قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 2 ب 5
صفحة رقم : 6562
قصة الحضارة -> النهضة -> النهضة الفلورنسية -> سفنرولا والجمهورية -> النبي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الخامس: سافونارولا والجمهورية 1492 - 1534
الفصل الأول: النبي
إن الذي يمتاز به الحكم الوراثي هو الاستمرار، أما نقمته فهي أنه يؤول إلى من لا يعلون على المستوى الأوسط من الحكام. ومصداق ذلك ان بيرو دي لورندسو Piero di Lorenzo خلف أباه في سلطانه دون عناء، ولكن سوء خلقه وخطأ أحكامه أفقداه حب الشعب وهو الحب الذي كان يقوم عليه حكم آل ميديتشي. فقد كان الرجل حاد الطبع سريع الغضب، متوسط الذكاء، مزعزع الإرادة، حسن النية إلى درجة تدعوا إلى الإعجاب، وقد جرى على سنة آل ميديتشي من السخاء على الفنانين ورجال الادب، ولكنه كان في ذلك أقل بصيرة وكياسة من أبيه. وكان قوي البنية، بارعاً في الرياضة، اشترك في المباريات الرياضية وظهر فيها أكثر مما ترى فلورنس أنه يليق برئيس دولة معرضة للأخطار. وكان من المحن الكثيرة التي لازمته أن مشروعات لورندسو واسرافه قد أفقروا خزانة المدينة، وأن منافسة المنسوجات البريطانية كانت تنشر الكساد الاقتصادي في فلورنس، وأن زوجة بيرو الارسينية كانت تشمخ بأنفها الروماني على الفلورنسيين وترميهم بأنهم أمة من أرباب الحوانيت، وأن الفرع الآخر من أسرة ميديتشي المنحدر من لورندسو "الأكبر" بدأ يتحدى أبناء كوزيمو واحفاده، وتزعم حزباً تولى المعارضة باسم الحرية. وكان شر ما منى به بيرو من تعاسة أنه كان معاصراً لشارل الثامن ملك فرنسا الذي غزا إيطاليا، ولا الذي كان يريد استبدال المسيح بالميديتشيين، ولم يكن بيرو قد خلق ليتحمل هذه الأعباء الثقال.
وانتقلت أسرة سفنرولا من بدوا إلى فرارا حوالي عام 1440 وذلك حين دعا نقولو الثالث د، ست Nicolo III d'Este ميشيل سفنرولا ليكون طبيب بلاطه. وكان ميشيل هذا رجلاً تقياً قل أن يوجد مثله في الاطباء، وكان كثيراً ما يلوم أهل فرارا لأنهم يفضلون القصص الغرامية على الدين(1). وكان ابنه نقولو متوسط القدرة في الطب، ولكن إلينا بوناكسي Elena Bonacossi زوجة نقولو كانت امرأة قوية الاخلاق ذات مثل عليا سامية، وكان جيرولاما ثالث أبنائهما السبعة، وأعداه هو أيضاً لدراسة الطب، ولكنه رأى أن تومس أكوناس أكثر إمتاعاً من التشريح، وأن انفراده بكتبه ألذ من عبث الشباب. وراعه ألا يجد في جامعة فيرونا طالباً "بلغ من الفقر درجة تحمله على أن يجل الفضيلة". وكتب يقول: "إذا شئت أن تكون رجلاً في هذا المكان، فعليك أن تلوث فمك بأقذر ألفاظ التجديف، واكثرها حيوانية، وأشدها فظاعة ... وإذا درست الفلسفة والفنون الطيبة كنت تقياً، فأنت منافق، وإذا آمنت بالله فأنت نغفل"(2). ولهذا ترك المدرسة وعاد إلى والدته وغلى العزلة، وأضحى رجلاً ذا وجدان سليم يشعر بنقائصه، وينغص عليه حياته تفكيره في الجحيم وفي خطايا بني الإنسان. وكانت أولى كتاباته المعروفة قصيدة يندد فيها برذائل إيطاليا وفيها البابوات أنفسهم، وينذر نفسه لإصلاح بلده وكنيسته. وكان يقضي الساعات الطوال في الصلاة والدعاء، وطال صيامه حتى حزن أبواه مما أصابه من هزال، وحدث في عام 1474 أن اشتدت تقواه عن ذي قبل بعد أن استمع إلى العظات التي كان يلقيها الراهب ميشيل Fra Michele أيام الصوم الكبير، وسره أن يرى كثيرين من أهل فرارا يأتون بأقنعتهم، وشعرهم المستعار، وأوراق اللعب، والصور البذيئة، وغيرها من متاع الدنيا ليلقوها على كومة حريق في ميدان السوق. وبعد عام من ذلك الوقت هرب خلسة من بيته، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ودخل ديراً للبندكتيين في بولونيا.
