قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 3 ب 13

صفحة رقم : 6927

قصة الحضارة -> النهضة -> مسرح الحوادث الإيطالية -> مملكة نابلي -> ألفنسو الأفخم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثالث عشر: مملكة نابلي 1378- 1534

الفصل الأوَل: ألفنسو الأفخم

كانت جميع أرض شبه الجزيرة الإيطالية الواقعة في الجنوب الشرق من ولايات التخوم والولايات البابوية تكون مملكة نابلي. وكان جزؤها الواقع ناحية البحر الأدرياوي يشمل ثغور باسكارا، وباري، وبرنديزي، وأترانتو، ويشمل نحو الداخل مدينة فيجا التي كانت في وقت ما العاصمة النشيطة لفريدريك الثاني ذلك الرجل العجيب، وفي الطرف الداخلي لعقب إيطاليا يقوم ثغر تارنتو القديم، وفي إبهام إيطاليا تقوم رجيو أخرى، وعلى الساحل الجنوبي الغربي يمتد مشهد فخم في إثر مشهد يتدرج في العظمة إلى سالرنو، وأملفه وسرينتو، وكابرى، ويصل إلى ذروته في نابلي النشيطة الكثيرة الحركة، والجلبة، والثرثرة، والعواطف الجائشة، والبهجة.

وكانت وحدها المدينة العظيمة في المملكة. وكان الإقليم في خارجها وخارج الثغور إقليماً زراعياً، إقطاعياً، منطبعاً بطابع العصور الوسطى: فكانت التربة يفلحها أرقاق الأرض أو العبيد، أو فلاحون ((أحرار))في أن يموتوا جوعاً أو يعملوا ليحصلوا على الكفاف من العيش تحت سيطرة بارونات يحكمون ضياعهم حكماً قاسياً مجرداً من الرحمة متحدين سلطان العرش. وقلما كان الملك يحصل على إيراد له من هذه الأراضي، ولكن كان عليه أن يدبر المال اللازم لحكومته وبلاطه من إيراد أملاكه الإقطاعية الخاصة، أو باستغلال سيطرته الملكية على التجارة إلى أقصى حد مستطاع.

وكان بيت أنجو قد أخذ يضمحل اضمحلالا سريعاً على أثر فرار الملكة جوناJoanna الأولى المرة بعد المرة، ذلك الفرار الذي انتهى عندما أمر شارل صاحب دورزو بخنقها بحبل من حرير (1382). ولم تكن جونا الثانية حين جلست على العرش (1414) أقل طيشاً من سميتها الأولى وإن كانت وقتئذ في سن الأربعين. وتزوجت ثلاث مرات، ونفت من البلاد زوجها الثاني، وعملت في اغتيال الثالث. ولما واجهتها الثورة استغاثت بألفنسو ملك أرغونة وصقلية، وتبنته وجعلته ولياً للعهد (1420)، وارتابت بحق في أنه يأتمر بها ليخلعها ويجلس على العرش مكانها، فتبرأت منه (1423)، وأوصت بدولتها بعد وفاتها إلى رينيه صاحبة أنجو (1435). وأعقبت ذلك حرب طويلة في سبيل وراثة العرش حاول فيها ألفنسو، وقد جرب الأمور في نابلي، أن يستولي على العرش. وبينما كان يحاصر جيتا إذ وقع أسيراً في يد الجنوبيين وجيء به أمام فليوماريا فيسكونتي في ميلان. وأفلح ألفنسو، بمنطق الرائع الذي لم يتعلمه في المدارس بلا ريب، أن يقنع الدوق بأن عودة الحكم الفرنسي إلى نابلي، مضافة إلى القوات الفرنسية لبتي تضغط وقتئذ على ميلان من الشمال، وجنوى من الغرب، ستوقع نصف إيطاليا بين شقي الرحى، وأن الفسكونتي سيكوم أول من يحس بوطأتها. واقتنع فلبو بمنطقه وأطلق سراحه وتمنى له عوداً سعيداً إلى نابلي. وانتصر ألفنسو بعد حروب ودسائس كثيرة، وانتهى بذلك حكم بيت أنجو في نابلي (1268-1442) وبدأ حكم بيت أرغونة (1442-1503). واتخذ هذا الاغتصاب سنداً شرعياً لغزو الفرنسيين إيطاليا في عام 1494، وهو الغزو الذي كان المأساة الأولى في شبه الجزيرة.

