قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 3 ب 8
صفحة رقم : 6712
قصة الحضارة -> النهضة -> مسرح الحوادث الإيطالية -> تسكانيا وأمبريا -> بيرو دلا فرانتشيسكا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثامن: تسكانيا وأمبريا
الفصل الأول: بيرو دلا فرانتشيسكا
إذا ما عدنا الآن إلى تسكانيا وجدنا أن فلورنس قد فعلت ما فعلته باريس في هذه الأيام، فاستحوذت على مواهب الأقاليم التابعة لها، ولم تترك فيها إلا شخصا هنا وشخصاً هناك يستوقفنا في طريق عودتنا إليها، وقد ابتاعت لوكا عهداً باستقلالها الذاتي من الإمبراطور شارل السادس (139)، واستطاعت أن تبقى مدينة حرة إلى أيام نابليون. وكان أهل لوكا يفخرون بكتدرائيتهم الباقية من القرن الحادي عشر، واكن من حقهم أن يفخروا بها، وقد احتفظوا بها بتجديد بنائها المرة بعد المرة، وجعلوها متحفاً حقاً للفنون، وهي الآن متعة للعين والروح بما حوته في مواضع الترنيم من مقاعد جميلة (1452)، وزجاج ملون (1485)، وبصورة عميقة أعظم من صورة العذراء مع القديس استيفن والقديس يوحنا المعمدان (1509)، وبعدد من الصور المتتابعة الجميلة من صنع ماتيو تشفيتالي Matteo Civrtali ابن لوكا نفسها.
وفضلت بستويا فلورنس على الحرية، ذلك أن الصراع بين البيض والسود قد أشاع الاضطراب في المدينة، فلجأت الحكومة إلى مجلس السيادة في فلورنس أن يتولى هو شئونها (1306)، وشرعت بستويا من ذلك الحين تأخذ فنها كما تأخذ شرائعها من فلورنس، وقد صمم فيها جيوفني دلا ربيا giovanni della Robbia وبعض مساعديه (1514-1525) إفريزاً حوى نقوشاً بارزة على الصلصال المحروق البراق لمستشفاها المعروف باسم أسبدالي دل تشيو Ospedale del Ceppo والذي سمي بهذا الاسم لوجود جذع شجرة مجوف يستطيع الإنسان أن يلقي فيه ما يتبرع به للمستشفى. ويمثل هذا النقش "أعمال الرحمة السبعة": كساء العارين، وإطعام الجائعين، والعناية بالمرضى، وزيارة السجون، واستقبال الغرباء، ودفن الموتى، ومواساة الثكلى. لقد كان الدين هنا يتجلى في أحسن مظاهره.
وكانت بيزا قد بلغت من قبل درجة من الثراء استطاعت معها أن تحول جبال الرخام إلى كنيسة كبرى، وموضعا للتعميد، وبرجاً مائلاً. وكانت تدين بهذا الثروة لى موقعها المنيع على مصب الآرنو، ومن أجل هذا أخضعتها فلورنس إلى سلطانها قوة واقتداراً (1405)، لكن بيزا لم تقبل لنفسها هذا الإذلال، فكانت تثور المرة بعد المرة، وحدث في عام 1431 أن طرد مجلس السيادة الفلورنسي من بيزا جميع الذكور القادرين على حمل السلاح، واحتفظ بنسائها وأطفالها رهائن يضمن بهم حسن سلوك الأهلين(1). واغتنمت بيزا فرصة الغزو الفرنسي (1495) لتستعيد به استقلالها، وظلت أربعة عشر عاماً تحارب جنود فلورنس المرتزقين، حتى خضعت آخر الأمر بعد مقاومة عنيفة أبلت فيها بلاء الأبطال، فلما حدث هذا هاجرت كثير من الأسر الكبيرة إلى فرنسا أو سويسرا مفضلة النفي على الخضوع الأجنبي، وكان من بين هذه الأسر آل سمسوندي Sismondi أسلاف المؤرخ الذي روى في عام 1838 بعبارة بليغة قصة تلك الحوادث في كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية. وحاولت فلورنس أن تكفر عن استبدادها بتمويل جامعة بيزا وبإرسال فنانيها لتزيين الكنيسة والميدان المقدس، ولكن شيئاً ما لم يكن ليستطيع أن يأسو جراح تلك المدينة التي تقضي عليها طبيعتها الجيولوجية بالاضمحلال، حتى ولا المظلمات الذائعة الصيت التي صورها بينوتسو جتسولي Benzzo Gozzol في الميدان المقدس لذي يضم رفات الموتى. وكان سبب القضاء عليها أن رواسب نهر الآرنو تدفع ساحل البحر إلى الأمام دفعا تدريجياً لا رحمة فيه ولا هوادة، حتى نشأ من ذلك ثغر جديد في ليفورنو Livorno أو لجهورن Leghorn على بعد ستة أميال مبيزا، ففقدت هذه المدينة مركزها التجاري الممتاز الذي كان سبباً في ثرائها وفي مأساتها جميعاً.
أشتق اسم سان جمنيانو san Gimignano من اسم القديس جمنيان Giminian الذي أنجى القرية البدائية من جحافل أتلا حوالي عام 450 م. وتمتعت المدينة ببعض الرخاء في القرن الرابع عشر، ولكن السر الغنية فيها انقسمت أحزاباً متطاحنة سفاحة، وشادت الأبراج الستة والخمسين الحصينة (التي نقصت الآن إلى ثلاثة عشر) والتي خلعت على البلدة اسمها الذي اشتهرت به زهو سان جمنيانو دلي بلي توري San Gimqnens delle Belle Torri (أي ذات الأبراج الجميلة). وبلغ النزاع بين أحزابها في عام 1353 درجة من العنف أضطر المدينة أن تستسلم للقضاء فترضي بالاندماج في أملاك فلورنس. ويبدو أن الحياة قد بدأت تفارقها من ذلك الحين. نعم إن دومنيكو غرالندايو أذاع شهرة معبد سانتا فينا Santa Fina القائم في كنيسة سانتا أجستينو Santa Ogostino ومناظر من حياة القديس أوغسطين تضارع صور الفرسان التي صورها في معبد آل ميديتشي، وإن بينيدتو دا مايانو Bendetto da Maiano حفر محاريب جميلة لهذه المزارات المقدسة، ولكن التجارة سلكت مسالك أخرى، وافتقرت الصناعة إلى مقوماتها، وانعدم الحافز الذي لابد منه لتقدمها، وظلت سان جمنيانو ساكنة في شوارعها الضيقة، وأبراجها المتصدعة، حتى إذا كان عام 1928 حولت إيطاليا تلك المدينة إلى أثر قومي، واحتفظت بها بوصفها صورة نصف حية لما كانت عليه الحياة في العصور الوسطى. وكانت أرتسو، القائمة على بعد أربعين ميلاً من فلورنس تجاه منبع الآرنو، بقعة حيوية في شبكة الحصون الدفاعية عن فلورنس ومسالكها التجارية. وكان مجلس السيادة الفلورنسي شديد الرغبة في السيطرة عليها، وينصب الفخاخ لإيقاعها تحت هذه السيطرة، فلما كان عام 1384 اشترت فلورنس هذه المدينة من دوق أنجو Anjou، ولم تنس أرتسو قط هذه المهانة. وفيها ولد بتراراك وأريتينو Aretino، وفارساى، ولكنها عجزت عن الاحتفاظ بهم، لأن روحها كانت لا تزال هي روح العصور الوسطى. وقد ذهب لوكا اسبنيلو Luca Spinello، ويسمى هو أيضاً أريتينو Aretino، من أرتسو ليصور في رسوم الميدان المقدس في بيزا مظلمات حبة جميلة تنبض بصدمات المعارك الحربية (1390-1392)، ولكنها تمثل فيما تمثله المسيح ومريم والقديسين تمثيلا ينطق بعظيم التقوى المؤثرة في النفس أعظم التأثير. وقد صور لوكا - إذ جاز لنا أن نصدق فارساي - الشيطان بصورة قبيحة منفرة بلغ من قبحها أن غضب منه الشيطان نفسه فظهر له في حلم وأخذ يؤنبه بعنف مات معه لوكا من شدة الرعب. وفي الثانية والتسعين من العمر(2).
وكانت بلدة بورجو سان سبيلكرو Borgo San Sapolcro تقع على نهر التيبر الأعلى في الشمال الشرقي من أرتسو، وبدا أنها اصغر من أن ينشأ فيها فنان من طراز راق أو أن يقيم بها مثل هذا الفنان. وكان من أبنائها بيرو دي بينيدتو الذي سمى فرانتشيسكا باسم أمه، لأن والده توفي وهي حامل به، فربته في حب وحنان، وهدته إلى تعلم الرياضيات والفن، وأعانته على تعلمهما. ونحن نعلم أنه ولد في بلدة الضريح المقدس، ولكنا نجد أول إشارة له وهو في فلورنس عام 1439. وهذا هو العام الذي أتى فيه كوزيمو بمجلس فيرارا إلى فلورنس. ولعل بيرو قد أبصر الحلل الفخمة التي يرتديها الحبار والأمراء البيزنطيون الذين جاءوا ليتفاوضوا في توحيد الكنيستين اليونانية والرومانية. وفي وسعنا أن نفترض ونحن أكثر من هذا ثقة انه درس مظلمات ماساتشيو Masaccio في نعبد برنكاتشي Berncacci، وكانت هذه هي العادة المألوفة التي لا يكاد يخرج عنها كل طالب فن في فلورنس، وأمتزج ما كان لماساتشيو من هيبة، وقوة، ومراعاة جدية لقواعد المنظور، في فن بيرو بما كان للأحبار الشرقيين من لحى ذات جلال وروعة وجمال.
