المؤسسات كلها تستمد معونة سخية من الهبات الخاصة والعامة؛ وكانت بعض المستشفيات مضرب المثل في روعة البناء وفخامته، ومنها المستشفى الكبير في ميلان؛ ومنها ما كان يزين جدرانه بالتحف الفنية المُلهِمة. واستخدم مستشفى كبا Ospedafe del Coppa في بستويا جيوفني دلا رُبيا ليشكل لجدرانه نقوشا من الصلصال المحروق تصف في وضوح نماذج من مناظر المستشفيات، وامتازت واجهة مستشفى البرءاء Ospedali degli Innocenti في فلورنس الذي خططه برونيلسكو بالمدليات الرائعة المصنوعة من الصلصال المحروق التي وضعها في البندريلات القائمة على عقود بابها أندريا دلاربيا. ولشد ما تأثر لوثر بما وجده في إيطاليا من معاهد طبية وخيرية في عام 1511، وهو الذي روع بما كان فيها من فساد خلقي. وقد وصف لنا في حديث المائدة مستشفياتها بقوله: "المستشفيات في إيطاليا جميلة البناء مزودة أعجب التزويد بأحسن أنواع الطعام والشراب، ويعتنى فيها أحسن عناية بخدمة المرضى، وجدرانها مغطاة بالصور والنقوش. وإذا جاءها مريض نزعت عنه ملابسه بحضور كاتب يثبتها عنده بعناية وتحفظ في أمان. ثم يلبس المريض قميصاً أبيض اللون، ويخصص له سرير مريح عليه غطاء نظيف من التيل. ويحضر إليه على الفور طبيبان ويأتيه الخدم بالطعام والشراب في آنية نظيفة... ويزور المستشفى بالتناوب كثير من السيدات ويعتنين بالمرضى وهن محجبات الوجوه، حتى لا يعرف أحد كنههن؛ وتبقى كل واحدة منهن في المستشفى بضعة أيام، تعود بعدها إلى منزلها، وتحل غيرها محلها... وتضارع هذه المستشفيات في الجودة ملاجئ اللقطاء في فلورنس، حيث يعنى أكبر عناية بإطعام الأطفال وتعليمهم، وحيث يزودون بحلل متشابهة من الثياب ويلقون أعظم العناية بجميع أنواعها(29).
وكثيراً ما يكون من نحسس طالع الطب أن أمراضا جديدة تقابل تقدمه العظيم في العلاج- وتكاد تعقبه على الدوام. ومصداقا لهذا نقول إن الجدري والحصبة اللذين لا نكاد نسمع عنهما في أوربا قبل القرن السادس عشر أصبحا وقتئذ في مقدمة الأوبئة الأوربية. وقاست أوربا في عام 1510 أول وباء أنفلونزا سجله التاريخ في ربوعها. واجتاح إيطاليا في عامي 1505 و 1528 وباء من أوبئة التيفوس- وهو مرض لم يرد له ذكر قبل عام 1477. ولكن ظهور الزهري فجأة وانتشاره السريع في إيطاليا وفرنسا في أواخر القرن الخامس عشر كانا أكثر الظواهر رهبة وأشدها اختباراً لعلم الطب في عصر النهضة. ولسنا نعرف هل كان الزهري موجودا في أوربا قبل عام 1493 أو هل جاء إليها من أمريكا حين عاد منها كولمبس في ذلك العام، فتلك مسألة لا تزال مثار الجدل بين العلماء وليس هذا موضع البت فيها.
وتؤيد بعض الحقائق النظرية القائلة إنه مرض أصيل في أوربا؛ من هذه أن مومسا أقرت في محكمة بديجون أنها أقنعت أحد طلابها بعدم الاقتراب من لأنها مصابة بالمرض الكبير le gros mal، ثم لا نرى بعدئذ وصفا لهذا المرض في ذلك السجل(30). وفي الخامس والعشرين من شهر مارس سنة 1494 أمر منادى المدينة في باريس أن بأمر كل المصابين بـ البثرة الكبيرة(31).أن يخرجوا من المدينة. ولسنا نعرف ماذا كانت هذه "البثرة الكبيرة"، فلربما كانت هي الزهري نفسه. وفي أواخر عام 1494 غزا إيطاليا جيش فرنسي، واحتل نابلي في 21 فبراير من عام 1495، وسرعان ما فشا فيها بعدئذ وباء أطلق عليه الإيطاليون اسم الداء الفرنسي il morlo galolico يزعمون أن الفرنسيين قد جاءوا به إلى إيطاليا. وأصيب بهذا المرض كثيرون من الجنود الفرنسيين، ولما عاد هؤلاء إلى فرنسا في شهر أكتوبر من عام 1495 نشروا الوباء بين الأهلين؛ ولهذا سمى في فرنسا مرض نابلي Le mal de Naples لأن الأهلين افترضوا أن الجنود الفرنسيين قد أصيبوا به فيها. وفي السابع من عشر أغسطس عام 1495 أي قبل عودة الجيش الفرنسي من إيطاليا بشهرين أصدر الإمبراطور مكسميليان مرسوما ورد فيه ذكر المرض الفرنسي Malum Francicum؛ وغير خافٍ أن هذا "المرض الفرنسي" لا يمكن أن يعزى إلى الجيش الفرنسي الذي لم يكن قد عاد بعد من إيطاليا. وأخذ لفظ "المرض الفرنسي morbus gallicus" منذ عام 1500 يطلق على مرض الزهري في جميع أنحاء أوربا(32). ويحسن بنا أن نختتم هذه الفقرة بقولنا إن هذه كلها إشارات ولست أدلة قاطعة على أن الزهري كان موجودا في أوربا قبل عام 1493.
أما القول بأن أصل المرض أمريكي فقائم على تقرير كتبه طبيب أسباني يدعى راي دياز ده إزلا Rug Diaz da Izla بين عامي 1504 و 1506 (ولكنه لم ينشر إلا في عام 1539). وهو يقول إن قبطان سفينة أمير البحر أصيب في أثناء عودة كولمبس إلى أوربا بحمى شديدة مصحوبة بطفح جلدي مروع؛ ويضيف إلى ذلك قوله إنه هو نفسه عالج وهو في برشلونة بحارة مصابين بهذا المرض الجديد الذي لم يكن، على حد قوله، معروفا فيها من قبل. وقد قال إنه هو بعينه المرض الذي كانت تطلق عليه أوربا اسم "المرض الفرنسي" ويؤكد أن العدوى قد جاءت إليهم من أمريكا(33)، ومعروف أن كولمبس حين عاد من رحلته الأولى إلى جزائر الهند الغربية وصل إلى بالوس Palos في أسبانيا في الخامس عشر من شهر مارس سنة 1493. وقد لاحظ بنتور Pintor طبيب البابا اسكندر السادس في ذلك الشهر نفسه ظهور المرض الفرنسي لأول مرة في روما(34). ومرت سنتان كاملتان تقريبا بين عودة كولمبس واحتلال الفرنسيين نابلي- وهي مدة تكفي لانتشار الداء من أسبانيا إلى إيطاليا-؛ غير أننا لسنا واثقين من أن الوباء الذي اجتاح نابلي في عام 1495 هو الزهري عينه(35)، والعظام التي يمكن أن يفسر ما فيها من تغيرات على أنه من فعل الزهري جد نادرة في المخلفات الأوربية قبل عهد كولمبس، لكن عظاماً كثيرة من هذا النوع قد وجدت في أمريكا من مخلفات العهود السابقة لرحلة كولمبس (36).
ومهما يكن مصدر المرض الجديد، فإنه انتشر بسرعة مروعة، ويلوح أن سيزارى بورجيا قد أصيب به في فرنسا، كما أصيب به أيضاً كثير من الكرادلة ويوليوس الثاني نفسه؛ على أننا يجب أن ندخل في حسابنا إمكان انتقال العدوى به عن طريق الاختلاط البريء بأشياء أو أشخاص تحمل أو يحملون جرثومة المرض النشيطة. وكان الطفح الجلدي يعالج في أوربا من زمن بعيد بالمرهم الزئبقي؛ أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد أصبحت مركبات الزئبق شائعة شيوع البنسلين في هذه الأيام. وكان الجراحون والدجالون يسمون بالكيميائيين لأنهم حولوا الزئبق إلى ذهب، واتخذت إجراءات للوقاية من الداء. من ذلك أن قانوناً صدر عام 1496 يحرم على الحلاقين قبول المصابين بالزهري أو استخدام الآلات التي استعملوها أو استعملت لهم. وتقرر فحص العاهرات مرارا أكثر من ذي قبل، وحاولت بعض المدن تجنب هذه المشكلة بطرد المومسات منها؛ فنفتهن فيرارا وبولونيا في عان 1496 بحجة أنهم مصابات "بنوع من الطفح السري يسميه بعضهم بجذام القديس أيوب"(38). ودعت الكنيسة إلى العفة لأنها هي طريق الوقاية الذي يحتاجه الناس وعمل بهذه النصيحة كثيرون من رجال الدين.
وكان أول من أطلق لفظ Syphilis (الزهري) على هذا الداء هو جرولامو فراكاستورو Girolamo Fracastoro أحد الأشخاص ذوي المواهب المتعددة ولكنه مع ذلك من جلة العلماء في عصر النهضة. وقد بدأ حياته بداية طيبة: فقد ولد في فيرونا (1483) من أسرة شريفة أنجبت قبله عددا من الأطباء المشهورين. ودرس في بدوا كل شيء تقريبا؛ وكان من زملائه في الدرس كوبرنيق وكان بمبونتسي Pomponazzi وأكليني Achilini يعلمانه الفلسفة والتشريح، ولما بلغ الرابعة والعشرين من العمر كان هو أستاذ للمنطق ثم ما لبث أن أعتزل هذا العمل ليخصص نفسه للبحث العلمي بوجه عام والبحث الطبي بوجه خاص تخففه رغبة قوية في دراسة الآداب القديمة. وأثمر جمعه بين العلوم والآداب على هذا النحو شخصية مصقولة مهذبة. كما أثمر قصيدة رائعة مكتوبة باللغة اللاتينية على نمط قصيدة الفلاحة Georgics لفرجيل سماها الزهري، النجاة من الداء الفرنسي Syphilis, sive le morlo gallico (1521). وكان الإيطاليون من أيام لكريتيوس قد برعوا في كتابة القصائد التعليمية، ولكن من الذي كان يظن أن المطوقات المتناوبة يمكن أن يتحدث عنها بشعر سلس؟ أما لفظ سِفِلس فكان يطلق في الأساطير القديمة على راع اعتزم إلا يعبد الله الذي لا يستطيع رؤيته، بل يعبد الملك، وهو وحده سيد قطعانه الذي يمكنه أن يراه؛ ولذلك غضب منه أبلو فملأ الهواء بأبخرة كريهة أصيب منها سفلس بمرض مصحوب بطفح وخراجات في جميع أجزاء جسمه؛ تلك في جوهرها هي قصة أيوب. واقترح فراكستورو أن يبحث عن أول ظهور "مرض شديد الوطأة، نادر لم ير قط في القرون الماضية اجتاح أوربا كلها ومدن آسية وليبيا المزدهرة وغزا إيطاليا في تلك الحرب المشئومة التي كانت سببا في اشتقاق اسمه من بلاد غالة (فرنسا) ليتبين مبدأ ظهوره، وانتشاره الوبائي، وأسبابه، وعلاجه. وهو يرتاب في أن المرض قد وفد من أمريكا، لأن ظهوره كاد يكون في وقت واحد في كثير من بلاد أوربا البعيدة بعضها عن بعض. ويقول إن العدوى؛ "لم تكن تظهر في الحال، بل كانت تبقى كامنة فترة من الزمن قد تطول أحيانا إلى شهر... بل إلى أربعة أشهر. وكانت قرح صغيرة تبدأ في الظهور في معظم الحالات على الأعضاء التناسلية... ثم تظهر على الجلد بعدئذ بثرات عليها غشاء... ثم تأكل هذه البثرات المتقرحة الجلد... وتصل عدواها إلى العظام نفسها... وتتآكل في بعض الحالات الشفتان، أو الأنف ، أو العينان، وفي حالات أخرى تتآكل جميع الأعضاء التناسلية"(39).
ثم تمضي القصيدة فتبحث في علاج هذا الداء بالزئبق أو بالجواياك (صمغ خشب الأنبياء)- وهو "خشب مقدس" يستعمله هنود أمريكا. وتحدث فرانكستورا في كتاب آخر منثور يسمى العدوى عن بعض الأمراض المعدية- كالزهري، والتيفوس، والتدرن- وطرق انتشارها. واستدعاه بولس الثالث في عام 1545 ليكون كبير الأطباء لمجلس ترنت. وأقامت فيرونا نصبا عظيما تخليدا لذكراه، ونقس جيوفني دال كافينو Giovanni dal Cavino صورته على مدلاة تعد من أجمل التحف الفنية التي من نوعها.
وكانت العادة المتبعة قبل عام 1500 أن يطلق على جميع الأمراض المعدية على اختلاف أنواعها ذلك الاسم العام الشامل وهو "الطاعون". ثم كان من الأعمال الدالة على تقدم الطب أنه قد ميز في وضوح وشخص طبيعة هذا الوباء الخاص؛ وأعد العدة لمقاومة انتشار مرض خطير كالزهري. ولم يكن الاعتماد على أبقراط وجالينوس كافيا في هذه الأزمة الطاحنة؛ كما أنه لم يكن في مقدور مهنة الطب أن تواجه هذه التجربة الغير متوقعة إلا لأنها قد أدركت ضرورة الدراسة المفصلة الدائمة التجدد لأعراض هذا الداء، وأسبابه، وطرق علاجه بتجارب تجرى في ميدان دائم الاتساع متصلة بعضها ببعض على الدوام.
وإلى هذه المؤهلات العالية، وغلى الإخلاص في العمل، والنجاح فيه، يرجع فضل اعتراف الناس بأن الطبقة الممتازة من الأطباء تمثل في إيطاليا أرستقراطية عصامية لم ترث المجد عن الآباء والأجداد. ولما أن فصل أولئك الأطباء مهمتهم عن الكنيسة فصلا تاماً، أصبح الناس يجلونهم أكثر مما يجلون رجال الدين؛ فلم يكن كثيرون منهم مستشاري الأمراء، والأحبار، والملوك في الطب فحسب، بل كانوا إلى ذلك مستشاريهم السياسيين، وكثيرًا ما كانون رفاقهم المحببين. وكان كثيرون منهم من الكتاب الإنسانيين، ملمين بالآداب القديمة؛ يجمعون المخطوطات والروائع الفنية؛ وكثيرًا ما كانوا أصدقاء كبار الفنانين وثيقي الاتصال بهم. وآخر ما نقوله عنهم أن كثيرين منهم قد حققوا المثل الأبقراطي الأعلى وهو الجمع بين الفلسفة والطب ، فكانوا يتنقلون في يسر من موضوع إلى موضوع في دراساتهم وفي تعليمهم، ولبثوا في الهيئة المهنية الفلسفية المتآخية حافزاً لإخضاع أفلاطون، وأرسطو، وأكوناس- كما أخضعوا أبقراط، وجالينوس، وابن سينا- للفحص المتجدد، الجريء الذي يهدف إلى معرفة الحقيقة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: الفلسفة
يبدو من أول نظرة أن النهضة الإيطالية لم تثمر محصولا موفوراً من الفلسفة، ذلك أن محصولها هذا لا يمكن أن يضارع ما أثمرته الفلسفة المدرسية الفرنسية في أيام عزها من عهد أبلار إلى عهد أكوناس، دع عنك "مدرسة أثينة الفلسفية". وأعظم الأسماء التي اشتهرت بها في الفلسفة (إذا تجاوزنا الزمن الذي يحدد عادة لنهاية النهضة) هو جيور دانو برنو Giordano Bruno (1548-1600)؛ وعمل هذا الرجل خارج نطاق الفترة التي ندرسها في هذا الكتاب. ويبقى بعد ذلك اسم بمبونتزي Pomponazzi، ولكن منذا الذي يعظم الآن هذا الصارخ المتشكك الجريء المسكين؟
وقد احتضن الإنسانيون مبادئ الثورة الفلسفية حين اكتشفوا ونشروا بحذر عالم الفلسفة اليونانية ولكنهم كانوا في معظم الأحوال- إذا استثنينا فلا Valla- أكثر دهاء وحرصاً من أن يعرضوا معتقداتهم جهرة. وكان أساتذة الفلسفة في الجامعات تقف في سبيلهم تقاليد الفلسفة المدرسية؛ ولهذا فإنهم بعد أن قضوا سبعة أعوام أو ثمانية يضربون في تلك البيداء انتهوا إما إلى الخروج منها إلى ميادين أخرى من الدراسة وإما إلى دفع أجيال أخرى إليها، بعد أن مجدوا لهم ما صادفوه من العوائق التي حطمت إرادتهم ووصلت بعقولهم سالمة إلى غاية عقيمة لا حياة فيها. ومن يدري لعل الكثيرين منهم أحسوا بقسط من السلامة العقلية والاقتصادية والاقتصار على المسائل الخفية الغامضة يصوغونها بعناية وحذر في مصطلحات مجدية غير مفهومة المعنى؟ وكانت الفلسفة المدرسية لا تزال في معظم الكليات الفلسفية خاضعة للتقاليد والرسميات، وقد أخذت أطرافها تتجمد استعدادا للموت والفناء؛ وأصبحت المسائل القديمة التي كانت مثار الجدل في العصور الوسطى يعاد النظر فيها بأساليب الجدل القديمة التي كانت متبعة في تلك العصور، ويبذل في هذا الجدل كثير من الجهد والعناء ثم تنشرها هيئة التدريس في الكليات مزهوة بها مفتخرة.