وسر ألفنسو بعرشه الملكي الجديد سروراً حماه على أن يترك حكم أرغونة وصقلية إلى أخيه جون الثاني. ولم يكن جون هذا بالحاكم السهل، ففد اشتط في فرض الضرائب، وترك الماليين يرهقون الشعب ويبتزون أمواله، ثم يبتز هو أموالهم، واغتصب المال من اليهود بأن هددهم بإرغامهم على التعميد. لكن عبء الضرائب وقع معظمه على طبقة التجار؛ أما ألفنسو فقد خفف عبأها عن الفقراء وساعد المعوزين. وظنه أهل نابلي ملكاً صالحاً، فقد كان يسير بينهم غير خائف منهم لا يحمل سلاحاً ولا يحيط به حرس. وإذا لم يكن له أبناء من زوجته فقد كان له عدد منهم من نساء بلاطه؛ وحدث أن قتلت زوجته إحدى أولئك النسوة المنافسات لها، فما كان من الملك إلا أن امتنع عن السماح لها بالمثول بين يديه بعد هذه الفعلة. وكان حريصاً على الذهاب إلى الكنيسة، يستمع إلى المواعظ استماع المؤمنين المخلصين. غير أنه مع ذلك تأثر بآراء الكتاب الإنسانيين، وساعد طلاب الأدب القديم بسخاء جعلهم يطلقون عليه اسم الأفخم Il Magnanimo؛ وكان يرحب بفلا Valla، وفيليلو، ومانتي، وغيرهم من الإنسانيين على مائدته ويسخو عليهم بماله. وقد نفح بجيو بخمسمائة كرون(12,500؟ دولار) أجراً له على ترجمة الفيروبيديا تأليف أكسانوفون إلى اللغة اللاتينية، كما وظف لبارثولميو فازيو خمسمائة دوقة كل عام نظير تأليفه كتاب تاريخ ألفنسو، ونفحه بألف وخمسمائة دوقة أخرى عندما فرغ منه، ووزع في عام واحد هو عام 1458 عشرين ألف دوقة (500.00 دولار) على رجال الأدب. وكان يحمل معه أينما سار كتاباً من كتب الأدب القديم؛ وكان وهو في بيته أو في حروبه بأمر بأن يقرأ له شيء من هذا الأدب وهو على مائدة الطعام، وكان يأذن للطلاب الذين يريدون الاستماع إلى هذه القراءات بحضور تلك المآدب. ولما أن كشفت رفات ليفى المزعومة في يدوا أرسل بكاديلي Beccadelli إلى البندقية ليبتاع له أحد عظامه، واستقبله بالرهبة والخشوع الخليقين بأن يستقبل بهما المواطن الصالح من أهل نابلي جريان دم القديس جانواريوس Jaunarius. ولما أن أخذ مانتي يلقي أمامه خطباً باللغة اللاتينية أفتتن ألفنسو بأسلوب العالم الفلورنسي وعباراته الاصطلاحية افتتان جعله يسمح ببقاء ذبابة على أنفه الملكي حتى فرغ الخطيب من خطبته(1). وترك للكتاب الإنسانيين في بلده مطلق الحرية في أن يقولوا ما يشاءون وإن بلغت أقوالهم حد الإلحاد والأدب المكشوف، وحماهم من محكمة التفتيش.

وكان أعجي العلماء في بلاط ألفنسو هو لورندسو فلا، وقد ولد لورتدسو هذا في روما (1407)، ودرس الآداب القديمة مع ليوناردو بروني، وأولع بالغة اللاتينية ولعاً وصل إلى درجة الغضب، حتى كان من بين حملاته حملة يريد بها القضاء على اللغة الإيطالية بوصفها لغة أدبية وإحياء اللغة اللاتينية الفصحى حياة جديدة. وبينا كان يعلم اللغة اللاتينية والبيان في بافيا هجا بارتولوس المشترع الذائع الصيت هجواً شديداً لاذعاً سخر فيه من لغته اللاتينية المتكلفة، وقال إن أحداً لا يستطيع فهم القانون الروماني إلا إذا كان متمكناً من اللغة اللاتينية ومن التاريخ الروماني. ودافع طلبة القانون في الجامعة عن بارتولوس، وانحاز طلبة الآداب إلى فلا؛ وتطور الجدل فأصبح شغباً، وطلب إلى فلا أن يغادر المدينة. وكتب فيما بعد مذكرات عن العهد الجديد، استخدم فيها مقدرته اللغوية وعنفه في الهجوم على ترجمة جيروم اللاتينية للكتاب المقدس، وكشف عن أغلاط كثيرة في هذا المجهود الضخم الجليل. وأثنى إرزمس فيما بعد على نقد فلا هذا ولخصه واستعان به. وبسط فلا في رسالة أخرى سماها اللغة اللاتينية الرشيقة البليغة النقية، وسخر من لاتينية العصور الوسطى، وعرض في مرح بلاتينية كثيرين من الكتاب الإنسانيين. وكان يفضل كونتليان على شيشرون في عصر يعبد شيشرون. وقد تخلى عنه أصدقاؤه فلم يكد يكون له في العالم صديق.

