قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 4 ب 17

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 7084

قصة الحضارة -> النهضة -> النهضة في رومة -> يوليوس الثاني -> المحارب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السابع عشر: يوليوس الثاني 1503 - 1513

الفصل الأول: المحارب

إذا ما وضعنا أمامنا صورة رفائيل الفاحصة العميقة ليوليوس الثاني حكمنا من فورنا بأن جوليانو دلا روفيرى كان من أقوى الشخصيات التي جلست على كرسي البابوية. ذلك أننا نرى في الصورة رأساً ضخما ينحني من فرط الإجهاد ومن التواضع المتوالي، وجبهة عريضة عالية، وأنفاً كبيراً ينم عن العناد، وعينين وقورتين، عميقتين، نفاذتين، وشفتين منطبقتين تشهدان بالصلابة والعزيمة، ويدين مثقلتين بأختام السلطة، ووجهاً مكتئباً يكشف عما في السلطة من خداع. وهذا هو الرجل الذي ظل عشر سنين يقذف بإيطاليا في أتون الحرب والاضطراب، والذي حررها من الجيوش الأجنبية، وهدم كنيسة القديس بطرس القديمة، واستدعى برامنتى ومائة غيره من الفنانين إلى رومة؛ وكشف، ونمى، ووجه مايكل أنجيلو ورفائيل، وقدم للعالم على أيديهم كنيسة للقديس بطرس جديدة، وسقفاً جديداً لمعبد سستينى وقاعات الفاتيكان. ذلك رجل ليس كمثله كثيرون في الرجال.

وأكبر الظن أن طبعه الحاد كان يميزه منذ نشأته. وكان مولده بالقرب من سافونا Savona، لسكستس الرابع، وقد وصل إلى الكردنالية في السابعة والعشرين من عمره، وظل فيها قلقاً ساخطاً ثلاثا وثلاثين سنة قبل أن يرقى إلى المنصب الذي كان يرى أنه حقه الواضح، ولم تكن عنايته باليمين التي أقسمها بأن يبقى عزباً أكثر من عناية معظم زملائه(1) فقد قال كبير حجابه في الفاتيكان بعدئذ إن يوليوس الثاني لم يكن يسمح بأن تقبل قدمه لأن "المرض الفرنسي" كان يشوهها(2). وكانت له ثلاث بنات غير شرعيات(3)، ولكن مشاغله الكثيرة في محاربة الإسكندر لم تكن تتيح له وقتا ما لإظهار العطف الأبوي الذي كان يظهره الإسكندر نفسه والذي كان يغضب المنافقين من بني الإنسان. وكان يكره الإسكندر لأنه في رأيه دخيل إسباني، ولا يرى أنه يليق للبابوية، ويسميه نصابا، ومغتصبا(4)، وقد بذل كل ما في وسعه لخلعه، ولم يتورع حتى من استعداء فرنسا على إيطاليا ودعوتها إلى غزوها. وكان الإسكندر يشن الحرب باسمه أما يوليوس فكان يخوضها بشخصه، فقد لصبح البابا ابن الستين من العمر جنديا، وكان ارتداء الثياب العسكرية أيسر له من المسوح البابوية، وكان يحب المعسكرات وحصار المدن، وتصويب المدافع ومشاهدة الهجمات توجه أمام عينيه. وكان يسع الإسكندر أن يعبث ويلعب؛ أما يوليوس فكان يجد اللعب من أشق الأعمال لأنه يحب أن يواجه الناس برأيه فيهم؛ "وكثيراً ما كانت لغته تتجاوز كل الحدود في وقاحتها وعنفها" و "كان هذا العيب يزداد زيادة واضحة كلما تقدمت به السن"(5). ولم تكن شجاعته، كما لم تكن لغته، تعرف لها حدا؛ وكان حين تنتابه العلة المرة بعد المرة أثناء حروبه يحير أعداءه إذ يستعيد صحته وينقض عليهم مرة أخرى.

وكان لا بد له أن يفعل ما فعله الإسكندر فيبتاع بالمال عدداً قليلا من الكرادلة لييسروا له سبيله إلى عرش البابوية، ولكنه شهر بهذه العادة في مرسوم له أصدره عام 1505. وإذا لم يكن قد أسرع في إصلاح هذه العادة إسراعا يسبب له المتاعب، فإنه قد رفض التحيز للأقارب رافضا يكاد يكون تاما، وقلما كان يعين أحداً من أقاربه في منصب ما. بيد أنه كان يحذو حذو الإسكندر في بيع المناصب الكنسية والترقي إلى الدرجات العليا فيها، وقد أغضب ألمانيا ببيع صكوك الغفران وبناء كنيسة الرسول بطرس(6). وكان حسن الإدارة لموارده المالية، وينفق المال في شؤون الحرب وعلى الفن في وقت واحد، وترك لليو في خزانته بعض المال الزائد على حاجته. وقد أعاد النظام الاجتماعي إلى روما بعد أن ضعف هذا النظام في السنين الأخيرة من بابوية الإسكندر، وحكم ولايات الكنيسة حكما صالحا امتاز بالحكمة في تعيين الموظفين وحسن توجيههم؛ وسمح لآل أرسيني وكولنا بالعودة إلى احتلال حصونهم، وسعى لكسب ولاء هاتين الأسرتين القويتين بالزواج بينهما وبين أقاربه.

ولما ارتقى كرسي البابوية وجد ولايات الكنيسة مضطربة، ووجد أن نصف أعمال الإسكندر وسيزاري بورجيا قد تصدعت؛ فقد استولت البندقية على فائندسا، ورافنا، وريميني (1503)، وعاد جيوفني اسفوردسا إلى بيزارو، وأصبح آل بجليوني مرة أخرى سادة في بروجيا، وآل بنتيفجلي سادة في بولونيا. وكان ما فقده من إيراد هذه المدن يهدد الإدارة البابوية بالإفلاس، وكان يوليوس يتفق مع الإسكندر في أن استقلال الكنيسة الروحي يتطلب امتلاكها الدائم للولايات البابوية؛ وارتكب من أول الأمر الخطأ الذي ارتكبه الإسكندر إذ استعان بفرنسا - وبألمانيا وإسبانيا أيضاً- على أعدائه الإيطاليين. ووافقت فرنسا على أن ترسل ثمانية آلاف من جنودها نظير تعيين ثلاثة من رجالها الدينيين في مناصب الكرادلة؛ ووعدت نابلي، ومانتوا، وأربينو، وفيرارا، وفلورنس بأن ترسل إمدادات صغيرة. وفي أغسطس من عام 1506 خرج يوليوس من روما على رأس قوته الصغيرة -المكونة من أربعمائة فارس، ومن حرسه السويسري، وأربعة كرادلة. وعين جويدو يلدو، دوق أربينو الذي عاد إلى حكمها، قائداً عسكرياً للجيوش البابوية، ولكن البابا سار على رأسها بنفسه- وكان ذلك منظراً لم تره روما من عدة قرون. وظن جيان باولو بجليوني أنه لا يستطيع هزيمة هذا الحلف، فجاء إلى أرفيتو، واستسلم للبابا، وطلب إليه المغفرة. وزمجر الإسكندر قائلا: "إني أغفر لك خطاياك الجسدية ولكني سأعاقبك عليها جميعا حين ترتكب أول خطيئة صغرى"(7).

واعتمد يوليوس على سلطته الدينية فدخل بروجيا بحرس قليل العدد، وكان في استطاعة بجليوني أن يأمر رجاله بالقبض عليه وإغلاق أبواب المدينة وهو في داخلها، ولكنه لم يجرؤ على هذا العمل. ودهش مكيفلي، وكان وقتئذ قريباً منه، إذ أضاع بجليوني هذه الفرصة التي كان يستطيع فيها أن "يعمل عملاً خالد الذكر؛ فقد كان في وسعه أن يكون أول من يظهر للقساوسة عدم احترام الناس لمن يحيا حياتهم ويحكم مثل حكمهم، وكان في مقدوره أن يضرب ضربة تبلغ من العظمة حدا يرجح ما فيها من إثم، وكل ما قد يعقبها من أخطار"(8). وكان مكيفلي يعارض في أن تكون للبابوية سلطة زمنية كما كان يعارض في ذلك معظم الإيطاليين، ويعارض كذلك البابوات الذين كانوا ملوكاً. ولكن بجليوني كان أيضاً يخشى على حياته ويعرف قيمها، ولعله كان يرى أن نجاة روحه أجل شأناً من شهرته بعد موته.

ولم يقض يوليوس في بروجيا إلا وقتاً قصيراً، فقد كانت بولونيا هدفه الحقيقي؛ ولهذا قاد جيشه الصغير في الطرق الوعرة واجتاز به جبال الأبنين إلى سيزينيا، ثم انقض على بولونيا من الشرق؛ بينما كان الفرنسيون يهاجمونها من الغرب. وأيد يوليوس هذا الهجوم بمرسوم بابوي يقضي بحرمان آل بنتيفجلي وأشياعهم، ويعرض فيه الغفران الشامل على كل من يقتل أي واحد منهم. وكان هذا طرازاً جديداً من الحرب، ولم يجد معه بنتيفجلي بدا من الفرار، ودخل يوليوس المدينة في هودج محمول على أكتاف الرجال، وحياه أهلها تحية محررهم من الظلم والاستبداد (11 نوفمبر سنة 1506). فلما تم له ذلك أمر مايكل أنجيلو بأن يقيم له تمثالاً في مدخل سان بيترونيو San Petronio، وعاد بعدئذ إلى روما وسار في شوارعها راكباً عربة النصر وحياه أهلها تحية قيصر المنتصر.

ولكن البندقية كانت لا تزال تمتلك فائندسا، ورافنا، وريميني؛ وكانت عاجزة عن أن تقدر روح البابا الحربية. وجازف يوليوس بإيطاليا في سبيل الاستيلاء على رومانيا، فاستنجد بفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا لإخضاع البندقية ملكة البحر الأدرياوي. وسنرى فيما بعد استجابتها في حلف كمبريه (1508) لهذه الدعوة، وأنهم لم يحرصوا على مساعدة يوليوس بل كانوا يحرصون على تقطيع أوصال إيطاليا؛ أما يوليوس فإنه بانضمامه إلى تلك الدول قد غلب غضبه الحق من البندقية على حبه إيطاليا. وبينما كان حلفاؤه يهاجمون البندقية بجيوشهم وجه إليها يوليوس مرسوماً بالحرمان واللعنة يعد من أصرح المراسيم وأقواها في التاريخ كله. وكتب النصر ليوليوس، وردّت البندقية المدن المختلسة إلى الكنيسة، وقبلت أشد الشروط إذلالاً لها، وتلقى مندوبوها غفران البابا ومحو اللعنة في موكب طويل آلم أرجلهم وركبهم أشد الألم (1510). وندم يوليوس في ذلك الوقت على استنجاده بالفرنسيين، فبدل سياسته معهم وأخذ يعمل على طردهم من إيطاليا، وأقنع نفسه بأن الله يبدل سياسته المقدسة تبعاً لهذا. ولما أن أبلغه السفير الفرنسي نبأ انتصار الفرنسيين على البنادقة، وأضاف إلى هذا النبأ أن "هذه إرادة الله" رد عليه يوليوس مغضباً بقوله "إن هذه إرادة الشيطان".

ثم حول نظراته العسكرية نحو فيرارا. فها هي ذي إقطاعية بابوية لا ينكر أحد تبعيتها له، ولكن الإسكندر اكتفى منها بعد خطبة لكريدسيا بجزية رمزية. يضاف إلى هذا أن الدوق ألفنسو، بعد أن انضم إلى فرنسا في الحرب ضد البندقية بناء على طلب البابا، رفض أن يعقد الصلح معها بناء على طلب البابا نفسه، وبقى حليفاً لفرنسا. ولهذا صمم يوليوس على أن تصبح فيرارا ولاية بابوية بقضها وقضيضها. وبدأ حملته بمرسوم بابوي بحرمانها من حظيرة الكنيسة (1501)، وبهذا المرسوم أصبح صهر أحد البابوات ابناً جائراً ومصدر هلاك ودمار في نظر بابا آخر. واستولى يوليوس على مودينا دون عناء كبير، وبمساعدة البندقية. وبينما كان جنود البابا يستريحون في المدينة ارتكب هو خطأ موبقاً بذهابه إلى بولونيا؛ حيث وردت إليه الأنباء على حين غفلة بأن جيشاً فرنسياً يقف على أبوابها بأوامر تقضي بمساعدة ألفنسو. ولم يكن في وسع الجيوش البابوية أن تقوم بمساعدته لبعدها وقتئذ عن المدينة، ولم يكن في داخل بولونيا أكثر من تسعمائة جندي، كما أنه لم يكن من المستطاع الاعتماد على مقاومة أهل المدينة للغزاة الفرنسيين لأن المندوب البابوي الكردنال ألدوزي Alidosi كان قد سامهم الخسف. وتملك اليأس فترة من الوقت يوليوس وكان وقتئذ مصاباً بالحمى وطريح الفراش، ففكر في أن يتجرع السم(10)، وأوشك أن يوقع مع فرنسا صلحاً مذلاً، وإذا المدد يصل إليه من إسبانيا والبندقية. وارتد الفرنسيون، وبعث يوليوس وراءهم بمنشور مقذع يحرمهم فرداً وجماعة من حظيرة الدين.

وكانت فيرارا في ذلك الوقت قد سلحت نفسها تسليحاً قوياً رأى يوليوس معه أن قواه لا تكفي للاستيلاء عليها. غير أنه لم يشأ أن يحرم وقتئذ من مجده العسكري فسار بنفسه على رأس جيش إلى حصار ميراندولا Mirandola، وهي مركز أمامي من مراكز دوقية فيرارا. (1511). ومع أنه كان وقتئذ في السادسة والثمانين من عمره، فقد سار فوق الثلج الكثيف الطبقات، وخالف السوابق الماضية بأن خاض غمار الحرب في الشتاء، ورأس المجالس العسكرية الفنية، ووجه العمليات الحربية ومواقع المدفعية، وفتش على جنده بنفسه، وأولع بحياة الجندية، ولم يسمح لأحد بأن يفوقه في الشتائم والنكات العسكرية(11). وكان الجنود أحياناً يسخرون منه ويضحكون، ولكنهم كانوا في الأغلب الأعم يثنون على بسالته. ولما أن قتلت نيران العدو جندياً كان بجانبه، انتقل إلى موضع آخر من الميدان، ولما أن وصلت قذائف مدفعية ميراندولا إلى هذا الموضع الثاني، عاد إلى موضع الأول، وهز كتفيه المقوستين استخفافاً بخطر الموت. واستسلمت ميراندولا بعد مقاومة دامت أسبوعين، وأمر البابا بأن يعدم جميع من يوجد فيها من الجنود الفرنسيين؛ ولعل الطرفين قد دبرا معاً أن لا يوجد فيها أحد من أولئك الجنود. وحمى البابا المدينة من النهب، وفضل أن يطعم جيشه ويموله بأن يبيع ثماني كردناليات جديدة(12).

وذهب إلى بولونيا ينشد الراحة، ولكنه ما لبث أن حاصره فيها الفرنسيون مرة أخرى؛ ففر منها إلى ريميني، وأعاد الفرنسيون آل بنتيفجلي إلى الحكم. ورحب الأهلون بعودة حكامهم الظالمين المطرودين، ودمروا القصر الحصين الذي أنشأه يوليوس من قبل، وحطموا التمثال الذي أقامه له مايكل أنجيلو، وباعوا قطعه البرونزية إلى ألفنسوا دوق فيرارا. وصب هذا الدوق الصارم ذلك البرونز وصنع منه مدفعاً سماه لاجويليا تكريماً منه للبابا. ورماه البابا بقرار آخر حرم فيه كل من اشترك في القضاء على السلة البابوية في بولونيا. ورد الجنود الفرنسيون على هذا بالاستيلاء على ميرندولا من جديد؛ ووجد يوليوس في ريميني وثيقة موقعاً عليها من الكرادلة ملصقة بباب كنيسة سان فرانتشيسكو، تدعو إلى عقد مجلس عام في مدينة بيزا في أول سبتمبر من عام 1511، لبحث مسلك البابا.

وعاد يوليوس إلى روما محطم الجسم، تكتنفه المصائب من كل جانب ولكنه لم تذله الهزائم. وفي هذا يقول جوتشيارديني:

لقد وجد البابا نفسه وقد خدعته آماله الكاذبة أشد الخداع؛ ولكنه كان يبدو في مظهره شبيهاً بما وصف به كتاب الخرافات القديمة أناتيوس Anataeus الذي كان إذا لمس الأرض كلما قطع أوصاله البطل هرقل عادت إليه قواه ومِرَّته. فقد كان للشدائد على البابا هذا الأثر نفسه؛ ذلك أنه حين كان يبدو في أشد حالات الانقباض واليأس، لا يلبث أن يستعيد نشاطه، ويعود مرة أخرى أصلب مما كان عوداً وأكثر مما كان ثباتاً وأقوى إصراراً وعزيمة.

