قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 3 ب 10

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 6768

قصة الحضارة -> النهضة -> مسرح الحوادث الإيطالية -> فيرارا -> بيت إست

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب العاشر: فيرارا

الفصل الأول: بيت إسته

كانت أكثر مراكز النهضة نشاطاً في الربع الأول من القرن السادس عشر في فيرارا، والبندقية وروما. وليس في مقدور الطالب الذي يجول في أنحاء فيرارا أن يعتقد- إلا حين يدخل قصرها العظيم- أن هذه المدينة الهاجعة كانت قي يوم من الأيام موطن أسرة قوية، بلاطها أفخم بلاط في أوربا، وأن من بين الذين كانوا يتقاضون معاشاً من حكمها أعظم شاعر في ذلك العصر.

وكان من أسباب نشأة هذه المدينة موقعها على الطريق التجاري بين بولونيا والبندقية، ومنها الإقليم الزراعي الواقع من خلفها والذي جعل منها سوقاً تباع فيها غلاته؛ هذا إلى أن المدينة نفسها قد أصابت غنى كثير بوقوعها عند ملتقى ثلاثة فروع من نهر البو. وقد ضمت إلى الإقليم الذي منحه بيبين الثالث إلى البابوية (756)، والذي منحها إياه شارلمان (773)، والذي أعطته الكونتة ماتلدا التسكانية إلى الكنيسة (1107). وكانت المدينة تقر من الوجهة الرسمية بأنها إقطاعية بابوية ولكنها كانت تحكم نفسها بوصفها "قومونا" مستقلاً تسيطر عليه أسرة غنية من التجار. ولما اضطربت أحوالها بسبب هذه المنازعات قبلت الكونت أتسو Azzo السادس صاحب إست Este حاكماً عليها مطلق السلطة (بودستا Podesta)، (1208) وجعلت هذا المنصب وراثياً في أبناء من بعده. وكانت إست هذه إقطاعية صغيرة تابعة للإمبراطور، على بعد أربعين ميلا أو نحوها من فيرارا، وكان الإمبراطور أتو Otho الأول قد وهبها للكونت أتسو الأول صاحب كانوسا (961)؛ وأصبحت في عام 1056 مركز هذه الأسرة، وما لبثت أن تسمت باسمها؛ ونشأت من هذا البيت التاريخي فيما بعد الأسرتان الحاكمتان في برنزويك وهانوفر.

وحكم أفراد هذه الأسرة فيرارا من 1208 إلى 1597، وكانوا من الناحية الرسمية اتباعاً من للإمبراطور والبابوية، ولكنهم كانوا من الناحية الفعلية حكاماً مستقلين، يحملون لقب مركيز ثم بدل هذا اللقب بعد عام 1470 بلقب دوق.

ونعم الناس في حكمهم بالرخاء إلى حد ما، وأمدوا البلاط بحاجاته وأسباب ترفه، فاستطاع أن يستضيف الأباطرة والبابوات، وأن يحتفظ بحاشية كبير من العلماء، والفنانين، والشعراء، والقسيسين. واستطاع آل إستنسي أن يحتفظوا بولاء رعاياهم خلال أربعة قرون؛ ولما أن أخرجهم مندوب من قبل البابا كلمنت الخامس ونادى بفيرارا ولاية تابعة للبابا (1311)، وجد الناس أن حكم الكنيسة أثقل عليهم من استغلال رجال الدنيا، فطردوا المندوب البابوي وردوا السلطة إلى أسرة إستنسي (1317)، وأصدر البابا يوحنا الثاني والعشرون قرار "الحرمان" على المدينة؛ فلما حرمت على الأهلين الشعائر الدينية المقدسة بدءوا يتذمرون؛ وسعى آل إستنسي لاسترضاء الكنيسة ونالوا رضاها بشروط قاسية: فاعترفوا أن فيرارا إقطاعية بابوية، يحكمونها بوصفهم مندوبين عن البابوات، وتعهدوا بأن يؤدوا هم وخلفائهم إلى البابوية من مال الدولة جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوقة (250.000 ؟ دولار)(1).

ووصل بيت إست إلى ذروة مجده أثناء حكم نقولو الثالث الذي دام زمناً طويلاً فلم تكن هذه الأسرة تحكم فيرارا وحدها بل كانت تحكم معها روفيجو Rovigo، ومودينا، وروجيو وبارما، بل إنها حكمت أيضاً ميلان فترة قصيرة. وتزوج نقولو عدداً كثيراً من النساء واحدة بعد أخرى، وكان له أيضاً عدد من الخليلات؛ وكان من بين زوجاته واحدة ذات جمال بارع محبوبة من الشعب تدعى باريزينا مالاتيستا Parisina Malatesta، وكانت ترتكب الفحشاء مع أوجو Ugo ابن زوجها، وأمر نقولو بقطع رأسيهما (1425)، كما أمر بأن تقتل كل من يثبت عليها الزنى من نساء فيرارا، فلما تبين أن هذا الأمر سيهدد فيرارا بالإقفار من السكان، غض النظر عنه. وكان حكم نقولو في ما عدا هذا حكماً طيباً، فقد خفض الضرائب، وشجع الصناعة والتجارة، واستقدم ثيودورس جادسا Theodorus Gaza لتدريس اللغة اليونانية في جامعة المدينة، وعهد إلى جوارينو دا فيرونا Gurino da Verona أن ينشئ في فيرارا مدرسة تضارع في شهرتها ونتائجها مدرسة فتوريتو دا فلتري في مانتوا.

وكان ليونيلو Leonello بن نيقولو شخصية فذة نادرة (1441- 1450)، كان رحيماً وقوياً، ظريفاً وقادراً، ذكياً وعملياً، تدرب على جميع فنون الحرب، ولكنه كان محباً للسلم، وكان هو المحكم المحبوب ورسول السلام بين زملائه حكام إيطاليا. وقد علمه جوارينو العلوم والآداب فأصبح قبل لورندسو ده مديتشي بجيل من الزمان من أعظم رجال ذلك العصر ثقافة حتى لقد دهش العالم فيليلفو من اتقان ليونيلو اللغتين اللاتينية واليونانيو، وعلوم البيان والشعر، والفلسفة والقانون. وكان هذا المركيز أول من أشار من العلماء بأن الرسائل المزعومة التي كتبها القديس بولس إلى سنكا مزورة(2). وقد أنشأ مكتبة عامة، وأمدها بالمال والنفوذ، وعين في هيئة التدريس بها خير من يستطيع العثور عليهم من العلماء، وكان يشترك اشتراكاً فعلياً في مناقشاتهم. ولم يلوث حكمه بشيء من الدنايا أو سفك الدماء أو المآسي، اللهم إلا قِصَره المفجع، ولما مات في سن الأربعين حزنت عليه إيطاليا بأجمعها.

وجاءت من بعده طائفة متتابعة من الحكم حافظوا على العصر الذهبي الذي بدأه ليونيلو. وكان أخوه بورسو Borso (1450- 1471)، أصلب منه عوداً، ولكنه استمسك بسياسة السلم، وزاد رخاء فيرارا في أيامه زيادة حسدتها عليه سائر الدول. ولم يكن يعنى بالأدب والفنون، وإن كان قد ساعدها بالمال مساعدة قيمة، وحكم دولته بمهارة وعدالة نسبية، ولكنه حمل أهلها ضرائب فادحة، وأنفق كثيراً منها في أبهة البلاط ومظاهره. وكان يحب الألعاب الفخمة والرتب العالية، ويتوق إلى أن يكون دوقاً مثل آل فسكونتي في ميلان، واستعان بالمنح السخية حتى أقنع الإمبراطور فردريك الثالث بأن يخلع عليه لقب دوق مودينا ورجيو (1452) وأقام لهذه الناسبة احتفالاً فخماً أنفق فيه أموال طائلة، وبعد تسع سنين من ذلك الوقت حصل من سيده الإقطاعي الثاني البابا بولس الثالث على لقب دوق فيرارا. وذاع صيته في عالم البحر المتوسط، وبعث إليه حكام بابل وتونس المسلمون بالهدايا، ظناً منهم أنه أعظم حاكم في إيطاليا.