وكان ثمة عنصران من عناصر الحياة يعملان لإحياء الفلسفة: هما النزاع القائم بين الأفلاطونيين والأرسطوطاليين، ثم انقسام الأرسطوطاليين أنفسهم إلى متمسكين بتقاليدهم القديمة ورشديين . وأضحى هذا النزاع في بولونيا وبدوا مبارزة حقيقية ومسائل حياة أو موت بمعناهما الحرفي. وكانت كثرة الإنسانيين أفلاطونية بتأثير جمستس بليتو Gemistus Pletho، وبساريون Bessarion؛ وثيودورس جادسا Fheodorus Gaza، وغيرهم من اليونان وقد سكروا بخمر المحاورات، وكان من العسير عليهم أن يفهموا كيف يطبق أي إنسان المنطق الجاف، وما حواه كتاب الأرغانوق الهزيل، والطريقة "الوسطى الذهبية" الرصاصية التي ينادى بها أرسطو الحذر. ولكن هؤلاء الأفلاطونيين كانوا يصرون على أن يبقوا مسيحيين؛ وكأنما كان مارسليو فتشينو Marsilo Ficino ممثلا لهم ومندوبا عنهم حين كرس نصف حياته للتوفيق بين أسلوبي التفكير المختلفين. ولكي يحقق هذا الغرض شرع يدرس دراسة واسعة، وتوسع في هذه الدراسة حتى شملت زردشت وكنفوشيوس. ولما وصل في دراسته إلى أفلوطين، وترجم هو نفسه الانيازات، أحس أنه عشر في الأفلاطونية الحديثة الصوفية على الخيط الحريري الذي يستطاع به ربط أفلاطون بالمسيح. وحاول أن يصوغ هذا الارتباط في كتابه اللاهوت الأفلاطوني Theologia Platonica وهو خليط مهوش من الدين القويم، والإيمان بالعلوم الخفية، والهلينية، ووصل فيه بعد تردد وإحجام إلى نتيجة من نوع مذهب الأحدية فقال إن الله هو روح العالم. وأصبح هذا هو فلسفة لورندسو والملتفين حوله، والمجامع العلمية الأفلاطونية في روما، ونابلي، وغيرهما من البلاد؛ ووصلت هذه الفلسفة من نابلي إلى جيوردانو برونو، ثم انتقلت من برونو إلى أسبنوزا، ومنه إلى هيجل، ولاتزال حية قائمة إلى يومنا هذا.
ولكنهم كانوا يجدون ما يقولونه دفاعا عن أرسطو وخاصة إذا أسيء فهمه وتفسيره. ترى هل كان أكوناس على حق حين فهم أنه يقول بالخلود السخصي، أو هل كان ابن رشد محقا حين فهم من كتاب النفس أنه لا يؤكد عدم الموت إلا لنفس بني الإنسان الكلية؟ وكان ابن رشد الرهيب ذلك الفيلسوف العربي المرعب، الذي ظل الفن الايطالي زمنا طويلا يصوره منكبا على وجهه تحت قدمي القديس تومس، كان ابن رشد هذا منافساً يدعو إلى غلبة الفلسفة الأرسطوطالية بلغ من قوته أن أضحت بدوا وبولونيا تعجان بإلحاده. وكانت بدوا هي التي أضاع فيها مرسيلوس، الذي تسمى باسمها، احترامه للكنيسة . وفي بدوا استقى فلبو ألجيري دانولا Algeri da Nola Filippo برونو المولود في نولا نفسها تلك الأخطاء المروعة التي لقى فيها ذلك المصير المحزن إذ ألقى به في برميل من القار وهو يغلي(40). ويبدو أن نقولتو فرنياس Nicoletto Vernias. كان، وهو أستاذ للفلسفة في بدوا (1471-1499)، يعلم فيها العقيدة القائلة إن النفس الكلية العالمية وحدها، لا النفس الفردية، هي الخالدة(41)، وعرض تلميذه أجستينو نيفو Agostino Nifo هذه الفكرة نفسها في رسالة له تدعى De intllectu et daemonibus، (1492). وكان المتشككة يسعون في العادة إلى تهدئة ثائرة محكمة التفتيش بأن يفرقوا (كما كان ابن رشد يفرق) بين نوعين من الحقيقة- الدينية والفلسفية: فيقولون إن قضية من القضايا يمكن رفضها في الفلسفة إذا نظر إليها من ناحية العقل، ولكنها مع ذلك يمكن قبولها على أساس الإيمان إذا أخذنا بقول الكتاب المقدس أو الكنيسة. وعبر نيفو عن هذا المبدأ ببساطة كان فيها جريئا متهورا فقال: "يجب أن نتحدث كما يتحدث الكثيرون، ويجب أن نفكر كما يفكر القليلون(42). وبدل نيفو رأيه أو بدل أقواله لما تبدل لون شعره وتصالح مع مبادئ الدين القويم، وكان وهو أستاذ الفلسفة في بولونيا يجتذب الأعيان، وكرائم السيدات، وجماهير لا تحصى، محاضراته المصحوبة بالتهجم والسخرية، والمحلاة بالقصص والفكاهة. وأصبح من الناحية الاجتماعية أكثر معارضي بمبونتسى نجاحاً.
وكان بيترو بمبوتتسي، القنبلة المجهرية لفلسفة النهضة، ضئيل الجسم إلى حد جعل أصفياءه يسمونه بريتو Peretto - أي "بطرس الصغير". ولكنه كان كبير الرأس، عريض الجبهة، أقنى الأنف، صغير العينين، نفاذهما أسودهما، وكان رجلا يأخذ الحياة والفكر مأخذاً جدياً أليما. وقد ولد في مانتو (1462) ودرس الفلسفة والطب في بدوا، ونال الدرجتين فيهما وهو في سن الخامسة والعشرين، ولم يلبث أن أصبح أستاذاً في جامعة تلك المدينة نفسها وغمرته جميع تقاليد فلسفة بدوا المتشككة، وبلغت فيه غايتها، حتى قال في فانيني Vanini المعجب به: "لقد كان يحق إلى فيتاغورس أن يحكم بأن روح ابن رشد قد تقمصت جسم بمبونتسي(43). ويلوح أن الحكمة تكون على الدوام تجسيداً لحكيم قديم أو صدى لأقواله لأنها تبقى على الدوام دون أن يطرأ عليها تغيير بعد أن تمر بآلاف الأنواع المختلفة المتتابعة من الأغلاط.
ووصال بمبونتسي التدريس في بدوا من 1495 'لى 1509، ثم اجتاحت أعاصير الحرب المدينة وأغلقت قاعات جامعتها التاريخية. وفي عام 1512 نجده مستقرا في جامعة بولونيا حيث بقي إلى آخر أيام حياته، وتزوج ثلاث مرات، وظل على الدوام يحاضر عن أرسطو، ويشبه في تواضع جم علاقته بأستاذه بدودة تحاول ارتياد مجاهل فيل(44). وكان يرى أن من الأسلم له ألا يعرض آراءه كأنه هو صاحبها، بل أن يعرضها على أنها متضمنة في آراء أرسطو كما شرحه أسكندر الأفروديسي. وكانت طريقته تبدو أحيانا مسرفة في التواضع؛ يظهر فيه الخضوع الشديد للسلطة الميتة. غير أنه لما كانت الكنيسة تدعى أن عقائدها هي نفسها عقائد أرسطو، متبعة في ذلك رأي أكوناس، فلعل بمبونتسي كان يشعر بأن الجهر بأية عقيدة خارجة على سلطان الكنيسة عقيدة أرسطوطالية بحق ستؤدي إلى غضب رجال الدين، إن لم تؤد به هو نفسه إلى الحرق حياً. ذلك أن مجلس لاتران الخامس الذي عقد برياسة ليو العاشر (1513) أدان كل من يقول إن النفس واحدة لا تتجزأ في جميع الناس، وغن النفس الفردية يحق عليها الفناء ونشر بمبونتسي بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت أكبر كتبه المسمى في خلود النفس الذي حاول فيه أن يثبت أن هذا الرأي الذي رفضه المجلس هو رأى أرسطو بحذافيره، فأرسطو حسبما يرى بترو يقول إن العقل يعتمد على المائدة في كل خطوة من خطى تفكيره، وإن أكثر المعارف تجريداً تستقى في آخر الأمر من الحواس؛ وإن العقل لا يستطيع أن يؤثر في العالم إلا عن طريق الجسم؛ ولهذا فإن النفس المجردة عن الجسم، إذا بقيت بعد الإطار الفاني، لا تكون إلا طيفا لا حول له ولا عمل يقوم به. ويختم بمبونتسي حديثه بأن من واجبنا بوصفنا مسيحيين ومن أبناء الكنيسة المخلصين لها، أن نؤمن بخلود النفس الفردية؛ أما بوصفنا فلاسفة فليس هذا من واجبنا, ويبدو أنه لم يدر قط بخلد بمبونتسي أن دعواه لا تستقيم أمام دعوى الكنيسة التي كانت تقول ببعث الجسم والروح جميعاً؛ ولعله لم يكن يحمل هذه العقيدة على محمل الجد، ولم يكن يظن أن قراءة أنفسهم سيحملونها على هذا المحمل. ومبلغ علمنا أن أحداً لم يُثر رأيه هذا ضده.
وأثار الكتاب عاصفة من الاحتجاج، وأقنع الرهبان الفرنسيس دوج البندقية بأن يأمر بإحراق كل ما يمكن العثور عليه من نسخة علناً؛ ونفذ هذا الأمر فعلا. ثم قدمت الاحتجاجات إلى المحكمة البابوية، ولكن بمبو وببيبا كانت لهما مكانة سامية في مجالس ليو، وأكدا له أن النتائج التي يعرضها الكتاب سليمة ليس فيها ما يعارض الدين الصحيح، والحق أنها كانت كذلك. ولم يستطع المعارضون أن يسخروا ليو لما كانوا يريدون، وقد كان يعرف حق المعرفة تلك الحيلة الصغيرة حيلة الحقيقتين التي يقول بها بمبونتسي بكتابة كلمة لطيفة يعلن بها خضوعه للكنيسة(45). وأجابه بترو إلى ما طلب وأصدر كتاب الاعتذار (1518) الذي يؤكد فيه بوصفه مسيحيا بان يؤمن بكل تعاليم الكنيسة. ثم أمر ليو حوالي ذلك الوقت أجستينو بأن يرد على كتاب بمبونتسي؛ وإذا كان أجستينو مولعاً بالجدل، فقد قام بهذه المهمة بحذق وسرور. ومن عجب أنه بينا كان رأس بمبونتسي معلقاً في ميزان محكمة التفتيش، إذا صح التعبير، كانت ثلاث جامعات تتنافس للانتفاع بخدماته؛ ولعل في هذا التنافس دليلا على أن العداء بين الجامعات ورجال الدين كان لا يزال قائماً لم تنقطع أسبابه. فلما أن سمع رجال الحكم في بولونيا أن بيزا تسعى لإغرائه بالمجيء إليها، وكانت وقتئذ خاضعة رسميا للبابا، ولكنها مع ذلك أصمت أذنها عن سماع نداء الرهبان الفرنسيس الحانقين، أطالت بقاء بمبونتسي فيها ثماني سنين أخرى ورفعت مرتبه إلى 1600 دوقة (20.3000 ؟ دولار) في العام(46).
وواصل بمبونتسي حملته التي يدعو فيها إلى التشكك في كتابين صغيرين لم ينشرهما في حياته. أرجع في أحدهما المسمى De incantione كثيراً من الظواهر الخارقة للطبيعة كما يزعم الناس إلى أسباب طبيعية. وكان سبب تأليفه أن طبيباً كتب إليه عن علاج شاف يقال إنه ثمرة رقى أو سحر، فأمره بيترو أن يشك في الأمر وكتب له يقول: "إن من السخف ومما يدعو إلى السخرية أن يحتقر الإنسان ما هو واضح وطبيعي لكي يلجأ إلى علة غير واضحة لا يؤكد صحتها أي احتمال موثوق به"(47). وهو بوصفه مسيحيا يؤمن بالملائكة والأرواح، ولكنه بوصفه فيلسوفا يرفضها، ويقول إن جميع العلل في عالم الله طبيعية. وهو يتأثر بتدريبه الطبي فيسخر بالاعتقاد الشائع في المصادر السحرية الخفية الشافية من الأمراض ويقول إنه لو كان في مقدور الأرواح أن تشفي أمراض الأجسام لكانت هذه الأرواح مادية أو كانت تستخدم وسائل مادية كي تستطيع أن تؤثر في جسم مادي، ثم يمضي فيصور في سخرية الأرواح السافية تهرول غادية رائحة ومعها ما لديها من جبس، ومرهم، وحبوب(48). على أنه يعتقد أن لبعض النباتات والحجارة قوة علاجية، ويصدق المعجزات الواردة في الكتاب المقدس، ولكنه يظن أنها كانت عمليات طبيعية، ويقول إن الكون تسيطر عليه قوانين ثابتة منسقة، وإن المعجزات ليست إلا مظاهر غير عادية لقوى طبيعية لا نعرف نحن إلا جزءاً من قدرتها ووسائلها، والناس يعزون إلى الأرواح أو إلى الله ما لا يستطيعون إدراكه بعقولهم(49). ويصدق بمبونتسي كثيرا مما ورد في التنجيم دون أن يرى في ذلك ما يتعارض مع هذه النظرة، نظرة العلل الطبيعية للأشياء؛ وهو لا يقول إن حياة الآدميين خاضعة لتأثير الأجرام السماوية فحسب، بل يضيف إلى ذلك أن جميع الأنظمة البشرية، ومنها الأديان نفسها، تنشأ، وتزدهر، وتضمحل بفعل المؤثرات السماوية، ويصدق هذا أيضا في رأيه على المسيحية، ويقول إن ثمة في تلك الأيام دلائل على أن المسيحية آخذة في الزوال(50)؛ ثم يقول بعدئذ إنه بوصفه مسيحيا يرفض هذا كله ويراه سخفاً وهراء.
أما كتابه الأخير De Fato فيبدو أنه أكثر اتفاقا مع الحقائق العلمية لأنه دفاع عن حرية الإرادة؛ وهو يعترف بأنه هذه الحرية لا تتفق مع علم الله بكل شيء ومعرفته بكل شيء قبل وقوعه، ولكنه يصر على اعتقاده بحرية الإنسان في نشاطه وعلى أنه لابد له أن يفترض في الإنسان قسطا من حرية الاختيار إذا كان للإنسان شيء من التبعة الأخلاقية. وكان في رسالته عن الخلود قد عالج إمكان نجاح أي قانون أخلاّ إذا لم يستند إلى العقاب والثواب تفرضهما قوة غير بشرية. وآمن بفخر شبيه بافتخار الرواقيين أن الفضيلة نفسها جزاء كاف للفضيلة، وليس ذلك الجزاء جنة بعد الموت(51)، ولكنه يقر بأنه لا يمكن حمل معظم الناس على مراعاة السلوك الحسن إلا بالاعتماد على الآمال والمخاوف يتلقونها من قوة غير بشرية. وهذا فيما يقول، هو الذي دعا كبار المشرعين إلى أن يغرسوّا في نفوس الناس الإيمان بوجود حالة في المستقبل تحل محل الشرطة التي لا يخلو منها مكان، وأكثر منها اقتصادا، ويبرر، كما يبرر أفلاطون تلقين الناس الخرافات والأساطير إذا كان في مقدورها أن تساعد على كبح جماح ما فطر عليه الآدميون من خبث(52).