وأراد أن يقوم بحركة مضادة لحركة الكرادلة المتذمرين، فدعا إلى عقد مجلس عام في قصر لاتران في التاسع عشر من إبريل سنة 1512. وظل يكدح ليلاً ونهاراً لينشئ حلفاً ضد فرنسا. وأوشك أن ينجح في غرضه وإذا هو يصاب بحمى شديدة الوطأة (17 أغسطس سنة 1511). وظل بين الحياة والموت ثلاثة أيام كاملة، حتى إذا كان اليوم الحادي والعشرون من شهر أغسطس أغمي عليه إغماءه بلغ من طولها أن استعد الكرادلة لعقد مجمع مقدس لاختيار خلفه. ودعا بمبيو كولنا Pompeo Colonna أسقف ريتي Rieti في الوقت عينه أهل روما إلى الثورة على حكم البابا مدينتهم وإعادة جمهورية ريندسو Rienzo. ولكن البابا أفاق من الإغماءه في اليوم الثاني والعشرين، وتغلب على أطبائه، وشرب جرعة كبيرة من النبيذ؛ ولشد ما أدهش جميع الناس، وخيب ظن الكثيرين منهم، بشفائه من مرضه؛ وزالت الحركة الجمهورية وعفت آثارها من روما. وأعلن يوليوس في الخامس من أكتوبر أنه أنشأ حلفاً مقدساً من البابوية، والبندقية، وإسبانيا، وفي السابع عشر من نوفمبر انضم إليه هنري الثامن ممثلاً إنجلترا. فلما حصل على هذا التأييد، جرد الكرادلة الذين دعوا إلى مجلس بيزا من مناصبهم، وحرم اجتماع هذا المجلس؛ ولما أذن مجلس السيادة في فلورنس بناء على أمر ملك فرنسا بأن يجتمع المجلس المحرم في بيزا؛ أعلن يوليوس الحرب على فلورنس وأخذ يعمل في الخفاء لعودة آل ميديتشي. واجتمع في بيزا سبعة وعشرون من رجال الكنيسة وممثلون لملك فرنسا، وبعض الجامعات الفرنسية، (5 نوفمبر 1911)؛ ولكن أهل المدينة غضبوا غضبة تنذر المجتمعين بالخطر، ولم تكن فلورنس نفسها راضية عن هذا العمل، فاضطر المجلس للانتقال إلى ميلان (12 نوفمبر) حيث كان في مقدور المؤتمرين المنشقين أن يتجملوا وهم آمنون سخرية الشعب تحت حماية الجنود الفرنسيين.

ولما كسب يوليوس هذه المعركة، معركة الأساقفة، عاد مرة أخرى إلى حرب السلاح، واستعد لها بأن ابتاع التحالف مع السويسريين الذين سيروا جيشاً ليهاجم الفرنسيين في ميلان؛ ولكن هذا الهجوم أخفق، وعاد السويسريون إلى بلادهم، فلما حل عيد الفصح في الحادي عشر من إبريل عام 1512 أوقع الفرنسيون بقيادة جاستن ده فوا Gaston de foix وبمعونة مدفعية ألفنسو القوية هزيمة منكرة بجيش حلف رافنا المختلط، وانتقلت رومانيا كلها تقريباً تحت سيطرة فرنسا. وتوسل كرادة يوليوس إليه أن يعقد الصلح، ولكنه أبى؛ واحتفل المجلس المنعقد في ميلان بهذا النصر المؤزر بأن أعلن خلع البابا؛ وضحك يوليوس من هذا الإعلان. وفي اليوم الثاني من شهر مايو حملوه في هودج إلى قصر لاتران، حيث افتتح مجلس لاتران الخامس، ولم يلبث إلا قليلاً حتى تركه يتطور تطوره البطيء، وأسرع هو إلى ميدان القتال.

وفي اليوم السابع عشر من شهر مايو أعلن أن ألمانيا قد انضمت إلى الحلف المقدس ضد فرنسا. واشترى يوليوس السويسريين مرة أخرى فدخلوا إيطاليا عن طريق التيرول Tirol وزحفوا ليلقوا جيشاً فرنسياً أفسد نظامه النصر وموت قائده. وكان الزاحفون أكبر عدداً من الفرنسيين فترك هؤلاء رافنا، وبولونيا، وميلان نفسها، وانسحب الكرادلة المنشقون إلى فرنسا؛ وفر آل بنتيفجلي مرة أخرى، وأصبح يوليوس سيد بولونيا وإقليم رومانيا؛ وانتهز هذه الفرصة للاستيلاء على بارما، وبياتشندسا، وكان يأمل الآن أن يستولي على فيرارا التي لم يعد في وسعها أن تعتمد على مساعدة تأتيها من فرنسا. وعرض ألفنسو أن يأتي إلى روما ويطلب الغفران وشروط الصلح إذا أمنه البابا على حياته في الذهاب والعودة؛ وأجابه يوليوس إلى طلبه، وجاء ألفنسو، وتفضل البابا فغفر له؛ ولكنه لما رفض أن يستبدل بفيرارا بلدة أستي Asti الصغيرة، أعلن يوليوس أن ما وعده به من الأمان غير قائم، وأنذره بالسجن والاعتقال. وأحس فبريدسيو كولنا Fabrizio Colonna الذي كان مكلفاً بحراسة الدوق في مجيئه أن شرفه قد مس، فساعد ألفنسو على الهرب من رومة؛ فعاد إلى فيرارا بعد أن قاسى أشد الأخطار في الطريق، وفيها عاد مرة أخرى يسلح حصونه وأسواره.

وفي ذلك الحين أخذ يضمحل ما كان يتمتع به البابا المحارب من نشاط جبار، فآوى إلى فراش المرض في أواخر شهر يناير من عام 1513 مصاباً بعدة أدواء. وقال الثرثارون النمامون الذين لا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلوبهم إن مرضه هو النتيجة التي تعقب "الداء الفرنسي"، وقال غيرهم إن منشأه الإفراط في الطعام والشراب(14): ولما لم يفلح كل علاج في تخفيف وطأة الحمى، استسلم للموت، وأصدر التعليمات التي تتبع في موكب جنازته، وحث مجلس لاتران على أن يواصل عمله دون انقطاع، واعترف بأنه من أشد الآثمين، وودع الكرادلة، ومات شجاعاً كما عاش شجاعاً (20 فبراير 1513). وحزنت عليه روما بأجمعها، واحتشد لتوديع جثمانه وتقبيل قدميه جمع كبير لم يسبق له مثيل.

وبعد فليس في وسعنا أن نقدر منزلته في التاريخ إلا بعد أن ندرسه بوصفه محرراً لإيطاليا، ومشيداً لكنيسة القديس بطرس؛ وأكبر نصير للفن عرفته البابوية في تاريخها كله. غير أن معاصريه كانوا على حق حين نظروا إليه على أنه حاكم ومحارب أولاً وقبل كل شيء. فقد كانوا يخشون نشاطه الجبار، واندفاعه، ولعناته وغضبته الشديدة التي يبدو أنها إذا اندلع لهيبها لا تخمد أبداً. ولكنهم كانوا يشعرون أن وراء عنفه روحاً في وسعها أن ترحم وتحب . ولقد رأوه يدافع عن الولايات البابوية بقسوة وشدة غير مقيدة بمبدأ أو ضمير كما كان آل بورجيا يفعلون، ولكنه لم يكن يسعى إلى عظمة أسرته؛ وكان الناس جميعاً، إذا استثنينا أعداؤه وحدهم، يمجدون أهدافه، حتى في الوقت الذي كانوا يرتجفون فيه من ألفاظه، ويأسفون لما يلجأ إليه من وسائل. ولم يحسن يوليوس حكم الولايات التي استردها كما كان يحسنه سيزاري بورجيا، لأن ولعه الشديد بالحرب كان يحول بينه وبين إصلاح أداة الحكم؛ ولكن فتوحه كانت فتوح باقية على مدى الزمان، حتى لقد بقيت الولايات البابوية من ذلك الحين موالية للكنيسة إلى أن قضت ثورة عام 1870 على سلطة الباباوات الزمنية. ولقد أخطأ يوليوس - كما أخطأت البندقية، وكما أخطأ لدوفيكو والإسكندر، في استدعاء الجيوش الأجنبية إلى إيطاليا، ولكنه أفلح في ما لم يفلح فيه سابقوه ولاحقوه وهو تطهير إيطاليا من تلك القوات بعد أن أدت مهمتها. ولعله قد أضعف إيطاليا حين أنجاها من أعدائها، وعلم "البرابرة" أن في وسعهم أن يحاربوا حروبهم في سهول لمباردي ذات الشمس الساطعة. ولقد كانت في عظمته عناصر من القسوة، وكانت الرغبة في الكسب هي التي دفعته إلى مهاجمة فيرارا والاستيلاء على بياتشندسا وبارما. ولم يكن يحلم بالاحتفاظ بأملاك الكنيسة المشروعة فحسب، بل كان يحلم فوق ذلك بأن يجعل نفسه سيد أوروبا، والآمر المطاع للملوك. وقد شهر به جوتشيارديني لأنه "جاء للكرسي الرسولي بدولة استخدم فيها قوة السلاح، وسفك فيها دماء المسيحيين، بدل أن يعنى بأن يضرب للناس مثلاً في الحياة الصالحة"(16). ولكنا يصعب علينا أن ننتظر من يوليوس، في زمانه ومكانه، أن يتخلى عن الولايات البابوية للبندقية وغيرها من المعتدين، وأن يجازف بجعل الكنيسة تعتمد على الأسس الروحية دون غيرها، وذلك في الوقت الذي لم يكن فيه كل العالم الذي حوله يعترف بحق ما إلا للذين يسلحون أنفسهم بالقوة المادية. لقد كان هو ما يجب أن يكونه في ظروف وقته وفي الجو الذي كان يعيش فيه، ولقد غفرت له الأيام ما ارتكبه من ذنوب.


الفصل الثاني: العمارة الرومانية 1492-1513

كان تشجيع الفن أبقى أعمال يوليوس؛ ذلك أن حاضرة النهضة انتقلت في أيامه من فلورنس إلى روما، وفيها وصلت النهضة في الفن إلى ذروتها في الأدب والعلم. ولم يكن يوليوس كثير العناية بالأدب، لأن الأدب كان أهدأ وأكثر أنوثة من أن يوائم مزاجه، أما الضخامة في الفن فكانت توائم فطرته وحياته، ولهذا أخضع للعمارة كل ما عداها من الفنون، وترك وراءه كنيسة جديدة للقديس بطرس لتكون دليلاً خالداً على روحه، ورمزاً للدين الذي أنجى سلطانه الزمني. وإن من عجائب النهضة ومن أسباب الإصلاح الديني أن يمد يوليوس بالمال برامنتي، ومايكل أنجيلو ورفائيل ومائة غيرهم من الفنانين، وأن يجد المال اللازم لأكثر من عشر حروب، ثم يترك وراءه في الخزانة البابوية مائة ألف فلورين.

ولم يستقدم رجل غيره إلى روما مثل هذا العدد الذي استقدمه هو من الفنانين؛ فقد كان هو مثلاً الذي استدعى جويوم ده مارسلات Guillaume de Marcillat من فرنسا ليركب النوافذ الزجاجية الملونة لكنيسة سانتا ماريا دل بوبولو. وكان مما يمتاز به تفكيره وإدراكه أنه حاول التوفيق بين المسيحية والوثنية في الفن، كما حاول ذلك نقولاس الخامس في الأدب؛ وهل مصورات رفائيل إلا تناسق مقرر بين الأساطير والفلسفة القديمتين، وبين اللاهوت والشعر العبريين، وبين العاطفة والعقيدة المسيحيتين؟ وأي شيء يمكن أن يمثل اتحاد الفن والشعور الوثنيين والمسيحيين غير الباب والقبة، والعمد الداخلية، والتماثيل والصور الملونة، ومقابر كنيسة القديس بطرس؟ وحذا حذو البابا كبار رجال الدين والأعيان، ورجال المصارف والتجار الذين امتلأت بهم روما بعد أن زاد فيها الثراء، فشادوا القصور تكاد تضارع في فخامتها قصور الأباطرة العظام، ينافس بها بعضهم بعضاً في الثراء، وشقت شوارع رئيسية واسعة خلال المدينة وفيما كان عليه تخطيطها في العصور الوسطى من فوضى واضطراب، وفتحت مئات من الشوارع الفرعية الجديدة لا يزال واحد منها يحمل اسم البابا العظيم، ، وقصارى القول أن روما القديمة قامت من بين خرائبها وأنقاضها وأضحت من جديد موطناً لقيصر من القياصرة العظام.

وإذا ما استثنينا كنيسة القديس بطرس كان لنا أن نقول إن ذلك العصر كان في روما عصر القصور لا عصر الكنائس. وكانت هذه القصور من الخارج بسيطة متماثلة في مظهرها! فكانت واجهة القصر على شكل مستطيل كبير مقام من الآجر، أو الحجر، أو الجص، وكان مدخله من الحجر يزين في العادة برسوم، وفي كل طابق صفوف متماثلة من النوافذ، من فوقها قوصرات مثلثة إهليجية الشكل، وتكاد تعلوها على الدوام شرفة تكون رشاقة شكلها الخارجي محكاً خاصاً للمهندس وموضعاً لعنايته. وكان أصحاب الثراء الموفور يخفون وراء الواجهة المتواضعة ما لا حصر له من الزخرف والأبهة التي قلما تقع عليها عين الشعب الغيور الحاسدة: فقد كان من خلف هذه الواجهة بئر مركزية تحيط بها أو تفصلها عما حولها درج عريضة من الرخام؛ وكانت في الطابق الأرضي حجرات بسيطة تستخدم لإنجاز الأعمال أو خزن المتاع، وفي الطابق الأول -أو الثاني كما يسميه الأمريكيون- حجرات الاستقبال والولائم الرحبة، ومعارض الفن، أرضها من الرخام أو القرميد الصلب الملون، وفيها الأثاث، والطنافس، والأنسجة البديعة في مادتها وأشكالها، والجدران تقويها العمد المربوعة؛ والسقف ذات اللوحات المزخرفة الغائرة مستديرة، أو مثلثة، أو ماسية الشكل، أو مربعة، وعلى الجدران والسقف صور من صنع الفنانين الذائعي الصيت، تمثل في العادة موضوعات وثنية، لأن الطراز الحديث في تلك الأيام كان يقضي بأن يحيا السادة المسيحيون، حتى رجال الدين منهم، وسط مناظر مستقاة من الأساطير القديمة. وفي الأطباق العليا كانت الحجرات الخاصة بالسادة والسيدات، والخدم أصحاب الأزياء الخاصة، والأطفال والمراضع والمربيات، والمعلمين الخصوصيين والمعلمات، والوصيفات. وكان للكثيرين من الناس من الثراء ما يمكنهم من أن يتخذوا لهم فضلاً عن تلك القصور بيوتاً خلوية في الريف أو الضواحي يلجأون إليها من صخب المدينة أو حر الصيف. وقد تخفي هذه البيوت الريفية الكثير من الجلال، والزخرف، وأسباب النعيم، والروائع الفنية التي أخرجتها أيدي رفائيل، وبيروتشي، وجويليورومانو، وسباستيانو دل بيمبو Sebastino del Piombo ... وقد كانت هندسة القصر والبيت الريفي السالفة الذكر فناً أنانياً في كثير من نواحيه؛ تظهر فيه الثروة المنتزعة من العمال الذين لا تقع عليهم عين الثري، ولا يحصيهم عد، ومن الأراضي القاصية، وتفخر بالزخرف الزاهي الذي تستمتع به أقلية من أصحاب الثراء. ولقد كانت بلاد اليونان القديمة وأوربا في العصور الوسطى أنبل روحاً وأرق طبعاً في هذه الناحية. ذلك أن هذه أو تلك لم تكن تنفق ثروتها في الترف والملاذ الخاصة، بل كانت تنفقها في تشييد الهياكل والكنائس التي كانت ملك الناس جميعاً ومصدر فخرهم وإلهامهم، وكانت بيوت الشعب كما كانت بيوت الله.

وكان اثنان من بين المهندسين المعماريين في روما في عهد الإسكندر السادس أخوين، وكان ثالث ابن أخ لهما. وأحد هذين الأخوين هو جوليانوا دا سنجلو Guiliano da Sangallo، الذي بدأ حياته مهندساً عسكرياً في جيش فلورنس، ثم انتقل إلى خدمة فيرانتي صاحب نابلي؛ وأصبح صديقاً لجوليانو دلا روفيري، في الأيام الأولى من كردناليته.

وحول جوليانو المهندس لجوليانو الكردنال دير جرتا فيراتا Grottaferrata إلى حصن حصين؛ وهو الذي صمم السقف ذا اللوحات الغائرة المزخرفة في كنيسة سانتا ماريا مجيوري، وكفتها بأول ما جيء به من الذهب من القارة الأمريكية. ورافق الفنان الكردينال دلا روفيري في منفاه، وشاد له قصراً في سافونا، وانتقل معه إلى فرنسا، ثم عاد إلى روما لما اعتلى نصيره آخر الأمر عرش البابوية. وطلب إليه يوليوس أن يعرض عليه رسوماً لكنيسة القديس بطرس الجديدة؛ فلما فضل البابا عليها رسوم برامنتي، وجه المندس الشيخ اللوم إلى البابا، ولكن يوليوس كان يعرف ما يريده هو لا ما يريده له غيره. وعاش سنجلو بعد أن مات برامنتي ويوليوس، وعيّن فيما بعد مشرفاً على أعمال رفائيل ومساعداً له في بناء كنيسة القديس بطرس، ولكنه مات بعد عامين من تعيينه في ذلك المنصب. وكان أخوه الأصغر دا سنجلو قد قدم في هذه الأثناء من فلورنس ليكون مهندساً معمارياً وعسكرياً للإسكندر السادس، وشاد ليوليوس كنيسة سانتا ماريا دي لوريتو Santa Maria di Loreto ذات الروعة والفخامة، وشرع كذلك أنطونيو بكوني دا سنجلو Antonio Picconi da Sangallo ابن أخيهما في عام 1512 في بناء أفخم قصور النهضة على الإطلاق وهو قصر فرنيزي Pallazo Farnese.

غير أن أعظم الأسماء كلها في عمارة ذلك العصر هو اسم دوناتو برامنتي Donato Bramante. وكان قد بلغ السادسة والخمسين من عمره حين قدم إلى روما من ميلان (1499)، ولكن دراسته للخرائب بروما ألهبت في صدره حماسة الشباب وأثارت فيه رغبة قوية في أن يطبق الأشكال الرومانية القديمة على مباني النهضة، وقد بدأ هذا التطبيق في بناء دير للرهبان الفرنسيس قريب من سان بيترو San Pietro في منتوريا Montoria إذ خطط معبداً صغيراً Tempietto ذا عمد وسقف مستدير شبيه كل الشبه بالمعابد الرومانية القديمة إلى حد دعا المهندسين إلى دراسته وقياس أبعاده، كأنه آية من آيات الفن القديم كشفت حديثاً. وانتقل برامنتي من هذه البداية إلى عدد من الروائع الفنية الأخرى: منها الطريق المقنطر المسقوف في كنيسة سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace، والبهو الظريف في سان داماسو... وغمره يوليوس بالمطالب، سواء منها ما يختص بالعمارة وما يختص بالهندسة العسكرية. فأنشأ طريق جويليا Via Guilia، وأتم قصر بلفدير، وبدأ الشرفة المكشوفة في قصر الفاتيكان، ووضع رسماً جديداً لكنيسة القديس بطرس. وقد بلغ شغفه بعمله درجة لم يكن يعنى معها بالمال، حتى اضطر يوليوس أن يأمره بأن يقبل مناصب تدر عليه إيراداً يفي بنفقاته(17). لكن بعض منافسيه اتهموه باختلاس أموال البابا، وباستخدام المواد الرخيصة في مبانيه(18). أما غيرهم فقد وصفوه بأنه شخص مرح كريم الطبع، جعل بيته مقاماً مفضلاً لبروجينو، وسنيوري، وبنتورتشيو، ورفائيل وغيرهم من أهل الفن في روما.