ولما عاد بيرو إلى برجو (1442) اختير عضواً في مجلس المدينة ولما يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت عهد إليه أول عمل يذكره التاريخ المدون: أن يرسم صورة مارنا دلا مزريكورديا لكنيسة سان فرانتشيسكو، ولا تزال هذه الصورة محفوظة في قصر البلدية، وهي مزيج عجيب من صور القديسين المكتئبين، ومن عذراء نصف صينية تكشف ثياب رحمتها عن ثمان صور، ومن صورة فطنة للملك الأكبر جبريل يعلن إلى مريم البشارة بأمومتها بطريقة شكلية محضة، ومن صورة للمسيح تجعله شخصياً فلاحاً مُثَّل صلبه تمثيلاً واقعياً محزناً، ومن صورة واضحة للأم الحزينة والرسول يوحنا. تلك صورة نصف بدائية، ولكنها قوية ليس فيها شيء من العواطف الجميلة، ولا الزخرف الرقيق، ولا يحاول صاحبها أن يخلع على القصة المفجعة شيئاً من الرقة المثالية، ولكنا نرى أجساماً يعلوها ويستنفذ جهدها عثير الحياة، غير أنها مع ذلك تسمو إلى درجة النبل في آلامها الصامتة، وصلواتها، وغفرانها ذنوب من آذوها.
وانتشر صيته وقتئذ في جميع أنحاء إيطاليا، وانهالت عليه الأعمال فصور في فيرارا (1449؟) صوراً جدارية في قصر الدوق. وكان روجير فان در ويدن Rogier van der Weyden مصور الحاشية في تلك البلدة، وأكبر الظن أن بيرو أخذ عنه شيئاً من أصول فن التصوير باللون الممزوج بالزيت، ورسم في ريمني Rimini (1451) صورة لسجسمندو مالاتيستا Sigismondo Malatesta - الطاغية، والقاتل، ونصبر الفن - وهو واقف وقفة المصلي الخاشع. والى جانبه كلبان فخمان يخففان من رهبة الموقف. ورسم بيرو في أرتسو في فترات مختلفة بين 1452 و 1464 سلسلة من المظلمات تمثل أعلى مستوى وصل إليه فنه، وأكر ما تحدث عنه قصة الصليب الحقيقي، التي تنتهي باستيلاء كسرى الثاني عليه، ثم استرداده وإعادته إلى بيت المقدس على يد الإمبراطور هرقل. ولكن في هذه الصورة مواضع أيضاً لحوادث من امثال موت آدم، وزيارة الملكة سبأ لسليمان، وانتصار قسطنطين على مكنتيوس عند جسر ملفيا. وإن جسم آدم الهزيل وهو يحتضر، ووجه حواء المنهوك وثدييها المتهدلين، وأجسام أبنائهما القوية، وبناتهما التي لا تقل قوة ورجولة عن أجسام البنين، والأثواب الفخم السابة التي ترتديها حاشية ملكة سبأ، ووجه سليمان العميق التفكير الذي تكشف عنه الخداع، والطريقة المدهشة التي يسقط بها الضوء في حكم قسطنطين، والطريقة الفاتنة الخلابة التي يحتفظ بها الرجال والجياد في انتصار هرقل - هذه كلها من أقوى مظلمات عصر النهضة وأعظمها تأثيراً في النفس.
والراجح أن بيرو قد صور في فترات تتخلل هذه الجهود الكبرى ستار المحراب في بورجيا كما رسم بعض صور جداريه في الفاتيكان - وقد غطيت هذه الصور الجداريه فيما بعد بالجير لتفسح مكاناً لفرشاة روفائيل الأعظم منها شأناً. وصور في أربينو عام 1469 أعظم صورة له الإطلاق - وهي الصورة الجانبية التي تستوقف النظر للدوق فيدير يجو دامونتي فيلترو Duke Federigo da Montefeltro وكان أنف فيديريجو قد كسر وخده الأيمن قد جرح في حفلة برجاس: وصور بيرو جانبه الأيسر سليما ولكنه منتفخ بما فيه من شامات، ثم صور النف المعوج صورة واقعية جريئة. كذلك كشف في الصورة عن حقيقة هذا الحاكم بشفتيه المضمومتين وعينيه نصف المغمضتين، ووجه الرزين، فأظهره الرجل الرواقي، الذي خبر حقارة المال والسلطان. غير أننا لا نجد في ملامحه رقة الذوق الذي هدى فيديريجو إلى تنظيم الموسيقى القديمة المزدانة بالرسوم. وقد رسم بيرو معها في الصورة ذات الطيتين المحفوظة في أفيزى صورة جانبية لباتيستا أسفوردسا زوجة فيديريجو، ذات جلال ووقار، ولكنه خلع على الصورتين من الرشاقة ما يجعلهما سخيفتين بحق.
وشرع بيرو في عام 1480 وبهذا بلغ الرابعة والستين من عمره يقسي كثيراً من المتاعب بسب مرض عينيه، ويظن فارساي انه فقد بصره، ولك يبدو انه كن لا يزال قادراً على التصوير الجيد. وكتب في سني الشيخوخة كتاباً دراسياً في فن المنظور ورسالة حلل فيها لعلاقات والنسب الهندسية التي يتطلبا فن التصوير. وتبنى تلميذه لوك بشيولي أفكاره في كتابه النسب الإلهية De divina proptione، ولعل آراء بيرو في الرياضة قد أثرت بهذه الطريقة غير المباشرة في دراسات ليوناردو لهندسة الفن.
ولقد نسي العالم الآن كتب بيرو وكشف صوره من جديد. وإذا ما ذكرنا الوقت الذي كان يعيش فيه، وعرفنا أنه أتم عمله في الوقت الذي بدأ فيه ليوناردو، ولم يسعنا إلا أن نضعه في مصاف كبار المصورين الإيطاليين في القرن الخامس عشر. ولسنا ننكر أن صورة تبدو عديمة الصقل، وأن وجوهها خشنة غليظة، وأن كثير منها يبدو أنه صيغ في قالب فلمنكي، لكن الذي يسمو بها إلى مرتبة النبل هو ما يظهر عليها من مهابة وهدوء، وطلعة وقورة، وقفة رائعة، وما في حركات أصحابها وأعمالهم من قوة مقموعة محتجزة ولكنها مع ذلك مسرحية. والسمة التي تتألق في هذه الصور هي الانسياب والتناسق ألا وهو الأمانة التي دفعت بيرو إلى تمثيل ما أبصرته عينه وأدركه عقله محتقراً بذلك العواطف المتكلفة والتقيد بمثل أعلى لصوره. وكان بعده عن مراكز النهضة الكبيرة مما حال بينه وبين وصوله فنه إلى ما كان خليقاً به أن يبلغه من كمال، وحرم هذا الفن من أن يكون له أثره القوي الكامل فيمن جاء بعده من الفنانين، ومع ذلك فقد كان من بين تلاميذه سنيوريلي Signorelli، كما أنه كان ممن شكلوا طراز لوكا. وكان والد روفائيل هو الذي دعا بيرو إلى أربينو، ومع أن هذه الدعوة جاءت قبل مولد روفائيل بأربعة عشر عاماً، فإن هذا الشاب المحظوظ قد أبصر ودرس بلا ريب ما خلفه بيرو في تلك المدينة وفي بورجيا من صور. كذلك أخذ ميلتسو دا فورلي Melozzo da Forli عن بيرو شيئاً مكن القوة والرشاقة في التصميم، وإن صورة الملائكة الموسيقيين التي رسمها ميلتسو والمحفوظة في الفاتيكان لتذكرنا بالصور التي رسمها بيرو في أحد أعماله الأخيرة - صورة عيد الميلاد المحفوظة في معرض الصور بلندن - تذكرنا بها كما تذكرنا صورة الملائكة المرنمين لبيرو بصورة كنتوريا للوكا دلا ربيا. وهكذا يترك الناس تراثهم لمن يأتون بعدهم - يتركون عملهم، وقوانينهم، ومهاراتهم، ويصبح انتقال هذا التراث نصف أسباب الحضارة ومقوماتها.
الفصل الثاني: سنيوريلي
بينما كان بيرو دلا فرانتشيسكا يرسم روائع صوره في أرتسو دعا لتسارو فرساي Lazzaro Vasari والد جد المؤرخ المعروف بهذا الاسم شاباً من طلبة الفنون يدعى لوكا سنيوريلي ليعيش في بيت أسرة فارساي ويدرس الفن على بيرو. وكان لوكا قد ابصر نور العالم لأول مرة في أقرطونة Cortona التي تبعد نحو أربعة عشر ميلا إلى الجنوب الشرقي من أرتسو (1441). ولم يكن قد تجاوز الحادية عشرة من عمره حين قدم بيرو إلى هذه المدينة: ولكنه بلغ الربعة والعشرين حسن توفي هذا الفنان. وشغف الشاب بفن المصور في هذه الفترة وتعلم منه رسم الجسم العاري رسماً صادقاً لا أثر فيه للتصنع - وبصرامة مرجعها إلى تأثير معلمه، وقوة في الرجولة تنبئ بقوة ميكل أنجيلوا. وكان هذا الشاب يفحص عن الجسم الإنساني أينما استطاع أن يجده، وكان يبحث فيه عن القوة لا عن الجمال، ويبدو أن هذا هو كل مل كان يعنيه. فإذا كان قد صور شيئاً خلاف هذا فقد كان ذلك خروجاً منه عن خطته المرسومة يضيق به ذرعاً وإن ارتضاه إلى حين. وحتى في هذا كان يتخذ الأجسام العارية في بعض الأحيان ليزن بها هذه الرسوم. ولم يجيد تصوير النساء العاريات (إذا كان لنا أن نتحدث في هذا دون أن نراعي الدقة الكاملة) شأنه في ذلك شأن ميكل أنجيلو، فإذا رسمهن لم يلقي في رسمه إلا قليلاً من النجاح، وكان إذا صور الذكور لم يفضل منهم الشبان ذوي الجمال كما كان يفضلهم ليوناردو وسودوما؛ بل كان يفضل الكهول الذين اكتملت رجولتهم وقوية عضلاتهم.