"ولهذا وعدوا الصالحين بالنعيم السرمدي في الدار الآخرة، وأنذروا الصالحين بالعقاب الأبدي الذي يرعبهم أشد الرعب. والكثرة الغالبة من الناس، إذا فعلوا الخير، إنما يفعلونه خوفاً من العقاب الأبدي لا أملا في النعيم السرمدي، لأنا أكثر علما بالعقاب من تلك النعم السرمدية. وإذ كان في وسع الناس جميعاً أياً كانت طبقتهم أن يفيدوا من هذه الطريقة الأخيرة، فإن المشرع، وهو يرى ميل الناس إلى الشر وينزع هو إلى الخير العام، قد نادى بأن النفس الخالدة، غير مبال في ندائه هذا بالحقيقة، وإنما يعنى بالخير والصلاح، كي يستطيع بذلك أن يهدي الناس إلى الفضيلة(52أ).
وهو يرى أن الكثيرين من الناس يبلغون من السذاجة في العقل، والوحشية في الأخلاق درجة لابد معها من معاملتهم كما يعامل الأطفال أو المرضى، وليس من الحكمة أن يعلم هؤلاء العقائد الفلسفية. ويقول عن آرائه هو: " يجب ألا تنقل هذه الأشياء لعامة الناس لأنهم يعجزون عن تلقي هذه الأسرار، بل إن من واجبنا أن نحذر من التحدث عنها إلى رجال الدين الجهلاء"(53) وهو يقسم بني الإنسان إلى فلاسفة ورجال دين، ويعتقد اعتقاداً لا يصح لنا أن نلومه عليه وهو أن "الفلاسفة وحدهم هم آلهة الأرض، وأنهم يختلفون عن سائر الناس أيا كانت مراتبهم وأحوالهم، يقدر ما يختلف الناس الأحياء عن تلك الصور المرسومة على القماش"(54).
وكان في اللحظات التي هو فيها أكثر تواضعاً منه في غيرها يدرك ضيق مجال العقل البشري وما في الميتافيزيقيا من عبث شريف. وقد صور نفسه في سنيه الأخيرة رجلا منهوكاً هزيلا، حائرا، وشبه الفيلسوف بيروميثيوس الذي حكم عليه بأن يشد إلى صخرة وأن ينقر قلبه صقر لا ينقطع عن ذلك أبداً(55) لأنه أراد أن يسرق النار من السماء- أي أن يختطف المعرفة الإلهية. ويقول في هذا: "إن المفكر الذي ينقب عن الأسرار الإلهية الخفية ليشبه بروتيوس Proteus ... فمحكمة التفتيش تحاكمه بتهمة الإلحاد، والجماهير تسخر منه لأنه أبله"(56). وأنهك الجدل الذي شغل كثيراً من وقته قواه وأضعف صحته، فكان ينتابه الداء في أثر الداء حتى اعتزم أخيراً أن يموت، فأختار إلى الانتحار أشق صورة من صوره: إذا آثر أن يموت جوعاً، فقاوم كل حجة يراد بها حمله على العدول عن قراره وكل تهديد وجه إليه، وتغلب على القوة نفسها وأبى أن يتناول شيئاً من الطعام أو الشراب، فلما مضت على هذا النظام الصارم سبعة أيام شعر بأنه كسب المعركة التي تقرر حقه في أن يموت، وأن يستطيع وقتئذ أن يتكلم وهو آمن فقال: "إني أفارق الحياة مسروراً ولما سأله بعضهم: أنى تذهب؟ أجاب "إلى حيث يذهب جميع الخلائق الهالكين". ويبذل أصدقاؤه آخر جهودهم ليقنعوه بأن يتناول بعض الطعام، ولكنه أنى وفضل الموت (1525)(57). وأمر الكردنال جندساجا الذي كان تلميذاً له أن تنقل رفاته إلى مانتوا وأن توارى في ثراها، وأقام فيها تمثالا تخليدا لذكراه، وجرى في هذا على سنة التسامح التي تسود عصر النهضة.
ولقد عمد بمبونتسي إلى التشكك الذي ظل قرنين كاملين يحطم أسس العقائد المسيحية فصاغه في صورة فلسفية. واجتمعت عوامل كثيرة لتجعل الطبقات الوسطى والعليا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر "أكثر الشعوب الأوربية تشككاً"(58)، نذكر منها إخفاق الحروب الصليبية؛ انتشار الأفكار الإسلامية في العالم الغربي بتأثير الحروب الصليبية، والتجارة، والفلسفة العربية؛ وانتقال البابوية إلى أفنيون، وانقسامها السخيف على نفسها في عهد الانشقاق الكبير؛ وتكشف عالم وثني يوناني- روماني مليء بالحكماء والفن العظيم رغم خلوه من الكتاب المقدس ومن الكنيسة؛ وانتشار التعليم وتحرره المتزايد من السيطرة الكهنوتية؛ وفساد أخلاق رجال الدين ومنهم البابوات أنفسهم وانهماكهم في شؤون الدنيا مما يوحي بعدم إيمانهم بما يجهرون به من عقائد؛ واستخدامهم فكرة المطهر لجمع المال لأغراضهم الخاصة، ومعارضة طبقات التجار وأصحاب المال الناشئة لسيطرة رجال الكنيسة؛ وتحول الكنيسة من منظمة دينية إلى سلطة دنيوية سياسية، هذه العوامل كلها وكثير غيرها هي التي أدت إلى النتيجة السالفة الذكر.
ويتضح من شعر بولتيان وبلتشي Pulci وفلسفة فتشينو Ficino، أن لوندرسو والملتفين حوله لم يكونوا يؤمنون إيماناً حقاً بحياة في الدار الآخرة؛ كما أن عواطف مدينة فيرارا تتضح من استهزاء أريستو بالجحيم الذي كان يبدو لدانتي من قبل رهيبا بحق. ويكاد نصف الأدب في العصور الوسطى يكون معارضا للكهنوت؛ وكان كثيرون من رؤساء العصابات المغامرة يجهرون بكفرهم(59)، كما كان رجال الحاشية Cortigiani أقل تدينا من العاهرات Cortigiane، وكان التشكك في أدب وظرف سمة السيد المهذب، والصفة التي ينبغي له أن يتصف بها(60). وكان بترارك يأسف لأن كثيرين من رجال العلم يرون أن تفضيل الدين المسيحي على الفلسفة الوثنية دليل على الجهل(61)؛ وتبين أن معظم أفراد الطبقة العليا في البندقية في عام 1530 يهملون أداء الواجبات الدينية في عيد الفصح أي أنهم لا يذهبون للاعتراف وللعشاء الرباني ولو مرة واحدة في العام(62). ويقول لوثر أنه وجد قولاً شائعاً بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا حين يذهبون للقداس: "هيا بنا نرتكب الخطأ الذي يرتكبه العامة"(63).
أما عن الجامعات فإن الحادثة الآتية العجيبة تكشف عن مزاج الأساتذة والطلبة: دُعى سيمونى بوردسيو Simone Porzio تلميذ بمبونتسي بعد وفاة أستاذه بقليل ليحاضر في بيزا، فأختار موضوعاً لمحاضراته كتاب المتيورولوجيا لأرسطو. ولكن المستمعين لم يعجبهم هذا الموضوع، وصاح بعضهم بعد أن نفذ صبرهم: "وماذا تقول في النفس؟ quid de anima". واضطر بوردسيو إلى أن يطرح كتغاب الميتوروجيا جانباً ويتناول كتاب النفس وسرعان ما كان المستمعون كلهم آذاناً صاغية(64). ولسنا نعرف هل جهر بوردسيو في تلك المحاضرة باعتقاده أن النفس البشرية لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن نفس أسد أو نبات؛ ولكننا نعرف أن هذا هو ما كان يدعو إليه في كتابه العقل البشري De mente humana (65)؛ ويبدو أنه لم يصب بأي أذى من جراء دعوته هذه. وروى يوجينيو طرالبا Euginio Tarralba، الذي اتهمته محكمة التفتيش الأسبانية في عام 1528، أنه كان في شبابه يأخذ العلم في روما على ثلاثة من المعلمين يقولون كلهم إن النفس هالكة(66). ودهش إرمس إذ وجد في روما أن المبادئ الأساسية للدين المسيحي كانت موضوعات للجدل المتشكك بين الكرادلة أنفسهم؛ وأن واحداً من رجال الكنيسة أخذ يشرح له سخف الاعتقاد بحياة في الدار الآخرة؛ وكان غيره يسخرون من المسيح والرسل؛ وكان غيرهم، كما يؤكد إرزمس نفسه، يقولون إنهم سمعوا كبار الموظفين البابويين ينكرون القداس ويسبونه(67). أما الطبقات الدنيا فقد ظلت مستمسكة بأيمانها، كما سنرى بعد؛ وما من شك في أن الآلاف المؤلفة الذين أنصتوا إلى سفنرولا كانوا يؤمنون بما يسمعون؛ ولنا في المثل الذي ضربه فتوريا كولنا ما يدل على أن التقى قد يبقى مع العلم. لكن سهام الشك كانت قد نفذت في العقيدة الكبرى؛ وكانت روعة أسطورة العصور الوسطى قد لوثها ما تراكم عليها من ذهبها.
الفصل الخامس: جوتشيارديني
إن عقل جوتشيارديني لهو خلاصة لما حدث في ذلك الوقت من تشكك منشؤه خيبة أمله وتكشف الغشاء عن عيني أهله. وكان هذا العقل من أقوى عقول زمانه، لا يطبقه ذوقنا لإسرافه في سخريته، ولا يتفق مع آمالنا لإفراطه في تشاؤمه، ولكنه عقل نافذ كالضوء الكشاف يجوب أطراف السماء، صريح صراحة الكاتب الذي قرر بحكمته ألا ينشر ما يكتب إلا بعد وفاته.
وكان فراتتشيسكو جورتشيارديني يستمتع منذ البداية بميزة مولده الأرستقراطي. فكاغن منذ طفولته يستمع إلى حديث المتعلمين باللغة الإيطالية الصحيحة، وقد تعلم أن يقبل الحياة كما هي بواقعية الرجل الواثق من مكانته وطمأنينة باله. وقد شغل عم والده منصب حامل شعار الجمهورية عدة مرات؛ كما تولى جده معظم المناصب الرئيسية في الحكومة واحداً بعد واحد؛ كان والده يعرف اللغتين اللاتينية واليونانية وقد شغل هو الآخر عدة مناصب دبلوماسية. وكتب فرانتشيسكو يقول إن "أشبينه هو مستر مرسيلو فتشينو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيون في العالم في أيامه"(68) ولم يحل هذا بين المؤرخ وبين أن يكون أرسطوطاليسي النزعة. ودرس القانون المدني وعن وهو في الثالثة والعشرين من عمره أستاذا للقانون في جامعة فلورنس. وكان كثير الأسفار، ولم يفته حتى أن يلاحظ "المخترعات العجيبة التي لا يتصورها العقل"، والتي ابتدعها هيرونيمس بوش Bosch Hieronymus فلاندرز(69) وتزوج ماريا سلفياتي Maria Salviati وهو في السادسة والعشرين من عمره "لأن آل سلفياتي كانوا، فضلا عن تراثهم العظيم، يفوقون غيرهم من الأسر في النفوذ والسلطان، وأنا مولع أشد الولع بهذه الأشياء"(70).
ولكنه مع ذلك كان شغوفا بالتفوق يروض نفسه على تأليف الكتب العظيمة في فن الأدب. وقد كتب وهو في السادسة والعشرين من عمره تاريخ فلورنس Storia Fiorentina وهو من أعجب ثمار عصر نرى فيه العبقرية التي امتلأ إناؤها بتراثها المستعاد، ولكنها تحررت من التقاليد، تناسب حرة كاملة في عشرات المسايل، وقد اقتصر هذا الكتاب على جزء قصير من تاريخ فلورنس، وهو الجزء المحصور بين عامي 1378 و 1509 ، ولكّنه عالج هذه الفترة بدقة في التفاصيل، وبحث للمراجع ونقد لها، وتحلي نفاذ للعلل، ونضوج ونزاهة في الحكم، وقدرة على القصص الواضح في لغة إيطالية حلوة؛ لم يرق إلى شيء منها تاريخ فلورنس Storie Fiorentine الذي كتبه ميكيفلي بعد أحد عشر عاماً من ذلك الوقت في العقد السابع من حياته.
وأرسل جوتشارديني في عام 1512، وهو لا يزال شاباً في الثلاثين، سفيراً لفرديناند الكاثوليكي، ثم عينه ليو العاشر وكلمنت السابع في أوقات متعاقبة متلاحقة حاكما لرجيو إميليا، ومودينا، وبارما، ثم حاكما عاما على إقليم رومانيا كله، ثم قائداً عاماً لجميع الجيوش البابوية، وعاد إلى فلورنس في عام 1534 وأيد السندروده ميديتشي طوال الخمس السنوات التي فرض فيها هذا الوعد سلطته الاستبدادية على المدينة. وكانت له اليد الطولى في إقامة كوزيمو الأصغر دوقاً على فلورنس، ولما ذهب ما كان يأمله من السيطرة على كوزيمو هذا انسحب إلى قصره الريفي ليكتب في عام واحد المجلدات العشرة التي يتألف منها أعظم كتبه على الإطلاق وهو تاريخ إيطاليا Storia d' Italia.
وهذا الكتاب أقل من كتابه الأول. في حلاوة أسلوبه وقوته. وكان جوتشيارديني في هذه الأثناء قد درس كتابات الأدباء الإنسانيين وانزلق إلى الاهتمام بالشكل وجمال اللفظ؛ ومع هذا كله فالأسلوب جزل يبشر بنثر جبن Gibbon مضرب المثل في البلاغة. وعنوان الكتاب الفرعي وهو تاريخ الحروب يقصر موضوعه على المسائل العسكرية والسياسية، ولكن ميدان البحث يتسع في الوقت نفسه حتى يشمل كل إيطاليا، وكل أوربا من حيث علاقتها بإيطاليا؛ وهذا أول تاريخ ينظر إلى نظام أوربا السياسي على أنه كل متصل. وجوتشيارديني يكتب في الغالب عما شاهده بنفسه، وإذا ما قرب الكتاب من نهايته فإنه يكتب عن الحوادث التي اشترك فيها بنصيب، وقد بذل جهودا كبيرة في جميع الوثائق؛ وهو أكثر دقة وأجدر بالثقة من مكيفلي. وكان إذا ما رجع إلى العادة القديمة، التي يرجع إليها معاصره الذي يفوقه شهرة، عادة اختراع الخطب ليلقيها أشخاص قصته، يقول بصراحة إن هذه الخطب ليست صحيحة إلا في جوهرها، وينص على أن بعضها حقيقي؛ وهو يستخدم هذه وتلك ليعرض على القاريء جانبي موضوع من موضوعات النقاش أو يكشف عن سياسة الدول الأوربية في الداخل والخارج. وهذا التاريخ الضخم وتاريخ فلورنس الباهر مجتمعين يرفعان جوتشيارديني إلى مقام أعظم مؤرخ في القرن السادس عشر. وكما أن نابليون كان شديد الرغبة في أن يرى الفيلسوف جيته، كذلك أبقى شارل الخامس في بولونيا الأعيان وقواد الجيش جالسين في حجرة الانتظار بينما كان هو يتحدث مع جوتسيارديني حديثاً طويلا، ويقولك "إن في وسعي أن أخلق عشرين نبيلا في ساعة، ولكني لا أستطيع إيجاد مؤرخ واحد في عشرين عاماً"(71).