وكان قصر بلفدير قصراً صيفياً مشيداً للبابا إنوسنت الثامن، ويقوم على ربوة تبعد نحو مائة ميل عن سائر مباني الفاتيكان. وقد اشتق اسمه من البل فدير bel vedere أي المنظر الجميل الذي يمتد أمامه، وتسمت باسمه بعدئذ عدة تماثيل وضعت في حجراته أو في فنائه. وكان يوليوس من زمن طويل مولعاً بجمع روائع الفن القديم، وكان أثمن ما يملكه منها تمثال لأبلو كشف في أثناء بابوية إنوسنت الثامن، فلما ارتقى عرش البابوية وضعه في فناء البلفدير، وأصبح أبلو بلفدير من أشهر تماثيل العالم على الإطلاق. وأنشأ رامنتي للقصر واجهة جديدة وفناء جديد ذا حديقة، ووضع خطة لتوصيله بقصر الفاتيكان نفسه بطائفة من المباني والحدائق الجميلة، ولكنه هو ويوليوس عاجلتهما المنية قبل أن تنفذ هذه الخطة.

وإذا ما عزونا سبب النهضة بوجه عام إلى بيع صكوك الغفران لتبني بالمال الذي تجمع من هذا البيع كنيسة القديس بطرس، كانت أهم حادثة في ولاية يوليوس هي هدم كنيسة القديس بطرس القديمة وبدء الكنيسة الجديدة. وتقول الرواية المأثورة أن الكنيسة القديمة قد بناها البابا سلفستر Sylvester الأول (326)، فوق قبر الرسول بطرس بالقرب من حلبة نيرون. وفي هذه الكنيسة توج كثير من الأباطرة من أيام شارلمان وما بعدها، وكثير من البابوات. وقد وسعت رقعتها المرة بعد المرة حتى كانت في القرن الخامس عشر باسلقا رحبة ذات صحن وجناحين مزدوجين تحيط بهما كنائس، وأمكنة للصلاة، وأديرة. ولكنها ظهر عليها قبيل أيام نقولاس الخامس أثر الأحد عشر من القرون التي مرت بها، فظهرت شقوق طويلة في الجدران، وخشي الناس أن تنهار في أي وقت من الأوقات، وقد تنهار على من فيها من المصلين. ومن أجل هذا كلف برناردو رسيلينو Bernardo Rosellino وليون باتستا ألبيرتي Leon Battista Alberti في عام 1452 بأن يقويا هذا الصرح بإنشاء جدران له جديدة. وما كاد العمل يبدأ حتى توفي نقولاس، ووقف من جاء بعده من البابوات العمل فيها لحاجتهم إلى المال في الحروب الصليبية. فلما كان عام 1505 صمم يوليوس الثاني، بعد أن فحص عدة رسوم مختلفة ورفضها جميعاً، أن يهدم الكنيسة القديمة ويبني ضريحاً جديداً كله فوق المكان الذي قيل إنه قبر القديس بطرس. ولهذا دعا عدداً من المهندسين أن يعرضوا عليه رسوماً لها. وفاز برامنتي وكان مشروعه يقضي ببناء باسلقا جديدة على شكل صليب يوناني (ذي ذراعين متساويتين في الطول)، وأن يتوج ملتقى الجناحين الفرعيين بقبة ضخمة؛ وقال بالعبارة الذائعة الصيت التي تعزى إليه إنه سيقيم قبة الباتثيون على باسلقا قسطنطين. وكان برامنتي يعتزم أن يمتد الصرح الفخم على 28.900 ياردة مربعة -أي أكثر من المساحة التي تشغلها كنيسة القديس بطرس في هذه الأيام بأحد عشر ألفاً وستمائة من الياردات المربعة. وبدئ في حفر الأساس في شهر إبريل من عام 1506، وفي 11 إبريل نزل يوليوس، وكان وقتئذ في الثالثة والستين من عمره، على سلم طويل مهتز من الحبال إلى عمق كبير ليضع حجر الكنيسة الأساسي. وسار العمل ببطيء لأن يوليوس أخذ يزداد انهماكاً في الحرب وتزداد نفقاته عليها. ثم توفي برامنتي في عام 1514، وهو لا يعرف لحسن حظه إن مشروعه لن ينفذ.

وصدمت مشاعر كثيرين من المسيحيين الصالحين حين فكروا في أن الكنيسة الكبرى القديمة المعظمة سوف تهدم. وعارضت كثرة الكرادلة في هدمها أشد المعارضة، وشكا كثيرون من الفنانين من أن برامنتي قد حطم في غير مبالاة ما كان في صحن الكنيسة القديم من عمد وتيجان ظريفة، وقالوا إنه لو بذل أكثر مما بذل من عناية لاستطاع أن يحتفظ بها سليمة. ونشر أحد الكتاب فيه هجاء بعد ثلاث سنين من موت المهندس قال إن القديس عنف برامنتي أشد التعنيف حين وصل إلى باب كنيسته، وإنه منع من دخول الجنة. ويزيد الهجاء على ذلك قوله: ولكن برامنتي لم يعجبه نظام الجنة مطلقاً، أو الطريق الشديد الانحدار الموصل إليها وقال: "سأنشئ طريقاً جديداً، واسعاً، مريحاً، تستطيع الأرواح الضعيفة الطاعنة في السن أن تسير فيه على ظهور الخيل، ثم أنشئ بعد ذلك جنة جديدة تحوي مساكن مبهجة للصالحين الأبرار". فلما رفض بطرس هذا العرض طلب برامنتي لأن ينزل إلى جهنم، ويبني فيها جحيماً خيراً من جحيمها القديم، لأن هذا الجحيم قد طال به العهد فكاد بلا شك يحترق عن آخره. ولكن بطرس عاد فسأله: "قل لي بحق، ما الذي دعاك إلى هدم كنيستي؟" وحاول برامنتي أن يهدئ من غضبه فقال: "إن البابا ليو سيشيد لك كنيسة جديدة"، فرد عليه الرسول بقوله: "عليك إذن أن تنتظر عند باب الجنة حتى يتم ذلك العمل"(19).

وتم العمل فعلاً في عام 1626.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: رفائيل الشاب

نشأته

لما مات برامنتي عين ليو العاشر خلفاً له في منصب المشرف على العمل في كنيسة القديس بطرس الجديدة مصوراً شاباً في الحادية والثلاثين من عمره، ينوء لصغر سنه بعبء ذلك العمل الضخم، وهو إقامة قبة برامنتي، ولكنه أصبح أسعد الفنانين في التاريخ كله، وأعظمهم نجاحاً، وأقربهم إلى القلوب. وبدأ الحظ يبسم له من يوم أن ولد لجيوفني ده سانتي Giovanni de' Santi حامل لواء المصورين في أربينو في ذلك الوقت. وقد بقيت لدينا صور من عمل جيوفني، وهي توحي بأنه ذو ذكاء عادي؛ ولكنها تدل على أن رفائيل- وهو اسم أجمل الملائكة جميعاً- نشأ محباً أعظم الحب للتصوير؛ وكثيراً ما كان بعض الفنانين يزورون جيوفني ويقيمون في منزله. وكان جيوفني ملماً بفن زمانه إلماماً يمكنه أن يكتب في تاريخ أربينو المقفى كتابة تنم عن العقل والذكاء في أكثر من عشرة من المصورين والمثالين الإيطاليين وأمثالهم من الفلمنكيين. وتوفى جيوفني ولما يتجاوز رفائيل السابعة من عمره، ولكن يلوح أن الأب كان قد بدأ يغرس حب الفن في نفس ولده. وأكبر الظن أن تيموتيو فيتي Timoteo Viti، وكان قد عاد من بولونيا إلى أربينو في عام 1405 بعد أن درس مع فرانتشيا Francia، واصل تعليم رفائيل، وجاء إليه بما كان قد أخذه عن فرانتشيا، وتورا، وكستا. ونشأ الغلام في تلك الأثناء في محيط من يستطيعون الاتصال بالبلاط؛ وكان المجتمع الرقيق الظريف الذي وصفه كستجليوني بعدئذ في كتابه المسمى رجل الحاشية قد أخذ ينشر بين الطبقات المتعلمة في أربينو دماثة الخلق، ورقة الأدب، والحديث، وهي الصفات التي أظهرها رفائيل بفنه وحياته. وفي المتحف الأشمولي Ashmolean Museum بأكسفورد صورة عجيبة تعزى إلى رفائيل في الفترة الواقعة بين عامي 1497 و 1500، وتظن الرواية المتواترة أنها تمثله هو. ووجهه في هذه الصورة يكاد يكون وجه أنثى، أما عيناه فرقيقتان كعيون الشعراء. وهذه هي المعارف التي سنلتقي بها مرة أخرى فيما بعد، وسنلتقي بها أكثر قتاماً وفيها القليل من القلق والبلبال، في الصورة الجذابة التي رسمها لنفسه (في عام 1506 في الغالب) والمحفوظة في معرض بتي Pitti.

فليتصور القارئ ذلك الشاب كما تظهره الصورة الأولى وهو ينتقل في السادسة من عمره من أربينو التي يسودها الهدوء والنظام إلى بروجيا كان فيها بروجينو الذي طبقت شهرته جميع أنحاء إيطاليا؛ وأحس أعمام رفائيل الذين كانوا يتولون أمره أن مواهب الشاب البادية للعيان خليقة بأن تتلقى التعليم من أعظم المصورين في إيطاليا. وكان يسعهم أن يرسلوه إلى ليوناردو في فلورنس حيث يستطيع أن يتشرب ما في فن ذلك الأستاذ من نزعة للغموض والخفاء؛ ولكن الفنان الفلورنسي العظيم كان يتصف بشيء خاص به، شيء غير مألوف أو، بعبارة أخرى، شيء يساري، شيء مشئوم- في عشقه- لا يروق في أعين كل الأعمام الصالحين. يضاف إلى هذا أن بروجيا كانت أقرب إلى أربينو من فلورنس، وأن بروجينو كان عائداً من بروجيا (1499) ومعه جميع الحيل التطبيقية(2) التي يعرفها المصورون الفلورنسيون ويطبقونها في يسر ودون كلفة. وهكذا ظل الغلام الوسيم ثلاث سنين يعمل عند بترو فانوتشي Pietro Vannucci، ويساعده في زخرفة الكمبيو Cambio، حتى ألم بجميع أسراره، وعرف كيف يصور العذارى زرقاء خاشعة كعذارى بروجيو نفسه. وكانت تلال أمبريا Umbria، وخاصة ما كان منها فوق أسيسي وحولها، زالتي كان في وسع كما أرجو أن يبصرها من هضبة بروجيا، وكانت هذه التلال تمد المعلم والطالب وفيض كامل من الأمهات الساذجات الوفيات ذوات الشباب الجميل، ولكن الجو الفرنسيسي الذي يستنشقنه كان يصوغهن فيجعل منهن أمهات تقيات موثوق بتقواهن.

ولما عاد بروجينو إلى فلورنس (1502) بقي رفائيل في بروجيا ووقع عليه عبء المطالب التي نماها أستاذه في تلك البلدة للصور الدينية. ففي عام 1503 رسم لكنيسة القديس فرانسس صورة تمثل تتويج العذراء توجد الآن في الفاتيكان: وفيها يقف الرسل ومعهم مجدلين حول تابوت خال، ويتطلعون إلى أعلى حيث يقف المسيح فوق السحب ويضع تاجاً على رأس مريم، بينما يحييها الملائكة بالعود والرق. وتبدو في هذه الصور شواهد كثيرة على عدم النضوج: فالرؤوس ليس فيها ما يكفي من الانفرادية، والوجوه قليلة التعبير، والأيدي ليست حسنة التشكيل، والأصابع جامدة غير لينة، والمسيح نفسه أكبر بلا شك من أمه الجميلة، وهو يتحرك حركات سمجة كأنه ناشئ حديث التخرج. ولكن رفائيل أظهر في صورة الملائكة الموسيقيين - في رشاقة حركاتهم، وهفهفة أثوابهم، وفي الخطوط الخارجية لمعارفهم- ما سوف يكونه في المستقبل.

ويبدو أن الصورة لاقت نجاحاً؛ وشاهد ذلك أن كنيسة أخرى تدعى كنيسة سان فرانتشيسكو في تشتا دي كاستلو Citta di Castello تبعد نحو ثلاثين ميلاً من بروجيا طلبت إليه أن يرسم لها صورة مثل الصورة السابقة هي صورة الأسبوسالدسيو Sposalizio أو زواج العذراء (المحفوظة في بريرا brera). وتكرر في هذه الصور بعض أشكال الصورة الأولى، وتحذو في شكلها حذو صورة مماثلة لها من عمل بروجينو. ولكن العذراء نفسها تبدو عليها سمات نساء رفائيل ورشاقتهن - في الرأس المائل في تواضع، والوجه الحنون الحيي، والانحناء الخفيف في الكتف والذراع والثياب. ومن خلف العذراء امرأة أكثر منها مرحاً وحيوية، شقراء جميلة. وإلى اليمين شاب في ملابس ضيقة تدل على أن رفائيل قد عكف على دراسة الجسم البشري؛ والأيدي كلها الآن حسنة الرسم وبعضها جميل.

وكان بنتورتشيو قد تعرف حوالي ذلك الوقت برفائيل في بروجيا فدعاه إلى سينا ليكون مساعداً له؛ وفيها رسم رفائيل صوراً تخطيطية، وأخرى تمهيدية، لبعض المظلمات الرائعة التي يقص بها بنتورتشيو في مكتبة الكنيسة أجزاء من قصة إينياس سلفيوس قصصاً خليقة بالبابوات. واسترعت أنظار رفائيل في تلك المكتبة طائفة من التماثيل القديمة الطراز. هي تماثيل ربات الجمال التي جاء بها الكردنال بكولوميني من روما إلى سينا. ورسم الفنان الشاب صورة سريعة لهذه التماثيل، ليساعد بها ذاكرته على ما نظن. ويبدو أنه وجد في هذه الصور الثلاث العارية عالماً مختلفاً، وأخلاقاً مختلفة، عما انطبع في ذهنه في أربينو وبروجيا - عالماً كانت فيه المرأة إلهة مبتهجة من ربات الجمال، بدل أن تكون أم الإله الحزينة، وتعد فيه عبادة الجمال عملاً مشروعاً لا يقل في ذلك عن تعظيم العفة والطهارة. ونما في ذلك الوقت الجانب الوثني من رفائيل، وهو الذي أمكنه في مستقبل الأيام من رسم نساء عاريات في حمام أحد الكرادلة، ووضع فلاسفة اليونان إلى جانب القديسين المسيحيين في حجرات الفاتيكان، وتطور هذا الجانب تطوراً هادئاً ملازماً لتلك الناحية من طبعه وفنه الذين أنتجا فيما بعد صورتي قداس بلسينا Bolsena وعذراء سستيني. وسنجد في صور رفائيل أكثر مما نجده في أي بطل آخر من أبطال النهضة، الإيمان المسيحي والبعث الوثني يعيشان جنباً إلى جنب في سلام وانسجام.

وعاد رفائيل بعد زيارته إلى سينا أو قبل هذه الزيارة بزمن قصير إلى أربينو حيث قضى قليلاً من الوقت؛ وهناك رسم لجويدو بلدو صورتين ترمزان في أغلب الظن لانتصار الدوق على سيزاري بورجيا: وهما صورتا القديس ميخائيل والقديس جورج، وكلتاهما في متحف اللوفر. ومبلغ علمنا أن الفنان لم يفلح قبل ذلك الوقت في تمثيل العمل والحركة مثل ما أفلح رفائيل في هاتين الصورتين؛ فصورة القديس جورج وهو يستل سيفه ليهوي به على الهولة، بينما يقفز جواده على خلفيتيه من شدة الرعب، وتنشب الهولة مخالبها في ساق الفارس، ذلك كله يدهش الناظر بقوته ولكنه مع ذلك يسر العين برشاقته؛ وهكذا بدأ رفائيل الرسام يعرف قدر نفسه.

وتدعوه وقتئذ فلورنس كما دعت من قبله بروجينو ومائة غيره من المصورين الشبان. ويبدو أنه شعر بأنه إن لم يعش فترة من الزمان في تلك الخلية الحافزة التي ديدنها التنافس والنقد، فيتعلم فيها مباشرة وعن كثب آخر تطورات الخطوط والتأليف واللون، في المظلمات والتصوير الزلالي والزيتي، إن لم يفعل هذا وذاك فلن يكون أكثر من رسام إقليمي، موهوب ولكنه محدود المجال، قدر عليه آخر الأمر أن يظل مغموراً في بيته وفي المدينة التي ولد بها. ومن أجل هذا رحل إلى فلورنس في أواخر عام 1504.