وأراد أن يؤكد عزلته عن الناس فنشر في عام 1413 حواراً في اللذة والخير والحق شرح فيه خروج الكتاب الإنسانيين على التبعة الأخلاقية شرحاً أوفى على الغاية في التهور والقوة. واتخذ للحوار ثلاثة أشخاص كانوا لا يزالون وقتئذ أحياء وهم ليوناردو بروني الذي جعله يدافع عن الرواقية ،وأنطونيو بيكاديلي ليزود عن الأبيقورية، ونقولو ده نقولى ليوفق بين المسيحية والفلسفة. وقد جعل بيكادلي يتحدث بقوة استنتج منها القراء بحق أن آراءه هي آراء فلا نفسه. وكان مما ورد من أقواله: من واجبنا أن نفترض أن الطبيعة البشرية صالحة لأنها من خلق الله، وذلك أن الطبيعة والله في الحقيقة شيء واحد، ومن أجل هذا فأن غرائزنا صالحة، ورغباتنا الفطرية في اللذة والسعادة تكفي في حد ذاتها لأن تبرز العمل في سبيلها بوصفهما الهدف الصحيح للحياة الإنسانية. ويجب أن تعد كل اللذائذ سواء كانت حسية أو عقلية لذائذ مشروعة حتى نتبين مضارها.

وما من شك أن فينا عزيزة قوية للتزاوج، وليس فينا بلا ريب غريزة لأن نستمسك بالعفة طول حياتنا، ولهذا كان الاستعفاف غير طبيعي، بل هو عذاب لا يطاق، ويجب ألا يدعى إليه الناس على أنه فضيلة. واستنتج بيكادلي من هذا أو جعله فلا يستنتج أن بقاء الفتاة عذراء خطأ و خسارة وأن العاهر أعظم قيمة للبشرية من الراهبة(3).

واستمسك فلا في حياته بهذه الفلسفة، بقدر ما سمحت له بذلك موارده، فقد كان إنسان مشوش العواطف، حاد الطبع، عنيف الألفاظ. وكان ينتقل من مدينة إلى مدينة يبحث عن الأعمال الأدبية؛ ولما طلب عملاً في الأمانة البابوية، رفض طلبه؛ ولما استخدمه ألفنسو (1435)، كان ملك أرغونة وصقلية يحارب للاستيلاء على عرش نابلي، وكان البابا بوجنيوس الرابع (1431-1447) من أعدائه يطالب بنابلي ويراها إقطاعية من إقطاعياته خارجة عليه. وكان عالم متهور مثل فيلا، ملم بالتاريخ إلمامه بالجدل والمناظرة، لا يملك ما يخشى عليه من الضياع، كان عالم مثله آلة طيعة يمكن استخدامها ضد البابا. ولهذا كتب فلا (1440)، ومن ورائه ألفنسو يحميه، أشهر رسائله جميعاً وعنوانها في هبة قسطنطين الكاذبة التي يخطئ الناس في تصريفها. وقد هاجم في هذه الرسالة عهد قسطنطين الذي خلع فيه أول إمبراطور مسيحي على البابا سلفستر الأول (314-335) السلطة الزمنية الكاملة على غربي أوربا بأجمعه، وقال إن هذه الوثيقةمزورة سخيفة. وكان نيقولاس القوزيNicholas of Cusa قد أوضح منذ زمن قليل (1433) بطلان هذه الهبة في رسالته الاتفاقية الكاثوليكية التي كتبها لمجلس بازل. وكان هذا المجلس أيضاً على خلاف مع يوجنيوس الرابع؛ ولكن انتقاد فلا لهذه الوثيقة من الناحيتين التاريخية واللغوية قضى عليها قضاء وضع حداً نهائياً لهذه المسألة (وإن كان فلا نفسه قد وقع في كثير من الأخطاء).