وكان بورسو سعيداً بأخويه: ليونيلو الذي ضرب له أحسن المثل، وإركولى الذي أبى أن يكون له نصيب في المؤامرة تهدف إلى خلعه، وظل معينه الوفي إلى آخر أيامه ثم ورث السلطة من بعده. وظل إركولى يحكم ست سنين حافظ على السلم، وأبهة الحكم، وناصر الشعر والأدب، وفرض الضرائب الباهظة، وقوى رابطة الصداقة مع نابلي بزواجه من إليانورا أميرة أرغونة وابنة الملك فيرانتي، واستقبلها في بلده بأعظم الحفلات التي شهدتها فيرارا (1473) وأكثرها بذخاً، ولكن إركولى انضم إلى فلورنس وميلان ضد نابلي والبابوية في عام 1478 حين أعلن سكستس الرابع الحرب على فلورنس لأنها عاقبت المشتركين في مؤامرة باتسي Pazzi؛ ولما وضعت الحرب أوزارها، حمل سكستس مدينة البندقية على الانضمام إليه في هجومه على فيرارا (1482). وبينما كان إركولى طريح الفراش، زحف جنود البندقية حتى صاروا على بعد أربعة أميال من المدينة، وهرع الفلاحون الذين أخرجوا من ديارهم وأرضهم وازدحموا داخل أسوار المدينة، وشاركوا أهلها في مجاعتهم. ثم أخشى البابا صاحب المزاج المتقلب أن تصبح فيرارا ملكاً للبندقية لا للبابوية ولا لابن أخيه، فعقد الصلح مع اركولى، وارتد البنادقة إلى أمواه بلدهم واحتفظوا بروفيجو.

ووزعت الحقول من جديد، وجاء الطعام إلى المدينة، ونشطت التجارة مرة أخرى، واصبح من المستطاع أن تجني الضرائب. وشكا إركولي من أن الغرامات التي تنتزع من الخارجين على الدين أخذت تنقص عن معدلها البالغ ستة آلاف كرون في العام (150.000 دولار)، ولم يكن يعتقد أن الناس قد أصبحوا أكثر صلاحاً من ذي قبل، وطالب باستخدام الشدة في تنفيذ القانون(3). وكان سبب هذا حاجته الملحة إلى المال لأنه رأى أن السكان زاد عددهم عما تتسع له المدينة، فألحق بها مدينة أخرى لا تقل عنها سعة، وقد خطط هذه المدينة الإضافية تخطيطاً راعى فيه أن تكون شوارعها واسعة مستقيمة لم تر أية مدينة إيطالية أخرى مثلها منذ أيام الرومان. وبذلك كانت فيرارا الجديدة "أول مدينة حديثة بحق في أوربا"(4). ولم تمض إلا عشر سنين حتى امتلأت بالسكان الذين نزحوا من المدينة القديمة، وأقام إركولي فيها الكنائس، والقصور، والأديرة، وأغرى نساء الدين بأن يتخذن فيرارا موطناً لهن.

وكان مركز حياة الشعب في المدينة هو الكتدرائية، أما الصفوة المختارة فكانت تفضل عنها القصر الكبير الذي بناه نقولو الثاني (1383) لحماية الحكومة من العدوان الخارجي أو الثورة الداخلية، ولا تزال أبراج هذا الحصن الضخمة تشرف على ميدان المدينة الأوسط. وفي أسفله الجباب التي مات فيها باريسينا Parisina وكثيرون غيره، ومن فوقها الأبهاء الواسعة التي زخرفها دسو دسي Dosso Dossi ومساعدوه، والتي كان يعقد فيها الأدواق والدوقات مجالسهم ومجالسهن، ويعزف فيها الموسيقيون ويغنون، ويثب فيها الأقزام، وينشد فيها الشعراء قصائدهم، ويلقى فيها المهرجون نكاتهم العجيبة، ويطلب فيها الذكور الإناث، ويرقص فيها السيدات والفرسان طول الليل، وفي الأيام والحجرات الأكثر هدوءاً تقرأ الفتيات والفتيان روايات الفروسية والغرام. وفي هذا الجو ولدت إزبلا وبيتريس دست لإركولي ولإليانور في عامي 1474 و 1475 ونشأتا كما تنشأ أميرات الجان يكتنفهما الثراء، والأعياد، والحرب، والأغاني، والفن. ولكن جداً حنوناً محباً أغرى بيتريس بالحرحيل إلى نابلي، وخطيباً دعاها إلى ميلان، وفي السنة التي خطبت فيها بيتريس وهي سنة 1490 رحلت إزبلا إلى مانتوا. وأحزن سفرهما كثيرين من أهل فيرارا، ولكن زواجهما قوى رابطة الحلف بين آل استنسي من جهة واسفوردسا وجندساجا من جهة أخرى. ونصب إبوليتو أحد أبناء الفنانين الكثيرين كبير أساقفة وهو في الحادية عشرة من عمره، وكردنالاً في الرابعة عشرة من عمره، وأصبح من أكثر رجال الدين ثقافة وأفسدهم أخلاقاً في أيامه.

وإن الأنصاف ليقتضينا حين نتحدث عن هذه المناصب الكنسية ومن يعينون فيها دون مراعاة الكفاية والسن أن نقول إنها كانت جزءاً من الأحلاف الدبلوماسية في ذلك الوقت. ومثال ذلك أن أسكندر السادس الذي جلس على كرسي البابوية منذ عام 1492 كان يحرص على استرضاء إركولي لأنه كان يهدف إلى جعل ابنته لكريدسيا بورجيا دوقة فيرارا. فلما عرض على إركولي أن يتزوج ألفنسو ابن الدوق وولي عهده لكريدسيا، قابل إركولي هذا العرض بفتور، لأن لكريدسيا لم تكن سمعتها قد طهرت كما هي مطهرة الآن. ثم قبل الاقتراح آخر الأمر، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد أن انتزع من الأب الملح شروطاً أنطقت الاسكندر بأنه تاجر مساوم. وكان من هذه الشروط أن يمنح البابا لكريدسيا بائنة قدرها مائة ألف دوقة (1.250.009؟ دولار)؛ وأن تخفض الجزية السنوية التي تؤديها فيرارا للبابوية من أربعة آلاف مكورين إلى مائة (1250؟ دولار)؛ وأن يثبت البابا دوقية فيرارا لألفنسو وورثته إلى أبد الدهر. وظل ألفنسو متمتعاً رغم هذا كله حتى شاهد عروسه، وسنرى فيما بعد كيف كان استقباله إياها.

وارتقى عرش الدوقية في عام 1505، وكان طرازاً جديداً من آل إستنسي. ذلك أنه قبل ارتقائه العرش قد سافر إلى فرنسا، والأراضي الوطيئة، وإنجلترا، ودرس الأساليب الفنية للتجارة والصناعة، فلما تم له الأمر ترك للكريدسيا مناصرة الفنون والآداب، وصرف جهوده في إدارة دولاب الحكومة وصنع الآلات، وقرض الشعر. وقد صنع بنفسه إناء رقيقاً منقوشاً من الخزف الرفيع، كما صنع أحسن أنواع المدافع في وقته، ودرس فن التحصين، حتى أصبح عمدة هذا الفن والمرجع الذي تعتمد عليه فيه جميع أنحاء أوربا. وكان في الأحوال العادية حاكماً عادلاً، عامل لكريدسيا بعطف وحنان على الرغم من رسائلها الغزلية، لكنه كان يطرح العواطف جانباً حين يعامل عدواً خارجياً أو يقمع فتنة داخلية.

وحدث أن افتتن اثنان من إخوة الفنسو هما إبوليتو وجويليو بوصيفة من وصيفات لكريدسيا تدعى أنجيلا، كما حدث أن اندفعت أنجيلا دون روية وفي ساعة من ساعات كبريائها وغطرستها فعيرت ابوليتو بأن قالت له أنه هو كله أقل قيمة عندها من عيني أخيه، فما كان من الكردنال إلا أن قطع الطريق هو وجماعة من القتلة المأجورين على أخيه، ووقف يشاهد أعوانه وهم يقتلعون عيني جويليو بالعصي (1506)، وطلب جيويليو إلى ألفنسو أن يأخذ له بحقه، فنفى الدوق الكردنال، ولكنه لم يلبث أن سمح له بالعودة. وآلم جويليو ذلك الإهمال البادي للعيان من جانب الفنسو فأتمر مع أخ آخر يدعى فيرانتى على قتل الدوق والكردنال جميعاً، لكن المؤامرة كشفت، وزج جويليو وفيرانتي في سجون القصر الانفرادية، حيث مات فيرانتي في عام 1540، أما جويليو فقد عفا عنه ألفنسو الثاني في عام 1558 بعد خمسين عاماً من الحجز البسيط، لكنه خرج من اعتقاله شيخاً طاعناً بالسن، أبيض شعر الرأس واللحية، يلبس ثياباً من الطراز الذي كان سائداً منذ خمسين عاماً، ووافته المنية بعد أن أطلق سراحه بزمن قليل.

وكانت صفات ألفنسو هي الصفات التي تتطلبها حكومته، ذلك بأن البندقية كانت توسع رقعة أملاكها بضم أجزاء من رومانيا Romangna، وكانت تحيك الدسائس للاستيلاء على فيرارا، ولم يكن يوليوس الثاني البابا الجديد راضياً عن الامتيازات التي منحها سلفة أسرة إستنسي بمناسبة زواج لكريدسيا، فاعتزم أن يحط منزلة الإمارة فيجعلها إقطاعية خاضعة لأمره تزوده بالإيراد لا أكثر. وحدث في عام 1508 أن استطاع يوليوس إقناع ألفنسو بالانضمام إليه هو وفرنسا وإسبانيا في سعيهم لإخضاع البندقية.