وفيها سلك كعادته مسلك الرجل المتواضع، فدرس أعمال النحت القديمة وقطعاً من فن العمارة جمعت في المدينة، وذهب إلى الكارميني Carmine ونقل صور ماساتشيو Masaccio، وبحث عن الصور التمهيدية التي أعدها ليوناردو وميكل أنجيلو لتكون صوراً في قاعة المجلس في قصر فيتشيو. ولعله التقى هنا بليوناردو، وما من شك في أنه خضع وقتاً ما إلى تأثير هذا الأستاذ الذي يحير كل من يخضع له؛ وبدا له وقتئذ أن جميع الصور التي أخرجتها مدارس الفن في فيرارا، وبولونيا، وسينا، وأربينو إذا قيست إلى صورتي عبادة المجوس، وموناليزا، وصورة العذراء والطفل، والقديسة آن بدت وكأنها ميتة لا حياة فيها؛ بل إن عذارى بروجينو لم تكن إذا قيست إليها إلا دمى جميلة، أو فتيات غير ناضجات من بنات الريف وهبن على حين غفلة قداسة غير موائمة لهن. تُرى كيف كانت لليوناردو هذه الرشاقة في رسم الخطوط، وهذه المهارة في تصوير الوجوه، وهذا الإتقان في تمثيل ظلال الألوان؟ وما من شك في أن رفائيل قلد صورة موناليزا في صورة مدالينا دوني Maddalena Doni (المحفوظة في بتي Pitti)، وإن كان قد حذف منها ابتسامتها لأن سيدة دوني لم تكن فيما يبدو تبتسم؛ ولكنه أجاد تصوير جسم السيدة الفلورنسية القوي المتين البناء، ويديها الناعمتين، المكتنزتين، المتخمتين، اللتين تمتاز بهما صاحبات المال المنعمات، ونسيج الثياب الغالي ذي اللون الجميل الذي يكسب هذا الشكل إجلالاً ومهابة. وصور رفائيل في الوقت عينه زوجها أنجيلو دوني Angelo Doni أسمر اللون، يقظاً، صارماً.

وانتقل من عند ليوناردو إلى الراهب بارتولميو، فزاره في صومعته في سان ماركو، ودهش مما شاهده في فن الراهب الحزين من حنان التعبير، وحرارة الشعور، ورقة الخطوط الخارجية، وانسجام التأليف، وعمق الألوان وكمالها. وزار الراهب بارتولميو رفائيل بعدئذ في روما عام 1514 ودهش هو أيضاً كما دهش رفائيل قبله من السرعة التي علا بها شأن الفنان المتواضع حتى بلغ ذروة المجد في عاصمة العالم المسيحي. والحق أن رفائيل قد بلغ هذه الدرجة من العظمة لأنه كان في مقدوره أن يسرق بنفس الطهارة التي كان يسرق بها شكسبير، ولأنه كان بمقدوره أن يجرب وسيلة بعد وسيلة وطرازاً بعد طراز، ويأخذ من كل طراز ما فيه من عناصر ثمينة، ثم يخرج ما أخذه منها مدفوعاً بتحمسه للخلق وللإبداع فيجعل منه أسلوباً لا شك في أنه أسلوبه الخاص دون سواه.

ولقد استحوذ على تقاليد التصوير الإيطالي الفنية جزءاً جزءاً وما لبث أن بلغ بها حد الكمال. وكان في هذه الفترة الفلورنسية (1504-1505، 1506-1507) قد شرع يرسم صوراً تطبق الآن شهرتها العالم المسيحي وغير العالم المسيحي. ففي متحف بودابست Budapest مثلاً صورة شاب -لعلها صورة له هو- له نفس البيرية ونظرة العينين الجانبية التي نشاهدها في صورة معرض بتي. ورسم رفائيل وهو لا يزال في الثالثة والعشرين من عمره صورة مادنا دل غراندوقا Madonna del Granduca أي سيدة الدوق الأكبر (معرض بتي) التي صور وجهها ذا الشكل البيضي الكامل، وشعرها الحريري، وفمها الصغير، وجفونها الشبيهة بجفون نساء ليوناردو وقد خفضتها في حب حزين، نقول إنه صور هذه المعارف ليعارض بها معارضة قوية قناعها الأخضر ورداءها الأحمر. وكان فرديناند الثاني دوق تسكانيا الأكبر يجد من السرور في مشاهدة هذه الصورة ما يحمله على أن يأخذها معه في أسفاره- ومن هنا اشتق اسمها. ولا تقل عن هذه جمالاً صورة مادنا دل كارديلينو Madonna del Cardellino أي سيدة الحسُّون (في متحف أفيزي)، فالطفل المسيح في هذه الصورة آية رائعة من آيات التفكير، ولكن القديس يوحنا، الذي يصل ظافراً بالطائر مقبوضاً عليه يلعب به، بهجة للعقل والعين، ووجه العذراء يمثل تمثيلاً لا يمكن أن ينمحي من الذاكرة حنان الأم الشابة المتسامحة. وقد أهدى رفائيل لورندسو ناسي Lorenzo Nasi هذه الصورة بمناسبة زفافه؛ ولكن زلزالاً حدث في عام 1547 هدم بيت ناسي وحطم الصورة؛ ثم جمعت قطعها بحذق وعناية لا يستطيع أحد معها أن يحدس ما أصابها إلا بيرينسون Berenson بعد أن شاهدها في متحف أفيزي. لكنه كان في صورة السيدة في المرج (المحفوظة في متحف فينا) أقل توفيقاً منه في الصورة السابقة، وإن كان رفائيل يرسم لنا فيها منظراً طبيعياً فذا، مغموراً في ضوء المساء الأزرق الخفيف المتساقط على الحقول الخضراء، والمجرى الأملس المستوي السطح، والمدينة ذات الأبراج، والتلال النائية. وصورة البستاني الجميل (متحف اللوفر) لا تكاد تستحق أن توصف بأنها صورة أجمل السيدات الفلورنسيات. فهي تكاد تكون صورة طبق الأصل من صورة سيدة المرج، وهي تمثل يوحنا المعمدان من أنفه إلى قدمه تمثيلاً مضحكاً سخيفاً، ولا يرفع من شأنها إلا صورة الطفل المثالية وهو واقف بقدميه المكتنزتين على قدم العذراء العارية، رافعاً عينيه نحوها في حب وثقة. وأحسن صور ذلك العهد وأعظمها طموحاً نحو الكمال صورة مادنا دل بلداتشينو (سيدة المظلة) Madonna del Baldacchino (المحفوظة في معرض بتي)- وفيها ترى الأم العذراء جالسة فوق مظلة، يفتح طياتها ملكان، ويقف إلى جانبيها قديسان، ويغني عند قدميها ملكان آخران. والصورة كلها عمل تقليدي عرفي سبب شهرتها الوحيد أنها من صنع رفائيل.

وقطع مقامه في فلورنس عام 1505 ليزور بروجيا ويقوم فيها بعملين، أحدهما هو ستار المذبح الذي رسم عليه صورة لراهبات دير القديس أنطونيوس، وهو الآن من أنفس الصور في معرض نيويورك الفني. وفيه نجد العذراء في داخل إطار منحوت نحتاً جميلاً، جالسة على عرش، تشبه "راهبة" وردسورث Wordsworth التي "تتقطع أنفاسها من العبادة"؛ والطفل في حجرها يرفع إحدى يديه ليبارك الرضيع القديس يوحنا؛ وفيها صورتان لسيدتين- هما القديسة تشيتشيليا والقديسة كاترين الإسكندرية- تحيطان بالعذراء. ويرى في مقدمه الصورة القديس بطرس عابساً، والقديس بولس يقرأ، وفي مشكاة في أعلاها يرى الله الأب يحيط به الملائكة، ويبارك أم ابنه ويمسك العالم بإحدى يديه. وفي إحدى اللوحات يصلي المسيح على جبل الزيتون والرسل نائمون، وفي لوحة أخرى ترفع مريم جسم المسيح الميت ومجدلين تقبل قدميه الجريحتين. وإن ما في الصورة من تأليف كامل لأشتاتها، وصورة القديسات التي تأخذ بمجامع القلوب، وهن يفكرن في قلق. والفكرة القوية التي أوحت بصورة بطرس المنفعل، والمنظر الفذ للمسيح وهو على الجبل، كل هذا يجعل هذه الصورة التي رسمت لآل كولنا الروائع التي أخرجها رفائيل لا ينازعها في ذلك منازع. ورسم الفنان في تلك السنة نفسها سنة 1506 صورة أقل من هذه روعة: صورة سيدة (محفوظة الآن في المعرض القومي بلندن) لأسرة أنسيدي Ansidie. فيها ترى العذراء على عرشها الضيق، تعلم الطفل القراءة، وإلى يسارها نقولاس قديس باري Bari في ثيابه الأسقفية الفخمة منهمك أيضاً في الدرس؛ وإلى يمينها يوحنا المعمدان وقد بلغ فجاءة سن الثلاثين بينا رفيقه في اللعب لا يزال طفلاً، وهو يشير بإصبعه التقليدية إلى ابن الله.

ويبدو أن رفائيل سافر من بروجيا إلى أربينو مرة أخرى (1506)، وفيها رسم لجويلدوبلدو صورة أخرى للقديس جورج (توجد الآن في ليينجراد) يمسك هذه المرة برمح، وهو في هذه الصورة فارس شاب وسيم مغطى بالزرد تكشف زرقته البراقة عن ناحية أخرى من براعة رفائيل. وأكبر الظن أنه في هذه الزيارة نفسها قد رسم لأصدقائه أكثر صوره الذاتية شهرة (معرض بتي)، وفيها يلبس بيرية سوداء فوق عذائر من الشعر الطويل الأسود؛ ووجه لا يزال في نضرة الشباب، لم يظهر فيه بعد أثر لشعر اللحية؛ وأنف طويل، وفم صغير، وعينين رقيقتين - وقصارى القول أن الوجه كله من الوجوه التي تطالعنا في كل حين وهو أشبه ما يكون بوجه كيتس Keats - ويكشف عن روح طاهرة ناضرة مرهفة الحس بكل ما في العالم من جمال.

وعاد إلى فلورتس في أواخر عام 1506، وفيها رسم بعض صوره الأقل من الصور السابقة شهرة ومنها الصورة المعروفة باسم صورة نقوليني كوبر "Niccolini Cowper"، وهي صورة العذراء والطفل (واشنجتن). وسبب تسميتها بالاسم الأول أن إيرل كوبر الثالث فر بها من فلورنس خلسة مخبأة في بطانة فرش عربته. وليست هي من أحسن صور رفائيل، ولكن أنردو ملون Andrew Mellon ابتاعها بمبلغ 850.000 دولار ليضمها إلى مجموعته (1928)(20). وبدأ رفائيل وهو في فلورنس عام 1507 صورة أعظم من هذه كثيراً هي صورة دفن المسيح الموجودة في معرض آل بورجيا. وقد كلفته برسمها لكنيسة سان فرانتشيسكو في بروجيا السيدة أطلنطا بجليوني Atlanta Baglioni التي خرت راكعة فوق ابنها المحتضر في شارع المدينة قبل سبع سنين من ذلك الوقت، ولعلها أرادت أن تعبّر عن حزنها بحزن مريم على ولدها. وقد اتخذ رفائيل صورة بروجيا التي تمثل الوديعة نموذجاً له، فألف بين أجزاء صورته تأليفاً بارعاً لا يكاد يقل في قوته عن تأليف منتينيا Montegna: ففيها يرى المسيح الميت الضامر الجسم يحمله في غطاء شاب متين البنية قوي العضلات ورجل ملتح مجهد؛ وفيها أيضاً صورة رائعة لرأس يوسف الأرمتيائي of Arimathea، وصورة جميلة لمجدلين وهي تنحني فوق الجثة، ومريم أم المسيح فاقدة وعيها في أحضان المحيطات بها من النساء. وقصارى القول أن كل من في الصورة يختلف في موقفه عن غيره، ولكنهم جميعاً قد صوروا تصويراً دقيقاً من حيث تشريح الجسم، ورشيقاً لا يقل عن رشاقة كريجيو، Corregio، وقد امتزجت فيها الألوان الحمراء، والزرقاء، والبنية، والخضراء امتزاجاً ألف منها وحدة متناسقة مشرقة، بين منظر طبيعي جميل شبيه بمناظر جورجيوني تظهر فيه صلبان جلجوثا Golgotha الثلاثة تحت سماء المساء. وتلقّى رفائيل وهو في فلورنس عام 1508 دعوة غيرت مجرى حياته. ذلك أن فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الجديد كان ابن أخي يوليوس الثاني، وكان برامنتي الذي يمت بصلة القرابة البعيدة لرفائيل من المقربين وقتئذ للبابا؛ ويلوح أن الدوق والمهندس أوصيا يوليوس برفائيل، وسرعان ما تلقى المصور الشاب دعوة بالمجيء إلى رومة. وقد سره أن يسافر إليها لأن روما لا فلورنس، كانت وقتئذ المركز المثير الحافز لعالم النهضة. وكان يوليوس قد مل رؤية جويليا فرنيزي تمثل كذباً صورة العذراء على جدران جناح آل بورجيا بعد أن أقام في هذا الجناح أربع سنين، ورغب لذلك أن ينتقل إلى الحجرات الأربع التي كان يسكنها في وقت ما نقولاس الخامس العظيم. وأراد أن تزين هذه الحجرات بصور توائم ما فطر عليه من بطولة وما يبتغيه من أغراض. وسافر رفائيل إلى روما في صيف عام 1508.


رفائيل ويوليوس الثاني 1508-1513

قّلما اجتمع في مدينة عدد من الفنانين العظام منذ أيام فيدياس مثل العدد الذي اجتمع منهم في روما في تلك الأيام. لقد كان فيها ميكل أنجيلو يحفر صوراً للقبر الضخم المنشأ ليوليوس، كما كان ينقش سقف معبد سستيني، وكان برامنتي، يخطّط كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ والراهب جيوفني فنان فيرونا البارع في الحفر على الخشب يحفر أبواباً وكراسي، ومقاعد للحجرات؛ وكان بيروجينو، وسنيوريلي، وبرودسي، وسودومان ولتو، وبنتورتشيو، كان هؤلاء قد نقشوا بعض الجدران؛ وكان أمبروجيو فبا Ambrogio Foppa المسمى كردسا Caradossa تشيليني زمانه بصنع الذهب على اختلاف أشكاله.

وعهد يوليوس إلى رفائيل بنقش حجرة التوقيعات Stanza della Sewnatora التي سميت بهذا الاسم لأن البابا كان يستمع فيها لاستئناف الأحكام ويوقع العفو عمن صدرت عليهم أحكام نهائية. وقد سرته النقوش الأولى التي قام بها هذا الشاب في هذه الحجرة، ورأى فيه عاملاً له ممتازاً طيعاً، في مقدوره أن ينفذ الأفكار العظيمة التي يمتلئ بها ذهن البابا؛ وبلغ من هذا السرور أن فصل من خدمته بروجينو، وسنيوريلي، وسودوما؛ وأمر أن تغطى رسومهم بالجير، وعرض على رفائيل أن ينقض هو جميع جدران الحجرات الأربع. غير أن رفائيل أقنع البابا بأن يحتفظ ببعض الأعمال التي قام بها الفنانون الأولون؛ لكن معظم هذه النقوش غطيت حتى تكون للنقوش الكبرى وحدة التفكير والتنفيذ. ونال رفائيل على نقش كل حجرة 1200 دوقة (15.000 دولار)، وقضى في الحجرتين اللتين نقشهما ليوليوس أربعة أعوام ونصف عام؛ وبلغ وقتئذ السادسة والعشرين من العمر.

وكان تصميم حجرة التوقيعات فخماً سامياً؛ فقد كان المراد من النقوش أن تمثل اتحاد الدين والفلسفة، والثقافة القديمة والدين المسيحي؛ والكنيسة والدولة، والأدب والقانون، اتحاد هذه كلها في حضارة النهضة. ولعل البابا هو الذي تصور الفكرة العامة، واختار الموضوعات بعد استشارة رفائيل وعلماء بلاطه - إنغيرامي Inghirami وسادوليتو Sadoleto ثم بمبو وبينا Bibiena فيما بعد. وقد رسم رفائيل، في نصف الدارة الكبرى التي يكونها أحد الجدران الجانبية، الدين ممثلاً في أشخاص الثالوث والقديسين، اللاهوت في صورة أباء الكنيسة وعلمائها وهم يبحثون طبيعة الدين المسيحي مركزاً في عقيدة العشاء الرباني. وفي وسعنا أن ندرك هذا من الدراسات الثلاثين المبدئية التي قام بها لكي يستعد لرسم صورة النقّاش في موضوع العشاء الرباني. فقد درس لهذا الغرض صورة يوم الحساب التي رسمها الراهب بارتولميو في كنيسة سانتا ماريا نوفا في فلورنس، والصورة التي رسمها هو لعبادة الثالوث في كنيسة سان سفيرو في بروجيا، وعلى أساس هاتين الصورتين وضع خطته.