ولم يكتفي فلا وألفنسو بالحجج العلمية بل لجأا أيضاً إلى الحرب السافرة، ويقول فلا في هذا: ((أنا لا أهاجم الموتى فحسب، بل أهاجم أيضاً الأحياء))، وأخذ يقذف بوجينوس المؤدب بالقياس له بأشنع السباب: ((وحتى لو فرضنا جدلا أن هذه الوثيقة صحيحة، فإنها تكون مع ذلك عديمة القيمة، لأن قسطنطين لم يكن له سلطة إصدارها، ومهما يكن من أمرها فإن جرائم البابوية قد جعلتها لاغية))(3).ثم اختتم فلا أقواله (متجاهلاً ما وهبه يبيين وشارلمان للبابوية من أملاك) بأنه إذا تبين أن هذه الهبة مزورة، فإن السلطة الزمنية للبابوات قد ظلت ألف عام سلطة مغتصبة. وقد نشأ من هذه السلطة الزمنية فساد الكنيسة، وحروب إيطاليا، ((وسيطرة القساوسة المتغطرسة، الهمجية، الاستبدادية)). وأهاب فلا بأهل روما أن يثوروا ويقضوا على الحكومة البابوية القائمة في تلك المدينة، ودعا أمراء أوربا إلى العمل على حرمان البابوات من جميع ما لهم من أملاك(4). لقد كانت الدعوة أشبه بدعوة لوثر، ولكن ألفنسو كان هو الموحي بها، وهكذا أصبحت النزعة الإنسانية الأدبية سلاحاً من أسلحة الحرب.

ورد بوجينوس على هذه الحرب باستخدام محكمة التفتيش، فاستدعى فلا أمام ممثليها في نابلي، وأقر أمامهم في سخرية بأيمانه الكامل بالدين ثم أبى أن يزيد على ذلك شيئاً. وأمر ألفنسو ممثلي هذه المحكمة بأن يدعوه وشأنه، ولم يجرءوا هم على عصيان أمره. وواصل فلا هجومه على الكنيسة فأظهر أن المؤلفات التي تعزى إلى ديونيسيوس الأريوبجيتى غير حقيقية، وأن رسالة أبقاروس إلى المسيح التي نشرها يوزبيوس مزورة، وأن الرسل لم يكن لهم شأن ما في تكوين العقائد التي تعزى إليهم. على أنه لما ظن أن ألفنسو كان يعمل لمصالحة البابوية، قرر أن من الخير له أن يصالحها هو أيضاً، فوجه اعتذاراً إلى يوجينيوس، أعلن فيه رجوعه عن إلحاده، وأكد إيمانه بدينه، وطلب أن تغفر له ذنوبه. ولم يرد عليه البابا، غير أنه لما جلس نقولاس الخامس على عرش البابوية، وأرسل في طلب العلماء، عين فلا أميناً للهيئة الدينية البابوية (1448)، وعهد إليه أعمال الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللاتينية، واختتم حياته قساً في كنيسة سان جون لاتران ودفن في أرض طاهرة.

وقد أبان مناظره المسالم أنطونيو بيكادلي عن أخلاق ذلك العصر بتأليف كتاب بذيء وترحيب كبراء إيطاليا بهذا الكتاب. وقد ولد أنطونيو في بالرم (1394) ولهذا لقب بالبانرمينا il Panormi'a، وتلقى تعليمه العالي في سينا، ولعله تلقى فها أيضاً أخلاقه المريبة، وألف حوالي عام 1425 سلسلة من المرثي والنكات الشعرية باللغة اللاتينية عنوانها هرمافرودبني، تضارع كتابات ماريتال في لاتينيتها وأدبها المكشوف. ورضى كوزيمو ده ميديتشي أن تهدى إليه، وأكبر الظن أنه ارتضى هذا الإهداء دون أن يقرأ الكتاب، وأثنى جوارينو دا فيرونا رغم تمسكه بأهداب الفضيلة، على بلاغة عباراته،وقرظه نحو مائة كتاب آخر، ووضع الإمبراطور سجسمند في آخر الأمر تاج الشعر على مفرق بيكادلي (1433)، لكن القساوسة شنعوا على الكتاب، وأصدر يوجنيوس قراراً بحرمان كل من يقرؤه، وحرقه الرهبان علناً في فيرارا وبولونيا، وميلان. غير أن بيكادلي ظل مع ذلك يحاضر في جامعات بولونيا وبافيا ويتلقى أعظم درجات الثناء، وحصل على ثمانمائة اسكولي من الفيسكونتي، وطلب إليه أن يكون مؤرخ البلاط في نابلي. وألف كتابه في تاريخ الأقوال والأعمال الخالدة للملك ألفنسو بلغة لاتينية بليغة جعلت إينياس سيلفيوس يكواوميني-الذي أصبح فيما بعد البابا بيوس الثاني، وليس هو ممن لا يجيدون اللغة اللاتينية،- يعلن أنه نموذج للأسلوب اللاتيني الجيد. وعاش بيكادلي حتى بلغ السابعة والسبعين من العمر ومات مكرماً عظيم الثراء.