أما من حيث هو رجل من رجال الدنيا، فإنه لم يكن ينظر بعين الجد إلى ما يبذله الفلاسفة من جهود لمعرفة أسرار الكون. وما من شك في أنه لو رأى ما يثيره بمبونتسي من حماسة لتبسم ساخراً منها. وكان يرى أن من العبث أن يثور بيننا النزاع حول خوارق الطبيعة لأن هذه الخوارق بعيدة عن مداركنا. والأديان كلها في رأيه تقوم على افتراض صحة الأساطير، ولكن هذا مما يمكن اغتفاره إذا كانت هذه الأديان تساعد على الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي والتأديب الأخلاقي؛ ذلك بأن الإنسان، كما يراه جوتشيارديني، أناني يعمل لنفسه، فاسد الأخلاق، خارج على القانون؛ ولهذا وجب أن توضع في سبيله، في كل خطوة يخطوها، عوائق من العادات، والأخلاق، والقوانين، والقوة، والدين في العادة أقل الوسائل الموصلة إلى هذه الغاية مدعاة للنفور. ولكن إذا ما فسد الدين حتى أصبح عاملاً على فساد الأخلاق بدلا من أن يكون سبباً في صلاحها، فإن المجتمع تسوء حالته لأن الدعامة الدينية التي يستند إليها قانونه الأخلاقي قد تقوضت من أساسها، ويكتب جوتشياديني في سجله السري يقول:
ليس ثمة من يبغض الطمع، والشره، ومظاهر الإفراط في القساوسة كما أبغضها أنا، وليس ذلك لأن كل الشرور بغيضة في ذاتها فحسب، بل لأن... هذه الشرور يجب ألا يكون لها مكان عند رجال يفترض فيهم أنهم ذوو علاقة خاصة بالله... ولقد كانت علاقتي ببعض البابوات مما جعلني أرغب في مثل عظمتهم مضحياً في سبيل ذلك بمصالحي نفسها. ولولا هذا الاعتبار لأحببت مارت لوثر كما أحب نفسي؛ وليس ذلك لأني أحب أن أكون حراً طليقاً من القيود التي تفرضها علينا المسيحية... بل لأني أحب أن أرى هذا الحشد من الأوغاد (questa caterva di scelerate) محصورين في نطاق الحدود الواجبة، فإما أن يحيوا حياة مبرأة من الإجرام أو حياة مجردة من السلطان(72).
ولكن أخلاقه مع ذلك قلما كانت خيراً من أخلاق القساوسة؛ وكان القانون الذي وضعه لحياته هو أن يكيف نفسه في كل ساعة حتى تتفق مع أقوى سلطة قائمة. أما مبادئه العامة فقد اختص بها كتبه، وفيها هي أيضا يستطيع أن يكون ساخراً سخرية مكيفلي:
"إن الإخلاص مجلبة للسرور ويكسب صاحبه الثناء؛ أما الخداع فمجلبة للوم والكراهية، بيد أن أولهما أكثر نفعا للناس منه لصاحبه؛ ولهذا فإن من واجبي أن أثني على من كان أسلوب حياته متسما بالصراحة والإخلاص، فلا يلجأ إلى الخداع إلا في بعض الأشياء ذات الخطر العظيم، وفي هذه الحالة يكون الخداع أكثر نجاحا كلما كثرت محاولات الإنسان في أن يشتهر بين الناس بالإخلاص(73). وكان ينفذ ببصره وراء دعاوى الأحزاب السياسية المختلفة في فلورنس ، ويرى أن كل حزب وإن نادى بالحرية إنما يسعى وراء السلطان: "يبدو واضحا لي أن الإنسان قد طبع على الرغبة في السيطرة على زملائه وإثبات تفوقه عليهم، ولهذا فما أقل من يحبون الحرية حباً يحول بينهم وبين تحين الفرصة المناسبة لحكم الناس وفرض السلطان عليهم. انظر عن كثب إلى سلوك الناس الذين يقيمون في مدينة واحدة، ولاحظ خلافاتهم وتقص أسبابها، تجد أن هدفهم التسلط عليهم لا طلب الحرية لهم. ولهذا ترى أن أكبر الأهلين مقاماً لا يسعون إلى الحرية، وإن كانوا لا ينفكون يلوكون هذا بلسانهم، بل كل ما يضمرونه في سرائرهم هو ازدياد سلطانهم وتفوقهم على غيرهم. أما الحرية عندهم فهي خداع وتصنع يخفى وراءه شهوة التفوق في السلطان والشرف(74).
وكان يحتقر جمهورية سدريتي التجارية التي اعتادت أن تحمى حريتها بالذهب لا بالسلاح، ولم يكن يؤمن بالشعب ولا بالديمقراطية. "إن الحديث عن الشعب حديث عن الجنون، لأن الشعب وحش جبل على الاضطراب والأخطاء، ومعتقداته الباطلة بعيدة عن الحقيقة بعد أسبانيا عن الهند... وتدل التجارب على أن الأشياء قلما تحدث كما تتوقع الجماهير... وسبب ذلك أن النتائج... تعتمد في العادة على رغبة عدد قليل من الأفراد تختلف نواياهم وأهدافهم في جميع الأحوال تقريبا عن نوايا الكثرة وأهدافها"(75).
وكان جوتشارديني مثلا كـآلاف في إيطاليا إبان عصر النهضة، لا إيمان لهم في شيء على الإطلاق، فقد واحب المسيحية، وعرفوا أضواء السياسة؛ ولم تكن لهم مثل عليا، أو أحلام؛ ألقوا بأنفسهم في أماكنهم لا حول لهم ولا طول بينما كانت الحرب والهمجية تكتسحان إيطاليا؛ وكانوا شيوخاً مفكرين تحررت عقولهم وتحطمت آمالهم، تبينوا بعد فوات الأوان أنه إذا ماتت الأساطير فلن تتحرر إلا القوة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السادس: مكيافلي
1-الدبلوماسي
بقي من هذه الطائفة رجل واحد يصعب علينا أن نضمه إلى صنف بعينه، فقد كان دبلوماسيا، ومؤرخاً، وكاتباً مسرحياً، وفيلسوفاً، وأكبر مفكر ساخر في زمانه، ولكنه كان مع ذلك وطنيا متحمسا يتحرق رغبة في تحقيق مثل أعلى نبيل، أخفق في كل ما أخذ على عاتقه أن يقومه من الأعمال، ولكنه طبع التاريخ بطابع يكاد يكون أشد عمقاً مما طبعه به إنسان آخر في ذلك العصر. كان نقولو مكيفلي ابن أحد المحامين في فلورنس- وكان هذا المحامي رجلا متوسط الثراء، يشغل منصبا صغيرا في الحكومة، ويمتلك بيتاً ريفياً صغيراً في سان كاستشيانو San Casciano على مسيرة عشرة أميال من المدينة. وتلقى الغلام التعليم الأدبي المعتاد، وتعلم أن يقرأ اللغة اللاتينية بسهولة، ولكنه لم يتعلم اللغة اليونانية. وراقه التاريخ الروماني، وأولع بليفي؛ ويكاد يجد لكل نظام سياسي، وكل حادثة في أيامه شبيهاً في تاريخ روما يوضح ذلك النظام وتلك الحادثة. وبدأ يدرس القانون، ولكن يبدو أنه لم يتم هذه الدراسة؛ وقلما كان يعنى بفن النهضة، ولم يظهر شيئا من الاهتمام حين كشفت أمريكا، ولعله كان يشعر بأن كل ما حدث بعد هذا الكشف أن مسرح السياسة قد اتسع، أما المسرحية فستبقى كما كانت وسيظل أشخاصها دون تغيير. وكان شغله الشاغل هو السياسة، فن الحصول على النفوذ، ولوحة الشطرنج التي تنتقل عليها قطع القوة والسلطان. وعين في عام 1498 وهو في التاسعة والعشرين من عمره أميناَ للديتشي دلا جويرا Dieci della Guerra- مجلس الحرب المكون من عشرة- وظل في هذا المنصب أربعة عشر عاماً.
وكان هذا المنصب في بادئ الأمر من المناصب المتواضعة- عمله جمع محاضر الجلسات، والسجلات، وتلخيص التقارير، وكتابة الرسائل؛ ولكنه كان يعمل في أداة الحكم، ويستطيع مراقبة سياسة أوربا من نقطة الملاحظة الداخلية، وكان في وسعه أن يحاول التنبؤ بالتطورات المقبلة بتطبيق معلوماته التاريخية.. وأحست روحه المتوثبة، العصبية، الطموحة، بأن الوقت دون غيره هو الذي يحتاجه لكي يرقى إلى القمة، ويسخر قوى الدولة العنيفة ضد دوق ميلان، ومجلس شيوخ البندقية، وملك فرنسا، وملك نابلي، والبابا، والإمبراطور. وما لبث أن أرسل في بعثة إلى كترينا اسفوردسا Caterina Sforza كونته إمولا وفورلي (1498). وأثبتت كترينا أنها أشد دهاء من أن تقع في حبائله، فعاد صفر اليدين بعد أن لاقى جزاءه. وجُرّب مرة أخرى بعد عامين، وصحبه في هذه التجربة فرانتشيسكو دلا كاساس في بعثة إلى لويس الثاني عشر ملك فرنسا. ومرض دلا كاسا، وكان على مكيفلي أن يرأس البعثة؛ فتعلم اللغة الفرنسية، وتنقل مع الحاشية من قصر إلى قصر، وبعث إلى مجلس السيادة من الأنباء اليقظة، والتحليلات الدقيقة، ما جعل أصدقاءه في فلورنس يثنون عليه ويقولون إنه أصبح دبلوماسياً ضليعاً. وكانت نقطة الانقلاب في تطور ذهنه هي البعثة التي عين فيها مساعداً للأسقف سدريني وسافرت إلى سيزاري بورجيا في أربينو (1502). ولما استدعى إلى فلورنس ليلقى بياناً عنها بنفسه، احتفل بمنزلته الراقية التي بلغها في العالم بأن أتخذ له زوجة. وأرسل مرة أخرى إلى سيزارى في شهر أكتوبر، فالتقى به في إمولا، ووصل إلى بنجاليا Benigallia في الوقت الذي استطاع أن يرى فيه سعادة بورجيا بعد أن أفلح في اقتناص الذين ائتمروا به، أو خنقهم، أو سجنهم. وكنت هذه حوادث هزت مشاعر إيطاليا بأجمعها؛ أما أثرها في مكيفلي بعد أن التقى بالطاغية الباهر وجها لوجه، فقد كانت دروساً في الفلسفة. ذلك أن رجل الأفكار وجد نفسه وجها لوجه أمام رجل الأعمال فكرمه هذا وعظمه، وتحرق قلب السياسي الشاب حسداً حين أدرك المسافة التي لابد له أن يقطعها من التفكير التحليلي النظري إلى العمل الرائع المحطم. فها هو ذا رجل يصغره بست سنين، قد قضى في سنتين اثنتين على أكثر من عشرة طغاة مستبدين، وأصدر الأوامر إلى أكثر من عشر مدن، وأثبت أنه الكوكب الوضاء في سماء زمانه؛ وما أضعف ما بدت الألفاظ أمام هذا الشاب الذي لم يكن ينطق منها إلا بالقليل، وكان ينطق بهذا القليل في ازدراء! وأصبح سيزارى بورجيا من تلك الساعة بطل فلسفة مكيفلي، كما أصبح بسمارك فيما بعد بطل فلسفة أخلاقية فوق الخير والشر، ونموذجاً للإنسان الأسمى.
ولما عاد مكيافلي إلى فلورنس في عام 1503 ، أدرك أن بعض رجال الحكومة يظنون أن بورجيا الجريء المتهور قد غلبه على أمره فبدل عقليته غير ما كانت. ولكن جهوده التي بذلها لتحقيق مصالح مدينته أعادت إليه احترام سديني حامل شعار المدينة ومجلس العشرة الحربي. وشهد في عام 1507 انتصار مبدأ من مبادئه الأساسية. فقد كان من زمن بعيد يقول إنه ما من دولة تحترم نفسها تقبل أن تعهد بالدفاع عن أراضيها إلى جنود مرتزقين، وذلك لأنها لا تستطيع الركون إليهم في الأزمات، ولأن في مقدور العدو المسلح بالقدر الكافي من الذهب أن يبتاعهم هم وقائدهم. ولهذا يرى مكيفلي أن يجب إنشاء قوة حرس وطني من أبناء البلاد، والأفضل أن تكون هذه القوة مؤلفة من الفلاحين الأشداء الذين ألفوا المشاق وعاشوا في الهواء الطلق. ويجب أن تكون هذه القوة على الدوام حسنة التجهيز والتدريب، كما يجب أن تكون هي آخر خط للدفاع القوي الثابت عن الجمهورية. وقبلت الحكومة هذا المشروع بعد تردد طويل، وعهدت إلى مكيفلي أن ينفذه. فلما كان عام 1508 قاد حرسه الوطني إلى حصار بيزا، حيث أظهر براعة فائقة، وسلمت له بيزا، وعاد مكيفلي إلى فلورنس وقد بلغ ذروة مجده.
وأرسل في بعثة أخرى إلى فرنسا (1510)، اجتاز فيها سويسرا، وأثار حماسته الاستقلال المسلح لدولة سويسرا الاتحادية، واتخذها مثلاً أعلى يريد أن يحققه لإيطاليا. ولما عاد من فرنسا أدرك المشكلة التي تواجهها بلاده: كيف تستطيع إماراتها المتفرقة أن تتحد لتدافع عن إيطاليا إذا ما قررت دولة متحدة مثل فرنسا أن تستولي على شبه الجزيرة بأجمعها.
وجاءت التجربة الكبرى لحرسه الوطني قبل الأوان. ذلك أن يوليوس الثاني قد استشاط غضبا من فلورنس لأنها رفضت الانضمام إليه في طرد الفرنسيين من إيطاليا، فأمر جيوش الحلف المقدس في عام 1512 أن تسقط حكومة الجمهورية وتعيد آل ميديتشي إلى العرش. وهزم حرس مكيفلي الوطني الذي عهد إليه الوقوف في خط الدفاع الفلورنسي عند براتو Prato وولى رجاله الأدبار أمام جنود الحلف المدربين. واستولى جنود الحلف على فلورنس، وانتصر آل ميديتشي، وفقد مكيفلي سمعته ومنصبه الحكومي، وبذل كل ما في وسعه لاسترضاء المنتصرين؛ وكان يسعه أن ينجح، لولا أن شابين متحمسين دبرا مؤامرة لإعادة الجمهورية، فاكتشف أمرهما، ووجد بين أوراقها ثبت يحتوي أسماء أشخاص يعتمدان على تأييدهم، ومن بينها اسم مكيفلي؛ فألقى القبض عليه، وعذب أربع دورات على العذراء؛ ولكنهم لم يجدوا دليلا على اشتراكه في المؤامرة فأطلق سراحه. وخشى مكيفلي أن يقبض عليه مرة أخرى، فانتقل هو وزوجته وأبناؤه الأربعة إلى بيت أسرته في سان كاستثيانو، حيث قضى السنين الخمس عشرة الباقية من عمره ماعدا السنة الأخيرة منها، يعاني الفقر ويعلل نفسه بالآمال، ولولا هذه الكارثة لما سمعنا به قط، لأن هذه السنين العجاف هي التي ألف فيها الكتب التي هزت مشاعر العالم كله.