وكانت النتيجة التي تمخض عنها هذا العمل منظراً كاملاً فخماً رائعاً، يكاد يحيل أكثر المتشككين عناداً إلى رجل مؤمن بأسرار الدين. وقد رسم في قمة العقد خطوطاً متشععة تتقارب حتى تجتمع إلى أعلى، ويخيل معها إلى الناظر أن الصور العليا تنحني إلى الأمام؛ أما في أسفل العقد فإن الخطوط المجتمعة في الطور الرخامي تكسب الصورة عمقاً. وفي القمة يرى الله الأب - في صورة إبراهيم الوقور الرحيم - يمسك الكرة الأرضية بإحدى يديه، ويبارك المنظر باليد الأخرى. ويجلس الابن أسفل منه، عرياناً إلى وسطه، كأنه في قوقعه؛ وإلى يمينه مريم خاشعة متعبدة، وإلى يساره المعمدان وهو لا يزال ممسكاً بعصا الراعي يتوجهها الصليب، وأسفل منه يمامة تمثل الروح القدس وهو الشخص الثالث من الثالوث المقدس؛ فكأنك ترى في هذه الصورة كل شيء. وجلس على سحابة زغبية حول المسيح المنقذ أثنا عشر شخصاً عظيماً ممن ورد ذكرهم في العهد القديم أو التاريخ المسيحي: آدم في صورة رجل رياضي كأشخاص ميكل أنجيلو، يكاد يكون عارياً من الثياب؛ وإبراهيم؛ وصورة فخمة لموسى، وفي يده ألواح الشريعة؛ وداود ويهوذا مكابيوس، وبطرس، وبولس، والقديس يوحنا يكتب إنجيله؛ ويوحنا الأكبر، والقديس اسطفانوس، والقديس لورنس، وشخصان آخران لا تعرف هويتهما على وجه التحقيق، وبين هؤلاء جميعاً وفي السحب يقفز ملائكة من مختلفي الطبقات والأصناف يدخلون في هذه السحب ويخرجون، ومنهم من يدورون الهواء على أجنحة الأغاني. ويفرق هذا الجمع السماوي ويضمه ملكان في الحشد الأرضي الأسفل منه يمسكان بالإنجيل، ومسهدة تحتو يعلى القربان المقدس. وتجتمع حول هذا المشهد طائفة مختلفة من رجال الدين لتبحث المشاكل اللاهوتية: وتضم هذه الطائفة القديس جيروم، ومعه ترجمته اللاتينية للإنجيل وأسده؛ والقديس أوغسطين يملي كتابه مدينة الله؛ والقديس أمبروز في ثيابه الأسقفية، والبابا أنكليتس Anacletus والبابا إنوسنت الثالث؛ والفلاسفة أكويناس وبنا فنتورا، ودنزاسكوتس؛ ودانتي العنيد، متوجاً بما يشبه الشوك؛ والراهب أنجيلكو الظريف وسفنرولا المغضب (وتمثل صورته انتقاماً آخر ليوليان من الإسكندر السادس)؛ وأخيراً نجد في ركن من الصورة برامنتي صديق رفائيل وحاميه أصلع الرأس دميم الخلقة. وقد وصل الفنان الشاب في جميع هذه الصور البشرية إلى درجة مدهشة من الانفرادية، جعلت كل وجه من وجوههم ترجمة لصاحبه لا يرى العقل ما يمنعه من قبولها؛ وخلع على كثيرين منهم كرامة فوق الكرامة الآدمية تسمو بالصورة كلها وبالموضوع كله وتكسبه جلالاً ونبلاً. وأكبر الظن أننا لا نجد في كل ما رسم قبل ذلك الوقت صورة نجحت في تمثيل ملحمة عظيمة العقيدة المسيحية كما نجحت في تمثيلها هذه الصورة.

ولكن هل يستطيع هذا الشاب نفسه، وهو الآن في الثامنة والعشرين من عمره، أن يمثل - بهذه العظمة ذاتها - الدور الذي يضطلع به العلم والفلسفة بين الآدميين؟ إنّا لا نجد دليلاً على أن رفائيل كان واسع القراءة والاطلاع على الكتب؛ لقد كان يتحدث بفرشاته، ويستمع بعينيه، ويعيش في عالم من الأشكال والألوان ليس للألفاظ فيه إلاّ شأن حقير، إلاّ إذا عبرت عنها الأعمال ذات الخطر التي يقوم بها الرجال والنساء.

وما من شك في أنه قد أعد بنفسه لهذا العمل بالقراءة السريعة، وبالانغماس في كتابات أفلاطون وديوجين ليرتيوس، ومارسيلو فنتشينو Marsilio Ficino، وبالحديث القليل ذي الخطر مع العلماء، وذلك لكي يسمو في ذلك الوقت إلى فكرته العليا فيصور مدرسة أثينة - المشتملة على نحو خمسين صورة لخص فيها قروناً غنية بالتفكير اليوناني، جمعها كلها في لحظة خالدة تحت عقد ذي لوحات غابرة في رواق معمد وثني ضخم. وهناك على الجدار وفي مواجهة صورة تأليه الفلسفة مباشرة التي تحتويها صورة الجدل نرى تمجيد الفلسفة: نجد أفلاطون ذا الجبهة الشبيهة بجهد الإله جوبتر، والعينين الغائرتين، وشعر الرأس واللحية الأبيض الطويل المرسل، يرفع إصبعه إلى أعلى مشيراً بها إلى مكانته الكاملة؛ ونرى أرسطو يسير هادئاً ساكناً بجواره وهو أصغر منه بثلاثين عاماً، وسيماً مبتهجاً، يمد يده وراحتها إلى أسفل، كأنه يريد أن ينزل بمثالية أستاذه العليا فيرجعها إلى الأرض وإلى حدود الممكنات؛ وترى سقراط يعد نقط نقاشه على أصابعه، وألقبيادس المسلح يصغي إليه وهو بادي الحب؛ وفيثاغورس يحاول أن يحصر في جداول مؤتلفة متوافقة موسيقى الأكوان، وسيدة حسناء قد تكون أسبازيا؛ وهرقليطس يكتب ألغازاً إفيزيه Ephesian وديوجين وقد رقد عارياً في غير مبالاة على الدرج الرخامية؛ وأرخميدس يرسم أشكالاً هندسية على لوح من الاردواز ليعلم أربعة غلمان مكبين على الدرس؛ وبطليموس الفلكي وزرداشت يتبادلان كرات سماوية؛ وغلاماً إلى اليسار يهرول في اهتمام شديد متأبطاً كتباً، وهو بلا شك يبحث عمن يكتب له ذكرياته، وصبياً مجداً جالساً في أحد الأركان يدون مذكرات، وترى إلى اليسار فيدريجو مانتو ابن إزبلا، ومدلل يوليوس، يطل بنصف عين؛ وترى كذلك برامنتي مرة أخرى؛ ثم نرى رفائيل نفسه متواضعاً مختفياً لا يكاد يرى، وقد طر الآن شاربه. وهناك غير هؤلاء كثيرون نترك للعلماء ممن يتسع وقتهم للنقاش والجدل أن يتناقشوا في حقيقة أشخاصهم، وكل ما نقوله هنا أن مجتمعاً من الحكماء مثل هذا المجتمع لم تضمه من قبل صورة من الصورة، بل لعل أحداً لم يفكر قط في أن تضعه. وأكثر من هذا أن هذه الصورة ليس فيها كلمة واحدة عن الإلحاد، ولا فيلسوف واحد ممن حرق بسبب آرائه؛ بل إن هذا المسيحي الشاب الذي كان يتمتع بحماية بابا أكبر من أن يشغل نفسه بالفروق بين خطأ وآخر، قد جمع فجاءة بين كل أولئك الوثنيين، وصورهم بأخلاقهم وبإدراك عجيب وعطف كبير، ووضعهم حيث يستطيع علماء الدين أن يروهم ويتبادلوا الأخطاء معهم، وحيث يستطيع البابا، خلال الفترات التي بين كل وثيقة وأخرى أن يتدبر سير التعاون بين أفكار البشر ونشأتها. وتمثل هذه الصورة عي وصورة الجدل المثل الأعلى لتفكير النهضة - تمثل عهد الوثنية القديم والدين المسيحي يعيشان معاً مؤتلفين منسجمين في حجرة واحدة. وإذا نظر الإنسان إلى هذه اللوحات المتنافسة في تفكيرها وتأليفها، وفنها رأى فيها ذروة من فن التصوير الأوربي التي لم يرق إليها أحد حتى يومنا هذا.

بقيت بعد ذلك حجرة ثالثة، أصغر من الحجرتين السابقتين تتخللها نافذة يبدو معها أن وحدة الموضوع في الصورة التي ترسم عليها مستحيلة. ولهذا كان من الاختيار الرائع الموفق أن يمثل على سطح هذا الجدار الشعر والموسيقى. وهكذا خفف من ثقل الحجرة المثقلة باللاهوت والفلسفة وأضفى عليها كثيراً من البهجة والآلاء المستمد من عالم الخيال المطرب المنسق، بحيث تستطيع الألحان اللطيفة أن ترسل نغماتها الصامتة خلال القرون في أرجاء تلك الحجرة التي تصدر منها أحكام بالحياة أو الموت لا تقبل نقضاً. وفي مظلم فرناسوس Parnassus هذا نرى أبلو جالساً تحت أشجار الغار على قمة الجبل المقدس يستمد من كمانه الكبير "ترانيم خالية من النغم"؛ وإلى جانبه إحدى ربات الشعر متكئة في رشاقة وراحة، تكشف عن صدرها الجميل إلى القديسين والحكماء المصورين على الجدران المجاورة؛ ونرى هومر ينشد أشعاره السداسية الأوتاد في نشوة المكفوفين ؛ وترى دانتي ينظر في صرامة لا تقبل مسالمة أو مهادنة إلى هذه الزمرة الطيبة من الشعراء والظرفاء؛ وترى سابفو، وهي أجمل من أن تكون لزبية Lesbian، تضرب على قيثارتها؛ وفرجيل وهوراس، وأوفد، وتيبلوس، وغيرهم من المغنين الذين اختيروا ليمثلوا عصوراً متعاقبة، تراهم يختلطون مع بترارك، وبوكاتشيو، وأريستو، وسنادسارو وغيرهم من شعراء إيطاليا الأحداث منهم عهداً والأقل منهم شأناً. وهكذا يوحي الفنان الشاب بأن "الحياة إذا خلت من الموسيقى كانت خطأ من الأخطاء"(21)، وأن نغمات الشعر، وخيالاته قد ترفع الآدميين إلى درجات لا تقل سمواً عن درجات الحكمة القصيرة النظر، واللاهوت وما فيه من وقاحة. وعلى الجدار الرابع الذي تخترقه أيضاً نافذة كرَّم رفائيل مكانة القانون في الحضارة. فقد صور في مشكاة صورة تمثل الفطنة، والقوة، والاعتدال؛ وصور على أحد جانبي النافذة القانون المدني في صورة الإمبراطور جستنيان ينشر مجموعات القوانين، وعلى جانبها الآخر القانون الكنسي في صورة البابا جريجوري العاشر ينشر المراسيم البابوية. وأراد هنا أن يتملق سيده المحنق الغاضب فصور جريجوري في صورة يوليوس، وكانت هذه أيضاً صورة قوية ذات روعة. ورسم الفنان في دوائر السقف المزخرف، وأشكاله السداسية ومستطيلاته، آيات صغيرة من آياته الفنية مثل حكم سليمان وأشكالاً رمزية تمثل اللاهوت والفلسفة، وفقه القانون، وعلم الهيئة، والشعر. وبهذه الصور وأمثالها من النقوش على الأصداف وبعض المدليات التي تركها سووما تمت زخرفة حجرة التوقيعات.

وأفرغ رفائيل في هذا العمل كل ما كان له من جهد، ولم يبلغ بعد قط ما بلغه فيه من مستوى رفيع ممتاز، ولهذا فإنه حين بدأ في عام 1511 يزخرف الحجرة الثامنة التي تسمى الآن حجرة إليودورو باسم أهم صورة فيها، بدا أن الإلهام التصوري للبابا والفنان قد فقد قوته وناره. ولم يكن من السهل أن ينتظر من يوليوس أن يخصص جناحه كله لتمجيد الاتحاد بين الثقافة الرومانية واليونانية القديمة وقتئذ أن يخصص عدداً قليلاً من الحجرات لتخليد ذكريات من الكتب المقدسة وقصة المسيحية. ولعله أراد أن يركز إلى ما يتوقعه من طرد الفرنسيين من إيطاليا، فاختار لإحدى نواحي الحجرة الوصف الحي الواضح الموجود في كتاب المكابيين الثاني والذي يقول إن هليودورس وجماعته الوثنيين حاولوا اختلاس كنوز معبد أورشليم (186 ق.م) فهجم عليهم ثلاثة من الملائكة المحاربين. ونرى في هذه الصورة الكاهن الأكبر أنياس Onias راكعاً عند المذبح أمام خلفية معمارية من العمد العظيمة، واللوحات الغائرة، يطلِب العون من الله. وإلى اليمين ملاك راكب شديد الغضب يدوس القائد السارق، ويتقدم منقذان سماويان غيره ليهاجما الكافر الساقط، الذي تتناثر على الأرض نقوده المسروقة. وإلى اليسار يجلس يوليوس الثاني جلال هادئ يرقب طرد الغزاة، ويحتقر الفنان بوضعه هذا الدقة التاريخية احتقاراً لا يسعنا إلاّ أن نشهد له بالسمو في التفكير. ويختلط عند قدميه جماعة من النساء اليهوديات برفائيل (وهو الآن رجل ملتح وقور) وبصديقيه مركنتونيو رايمندي Morcantonia Raymondi الحفار، وجيوفني دي فلياري Giovanni di Foliari أحد أمناء البابا. ولا يرتفع هذا المظلم إلى الدرجة التي يرتفع إليها مظلم الجدل أو مدرسة أثينة؛ فقد خصص كله تخصيصاً واضحاً لا خفاء فيه لتمجيد حبر واحد من الأحبار وموضوع واحد سريع الزوال، مضحياً في ذلك بالوحدة في التأليف؛ ولكنه مع ذلك آية فنية بلا ريب، تنبض بالعمال، ذات فخامة معمارية، ويكاد ينافس ميكل أنجيلو في إظهار التشريح العضلي وقت الغضب.

وصور رفائيل على جدار آخر قداس بلسينا Bolsena. فقد حدث حوالي عام 1263 أن ارتاع قسيس بوهيمي من بلسينا (القريبة من أرفيتو)، كان يرتاب في أن الخبز المقدس يتحول حقاً إلى جسد المسيح ودمه، إذ رأى نقطاً من الدم تنضح من الخبز الذي كرسه تواً في القداس. وأراد البابا إربان الرابع أن يخلد هذه المعجزة فأمر ببناء كتدرائية في أرفيتو، كما أمر بأن يحتفل في كل عام بعيد الجسد الطاهر. ورسم رفائيل هذا المنظر الرائع رسماً رائعاً عظيماً، ترى فيه نظرات القس المرتابة في الخبز المقدس ينضح منه الدم، والقندلفت الذي خلفه يدهش من هذا المنظر؛ وفي أحد الجوانب نساء وأطفال وفي الجانب الآخر الحرس السويسري، وهؤلاء يعجزون عن رؤية المعجزة، فلا يتحركون. ويبدو عجزهم عن هذا التحرك واضحاً لا خفاء فيه. ويحدق الكردنالات رباريو واسكنر Schinner وغيرهما من رجال الكنيسة في هذا المنظر إحداقاً تمتزج فيه الدهشة بالرعب. وفي الجهة المقابلة للمذبح يرى يوليوس الثاني راكعاً على مركع نحت عليه صور مضحكة عجيبة يتطلع في مهابة وهدوء، كأنه قد عرف طوال الوقت أن الخبز المقدس سيسيل منه الدم. وإذا نظرنا إلى هذه الصورة من الناحية الفنية حكمنا أنها من أحسن مظلمات الحجر: فقد وزع رفائيل أشخاصه بمهارة حول النافذة التي في الجدار وفوقها؛ وصورهم بثبات في الخطوط وعناية في التنفيذ، وخلع على أجسادهم وثيابهم حدة في العمق وقوة في التلوين. وتمثل صورة يوليوس الراكع البابا نفسه في آخر سنة من حياته. ومع أنه لا يزال هو المحارب القوي الصارم، وملك الملوك الفاجر، فإنك تراه رجلاً أنهكه الكدح والجهد والكفاح تلوح عليه سمات الموت واضحة.

وأخرج رفائيل وهو يقوم بهذه الأعمال الكبرى عدة صور للسيدات ذات روح خليقة بالخلود، منها صورة العذراء ذات التاج التي يعود فيها إلى طرازه التقي المتواضع، ومنها مادنا دلا كاسا ألبا Madonna della Casa Alba أي "سيدة البيت الأبيض" - وهي مدرسة طريفة في ألوان قرنفلية، وخضراء، وذهبية، خطوطها كبيرة منسابة كخطوط عرافات ميكل أنجيلو. وقد ابتاع أندرو ملن Andrew Mellon هذه الصورة من حكومة السفيت بمبلغ 1.166.400 دولار. وصورة مادنا دي فولينو Madonna di Foligno المحفوظة في الفاتيكان هي صورة عذراء جميلة وطفلها فوق السحاب، يشير إليها المعمدان المصفر الوجه، ويقدم لها القديس جيروم البدين واهب هذه الصورة: سجسمندو ده كنتي سيد فولينو وروما. ويرقى رفائيل في هذه الصورة إلى مجد جديد في الألوان الزاهية متأثراً في ذلك بنفوذ سبستيانو دل بيمبو Sebastiano del Piombo الفنان البندقي. ومادنا دلا بيستشي Madonna della Pesce أي "سيدة السمك" (المحفوظة في برادو) جميلة في جميع أجزائها: في وجه العذراء ومزاجها؛ وفي الطفل - الذي لم تسم على صورته صورة غيرها من رسم رفائيل، وفي صورة طوبيت الشاب يقدم لمريم السمك الذي ردت صورته قوة البصر لأبيه، وفي ثوب الملاك الذي يقوده، وفي صورة رأس الأب القديس جيروم. وتضارع هذه الصورة من حيث التأليف، واللون، والضوء صورة مادنا سستيني نفسها.

وآخر ما نقوله في هذا المجال أن رفائيل قد ارتقى بالتصوير الملون في هذه الفترة إلى مستوى لم يرق إليه أحد يغره فيما بعد إلاّ تيشيان. لقد كانت الصورة الملونة من نتاج عصر النهضة المميزة له، وهي صورة أخرى من تحرر الفرد تحرراً نبيلاً عزيزاً على النفس في هذا العصر عثر المباهاة والتفاخر. وليست الصور التي رسمها رفائيل كثيرة العدد ولكنها كلها ترقى إلى أعلى مستوى في الفن، ومن أجملها كلها صورة بندو ألتوفيتي. ومنذا الذي تستطيع نفسه أن تحدثه بأن هذا الشاب الظريف، اليقظ رغم ظرفه، الصحيح الجسم النافذ البصر، الجميل جمال الفتيات، لم يكن شاعراً بل كان مصرفياً، وأنه كان من أنصار الفنانين من رفائيل إلى تشيليني؟ وكان هذا الشاب حين صوره رفائيل في الثانية والعشرين من عمره؛ ثم وافته المنية في روما عام 1556 بعد أن بذل جهداً نبيلاً مضنياً جر عليه الوبال ليحفظ به استقلال سينا من اعتداء فلورنس. وكانت هذه هي الفترة التي أخرج فيها رفائيل أعظم صوره على الإطلاق وهي صورة يوليوس المحفوظة في معرض أفيزي (حوالي 1512)؛ ولسنا نستطيع أن نقول إن هذه هي الصورة الأصلية التي خرجت من يد رفائيل، فقد تكون نسخة أخرى منها الصورة احتفظ بها في المرسم، وقد رسم النسخة العجيبة الفذة من هذه الصورة في قصر بتي منافسه الكبير المصور تيشيان. أما الصورة الأصلية فلم يعرف مصيرها بعد.