وكان من أسباب موافقة ألفنسو أنه كان شديد الرغبة في استرداد روفيجو من البندقية. وركز البنادقة هجومهم على فيرارا، وسيروا أسطولهم في نهر البو، ولكن مدفعية ألفنسو المختفية عن الأنظار هزمت هذا الأسطول، ثم مني جيش البندقية بهزيمة ساحقة على يد جنود فيرارا يقودهم إبوليتو الذي لم يكن يفوق استمتاعه بالحرب إلا استمتاعه بالنساء. ولما لاح أن البندقية قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة عقد يوليوس معها الصلح وأمر ألفنسو أن يحذو حذوه لأنه لم يشأ أن يضعف البنادقة وهم أقوى خطوط الدفاع ضد الأتراك ضعفاً لا قيام لهم بعده. لكن ألفنسو لم يجب يوليوس إلى ما طلب، وما لبث أن ألفى نفسه مشتبكاً في الحرب مع عدوه ومع من كان إلى وقت قريب حليفاً له. وسقطت رجيو ومودينا في أيدي الجيوش البابوية، وبدا أن ألفنسو خاسر لا محالة. فلجأ في باسه إلى روما، وسأل البابا عن شروط الصلح، فطلب إليه البابا أن ينزل آل إستنسي جميعاً عن العرش، وأن تنضم فيرارا إلى الولايات البابوية، فلما رفض ألفنسو هذه المطالب حاول يوليوس أن يقبض عليه، ولكن ألفنسو تمكن من الهرب، وقضى ثلاثة شهور يجول متنكراً معرضاً للأخطار حتى وصل إلى عاصمته. ومات يوليوس في عام 1513، وأسترد ألفنسو رجيو ومودينا، وواصل ليو العاشر حرب البابوية على فيرارا؛ ولم ينقطع ألفنسو في هذه الأثناء عن تحسين مدفعيته وتبديل أساليبه الدبلوماسية، فصمد في عناد شديد حتى مات ليو أيضاً (1521). وسوى البابا أدريان السادس الأمور تسوية شريفة مع الدوق الباسل الذي لا يقهر، وأتيحت لألفنسو فترة من الوقت وجه فيها مواهبه إلى فنون السلم.


الفصل الثاني: الفنون في فيرارا

وكانت ثقافة فيرارا أرستقراطية خالصة، كما كانت فنونها على الدوام في خدمة القلة المختارة، ولم يكن لأسرة الدوق، التي لا تنقطع الحروب بينها وبين البابوية، ما يحملها على التمسك بأهداب الدين إلا أن تضرب بذلك أحسن مثال في التقي والصلاح للشعب الذي تحكمه، وقد شادت بعض الكنائس الجديدة، ولكنها لم تكن لها صفة الدوام. وقد أنشئ في الكتدرائية في القرن الخامس عشر برج غير ذي روعة، وموضع للمرنمين من طراز النهضة ذلك الوقت وأنصارهم كانوا يفضلون بناء القصور، ومن أجل هذا صمم بياجيو روسيتي Biagio Rossetti قصراً من أجمل القصور هو قصر لدوفيكو إل مورو (لدوفيكو المغربي)؛ وتقول إحدى الروايات المشكوك في صحتها إن لأدوفيكو أمر ببنائه ظناً منه أنه قد يطرد يوماً ما من ميلان، وقد بقى دون أن يتم حين أخذ إلى فرنسا، ويعد فناؤه غير المسقف ذو البواكي البسيطة الرشيقة في الدرجة الثانية من دور النهضة. وأجمل منه الفناء الكبير الذي بنى لآل اسفوردسا (1499)، والذي يسمى الآن فناء بيفلكوا (drinkwater) Bevilacqua نسبة إلى أحد ساكنيه المتأخرين. وأروع من هذا القصر على روعته قصر ديامنتي Palazzo de' Diamanti الذي وضع تصميمه روستي (1492) لسجسمند أخي الدوق إركولي، والذي اشتق أسمه من واجهته المكونة من 12.000 عقدة رخامية على شكل الماس.

وكانت قصور الترف والمتعة طراز ذلك العصر، وكانت تطلق عليها أسماء غريبة للخيال فيها أكبر نصيب: بيلفيوري Belfiori، بلرجوارديو Belrguardio لاروتندا La Rotonda، بلفدير، وكان أعظم من هذه القصور كلها قصر آل إستنسي الصيفي المسمى "قصر اسكفانويا (تخطى الإزعاج) Paluzzo di Schifanoia" أو "بدون قلق San Souci" كما يريد فردريك الأكبر أن يسميه. وقد بدئ في إنشائه عام 1391، وأتمه بورسو في عام 1469، وكان يتخذ بيتاً من بيوت الحاشية ومسكناً لغير ذوي المنزلة الكبرى من أسرة الدوق. ولما ضعف شأن فيرارا حول القصر إلى مصنع للدخان، وطليت النقوش الجدارية التي رسمها كُسَّا، وتوراً Tura وغيرهما من المصورين في القاعة الكبرى بالجير. ثم أزيلت هذه الطبقة الجيرية في عام 1840 وأنقذت سبع من اللوحات الاثنتي عشر، وهي سجل حافل مدهش للأزياء، والصناعات، والمواكب، والألعاب في عصر، بورسو مختلطة اختلاطاً عجيباً بشخصيات من الأساطير الوثنية. وتعد هذه المظلمات من أحسن ما أنتجته مدرسة من مدارس التصوير ظلت نصف قرن من الزمان تجعل فيرارا أحفل مراكز الفن الإيطالي بالنشاط.

وظل مصورو فيرارا خاضعين للتقاليد الجيوتسكية حتى نفض عنهم نقولو الثالث هذا الركود باستقدام فنانين أجانب لمنافستهم- ياقوبو بليني من البندقية؛ ومنتينيا من بدوا، وبيزانيلو من فيرونا. وأضاف ليونيلو قوة جديدة إلى هذا الحافز حين رحب بروجير فان درويدن (1449) الذي كان ممن جهدوا المصورين الإيطاليين إلى استعمال الزيت. واقبل في هذا العام نفسه بيرو دلا فرانتشيسكا من بورجوسان سبيلكر Borgo san Selqocro ليرسم صورة جدارية (فقدت الآن) في قصر الدوق. وكان الذي كون آخر الأمر مدرسة التصوير في فيرارا هو دراسة كوزيمونورا الحماسية لمظلمات منتينيا في بدوا والصناعة الفنية التي كان فرانتشيسكو سكوارا تشيوني يعلمها في تلك المدينة.

واختير تورا مصوراً للبلاط عند بورسو (1458) ورسم عدة صور لأسرة الدوق، واشترك في تصوير قصر اسكفانويا، ونال من الثناء ما جعل والد رفائيل في مصاف زعماء الفن في إيطاليا. ويبدو أن جوفاني سانتى كان يعجب بشخوص كوزيمو المكتئبة، وبالخلفيات المعمارية التي كان يرسمها لصوره، وبمناظره الطبيعية المحتوية على أشكال غريبة من الصخور ولكن رفائلو سانتى لو اطلع على هذه الصور لما وجد فيها شيئاً من عناصر الدقة والرشاقة التي نجدها في صور إركولي ده روبيرتي Ercole de' Roberti تلميذ تورا الذي خلف معلمه في منصب مصور الحاشية عام 1495، ولكن هذا المصور الجبار كانت تنقصه القوة والحيوية إلا إذا استثنينا من هذا التعميم الحفلة الموسيقية المحفوظة في معرض الصور في لندن والتي هي من صنع فرانز هلزيان Frans Halsian، وإن كانت في ما مضى تعزى إلى إركولي هذا. ورسم فرانتشيسكو كسا أعظم تلاميذ تورا على الإطلاق في قصر اسكفانويا آيتين فنيتين جمعتا قدراً كبيراً من الحيوية والرشاقة وهما: انتصار فينوس والسباق وهما صورتان تكشفان عن فتنة الحياة وبهجتها في بلاط فيرارا. ولما أن أدى إليه بورسو أجر الصورتين بالسعر الرسمي- أي عشر بولنينات bolognini عن كل قدم من الجزء المصور- احتج كستا على هذا، ولما عجز بورسو عن أن يدرك ما في احتجاجه من قوة حول فرانتشيسكو كسا مواهبه الفنية إلى خدمة بولونيا (1470). وفعل لورندسو كستا هذا الفعل نفسه بعد ثلاثة عشر عاماً من ذلك الوقت وخسرت بذلك مدرسة فيرارا الفنية رجلين من خيرة رجالها.

غير أن دسودسي بعث فيها بعض الحياة بدراسته الفنية في البندقية وقت أن كان جيور جيوني في أوج مجده (1477- 1510). ولما عاد إلى فيرارا أصبح هو مصور ألفنسو الأول المقرب؛ وكان صديقه أريستو ويضعه هو وأخاً له بين رجال الفن الخالدين.