2- المؤلف والرجل
وكانت هذه عزلة موحشة لرجل عاش في خضم بحر السياسة الفلورنسية. وكان احياناً يذهب راكباً إلى فلورنس ليتحدث مع أصدقائه القدامى، ويتحسس ما عسى أن يكون هناك من فرص للعودة إلى المناصب الحكومية. وكتب عدة مرات إلى آل ميديتشي في هذا الموضوع، ولكنه لم يتلق منهم جواباً، وقد وصف حياته في رسالة ذائعة الصيت إلى صديقه فتوري Vittori سفير فلورنس في روما، وأشار فيها إلى سبب تأليف كتاب الأمير فقال:
لقد ظلت منذ حلت بي الكارثة الأخيرة أحيا حياة هادئة في الريف؛ فأصحو في مطلع الشمس وأسير إلى إحدى الغابات حيث أقضي بضع ساعات أراجع فيها عمل الأمس؛ ثم أمضي بعض الوقت مع قاطعي الأشجار وأجد لديهم على الدوام متاعب يفضون بها إلىَّ سواء أكانت متاعبهم هم أو متاعب جيرانهم. فإذا غادرت الغابة ذهبت إلى نبع ماء ثم إلى حظيرتي التي أصطاد منها الطيور، وتحت إبطي كتاب دانتي، أو بترارك أو أحد الشعراء الذين هم أقل منهما شأناً مثل تيبلس Tibellus أو أوفد. وأقرأ في هذه الكتب عن عواطفهم الغرامية وقصص حبهم، فتذكرني بتاريخ حبي أنا؛ ويمر الوقت وأنا مبتهج مسرور بهذه الأفكار. ثم آوى بعدئذ إلى الفندق القائم على جانب الطريق، وأتحدث إلى المارة، وأسألهم أن أخبار الأماكن التي أقبلوا منها، وأستمع منهم إلى ما يحدثونني عنه وهو كثير، وألاحظ مختلف الأذواق والأوهام المستكنة في عقول بني الإنسان. وأصل بهذا إلى ساعة الغذاء فأبتلع في صحبة من معي ما عسى أن أجده في هذا المكان الصغير من طعام غير ذي شأن يفى به ما ورثته عن أبوي من مال قليل. وأعود بعد الظهر إلى الفندق حيث أجد في العادة صاحبه، وقصاباً، وطحاناً، واثنين من صانعي الطوب، فأختلط مع هؤلاء الأقوام الغلاظ طول النهار ألعب معهم النرد وغيره، وتثور بيننا آلاف المنازعات، ونتبادل كثيراً من السباب، ونتشاحن على أتفه النقود حتى تسمع أصواتنا في بلدة سان كاستشيانو. ويؤدي انغماسي في هذا الانحطاط إلى ضعف قواي العقلية، فأصب غضبي على القدر وبلواه...
وأعود إلى داري في المساء، وآوي إلى حجرة مكتبي؛ وأخلع عند بابها ملابسي الريفية الملطخة بالطين والأقذار، وأرتدي ثياب رجال البلاط؛ حتى إذا لبست ما يليق بي من الثياب دخلت الأبهاء القديمة لقدماء الرجال الذين يرحبون بي أحسن الترحيب، ويطعمونني الطعام الوحيد الذي أحبه وأرتضيه؛ والذي ولدت له، ولا أستحي من التحدث اليهم وسؤالهم عن بواعث أعمالهم، وتصل بهم إنسانيتهم إلى أن يجيبوا عن أسئلتي، وأقضي على هذا النحو أربع ساعات لا أشعر فيها بملل ولا أذكر فيها متاعب، ولا أعود أخشى الفقر أو أرهب الموت، لأن كياني كله يكون مستغرقاً فيهم. وإذ كان دانتي يقول إنه لا وجود لعلم دون أن يحتفظ الإنسان بما يستمع، فقد سجلت ما حصلت عليه من حديثي مع هؤلاء العظام وألفت منه كتيباً سميته في الامارة غرقت فيه إلى أبعد عمق أستطيعه من التفكير في هذا الموضوع، وبحثت فيه طبيعة الإمارة، وعدد أنواعها، وطريق الوصول إليها، والاحتفاظ بها، وسبب ضياعها؛ فإذا كنت تعني بشيء من عبئي، فإنك لن تجد في هذا مايسوؤك. ويجب أن يرحب به على الأخص كل أمير حديث العهد بالإمارة. ومن أجل هذا أهديه إلى فخامة جوليانو... (في ديسمبر سنة 1513)(76).
ونرجح أن مكيفلي قد اختصر القصة بقوله هذا. والظاهر أنه بدأ بوضع كتابه المسمى أحاديث عن العشرة الكتب الأولى للبغي، وأنه لم يتم شروحه للثلاثة الأولى منها. وقد أهدى هذه الأحاديث Discorsi إلى دسانوبي بونديلمنتي Zanobi Bunodelmonti وكوزيمو رتشيلي Cosimo Rucelli وقال: "أبعث إليك بأعظم هدية أقدمها لك. لأنها تشمل كل ما تعلمته بالتجربة الطويلة والدراسة المستمرة. ويشير إلى أن آداب القدامى وقانونهم وطبعهم قد بعثت من جديد ليستنير بها المحدثون في كتاباتهم وأعمالهم؛ وهو يقترح كذلك بعث مبادئ الحكمة القديمة، وتطبيقها على السياسة المعاصرة. وهو لا يستمد فلسفته السياسية من التاريخ، ولكنه يختار من التاريخ حوادث تؤيد النتائج التي قادته إليها تجاربه وأفكاره. ويأخذ أمثلته كلها تقريباً من ليفي، وتؤدي به سرعته أحياناً إلى إقامة حججه على الأقاصيص، ويستعين في بعض الأحيان بمقتبسات من بوليبيوس Polybius.
ولما سار بعض الخطى في أحاديثه أدرك أنها ستطول أكثر مما يجب، وأنها لن تتم إلا بعد زمن طويل، فلا تفيد في أن تكون هدية عملية لأحد الحاكمين من آل ميديتشي. لهذا قطع عمله ليكتب خلاصة تضم ما وصل إليه من النتائج ، لأن هذه تتاح لها فرصة لقراءتها أفضل من البحث المطول، وتكون أعود عليه بصداقة الأسرة القوية التي تحكم وقتئذ (1513) نصف إيطاليا. وهكذا وضع كتاب الأصول II principe (وهو العنوان الذي اختاره له) في عدد قليل من شهور هذا العام. وكان ينوي إهداءه إلى جوليانو دي ميديتشي، الذي كان يحكم فلورنس في ذلك الوقت، ولكن جوليانو توفي (1516)، قبل أن يصمم مكيفلي على إرسال الكتاب إليه، ولهذا غير صيغة الإهداء وبعث به إلى لورندسو، دوق أربينو؛ الذي لم يرسل إليه ينبئه بوصوله. وتداولت الأيدي المخطوط، وكتبت منه عدة نسخ خلسة، ولم يطبع إلا في عام 1532 بعد خمس سنين من موت المؤلف، وأصبح من ذلك الحين من أكثر ما يعاد طبعه من الكتب في أي لغة من اللغات. وليس في مقدورنا أن نضيف إلى ما وصف به نفسه إلا صورة له لا يعرف مصورها محفوظة في معرض أفيزي. ويظهر فيها شخصا نحيل الجسم، شاحب الوجه، غائر الخدين، حاد العينين أسودهما، رقيق الشفتين مطبوقهما، تنم معارفه عن رجل تفكير أكثر مما هو رجل عمل، له من الذكاء الحاد أكثر مما له من الإرادة الطيبة والوداعة. ولم يكن في مقدوره أن يصبح دبلوماسياً صالحاً، لأنه لم يكن يسعه أن يخفي دهاءه، ولا أن يكون حاكماً قديراً لأنه كان مسرفاً في عنفه، يقبض على الأفكار بتعصب وعناد، كما يقبض في صورته على قفازيه اللذين يؤكدان مرتبته نصف الأرستقراطية، وهذا الرجل الذي كثيراً ما كتب كما يكتب الفيلسوف الكلبى، والذي كثيراً ما تنقلب شفتاه انقلاب الساخر المتهكم، والذي اعتاد الكذب حتى جعل الناس يظنونه يكذب حين يقول الحق(77)، هذا الرجل كان في خبيئة نفسه وطنياً شديد الحماسة، يرى أن مصلحة الشعب هي القانون الأعلى، ويخضع كل القوانين الأخلاقية لغاية واحدة هي توحيد إيطاليا وإنقاذها مما تعانيه.
وكان يتصف بكثير من الصفات غير المحبوبة؛ منها أنه لما أقبلت الدنيا على بورجيا اتخذه مثلاً أعلى، ولما انصرفت عنه سار وراء الجماهير وندد "بالقيصر" الساقط ووصفه بأنه مجرم و "عاص للمسيح"(78). ولما طرد آل ميديتشي لعنهم بأفصح عبارة، فلما عادوا إلى الحكم لعق أحذيتهم ملتمساً منهم منصباً. ولم يكن يزور المواخير قبل الزواج وبعده فحسب، بل كان يبعث إلى أصدقائه بأوصاف مفصلة لمغامراته فيها(79) وإن كثيراً من رسائله لتبدو فيها الغلظة والوقاحة واضحتين وضوحاً لم يجرؤ معه كاتب سيرته والمعجب به، الذي أطال في الترجمة له، على نشرهما، ولما قرب مكيفلي من سن الخمسين كتب يقول: "إن شباك كيوبد لا تزال تقتنصني، والطرق الوعرة لا تستنفذ صبري، والليالي السوداء لا توهن شجاعتي... إن عقلي كله لمتجه للحب اتجاهاً أحمد عليه فينوس"(80). تلك أشياء في وسعنا أن نغفرها له. لأن الرجل لم يخلق لكي يقتصر على زوجة واحدة؛ ولكننا لا نستطيع أن نغفر له بمثل هذه السهولة عدم وجود كلمة حنان واحدة موجهة إلى زوجته في كل ما بقي لدينا من رسائله وهو كثير؛ وإن كان هذا مما يتفق مع سنة تلك الأيام.
ووجه قلمه البليغ في هذه الأثناء إلى أنواع من التأليف متباينة، وبز الأساتذة في كل نوع منها. وكان منها رسالة في فن الحرب L'arte della guerra نشرها في عام 1520، وأعلن فيها من برجه العاجي للدول والقواد شرائع السلطة العسكرية والنجاح فقال أن الأمة التي تفقد الفضائل العسكرية أمة هالكة لا محالة. والجيش لا يحتاج إلى الذهب بل إلى الرجال؛ لأن "الذهب وحده لا يأتي بالجند الصالحين على الدوام، ولكن الجند الصالحين يأتون بالذهب"(81)، والذهب ينساب إلى خزائن الأمة القوية، ولكن القوة تفارق الأمة الغنية لان الثراء يعمل على الراحة والاضمحلال؛ ولهذا يجب أن يظل الجيش مشغولاً على الدوام، فحرب صغيرة تشب من حين إلى حين تبقى العضلات العسكرية صالحة والجهاز الحربي صالحاً متأهباً. وسلاح الفرسان جميل إلا إذا واجهته الحرب القوية؛ ويجب أن يعد هذا السلاح عصب الجيش وأساسه(82). والجنود المرتزقة عار يجلل إيطاليا، ودليل على تراخيها وضعفها، وسبب في خرابها، ومن واجب كل دولة أن يكون لها حرس وطني من أهلها مؤلف من رجال يحاربون دفاعاً عن وطنهم وأرضهم.
وأراد مكيافلي أن يجرب حظه في القصص فكتب قصة تعد من أحب الروايات للشعب في إيطاليا، وهي قصة بيلفاجور أرتشديافولو Belfagor arcidiavolo، التي تفيض بالفكاهة والهجاء يصبهما على الزواج. ثم تحول بعدئذ إلى كتابة المسرحيات، فألف أهم مسلاة ظهرت على مسرح النهضة الإيطالي وهي مسرحية مندراجولا Mandragola. وتضرب مقدمة هذه الرواية نغمة جديدة إذ يجامل فيها النقاد مجاملة لا عهد لهم بها من قبل:
"إذا شاء أحد أن يبعث الخوف في قلب المؤلف بالقدح فيه، فإني أحذره بأن المؤلف أيضاً يعرف كيف يقدح، بل إنه بارع في هذا الفن، وأنه لا يحترم أحداً في إيطاليا وإن كان ينحني ويتذلل لمن هم أحسن لباساً منه(83)".
والمسرحية تكشف عن أخلاق عصر النهضة كشفاً يروع الإنسان ويذهله. والمكان الذي تقع فيه حوادثها هو مدينة فلورنس، ومضمونها أن كليماكو Callimaco يسمع إنساناً يعرفه يمتدح جمال لكريدسيا زوجة نتشياس فيقرر أنه لابد من أن يغويها؛ وإن لم يكن قد رآها من قبل، وإن لم يكن يقصد بإغوائها إلا أن ينام هادئاً مستريح البال. ويقلقه أن لكريدسيا تشتهر بتواضعها بقدر ما تشتهر بجمالها، ولكن أمله يقوى حين يقال إن نتشياس يألم من أنها لا تحمل. ويرشو كليماكو صديقاً لكي يقدمه لنتشياس على أنه طبيب، ويدعى أنه سيخلط له مزيجاً يجعل في مقدور أية امرأة أن تحمل، ولكنه يعرف مع الأسف الشديد أن أي رجل يضاجعها بعد أن تتناوله سيموت بعد قليل، ويعرض عليه أن يقوم بهذه المغامرة المهلكة، ويرضى نتشياس أن يحل محله متبعاً في ذلك طيبة الخلق التقليدية التي يتصف به أشخاص القصص لمبتكريهم. غير أن لكريدسيا تناضل عن عفتها؛ وتتردد في أن ترتكب جريمتين في ليلة واحدة هما جريمة الزنا والقتل لكن الرجاء لن يخيب كله، ذلك أن أمها، في حرصها الشديد على أن يكون لابنتها خلف، ترشو راهباً فينصحها أثناء اعترافها بأن تنفذ الخطة؛ وتخضع لكريدسيا، وتشرب الدواء، وتنام مع كليماكو، وتحمل. وتختتم القصة خاتمة سعيدة لكل أشخاصها: فالراهب يطهر لكريدسيا، ويبتهج نتشياس لأنه أصبح له ولد مشكوك في بنوته، ويستطيع كليماكو أن ينام. والمسرحية ممتازة في بنائها، بديعة في حوارها، قوية في هجائها. وليس الذي يثير دهشتنا فيها هو ما موضوع الإغواء، الذي طالما رددته المسالي القديمة حتى مللناه، وليس هو ما تحتويه من تفسير الحب تفسيرا جسدياً شهوانياً، بل هو المحور الذي تدور عليه وهو استعداد الراهب لان يحلل الزنا نظير خمسة وعشرين دوقة؛ إن المسرحية قد مثلت في عام 1520 بنجاح عظيم أمام ليو العاشر. وقد بلغ من سرور البابا بها أن طلب إلى الكردنال جويليو ده ميديتشي أن يعهد إلى مكيفلي بعمل من نوع التأليف فاقترح جويليو أن يكون هذا العمل هو كتابة تاريخ لفلورنس وعرض عليه في نظير ذلك ثلاثمائة دوقة (3.750؟ دولاراً).
وكتب التاريخ فعلاً (1520-1525) وكاد يحدث في فن كتابة التاريخ ثورة لاتقل حدة عن الثورة التي أحدثها في الفلسفة السياسية كتاب الأمير. ولسنا ننكر في الكتاب عيوب أساسية خطيرة: ذلك أن السرعة التي صدر بها جعلته عديم الدقة، وأنه نقل فقرات كبيرة عن المؤرخين السابقين، وأن النزاع بين الأحزاب كان يلقى فيه من الاهتمام أكثر مما تلقاه الأنظمة، وأنه أغفل التاريخ الثقافي إغفالا تاماً، كما أغفله المؤرخون كلهم تقريباً قبل أيام فلتير. ولكنه كان أول تاريخ كبير كتب باللغة الإيطالية؛ وكانت لغته الإيطالية هذه واضحة، جزلة، خالية من التعقيد؛ وقد رفض الخرافات التي كانت فلورنس تجمل بها منشأها؛ وتخلى عن الطريقة المألوفة القديمة وهي تأريخ الحوادث سنة فسنة، وعمد بدلا منها إلى الرواية المنسجمة المتصلة المنطقية؛ ولم يكن يعالج الحوادث فحسب. بل كان يبحث في أسبابها ونتائجها، وأفاض على فوضى السياسة الفلورنسية تحليلا للمنازعات القائمة بين الأسر، والطبقات والمصالح يكشف عنها ووضحها. وقد جعل محور القصة موضوعين يوحدان بين أجزائها: أولهما أن البابوات قد أبقوا إيطاليا مشتتة منقسمة على نفسها لكي يحافظوا على استقلال البابوية في الشؤون الزمنية، وثانيهما أن ما حدث في إيطاليا من تقدم عظيم كان في عهد الأمراء أمثال ثيودريك، وكوزيمو، ولورندسو. ومما يدل على شجاعة المؤلف، وكرم البابا من الناحيتين العقلية والمالية أن يكتب كتاباً بهذه النزعة رجل يسعى للحصول على المال من البابا، وأن يرضى البابا كلمنت السابع بأن يهدى إليه الكتاب دون أن يشكو مما جاء فيه.