وتوفي يوليوس نفسه قبل أن تتم صور حجرة إليودورا ولم يكن يدري هل يستطيع إتمام المشروع العظيم مشروع نقش الحجرات الأربع. ولكن كيف يستطيع بابا مثل ليو العاشر المفتن بالشعر وبالفن افتتاناً لا يقل في عمقه عن افتتانه بالدين، أن يتردد في إتمام المشروع؟ وقد قدر للشاب الآتي من أربينو أن يجد في ليو أوفى صديق له، وهكذا عرف صاحب عبقرية السعادة الحية تحت رعاية بابا سعيد أسعد سني حياته.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: ميكل أنجيلو

الشاب: 1475 - 1505

تركنا إلى آخر هذا الباب الحديث عن أحب المصورين والمثالين إلى يوليوس، أي عن الرجل الذي يضارعه في مزاجه ورهبته، وفي قوة روحه وعمقها، أعظم الرجال في السجلات البشرية وأكثرهم حزناً. كان والد ميكل أنجيلو هو لدوفيكو دي بوناروتي سيموني Lodovico di Lionardo Buonerroti Simoni محافظ بلدة كبريسي Caprese الصغيرة القائمة على الطريق الذي يصل فلورنس باردسو، وكان لدوفيكو يقول إنه يمت بصلة القرابة البعيدة إلى كونتات كانوسا Canossa وقد تفضل واحد منهم فاعترف بهذه الصلة؛ وكان ابنه ميكل أو ميخائيل أو ميكائيل يفخر على الدوام بأن في عروقه لتراً أو لترين من دم النبلاء، غير أن البحث الذي لا يرحم قد اثبت أنه مخطئ في هذا(22)".

وكان مولده في كبريسي في السادس من شهر مارس عام 1475، وقد سمي باسم أحد الملائكة الكبار كما سمي رفائيل باسم واحد منهم. وكان ميكل أنجيلو رابع أخوة أربعة؛ وربى بالقرب من محجر للرخام عند ستنيانو Settignano فتنفس بذلك تراب النحت منذ مولده. وقد قال فيما بعد إنه رض الأزاميل والمطارق مع لبن مرضعته(23). ثم انتقلت الأسرة إلى فلورنس حين بلغت سنه ستة أشهر، وفي هذه البلدة تلقى من التعليم ما مكنه فيما بعد من أن يكتب شعراً إيطالياً جيداً. ولم يتعلم اللغة اللاتينية، ولم يخضع كل الخضوع لسحر العهود القديمة كما خضع له كثير من الفنانين في ذلك العصر؛ بل كان ذا نزعة عبرية لا رومانية أو يونانية قديمة؛ وكان في رومة بروتستنتياً أكثر ممّا كان كاثوليكياً.

وكان يفضل الرسم على الكتابة - التي هي - في رأيه إفساد للتصوير. وأسف والده لهذه النزعة، ولكنه خضع لها آخر الأمر، ووضع ميكائيل وهو في سن الثالثة عشرة ليتتلمذ على دمنيكو غيرلندايو Dominico Ghirlandio، أشهر المصورين في فلورنس وقتئذ. وكان العقد يلزم الشاب بأن يقيم مع دمنيكو ثلاث سنين" ليتعلم فن التصوير"؛ على أن يتقاضى أجراً قدره ستة فلورينات في السنة الأولى، وثمانية في الثانية،وعشرة في الثالثة، بالإضافة إلى الطعام والمسكن فيما نظن. وكان الشاب يكمل ما يناله من التعليم على يدي لندايو بأن يظل على الدوام مفتوح العينين أثناء تجواله في فلورنس فيرى في كل شيء تحفة فنية. وفي ذلك يقول صديقه كنديفي Condivi: "فكان لذلك يتردد على سوق السمك، يدرس فيها أشكال زعانفه وظلال ألوانه، وألوان عيونه، وكل ما يتصل به؛ وقد أبرز كل هذه التفاصيل بأعظم ما يكون من الجد والمهارة في صوره"(24).

ولم يكد يتم العام مع غرلندايو حتى اجتمعت عليه الفطرة والمصادفة فحولته إلى النحت؛ وكان له، كما كان لكثيرين غيره من طلاب الفن، أن يدخل بكامل حريته الحدائق التي وشع فيها آل ميديتشي مجموعات التماثيل والعمارة القديمة. وما من شك في أنه قد نسخ صوراً من بعض الألواح الرخامية باهتمام خاص وحذق خاص؛ وشاهد ذلك أنه لمّا أراد لورندسو أن ينشئ في فلورنس مدرسة للنحت، طلب إلى غرلندايو أن يبعث إليه ببعض الطلاب الذين تلوح عليهم مخايل النجابة في هذه الناحية؛ فبعث إليه دمنيكو بفرانتشيسكو جانتشي Franceso Ganacci وميكل أنجيلو بوناروتي. وتردد والد الغلام في السماح له بالانتقال من فن إلى فن، وكان يخشى أن ينتهي الأمر بولده إلى أن يكلف بقطع الحجارة؛ والحق أن ميكائيل قد استخدم بعض الوقت في القيام بهذا العمل، فكان يقطع الحجارة للمكتبة اللورنتية. ولكن الغلام ما لبث أن أخذ ينحت التماثيل. والعالم كله يعرف قصة تمثال فاون الرخامي. وكيف نحت ميكائيل قطعة من الرخام عثر عليها مصادفة في صورة فاون عجوز، وكيف لاحظ لورندسو وهو مار بهذا التمثال أن هذا الشيخ الطاعن في السن يندر أن تكون أسنانه كاملة كما تظهر في التمثال، فما كان من ميكائيل إلاّ أن أصلح هذا الخطأ بضربة واحدة خلع بها سنّاً من فكه الأعلى. وسر لورندسو من إنتاج الغلام وحسن استعداده، فأخذه إلى بيته وعامله فيه معاملة الآباء للأبناء. وظل الفنان الشاب عامين كاملين (1490-1492) يقيم في قصر آل ميديتشي، يطعم دائماً على مائدة واحدة مع لورندسو، وبولتيان،وبيكو، وفنتشينو، وبلشي Pulci، ويستمع إلى أكثر الأحاديث استنارة في السياسة، والأدب، والفلسفة، والفن. وخصه لورندسو بحجرة طيبة، ووظف له خمس دوقات (62.50؟ دولار أمريكي) كل شهر لمصروفه الخاص. وكان كل ما يخرجه ميكائيل من التحف الفنية يبقى ملكاً خاصاً به يتصرف فيه كما يشاء.

ولولا بيترو ترجيانو Pienro Torrigiano لكانت هذه السنون التي قضاها ميكائيل في قصر آل ميديتشي سني نشأة سعيدة في حياة الشاب. وتفصيل ذلك أن بيترو ساءه في يوم من الأيام استهزاء ميكائيل "فما كان مني" (كما قال هو نفسه لسلني) "إلاّ أن قبضت يدي ولكمته لكمة على أنفه أحسست معها أن عظمه وغضروفه قد تحطما تحت عظام أصابعي كأنهما بقسماط هش، وسيحمل اثر ضربتي هذه معه إلى قبره"(25). وهكذا كان؛ فقد كان أنف ميكل أنجيلو يبدو طوال الأعوام الأربعة والسبعين التالية مكسور العرنين ولم يكن هذا الحادث ليرقق من طبعه. وفي هذه السنين نفسها كان سفنرولا يذيع تعاليمه المتزمتة النارية التي يدعو فيها إلى الإصلاح. وكثيراً ما كان ميكائيل يذهب ليستمع إليه، ولم ينس قط تلك المواعظ أو الرجفة الباردة التي كانت تسري في دمه الغض حين تنفذ في سكون الكتدرائية الغاصة بالمستمعين صيحة رئيس الدير الغاضبة معلنة ما سوف يحل بإيطاليا الفاسدة من دمار. وبقى شيء من روح سفنرولا بعد موته في نفس ميكل أنجيلو: بقى منها الرعب مما يراه حوله من فساد خلقي، وكراهيته الشديدة للاستبداد، وشعوره الحزين من سوء المصير. واجتمعت هذه الذكريات والمخاوف فكانت من العوامل التي شكلت أخلاقه، ووجهت مَنحته وفرشاته؛ فكان وهو مستلق على ظهره في نقش معبد يذكر سفنرولا؛ وكان وهو يرسم صورة يوم الحساب يستعيده حياً في خياله، ويقف بإرعاد الراهب وإبراقه خلال القرون.

وتوفي لورندسو في عام 1492 وعاد ميكل بعد موته إلى بيت أبيه وواصل عمله في النحت والتصوير، وأضاف وقتئذ تجربة عجيبة إلى ما تلقاه من تعليم. ذلك أن رئيس مستشفى سانتو أسبريتو (الروح القدس) Santo Spirito سمح له أن يشرح الأجسام البشرية في حجرة خاصة. وبلغت الأجسام التي شرّحها من الكثرة حداً غثيت من معدته، فظلت بعض الوقت لا تستبقي فيها طعاماً أو شراباً. ولكنه تعلم التشريح ولاحت له فرصة سخيفة يظهر فيها علمه هذا حين طلب إليه بيرو ده ميديشي أن يصنع من الثلج تمثال رجل في بهو القصر؛ فأجابه ميكل إلى ما طلب، وأقنعه بيرو بأن يعود إلى الحياة في قصر آل ميديتشي (يناير سنة 1494).

وحدث في عام 1494 أن هرب ميكل أنجيلو في إحدى نوبات اضطرابه الكثيرة إلى بولونيا مخترقاً ثلوج جبال الأبنين. وتقول إحدى القصص إن صديقاً له رأى فيما يرى النائم تحذيراً له من سقوط بيترو؛ ولكن لعل فطنته هي التي نبهته مقدماً إلى هذا المصير؛ ومهما يكن من شيء فإن فلورنس قد لا تكون في هذه الحال مكاناً أميناً لشخص له ما لميكل أنجيلو من الحظوة عند الميديتشيين. وأخذ وهو في بولونيا يعنى عناية كبيرة بدراسة النقوش التي صورها ياقوبو دلا كوبرتشيا على واجهة سان بترونيو؛ ثم طلب إليه أن يتم قبر القديس دمنيك، فنحت له ملكاً رائعاً رشيقاً؛ وانذره في ذلك الوقت مثالو بولونيا المجتمعون في منظمة لهم بأنه، وهو الشخص الأجنبي المتطفل، إذا ظل ينتزع العمل من أيديهم، فإنهم سيتخلصون منه بإحدى الأساليب الكثيرة التي ابتكرها عصر النهضة. وكان سفنرولا في ذلك الوقت قد أصبح صاحب السيادة في فلورنس، وامتلأ جو المدينة بالفضيلة وبالحديث عن الفضيلة. وعاد إليها ميكل في عام 1495.

ووجد فيها نصيراً له في شخص لورندسو دي بيرفرانتشيسكو Lorenzo di Pierfranceso الذي ينتمي إلى فرع آخر من أسرة ميديتشي. وقد نحت له تمثال كيوبد النائم الذي كان له تاريخ عجيب. فقد اقترح عليه لورندسو أن يعالج سطح التمثال حتى يبدو كأنه تمثال قديم؛ ووافق ميكل على هذا الاقتراح؛ ثم بعث لورندسو بالتمثال إلى روما حيث بيع لأحد التجار بثلاثين دوقة، وباعه هذا التاجر إلى رفائلو رياريو Raffaello Riario كردنال ده سان جيورجيو بمائتي دوقة. وبيع بعدئذ إلى سيزاري بورجيا، وباعه سيزاري إلى جويدو بلدو صاحب أربيني؛ واسترده سيزاري حين استولى على تلك المدينة، وأرسله إلى إزبلا دست، ووصفته إزبلا هذه بأنه " لا نظير له بين جميع أعمال الأيام الحديثة"(26). ولسنا نعرف شيئاً من تاريخه بعدئذ. وقد صعب على ميكل، رغم كفاياته المتعددة، أن يكسب قوته بأعماله الفنية في مدينة يكاد عدد الفنانين فيها يبلغ عدد سكانها. ودعاه أحد عمال رياريو إلى روما، وأكد له أن الكردنال سيعهد إليه بعمل، وأن رومة مليئة بأنصار الفن أصحاب الثراء. وهكذا انتقل ميكل أنجيلو في عام 1496 إلى العاصمة وهو مفعم القلب بالأمل، وخص بمكان في بيت الكردنال.وتبين أنرياريو غير كريم؛ غير أن ياقوبو جالو Iacopo Gallo، أحد رجال المصارف عهد إلى ميخائيل أن ينحت تمثالاً لباخوس وآخر لكيوبد. يوجد أولهما الآن في متحف برجيلو Bargello بفلورنس والآخر بمتحف فكتوريا وألبرت بلندن. وتمثال باخوس صورة غير ممتعة لإله الخمر الشاب وهو في حالة سكر شديد؛ ورأس التمثال صغير لا يتناسب مع جسمه، كما يليق بالسكير، ولكن الجسم متقن التصوير أملس ناعم نعومة خنثوية. وكيوبد شاب جاثم أكثر شبهاً بالشاب الرياضي منه بإله الحب، ولعل ميكل أنجيلو لم يسمه بهذا الاسم الذي لا يتفق مع صورته؛ وإذا نظرنا إليه من حيث هو تحفة من تحف النحت حكمنا من فورنا بأنه تحفة ممتازة. فقد ميز فيه الفنان من البداية أو فيما يكاد يكون من البداية، عمله بأن أظهر صاحب التمثال في لحظة من لحظات العمل وفي موقف من مواقفه. ذلك أنه لم يكن كاليونان يفضل في الفن مواقف الراحة وعدم العمل، لا نستثني من ذلك إلاّ تمثال بييتا Pieta؛ ومثل هذا يقال - مع الاستثناء ذاته - عن حب اليونان للتعميم أي تصوير أنماط عامة؛ أما ميكل أنجيلو فكان يؤثر تصوير الفرد خيالياً في فكرته، واقعياً دقائقه؛ ولم يقلد الأشكال القديمة، إلاّ في ملابسها؛ أما بقية أعماله فكانت خاصة به، فهي لم تكن مولداً جديداً للصورة القديمة، بل كانت خلقاً فذاً وإبداعاً على غير مثال يحتذيه.

وأعظم ما أخرجه الفنان أثناء مقامه الأول في روما هو تمثال بييتا وهو الآن أحد الآيات الفنية التي تفتخر بها كنيسة القديس بطرس. وقد وقع العقد الذي أنشئ بمقتضاه هذا التمثال الكردنال جان ده فليير Jean de Villier سفير فرنسا في البلاط البابوي (1498). وكان الأجر المتفق عليه هو 45 دوقة (8525؟دولاراً)؛ والزمن الذي يتم فيه سنة واحدة، وأضاف المصرفي صديق ميكائيل ضمانه الكريم:

أتعهد، أنا ياقوبو جالو، بشرفي إلى السيد المبجل، أن المدعو ميكل أنجيلو سيتم العمل المذكور في خلال عام واحد، وأنه سيكون أجمل عمل في الرخام تستطيع أن تتباهى به روما في هذه الأيام؛ وأن أستاذاً أياً كان في أيامنا هذه لن يستطيع أن يصنع خيراً منه... وأتعهد كذلك بشرفي إلى المدعو ميكل أنجيلو أن الكردنال المبجل سيؤدي الأجر حسب المواد المدونة المبينة في هذا العقد(27).

وإناّ لنجد بعض العيوب في هذه المجموعة الرائعة من صورة الأم العذراء التي تمسك بابنها الميت في حجرها: فالثياب فيها تبدو كثيرة مسرفة في الكثرة، ورأس العذراء صغير لا يتناسب مع جسمها، وهي تمد يدها اليمنى في حركة لا تناسبها، ووجهها وجه امرأة في مقتبل العمر لا يشك أحد في أنها أصغر من ابنها. ويقول كنديفي Condivi إن ميكل أنجيلو رد على هذه الشكوى الأخيرة بقوله:

ألا تعلمون أن النساء الطاهرات يحتفظن بنظارتهن أكثر ما يحتفظ بها غير الطاهرات منهن؟ وأكثر ما يكون هذا في حالة عذراء لم تتسرب إلى قلبها في يوم من الأيام شهوة يمكن أن يتأثر بها الجسم! بل إنّي لأذهب إلى أبعد من هذا فأجازف بالاعتقاد بأن نضرة الشباب الطاهرة، التي احتفظت بها لأسباب طبيعية، ربما فاضت عليها لتقنع العالم بأن الأم عذراء طاهرة إلى غير أجل محدود(28).

ذلك خيال يبعث في النفس السرور خليق بأن نغفر لصاحبه ما فيه من بعد عن المعقول، ولا يلبث معه الإنسان أن يألف الوجه الظريف، الذي لا تمزقه الآلام، والهادئ في حزن صاحبته وألمها، كما يألف صورة الأم المستسلمة لإرادة الله، والتي يعزيها عن آلامه أن تحتفظ في تلك اللحظات الأخيرة بالجسم العزيز الذي طهر من جراحه، وتحرر من عوامل حقده، يرقد فيحجر المرأة التي حملت به ولم يفارقه جماله حتى في ساعة موته. وإنّا لنجد في هذه المجموعة الساذجة كل ما تتضمنه الحياة من لباب، ومآس، وفداء! نجد فيها سلسلة التوالد التي تخلد بها المرأة حياة الجنس البشري، ونجد فيها الموت الذي لا مفر منه والذي هو العقاب المحتوم لكل مولد؛ والحب الذي يسمو بالفناء بما يخلعه عليه من رحمة وحنان ويتحدى كل موت بمولد جديد. ولقد كان فرانسس الأول محقاً حين قال إن هذه الصورة هي أجمل ما أبدعه ميكل أنجيلو على الإطلاق(29)؛ ذلك أنها لم يخرج أحسن منها فنان آخر في تاريخ النحت كله، ولربما جاز لنا أن نستثني من هذا التعميم الفنان اليوناني غير المعروف الذي نحت تمثال دمتر المحفوظ في المتحف البريطاني.