وفي وسعنا أن نفهم لم كان يحب دوسو، الذي أدخل في صوره عناصر من الحياة الخلوية تكاد تكون إيضاحاً لملحمة أريستو الغابية، وغمرها بالألوان القوية التي استمدها من مصوري البندقية العظام. وكان دوسو وتلاميذه هم الذين زخرفوا قاعة الاجتماع في القصر بمناظر حية من المباريات الرياضية على النمط القديم، لأن ألفنسو كان يحب الرياضة أكثر مما يحب الشعر. ورسم دسو في سنيه الأخيرة بعد أن اضطربت يده مناظر رمزية وأسطورية في سقف بهو أورورا Sala dell' Aurora، وكان للموضوعات الوثنية المنتشرة في إيطاليا الغلبة في الاحتفال بجمال الجسم والحياة الشهوانية. ولعل من أسباب الضعف الذي أخذ يدب وقتئذ في فن فيرارا- والذي كان من أكبر العوامل فيه النفقات الباهظة التي تطلبتها حروب ألفنسو- غلبة الجسم على الروح، وزوال الشغف بموضوعات الدين القديم وفخامته من الفن الذي أصبح كثرته دنيوية وتركته في معظمه فناً زخرفياً لا أكثر.

وكانت أعظم الشخصيات البارزة في عصر الضعف هي شخصية بنفينوتو تيسي Benvenuto Tisi المعروف باسم جاروفالو Garofalo نسبة إلى موطنه. وزار روما مرتين شغف على أثرهما بفن رفائيل شغفاً حمله على أن ينضم إلى مساعديه في مرسمه وإن كان هو يكبر رفائيل بعامين. ولما اضطرته شئون أسرته إلى العودة إلى فيرارا وعد رفائيل أن يعود إليه، ولكن ألفنسو وأعيان المدينة وكلوا إليه كثيراً من الأعمال لو يستطيع انتزاع نفسه منها. فاستنفد نشاطه، ووزع مقدرته في إنتاج عدد كبير من الصور بقيت لنا منها حوالي سبعين صورة، وكلها تنقصها القوة والصقل، ولكن منها واحدة هي صورة الأسرة المقدسة المحفوظة في الفاتيكان تثبت أن الفنانين الصغار في عهد النهضة كانوا هم أيضاً يستطيعون الاقتراب من سماء العظمة. ولم يكن المصورون إلا قسماً صغيراً من الفنانين الذين كانوا يكدحون ليدخلوا السرور على المحظوظين من أهل فيرارا. فقد كان مزخرفو الكتب بالصور الدقيقة ينتجون فيها، كما ينتج أمثالهم في غيرها من المدن، أعمالاً ذات روعة وجمال تستوقف العين وتسرها أطول مما تستوقفها وتسرها كثير من الصور الذائعة الصيت؛ وقد احتفظ قصر الاسكفانويا بعدد من هذه الدرر وبالخط اليدوي الجميل. وكذلك استقدم نقولو الثالث ناسجي الطنافس من بلاد فلاندرز؛ وكان فنانو فيرارا يقدمون لهم ما يحتاجونه من الرسوم؛ وازدهر هذا الفن الذي يتطلب كثيراً من الصبر والأناة على يد ليونيلو وبروسو؛ وكانت الطنافس التي ينتجها هؤلاء الناسجون تزدان بها جدران القصر، وكانت تعار إلى الأمراء والأعيان في بعض الاحتفالات الخاصة. وكذلك كان الصائغون لا ينقطعون عن العمل في صنع الآنية الكنيسة، وحلي الأفراد، من ذلك أن اسبيرانديو Sperandio من أهل مانتوا، وبيزانيلو من أهل فيرونا قد نقشا هنا عدداً من المدليات الكبيرة تعد من أجمل ما أخرجته النهضة.

وآخر ما نذكره من هذه الفنون وأقلها شأناً في تلك المدينة فن النحت. ونذكر من رجاله كرستوفورو دا فيرندسا Crislofora da Firenza، ونقولو بارنتشلي Niccolo Baroncelli، وقد صنعا تمثالاً لنقولو الثالث على صهوة جواده وكان لأولهما تمثال الرجال ولثانيهما تمثال الجواد. وأقيم التمثال في عام 1451 قبل أن يقيم دوناتيلو تمثال جتا متلاتا في بدوا بعامين. ثم وضع إلى جواره في عام 1470 تمثال من البرنز للدوق بورسو، وهو جالس جلسة هادئة خليقة برجل السلام. وحطم هذان التمثالان في عام 1796 بأيدي الثوار الذين زعموا أن التماثيل البرنزية رمز للاستبداد والظلم. فصهروها وصنعوا منها مدافع ليضعوا بها حداً للاستبداد ولجميع الحروب، وزين ألفنسو لمبادري غرف المرمر في القصر بكثير من التماثيل؛ ثم فعل ما فعله كثيرون من فناني فيرارا فآوى إلى بولونيا، حيث نجده بعد ذلك في أوج مجده. لقد كان بلاط فيرارا بأفكاره، وأذواقه، وأجوره أضيق من أن يحول ثروة المدينة الفانية إلى فن خالد.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الآداب

قامت الحياة الذهنية في فيرارا على أساسين هما الجامعة وجوارينو دا فيرونا Guarino da Verona. فأما الجامعة فقد أنشئت في عام 1391، ولكنها سرعان ما أغلقت لقلة المال، فلما أعاد فتحها نقولاس الثالث، عاشت عيشة هزيلة حتى أعاد ليوتيلو تنظيمها (1442)، وعين لها موارد مالية بمرسوم مقدمته خليقة بالتنويه والتسجيل.

من الآراء القديمة التي يعتنقها المسيحيون وغير المسيحيين على السواء، أن السماوات والبحار والأرضين لا بد أن تفنى يوماً ما؛ ومصداقاً لهذا دمرت كثير من المدن العظيمة فلم يبق منها إلا خربات سويت بالأرض، وحتى روما الفاتحة نفسها قد أصبحت أطلالاً بالية وخربات دارسة؛ أما الذي لا يبليه كر الغداة ومر العشي، بل يبقى أبد الدهر، فهو إدراكنا للأشياء القدسية والإنسانية الذي نسميه الحكمة(6).

ولم يحل عام 1474 حتى ضمت الجامعة خمسة وأربعين أستاذ يتقاضون مرتبات مجزية، ولم يكن في إيطاليا ما يضارع كلياتها الخاصة بدراسة الفلك، والعلوم الرياضية، والطب إلا كليتا بولونيا وبدوا.

وأما جوارينو فقد ولد فيرونا عام 1370، ثم سافر إلى القسطنطينية وعاش فيها خمس سنين، أتقن فيها اللغة اليونانية، وعاد بعدها إلى البندقية مع بضاعة قيمة من المخطوطات اليونانية. وتقول إحدى القصص إنه لما ضاع أحد هذه الصناديق أثناء عاصفة بحرية اشتعل رأسه شيباً في ليلة واحدة. واخذ يعلم اللغة اليونانية في البندقية، وكان من بين تلاميذه منها فتورينو دا فيلتري، ثم انتقل منها ليعلم هذه اللغة نفسها في فيرونا، وبدوا، وبولونيا، وفلورنس، فأصبح عميد الدراسات القديمة فيها واحدة بعد واحدة. ولما بلغ التاسعة والخمسين من عمره قبل دعوة من فيرارا، فذهب إليها وأصبح فيها معلماً لبونيلو، وبورسو، وإركولى، وبهذا تربى على يديه من أعظم الحكام استنارة في تاريخ النهضة. وكان نجاحه في تدريس اللغة اليونانية وبيانها في الجامعة حديث الناس كلهم في إيطاليا؛ وبلغ من إقبال الناس على محاضراته أن كان الطلاب يهرعون في زمهرير البرد لينتظروا خارج أبواب الحجرات المخصصة لدروسه وهي لا تزال مغلقة. ولم يكونوا يفدون من المدن الإيطالية وحدها، بل كانوا يأتون أيضاً من بلاد المجر وألمانيا، ولإنجلترا؛ وتخرج منهم عدد كبير ليشغلوا مناصب ذات شأن عظيم في التربية، والقضاء، والحكم. وكان يفعل ما يفعله فتورينو فيعول من ماله الخاص فقراء الطلبة؛ وكان يتخذ له مساكن بسيطة، ولا يتناول من الطعام إلا وجبة واحدة في اليوم، وكان من عادته أن يدعو أصدقائه، لا للولائم، بل "للفول والحديث" على حد قوله feve et favole(7). ولم يكن مثلاً أعلى في الأخلاق بقدر ما كان فتورينو، فقد كان يسعه أن يكتب أشد الطعن وأقذعه كما يفعل أي كاتب إنساني، ولعله كان يرى في هذا شيئاً من التسلية الأدبية؛ ولكن يبدو أن أبناءه الثلاثة عشر كانوا كلهم من أم واحدة؛ وكان يراعى جانب الاعتدال في كل شيء إلا الدرس، وقد احتفظ بصحته وقوته، وصفاء ذهنه حتى بلغ سن التسعين(8). ويرجع إليه هو أكبر الفضل في تشجيع أدواق فيرارا للتعليم، والعلم، والشعر وفيما بلغته عاصمتهم من الشهرة الواسعة بوصفها أعظم المراكز الثقافية في أوربا كلها.