واحتفظ سنيوريلى بهذا الشغف أثناء تنقلاته بين مدن إيطاليا الوسطى يترك فيها الصور العارية أينما ذهب؛ وبعد أن قام ببعض الأعمال في سان سيبلكرو وانتقل منها إلى فلورنس (حوالي عام 1475) ورسم للورندسو صورة مدرسة بان وهي صورة على القماش مزدحمة بالآلهة الوثنية العارية وأهداها له. والراجح أيضاً أنه صور للورندسو صورة العذراء والطفل المحفوظة في معرض أفيزى، وصورة العذراء ممتلئة الجسم ولكنها جميلة، وأكثر ما تتكون منه خليفة الصورة هو الرجال العراة، وقد استمد ميكل أنجيلو منها بعض الإيحاء بصورة الأسرة المقدسة.
ومع هذا فإن هذا المصور الوثني للأجسام العارية قد استطاع أيضاً رسم صورتين تنمان عن التقى والصلاح؛ فصور العذراء في الأسرة المقدسة المحفوظة في معرض أفيزى من أجمل ما أخرجه فن النهضة. وذهب سنيوريلى إلى لوريتو Loreto بدعوة من البابا سكستس الرابع (حوالي عام 1479) وزين حرم سانتا ماريا بصورة جصية ممتازة للمبشرين بالإنجيل وغيرهم من القديسين. ثم نجده بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت في روما يضيف إلى معبد سستينى منظراً من حياة موسى يثير الإعجاب بما فيه من صور الذكور، والاشمئزاز مما فيه من صور النساء. واستدعى بعدئذ إلى بروجيا (1484) فرسم بعض صور جصية صغرى في كتدرائيتها. ويلوح أنه اتخذ أقرطونة موطناً له في ذلك الحين، ورسم فيها صوراً طلبت إليه من أماكن أخرى، ولم يتركها في الغالب إلا لأعمال كبرى في سينا؛ وأفيتو، ورومة، وصور في طرفات دير مونتى أليفيتو Monte Oliveto المقنطرة في شيوزورى Chiusuri القريبة من سينا مناظر من حياة القديس بندكت، وأتم لكنيسة سانت أجيستينو في سينا ستاراً لمحرابها يعد من خير رسومه كلها، ولم يبقى من هذه الصورة إلا جانباها. ورسم بعدئذ لبنديلفو بيروتشى طاغية سينا حوادث من التاريخ أو القصص القديم، ثم انتقل إلى أرفينو ليقوم فيها بخاتمة أعماله الكبرى.
وتفصيل ذلك أن مجلس الكتدرائية ظل ينتظر في غير جدوى قدوم بروجيو ليزين معبد سان بردسيو، وكان قبل دعوته قد بحث في دعوة بنتورتشيو Pintoriccio ورفض هذه الدعوة. فلما كان عام 1499 استدعى سنيوريلى، وطلب إليه أن يتم العمل الذي بدأه الراهب أنجيلكو في المعبد قبل خمسين عاماً من ذلك الوقت. وكان ذلك العمل هو تزيين المحراب المحبب إلى الأهلين في الكتدرائية العظيمة؛ وكان سبب هذا الحب أن قد علقت فوقه صورة قديمة للسيدة دى سان دسيو التي تستطيع (كما يعتقد الناس) أن تخفف آلام الوضع، وأن تدعم الوفاء بين المحبين، والأزواج، وأن تمنع الحمى الراجعة، وتهدئ العاصفة. وكان الراهب أنجيلكو قد رسم على سقف المحراب صوراً تمثل يوم الحساب حوت كل ما يكتنف روح العصفور الوسطى من آمال ومخاوف، ثم رسم سنيوريلى تحت هذه الصور موضوعات أخرى شبيهة بموضوعها تمثل - المسبح الدجال، وخاتمة العالم، وبعث الموتى، والجنة، وهبوط الملعونين إلى الجحيم. غير أن هذه الموضوعات القديمة لم تكن بالنسبة له في واقع الأمر إلا إطاراً يظهر فيه الرجال والنساء العراة الأجسام في مائة من الأوضاع المختلفة، وفي مائة من انفعالات الفرح والألم. ولم يشهد عشر النهضة بعد ذلك الوقت هذه الأكداس من اللحوم البشرية إلا حين أخرج ميكل أنجيلو صورة يوم الحساب. ترى هل كان سنيوريلى يبتهج بتصوير الأجسام الجميلة أو المشوهة، والوجوه الحيوانية أو السماوية، وتجهم الشياطين، وآلام المعذبين حين يتناثر عليهم لهب النار، وتعذيب المذنبين واحداً بعد واحد بتكسير أسنانهم وعظام أفخاذهم بالعصى الغليظة - نقول هل كان سنيوريلى يبتهج بهذه المناظر، أو هل أمر أن يصورها كي يشجع الناس على التقى والصلاح؟ وسواء كان هذا أو ذاك صور نفسه (في أحد أركان صور المسبح الدجال) يتطلع إلى هذا التطاحن بهدوء الرجال الذي نجا من العذاب.
وقضى سنيوريلى ثلاث سنين في رسم هذه المظلمات عاد بعدها إلى أقرطونة ورسم صورة المسبح الميت لكنيسة سانت مرغريتا. لما حملت له الجثة "طلب أن تنضى من ثيابها" كما يقول فاسارى، "وتذرع الصبر الذي ليس عده صبر، ولم يذرف دمعة واحدة، ورسم صورة للجسم كي يستطيع أن يشهد على الدوام في هذه الصورة التي من صنع يده، ما حبته به الطبيعة؛ وسلبته إياه الأقدار القاسية".
وحلت به في عام 1508 نكبة من نوع آخر. ذلك أن يوليوس الثاني عهد إليه هو وبروجينو، وبنتورتشيو، وسودوما أن يزينوا الغرف البابوية في قصر الفاتيكان. وبينما هم قائمون بالعمل إذ أقبل عليهم روفائيل، وسر البابا من مظلماته البدائية سروراً حمله على أن يخصص له كل الحجرات وطرد منها سائر الفنانين. وكان سنيوريلى وقتئذ في السابعة والستين من عمره، وربما كانت يده قد فقدت حذقها وثباتها، بيد أنه رغم هذا صور بعد أحد عشر عاماً من ذلك الوقت ستاراً لمذبح عهدت به إليه شركة سان جيرولامو في أرستو، ونجح في ذلك نجاحاً أكسبه كثيراً من الثناء. ولما فرغ من الصورة جاء الاخوة الشركاء في أقرطونة وحملوا صورة السيدة والقديسين على أكتافهم طوال الطريق إلى أرتسو؛ ورافقهم سنيوريلى، وأقام مرة أخرى في بيت فاسارى. وفيه أبصر جيورجيو فاسارى Giorgio Vasari وهو غلام في الثامنة من عمره، وتلقى منه كلمات مشجعة على دراسة الفن ظل يذكرها أمداً طويلاً. وكان سنيوريلى في صباه شاباً قوى العاطفة سريع الاهتياج، لكنه أصبح في شيخوخته سيداً عطوفاً رحيماً، أوفى على الثمانين من عمره، ويعيش في رخاء لا بأس به في البلدة التي كانت مسقط رأسه. واختير وهو في الثالثة والثمانين من عمره وللمرة الأخيرة في حياته عضواً في مجلس حكام أقرطونة ثم مات في عام 1524.
وبعد، فإن من العلماء الممتازين من يعتقدون أن سنيوريلى لم يبلغ من الشهرة ما تؤهله لها مواهبه، ولكن لعل الحقيقة أنه نال فوق ما يستحق. لقد كان يرسم في يسر، ولقد أدهشنا في دراساته للتشريح، ومواقف النماذج؛ وفن المنظور، وترتيب أجزاء الصورة بحيث يتبين الناظر إليها القريب منها والبعيد؛ وهو يدخل علينا السرور باستخدام الأجسام البشرية في تأليف صورة وتزيينها. وهو حين يرسم صورة السيدات يسمو أحياناً إلى مستوى عال من الرقة، ولقد افتتنت عقول الناقدين الخبيرين بصور الملائكة الموسيقيين في لورنتو. أما في ما عدا هذا فكان هو الداعي إلى إجادة تصوير الجسم بإتقان التشريح؛ فهو لم يخلع عليه رقة بدنية، أو رشاقة شهوانية، أو يمجده بجمال التلوين، أو سحر الضوء والظل، وقلما كان يدرك أن وظيفة الجسم هي أن يكون المظهر الخارجي والأداة المعبرة عن الروح أو الأخلاق الرقيقة التي لا تدركها الحواس؛ وأن الواجب الأسمى للفن هو أن يبحث عن الروح ويظهرها في ثنايا قناعها الجسدي. ولق أخذ ميكل أنجيلو عن سنيوريلى تعظيمه للتشريح إلى حد العبادة، كما أخذ عنه إضاعته الغاية في سبيل الوسيلة؛ ولهذا نراه يكرر في صورة يوم الحساب التي رسمها في معبد سستينى ما في مظلمات أفيتو من جنون عجيب بوظائف أعضاء الجسم ويكررها في الثانية بصورة أكبر منها في الأولى. غير أنه أستخدم في الصور التي رسمها على سقف هذا المعبد نفسه وفي تماثيله جسم الإنسان فجعله لسان الروح الناطق. وقد انتقل فن التصوير على يد سنيوريلى في خطوة واحدة من أهوال فن العصور الوسطى ورقته، إلى مغالاة في الزخرف مغالاة أفقدته روحه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: سيينا وسودوما
كادت سيينا في القرن الرابع عشر تلاحق فلورنس في التجارة والحكم والفن. أما في القرن الخامس عشر فقد أنهكت قواها في أعمال العنف والتعصب الحزبي إلى حد لم تصل إليه أي مدينة أخرى في أوربا، فقد تناوبت على حكم المدينة خمسة أحزاب - أو خمسة تلال Monti كما يسميها أهلها - أسقطت كلا منها ثورة جامحة نفي على أثرها أعضاؤه البارزون واكنوا يبلغون في بعض الأحيان عدة آلاف. وفي وسعنا أن نتبين حدة هذا النزاع من اليمين التي أقسمها حزبان من هذه الأحزاب الخمسة والتي يعلنان بها عزمها على وضع حد لهذا النزاع (1494). ويصف شاهد عيان روعته هذه الحال أعضاء الحزبين مجتمعين اجتماعاً رهيباً في سكون الليل في جناحين منفصلين بكنيستهم الرحبة الخافتة الضوء:
وقرئت شروط الصلح وكانت تملأ ثماني صفحات، وصحبتها يمين من أشد الأيمان رهبة، مليئة بألفاظ المقت واللعن، والحرمان، واستنزال الشر، ومصادرة الأموال، وغيرها من المصائب التي تستك منها المسامع والتي لا ينجي منها شيء حتى القربان المقدس ساعة الموت. بل إنه سيضاعف اللعنات على الذين ينكثون العهد ويحالفون هذه الشروط؛ وإني... لأعتقد أن أحد لم يسمع قط يميناً أشد هولا أو رهبة من هذه اليمين. ثم أخذ الكتبة الواقفين على جانبي المحراب يسجلون أسماء جميع المواطنين وهم يقسمون على الصليبين الموضوعين في كلا الجانبين، ثم يقبله كل اثنين من هذا الحزب وذاك، وتدق أجراس الكنيسة وينشد دعاء "لك الحمد يا رب" مصحوباً بموسيقى الأرغن أثناء تلاوة القسم.