ولم يكن نجاح بييتا سبباً في شهرة ميكل أنجيلو فحسب - وهي شهرة خليقة بأن يستمتع بها كل إنسان، بل إن هذا النجاح قد در عليه المال الكثير الذي كان أله على استعداد لأن يستمتعوا معه به. ذلك أن أباه فقد بسبب سقوط آل ميديتشي المنصب الصغير الذي حباه به لورندسو الأكبر؛ وكان الأخ الأكبر لميكائيل قد دخل أحد الأديرة؛ وأمّا الأخوان الصغيران فكانا فتيين مسرفين، وبذلك اصبح ميكائيل عماد تلك الأسرة، وكان يشكو من هذه الحال التي فرضتها عليه الظروف ولكنه كان كريماً سخياً مع أسرته.

وأكبر الظن أن اضطراب أحوال أسرته المالية هو الذي دعاه إلى فلورنس، فعاد إليها في عام 1501 حيث عهد إليه في شهر أغسطس من ذلك العام نفسه بعمل فذ. ذلك أن مجلس الأعمال (الأبراري Operai) في كتدرائية المدينة كان يمتلك كتلة كبيرة من رخام كراراً ارتفاعها ثلاث عشرة قدماً ونصف قدم، ولكنها ظلت مطروحة على الأرض لا ينتفع بها مائة عام كاملة لعدم انتظام شكلها. وسأل المجلس ميكل أنجيلو هل يستطاع نحت تمثال منها، فوافق على أن يحاول ذلك، ووقع معه مجلس الكنيسة ونقابة الصوف عقد القيام بالعمل وقد جاء فيه: إن الأستاذ الجليل ميكل أنجيلو ... قد اختير لكي يصور، ولينجز ويتم إلى حد الكمال تمثالاً لرجل وهو التمثال المسمى الضخم Il gigante والذي يبلغ ارتفاعه تسع أذرع... على أن يتم العمل في خلال عامين يبدءان من شهر سبتمبر، وأن يتقاضى مرتباً قدره ستة فلورينات في الشهر، وأن يمده المجلس بما يحتاجه لإنجاز هذا العمل من العمال، والخشب وما إلى ذلك؛ وحين يتم صنع التمثال يقدر مستشارو النقابة ومجلس العمال... هل يستحق مكافأة أكثر، على أن يترك هذا لذمتهم(30).

وظل المثال يكدح في هذه المادة القاسية عامين ونصف عام، حتى انتزع منها بجده وبطولته تمثال داود، وانتفع بكل إصبع من ارتفاعها، ثم دعا مجلس العمل في 25 يناير سنة 1504 مجلساً من كبار رجال الفن في فلورنس ليقرروا أين يوضع التمثال الضخم كما كانوا يسمون تمثال داود . وكان المجتمعون هم كوزيموروزيلي Cosimo Roselli، وساندروبتيتشلي، وليوناردو دافنشي، وجليانو وأنطونيو داسينجلو، وفلبينولبي، ودافد غرلندايو، وبروجينو، وجيوفني بفيرو Giovanni Piffero (والدتشليني)، وبيودي كوزيمو. ولم يتفق هؤلاء على المكان، فتركوا ذلك آخر الأمر لميكل أنجيلو، فطلب أن يقام التمثال على رصيف قصر فيتشيو ؛ ووافق مجلس السيادة على هذا الطلب؛ ولكن عملية نقل التمثال الضخم من المصنع القريب من الكنيسة إلى القصر تطلبت أن يعمل في ذلك أربعين رجلاً أربعة أيام؛ وكان لابد من تعلية أحد المداخل بهدم جدار فوقه كي يمر فيه التمثال، وتطلب رفعه في مكانه واحداً وعشرين يوماً أخرى. وظل قائماً في فراغ مدخل القصر المكشوف معرضاً للجو، وعبث الأطفال وللثورة عليه؛ وتقول للثورة لأنه كان بمعنى ما إعلاناً صريحاً للتقدمية المتطرفة، ورمزاً للجمهورية الفخورة التي عادت إلى الوجود ، وتهديداً صارماً للمغتصبين. ولمّا عاد آل ميديتشي إلى السلطة في عام 1513 لم يمسوه بسوء؛ ولكن لما قامت الثورة التي انتزعت السلطة منهم مرة أخرى (1527) سقط عليه مقعد ألقى من إحدى نوافذ القصر فحطم ذراع التمثال اليمني. وجمع فرانتشيسكو سيلفياتي Francesco Salviati وجيورجيو فاساري، وكانا وقتئذ غلامين في السادسة عشرة من العمر، القطع المحطمة واحتفظا بها، وضم عضو آخر من أسرة ميديتشي جاء فيما بعد، وهو الدوق كوزيمو، هذه الأجزاء وثبتها في مكانها. وفي عام 1873 نقل داود بعد جهد جهيد، إلى مجمع الفنون الجميلة Accaademea della Bell Arti بعد أن أثر فيه الجو فشوه معالمه، ولا يزال فيها يحتل مكان الشرف، وهو أحب التماثيل إلى الشعب في فلورنس.

لقد كان هذا العمل من أعمال البطولة،وهو بهذا الوصف لا يمكن أن نوفيه حقه من الثناء، تغلب فيه الفنان بحذق كبير على الصعاب الآلية وإذا ما حكم عليه الإنسان من ناحية الحماسة استطاع أن يجد فيه بعض العيوب! فاليد اليمنى أكبر مما ينبغي أن تكون، والعنق مفرط في الطول، والساق اليسرى أطول في جزئها الذي تحت الركبة مما يليق، والإلية اليسرى ليست متضخمة بالقدر الذي يجب أن تتضخم به أية إلية سليمة. وكان بيروسدريني رئيس الجمهورية يرى أن الأنف مفرط في الضخامة، ويروي فاساري قصة - لعلها مختلفة - تقول إن ميكل أنجيلو صعد سلماً وهو يمسك في يده بعض التراب، وتظاهر بأنه سينحت قطعة من أنف التمثال، وأن يتركه سليماً كما كان، ثم أسقط تراب الرخام من يده أمام رئيس الجمهورية، وأن الرئيس أعلن بعدئذ أن التمثال قد صلح. والأثر العام الذي يحدثه التمثال فيمن ينظر إليه يقطع لسان كل ناقد! فالهيكل الرائع، الذي لم يضخمه ميكل أنجيلو كما ضخم التماثيل التي نحتها لأبطاله المتأخرين، وبنية الجسم المصقول، والمعارف القوية الرقيقة رغم هذه القوة، والخياشيم المتوترة من الاهتياج، والتجهم المنبعث من الغضب، ومظهر العزيمة المشوبة بشيء من الحياء حين يواجه الشاب جالوت الرهيب ويستعد لملء مقلاعه والقذف به - كل هذه أشياء تجعل داود أشهر تمثال في العالم كله إذا استثنينا من ذلك تمثالاً واحداً لا غير . ويرى فاساري أنه "يفوق كل ما عداه من التماثيل قديمها وحديثها لاتينية كانت أو يونانية"(31).

وأدت لجنة الكنيسة إلى ميكل أنجيلو أربعمائة فلورين أجراً لتمثال داود وإذا أدخلنا في اعتبارنا انخفاض النقد فيما بين عامي 1400 و 1500 جاز لنا أن نقدر هذا المبلغ بما يقرب من 5000 دولار حسب قيمة النقد في عام 1952. ويبدو أن هذا أجر قليل لعمل دام ثلاثين شهراً، ونحن نظن أنه قام في خلال تلك المدة بمهام أخرى. والحق أن المجلس ونقابة الحرف قد استخدماه أثناء عمله في نحت تمثال داود في نحت تماثيل أخرى، يبلغ ارتفاع الواجد منها ست أقدام ونصف قدم، للرسل الاثني عشر كي توضع في الكتدرائية. وقد أمهل اثنتي عشرة سنة للقيام بهذا العمل، واتفق على أن يُؤدّى له فلورينان كل شهر، وأن يبني له بيت يقيم فيه من غير أجر. ولم يبق من هذه التماثيل الأخيرة إلاّ تمثال الرسول متي الذي لا يظهر إلاّ نصفه من الكتلة الحجرية كأنه تمثال من عمل Rodin. وإذا نظرنا إليه في مجمع فلورنسي العلمي أدركنا أحسن من ذي قبل ما كان يعنيه ميكل أنجيلو حين عرَّف النحت بأنه الفن "الذي يعمل بقوة الانتزاع"، وما قاله مرة أخرى في إحدى قصائده: "إن مجرد إزالة السطح من الحجر الصلب الخشن يكفي لأن يخلق منه صورة تزيد وضوحاً كلما واصل الإنسان النحت(32)" وكثيراً ما كان يقول عن نفسه إنه يبحث عن الصورة المخبوءة في الحجر، فيزيل سطحه كأنه يسعى للعثور على عامل منجم دفن تحت أنقاض الصخور الهاوية.

ونحت حوالي عام 1505 لتاجر فلمنكي تمثال العذراء الجالسة في كنيسة نتردام في بروج. وقد أثنى على هذا التمثال ثناءً جمّاً، ولكنه من أضعف ما أخرجته يد الفنان - فالثياب بسيطة تخلع على صاحبها الوقار، ورأس الطفل لا يتناسب مطلقاً مع جسمه، ووجه العذراء عابس حزين، كأنها تحس أن كل ما وقع خطأ في خطأ. وأعجب من هذا شكل العذراء في الصورة الملونة التي رسمت (1505) لأنجيلو دوني Angelo Doni. والحق أن ميكل أنجيلو لم يكن يعنى كثيراً بالجمال، بل كان يهتم بالأجسام، ويفضل منها أجسام الذكور، وكان يمثلها في بعض الأحيان بكل ما في أشكالها الظاهرة من عيوب، وفي أحيان أخرى لكي تنقل إلى الناس عظة أو فكرة، ولكنه قلّما كان يهدف إلى التقاط الجمال وحبسه في الحجر الخالد. وهو في هذه الصورة الأخيرة يسيء إلى الذوق السليم بوضعه صفاً من الشبان العارين على سور خلف العذراء. ولسنا نقصد بهذا إنه كان يتحول إلى النزعة الوثنية، فهو يبدو مسيحياً مخلصاً بل قل متزمتاً، غير أن افتتانه بالجسم الآدمي في هذه الصورة قد تغلب على تقواه كما تغلب عليها في صورة يوم الحساب. كذلك كان شديد الاهتمام بتشريح الأجسام في أوضاعها المختلفة، وفيما يحدث للأعضاء، والأطراف، والهيكل، والعضلات حين يغير الجسم وضعه. فهنا مثلاً تتكئ العذراء إلى الخلف، لتتلقى، فيما يبدو الطفل يسلمه لها القديس يوسف من وراء كتفها. والتمثال منحوت نحتاً ممتازاً ولكن الصورة لا حياة فيها، وتكاد تكون تصويراً خالياً من اللون؛ وكثيراً ما قال ميكل أنجيلو إن التصوير لم يكن هو العمل الذي يبرع فيه.

لهذا نعتقد أنه لم يغتبط قط حين دعاه سدريني (1504) ليرسم له نقشاً جدارياً في ردهة المجلس الكبير بقصر فيتشيو، بينا كان بغيضه ليوناردو دافنشي ينقش جداراً مقابلاً له. وكان ميكل أنجيلو يبغض ليوناردو لأسباب كثيرة - لآدابه الأرستقراطية، وثيابه الغالية التي يتباهى بها، واتباعه من الشبان الحسان؛ ولعله كان يبغضه كذلك لأنه كان حتى ذلك الوقت أكثر منه نجاحاً وأوسع شهرة في التصوير. ولم يكن أنجيلو واثقاً من أنه وهو المثال يستطيع أن ينافس ليوناردو في التصوير، ولكنه قرر أ، يجرب حظه وكان ذلك منه دليلاً على الشجاعة. وكانت الصورة التخطيطية الأولية عبارة عن لوحة من الورق على قماش من التيل مساحتها 288 قدماً مربعة. ولم يكد يتقدم بضع خطوات في هذه الصورة التخطيطية حين تلقى دعوة من روما: ذلك أن يوليوس كان في حاجة إلى أحسن المثالين في إيطاليا كلها. واستشاط مجلس السيادة غضباً، ولكنه سمح لميكل أنجيلو بأن يلبي الدعوة. ولعله هو لم يأسف لترك القلم والفرشاة، والعودة إلى العمل المجهد الذي كان يحبه.


ميكل أنجيلو ويوليوس الثاني 1505 - 1513

وما من شك في أنه قد أدرك لأول وهلة أنه سيكون من أشقى الناس مع يوليوس، فقد كانا متماثلين إلى حد كبير. فكلاهما متقلب المزاج ذو أهواء؛ والبابا متغطرس حاد الطبع، والفنان مكتئب فخور. وكلاهما جبار في روحه وهدفه، لا يقر لغيره بالتفوق عليه، ولا يقبل التراضي أو النزول عن بعض مطالبه، يتنقل من هدف عظيم إلى آخر مثله، ويطبع شخصيته على زمنه، ويجد ويكدح بنشاط جنوني إلى حد خيل إلى الناس بعد وفاتهما أن إيطاليا قد خارت قواها فلم تبق لها جهود.

وسار يوليوس على السنة التي جرى عليها الكرادلة منذ زمن بعيد، فأراد أن ينشئ لعظامه تابوتاً يشهد حجمه وفخامته بما كان له من عظمة ويخلدها للأجيال الطويلة من بعده. وكان ينظر بعين الحسد إلى القبر الجميل الذي فرغ أندريا سان سوفينو Andrea Sansovino في كنيسة سان ماريا دل بوبولو. وعرض ميكل أنجيلو أن يكون هذا القبر أثراً ضخماً طوله سبع وعشرون قدماً وعرضه ثمان عشرة، يزينه أربعون تمثالاً: يرمز بعضها إلى الولايات البابوية التي استردت، ويمثل بعضها فنون التصوير، والهندسة المعمارية، والنحت، والشعر، والفلسفة، واللاهوت - أسرها كلها البابا القوي الذي لا تقف قوة ما أمام سلطانه؛ وترمز تماثيل أخرى إلى أسلافه الكبار كموسى مثلاً؛ ومنها يمثلان ملكين، أحدهما يبكي لانتقال يوليوس من الأرض، والآخر يبتسم لدخوله الجنة؛ وفي أعلى هذا النصب الضخم ينشأ تابوت جميل تحفظ فيه رفات البابا المتوفى. واقترح أن تنقش على أوجه هذا النصب نقوش من البرنز تروي جلائل أعمال البابا في الحرب، والحكم والفن. وكان في النية إقامة هذا كله عند منبر كنيسة القديس بطرس، وكان هذا المشروع يتطلب كثيراً من أطنان الرخام، وآلاف الدوقات، ويحتاج نحته إلى عدد كبير من السنين تقتطع من حياة المثال. ووافق يوليوس على المشروع، وأعطى أنجيلو ألفي دوقة ليبتاع بها لرخام المطلوب، وأرسله إلى كراراً وأمره أن يختار منها أحسن عروق الرخام. وأبصر ميكل وهو فيها تلاً مطلاً على البحر، وفكر في أ، ينحت هذا التمثال نفسه في صورة إنسان ضخم، إذا أضيء من أعلاه كان منارة يهتدي بها الملاحون من بعيد؛ غير أن قبر يوليوس أعاده مرة أخرى إلى روما. ولمّا وصلها ما اشتراه من الرخام، ووضع في كومة كبيرة بالقرب من مسكنه بجوار كنيسة القديس بطرس، عجب الناس من ضخامة حجمه وكثرة ما أبتيع من المال، وابتهج لذلك قلب يوليوس.

لكن المسرحية استحالت إلى مأساة. ذلك أن برامنتي كان يحتاج إلى المال ليشيد به كنيسة القديس بطرس الجديدة، فكان ينظر شزراً إلى هذا المشروع الضخم؛ هذا إلى أنه كان يخشى أن يحل ميكل أنجيلو محله فيصبح فنان البابا المقرب إليه؛ ولهذا استعان بنفوذه على تحويل أموال البابا وحماسه إلى غير طريق الضريح المقترح. وكان يوليوس نفسه يعد العدة لشن الحرب على بروجيا وبولونيا (1506)؛ ورأى أن الحرب تتطلب الكثير من المال، وأن الضريح يمكن أن يؤجل حتى تسود السلم. ولم يكن أنجيلو في هذه الأثناء قد أعطى مرتبه، وكان قد أنفق في شراء الرخام كل ما أعطاه يوليوس من المال مقدماً، وأنفق من ماله الخاص ما يحتاجه لتأثيث البيت الذي أعده البابا. ولهذا ذهب إلى قصر الفاتيكان في يوم سبت النور من عام 1506 يطلب المال؛ فقيل له إن عليه أن يعود في يوم الاثنين التالي؛ فلمّا عاد قيل له أن يجيء في يوم الثلاثاء. وأجيب هذا الجواب نفسه في أيام الثلاثاء، والأربعاء، والخميس. ولمّا جاء يوم الجمعة طرد وقيل له في غلظة إن البابا لا يحب أن يراه. فعاد إلى منزله وكتب إلى يوليوس الرسالة التالية: أيها الأب المبارك: لقد طردت اليوم من القصر بناءً على أوامرك؛ ومن أجل هذا أبلغك أنك إذا احتجت إليّ بعد هذه الساعة فعليك أن تطلبني في غير روما(33).

وأمر ميكل أن يبتاع ما اشتراه من أثاث لبيته، وركب الجواد إلى فلورنس، فلمّا بلغ بجيبنسي Poggibonsi لحقه بعض الرسل، ومعهم رسالة من البابا يأمره فيها أن يعود من فوره إلى روما. وإذا كان لنا أن نصدق روايته هو (ولقد كان رجلاً غاية في الصدق والأمانة) فإنه رد على البابا بقوله إنه لن يعود إلاّ إذا وافق البابا على أن يوفي بالشروط التي تفاهما عليها لبناء الضريح، ثم واصل السير إلى فلورنس.