الفصل الثاني: فيرانتي

ترك ألفنسو مملكته إلى فرديناند الذي يقال إنه ولده (حكم بين 1448و 94)، وكان فيرانتي (كما يسميه شعبه مشكوك في نسبه. ذلك أنه كان لوالدته مرجريت الهيجارية Margaret of Hijar عشاق آخرون غير الملك، ويؤكد ينتانو أمين فيرانتي أن أباه كان يهودياً اعتنق الدين المسيحي، وكان فلا مربيه. ولم يكن فيرانتي معروفاً بالدعارة الجنسية، ولكنه كان يتصف بمعظم الرذائل التي تنشأ من الخلق الحاد الأهوج الذي لم يروضه قانون أخلاقي صارم، وكان يستثيره فيما يبدو عداء للناس لا مبرر له. وقرر البابا كلكستس Calixtus الثالث شرعية مولده. ولكنه أبى أن يعترف به ملكاً، وأعلن انقراض أسرة أرغونة في نابلي، وطالب بهذه المملكة إقطاعية للكنيسة. وبذل رينه Rene صاحب أنجو محاولة أخرى لاستعادة العرش الذي أوصى به إليه جونا الثاني. وبينما هو ينزل قواته على ساحل نابلي إذ ثار البارونات الإقطاعيون على بيت أرغونة وتحالفوا مع أعداء الملك الأجانب. وواجه فيرانتي هذا التحدي من الجانبين ببسالة يزيدها الغضب قوة على قوتها، وغلب أعداءه، وانتقم لنفسه أقسى انتقام وأشده بطشاً؛ فغرر بأعدائه واحداً بعد واحد مدعياً أنه يريد مصالحتهم، ودعاهم إلى المآدب الفخمة، وقتل بعضهم بعد تناول الحلوى، وزج البعض الآخر في السجن، وترك الكثيرين منهم يموتون جوعاً في غيابه السجون، واحتفظ ببعضهم في الأقفاص ليتسلى بمنظرهم متى شاء، حتى إذا ماتوا حنطت أجسامهم وألبست حللهم المفضلة، واحتفظ بها في متحفه(5). على أن هذه القصص قد تكون من قبيل "الفظائع" التي تذاع في أو قلت الحرب والتي يخترعها المؤرخون من أبناء المعسكر المعادي لمن يعزونها إليهم. فقد كان هذا الملك هو الذي عامل ليوناردو ده ميديتشي في عام 1479 معاملة عادلة لا غبار عليها. وكادت الثورة أن تطيح به في عام 1485، ولكنه استرد مكانه، وحكم بلاده حكماً طويلا دام ستة وثلاثين عاماً، ومات وسط مظاهر السرور العام. أما بقية قصة نابلي فموضعها في الجزء الذي سنتحدث فيه عن انهيار إيطاليا.

ولم يواصل فـِرّانتى الخطة التي جرى عليها ألفنسو في مناصرة العلماء، ولكنه عين رئيساً لوزرائه رجلا كان شاعراً، وفيلسوفاً، ودبلوماسياً ماهراً كل ذلك في وقت واحد، ذلك هو جوڤاني پونتانوس Giovanni Pontanus. وتدرج جوڤاني بمجمع ناپولي العلمي، الذي أوجده بيكادلي من قبل، في معارج الرقي. وكان أعضاؤه من رجال الأدب يجتمعون في فترات معينة لتبادل الآراء ومطارحة الأشعار، وقد اتخذوا لهم أسماء لاتينية (فتسمى بنتانو باسم جفيانوس بينتانوس)، وكانوا يحبون أن يعتقدوا أنهم يواصلون بعد فترة انقطاع طويلة قاسية ثقافة روما الإمبراطورية العظيمة. وكانت طائفة منهم تكتب لغة لاتينية خليقة بأن يكتبها أدباء العصر الفضي في روما؛ وكتب بنتانوس رسائل في الأخلاق بالغة اللاتينية، امتدح فيها الفضائل التي يقال إن فيرانتي كان يتجاهلها، كما كتب رسالة بليغة في المبادئ يوصي فيها الحكام بالصفات المحببة التي ازدراها مكفيلي في كتاب الأمير بعد عشرين عام من ذلك الوقت، وأهدى جيوفني هذه الرسالة المثالية إلى تلميذه ألفنسو الثاني (1494-1495) ابن فـِرّانته وولي عهده، وكان ألفنسو هذا يسير على كل المبادئ التي دعا إليها مكيفلي. وكان بنتانو يعلَّم بالشعر وبالنثر معاً، ويشرح في أشعار لاتينية سداسية الأوتاد قواعد علم الفلك الغامضة والطريقة الصحيحة لزراعة أشجار البرتقال، وامتدح في طائفة من القصائد الممتعة كل نوع من أنواع الحب الطيب السوي: اشتياق الشباب للسلم، وحنان العروسين وصلتهما العاطفية، والإشباع المتبادل بين الزوجين، ومباهج الحب الأبوي وأحزانه، واندماج الزوجين في كائن واحد على مر السنين. ووصف في شعر، يبدو أنه خارج من القلب كشعر فرجيل ويدا على إتقان كبير عجيب للألفاظ اللاتينية، حياة أهل نابلي المرحة الخالية من العمل: وصف العمال وهم مستلقون على الكلأ، والمولعين بالرياضة يمارسون ألعابهم، والمتنزهون في عرباتهم، والبنات المغريات يرقصون رقصة الطرنطيلة على دقات الرق، والفتيان والفتيات يتغازلون وهم سائرون على شاطئ الخليج، والعشاق يتواعدون ويتلاقون، والأشراف يستحمون في بايا Baiae كأن خمسة عشر قرناً لم تمض على نشوات أوفد وقنوطه. ولو أن بينتانو كتب الإيطالية بنفس الأسلوب السلس الظريف الذي كتب به الشعر اللاتيني لوضعناه في مرتبة بترارك وبوليتيان اللذين كانا يجيدان اللغتين، واللذين أوتيا من الحصافة ما جعلهما يسايران الومن الحاضر كما يجولان في طرائق الماضي.