وجاء في أعقاب إحياء التراث القديم تجدد العلم بالمسرحيات اليونانية والرومانية القديمة، وعاد معها إلى الحياة بلوتوس Plutus ابن الشعب، وترنس Terence عبد الأرستقراطية المحبوب المعتوق، بعد خمسة عشر قرناً من حياتهما، وكانت مسرحياتهما تمثل على مسارح مؤقتة في فلورنس، وروما، وأكثر ما كانت تمثل في فيرارا. وكان إركولي الأول بنوع خص يحب المسالي القديمة، ولا يضن بشيء من المال في سبيل تمثيلها، وقد كلفه تمثيل مسرحية Menaechmi مرة واحدة ألف دوقة. ولما شهد لدوفيكو صاحب ميلان تمثيل هذه المسرحية في فيرارا، رجا إركولي أن يبعث إليه بالممثلين ليعيدوا تمثيلها في بافيا، فلم يكتفي إركولي بإجابة طلبه بل ذهب هو معهم (1493)؛ ولما قدمت لكريدسيا بورجيا إلى فيرارا، احتفل إركولي بزواجها بخمس من مسالي بلوتوس مثالهما مائة ممثل وعشرة ممثلين، وكانت تتخلل مناظرها فترات طويلة من الموسيقى الشجية والرقص؛ وقد ترجم جوارينو، وأريتسو، وإركولي نفسه بعض المسرحيات اللاتينية إلى اللغة الإيطالية، وكانت تمثل بلغة البلاد؛ وكان تقليد هذه المسالي القديمة هو الأساس الذي قامت عليه كتابة المسرحيات الإيطالية واتخذت منه شكلها؛ فكان بوياردو Boiardo وأيستو، وغيرهما يؤلفون المسرحيات لرفقة الدوق التمثيلية، وكان أريستو يضع تصميم المناظر، ودسُّودسي يرسم الثابت منها لأول مرة مسرح دائم في فيرارا وأوربا الحديثة (1532).

وكانت حاشية الدوق تناصر أيضاً الموسيقى والشعر وترعاهما؛ وكان من شعراء فلورنس فيتو فسبازيانو استرستي Vito Vespasiano Strozzi ولكنه لم يكن في حاجة إلى معونة الدوق المالية لأنه كان ينتمي إلى أسرة فلورنسية غنية. وقد كتب باللغة اللاتينية عشرة "كتب" من قصيدة في مدرج بورسو، وتفي قبل أن يتمها، فرتك هذه المهمة إلى ابنه إركولي. وكان إركولي هذا خليقاً بهذا العمل، فقد كان يكتب الأغاني الممتازة باللغتين اللاتينية والإيطالية، كما كتب أيضاً قصيدة طويلة هي قصيدة الصيد La Caccia أهداها إلى لكريدسيا بورجيا. وتزوج في عام 1508 بشاعرة تدعى بربارة توريلي Barbara Torelli؛ وبعد ثلاثة عشر يوماً من زواجه وجد ميتاً بجوار بيته، وقد أثخن جسده باثنين وعشرين جرحاً وحشياً فظيعاً، ولا يزال سبب مقتله من الحوادث الخفية التي لم تكتشف بعد أربعة قرون من وقوعها. ويظن بعضهم أن ألفنسو قد راود بربارا عن نفسها، فلما صدته عنها انتقم لنفسه بأن أستأجر بعض القتلة لاغتيال منافسه الفائز بها. ولكن هذه القصة واهية الأساس، لأن ألفنسو كان يظهر للكريدسيا جميع إمارات الوفاء طوال حياتها. ورثته الأرملة الحزينة بقصيدة يندر أن نجد ما يماثلها في الإخلاص في أدب بلاط فيرارا الذي كانت تغلب عليه النزعة المصطنعة، وهي تسأل فيها الشاعر القتيل "لم لا أحمل إلى القبر معك ؟":

ألا ليت ناري تدفئ ذلك الجليد الجمد.

وتحليل بالدموع هذا الثرى إلى لحم حي.

تعيد إليك من جديد بهجة الحياة!

إذن لواجهت ببسالة وقوة

ذلك الرجل الذي فصم أعز ما بيننا من رباط، وصحت به.

"أيها الوحش القاسي! هاك ما يستطيع الحب أن يفعله!".

وكانت روايات الفروسية الغرامية غداء يومياً في هذا المجتمع القائم في بلاط الحكام، الذي وهب الفراغ، والنساء الحسان، وكان شعراء الفروسية الغزلون الفرنسيون في فيرارا في أيام دانتي يترنمون بقصائدهم، وقد خلفوا وراءهم مزاحاً من الفروسية الخيالية غير الثقيلة؛ وكانت أقاصيص شارلمان الخرافية، وفرسانه، وحروبه مع المسلمين قد أصبحت مألوفة هنا وفي إيطاليا الشمالية كلها لا تكاد ثقل في ذلك عنها في فرنسا نفسها؛ وانتشر الشعراء القصاصون الفرنسيون فزادوا في هذه القصص وملأوها بأغاني البطولة والمجد، وأصبح إنشادها، بعد أن أضيفت بها حادثة إلى حادثة، وبطل إلى بطلة، مجموعة ضخمة من القصص الطويلة المضطربة، تنادي شاعراً مثل هومر لينسج من هذه القصص المفككة ملحمة متتابعة ويجعل منها وحدة متناسقة.

وقام بهذا الواجب نبيل إيطالي ففعل بقصص شارلمان ما فعله قبل ذلك بقليل قارس انجليزي، هو سير تومس مالوري Sir Thomas Malory بأقاصيص الملك آرثر والمائدة المستديرة؛ وكان هذا النبيل الإيطالي هو بوياردو كونت اسكانديانو Boiardo Count of Scandiano؛ وكان من أبرز أعضاء الخاشية في فيرارا. وقد أوفدته أسرة إستنسي في عدة سفارات خطيرة الشأن، وعهدت إليه إدارة مودينا ورجيو وهما أكبر أملاكها. ولم يكن قديراً في حكمه بقدر ما كان قديراً في غنائه، فكان يوجه الشعر العاطفي القوي إلى أنطونيا كبرارا Antonia Caprara، يسترحمها ويغتني بمحاسنها، أو يلومها على أنها غير وفية في إثمها؛ فلما تزوج ناديا جندساجا وجه موسيقاه كي ترعى في كلأ آمن من كلئها السابق، وبدأ ملحمة تدعى أرلندو الواد Orlando Innamorato (1486 وما بعدها) يقص فيها متاعب أرلندو (أي رولان) للساحرة أنجلكا ويمزج بهذه القصة الغرامية مائة منظر ومنظر من الطعن، وألعاب الفروسية، والحرب. وتقول قصة فكهة منها إن بوياردو أخذ يطوف البلاد باحثاً عن اسم طنان يليق بالفارس المسلم الفخور بقصته، فلما عثر على ذلك اللقب العظيم رودمومنتي Rodomonte دقت أجراس أسكندريانو إقطاعية الكونت ابتهاجاً بهذا التوفيق، كأنها كانت تعلم أن سيدها كان يضع لفظاً للرجل النفاخ المختال سوف يذيع في أكثر من عشر لغات.

وإنا ليصعب علينا في هذه الأيام الثائرة التي يضطرب فيها عالمنا حتى في وقت السلم بألفاظ العدوان، والقتال، والمنافسات الحادة، نقول إنا ليصعب علينا في هذه الأوقات أن نجد شيئاً من الطرافة في أحداث الحروب والغرام التي تقع لأرلندو، ورينلدو،واستلفو، ورجييرو، وأجرمنتي، ومرفيزا Marfiza، وفيورديليسا Fiordelisa، وسكربنتي Sacripante، وأجريكاني Agricane، وإن أنجلكا التي كان يسعها أن تستثير عواطفنا بجمالها لتبعث في نفوسنا السآمة بما تمارسه من فنون السحر والقوى الغيبية؛ ذلك أننا لم نعد تسحرنا الساحرات في هذه الأيام. تلك قصص تليق بمستمعين حسان في ظلل قصر، أو بين أسوار حديقة، ويؤكد المؤرخون لنا أن الكونت كان يقرأ هذه المقطوعات الشعرية في بلاط فيرارا(9)،وما من شك في أنه كان يقرأ مقطوعة أو مقطوعتين في كل جلسة. ونحن نظلم بوياردو وأريستو حين نريد أن نقرأ لهما ملحمة في جلسة واحدة، ذلك أنمها كانا يكتبان لجيل وطبقة من أهل الفراغ، كما أن بوياردو كان يكتب لإنسان لم يشهد غزو شارل الثامن لإيطاليا. فلما أن حل بها ذلك الإذلال الذي فتح عيونها لأحداث الدهر، وأبصرت ما هي عليه من ضعف، وأدركت أن ما فيها من فن وشعر لا يصد عنها قوى الشمال التي لا ترحم، دب اليأس في قلب بوياردو، فألقى بقلمه بعد أن كتب ستين ألف بيت وكتب هذه الموشحة التي نفس بها عن يأسه:

أي إلهي المنقذ ! إني وأنا أغنى.