وكتب رسالة رقيقة إلى أبويه يرجوهما أن يغفرا له أنه خيب ما كانا يرجوان له من رقي في الشؤون الدنيوية؛ ولما أن ألحا عليه بالعودة رد عليهما مغضباً: "أيها الأعميان ! لماذا تداومان على البكاء والأسى؟ إنكما تزعجاني وإن كان عليكما أن تبتهجا ... وليس لي ما أقوله إذا داومتما على هذا الحزن إلا أنكما ألد أعدائي وأعداء الفضيلة؟ فإن كان ذلك، قلت لكما: كونوا كلكم دوني، يا من ترتكبون الإثم"(3). وأقام في دي بولونيا ست سنين، وكان في خلالها يطالب في عزة وفخر أن يعهد إليه بأحقر الأعمال، ولكن موهبته الخطابية تكشفت في اثناء هذه المدة، وعهد إليه بالخطابة، ثم نقل إلى سان ماركو في فلورنس عام 1481، وكلف بالخطابة في كنيسة سان لورندسو، لكن مواعظه فيها لم ترق الجماهير، لأنها كانت ممتعة من الناحية النظرية والتلقينية أكثر مما كانت تطيقه مدينة عرفت بالغة الإنسانيين وأسلوبهم المصقول؛ فأخذ من يستمعون إلى عظاته يقل عددهم اسبوعاً بعد أسبوع؛ فما كان من رئيس الدير إلا أن خصه بتعليم المستجدين. واكبر الظن أن السنين الخمس التالية هي التي تكونت فيها أخلاقه واتخذت صورتها النهائية. ولما ازدادت مشاعره وأغراضه قوة ظهرت آثارها على ملامحه، فتغضنت جبهته وتجهمت، وانقبضت شفتاه الغليظتان تنمان عن قوة العزيمة، وانحنى أنفه الضخم إلى الخارج كإنما كان يريد أن يحيط بالعالم أجمع، وبدا وجهه مكتئباً قاسياً، ينم عن قدرة لا حد لها على الحب والكره، وجسمه الضئيل تحطمه وتنتابه الرؤى، والآمال الخائبة، والأعاصير الداخلية المستنبطة، وكتب وقتئذ لأبويه يقول: " لا زلت لحماً ودماً مثلكما؛ ولا زالت حواسي مستعصية غير خاضعة لعقلي، ولهذا كان لا بد لي أن أناضل بقسوة كي أمنع الشيطان أن يقفز على ظهري"(4). وعمد إلى السوط وجلد نفسه كي يتذلل ما بدا له أنه الفساد المتأصل في الطبيعة البشرية.وإذا كان قد جسد وساوس الجسم والكبرياء فجعلها أصوات الشيطان، فإنه لم يكن أقل من ذلك استعداداً لأن يجسد نصائح نفسه الخيرة وتحذيراتها. وهام وهو بمفرده في صومعته يعلي من شان وحدته بأن يصور نفسه كأنه ميدان تصطرع فيه الارواح التي تحوم حوله ليظفر منها الخبيث او الطيب، وخيل إليه آخر الأمر أن الملائكة وكبارهم يتحدثون إليه، واخذ ألفاظهم على أنها وحي إلهي، وقام فجأة يتحدث إلى العالم كأنه نبي اختير ليكون رسولاً من عند الله، وآمن أشد الإيمان بالرؤى غير المعترف بها والمعزوة إلى الرسول يوحنا، وورث فلسفة الأخرويات عن يواقيم الفلوري، Joachiem of Flora الصوفي، وقال كما قال يواقيم إن عهد المسيح الدجال قد أقبل، وإن الشيطان قد استحوذ على العالم، وإن المسيح سيظهر بعد قليل ليبدأ حكمه في الأرض، وإن الانتقام الإلهي سيحل بالطغاة، والزانين، والكافرين ممن خيل إليهم أنهم يسيطرون على إيطاليا.