وكان أبرز الأعضاء في المجمع العلمي بعد بنتانو هو ياكوپو سنادسارو Jacopo Sannazaro. وكان في مقدور ياقوبو هذا أن يكتب، كما يكتب بمبو، لغة إيطالية بأنقى اللهجات التسكانية- التي تختلف أشد الاختلاف على لغة الكلام في نابلي. وكان في مقدوره، كما كان في مقدور بوليتيان وبنتانو، أن يصوغ مراثي ونكات شعرية لا يستحي منها تيبلوس ومارتيال لو أنها عزيت إليهما. وكتب مرة مقطوعة شعرية يثني فيها على البندقية فبعثت إليه بستمائة دوقة (6). ولما خرج ألفنسو الثاني ليحارب البابا اسكندر السادس، اصطحب معه سنادسارو ليقذف روما بسهام شعره؛ ولما أن اتخذ البابا الشهواني، الذي كانت أسرته- أسرة بورجيا- تتخذ شعاراً لها صورة ثور أسباني، لما أن اتخذ هذا البابا جوليا فارنيزي عشيقة له رماه سنادسارو ببيتين جعلا جنود ألفنسو يندمون بلا ريب على جهلهما باللغة اللاتينية:

من ذا الذي يرتاب في أن أوربا جلست يوماً على ثور من صور.
فها هو ذا ثور أسباني يحمل جوليا.

ولما نزل سيزاري بورجيا إلى الميدان ليحارب نابلي صوب إليه هذا السهم:

سيسمون بورجيا سيزاري أو لا يسمونه شيئاً على الإطلاق.
ولكن لما لا يجمع بين الاثنين، فهو كلاهما معاً.


وأخذت هذه الطعنات تنتقل من الأفواه إلى الآذان في إيطاليا، وكان لها شأن في تكوين القصص التي كانت تروى عن آل بورجيا.

وألف سنادسارو في فترة من فترات مزاجه الهادئ (1526) ملحمة لاتينية عنوانها ولادة العذراء. وكانت هذه القصيدة عملاً فذاً مدهشاً، استخدم الشاعر فيها الآلهة الوثنية القديمة، ولكنه جاء بها ليتخذها معواناً له على صيغة قصة الإنجيل، وإضافات لها، وقد أقتبس فيها أنشودة الرعاة الرابعة الذائعة الصيت لفرجيل فأدخلها في صلب القصيدة وجعلها بذلك تضارع ملحمة فرجيل. ولغتها اللاتينية ممتازة، وقد سر بها كلمنت السابع أعظم السرور، ولكن أحداً حتى البابا نفسه لا يكلف نفسه عناء قراءتها في هذه الأيام.