وشغل تاريخ فلورنس مكفلي خمس سنين، ولكنه لم يحقق ما كانت تتوق إليه نفسه وهو عودته إلى السباحة في مجرى الساسة الموحل. ولما أن خسر فرانسس الأول كل شيء عدا شرفه وحياته في بافيا (1525)، وألفى كلمنت السابع نفسه عاجزا ضعيفا أمام شارل الخامس، بعث مكيفلي برسائل إلى البابا وإلى جوتشيارديني يوضح ما يستطاع عمله لصد الفتح الأسباني-الألماني الذي كان يتهدد إيطاليا؛ ولعل اقتراحه بأن يمد البابا جيوفني دلى باندى نيرى Giovanni della Bande Nere بالمال، والسلطان، والسلاح كان من شأنه أن يؤجل المصير المحتوم إلى حين. ولما مات جيوفني، وزحفت الجحافل الألمانية على فلورنس الحليفة الغنية لفرنسا والمجهزة لمن ينهبها، أسرع مكيفلي إلى المدينة، واستجاب إلى ما طلبه كلمنت فوضع تقريرا عن الطريقة التي يمكن بها إعادة أسوارها لجعلها صالحة للدفاع عنها.وفي الثامن عشر من مارس سنة 1526 اختارته الحكومة الميديتشية ليرأس لجنة من خمسة "أمناء على الأسوار". ليقوموا بهذه المهمة. غير أن الألمان مروا بفلورنس واتجهوا إلى روما. ولما نهبت هذه المدينة، وأسر الغوغاء كلمنت، طرد الحزب الجمهوري في فلورنس آل ميديتشي مرة أخرى من المدينة وأعادوا إليها الحكم الجمهوري. (16 مايو سينة 1527). وابتهج مكيفلي لهذا العمل وطالب بمنصبه القديم منصب أمين مجلس العشرة الحربي، وكان يرجو أن يعود إليه؛ لكنه لم يجب إلى طلبه (10 يونية سنة 1527)؛ ذلك أن صلابة آل ميديتشي قد أفقدته عطف الجمهوريين ومعونتهم.
ولم تطل حياته بعد هذه الصدمة؛ فقد خبث فيه جذوة الحياة والأمل وتركته جسداً بلا روح. وانتابه المرض، وكان يشكو من تقلصات شديدة في المعدة؛ واجتمع حول فراشه زوجته، وأبناؤه، وأصدقاؤه؛ واعترف أمام قسيس ومات ولما يمض على رفض طلبه غير اثني عشر يوماً، وخلف أسرته في الدرك الأسفل من الفاقة، وترك إيطاليا التي كان يعمل جاهداً لتوحيدها خراباً يبابا. ودفن في كنيسة الصليب المقدس، حيث أقيم له نصب جميل نقشت عليه هذه العبارة: "ليس في مقدور أي مديح أن يوفى هذا الاسم العظيم حقه" - وهو قول يشهد بأن إيطاليا التي توحدت آخر الأمر قد تجاوزت عن سيئاته وذكرت له أحلامه.
3- الفيلسوف
ولنبحث الآن الفلسفة "المكيافلية" بأكثر ما نستطيع من النزاهة فنقول إننا لا نجد عند غير مكيفلي مثل ما نجده عنده من الاستقلال في الرأي ومن التفكير الجريء المجرد من الخوف في عالم الأخلاق والسياسة، وإن من حق مكيفلي أن يدعي أنه قد شق طرقاً جديدة في بحار لم يكد يطرقها أحد قبله. وفلسفة مكيفلي تكاد تكون فلسفة سياسية خالصة، ليس فيها شيء من فلسفة ما بعد الطبيعة، ولا اللاهوت، ولا الإيمان أو الكفر، ولا بحث في الجبرية أو القدرية؛ وحتى الفلسفة الأخلاقية نفسها لا تلبث أن تنحني جانبا لأنها بوصفها فلسفة تابعة للسياسة، وتكاد تكون أداة لها. وهو يفهم السياسة على أنها الفن العالي الذي يراد به إيجاد دولة، أو الاستيلاء عليها، أو حمايتها، أو تقويتها؛ وهو يهتم بالدولة لا بالإنسانية عامة؛ ولا يرى في الأفراد إلا أنهم أعضاء في دولة، إلا إذا نظر إليهم من حيث أنهم يساعدون على تقرير مصيرها؛ وهو لا يعني قط باستعراض الأفراد على مسرح الزمان. وهو يريد أن يعرف لم تنشأ الدول وتسقط، وكيف يمكن تأخير اضمحلالها المحرم إلى أبعد ما يستطاع من الوقت.
وهو يرى أن فلسفة التاريخ وعلم الحكم أمكن وجودهما لأن الطبيعة البشرية لا تتبدل أبداً:
" يقول الحكماء، ولهم الحق فيما يقولون، إن من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع إلى الماضي؛ لأن الأحداث البشرية تشابه دائماً أبداً أحداث الأزمنة الماضية. ومنشأ هذا التشابه أنها ثمرة أعمال خلائق كانوا، ولا يزالون؛ وسيكونون على الدوام، تحركهم نفس العواطف والانفعالات، ولهذا فإن هذه العواطف والانفعالات لابد أن تكون النتائج نفسها(84)... وأنا أعتقد أن العالم كان هو يعينه على الدوام، وأنه كان يحتوي دائماً كل ما يحتويه الآن من خير وشر، وإن كان هذا الخير وذاك الشر يختلف توزيعهما بين الأمم باختلاف الأوقات"(85). وظاهرتا نشأة الحضارات والدول واضمحلالها من أكثر الظواهر المتتابعة المنتظمة دلالة في التاريخ. وهنا يواجه مكيفلي مشكلة معقدة غاية في التعقيد بقانون بسيط غاية البساطة فيقول: "الشجاعة تنتج السلم؛ والسلم تنتج الراحة، والراحة تستتبع الفوضى، والفوضى تؤدي إلى الخراب. ومن الفوضى ينشأ النظام، والنظام يؤدي إلى الشجاعة (Virtu)، ومن هذه ينال المجد والحظ الحسن. ومن أجل هذا قال الحكماء إن عهد السمو الأدبي يأتي في أعقاب التفوق الحربي؛ وإن ... المحاربين العظام ينشئون قبل الفلاسفة"(86). وقد تكون هناك أسباب أخرى لنشأة الأمم واضمحلالها غير الأسباب العامة وهي عمل القادة والزعماء من الأفراد وتأثيرهم؛ من ذلك أن مطامع الحاكم المتطرفة، التي تعميه فلا يرى أن موارده لا تكفي لتحقيق أغراضه، قد تكون سبباً في خراب دولته إذ تجرها إلى الاشتباك في الحرب مع دولة أعظم منها قوة. وللحظ والمصادفات كذلك أثر في قيام الدول وسقوطها. "فالحظ هو الذي يتحكم في نصف أعمالنا، ولكنه يترك لنا مع ذلك القدرة على توجيه النصف الآخر"(87). وكلما كثر نصيب للإنسان من الشجاعة قل خضوعه لتقلبات الحظ واستسلامه له. وتاريخ دولة ما يتبع قوانين عامة، يحددها ما تنطوي عليه طبيعة الناس من خبث وشر. والناس كلهم بطبيعتهم مقتنون، مخادعون، مخاصمون، قساة، فاسدون.
"ومن أراد أن ينشئ دولة، ويضع لها قوانين، فليفترض من بادئ الأمر أن الناس جميعاً أشرار، مستعدون على الدوام لأن يكشفوا عن خبث طويتهم إذا وجدوا الظروف الملائمة لهذا العمل؛ فإذا ما ظلت ميولهم الخبيثة مختفية إلى حين، فيجب أن يعزى اختفاؤها هذا إلى سبب غير معروف؛ ومن واجبنا أن نفترض أنها لم تجد الظروف الملائمة للكشف عن نفسها؛ ولكن الزمن... لن يعجزه الكشف عنها... والرغبة في الاقتناء من الغرائز الفطرية العامة في واقع الأمر، والناس جميعا يقتنون حين يستطيعون؛ ولهذا فإنهم يمدحون على ذلك ولا يلامون عليه"(88).
وإذا كان الأمر كذلك فإن الطريقة الوحيدة لجعل الناس أخياراً - أي قادرين على أن يعيشوا بنظام في مجتمع - هي أن يطبق عليهم القسر، والخداع، والاعتياد واحداً بعد واحد. ومن هذا تنشأ الدولة: تنظيم القوة على يد الجيش والشرطة، ووضع القواعد والقوانين، وتكوين العادات تدريجياً للاحتفاظ بالزعامة والنظام في الجماعة البشرية. وكلما كانت الدولة أكثر نماء. قلت الحاجة إلى استخدام القوة أو ظهورها فيها؛ واكتفى بدلا منها بالتعليم وغرس العادات، لأن الناس يكونون في يدي المشرع أو الحاكم القدير أشبه بالصلصال اللين في يدي المثال.
والين خير وسيلة لتعويد الناس الذين فطروا على الشر الخضوع إلى القانون والنظام. ويكتب مكيفلي الذي يسميه باولو جيوفيو Paolo Giovio أحد المعجبين به الكافر الهجاء(89)، عن الدين حماسة بالغة يقول:
"لم تر الآلهة أن الشرائع التي وضعها رميولوس كافية لروما، وإن كان هذا الأمير هو الذي أنشأها...، ولهذا أوحت إلى مجلس الشيوخ الروماني أن يختار نوما بمبليوس Numa Pompilius خليفة له... ووجد نوفا شعباً متوحشاً أشد التوحش، أراد أن يغرس فيه عن طريق فنون السلم عادة الطاعة المدنية، فلجأ إلى الدين الذي رآه أقوى مؤيد للمجتمع المدني وألزمه، فأقامه على أسس بلغ من قوتها أن مضت قرون طوال دون أن يوجد في مكان ما خوف من الآلهة أكبر مما كان في هذه الجمهورية. وقد يسر هذا تيسيراً كبيراً جميع المشروعات التي حاول القيام بها مجلس الشيوخ أو كبار اعضائه... وقد أدعى نوما أنه تحدث إل إحدى الحور، وأنها أملت عليه كل ما يريد أن يقنع به الناس... والحق أنه لم يوجد قط مشرع عظيم... لم يلجأ إلى القوة الإلهية، وإلا لما أطاع الناس شرائعه؛ لأن ثمة شرائع صالحة كثيرة يدرك المشترع الحكيم أهميتها، ولكن أسباب وضعها لا تتضح للناس وضوحاً يكفي لأن يمكنه من إقناع غيره من الناس بإطاعتها؛ وهذا هو السبب الذي يجعل العقلاء من الناس يلجئون إلى السلطة الإلهية ليتغلبوا على هذه الصعوبة(90)... واتباع الأنظمة الدينية هو سبب عظمة الجمهوريات؛ وإهمال هذه النظم يؤدي إلى خراب الدول؛ ذلك أنه إذا انعدم من بلد ما خوف الله، قضي على هذا البلد لا محالة؛ إلا إذا دعمه خوف الأمير وهو خوف يمكن أن يعوض فترة من الزمن ما ينقص هذا البلد من خشية الله. لكن حياة الأمراء قصيرة...(91). "وإذا أراد الأمراء أن يبقوا على أنفسهم... وجب عليهم قبل كل شيء أن يحافظوا على نقاء الشعائر الدينية، وأن ينظروا إليها بالاحترام اللائق بها؛ وهذا بعينه يصدق على الجمهوريات، فهي لا بقاء لها إلا إذا حافظت على هذا النقاء ووجهت إلى تلك الشعائر هذا الاحترام نفسه(92)... واكثر من يستحق الثناء ممن نالوا هذا الثناء هم الذين أنشئوا الأديان وأقاموها. ويليهم في هذا الذين أقاموا الجمهوريات أو الممالك. وأعظم الناس بعد هؤلاء وأولئك هم الذين قادوا الجيوش ووسعوا أملاك بلادهم. وقد نضيف إليهم رجال الأدب... وعكس هذا أيضاً صحيح. فالذين يهدمون صرح الدين، ويقضون على الجمهوريات والممالك والذين هم أعداء الفضيلة والآداب، أولئك يجللهم العار. وتصب عليهم اللعنات من الناس أجمعين"(93).
وبعد أن ارتضى مكيفلي الدين بوجه عام انتقل إلى الدين المسيحي فأخذ يوجه إليه أشد النقد لأنه عجز عن إيجاد مواطنين طيبين. ذلك ان حول أكثر ما يجب تحويله من العناية إلى السماء، وأضعف الناس بأن أخذ يدعوهم إلى الفضائل النسوية وفي ذلك يقول: "إن الدين المسيحي يدعونا إلى الاستخفاف بحب الدنيا، ويجعلنا أكثر رقة وليناً. أما القدماء فكانوا عكس هذا، كانوا يجدون أعظم أسباب بهجتهم في هذا العالم... ولم يكن دينهم يقدس إلا الذين يتوج هاماتهم مجد هذا العالم الأرضي، كقواد الجيوش، ومؤسسي الجمهوريات؛ على حين أن ديننا نحن قد مجد الوادعين الذين يقضون زمانهم في التأمل والتفكير بدل أن يمجد رجال العمل. وقد جعل هذا الدين أعلى درجات الخير الذلة، وضعف العزيمة، واحتقار الأمور الدنيوية؛ أما الدين القديم فكان يجعل أعلى درجات الخير عظم العقل، وقوة الجسم، وكل ما يبعث في الناس الإقدام والجرأة... ومن أجل هذا خر العالم صريعاً أمام الأشرار، فقد وجد هؤلاء الناس أكثر استعداداً للخضوع إلى الضربات طمعاً منهم في دخول الجنة بدل أن بردوا عليها بمثلها(94)... "ولو أن الدين المسيحي قد احتفظ به حسب القواعد التي وضعها له مؤسسه، لكانت الدول والبلاد المسيحية أقوى اتحاداً وأكثر سعادة مما هي الآن. وهل ثمة أدل على ضعفها وانحلالها من أن أقرب الشعوب إلى الكنيسة الرومانية، وهي رأس هذا الدين، أقلها تديناً؛ ومن يبحث المبادئ التي يقوم عليها هذا الدين وير البون الشاسع بين هذه المبادئ وبين أساليبها الحاضرة وشعائرها، يحكم من فوره أن انهيار هذا الدين أو مصيره المحتوم آت غير بعيد(95)... ولعل الدين المسيحي كان يقضي عليه قضاء لا مرد له بسبب ما فيه من فساد لو لم يرد إليه القديسان فرانسس ودمنيك مبادئه الأصيلة... وإذا شئنا أن نضمن للطوائف أو الجمهوريات الدينية حياة أطول وأبقى، وجب أن نرجع بها مراراً وتكراراً إلى مبادئها الأولى الأصيلة(96)".