أرى إيطاليا تلتهب وتندلع فيها النيران.

رماها بها أولئك البالغون، تندفع شجاعتهم العظيمة،

فيتقدمون ليحيلوا جميع أرجائها صحارى وقفاراً.

وظل آخر أيامه طيب الفعل، وكأنما كان حكيماً إذ مات (1494) قبل أن يبلغ الغزو عنفوانه؛ ولم تثر عواطف الفروسية النبيلة التي كانت تدفعه إلى أشد الألفاظ قوة في شعره إلا أضعف الاستجابات في الجيل المضطرب التي تراه. وهو أن كان قد افتتح باباً جديداً في التاريخ بتنمية الملحمة الغرامية الحديثة، فإن صوته لم يلبث أن عفا عليه النسيان في الحروب التي دارت رحاها أثناء حكم ألفنسو، والفتن والقلاقل التي عمت المدينة في أيامه، وفي استيلاء الأجانب على إيطاليا، وفي الجمال المغري الذي يتسم به شعر أريستو الأرق منه لفظاً.


الفصل الرابع: أريستو

يحب ألا يغيب عن أذهاننا، ونحن نوشك أن نتحدث عن أعظم شعراء النهضة الإيطالية، أن الشعر الموسيقي غير قابل للترجمة، وأن الذين لم يسعدهم الحظ منا بأن تكون اللغة الإيطالية لغتهم الأصلية يجب ألا يتوقعوا أن يعرفوا لمَ تضع إيطاليا لدوفيكو أريستو في المرتبة العالية التي لا يعلو عليها إلا دانتي بين شعرائها، وأنها تحب قصيدة أرلندو فيوربوسو وتقرؤها بابتهاج لا ترقي إلى درجته البهجة التي يقرأ بها الإنجليز مسرحيات شكسبير. أما نحن فإذا سمعناها فإنما نسمع الألفاظ ولكننا ينقصنا اللحن والإيقاع. وكان مولد أريستو في الرابع عشر من سبتمبر عام 1474 في رجيو إميليا التي كلن أبوه حاكماً عليها؛ ثم انتقلت الأسرة إلى روفيجو في عام 1481، ولكن يبدو لدوفيكو تلقى تعليمه في فيرارا. وقد ألحق بها ليتعلم القانون لكنه فضل عليه الشعر، وكان في هذا شبيهاً ببترارك، ولم تضطرب أحواله كثيراً على أثر غزو الفرنسيين في عام 1494؛ ولما أن أعد شارل الثامن عدته للانقضاض على إيطاليا مرة ثانية (1496) قال أرلندو قصيدة حاكى فيها أسلوب الشاعر الروماني القديم هوراس Horace وضع فيها الأمور فيما بدا له أنه الوضع الصحيح:

"ماذا يعنيني من قدوم شارل وجيوشه ؟ سأبقى في الظلال أستمع إلى خرير الماء اللطيف، أرقب الحاصدين في عملهم. وأنت يا فوليس ألا تمدين يدك البيضاء من خلال الأزهار المبرقشة وتنسجين لي أكاليل على نغمات صوتك الموسيقي(10)؟".

وتوفى والده في عام 1500 وخلف لأبنائه ميراثاً يكفي لإعالة واحد منهم أو اثنين؛ وأصبح لدوفيكو أكبر الأبناء رب الأسرة، وأخذ يكافح الضيق المالي كفاحاً طويلاً، وأثر القلق الناشئ من هذا الكفاح في أخلاقه فبعث فيه من الجبن والوجل والذلة والغضب ما لا يستطيع أن يدركه إلا الشعراء ذوو المسغبة؛ وفي عام 1503 التحق بخدمة الكردنال إبوليتو دست؛ ولم يكن إبوليتو هذا ممكن يتذوقون الشعر، ولهذا شغل أريستو وضايقه بكثير من المهام الدبلوماسية وبغيرها من الأمور التافهة، وكان الشاعر يتقاضى أجراً قدراً 240 ليرة (3000 ؟ دولار) في العام، لم تكن إليه بانتظام. وحاول أن يحسن مركزه بنظم قصائد يشيد فيها بشجاعة الكردنال وعفته، ويدافع فيه عن سَلم عيني جويليو. وعرض عليه إبوليتو أن يزيد مرتبة، إذا قبل أن ينظم في سلك رجال الدين بحيث يصبح من حقه أن يختار لبعض المناصب الكنسية، لكن أريستو كان يبغض رجال الدين وآثر يكتوي بنار الغرام بدل أن يحترق مع رجال الدين.

كانت المدة التي قضاها في خدمة إبولينو هي التي كتب فيها معظم مسرحياته. وكان قد بدأ هذه الفترة من حياته بالاشتغال بالتمثيل، وكان من أعضاء الفرقة التي بعثها إركولي إلى بافيا، ولما أن شرع يؤلف المسرحيات كانت مسرحياته تحمل طابع ترنس أو بلونوس، وكان هو صريحاً كل الصراحة حين عرضها إذ قال أنها محاكاة لهذا وذاك(11). ومثلت مسرحيته المسماة كساريا Cassaria في فيرارا عام 1508، كما مثلت سبوزيثى Suppositi في روما عام 1519 أمام ليو العاشر ونالت رضاه، وظل يؤلف المسرحيات إلى آخر سنة في حياته، وترك أحسنها كلها وهي مسرحية اسكولا ستيسكا ناقصة حين وافته منيته. وتدور هذه المسرحيات كلها حول الموضوع القديم: كيف يستحوذ شاب أو عدد من الشبان، بحيل خدمهم في العادة، وبالزواج أو الغواية، على فتاة أو عدة فتيات. ولمسرحيات أريستو منزلة عالية بين المسالي الإيطالية، ولكنها لا تشغل إلا المنزلة الدنيا في تاريخ التمثيل بوجه عام.

ونظم الشاعر الجزء الأكبر من ملحمته الضخمة أرلند فيوربوزو Orlands Furioso أثناء اشتغاله بخدمة إبوليتو؛ ويبدو من هذا أن الكردنرل لم يكن ممن يرفضون رقابتهم على من في خدمتهم. ولما أن عرض أريستو المخطط على إبوليتو سأله هذا الخبر ذو النزعة الواقعية- كما تقول إحدى الروايات غير الموثوق بها وهي رواية إن لم تكن صحيحة فإنها تعبر أحسن تعبير عن روح العصر: "أنى وجدت يا سيد لدوفيكو هذا الهراء كله؟"(12). ولكن يبدو أن الإهداء وما فيه من ثناء كان له عند إبوليتو من المعاني أكثر مما للكتاب نفسه؛ ومن أجل هذا تكفل الكردنال بنفقات نشر القصيدة (1515)، على أن يحتفظ أريستو بجميع الحقوق الخاصة بها وجميع الأرباح الناتجة من بيعها. ولم تر إيطاليا أن القصيدة "هراء" في هراء، أو لعلها ظنت أنها هراء مطرب، فنفدت منها سبع طبعات بين عامي 1524 و 1527؛ وسرعان ما كانت أحسن فقراتها تردد ويتغنى بها في طول شبه الجزيرة وعرضها؛ وقد قرأ أريستو نفسه كثيراً منها لإزبلا دست أثناء مرضها في مانتوا وامتدح صبرها بالثناء عليها في الطبعات التالية. وقضى أريستو عشر سنين (1505- 1515) في كتابة فيوريوزو، وستة عشر عاماً أخرى في صقلها؛ ويضيف إليها مقطوعة من آن إلى آن حتى كادت أبياتها تبلغ 39.000 أي مجموع أبيات الإلياذة والأوديسة مجتمعتين.