وتمخض هذا النزاع عن قيام أسرة سيطرت على الموقف هي أسرة بيتروتشى. ذلك أن بنفدلفو بيتروتشى نصب نفسه حاكاً بأمره في عام 1497 ولقب نفسه بصاحب الفخامة il magnifico، وعرض أن يهب سينا النظام، والسلم، والحكم الأتوقراطي الصالح الذي سعدت به فلورنس أيام آل مديتشي. وكان بنديلفو هذا على جانب كبير من المهارة، وكان على الدوام ينجو بنفسه من جميع الأزمات بل إنه نجا من انتقام سيزارى بورجيا نفسه؛ وقد ناصر الفنون وكان يميز غثها من ثمينها، ولكنه كثيراً ما كان يلجأ للاغتيال خفية حتى لقد فرح الناس جميعاً بموته (1512)، فلما كان عام 1525 بلغ يأس المدينة درجة لم يسعها معه إلا أن تتقدم للإمبراطور شارل الخامس بأن يضعها تحت حمايته، وعرضت عليه في نظير ذلك خمسة عشر ألف دوقة.
وبلغ فن سينا ذروته خلال فترات الصحو التي سادها السلم، فواصل أنطونيو باريله Antonio Barile تقاليد العصور الوسطى في الحفر العجيب على الخشب، وشاد لورندسو دى مريانو في كنسية فنتجيستا محراباً عالياً على الطراز الروماني الجميل. واتخذ ياقوبو دلا كويرتشيا Jacopo della Quercia لقبه من قرية في مؤخرة سينا. وكان الذي يمده بالمال وهو ينحت تماثيله الأولى هو أرلندو ماليفلتى Orlando Malevalti فأثبت بذلك أنه غير خليق بأن يسمى صاحب "الوجوه الشريرة". ولما أن نفي أرلندو لأنه انضم إلى الجانب الخاسر في النزاع السياسي، غادر ياقوبو سينا لاي لوكا (1390) حيث تصميم قبر فخم لإلاريا دل كاريتو Iliaria del Carretto، وبعد أن ظل فترة من الزمن ينافس دوناتيلو وبرونيلسكو في فلورنس انتقل إلى بولونيا وحفر على باب سان بترونيو Soan Patronio تماثيل ونقوشاً رخامية تعد من أجمل ما صنع في النهضة (1425 - 1428). وشاهدها ميكل أنجيلو في موضعها بعد سبعين عاماً من ذلك الوقت، وأعجب بما تنطق به هذه الصور العارية من قوة ورجولة، وظل وقتاً ما يستمد منها الوحي والحافز. ولما عاد ياقوبو بعدئذ إلى سينا قضى شطراً كبيراً من العشر سنين التالية يعمل في آيته الفنية المعروفة باسم "الفسقية المرحة Fonte Gaia". فنقش على قاعدتها الرخامية صورة العذراء السيدة المدينة الرسمية؛ وصورة حولها الفضائل السبعة الأصلية؛ وأضاف إلى ذلك مناظر من العهد القديم ملأت جزءاً كبيراً من القاعدة، ثم ملأ ما بقى بعد ذلك بصور الأطفال والحيوانات - تشهد كلها بقوة التفكير وحسن التنفيذ الذين يبشران بقدوم ميكل أنجيلو. وأعجبت سيينا بعمله هذا فبدلت اسمه وجعلته ياقوبو ذا الفسقية Jacopo della Fonte وأجازته عليه بألفي كرون ومائتين (55.000 دولار أمريكي؟). ومات في الرابعة والستين من عمره بعد أن أنهكه فنه، وحزن عليه جميع المواطنين.
واستعانت المدينة المعجبة بنفسها طوال الجزء الأكبر من القرنين الرابع عشر والخامس عشر بمائة فنان مختلفي المواطن ليجعلوا كنيستها درة العمارة في إيطاليا، وعين دمينيكو دل كورو Domenico del Coro أحد أساتذة التلبيس بالخشب مشرفاً على العمل في الكتدرائية بين عامي 1413 - 1423، وأخذ هو وامتيو دي جيوفني، ودومنيكو بكافومي Domenico Beccafumi وبنتورتشيو وكثيرون غيرهم يطعمون أرض المزار العظيم بقطع من الرخام تمثل حوادث في الكتب المقدسة حتى أضحت أرض الكنيسة أعجب أرض الكنائس في العالم كله. ونحت انطونيو فدريغي Antonio Federighi لهذه الكنيسة فسقيتين جميلتين للتعميد، وصب لها لورندسو فتشيتا Lorenzo Veccietta صندوقاً للعشاء الرباني من البرنز البراق، وأقام سانو دي ماتيو Sano di Matteo اللجيا دلا ميركندسيا Loggia della Mercanzia في الميدان (1417 - 1438) وحفر فيتشيتا وفيدريجي على واجهات عمدها تماثيل مؤتلفة متناسقة. وشهد القرن الرابع عشر قصراً من أشهر القصور، منها قصور سلميني Salimbeni، وبونسنيوري Buonsignori، وسرتشيني Saracini، وجرتانيلي Grottanelli ...، ووضع برناردو رسيلينو Bernardo Rosselino في عام 1470 رسوماً لقصر أسرة بيكولوميني على الطراز الفلورنسي، وصمم أندريا برينو لأسرة بيكولوميني محراباً في الكنيسة (1481)، وشاد الكردنال فراتشيسكو بكولوميني مكتبة ملحقة بهذه الكنيسة (1495) لتضم الكتب والمخطوطات التي تركها له عمه بيوس الثاني، وأنشأ لورندسو ودي ماريانو لهذه الدار مدخلاً يعد من أجمل مداخل الدور في إيطاليا. وسم بنتو ريتشيو ومساعدوه (1503-1508) على جدرانها، داخل أطر معمارية فخمة رائعة، مظلمات جميلة تبهج النفوس وتمثل مناظر في حياة البابا العالم.
وكان في سينا خلال القرن الخامس عشر عدد كبير من المصورين في المرتبة الثانية من الإجادة، نذكر منهم تاديو برتولي Taddeo Bartoli، ودومينيكو دي برتولو Domenico di Bartolo، ولوندرسو دي بيترو المسمى فيتشتيا، واستيفانو دي جيوفيني، المعروف باسم ساسيتا Sassetta، وساني دي بيترو Sani di Pietro، وماتيو دي جيزفني، وفرانشيسكو دي جيورجيو، وقد واصلوا جميعاً التقاليد الدينية القوية في الفن السينمائي، فكانوا يصورون موضوعات تدل على التقي والخشوع، وقديسين مكتئبين، وكثيراً ما يصورونهم في لوحات جامدة مزدحمة كثيرة الطيات كأنهم يريدون أن يطيلوا حياة العصور الوسطى إلى أبد الدهر. وقد أسترد ساسيتا شهرته حديثاً بفضل نزوة عارضة من نزوات الناقدين، وكان قد صور بخطوط وألوان ساذجة موكباً رائعاً من مواكب المجوس وأتباعهم يتحركون في ثبات ووقار مجتازين ممرات الجبال إلى مهد المسيح. ووصف في صورة رشيقة ثلاثية الطيات مولد العذراء، وفي صورة أخرى وصف ترحيب القديس فرانسس بالفقر، ومات عام 1450 بعد أن هدت جسمه الريح الجنوبية القارسة(5).
ولم تنجب سينا فناناً ذاعت شهرته بالخير أو بالشر في جميع أنحاء إيطاليا إلا في أواخر ذلك القرن. وكان الاسم الصحيح لهذا الفنان هو جوفاني أنطونيو باتسي Giovanni Antonio Bazzi ولكن معاصريه السفهاء بدلوا اسمه إلى سودوما لأنه لم يكن يستحي من التصريح بانه يشتهي الرجال. وارتضى وهو منشرح الصدر هذا اللقب الذي يستحقه الكثيرون، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه. وكان مولده في فرتشيلي Vereclli، (1477)، ثم انتقل منها إلى ميلان، ولعله تعلم فيها التصوير واللواط من لورندسو. وخلع على صورة سيدة بريرا Brera ابتسامة شبيهة بالتي يخلعها دافنتشي على صورة سيداته. وقلد صورة ليدا التي رسمها ليوناردو تقليداً بلغ من الدقة والإحكام أن ظل الناس عدة قرون يظنون إن صورته هي الصورة الأصلية التي رسمها ليوناردو نفسه. وهاجر سودوما إلى سينا بعد سقوط لدوفيكو، وأنشأ فيها طرازاً من التصوير خاصاً به، فكان يصور موضوعات مسيحية وهو مغتبط غبطة الفنان الوثني بالأشكال البشرية. ولعله في خلال أقامته الأولى في سينا قد رسم تلك الصورة القوية صورة المسيح مصلوباً على العمود يوشك أن يجلد، ولكنه مع ذلك سليم الجسم صحيحه. وصر لرهبان مونتي أليفيتو مجيوري Monte Oliveto Maggiore سلسلة من المظلمات روى فيها قصة القديس، بعضها في غير عناية وبعضها ذات جمال مغر إلى حد لم يسع رئيس الدير معه إلا أن يصر على عدم أداء أجر سودوما إلا بعد أن يكسو أجسام الصور العارية حتى لا تفتتن بها عقول من في الدير.