ولسنا نعرف هل كتبت هذه الألفاظ قبل أن تصل إلى ايطاليا أنباء الإصلاح الديني أو بعد وصولها إليها. ويختلف خروج مكيفلي على المسيحية عن خروج فلتير، وديدرو، و بين Paine، ودارون، واسبنسر، ورينان عليها. ذلك أن هؤلاء الرجال كانوا يرفضون لاهوت المسيحية، ولكنهم يحتفظون بالقانون المسيحي الأخلاقي ويعجبون به. وظلت هذه الحال قائمة إلى أيام نتشة ولطفت "حدة النزاع القائم بين الدين والعلم". أما مكيفلي فلا يشغل باله بالعقائد الدينية وبعدها عن المعقول؛ فهو يرى هذا البعد أمراً طبيعياً ويأخذه على أنه قضية مسلم بها، ولكنه يقبل اللاهوت المسيحي قبولا حسناً بحجة أن نظاماً ما من المعتقدات التي فوق الطبيعة هو دعامة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي. أما الذي يرفضه من المسيحية رفضاً باتاً فهو مبادئها الأخلاقية، وما تراه من أن الصلاح والخير هما الرقة، والذلة، والاستسلام وعدم المقاومة، وحبها للسلم، وتنديدها بالحرب؛ وافتراضها أن الدول والأفراد مرتبطون بقانون أخلاقي واحد. وهو يفضل عن هذه المبادئ القانون الأخلاقي الروماني، القائم على المبدأ القائل إن سلامة الشعب أو الدولة هي القانون الاعلى: "وحيث يكون الأمر أمر مصلحة بلادنا وخيرها، وجب علينا ألا نقبل البحث في العدل أو الظلم والرحمة أو القسوة، وما هو خليق بالثناء أو الازدراء؛ بل يجب أن نسلك كل سبيل ينقذ حياة الأمة وحريتها وننحى كل ماعدا هذا جانباً"(97). ذلك أن الأخلاق بوجه عام إن هي إلا قانون للسلوك وضع لأفراد المجتمع أو الدولة لحفظ النظام الجماعي، والوحدة، والقوة؛ وإن حكومة تلك الدولة لتعجز عن أداء واجبها، إذا كانت وهي تدافع عن الدولة، تسمح بأن تقيد نفسها بالقانون الأخلاقي الذي يجب عليها أن تغرسه في نفوس شعبها. ومن ثم فإن الدبلوماسي غير مقيد بالقانون الأخلاقي الذي يتقيد به شعبه. "فإذا ما أدانه عمل قام به وجب أن تغفر له نتيجة هذا العمل ذنبه"(98)؛ ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة. "وما من رجل صالح يلوم رجلا غيره يحاول أن يدافع عن بلاده، أيا كانت السبل التي يسلكها لهذا الدفاع"(99). فضروب الغش، والقسوة، والجرائم التي يرتكبها الرجل في سبيل الاحتفاظ بدولته، كلها "غش شريف" و "جرائم مجيدة"(100). ومن ثم فإن رميولوس كان على حق حين قتل أخاه، لأن الحكومة الناشئة كانت تتطلب الوحدة، وإلا مزقت إرباً(101). وليس ثمة "قانون طبيعي" أو "حق" متفق عليه من الناس جميعاً؛ والسياسة إذا قصد بها فن الحكم يجب أن تكون مستقلة عن الأخلاق استقلالا تاماً.
وإذا ما طبقنا هذه المبادئ على قانون الحرب الأخلاقي، فإن مكيفلي واثق كل الثقة من أنها تجعل نزعة السلام المسيحية سخفاً وخيانة. ذلك أن الحرب تناقض وصايا موسى كلها تقريباً؛ فهل تجيز القسم، والكذب، والسرقة، والقتل، وارتكاب الزنا آلاف المرات، ولكنها إذا ما حافظت على المجتمع أو كانت سبباً في تقويته فهي خير. وإذا ما وقفت الدولة عن التوسع أخذت بالاضمحلال، وإذا فقدت الرغبة في الحرب قفل عليها السلام. والسلم إذا طال فوق ما يجب يؤدي إلى الضعف والتفكك، ولذلك كانت حرب تدور بين الفينة والفينة مقوية للقومية، تعيد للأمة النظام، والشدة، والوحدة. ولهذا فإن الرومان في عهد الجمهورية كانوا دائماً مستعدين للحرب، فإذا رأوا أنهم مقبلون على نزاع مع دولة أخرى، لم يفعلوا شيئاً يجنبهم الحرب؛ بل أرسلوا جيشاً ليهاجم فيليب في مقدونية وأنطونوخيوس الثالث في بلاد اليونان ولم ينظروا حتى يأتي هذان المليكان بشرور الحرب إلى أرض إيطاليا(102). ولم يكن الروماني يرى أن الفضيلة هي الذلة، أو الرقة، أو السلام، بل كان يرى أنها هي القوة، والرجولة، والبسالة، مضافة إلى النشاط والذكاء. وهذا ما يعنيه مكيفلي بلفظ Vlrtu. ثم ينتقل مكيفلي من هذه النظرة نظرة الحاكم المتحرر من القيود الأخلاقية ليواجه ما كان يبدو له أنه هو المشكلة الأساسية في أيامه: وهي أن يحصل لإيطاليا على الوحدة والقوة اللتين لا غنى عنهما لنيل حريتها الجماعية. وهو يرى بعين المقت ما يسود بلاده من انقسام، واضطراب، وفساد، وضعف؛ وهنا نرى ما كان في أيام بترارك جدّ نادر- نرى رجلا لا يؤدي تفانيه في حب قطره إلى أي نقص في حب مدينته. فإذا ما بحث عن الذي تقع عليه تبعة بقاء إيطاليا مقطعة الأوصال، ضعيفة بسبب ذلك أمام العدو، قال:
لا تستطيع أمة من الأمم أن تكون متحدة وسعيدة إلا إذا كانت تطبع حكومة واحدة سواء كانت جمهورية أو ملكية، كما هي الحال في فرنسا وأسبانيا؛ والسبب الوحيد الذي يمنع إيطاليا من أن تكون هذه حالها هو الكنيسة. ذلك أنها وقد حصلت لنفسها على سلطان زمني واحتفظت بهذا السلطان، لم تؤت في يوم من الأيام من القوة أو الشجاعة ما يكفي لان يجعلها قادرة على الاستيلاء على بقية البلاد وفرض سيادتها الوحيدة على إيطاليا بأجمعها(103).
وهنا تبدو لنا فكرة جديدة: تلك هي أن مكيفلي لا يهاجم الكنيسة لأنها تدافع عن سلطتها الزمنية، بل يهاجمها لأنها لم تستخدم جميع مواردها لإخضاع إيطاليا كلها لحكمها السياسي. ومن أجل هذا أعجب مكيفلي بسيزارى بورجيا في إمولا وسنجاليا لأنه ظن أنه وجد في هذا الشاب القاسي فكرة إيطاليا المتحدة وأملها ؛ وكان على استعداد لأن يبرر أية وسيلة يستخدمها آل بورجيا ليحققوا بها ذلك الهدف الأسمى النبيل. ولربما كان خروجه على سيزارى بورجيا، حين خرج عليه في روما عام 1503، بسبب غضبه من أن معبوده هذا قد سمح بأن تقضى كأس من السم (كما كان مكيفلي يظن) على هذا الحلم اللذيذ.
وكان قد مضى على إيطاليا قرنان من الزمان وهي مقسمة مشتتة، سببا لها من الضعف والانحلال الاجتماعي ما لم يكن لينجيها منهما (في رأي ميكيفلي) إلا أشد الوسائل عنفاً. فلقد عم الفساد الحكومات والشعب ، وحلت الرذائل الشهوانية محل الروح الحربية والمهارة العسكرية؛ وعهد المواطنون إلى غيرهم- كما عهد إليهم أيام احتضار روما القديمة- عهدوا إلى الجيوش المرتزقة كما عهدوا أولئك إلى البرابرة- أن يدافعوا عن مدنهم وأرضهم؛ وماذا يهم تلك العصابات المأجورة أو يهم زعماءها من وحدة إيطاليا؟ إنهم يعيشون ويتخمون بسبب انقسامها. لقد اتفقوا فيما بينهم على أن يتخذوا الحرب لعبة لا تقل لهم أمنا عن السياسة؛ فجنودهم لا يقبلون بحال من الأحوال أن يعرضوا أنفسهم للقتل، وإذا ما التقوا بالجيوش الأجنبية ولوا الأدبار، وأنزلوا إيطاليا منزلة الاسترقاق والاحتقار"(105). وإذن فمنذا الذي يوحد إيطاليا؟ وكيف السبيل إلى هذه الوحدة؟ ليست السبيل إليها هي الإقناع بالوسائل الديمقراطية؛ ذلك أن الرجال متطرفون في نزعتهم الانفرادية، وفي حزبيتهم، وفسادهم، مما يحول بينهم وبين قبول الوحدة قبولا سليماً، ومثلهم في ذلك مثل المدن نفسها؛ ولهذا فإن هذه الوحدة لابد أن تفرض عليهم بجميع وسائل السياسة والحرب؛ ولا يستطيع أحد أن يفعل هذا غير الطاغية القاسي الذي خلا قلبه من الرحمة؛ والذي لا يسمح لضميره بأن يجعل منه إنساناً جباناً، بل يضرب بيد من حديد، ويجعل هدفه العظيم يبرر كل ما يلجأ إليه من الوسائل.
ولسنا واثقين من أن هذا هو المزاج الذي ألف به كتاب الأمير. وشاهد ذلك أن مكيفلي كتب إلى صديق له في عام 1513 أي في العام الذي يبدو أنه شرع يكتب فيه هذا الكتاب يقول: "إن فكرة الوحدة الإيطالية فكرة مضحكة. ذلك أنه حتى لو استطاع رؤساء الدولة الإيطالية أن يتفقوا، فإن ليس لدينا من الجنود من لهم شيء من القيمة غير الجنود الأسبان. يضاف إلى هذا أن الشعب لا يمكن أن يتفق في يوم من الأيام مع الزعماء(106). لكن حدث في ذلك العام نفسه عام 1513 أن جلس ليو العاشر على كرسي البابوية، واتحدت فلورنس وروما تحت سلطان آل ميديتشي بعد أن ظلتا عدوتين زمناً طويلاً، ولما أن بدل مكيفلي صيغة إهداء كتابه فجعلها للورندسو، دوق أربينو، كانت هذه الدولة أيضاً قد سقطت في يد آل ميديتشي، ولم يكن الدوق الجديد قد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره في عام 1516، وكان قد أظهر غير قليل من الطموح والبسالة؛ وكان من حق مكيفلي أن نسامحه إذا نظر إلى هذا الشاب المتهور على أنه هو الذي يستطيع بهداية ليو ودبلوماسيته (واتباع تعاليم مكيفلي) أن يحقق ما بدأه سيزارى بورجيا بإرشاد ألكسندر السادس- أي أن يقود الدول الإيطالية، أو في القليل الدول الواقعة منها شمال نابلي مع استبعاد دولة البندقية المتكبرة، بعد ضمها في اتحاد له من القوة ما يفل عزيمة الغزاة الأجانب. ولدينا من الشواهد ما يدل على أن هذا كان أمل ليو أيضاً. وإن إهداء كتاب الأمير لآل ميديتشي ليدل على أن المؤلف كان يظن مخلصاً أن هذه الأسرة هي التي يمكن أن تحقق وحدة إيطاليا. وإن كان الغرض الأول من هذا الإهداء في أغلب الظن هو أن يكون وسيلة لإيجاد منصب بها يشغله مؤلفه.
وكان شكل كتاب الأمير هو الشكل التقليدي المألوف: فقد أفرغ في القالب الذي أفرغت فيه مائة من الرسائل في العصور الوسطى خاصة بحكم الأمراء، وسار على الطريقة التي اتبعت في هذه الرسائل. أما في محتوياته فقد كان ثورة لا شك فيها. فلم توجه في الكتاب دعوة مثالية إلى أمير من الأمراء ليكون قديساً، ولم يطلب إليه أن يطبق ما جاء في موعظة الجبل على مشاكل العروش. بل نراه على عكس ذلك يقول: "لما كنت أقصد أن أكتب شيئاً يفيد من يفهمه، فإنه يبدو لي أن أتبع حقيقة الأمور الصحيحة من أن أجري وراء الخيال. لقد صور كثيرون جمهوريات وإمارات لم تعرف أو تر في يوم من الأيام، لأن البعد شاسع بين الطريقة التي يعيش بها الإنسان والطريقة التي يجب أن يعيش بها، ومن أجل ذلك فإن من يهمل ما يفعل في سبيل ما يجب أن يفعل يجر على نفسه الخراب بأسرع ما يحتفظ لنفسه بالبقاء؛ وإن الرجل الذي يريد أن يعمل حسب ما يجهر بأنه هو الفضيلة لا يلبث أن يلقى الوبال بين ما يحبط به من السرور من كل جانب. ومن ثم كان لا بد للأمير الذي يريد أن يحتفظ بمركزه أن يعرف كيف يرتكب الخطأ وأن يفيد منه أو لا يفيد حسبما تدعو إليه الحاجة(107).
ولهذا فإن من واجب الأمير أن يفرق في قوة وحزم بين المبادئ الأخلاقية ومطالب الحكم، أي بين ضميره الخاص والصالح العام؛ وأن يكون مستعداً لأن يعمل من أجل الدولة ما يسمى شراً في علاقة الأفراد بعضهم ببعض. ويجب عليه أن يزدري أساليب التردد والضعف التي لا تبلغ الإنسان الغرض كاملا؛ والأعداء الذين لا يستطاع كسب صداقتهم يجب القضاء عليهم؛ ومن وغاجب الأمير أن يقتل من ينازعونه عرشه. ولابد له أن ينشئ جيشاً قوياً لأن الحاكم لا يستطيع أن يتحدث بصوت أعلى من صوت مدافعه. ومن واجبه أن يحافظ دائماً على صحة جنوده، وحسن نظامهم، وعدتهم، وأن يعد نفسه للحرب بأن يعرض نفسه في كثير من الأحيان لصعاب الصيد وأخطاره. وعليه في الوقت نفسه أن يدرس فنون الدبلوماسية؛ لأنه يستطيع أن يحصل بالمكر والخداع في بعض الأحيان اكثر مما يستطيع أن يحصل عليه بالقوة وقد لا يكلفانه مالا تكلفه. ويجب عليه ألا يتمسك بالمعاهدات إذا أصبحت تجلب الضرر للأمة؛ "والسيد العاقل لا يستطيع ولا يجب عليه ن يحافظ على العهد إذا كان في وسع أعدائه أن يتخذوا محافظته هذه سلاحا لإيذائه، وإذا ما زالت الأسباب التي جعلته يقطع هذا العهد على نفسه"(108). و لا غنى للأمير عن قسط من تأييد الشعب. ولكن إذا كان لابد للحاكم أن يختار بين أن يخافه الشعب دون أن يحبه، وبين أن يحبه دون أن يخافه وجب عليه أن يضحي بالحب(109). لكن حكم الجماهير بالرأفة والرقة أسهل من حكمها بالغطرسة والقسوة(110)... وشاهد ذلك أن الأباطرة تيتوس، ونيرفا، وتراجان، وهدربان، وانطونينوس، وماركس أورليوس لم يحتاجوا إلى الحرس البريتوري ولا إلى الفيالق الحربية لحمايتهم، لأنهم كانوا يحتمون بسلوكهم الطيب، وبإخلاص شعبهم وبحب مجلس الشيوخ لهم(111). ومن الوسائل التي يحصل بها الأمير على تأييد الشعب أن يناصر الفنون والعلوم، وأن يهيئ له الحفلات والألعاب العامة. ويكرم أهل الحرف بشرط أن يحتفظ على الدوام بجلال مركزه(112). ويجب عليه إلا يهب الناس الحرية، ولكن من واجبه أن يمنعهم قدر المستطاع بمظاهر الحرية. وعليه أن يعامل المدن التابعة له- كمدينتي أرتسو وبيزا التابعتين للبندقية، بالشدة والعنف، بل وبالقسوة في بادئ الأمر فإذا ما استقرت له الأمور وأطاعه أهل هذه المدن، أمكنه أن يجعل خضوعهم له أمراً عادياً مألوفاً بأساليب اللطف والمجاملة لأن القسوة إذا طالت وعمت أهل المدن الخاضعة كانت بمثابة انتحار من يلجأ إليها(113).
وعلى الحاكم أن ينشر الدين وأن يظهر هو نفسه بمظهر الرجل المتدين أيا كانت عقائده الخاصة(114). والحق أن تظاهر الأمير بالفضيلة أهم وأفيد له من أن يكون فاضلا بحق:
"إن تظاهر الأمير بالفضائل كلها نافع له وإن لم يكن من الضروري أن يتصف بها؛ فعليه مثلا أن يتظاهر بأنه رحيم، وفيّ، شفيق، متدين، مخلص؛ ومما يفيده أيضاً أن يتصف بهذه الصفات، على أن يكون ذا عقل مرن يمكِّنه إذا دعت الحاجة من أن يتصف بعكسها... وعليه أن يحذر من أن ينطق بكلمة لا تنطبق عليها الصفات الخمس السالفة الذكر؛ ويجب أن يبدو لمن يرونه ويستمعون له كأنه الرحمة، والإيمان، والتدين، والاستقامة مجسمة، وعلى الإنسان أن يلوِّن سلوكه، وأن يكون مراثياً لأن الناس سذج مهنمكون في حياتهم الحاضرة، إلى حد يسهل معه خداعهم... وفي مقدور كل إنسان أن يرى مظهرك، ولكن قل من الناس من يعرف حقيقة مخبرك، وأولئك النفر القلائل لا يجرئون على مخالفة رأي الكثرة فيك (115).