وهناك عاد إلى العمل في الرسم التمهيدي لمعركة بيزا. ولم يختر لموضوعه حرباً حقيقية بالذات، ولكنه اختار لها اللحظة التي دعا فيها فجاءة الجند الذين كانوا يسبحون في نهر الآرنو إلى القتال. ذلك بأن ميكل لم يكن يهتم بالمعارك، بل كان يرغب في أن يدرس ويصور أجسام الرجال العارية في كل وضع من الأوضاع؛ وقد أتاح له هذا الموضوع فرصته المرتقبة؛ فقد أظهر رجالاً يخرجون من النهر، وآخرين يجرون لأخذ أسلحتهم، وغيرهم يحاولون أن يلبسوا جوارب في سوقهم المبتلة، وبعضهم يقفزون أو يركبون الخيل، وبعضهم يعدلون دروعهم، وآخرين يجرون إلى المعركة عراياً كما ولدتهم أمهاتهم: ولم يكن في هذه الصورة منظر طبيعي خلفي، لأن ميكل أنجيلو لم يكن يعنى قط بالمناظر الطبيعية، أو بشيء ما في الطبيعة عدا الأجسام البشرية. ولمّا أتم الصورة التمهيدية وضعها إلى جانب صورة ليوناردو في بهو البابا في كنيسة سانتا ماريا نوفلا؛ وظلت الصورتان المتنافستان فيها مدرسة يتلقى منها دروساً في التصوير مائة من الفنانين أمثال أندريا دل سارتو، وألنسو بيرجويتي Alonso Berrugueet، ورفائيل، وياقوبو سان سنوفينو Iacopo San Sanovino، وبيرينو دل فاجا Perino del Vaga، ومائة غيرهم. ونقل تشيليني Cellini صورة ميكل أنجيلو حوالي عام 1513، ووصفها وصف الشاب المتحمس بقوله إنها:" بلغت من الروعة درجة ليس في كل ما بقى من آيات الفن القديم أو الحديث ما يرقى إلى الذروة التي سمت إليها. ولم يصل ميكل أنجيلو القدسي أيام تقواه فيما بعد إلى نصف الذروة من القوة التي وصّل إليها هذه الصورة، وإن كان قد أتم معبد سستيني العظيم"(34).

تلك مبالغة لا نقول بها نحن. إن الصورة نفسا لم ترسم الرسم النهائي، والرسم التمهيدي قد فقد،ولم يبق من النسخ التي نقلت عنه إلاّ قطع صغيرة. وبينما كان ميكل أنجيلو يعمل في الرسم التمهيدي بعث البابا يوليوس بالرسالة تلو الرسالة إلى مجلس السيادة في فلورنس، يأمره فيها بأن يعيده إلى روما. وكان سدريني يحب الفنان ويخشى عليه إذا عاد إلى رومة، فأخذ يحاور ويداور؛ حتى إذا جاءته الرسالة الثالثة من البابا، رجا أنجيلو أن يلبي الأمر، وقال إن عناده يعرّض السلام بين فلورنس والبابا للخطر. وطلب أنجيلو أن يعطي ضماناً بسلامته يمضيه كردنال فلتيرا Voltera. وحدث في أثناء هذا الأخذ والرد أن استولى يوليوس على بولونيا (نوفمبر سنة 1506)؛ فلمّا تم له ذلك أرسل إلى فلورنس أمراً باتاً صريحاً يطلب فيه قدوم ميكل أنجيلو إلى بولونيا للقيام بعمل هام. وعبر ميكل مرة أخرى ثلوج الأبنين مسلحاً برسالة من سدريني إلى يوليوس يرجو فيها البابا "أن يظهر له حبه، وأن يعامله بالحسنى". غير أن يوليوس قابله وهو عابس مقطب الوجه، وأخرج من الحجرة أسقفاً جرؤ على أن يؤنب الفنان على عدم امتثاله أمر البابا، وعفا عن أنجيلو بألفاظ خشنة غليظة، وعهد إليه بمهمة تتفق مع ما جبل عليه البابا من الصفات فقال: "أريد منك أن تجعل تمثالي ضخماً وأن تصبه من البرونز، وأنا أريد أن أقيمه على واجهة سان بترونيو"(35). وسر ميكل أن يعود إلى فن النحت، وإن لم يكن واثقاً من قدرته على أن ينجح في صب تمثال لشخص جالس يبلغ ارتفاعه أربع عشرة قدماً. وخص يوليوس هذا العمل بأربعة آلاف دوقة، ولكن ميكل أبلغه فيما بعد أنه أنفق المبلغ جميعه عدا أربعة دوقات في شراء المواد اللازمة للعمل، وبذلك لم ينل جزاء له على كدحه سنتين كاملتين في بولونيا سوى هذا الجزاء الضئيل. وكان العمل شاقاً موئساً لا يقل في ذلك عن الجهد الذي وصفه تشيليني والذي تطلبه صب تمثال رسيوس وإقامته في شرفة لكنيسة؛ فقد كتب هذا المثال إلى أخيه بونروتو Buonarroto يقول: "إني أكد ليلاً ونهاراً؛ وإذا اضطررت إلى أن أبدأ العمل كله من جديد، فلست أظن أن حياتي تطول حتى أتمه"(56). وأقيم التمثال في مكانه فوق المدخل الرئيسي للكنيسة في شهر فبراير من عام 1508؛ وعاد ميكل إلى فلورنس في شهر مارس، وأكبر الظن أنه كان يتمنى ألاّ يرى يوليوس مرة أخرى، وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت صهر التمثال كما سبق القول لتصنع منه مدافع.

ولم يكد يفرغ من العمل حتى استدعاه البابا فرجع إلى روما، وساءه أن يعرف أن يوليوس لا يرغب في نحت الضريح العظيم، بل يطلب إليه أن ينقش معبد سكستس الرابع. وتردد ميكل في أن يواجه مشكلتي المنظور والتناسب والتصغير في نقش سقف يعلو فوق الأرض ثماني أقدام وستين قدماً؛ فاحتج مرة أخرى بأنه مثال لا مصور؛ وأوصى باستخدام رفائيل في هذا العمل لأنه أجدر به منه. ولكن البابا لم يأبه لصيته. وأخذ يوليوس يأمره ويتملّقه، ويتعهد بأن يؤجره ثلاثة آلاف دوقة (37.500؟ دولار). وكان ميكل يخشى البابا ويحتاج إلى المال؛ فقبل المهمة الشاقة التي لا توافق هواه، وهو كاره يردد قوله: "ليست هذه صناعتي". وبعث إلى فلورنس يطل بخمسة مساعدين مدربين على الرسم؛ وأنزل المحالات السمجة التي نصبها برامنتي، وأقام محالاته مكانها، وبدأ العمل، فأخذ يقيس ويرسم السقف الذي تبلغ مساحته عشرة آلاف قدم مربعة، ووضع الخطة العامة، ورسم الصور التمهيدية لكل جزء من أجزائه، بما في ذلك البندريلات، والحلي البارزة والهلالية.وقدر عد الأشكال كلها بثلاثمائة وثلاثة وأربعين شكلاً؛ وقام بدراسة أولية كثيرة بعضها دراسات للأحياء. ولمًا أتم إعداد الرسم التمهيدي الأخير حمل فوق المحالات ووضع في السقف؛ متجهاً بوجهه إلى الخارج ملتصقاً بالسطح الذي طلي حديثاً بالجص، كل جزء منه في المكان المقابل له. ثم حفرت خطوط في الجص من فوق الرسوم، ورفعت بعدئذ الصور التمهيدية، وبدأ يلون الرسم.

وظل أنجيلو يعمل في سقف سستيني أكثر من أربع سنين - من مايو عام 1508 إلى أكتوبر 1512. ولم يكن العمل يدوم بلا انقطاع، فقد كانت تتخلله فترات تطول وتقصر يقف فيها مثال ذلك الفترة التي ذهب فيها إلى بولونيا ليلح على يوليوس في طلب المال. ولم يكن يعمل وحده، فقد كان له معاونون يطحنون الألوان، ويعدون الجص، ولعل منهم من كان يرسم أو يلون بعض الأشكال الصغيرة، وإن بعض المظلمات لتدل على أنها من صنع أيد أقل من يديه حذقاً. ولكن الفنانين الخمسة الذين استدعاهم إلى روما سرعان ما فصلوا من العمل؛ ذلك أن طراز أنجيلو في التفكير، والتخطيط، والتلوين، كان يختلف عن طرازهم وعن تقاليد فلورنس اختلافاً رأى معه أنهم يعطلونه أكثر مما يعينونه. هذا إلى أنه لم يكن يعرف كيف يقوم بالعمل مع غيره من الأعوان، وكان من أسباب سلواه، وهو فوق المحالات أنه بمفرده، يستطيع أن يفكر وهو هادئ وإن يكن وهو متألم، ويستطيع أن يحقق بشخصه قول ليوناردو: "إن كنت وحدك كان لك السلطان الكامل على نفسك". وزاد يوليوس الصعاب الفنية بصعاب خلقها بنفسه، وذلك بتعجله إتمام العمل العظيم وإظهاره للناس. وفي وسع القارئ أن يتصور البابا الشيخ، يصعد الإطار الواهن الذي نصب ليؤدي إلى مكان الفنان، ثم يبدي له إعجابه ويسأله في كل مرة: "متى ينتهي العمل؟" فيكون الجواب درساً في الشرف والاستقامة: "سينتهي حين أفعل كل ما أعتقد أن الفن يتطلبه ويراضيه"(37) فيرد عليه يوليوس مغضباً: "أتريد أن أقذف بك من فوق هذه المحالة؟"(38). وخضع أنجيلو فيما بعد لإلحاح البابا واستعجاله فأنزل المحالات قبل أن يصقل العمل الصقل الأخير. وفكر يوليوس وقتئذ في أن من الواجب أن يضاف قليل من الذهب إلى هذا المكان أو ذاك، ولكن الفنان المتعب أقنعه بأن الزخارف الذهبية لا تليق بصور الأنبياء أو الرسل.ولمّا نزل ميكل عن المحالة آخر مرة، كان منهوك القوى هزيل الجسم، شيخاً قبل الأوان. وتقول إحدى القصص إن عينيه لم تكونا تقويان على مواجهة ضوء الشمس لطول ما اعتادتا من الضوء الضعيف في المعبد(39)، كما تقول قصة أخرى إن القراءة وهو ناظر إلى أعلى وقتئذ أيسر له من أن يقرأ وهو يمسك الصفحة تحت عينيه(40).

وكانت الخطة الأولى التي أرادها يوليوس لنقش السقف لا تزيد على تصوير طائفة من الرسل، ولكن ميكل أنجيلو حمله على أن يقبل بدلها خطة أوسع وأكثر نبلاً. ونتيجة لهذا قسم ميكل القبة المحدبة إلى ما يزيد على مائة لوحة بأن صور فيها عمداً تتخللها حليات، وزاد من خداع الأبعاد الثلاثة بإضافة صور لشبان أقوياء يرمقون الأطناف أو يجلسون على تيجان العمد. وصور أنجيلو على اللوحات الكبرى الممتدة على طول قمة السقف حوادث من سفر التكوين: عملية الخلق الأولى تفصل بين الضوء والظلمة؛ والشمس، والقمر، والكواكب تنشأ وتتكون بأمر الخالق الأعظم الذي صور على هيئة إنسان مهيب جليل، صارم الوجه، قوي الجسم، ذي لحية وأثواب تهفهف في الهواء. وفي لوحة أخرى تمتد اليد اليمنى لله العلي الأعلى، وهو هنا أجمل شكلاً وملامح مما هو في الصورة السابقة، ليخلق آدم، ويمسك بيده اليسرى ملاكاً جميل الصورة. وتعد هذه اللوحة أروع ما صوره ميكل أنجيلو. وفي صورة ثالثة يُخرِج الله، وهو الآن رب أكبر في السن تبدو عليه سمات الأبوة، حواء من ضلع آدم؛ ويأكل آدم وحواء فاكهة الشجرة المحرمة، ويطردان من الجنة. ويُعِد نوح وأبناؤه قرباناً يقربان لله ويعلو الطوفان؛ ويحتفل نوح بعيد من الأعياد يُشرب فيه كثير من الخمر. وكل ما في هذه اللوحات مأخوذ من كتاب العهد القديم، وكله من القصص العبري، ذلك أن ميكل أنجيلو من أتباع الأنبياء الذين ينذرون بآخرة العالم، وليس من المبشرين الذين ينشرون إنجيل الحب.

وصور أنجيلو في البندريلات التي فوق كل عقد اثنين من العقود صوراً رائعة لدانيال، وإشعيا، وزكريا، ويوئيل،وحزقيال، وإرميا، ويونان. أما البندريلات الأخرى فقد صور فيها المتنبآت الوثنيات اللاتي يعتقد الناس أنهن بشرن بالمسيح: سيبيل اللوبية الرشيقة، تمسك في يدها كتاباً مفتوحاً يتحدث عن المستقبل؛ وسيبيل القومائية المكتئبة، الشقية، القوية، والمتنبئة الفارسية، العالمة، ومتنبئة دلفي،ومتنبئة أرثريا؛ تلك هي الرسوم الملونة التي تضارع تماثيل فيدياس؛ فالحق أن الإنسان ليظن أن هذه كلها تماثيل لا صوراً ملونة؛ وأن ميكل أنجيلو قد جند للعمل في فن غريب عليه، فأحاله إلى الفن الذي يوائمه. واحتفظ الفنان في المثلث الكبير الذي في نهاية السقف، وفي مثلثين آخرين في النهاية الأخرى بموضوعات العهد القديم، بالحية الفظة في البيداء، وبانتصار داود على جالوت، وبشنق هامان، وبقتل يهوديت لهلوفرينس. ثم صوّر أنجيلو في آخر الأمر مناظر يوضح فيها نسب مريم والمسيح، وكأنه فعل هذا بعد أن أعاد مرة ثانية إلى التفكير يريد أن يذعن لأمر غير راغب فيه.

وليس فذ هذه الصور كلها صورة تضارع في فكرتها، أو رسمها، أو تلوينها،أو طريقتها الفنية صورة مدرسة أثينة لرفائيل؛ ولكنها إذا نظر إليها في مجموعها كانت أعظم عمل قام به أي فنان في تاريخ التصوير كله. ذلك أن الأثر الكلي الناشئ من تكرار التفكير وشدة العناية يفوق كثيراً الأثر الذي ينطبع في الذهن إذا ما نظر الإنسان إلى الحجرات. ففي صورة رفائيل نحس بالكمال الفني الذي وفق صاحبه فيه كل التوفيق، ونرى اجتماع التفكير الديني والمسيح في وداعة ورقة، أما في صورة أنجيلو فلسنا ندرك فقط الدقة العظيمة في مراعاة الأصول الفنية التطبيقية - في المنظور، وطول الأشكال وقصرها، واختلاف المواقف والأوضاع اختلافاً يضارع سواه؛ بل ندرك فوق هذا قوة العبقرية وأثرها في نفوسنا، العبقرية التي تكاد تبلغ من القدرة على الخلق ما تبلغه صورة الله جل شأنه، التي تهب عليها الريح وهي ترفع آدم عن ظهر الأرض.

وهنا أيضاً أطلق ميكل أنجيلو العنان لعاطفته المسيطرة عليه، فجعل موضوع فنه وهدفه الذي يبتغيه هو الجسم الآدمي، وإن كان المكان الذي يعمل فيه هو مصلى البابوات. ولقد كان، كما كان اليونان الأقدمون، أقل عناية بالوجه وما ينطق به، منه بالجسم كله مجتمعاً. وإنّا لنجد سقف سستيني نحو خمسين من الذكور العارين وعدداً قليلاً من النساء العاريات؛ وليس فيه مناظر طبيعية، ولا نباتاً إلاّ في صورة خلق النبات، ولا نرى فيه نقوشاً من الطراز العربي؛ وفيه يصبح الجسم الآدمي، كما هو في مظلمات سنيوريلي في أرفيتو، الوسيلة الوحيدة للزخرف كما هو الوسيلة الوحيدة لتمثيل المعاني والأفكار المجردة. وكان سنيوريلي المصور الوحيد، كما كان ياقوبو دلاكويرتشيا Jacopo della Querica المثال الوحيد، الذي عني ميكل أنجيلو بالأخذ عنه والتعلم منه. وشاهد ذلك أن كل بقعة صغيرة في السقف خلت من تصميم الصورة العامة قد شغلت بصورة إنسان عار، لا يعنى فيها بالجمال بقدر ما يعنى بالقوة والجسم الرياضي. وليس في هذه الصور ما يوحي بالغريزة الجنسية، بل الذي فيها هو الكشف الدائم عن الجسم بوصفه أعلى ما يتجسم فيه النشاط، والحيوية، والحياة نفسها. ولقد احتج بعض ذوي النفوس الضعيفة الحائرة على كثرة ما في بيت الله من الأجسام العارية، ولكننا لا نجد في السجلات ما يدل على أن يوليوس اعترض عليها؛ ذلك أن البابا كان واسع الأفق في تفكيره بقدر ما كان واسعاً في عداواته؛ وكان يدرك عظمة الفن حين تقع عليها عينيه. ولعله كان يفهم أنه لم يخلد اسمه بالحروب التي انتصر فيها، بل خلده بأن أطلق العنان للنزعة القدسية، القوية، العجيبة، التي كانت تضطرب في نفس أنجيلو فاستطاعت أن تلهو في قبة مصلى البابا.

ومات يوليوس بعد أربعة أشهر من إتمام نقوش سقف سستيني؛ وكان ميكل أنجيلو وقتئذ يقترب من ذكرى مولده الثامن والثلاثين؛ وكان قد حمل لواء المثالين الإيطاليين جميعهم بتمثالي داود وبيتا؛ أما بهذا السقف فقد ضارع في التصوير رفائيل أو بزه؛ وكأنه لم يبق أمامه عالم آخر يفتحه؛ وما من شك في أن أحداً من الناس، حتى هو نفسه، قلّما كان يظن أنه سيعيش من الزمان أكثر من خمسين سنة أخرى، وأن أشهر صوره، وأكثر تماثيله نضوجاً، لم تخرج إلى الوجود بعد. وقد حزن لوفاة البابا العظيم، ولم يكن يدري هل يولع ليو بغريزته بالفن النبيل كما كان يولع به يوليوس؛ ولهذا آوى إلى مسكنه يترقب ما له في ذمة المستقبل.