وأعجب المصرفي أجوستينو تشيجي Agestino Chigi بأعمال إل سودوما حين زار موطنه سينا ودعاه إلى رومة، حيث وكل إليه البابا يوليوس الثاني أن ينقش إحدى حجرات نقولاس الخامس في قصر الفاتيكان، ولكن سودوما قضى شطراً كبيراً من الوقت يعيش المعيشة التي يمثلها اسمه. حتى اضطر البابا الشيخ إلى طرده، وحل محله رفائيل. ودرس سودوما في فترة من فترات تواضعه طراز الفنان الشاب، وأخذ عنه شيئاً من صقله الناعم ورشاقة تصويره ورقته. ثم أنقذ تسيجي سودوما بأن عهد إليه أن يصور في بيت تشيجي الريفي قصة الإسكندر وركسانا، ولما خلف البابا ليو العاشر يوليوس الثاني بعد قليل من ذلك الوقت استرد سودوما مكانته عند البابا؛ ورسم جيوفني للبابا المرح صورة للكريديسيا عارية تطعن نفسها وتموت. وكافأه ليو على هذه الصورة مكافأة سخية ومنحه لقب فارس من طبقة المسيح.
ولما عاد سودوما إلى سيينا مثقلاً بهذه الأكاليل، عهد إليه رجال الدين والدنيا كثيراً من الأعمال؛ ومع أنه كان كما يبدو من المشككين في الدين فقد رسم صوراً للعذراء لا تكاد تقل عن صور رفائيل. وكان استشهاد القديس سبستيان من الموضوعات التي تروقه بنوع خاص؛ ولم يفقه أحد قط في تصوير هذا الاستشهاد في قصر بتي Bitti؛ وصور كذلك في كنيسة سان دمينيكو بسينا القديسة كاترين مغمي عليها تصويراً واقعياً وصفه بلدسارى Baldassare بأنه لا مثيل له من نوعه. وبينا كان سودوما يقوم بهذه الأعمال جلل سينا بالعار لما كان يقوم به من "أعمال حيوانية" على حد قول فاساري.
"لقد كان يحيا حياة الفسق والفجور، إذ كان على الدوام يحيط نفسه بالغلمان والشبان المرد ويفتتن بهم إلى حد الجنون، فقد أطلق عليه اسم سودوما، ولم يكن يخجل قط من هذا العمل، بل كان يفخر به، ويقرض فيه الشعر، ويتغنى به على العود. وكان مولعاً بأن يملأ بيته بجميع أنواع الحيوانات العجيبة: كالغريراء، والسناجب، والقردة، والفهود، والحمر القزمة، وخيول السباق المغربية، وأمهار إلبا، وغربان الزرع، والبنطم%=@العزيراء حيوان حفار في حجم الثعلب تطارده الكلاب، والبنطم نوع من الدجاج المنزلي يمتاز بالشجاعة ويقال إن اسمه مشتق من بنطم بجزيرة جاوة. (المترجم)@ ، واليمام وأمثالها من المخلوقات... وكان لديه فضلاً عن هذه غراب أسود أجاد تعليمه النطق حتى كان يحاكي صوته، وخاصة حين يجيب طارق الباب. وكثيراً ما كان الطارقون يظنون أن صاحبه هو الذي يجيبهم. وكانت الحيوانات الأخرى أليفة مروضة تلتف حوله على الدوام، وتلعب وتقفز قفزاتها العجيبة، حتى كان بيته سفينة نوح بحق"(7). وتزوج بامرأة من أسرة طيبة، ولكنها فارقته بعد أن ولدت له طفلاً واحداً؛ وبعد أن قضى في سينا مدة من الزمن خسر فيها إيراده وما لقيه من ترحاب، غادرها إلى فلتيرا، ثم إلى بيزا ولوكا، (1541- 1542) للبحث عن أنصار جدد. ولما تخلى عن هؤلاء أيضاً، عاد إلى سينا، واشترك في فقره مع حيواناته، ومات في الثانية والسبعين من عمره بعد أن أنجز في الفن كل ما تستطيع أن تنجزه اليد الصناع دون أن تكون لها روح عميقة ترشدها.
وكان الرجل الذي شغل مكانه في سينا هو دمينيكو بكافومي، وكان دمينيكو هذا قد درس طراز بروجينو حين قدم هذا الفنان إليها في عام 1508؛ فلما غادرها بروجينو، سافر دمينيكو إلى رومة ليستزيد من العلم، وعرف الشيء الكثير عن مخلفات الفن الروماني القديم، وبحث عن أسرار رفائيل وميكل أنجيلو. ولما عاد إلى سينا قلد أولاً سودوما، ثم نافسه في عمله؛ وطلب إليه مجلس السيادة أن ينقش قاعة مجمع الكرادلة، فقضى ست سنوات يكدح في تزيين جدرانها (1529- 1535) بمناظر من التاريخ الروماني، وأبدع في هذا النقش من الوجهة الفنية ولكنه كان نقشاً ميت الروح.
وانقضى عهد النهضة في سينا بموت بكافومي (1531). نعم إن بلدساري بيرتسي كان من أبنائها، ولكنه غادرها إلى روما، وعادت سينا مرة أخرى إلى أحضان العذراء، وأعدت نفسها في غير عناء لاستقبال عهد الإصلاح المعارض، ولا تزال حتى اليوم متشددة في التمسك بالدين الأصيل راضية بهذا الاستمساك، تغري الأرواح المتعبة أو المستطلعة بتقواها الساذجة، وحفلات البرجاس أو السباق الشتوية (منذ عام 1659) وتمنعها عن كل ما هو جديد.
الفصل الرابع: أومبريا والبجليوني
تقوم في أماكن متفرقة من أمبريا الجبلية مدائن ترني terni، واسبوليتو، وأسيسي، وفولنيو Foligno، وبروجيا، وجينو Gobbio، وتحيط بها تسكانيا من الغرب، ولاتيوم من الجنوب، وولايات التخوم من الشمال والشرق. ونتحدث هنا أول ما نتحدث عن فبريانو Fabriano- الواقعة خارج حدودها في التخوم- لأن جنتيلي دا فبريانو كان هو البشير بمدرسة أومبريا الفنية.
وجنتيلي Gentile هذا شخصية غامضة ولكنها شخصية ذات أثر قوي: فقد رسم صوراً تمثل العصور الوسطى في جبيو، وبروجيا، وأقاليم التخوم، متأثراً بعض التأثر بمصوري سنا الأولين، ولكنه ينضج على مهل، ثم يعلو نجمه إلى حد يحمل بنديلفو مالاتستا، كما تقول إحدى الروايات التي لا يقبلها العقل، على أن يكافئه بأربعة عشر ألف دوقة نظير زخرفة معبد بروتيلو Broletto في بريشيا (حوالي عام 1410)(8) برسوم جصية. وبعد عشر سنين أو نحوها من ذلك الوقت عهد إليه مجلس شيوخ البندقية أن يرسم منظراً حربياً في قاعة المجلس الكبير، ويلوح أن جنتيلي يليني كان من بين تلاميذه في ذلك الوقت. ثم نجده بعدئذ في فلورنس يرسم لكنيسة سانت ترينيتا Santa Trinita صورة عبادة المجوس (1423)، التي يعدها العالم من روائع الفن ومنهم أهل فلورنس المزهوون المتكبرون. ولا تزال هذه الصورة في معرض أفيزي: وهي عبارة عن حشد براق جميل على ظهور الخيل من الملوك والأتباع، ومن الخيول المطهمة، والماشية المطرقة، والحمر المدملجة، والكلاب اليقظة، وصورة لمريم جميلة، كلها مركزة حول طفل رضيع فنان، يضع يده الفاحصة على رأس ملك أصلع. وتلك صورة رائعة، زاهية اللون، منسابة الخطوط، ولكنها تكاد تكون بدائية في خلوها من فن المنظور، وتمثيل القرب والبعد، واستدعى البابا مارتن الخامس جنتيلي إلى روما، حيث أنشأ بعض المظلمات في سان جيوفني لاتيرانو San Giovanni Laterno، وقد اختفت هذه المظلمات، ولكننا نستطيع أن نحدس ما كانت عليه من تحمس روجيير فان درويدن، فقد أعلن حين رآها أن جنتيلي أعظم المصورين في إيطاليا(9). وأنشأ جنتيلي في كنيسة سانت ماريا نوفا مظلمات أخرى لم يعد لها وجود، منها واحد أنطق ميكل أنجيلو بقوله لفارساي انه "كانت له يد شبيهة باسمه" (10)، وتوفي جنتيلي في روما عام 1427 في عنفوان مجده.