وكان كل ما تعتزم في بادئ الأمر أن يكمل ويوسع قصيدة أرلندو الواله لبوياردو. ولهذا أخذ عن سابقه طابع الفروسية العام وموضوعاها، ومغامرات فرسان شارلمان الغرامية والحربية، والشخصيات الهامة، وترتيب الحوادث المهلهل، والانتقال من قصة فبل أن تتم إلى قصة أخرى، والأعمال السحرية التي تقلب القصة ظهراً لبطن في كثير من الأحيان، بل أنه ذهب إلى ابعد من هذا فأخذ عنه فكرة الرجوع بنسب أسرة إستنسي إلى ذلك الزواج الأسطوري بين روجييرو وبرادامنتي. ولكنه مع ذلك لا يذكر أسم بوريارد قط، على حين أنه يمتدح مائة من الناس غيره، ذلك انك إذا كنت مديناً لأحد فلن تكون عنده بطلاً من الأبطال. ولعل أريستو قد شعر بأن موضوع الملحمة وشخصياتها مأخوذان من الأقاصيص المتداولة لا من بوريادو نفسه. وقد فعل أريستو ما فعله الكونت وما لم تفعله الأقاصيص فغَلَّب شأن الحب على شئون الحرب، ولهذا قال في مستهل القصيدة:

"إني أتغنى بالنساء، والفرسان، والسلاح، والحب، وأعمال الفروسية والمغامرات الجريئة". وتنفذ القصيدة هذا المنهج بحذافيره: فهي سلسلة من المعارك الحربية، بعضها تقوم به المسيحية ضد الإسلام، ومعظمها معارك في سبيل النساء، وفيها أكثر من عشرة أمراء وملوك يتقاتلون من أجل أنجلكا، وهي تداعبهم جميعاً، وتوقع بينهم، وتقع في شر أعمالها حين تشغف بحب رجل وسيم غير نابه، وتتزوج به قبل أن تبحث البحث المألوف عن إيراده. ويتعقبها أرلندو وهو الذي يدخل القصة بعد ثمان مقطوعات في ثلاث قارات، ويغفل في هذه الأثناء أن يخف لمعونة مليكه شارلمان حين يهاجم المسلمون باريس، ويصاب بالجنون حين يدرك أنه فقدها (المقطوعة الثالثة والعشرون)، ثم يعود إليه صوابه بعد ست عشرة مقطوعة أخرى حين يعثر على عقله الضائع في المقر، ويعود به إليه أحد المسافرين إلى هذا الكوكب قبل ملاحي جول فيرن Jule Verne. ويحتفظ بهذا الموضوع الرئيسي ويسبب له كثيراً من الاضطراب ما يتخلل أحداثه من مغامرات يقوم بها كثير من الفرسان الآخرين يطارد كل واحد منهم المرأة التي يحبها في ست وأربعين أخرى من الشعر المُغوي للنساء. وتسر النساء بهذا الطراد، ولعلنا نستطيع أن نستثني منهن إزبلا التي تقنع رودمنتي بأن يقطع رأسها بدل أن يفض بكارتها، وتنال بذلك تمثالا يخلد اسمها. وأدخلت في القصيدة قصة القديس يوحنا القديمة: فترى فيها أنجليكا الحسناء تشد إلى الصخور بجانب البحر، زلفى إلى تنين يطلب عذراء في كل عام، وقبل أن يصل روجييرو لينقذها يذكرها الشاعر ويقدرها كما يقدرها كريجيو نفسه في أبيات تفقدها الطلاوة الموسيقية:

لقد قسا إنسان غليظ القلب لا يعرف الرحمة،

فعرض على شاطئ البحر على الحيونات الضارية

امرأة هي أجمل من على الأرض من النساء، عرضها عارية،

بالصورة التي شكلت بها الطبيعة جسدها الحلو الجميل،

ولم يستر بشيء من الثياب مهما رق

جسمها الذي جمع بين السوسن الناصع

وحمرة الورد الهادئة الذي يستقبل بها حر الصيف وزمهرير الشتاء

ولا يصيبه منهما أذى، والذي كان يتألق على أطرافها المتلألئة الساطعة،

ولولا أن رأى دمعة متلألئة منحدرة،

بين ورود خديها وسوسنها الأبيض،

تبلل ثديين كأنهما تفاحتان ثبتتا على صدرها،

وشاهد شعرها الذهبي يتماوج في النسيم،

لظنها تمثالاً منحوتاً من المرمر أو صورة من الرخام،

صاغتها في الصخر يد مثال صناع.

وأريستو لا يحمل هذا كله على محمل الجد، فهو يكتب ليسلي ويسر، وهو يسعى عامداً إلى أن يفتتنا بسحر شعره فيقودنا في الخيال إلى عالم غير حقيقي، ويخلع على قصصه جواً من الغموض بما يخله فيها من الجن، والأسلحة، والرقى السحرية، والخيل المجنحة التي تطوف بالسحب، والآدميين الذين استحالوا أشجاراً، والقلاع التي تذوب بكلمة جبار صلف، وترى ألندو تنفذ حربته في جسد ستة من الهولنديين، وأستلفو ينشئ أسطولاً بأن يلقي في الهواء أوراق الأشجار، وبمسك بالريح في مثانة، ثم نرى أريستو بعد ذلك يضحك من هذا كله، ويبتسم ابتسامة الرجل السمح، لطعان الفروسية وتمويهها. وحاسة الفكاهة عند أريستو قوية ممتازة ممتزجة بالتهكم الظريف، فهو يضم إلى النفايات التي تُلقى بها الأرض على القمر صلوات المنافقين، وتملق الشعراء، وخدمات أفراد البلاط، وهبات قسطنطين (في المقطوعة الرابعة والثلاثين)، وأريستو لا يدعى الفلسفة إلا من حين إلى حين، وفي قليل من افتتاحيات المقطوعات. ذلك أن النزعة الشعرية قد تملكته حتى فقد نفسه واستنفذ قواه وهو ينشئ شكلاً جديداً لشعره ويصقله، فلم يبق لديه من الجهد ما يبذله في غرض من الأغراض التي تسمو بالحياة أو في أي شيء من فلسفتها(13).

ويحب الإيطاليون قصة فيوربوزو لأنها كنز من القصص المثيرة- لا تخلو واحدة منها من الإشارة إلى امرأة حسناء غير بعيدة- تروي بلغة رخيمة ولكنها خالية من التكلف والصنعة، في مقطوعات قوية حماسية تنقلنا نقلاً سريعاً من منظر إلى منظر. وهم يغفرون لكاتبها الاستطرادات والأوصاف الطويلة، والابتسامات التي لا يحصى عددها والمتكلفة في بعض الأحيان، يغفرون له هذه كلها لأنه يكسوها شعراً ساطعاً متلألئاً، وهم يجدون فيها جزاء طيباً من هذا الغفران، ويصيحون في صمت "مرخى!" حين يخرج عليهم الشاعر ببيت يثير عجبهم كالذي يقول فيه عن دسربينو Zerbino: "لقد صاغته الطبيعة ثم حطمت القالب الذي صاغته فيه". ولا يطول انزعاجهم من تملق أريستو آل إستنسي طمعاً في رفدهم، ولا من مديحه إبوليتو، وإشادته بعفة لكريدسيا، فقد كان هذا الخضوع من سمات تلك الأيام، فأنت ترى مكيفلي لا يستنكف أن يخر راكعاً لينال إعانة مالية، والشاعر له أن يعيش.

لكن هذه المعيشة أصبحت شاقة حين قرر الكردينال أن يخرج للحرب في بلاد المجر، وطلب إلى أريستو أن يرافقه، فلما رفض أريستو أعفاه إبوليتو من خدمته وقطع عنه مكافأته (1517). ولكن ألفنسو أنقذ الشاعر من آلام الفاقة بأن خصص له معاشاً قدره أربعة وثمانون كروناً (1050 ؟ دولاراً) فضلاً عن ثلاثة خدم وجوادين، ولم يكد يطلب إليه في نظير ذلك شيئاً. وظل أريستو حتى بلغ السابعة والأربعين من عمره أعزب عنيداً في عزوبته، ولكنه لم يكن في خلالها متبتلا كل التبتل. ثم خرج ألسندرا بينوتشي Alessandra Benucci التي أحبها وهي لا تزال متزوجة من تيتو فسبازيانو استراتسي. ولم يرزق منها أبناء، ولكنه كان له ولدان غير شرعيين رزق بهما قبل زواجه.

وظل ثلاث سنين (1522-1525) حاكماً لجارفنيانا Garfagnana وهي أقليم جبلي موبوء بقطاع الطرق واللصوص، ولم يكن طوال هذه السنين سعيداً في عمله. فقد كان غير لائق للعمل ولا للقيادة، وسره أن يعتزل عمله ليقضي الثمان السنين الأخيرة من حياته في فيرارا. ثم ابتاع في عام 1528 قطعة من الأرض في أرباض المدينة، أقام فيها بيتاً ظريفاً، لا يزال ظاهر المعالم في فيا أريستو (طريق أريستو) وتحافظ عليه الدولة، وقد نقش على واجهته بيتين بشعر هوراس يتسمان بالبساطة والجلال قال فيهما "هو صغير ولكنه يوائمني، ولا يؤذي إنساناً ما، وليس هو حقيراً ولكني حصلت عليه من مالي الخاص، انه بيتي". وعاش فيه هادئاً يعمل في حديقته حيناً، ويراجع أو يطيل الأريستو في كل يوم.