وكتب سنادسارو أعظم قصائد على الإطلاق بلغة قومه الحية. ومزج فيها النثر بالشعر - ونعني بها قصيدة أركاديا (1504). وكان الشاعر قد تعب من حياة المدن كما تعب منها ثيوقريطس في الإسكندرية القديمة، وعرف كيف يحب هدوء الريح وشذي زهره ونباته، وخالف بذلك لورندسو وبوليتان الذين كانا يعبران بإخلاص لا شك فيه عن عواطف أهل الحضر قبل أيامه بنحو عشرين عاماً. أما في أيامه هو فقد كانت صور المناظر الطبيعية تعبر عن تقدير أصحابها للريف تقديراً مطرد النماء، فأخذ الناس يتحدثون عن الغابات والحقول، ومجاري المياه الصافية، والرعاة الأشداء ينشدون أناشيد الحب على نغمات المزمار. ووصف كتاب سنادسارو هذه الأخيلة التي سرت بين الناس، وانتشر الكتاب بين الشعب وذاعت شهرته إلى حد لم يحظ به أي كتاب آخر في عصر النهضة الإيطالية. فقد طاف فيه بقرائه في عالم خيالي من الرجال الأشداء والنساء الحسان - ليس فيهم ولا فيهن شيوخ أو عجائز، وكلهم وكلهن عرايا. ووصف فخامتهم وفخامتهن، وروعة المناظر الطبيعية، قي نثر شعري، كان هو المثال الذي حذا حذوه الكتاب في إيطاليا، وفي فرنسا وإنكلترا بعدها، وتخللت نثره أبيات من الشعر لا نجد فيها عليه مأخذاً. وفي هذا الكتاب وُلِد أدب الرعاة الحديث مولداً جديداً، ولعله كان أقل ظرفاً من الأدب القديم، ولعله أكثر منه طولا وأشد عصفاً؛ ولكنه كان ذا أثر غير محدود في الأدب والفن. وفيه وجد جيورجيوني، وتيشان، ومائة من الفنانين بعدهما موضوعات لصورهم الملونة، وفيه وجد ادمند اسبنسر Edmund Spenser، وسير فيليب سدني Sir Philip Sidney صوراً لأوصاف ملكات الجن في قصائدهم، وفي ملحمة أركاديا الإنكليزية. ذلك أن سنادسارو قد كشف في عالم الأدب مرة أخرى عن قارة أعظم فتنة من العالم الجديد الذي كشف كولمبس، وعن مدينة فاضلة فتانة في وسع كل روح أن تدخلها دون أن يكلفها ذلك الدخول شيئاً أكثر من معرفة القراء، وتستطيع أن تبني قصرها كما يتطلبه ذوقها وهواها دون أن ترتفع عن الصفحة إصبعاً.

وكان الفن في هذا العهد أكثر رجولة من الشعر، وإن كانت المسحة الإيطالية الناعمة قد أحدثت أثرها فيه أيضاً. وقد أقبل دوناتيلو، ومتشبلدسو من فلورنس، وضربا المثل في الفن بالتابوت الرائع الذي نحتاه للكردينال رينلدو براننكتشي Rinaldo Branc-acci في كنيسة سان أنجلو أنيلو San Angelo a Nilo. وأمر ألفنسو الأفخم أن يقام مدخل جديد (1443-1470) للقصر الجديد Castel Nuovo الذي بدأه شارل الأول صاحب أنجو (1283)؛ وكان فراننشيسكو لورانا هو الذي وضع تصميم هذا القصر، كما أن بيترو دي مارتينو، وجوليانو دا مايانا في أغلب الظن هما اللذان حفرا النقوش الجميلة التي تمثل أعمال الملك العظيمة في الحرب والسلم. ولا تزال كنيسـة سانتا كيارا Santa Chiara، التي بنيت لروبرت الحكيم Robert the Wise (1310) تضم النصب القوطي الجميل الذي أقامه الأخوان جيوفني وباتشي دا فريندسى Pace da Frenze في عام 1343 بعد موت الملك بزمن قليل. وأنشئ لكاتدرائية سان جنارو San Gennaro (1272) جزء داخلي قوطي جديد في القرن الخامس عشر؛ وهنا في الكابلادل تزورو يجري دم القديس جاتوريوس راعي نابلي وحاميها، ثلاث مرات في العام، مؤكداً رخاء المدينة التي أرهقتها أعمال التجارة، وأثقلها عبء القرون، ولكنها تجد سلواها في الإيمان والحب.