وحياته شاهدة بأن أومبريا التي ينتمي إليها من الناحية الثقافية كانت تنجب عباقرتها وطرازها الخاص في الفن. ولكن المصورين الأمبريين كانوا بوجه عام يهتدون بهدى سينا، ويواصلون الجري على النزعة الدينية دون انقطاع من دوتشيو Duccio إلى بيروجينو والشطر الأول من حياة روفائيل. وكانت اسيسي المنبع الروحي للفن الأمبري. ذلك أن كنائس القديس فرانسس والقصص التي كانت تروي عنه قد أذاعت في الأقاليم المجاورة لتلك البلدة نزعة دينية قوية سيطرت على الفن كما سيطرت على العمارة، وعارضت الموضوعات الوثنية أو الموضوعات غير الدينية التي كانت تغزو الفن الإيطالي في بلدان أخرى، ولهذا قلما كانت تطلب صوراً من المصورين في أمبريا، وإن كان بعض الأفراد إذا ادخروا طوال حياتهم شيئاً من المكال قد يطلبون عادة إلى فنان محلي أن يرسم صورة للعذراء أو الأسرة المقدسة ليضعوها في معبدهم المفضل، ولهذا فإنه قلما كانت توجد كنيسة، مهما بلغت من الفقر تعجز عن جمع المال لإقامة مثل هذا الرمز الدال على التقي والأمل والفخر الجماعي، وعلى هذا النحو كان لجبيو مصوروها، كما كان أتفيانونلي Ottaviano Nelli وفولينو Foligno نقولا دي لبيراتوري Niccolo di Liberatore وكما كانت بروجيا تفخر يبفجلي Bonfigli وبروجينو ونتورتشيو.
وكانت بروجيا أقدم بلدان أمبريا، وأكبرها، وأغناها، وأشدها عنفاً. وكان موقعها على قمة جبل منيع يبلغ ارتفاعها ألف قدم وستمائة، ويتعذر الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد، وكانت تشرف على مناظر فسيحة من الريف المجاور لها. وكان موقعها هذا صالحاً كل الصلاحية للدفاع، ولهذا بنى الإتروربون- أو ورثوا ممن قبلهم- مدينة في هذا المكان قبل ان يؤسسوا روما. وظل البابوات زمناً طويلاً يدعون أن بروجيا تابعة للولايات البابوية، ولكن المدينة نادت باستقلالها في عام 1375، وظلت أكثر من مائة عام تعاني آثار الحزبية العارمة التي لا تفوقها فيها إلا سينا.
وكانت أسرتان غنيتان تقتتلان من أجل السيطرة على المدينة- على تجارتها وحكمها، ورتبها الكهنوتية، وأهلها البالغ عددهم 40.000 نسمة. لقد كان آل أدي Oddi وآل باليوني يقتل بعضهم بعضاً غيلة أو علناً في الطرقات، وكانت دماء القتلى تخضب السهل الذي يبسم تحت أبراج المدينة. وكان آل بجليوني يشتهرون بحسن وجوههم وقوة أجسامهم، وشجاعتهم، ووحشيتهم، واكنوا وهم في وسط أمبريا الصالحة التقية يسخرون من الكنيسة ويسمون أنفسهم بأسماء وثنية- إركولو Ercolo، وترويلو troilo، وأسكانيو Ascanio، وأنيبالى Annibale، اطلنطا، وبنلوبى penelope، ولافيانا laviana، وزنوبيا. وصد الباليوني محاولة قام بها الأدي في عام 1445 للاستيلاء على بروجيا، وظلوا من ذلك الحين يحكمون المدينة حكم الطغاة وإن كانوا يعترفون رسمياً بأنها إقطاعية بابوية ولنترك الآن فرانتشيسكو ماتارتسو Franccsco Matarazzo مؤرخ بروجيا نفسه وصف حكومة البجليوني:
أخذت حال مدينتنا يزداد سوءاً على سوء منذ اليوم الذي طرد فيه الأدي، والتحق جميع الشبان بحرفة الجندية، , واضطربت حياتهم جميعاً، وانتشرت في كل يوم أخبار عن إيغالهم في اللذات المختلفة، وفقدت المدينة عقلها وعدالتها، فكان كل إنسان يأخذ حقه بيده كأنه هو صاحب السلطان والملك المسيطر. وبعث البابا راجياً أن يعيد بذلك النظام إلى المدينة المضطربة، ولكن كل من بعثهم إليها عادوا فزعين مرعوبين يخشون أن تمزق أجسادهم إرباً، لأن الباليوني أنذرهم بأن يلقوا بعضهم من نوافذ القصر، ولهذا لم يجرؤ كردنال أو غيره من الأحبار أن يقترب من بيروجيا إلا إذا كان صديق السرة الحاكمة. وبلغ من تعاسة المدينة أن اصبح أشد الناس خروجاً على القانون أعظم أهلها شأناً، وإن كان من قتل منها رجلين أو ثلاثة رجال يسير في داخل القصر كما يشاء، ويذهب وبيده سيفه أو خنجره ليخاطب الحاكم أو غيره من ولاة الأمور، كان كل صاحب مقام يتعرض للمهانة ويطأه بالأقدام القتلة المأجورون الذين لهم الحظوة عند الأشراف، ولم يكن في وسع أحد من الأهلين أن يدعي أن شيئاً ما ملك له، فقد كان الأشراف ينهب بعضهم ممتلكات البعض الآخر وأرضه، وكانت كل الوظائف تباع أو تلغى، وبلغ من فدح الضرائب وشدة الاغتصاب أن ضج الناس جميعاً بالشكوى(11).
وسأل أحد الكرادلة البابا إسكندر عما عساه أن يفعل مع أولئك الشياطين الذين لا يخشون الماء المقدس؟(12) وكان البجليوني بعد أن طردوا الأدي من المدينة قد انقسموا أحزاباً جديدة، وأخذوا يتطاحنون تطاحناً من أشد ما عرف في عهد النهضة ومن أكثرها إراقة للدماء، وكانت أطلنطا بجيلوني التي ترملت بعد اغتيال زوجها تواسي نفسها بجمال ابنها جريفونيتو Grifonetto الذي يصفه ماتارتسو بانه جانوميد ثان. وخيل إليها أنها قد استعادت سعادتها حين تزوج زنوبيا اسفوردسا التي لم تكن تقل عنه جمالاً. ولكن فرعاً صغيراً من أسرة بجليوني أخذ يدبر المؤمرات للقضاء على الفرع الحاكم- الذي يضم أستوري Astorre، وجيدو Guido، وسمونيتو Simonetto، وجيان بولو Gianpaolo. وكانوا يقدرون شجاعة جريفونيتو فضموه إليهم بأن أوهموه أن جيان بولو أغوى زوجته الشابة، وبينما كانت الأسر الكبيرة من آل بجيلوني في ذات ليلة من عام 1500 مجتمعة خارج قصورها في بروجيا تحتفل بزواج أستوري ولافينيا إذ هاجمهم المتآمرون في فراشهم وقتلوهم عن آخرهم إلا واحداً منهم، فقد نجا جيان بولو بأن تسلق أسطح المنازل، واستتر بظلام الليل مع بعض طلاب الجامعة المرتاعين. بعد أن تخفى في زي طالب منهم، وخرج من أبواب المدينة عند مطلع الفجر. ورعت أطلنطا إذ عرفت أن ابنها كان من هؤلاء السفاحين، فطردته من عندها بعد أن صبت عليه اللعنات. وتفرق هؤلاء القتلة وتركوا جريفونيتو وحيداً لا مأوى له في المدينة. وعاد جيان بولو في صباح اليوم التالي إلى بروجيو ومعه حرس مسلح والتقى بجريفيونيتو في أحد الميادين العامة، وأراد أن يبقى على حياة الشاب، ولكن جنوده أصابوا أطلنطا وزنوبيا من مخبئهما فوجدتا الابن والزوج يلفظان آخر أنفاسهما في شارع المدينة، وركعت أطلنطا إلى جواره، واستغفرت الله للعنتها إياه، ومنحته رضاها، وطلبت إليه أن يعفو عن قاتليه. ويقول متارتسو "إن الشاب النبيل مد يده لأمه الشابة، وضغط على يدها البيضاء وفاضت روحه من جسمه الجميل"(13). وكان بروجينو وروفائيل يصوران وقتئذ في بروجيا.
وأمر جيان بولو فقتل مائة من الرجال في الشوارع أو في الكنيسة إذ ظنهم مشتركين في المؤامرة، وزين البلدة بناء على أمره برؤوس القتلى كما علقت صورهم مقلوبة رءوسهم إلى أسفل، ووجد الفن بروجيا في هذا موضوعاً من موضوعاته الهامة. وحكم جيان بولو المدينة من ذلك الوقت دون أن يلقى مقاومة حتى استسلم ليوليوس الثاني (1506) ورضى أن يحكمها نائباً عن البابا؛ ولكنه لم يعرف كيف يحكم من غير أن يلجأ إلى الأغتيال، ولما مل ليو العاشر جرائمه، أغراه بالقدوم إلى روما في عام (1520) بعد أن أمنه فيها على نفسه؛ ثم أمر به فقطع رأسه في قصر سان أنجليو. وكان هذا العمل من الوسائل التي تلجأ إليها دبلوماسية النهضة للتخلص من غير المرغوب فيهم وحافظ رجال آخرون من آل بجلوني على سلطاتهم إلى حين، حتى إذا ما أغتال مالاتستا بجليوني مندوبا بابوياً، سير البابا بولس الثالث جيشاً ليستولي على المدينة نهائياً ويلحقها بأملاك الكنيسة (1534).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الخامس: بيروجينو
وأزدهر الأدب والفن ازدهاراً عجيباً في عهد هذه الحكومة حكومة المؤامرات والاغتيالات، فقد كان في مقدور أصحاب المزاج الناري الذين يعبدون العذراء ويهينون الكرادلة، ويقتلون أولي القربى، وكان في مقدور هؤلاء أن يشعروا بحمى الكتابة المبدعة، ويتأدبوا بأدب الفن الصارم. وإن كتاب ماتارتسو المسمى أخبار مدينة بروجيا Cronaca della Citta di Perugia، والذي يصف ذروة مجد أسرة بجليوني ليعد من أروع ما أنتجته النهضة في الأدب. وكانت التجارة قبل أن يتولى آل بجليوني زمام السلطة قد جمعت من الثروة ما يكفي لتشييد قصر البلدية الضخم القوطي الطراز (1280-2333) وأن تزينه هو وبناء الغرفة التجارية الكليجيو دل كامبيو Collegio del Cambio (1452-1456) برسوم من أجمل ما أخرجه الفن في إيطاليا. وكان لهذه الغرفة منصة للقضاة، ومقعد لمبدلي النقود منحوتاً نحتاً بديعاً لا يستطيع معه أحد أن يتهم رجال الأعمال في بيروجيا بقلة الذوق. ولا تكاد مقاعد المرنمين في كنيسة القديس دمنيكو (1476) تقل عن هذين رشاقة، كما كان في هذه الكنيسة معبد الورود الذائع الصيت الذي صممه أجستينو دي دوتشيو. وكان أجستينو هذا يتردد بين فني النحت والعمارة، وكان في العادة يجمع بينهما كما فعل في معبد الدعاء oratovio بكنيسة سان برتردينو (1461)، حيث غطى الواجهة كلها تقريباً بالتماثيل، والنقوش البارزة، والزخارف العربية وغيرها من أنواع الزخارف. ذلك أن كل سطح غير مزخرف كان على الدوام يثير حماسة أحد الفنانين الإيطاليين.