ويضرب مكيفلي لهذه الحكم أمثلة واقعية، فيذكر نجاح الإسكندر السادس، ويرى أن هذا النجاح يرجع كله إلى كذبه المدهش الذي يستثير الإعجاب؛ ويعجب بفرديناند الكاثوليكي ملك أسبانيا، لأنه كان يتظاهر دائماً بمظهر المدافع عن الدين في مغامراته الحربية، ويمتدح الوسائل التي ارتقى بها فرانتشيسكو اسفوردسا عرش ميلان وهي الشجاعة الحربية والمهارة في الأساليب العسكرية منضمة إلى الدهاء الدبلوماسي، ولكن أعظم مثل يضربه، وهو مثل يكاد يبلغ في اعتقاده حد الكمال، هو سيزارى بورجيا:
"إذا استعدنا في ذاكرتنا جميع أعمال هذا الدوق فإني لا أعرف عملا منها يستحق عليه اللوم، بل إنه ليبدو لي إني أضعه أمام الناس لكي يقلده كل من يقبضون بأيديهم... على أزمة الحكم... لقد كانوا يحسبونه قاسياً؛ ولكن قسوته هي التي أزالت الخلاف من رومانيا كلها، وضمت شتاتها، وأعادت إليها السلم والولاء... ولقد أوتي روحاً عالية، وآمالا كباراً، لم يكن يستطيع بغيرها أن ينظم مسلكه؛ ولم يحل بينه وبين تحقيق أغراضه إلا قصر حياة الإسكندر، ومرضه هو. ولهذا فإن من شاء أن يضمن لنفسه الأمان في إمارته الجديدة، ويكسب الأصدقاء، ويغلب الأعداء بالقوة أو الختل، ويبعث في قلوب الناس حبه والخوف منه في آن واحد، وأن يؤيده الجند ويجلوه، ويبيد من أوتوا قوة يستطيعون بها أن يؤذوه؛ أو كانت لديهم أسباب تدعوهم إلى هذا الإيذاء، ويستبدل بنظام الأشياء القديم نظاماً جديداً؛ وأن يكون قاسياً وكريماً، نبيلا وحراً، ويحطم قوة الجند غير الموالين له وينشئ بدلهم جيشاً جديداً، ويحتفظ بصداقة الملوك والأمراء بحيث يرون أن من واجبهم أن يخفوا لمعرفته متحمسين، فإذا فكروا في أذاه كانوا حذرين- من شاء هذا فإنه لن يجد مثلا أروع من أعمال هذا الرجل".
وكان مكيافلي يعجب ببورجيا لأنه كان يشعر بأن أساليبه وأخلاقه تمهد السبيل إلى توحيد إيطاليا، وأنها لم تحل بينها وبين بلوغ تلك الغاية إلا ما صحبها من مرض البابا وولده.
وهو يتوسل في ختام كتابه الأمير إلى لورندسو الدوق الشاب، ويتوسل عن طريقه إلى ليو وآل ميديتشي، أن يعملوا على توحيد شبه الجزيرة. وهو يصف أهل بلاده بأنهم مستعبدون، أكثر من العبرانيين، وأنهم يعانون من الظلم أكثر مما يعانيه الفرس، وأنهم مشتتون أكثر من الأثينيين، وأنهم قوم لا رئيس لهم، ولا نظام، مهزومون، منتهبون مغتصبون، ممزقون، تجتاح بلادهم الجيوش الأجنبية". "لقد أصبحت إيطاليا وكأنها مسلوبة الحياة، تنتظر من يقبل عليها ليأسوا جراحها... وتدعو اللّه أن يقيض لها من ينجيها من هذه المظالم وهذه المخازي التي يوقعها عليها الأجانب"(117). إن الموقف جد خطير؛ ولكن الفرصة مواتية. "ذلك أن إيطاليا متأهبة، راغبة في أن تسير وراء العَلَم، إذا ما رفعه إنسان ما" ومن أحق برفعه من آل ميديتشي، أشهر الأسر كلها في إيطاليا، والتي تتزعم الكنيسة في هذه الأيام؟ "ومنذا الذي يستطيع أن يعبر عن الحب الذي سوف يفيض به قلب إيطاليا وهي ترحب بمحررها؛ أو عن تعطشها للانتقام من أعدائها، أو عن إيمانها القوي، وإخلاصها، ودموعها؟ وأي باب يمكن أن يغلق في وجهه؟ ومنذا الذي يضن عليه بالطاعة؟ إن هذا السلطان الأجنبي الهمجي الذي نرزح تحته لتزكم رائحته الكريهة أنوفنا. فليتول إذن بيتكم المجيد هذه المهمة، وليستعن على القيام بها بالبسالة والأمل، اللذين يتذرع بهما كل من يقوم بمغامرة عادلة، حتى تسمو تحت علم هذا البيت مكانة بلادنا، وتحقق بفضل رعايتها تلك الكلمات التي كتبها بترارك:
"إن ذوي الرجولة يمتشقون الحسام ليقاتلوا ذوي الجنة، وستكون المعركة جد قصيرة، لأن البسالة القديمة لم ينضب بعد معينها في عروق إيطاليا".
4- تأملات
وهكذا وجهت إلى آل ميديتشي تلك الدعوة التي وجهها دانتي وبترارك إلى الأباطرة الأجانب؛ والحق أن لو أن ليون عاش أطول مما عاش، ولعب أقل مما لعب، لشهد مكيفلي بداية تحرر إيطاليا. ولكن الشاب لورندسو توفي عام 1519، وتوفي ليو عام 1521؛ وفي عام 1527 وهو العام الذي توفي فيه مكيفلي، كان قد تم خضوع إيطاليا لدولة أجنبية، وكان لابد أن يتأخر ذلك التحرر 343 سنة حتى يحققه كافور Cavour بأساليب مكيفلي في الحكم. ويكاد الفلاسفة يجمعون على التنديد بكتاب الأمير كما يكاد الحكام يجمعون على العمل بما فيه من حكم. وبدأ غداة نشره (1532) ظهور ألف كتاب تعارضه. لكن شارل الخامس درسه بعناية، وجاءت به كترين ده ميديتشي إلى فرنسا، وكان مع هنري الثالث وهنري الرابع ملكي فرنسا وقت وفاتهما، وكان ريشليو يعجب به، ووليم أورنج يضعه تحت وسادته كأنه يريد أن يستظهره بطريق النضج(118). وكتب فردريك الأكبر ملك روسيا كتابه ضد مكيفلي ليجعله تمهيدا لكتاب يتجاوز فيه ما ورد في كتاب الأمير. ولم يكن معظم الحكام يرون بطبيعة الحال أن هذه التعاليم وحي جديد، إلا إذا فهمنا لفظ الوحي أنها تكشف في غير حكمة، أو حذر أسرار طائفتهم. أما الحالمون الذين حاولوا أن يجعلوا من مكيفلي ثائراً كاليعقوبيين فقد خيل أنه لم يكتب الأمير ليعبر عن فلسفته، بل كتبه من قبيل السخرية، ليكشف للناس عن أساليب الحكام وحيلهم؛ بيد أن كتاب العظات ينطق بهذه الآراء نفسها ويبسط القول فيها؛ وقد جرؤ فرانسس بيكن فكتب هذه العبارة يصفح بها عن مكيفلي: "إنا لنشكر لمكيفلي وأمثاله من الكتاب الذين أظهروا لنا صراحة وفي غير خداع ما اعتاد الناس أن يفعلوه، لا ما يجب أن يفعلوه"(119). وأما حكم هيجل Hegal فكان دلالة على الذكاء والكرم:
كثيراً ما أخرج كتاب الأمير في رعب لأنه يحتوي حكماً وأمثالاُ تدعو إلى أشد أنواع الاستبداد وأدعاها إلى الاشمئزاز؛ ولكن الحقيقة أن شعور مكيفلي القوي بضرورة قيام دولة موحدة هو الذي دعاه إلى وضع المبادئ التي لا يمكن أن تقوم دول في الظروف المحيطة به وقتئذ إلا على أساسها. فقد كان لابد من القضاء على الأمراء والإمارات القائمة وقتئذ؛ وإنا وإن كان رأينا في ماهية الحرية لا يتفق مع الوسائل التي يشير بها... والتي تشمل أشد أنواع العنف وأكثرها تطرفاً، وجميع صنوف الخداع، والاغتيال، وما إليها- فلا يسعنا إلا أن نقر أن الطغاة الذين لابد من قهرهم لم يكونوا ليغلبوا بغير هذه الوسائل (120).
كذلك صور مكولى Macaualy في مقال له ذائع الصيت فلسفة مكيفلي على أنها انعكاس طبيعي لإيطاليا المتوقدة الذكاء الفاسدة الأخلاق التي عودها حكامها المستبدون من زمن بعيد مبادئ كتاب الأمير.
ويمثل مكيفلي آخر صورة من تحدي الوثنية المنتعشة التي عادت إلى الحياة للمسيحية المستضعفة. والدين في فلسفته يصبح مرة أخرى ، كما كان في روما القديمة، خادماً ذليلاً للدولة حلت في واقع الأمر محل الله. فالفضائل التي يعظمها مكيفلي هي الفضائل الرومانية الوثنية دون غيرها- الشجاعة، والصبر، والاعتماد على النفس، والذكاء، والخلود الوحيد شهرة زائلة لاغير؛ ولعل مكيفلي قد بالغ فيما للمسيحية من أثر مضعف موهن، فهل يا ترى نسي مكيفلي الحروب العوان التي شبت نارها في العصور لوسطى، حروب قسطنطين، وبلساريوس، وشارلمان، وفرسان المعبد، والفرسان التيوتون؛ وحروب يوليوس الثاني التي لم يمض عليها وقت طويل؟ إن المبادئ الأخلاقية المسيحية لم تؤكد الفضائل النسوية إلا لأن الرجال كانوا يتصفون بالصفات المضادة لها، وكانت فيهم قوية لدرجة تؤدي إلى الخراب والدمار؛ فكان لابد من وجود رياق شاف لهذا الداء، ومثل أعلى مضاد له يوعظ به الرومان القساة في المجتلد، والبرابرة الغلاظ الذين اجتاحوا إيطاليا، والشعوب الخارجة على القانون التي تحاول الهبوط إلى بلاد الحضارة. إن الفضائل التي يزدريها مكيفلي تعمل لبناء المجتمعات المنظمة السلمية، أما الفضائل التي يعجب بها (لأنها تنقصه كما تنقص نتشه)، فتعمل لقيام دول قوية ذات نزعة حربية، وحكام طغاة في مقدورهم أن يقتلوا الناس بالآلاف ليرغموهم على التضامن والائتلاف، وعلى إراقة الدماء أنهاراً لتوسيع رقعة البلاد التي يحكمونها. لكنه خلط بين خير الحاكم وخير الأمة، وأفرط في التفكير في الاحتفاظ بالسلطة، وقلما فكر فيما على صاحبها من واجبات، ولم يفكر مطلقاً فيما تؤدي إليه من فساد. وتجاهل ما بين دول المدن الإيطالية من تنافس منعش، وخصب ثقافي، وقلما كان يعنى بما في ذلك الوقت من فن رائع، بل إنه لم يعن بفن روما القديمة نفسه، ذلك بأنه ضل في عبادة الدولة ضلالا مبيناً. نعم أن أعان على تحرير الدولة من الكنيسة، ولكنه أسهم في إقامة نوع من القومية العارمة ودعا الناس إلى عبادتها، ولم تكن هذه القومية أرقى رقياً واضحاً من الفكرة السائدة في العصور الوسطى عن وجود دول خاضعة لمبادئ أخلاقية دولية يمثلها البابا.
لقد تحطم كل مثل أعلى بسبب ما طبع الناس من أنانية، ومن الواجب على كل مسيحي صريح أن يقر بأن الكنيسة وهي تدعو إلى المبدأ القائل بأن الإنسان غير ملزم بالمحافظة على عهده مع الزنديق والجري على هذه السنة نفسها (كما حدث حين نكث عهد الأمان مع هوس Auss في كنستانس ومع ألفنسو دوق فيرارا في روما) نقول إن من الواجب على كل مسيحي صريح أن يقر بأن الكنيسة وهي تدعو إلى هذا إنما كانت تعمل بمبادئ مكيفلي عملا يحطم رسالتها بوصفها قوة أخلاقية.
ومع هذا فإن في صراحة مكيفلي قوة حافزة دافعة إلى حد ما. ذلك أنا إذا قرأنا كتابه، واجهنا في وضوح لا مثيل له عند غيره من المؤلفين، ذلك السؤال الذي قلما تعرض له غيره من الفلاسفة: هل سياسة الحكم مقيدة بالمبادئ الأخلاقية؟ وقد نخرج من كتبه بنتيجة واحدة على الأقل: وهي أن الأخلاق الطيبة لا يمكن أن توجد إلا بين أفراد مجتمع مسلح بالوسائل التي نستطيع تعليمها وإلزام الناس باتباعها، وأن المبادئ الأخلاقية التي يجب أن تتبعها الدول جمعاء يجب أن تؤجل حتى تقوم منظمة تضم الدول جمعاء، ويكون لها من القوة المادية وفيها من الرأي العام ما تستطيع بهما المحافظة على القانون الدولي. وإلى أن يحين ذلك الوقت فستظل الأمم كالوحوش في الغاب؛ وأيا كانت المبادئ التي تجهر بها حكوماتها، فإن السنن التي تسيطر عليها هي الواردة في كتاب الأمير:
وإذا ما عدنا بأنظارنا إلى المائتي عام من الثورة الفكرية التي سادت إيطاليا من أيام بترارك إلى مكيفلي؛ تبين لنا أن جوهر هذه الثورة وأساسها لا يعدو أن يكونا نقص الاهتمام بالعالم الآخر، والاهتمام المتزايد بالحياة... فقد ابتهج الناس إذ كشفوا من جديد حضارة وثنية لا يشغل بال الناس فيها الخطيئة الأولى، أو عقاب الجحيم، ترتضي فيها الغرائز الفطرية وتعد عناصر في مجتمع نابض بالحياة خليقة بأن تغتفر. وفي هذه الحضارة فقد النسك والزهد، وإنكار الذات، والإحساس بالخطيئة ما كان لها سلطان على الطبقات العليا من سكان إيطاليا، وكادت تفقد ما كان لها عندهم من معنى. فاضمحلت الأديرة لقلة من كان يدخلها من الرهبان الجدد؛ وكان الرهبان- والإخوان، والبابوات أنفسهم يسعون وراء ملذات الدنيا بدل تعاليم المسيح. وتراخت قيود التقاليد والسلطان، وكان صرح الكنيسة الضخم أخف على قلوب الناس وأغراضهم من ذي قبل. وأضحت الحياة أكثر اهتماماً بما هو في خارج الإنسان ومع هذه العضة كثيرا ما اتخذت شكل العنف، فإنها طهَّرت كثيراً من النفوس من المخاوف والاضطرابات العصبية اليت كانت تخيم على العقول في العصور الوسطى وتسبب لها الكآبة والظلمة. وأخذ العقل الطليق يمرح سعيداً في جميع الميادين عدا ميادين العلم، وذلك لأن ما ينشأ عن هذا الانطلاق وذاك التحرر من خصب قلما كان يتفق حتى ذلك الحين مع ما تتطلبه التجارب والبحوث العلمية من تهذيب نفسي وصبر طويل؛ فهذا التهذيب وذاك الصبر إنما يجيئان في الدور الإنشائي الذي يعقب التحرر. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد أفسحت أساليب التقى السبيل إلى عبادة العقل والعبقرية، واستبدل بالسعي وراء الشهرة الخالدة الاعتقاد، بألا ضرورة للتقيد بالمبادئ الأخلاقية وعَدَت المُثل الوثنية كالحظ، والأقدار، والطبيعة على فكرة اللّه المسيحية.
وكان لابد لهذا كله من ثمن. لقد قوض التحرر الساطع للعقل دعا القوة العليا السماوية المشرقة على الأخلاق، ولم توجد قوة أخرى لها ما لها من سلطان تحل محلها. وكانت النتيجة التحلل من جميع الموانع والقيود وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وانتشار الفساد، والاستمتاع المرح استمتاعاً لم يعرف التاريخ له مثيلا منذ أن حطم السوفسطائيون الأساطير وحرروا العقول، وأرخَوا قيود الأخلاق في بلاد اليونان القديمة.