وظلت صقلية بمعزل عن النهضة. نعم إنها أنجبت عدداً قليلاً من العلماء، وقليلاً من المصورين أمثال أنطونيلو دا مسينا، ولكنهم هاجروا منها ليجدوا في أرض شبه الجزيرة فرصاً أوسع مما يتاح لهم منها في موطنهم الأصلي. وكان في بالرم، ومنتريال، وتشيفالو Cefalu فن عظيم،ولكنه لم يكن إلا بقية من أيام بيزنطية، أو الإسلام، أو النورمان. ذلك أن أمراء الإقطاع ملاك الأرض كانوا يؤثرون القرن الحادي عشر على الخامس عشر، ويحتقرون الآداب أو يجهلونها كما كان يفعل الفرسان. وكان الشعب الذي يحكمونه أفقر من أن يعبر عن نفسه تعبيراً ثقافياً يزيد على ثيابه الزاهية، وفسيفسائه الديني البراق، وآماله المكتئبة الحزينة، وأغانيه، وشعره الساذج الذي يتحدث فيه عن الحب والعنف. وكان للجزيرة الجميلة ملوكها وملكاتها من أسرة أرغونة حكموها من 1295 إلى 1409 ثم كانت من بعد ذلك درة في تاج أسبانيا مدى ثلاث قرون.

وبعد فهمها بدا من الإطناب في هذه العجالة القصيرة في أحوال وبعد فهمها بدا من الإطناب في هذه العجالة القصيرة في أحوال إيطاليا غير الرومانية، فإنها لم توف الحياة الكاملة المتنوعة التي كانت تحياها شبه الجزيرة ذات العواطف الجياشة ما هي خليقة به على الوجه الأكمل. وقد يكون أجدر بنا أن نرجئ التحدث عن الأخلاق والعادات، والعلم والفلسفة، إلى ما بعد الفصول التي سنتحدث فيها عن باباوات النهضة، ولكن كم من مسالك فرعية عظيمة القيمة قد فاتتنا حتى في هذه المدن التي ألقينا فيها نظرة عاجلة ! فنحن لم نقل شيئاً مثلاً عن فرع كامل من فروع الأدب الإيطالي لن أعظم الروايات القصصية من أعمال عصر متأخر عن هذا العصر الذي تحدثنا عنه. كذلك كان حديثنا عن الدور الهام الذي اضطلعت به الفنون الصغرى في زينة أجسام الإيطاليين، وعقولهم، وبيوتهم موجزاً غير واف بها؛ فكم من بثور وقروح متورمة مشوهة قد استحالت عظمة وجلالة بفضل فنون النسيج !؛ وماذا كان يكون شأن عظماء الرجال والنساء الذين مجدهم المصورون البنادقة لولا ثيابهم المنسوجة من المخمل، والساتان، والحرير، والديباج؟ لقد أحسن هؤلاء صنعاً إذ ستروا عريهم ووسموا العري بميسم الإثم؛ وما كان أحكمهم أيضاً إذ لطفوا حر صيفهم بالحدائق وإن لم تكن ذات أشكال مبتكرة متباينة، وجملوا بيوتهم بالقرميد الملون على سقفها وأرضها، وبالحديد المشغول المزخرف والنقوش العربية الطراز، والآنية النحاسية المصقولة البراقة، والتماثيل والصور الصغيرة المتخذة من الشبه أو العاج، تذكرهم بمدى ما يستطيع الرجال والنساء أن يبلغوه من الجمال، وأشغال الخشب المحفور والملبس الذي بني ليبقى ألف عام، والفخار البراق تزدان به النضد والأصونة وأرفف المُصْطليات، والزخارف المعجزة في زجاج البندقية الذي يتحدى الزمان بقوامه الهش، والأصباغ الذهبية، والمشابك الفضية لأغلفة الكتب المصنوعة من الجلد تحيط بذخائر المؤلفات القديمة التي زخرفها أرباب الأقلام السعداء. وقد آثر كثيرون من المصورين أمثال سانو دي بيترو أن يفقدوا ضوء أبصارهم في رسم الصورة الدقيقة وتلوينها على أن يبسطوا تصورهم الدقيق العميق للجمال في أشكال فجة على الألواح والجدران. وقد يلذ للإنسان، إذ مل الطواف في معارض الفن، أن يجلس في بعض الأحيان وهو منشرح الصدر ساعات طوال يتأمل زخارف المخطوطات وخطها الجميل، وهي المخطوطات التي لا تزال مخبأة في قصر اسكفانويا Schifanoia بفيرارا أو في مكتبة مورجان بنيويورك، أو الأمبروزيانا بميلان.

لقد اجتمعت هذه الفنون مضافاً أليها الفنون الكبرى، والكدح واحب، والمماحكة وفن الحكم، والورع والحرب، والإيمان والفلسفة، والعلم والخرافة، والشعر والموسيقى، والأحقاد والأهواء، وشعب وديع محبوب، جياش العاطفة، اجتمعت هذه كلها لخلق النهضة الإيطالية والوصول بها إلى كمالها وانهيارها في روما الميديتشية.