وكان خمسة عشر مصوراً على الأقل يعملون في تلبية هذه الدعوة في بيروجيا؛ وكان زعيمهم في شباب بيروجينو هو بينيديتو بنفجلي. والظاهر أن بينيديتو هذا تعلم شيئاً من المبادئ الجديدة التي أنشأها ونماها ماسوليني، وماساتشيو، وأتشيلو Uccello، وغيرهم في فلورنس، وكان ذلك عن طريق اختلاطه بدومنيكو فندسيانو أو بيرو دلا فراتشيسكا، أو عن طريق دراسة المظلمات التي صورها بنوتسو جتسولي في مونتى فلكو. ولما أن نقش مظلمات لقصر البلدية أظهر من المعرفة بفن المنظور ما كان جديداً بين فناني أمبريا، وإن كانت شخصياته قد استعارت وجوهاً مقررة الطراز من قبل، وكانت مكسوة بأثواب خالية من الرونق. وكان في المدينة منافس لبينيديتو أصغر منه سناً ولكنه يضارعه في عدم بهاء الألوان، ويفوقه في رقة العاطفة والرشاقة في بعض الأحيان، وعني به فيورندسو دي لورندسو Fiorenzo di Lorenzo. وتقول الرواية المأثورة في بيروجيا أن بنفجلي وفيورندسو قد علما الأستاذين اللذين بلغا بفن التصوير الأمبري ذروته.
تعلم برتردينويتي المعروف باسم بنتورتشيوفني التصوير الزلالي والتصوير الجصي (المظلمات) من فيورندسو، ولكنه لم يلجأ إلى التصوير بالزيت الذي جاء إلى بيروجيتو من أهل فلورنس؛ وسافر في صحبة بيروجيتو إلى رومة في عام 1481وهو في السابعة والعشرين من عمره، وغطى لوحة في معبد سستيني بصورة لتعميد المسيح لا حياة فيها؛ لكنه ارتقى بعد ذلك؛ فلما أمره البابا إنوسنت الثامن بان يزين إحدى الشرفات المكشوفة في قصر بلفدير اختط في تزيينها خطة جديدة بأن صور فيها مناظر من جنوي وميلان، وفلورنس، والبندقية، ونابلي، وروما، ولم تكن رسومه خالية من العيوب ولكن كان تصويره نزعة إلى الولع بالطبيعة تسر الناظر استرعت التفات البابا إسكندر السادس. وأراد هذا البابا الظريف من آل بيروجيا أن يزين حجراته الخاصة في الفاتيكان فكلف بنتو رتشيو وبعض أعوانه أن ينقشوا على الجدران والسقف مظلمات تمثل أنبياء وسيبيلات (عرافات اسطورية)، وموسيقيين، وعلماء، وقديسين ومريم العذراء، ولعل فيهم أيضاً معشوقات. وسر البابا من هذه أيضاً سروراً حمله على أن يعهد إلى هذا الفنان بأن يرسم في الجناح الذي خصص له في قصر سانت أنجيلو بعض أحداث الصراع بين البابا وشارل الثامن (1495). وكانت بيروجيا في هذه الأثناء قد وصلتها شهرت بنيو رتشيو، فاستدعته إليها وطلبت إليه كنيسة سانتا ماريا ده فسي Santa Maria de' Fossi أن يصور ستاراً لمحرابها، فلبى الطلب ورسم صورة العذراء والطفل والقديس يوحنا التي اعجب بها كل من رآها ما عدا المحترفين. ولقد سبق القول أنه زين مكتبة بكولوميني بصور متلألئة من حياة ببيوس الثاني والقصص التي تروى عنه، وقد أضحت هذه الحجرة بفضل هذه الصور القصصية رغم ما فيها من عيوب من أبهج ما خلفه فن النهضة. وقضى بنتو رتشيو في هذا العمل خمس سنين انتقل بعدها إلى رومة، وكان له نصيب من الإذلال الذي لحق الفنانين على أثر نجاح روفائيل. ثم اختفى بعدئذ من الميدان الفني، ولعل ذلك كان بسبب مرضه، لأن بيرجينو وروفائيل تفوقا عليه. وتقول إحدى القصص المشكوك في صحتها أنه مات من الجوع في سينا في سن التاسعة والخمسين (1513)(14).
ولقب بيترو بيروجينو بهذا اللقب لأنه اتخذ بيروجيا موطناً له، وإن كانت بيروجيا نفسها تسميه على الدوام فنوتشي Vannucci باسم أسرته. وكان مولده في تشتا دلا بييف Citta' della Pieve، (1446) القريبة من بيروجيا ثم أرسل إليها وهو في التاسعة من عمره، وتتلمذ فيها على يد فنان معروف. ويقول فرساي أن معلمه كان يرى أن مصوري فلورنس أحسن المصورين في إيطاليا، ونصح الشاب بأن يذهب إليها ليدرس فيها. فذهب إليها بيترو، وقلد مظلمات ماساتشيو بعناية شديدة، وجعل يتدرب عند فيروتشيو حوالي عام 1468، وأغلب الظن أن بيروجينو التقى به ولم يستنكف أن يتعلم منه بعض خصائص الصقل والرشاقة، وازدياد العناية بالمنظور، والألوان، والزيوت، وإن كان بيروجينو في ذلك الوقت أكبر منه بست سنين. وتظهر مهارته في هذه النواحي في صورة القديس سبستيان التي رسمها بيروجينو والمحفوظة في متحف اللوفر وقد بدت فيها من حول صورة القديس ميان جميلة، ومنظر طبيعي لا يقل لطفاً عن وجه القديس ذي الثقوب، ولما ترك بيروجينو مرسم فيروتشيو عاد إلى الطراز الأمبري في صورة العذراء المتحاشمة الوديعة، ولعل تأثيره هو الذي رقق التقاليد الواقعية في فن التصوير الفلورنسي فجعله فناً مثالياً كما يبدو في صور الراهب بارتولميو وأندريا دل سارتو Andrea del sarto.
ولما بلغ بيروجينو الخامسة والثلاثين من عمره في عام 1481 كان قد بلغ من الشهرة حداً جعل البابا سكستس الرابع يدعوه إلى روما، فصور في معبد سستيني عدة مظلمات أجمل ما بقي منها صور المسيح يسلم مفاتيح إلى بطرس والصورة شديدة التقيد بالعرف في تناسب شكلها أكثر مما ينبغي، ولكن الهواء وما فيه من تدرج دقيق في الضوء يصبح في الصورة لأول مرة في التصوير عنصراً واضحاً متميزاً يكاد يلمس باليد، والأثواب التي كانت قد أضحت في صور نفجلي ذات طراز واحد مقرر جمعت هنا وثنيت حتى أصبحت تنبض بالحياة، وخلعت على بعض الصور نزعة انفرادية مدهشة- كصور المسيح، وبطرس وسنيورلي؛ ولم يكن أقلها من هذه الناحية وجه بيروجينو نفسه الكبير، المستدير، الشهواني، الواقع، وقد استحال بهذه المناسبة من حواريي المسيح.
وعاد بيروجينو إلى فلورنس في عام 1486، ويستدل على ذلك من أن محفوظات المدينة تذكر أنه قبض عليه لارتكابه جريمة الاعتداء على أحد أعدائه.وتفصيل ذلك أنه هو وصديقاً له تخفيا وتسلحا بالعصى الغليظة وترقبا في الظلام عدواً لهما، ولكن أمرهما كشف قبل أن يرتكبا الجريمة، ونفي الصديق، وحكم على بيروجينو بغرامة قدرها عشرة فلورينات(15). وبعد أن أقام في روما فترة أخرى، اتخذ له مرسماً في فلورنس (1492)، واستأجر بعض المساعدين، وشرع ينتج لعملائه الأقربين والأبعدين صوراً لم تكن كلها معتنى بصقلها؛ وكان منها لجماعة أخوان جيسواتي Gesuati صورة مريم تحتضن جسم المسيح الميت أضحت فيها صورة العذراء حزينة ومجدلين المفكرة مثالا كرره هو ومساعدوه في نحو مائة شكل مختلفة لكل معهد أو فرد يطلبه. واتخذ صورة مريم والقديسين طريقها إلى فينا، كما اتخذ صورة أخرى طريقها إلى كرمونا، وثالثة إلى فانو، ورابعة هي صورة مريم في مجدها إلى بيروجينا، وخامسة إلى الفاتيكان، وتوجد الآن واحد في معرض أفيزي. واتهمه منافسوه بأنه حول مرسمه إلى مصنع، وظنوا أنه من العار أن يصبح ثرياً سميناً. ولكنه ابتسم لقولهم ورفع أثمان صوره؛ ولما دعته مدينة البندقية ليرسم لوحتين في قصر الدوق وعرضة عليه أربعمائة دوقة (5000 دولاراً) طلب ثمانمائة، فلما لم يجب إلى طلبه بقى في فلورنس، وكان يصر على أن يؤدى أجره فوراً ويرفض الآجل منه؛ ولم يكن يتظاهر باحتقار الثروة، بل كان يعتزم ألا يموت من الجوع حين تبدأ يده في الاهتزاز، وابتاع له أملاكاً في فلورنس وبيروجيا؛ وكان يلزم نفسه بأن يضيف ولو قدراً قليلاً من الأرض عقب كل انقلاب في حياته. وصورته التي رسمها لنفسه والقائمة الآن بالميدان في بيروجيا (1500) واعتراف صريح صراحة عجيبة. فهو يظهر فيها ذا وجه مكتنز، وأنف كبير، وشعر مهدل دون عناية تحت قلنسوة حمراء ضيقة، وعينين هادئتين نافذتين، وشفتين تنمان عن بعض الاحتقار، ورقبة ضخمة، وهيكل قوي. وجملة القول أنه كان رجلا لا يسهل خداعه؛ متأهباً للكفاح، واثقاً من نفسه، لا يقدر الجنس البشري تقديراً كبيراً. ويصفه فاساري بأنه لم يكن رجلا متدنياً، وبأنه لا يؤمن قط بخلود الروح(16).