وظل في هذه الأثناء يحاكى هوراس في نظمه، فكتب إلى عدد من أصدقائه سبع رسائل شعرية وصلت إلينا تحت عنوان "قصائد الهجو". وليست هذه القصائد عادة متماسكة كقصائد هوراس التي حذا حذوها، كما أنها ليست قوية مريرة قاتلة كقصائد جوفنال، ذلك أنها كانت ثمرة عقل ينطوي على الحب ولا يجد السلام أبداً، يتحمل على مضض ضربات الدهر وسخرياته، ووقاحة المتعجرفين وإهاناتهم. وتصف هذه الرسائل عيوب رجال الدين، وما كان سائداً في روما من أتجار بالمناصب الدينية، وتحيز البابوات المنغمسين في حب الدنيا لأقاربهم وذويهم "الرسالة الأولى"، ويهجو في الرسالة الثانية إبوليتو لأنه يؤجِر خدمه أكثر مما يؤجر شاعره، وفي الثالثة يسخر من النساء ويقول إنهن قلما يكن وفيات أو شريفات، ويعرض فيها نصيحة خبير أوذي منهن عن طريقة اختبار الزوجة وترويضها، وفي الرابعة يرثي لحياة الحاشية، ويروي في حنق زيارة غير موفقة قام بها لليو العاشر:

قبلتُ، فانحنى من مقعده المقدس، وأمسك بيدي وحياني بتقبيل خدي، وأعفاني فوق هذا من نصف ضرائب التمغة التي كان علي أن أؤديها، ثم خرجت وصدري مفعم بالأمل، ولكن جسمي مبلل بالمطر وملوث بالطين، وتناولت عشائي في مطعم الكبش.

وفي هذه المجموعة قصيدتان يندب فيهما حياته الشاقة في جارفنيانا، وأيامه التي "تنقضي في التهديد، أو العقاب، أو الإقناع أو التحصيل". وارتاعت موهبته الشعرية وشلت فسكن صوتها من أثر الجرائم، والقضايا، والمشاغبات التي كانت تقع في الإقليم، ومن بعد المسافة، بينه وبين عشيقته (الرسالتان الخامسة والسادسة). وتسأل السابعة بمبو أن يختار معلماً يونانياً لفرجينيو Virginio بن أريستو: يجب أن يكون هذا اليوناني غزير العلم، ولكنه يجب أن يكون كذلك ذا مبادئ طيبة، لأن العالم بغير الأخلاق ليس عديم القيمة فحسب، بل هو شر من هذا وأشد ضرراً. وإن من الصعب لسوء الحظ أن نجد في هذه الأيام معلماً من هذا الصنف، فقل أن تلقى بين الكتاب الإنسانيين من لا يتصف بشر الرذائل، كما أن الغرور الذهني يجعل الكثيرين منهم متشككين. ترى لم نرى العلم وعدم الإخلاص متلازمين على الدوام؟(15). ولم يكن ألايستو نفسه في معظم أيام حياته متمسكاً بدينه، ولكنه لجأ إليه في آخر أيامه كما كان يلجأ إليه مفكرو النهضة كلهم تقريباً. وكان منذ صباه يشكو البرد المصحوب بالنزلات الشعبية، وأكبر الظن أن هذا المرض قد زادت حدته بتأثير أسفاره لأداء المهام التي كان يكلفه بها الكردينال. واشتدت هذه العلة في عام 1532 فانقلبت إلى ذات الرئة، وأخذ يغالب المرض كأنه لا يكفيه أن يخلد أسمه وحده، ولم يكن قد تجاوز الثامنة والخمسين حين توفي (1533).

وصار أريستو من عظماء الكتاب حتى قبل وفاته، فصوره رفائيل قبل موته بثلاث وعشرين سنة في مظلم البارنسس بقصر الفاتيكان إلى جانب هوميروس وفرجيل، وهوراس، وأوفد، ودانتي، وبترارك بين أصوات بني الإنسانية الذين لا ينسون على مر الأيام. وتسميه إيطاليا "هومرها" كما تسمى الفيوربوزو "إلياذتها" ولكن يبدو حتى لم يمجدون إيطاليا ويسبحون بحمدها أن في هذا من السخاء أكثر مما فيه من العدالة. ذلك أن العالم الذي يصفه أريستو يبدو خفيفاً، خالياً غريباً، إلى جانب حصار طروادة القاسي الرهيب، وأن فرسانه- ومنهم من لا يستطاع تمييز أخلاقهم كما لا يستطاع تمييز أسلحتهم بعضهم من بعض- لا يكادون يرقون إلى جلال اجممنون، أو إلى عاطفة أخيل الجائشة أو حكمة نسطور، أو نبل هكتور، أو مأساة بريام، ومن ذا الذي يسوي بين أنجلكا الحسناء الطائشة، وبين هلن Helen الإلهة بين النساء التي سيطرت بقوتها على الأقدار؟ ومع هذا كله فان الكلمة الأخيرة في ذلك يجب أن تكون كالأولى، وهي أن الذين يجيدون معرفة لغة أريستو، ويدركون ما في مرحه وعاطفته من تدرج لا يكاد يحس به، ويتأثرون بموسيقى حلمه العذبة الشجية، أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يصدروا حكماً صحيحاً على أريستو.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: بعد أريستو

لقد كان الإيطاليون أنفسهم، بما أوتوا من حاسة الفكاهة القوية، هم الذين جاءوا بالعلاج الشافي من النزعة الإبداعية الوجدانية التي في ملحمتي أرلندو. وتفصيل ذلك أن جيرولامو فولنجو Girolamo Folengo نشر قبل ست سنين من موت أريستو قصيدة تدعى أرلندينو Orlandino صور فيها سخافات الملحمتين وبالغ في ذلك مبالغة يطرب لها القارئ. وقد أستمع جيرولامو في بولونيا إلى محاضرات بمبونتسي Ppmponazzi ذات النزعة المتشككة، ووضع لتدريسه منهاجاً من العشق، والدسائس، والملاكمة، والمبارزة، طرد على أثره من الجامعة. ثم تبرأ منه أبوه، فأنخرط في سلك الرهبان البندكتيين (1507)، ولعل الذي دفعه إلى هذا حاجته إلى مورد يعيش منه. وبعد ست سنين من ذلك الوقت شغف بحب جيرولاما ديدا Girolama Dieda وفر معها، ونشر في عام 1509 مجموعة من المسرحيات الهزلية سماها مكرونيا Maccaronea، وذاع اسمها من ذلك الحين فسميت به طائفة متزايدة من قصائد الهجو الفظة البذيئة، خلط فيها بين الشعر اللاتيني والإيطالي. وكانت أرلندينو ملحمة ساخرة مليئة بالخلاعة ومكتوبة باللغة الإيطالية الدارجة الخشنة، تسري فيها روح الجد في مقطوعة أو اثنتين، ثم تفاجئ القارئ بفكرة وعبارة من أقذر الأفكار والتعابير. وترى فيها الفرسان مسلحين بأدوات المطبخ يظهرون على بغال عرجاء. وزعيم رجال الدين في القصة هو الراهب جريفارستو Griffarosto - أي الرئيس ملتهم الشواء. وتتألف مكتبته من كتب في الطهو تتخللها المأكولات والخمور، ((وكل ما يعرفه من اللغات هو لغة الثيران والخنازير(16)، ويتخذه فولنجو وسيلة لهجو رجال الدين الإيطاليين هجاء لو اطلع عليه أحد من أتباع لوثر لسر منه أعظم السرور. وتلقى الشعب هذه الملحمة بعاصفة قوية من الهتاف والاستحسان، ولكن المؤلف ظل يتضور من الجوع. ثم آوى أخيراً إلى دير، وأخذ يكتب شعراً يدعو إلى التقي والصلاح، ومات وهو على هذه الحال من التقوى في سن الثالثة والخمسين(17). وكان ربليه يحب الشعر ولعل أريستو كان في سنيه الأخيرة يشاركه في مرحه.

وحافظ ألفونسو الأول على دولته الصغيرة وصد عنها هجمات البابوية، ثم أندفع أخيراُ اندفاعاً أحمق إلى الانتقام لنفسه بتشجيع الجيش الألماني - الأسباني المحاصر لروما وتحريضه، حتى استولى ذلك الجيش عليها ونهبها (1527)(18). وأظهر شارل الخامس إعجابه به بأن رد إليه موديتا ورجيو إقطاعيتي فيرارا القديمتين، وبهذا ترك ألفنسو دوقيته إلى ورثته كاملة غير منقوصة. وفي عام 1528 أرسل ابنه إركولي إلى فرنسا ليأتي منها بزوجة دبلوماسية من الأسرة المالكة تسمى رينية Rene'e أو ريناتا Renata - وهي فتاة صغيرة الجسم مكتئبة المزاج، مشوهة الخلقة، تملكت نفسها سراً آراء الكلفنيين. ولما توفيت لكريدسيا واسى ألفنسو نفسه بعشيقة تدعى لورا ديانتي Laura Diante ولعله أقترن بها قبل وفاته (1534). وكان قد غلب كل عدو إلا الدهر.