على أن تشككه ونزعته التجارية لم يحولا بينه وبين السخاء في بعض الواقف(17)، أو بينه وبين إنتاج أرق الصور وأكثرها خشوعاً وتعبداً في عصر النهضة. ومن هذه الصور صورة جميل للعذراء رسمها للكرتوزا دي بافيا (وهي الآن في لندن)؛ ومنها صورة مجدلين التي تعزى إليه والمحفوظة في متحف اللوفر، وهي صورة لخاطئة جميلة مجيلة لا يحتاج الإنسان معها إلى الرحمة الإلهية لكي يعفو عن خطيئتها. ورسم لراهبات سانتا كلارا بفلورنس صورة الدفن كانت ملامح النساء فيها ذات جمال نادر، ووجوه الشيوخ من الرجال تفصح عن حياتهم، وخطوط التأليف فيها تلتقي على جثة المسيح التي لا دم فيها، تحتوي على منظر طبيعي من الأشجار الرفيعة النامية على منحدرات صخرية، وعلى بلدة بعيدة قائمة على جوٍ هادئ؛ وكل هذه تخلق جواً من الهدوء وعلى منظر الموت والأحزان. والحق أن هذا الرجل كان يستطيع أن يصور وأن يبيع.
وعرف أهل بيروجيا آخر الأمر قدره من نجاحه في فلورنس. فلما أعتزم تجار الميدان أن يزينوا غرفتهم، أفرغوا ما في جيوبهم من مال في سخاء المتوانين المتراخين، وعهدوا بالعمل إلى بيتور فانوتشي. وساروا على مزاج ذلك العصر ومشورة أحد علماء بلدتهم، فطلبوا إليه أن يزين قاعة الاجتماع بمزيج من الموضوعات المسيحية والوثنية: فيزين السقف بصورة للكواكب السبعة والبورج؛ وأن ترسم على أحد الجدران صورة مولد المسيح والتجلي؛ وعلى جدار آخر صورة الأب الخالد، والأنبياء، وست سيبيلات "عرافات" وثنيات تشير إلى ما سيرسمه ميكل أنجيلو من نوعها فيما بعد. ورسم على جدار غيره الفضائل الأربعة الروحانية يمثل كلا منها أبطال من الوثنيين: الفطنة يمثلها نوما Numa، وسقراط؛ وفابيوس؛ والعدالة يمثلها بتاكوس Pittacus، وفيوريوس Furius، وتراجان، والجلد ويمثله لوسيوس، وليونداس، وهوراشيوس ككليس Horatius Cocles والاعتدال يمثله بركليز وسنسناتوس واسكبيو Scipio، ويبدو أن هذا كله كان من صنع بيروجيا ومساعديه- ومنهم روفائيل- في عام واحد هو عام 1500 أي العام الذي كان فيه اقتتال البجليوني بريق الدماء في شوارع بيروجيا. فلما حقنت الدماء كان بمقدور أهل البلدة أن يخرجوا من مساكنهم ليمتعوا أنظارهم بالجمال الجديد الذي خلع على الميدان. ولعلهم وجدوا الشخصيات الوثنية جامدة بعض الشيء وودوا لو أن بيرودجينو لم يصورها واقفة ثابتة بل قائمة بعمل مل يكسبها حياة، ولكن صورة داود كانت جليلة رائعة بحق، وصورة عرافة ابربثتربون لا تكاد تقل رشاقة عن عذراء روفائيل، وصورة الأب الخالد فكرة طيبة فذة عن الكافر. وأظهر بيروجينو في رسومه على هذه الجدران وهو في سن الستين قواه الكاملة، وفي عام 1501 نصبته المدينة رئيساً لبلديتها اعترافاً منها بفضله.
ثم أخذ ينحدر من هذا الأوج انحدراً سريعاً، ففي عام 1592 صور زواج العذراء في صورة قلدها روفائيل بعد عامين في صورة اسبيوز الدسيو وفي عام 1503 عاد إلى فلورنس، ولم يسره أن يرى المدينة تلهج بالثناء على صور داود لميكل أنجيلو؛ وكان من بين الفنانين الذي دعوا للنظر في المكان الذي توضع فيه الصورة. ولكن المثال نفسه لم يقتنع برأيه، وكانت له الغلبة عليه. والتقى الرجلان بعد قليل من ذلك الوقت، وتبادلا الشتائم؛ وكان ميكل أنجيلو وقتئذ شاباً في الحادية والعشرين من عمره فقال إن بيروجينو غبي، وإن فنه "عتيق سخيف"(18). وقاضاه بيروجينو على هذا السب ولكنه لم يجن سوى السخرية. وفي عام 1505 اتفق على أن يتم لكنيسة البشارة صورة الوديعة التي بدأها فلبينو لبي ولم تيمها، وأن يضيف إليها صورة صعود العذراء؛ وأتم عمل فلبينو بحذق وسرعة ولكنه كرر في صورة الصعود كثيراً من الأشكال التي استخدمها في عدة صور سابقة، ومن أجل هذا اتهمه فنانو فلورنس (وكانوا لا يزالوا يحسدونه على أجوره القديمة) بالتكاسل والإبطاء، فما كان منه إلا أن ترك المدينة مغضباً واتخذ مسكنه في بيروجيا.
وتكررت هزيمة الشيخوخة على يد الشاب، وهي الهزيمة التي لا مفر منها، حين قبل دعوة البابا يوليوس الثاني ليزين له حجرة في الفاتيكان (1507). فلما أن أتم بعض مراحل العمل ظهر تلميذه السابق روفائيل واكتسح كل شيء أمامه، فغادر بيروجينو روما كسير القلب، وعاد إلى بيروجيا، يرجو القيام ببعض الأعمال، وظل يعمل فيها إلى آخر أيام حياته؛ فبدأ (1514)ولعله أتم (1520) ستاراً لمحراب مُعقَّد النقش لكنيسة سانت أجستينو، وكرر فيه مرة أخرى قصة المسيح. ثم صور لكنيسة عذراء لجريمي Madonna delle Lagrime في تريقي Trevi (1521) صورة عبادة المجوس وهي نتاج مدهش لرجل في الخامسة والستين على الرغم مما فيها من بعض الرسوم التافهة. وبينما كان يصور في فنتنيانو Fontignano القريبة من بيروجيا في عام 1523 إذ أصيب بالطاعون أو لعله مات من الشيخوخة والضعف. وتقول الرواية المتواترة إنه أبى أن يتلقى القداس الأخير، وقال أنه يفضل أن يرى ما سوف يحدث في العالم الآخر للروح الخاطئة المعاندة(19)، ومن أجل ذلك دفن في أرض مجردة من القداسة(20).
وبعد فان الناس جميعا يعرفون عيوب تصوير بيروجينو - يعرفون إسرافه في العواطف، ويعرفون تقواه المصطنعة الحزينة، ووجوهه البيضية الشكل المتقيدة بالعرف، والشعر المعقود بالأشرطة، والرؤوس المنحنية إلى الأمام على الدوام دليلا على التواضع لا يستثنى منها رأساً كاتو Cato وليونداس Leonidas الجريء. وفي وسعنا أن نجد في أوربا وأمريكا مائة من طراز بيروجينو الذي يتكرر كل يوم، لقد كان هذا الأستاذ خصباً أكثر منه مبتكراً، وإن صوره لتعوزها الحركة والحيوية، وتنعكس عليها حاجات الخشوع الأمبري أكثر مما تنعكس عليها حقائق الحياة ومعانيها. ولكن فيها مع ذلك كثيراً مما يسر النفس التي بلغت من النضج حداً لا يكفي للتغلب على ما تتصف به من سوفسطائية؛ فيها صفة ضوئها الحية، وجمال نسائها المتواضع، وجلال شيوخها الملتحين، وألوانها الرقيقة الهادئة، والناظر الطبيعية الظريفة التي تخلع السلام على المآسي بأجمعها.
ولما عاد بيروجينو في عام 1499 بعد طول المقام في فلورنس، جاء معه إلى الفن الأمبري من عند الفلورنسيين الحذق في التنفيذ، دون أن يأتي منهم موهبة النقد، فلما مات أورث هذا الحذق في إخلاص رفاقه وتلاميذه- بنتورتشيو، وفرانتشيسكو أبرتينو "البكياكا li Bachiacca وجيوفني دي بيترو "لوسبانيا Lo Spagna" ورفائيل. والحق أن هذا الأستاذ أدى واجبه: لقد أغنى تراثه وأسلمه غنياً إلى من جاءوا بعده، ودرب تلميذاً له بزه وسمى عليه. ذلك أن روفائيل هو بيروجينو مبرأ من أخطائه، كاملا غاية الكمال.