ولما أن أرسله رئيس ديره ليخطب في لمبارديا (1486) تنحى سفنرولا على أسلوبه التعليمي الذي كان يصطنعه في شبابه، وصاغ عظاته في صورة التشهير بالرذائل الخلقية، والتنبؤ بيوم الدينونة، والدعوة إلى التوبة. واصغى إليه آلاف ممن لم يكونوا يستطيعون تتبع حججه الأولى، وأخذوا يستمعون في وجل إلى البلاغة الجديدة الثائرة القوية التي ينطق بها رجل خيل إليهم أنه يتحدث عن يقين وتأييد إلهي. وسمع بيكو دلا مرندولا بما أوتيه الراهب من نجاح، وأستأذن لورندسو في أن يعرض على رئيس الدير أن يأمر بعودة سفنرولا إلى فلورنس. وعاد سفنرولا فعلا (1489)؛ واختير بعد عامين رئيساً لدير سان ماركو؛ ووجد فيه لورندسو عدوا أصرح واقوى من أي عدو آخر اعترض سبيله. ودهشت فلورنس إذ رأت أن الواعظ الأضخم الذي كان من قبل يبعث البأس بحججه في قلوبهم، قد أخذ الآن يروعهم بالرؤى والخيالات الدينية، ويستحوذ على قلوبهم بالأوصاف الحية التي يصور بها الوثنية، والفساد، والرذائل المتفشية بين جيرانهم، ويسمو بارواحهم إلى مراقي التوبة والأمل، ويبعث في نفوسهم من جديد قوة الإيمان التي كانت تلهمهم وتروعهم في ايام شبابهم:
"يا أيتها النساء يامن تختلن بزينتكن، وشعركن، وأيديكن، أقول لكن جميعاً قبيحات، فهل تردن أن ترين الجمال الحق؟ انظرن إلى الرجل التقي أو المرأة التقية، حيث تسيطر الروح على المائدة؛ انظرن إليه وهو يصلي، وحين يتلألأ عليه شعاع من الجمال الرباني ساعة يختتم صلواته؛ سترين وقتئذ جمال الله يتلألأ في وجهه، فتبصرنه كأنه وجه ملاك"(5)، وذهل الناس من شجاعته، فقد كان تنديده بالقساوسة والبابوية أشد من تنديده بغير رجال الدين، وكانت قسوته على الأمراء أشد منها على الشعب، وسرى في قلوب الفقراء تيار قوي من التطرف؛ أنظر إلى قوله: لا يوجد في هذه الأيام شيء من نعم الروح القدسي أو هباته لا يستطاع شراؤه أو بيعه، أما الفقراء فقد أبهضت كاهلهم الأعباء الثقال؛ وإذا ما دعوا لأداء مبالغ من المال فوق طاقتهم، صاح الأغنياء في وجوههم قائلين: "أعطونا ما بقي لديكم". ومن الناس من لا يزيد دخلهم على خمسين (فلورينا في العام)، ثم يؤدون ضرائب عن مائة، على حين أن الأغنياء لا يؤدون إلا القليل، لأن الضرائب قد نظمت على هواهم. ألا فلتفكروا جيداً أيها الأغنياء، لأن العذاب سوف يحل بكم. ولن نسمي هذه المدينة بعد اليوم فلورنس، بل ستكون معششاً للصوص، وللدناءة، وسفك الدماء. فإذا جاء هذا الوقت حلت بكم الفاقة...وانقلب اسمكم، أيها القساوسة فصار هو الرعب(6). ثم يأتي بعد القساوسة دور رجال المصارف:
لقد ابتدعتم وسائل كثيرة تجمعون بها المال، وتجرون بها عمليات كثيرة من التبادل تقولون إنها مشروعة، ولكنها أبعد ما تكون عن العدالة، وقد أفسدتم بأعمالكم مناصب المدينة وكبار حكامها. ليس في مقدور أحد أن يقنعكم بأن الربا اثم؛ ولذلك نراكم تدافعون عنه وتعرضون نفوسكم للهلاك؛ وليس فيكم من يستحي من إقراض المال بالربا، بل إن من يفعلون غير أفعالكم يرمون بالبلاهة والغفلة... إن وجوهكم لهي وجوه العاهرات قد نضب منها ماء الحياء؛ فأنتم تقولون إن الحياة الطيبة السارة هي حياة الكسب، والمسيح يقول:
طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات
ثم يوجه كلمة إلى لورندسو فيقول(7):
إن الطغاة لا يمكن تقويمهم، لأنهم متكبرون، ولأنهم يحبون الملق، ولن يردوا مكاسبهم الحرام... وهم لا يستمعون إلى نداء الفقراء، ولا يلومون الأغنياء...... ويفسدون أخلاق الناخبين، ويكلون جباية الضرائب إلى الملتزمين ليبهضوا بذلك كاهل الأهلين(8)... وقد جرت عادة الطاغية أن يشغل الناس بالمعارض والأعياد حتى ينصرفوا عن التفكير في أعماله إلى التفكير في ملاهيهم، فينشئوا غير ملمين بسير أمور الدولة، ويتركوا أزمة الحكم في يديه(9).
وهو لا يرى أن ذلك الطغيان مما يستطاع تبريره بحجة أنه المال ينفق على الآداب والفنون. ذلك أن سفنرولا لا يقول إن الآداب والفنون من أعمال الوثنيين؛ وإن قول الإنسانيين إنهم مسيحيون محض اختلاق، وإن أولئك المؤلفين الأقدمين الذين يجدُّون هم في الكشف عن آثارهم ونشرها والثناء عليها غرباء عن المسيح وعن الفضائل المسيحية، وليس فنهم إلا وثنية وعبادة لآلهة الكفار، أو إنها عرض فاجر للعرايا من النساء والرجال.
واضطرب لورندسو لهذا. لقد كان جده هو الذي أنشأ دير سان ماركو وأغناه، وكان هو نفسه قد حباه بالمال الكثير؛ وبدا له أن مما لا يقبله العقل أن يقوم راهب فيقضي من فوق منبر ذلك البيت المقدس الذي أنشأه آل ميديتشي على ذلك التأييد الشعبي الذي قام على أساسه سلطان أسرته، مع أن هذا الراهب لا يكاد يعرف شيئاً عن صعاب الحكم؛ ويقدس تلك الحرية التي لم تكن في حقيقتها إلا حرية الأقوياء في استغلال الضعفاء بلا وازع من سلطان القانون. وحاول لورندسو أن يسترضي الراهب، فجاء إلى دير سان ماركو ليحضر القداس، ونفح الدير بهبات سخية. ولكن سفنرولا ازدراه وسخر منه، وقال في عظة له بعد ذلك إن الكلب الأمين لا يكف عن النباح دفاعاً عن صاحبه إذا ما ألقي إليه عظم. ولما وجد في صندوق الصدقات قدراً كبيراً من الذهب على خلاف المعتاد ظن أنه جاء من لورندسو، فوهبه إلى دير آخر وقال إن النهضة تفي بحاجات إخوانه الرهبان. وبعث إليه لورندسو خمسة من زعماء المدينة ليحاولوا إقناعه بأن عظاته النارية ستؤدي إلى العنف الذي لا طائل من ورائه، وأنها قد أخذت تخل بالنظام وتهدد الأمن والسلام في فلورنس. ورد عليهم سفنرولا بأن عليهم أن يأمروا لورندسو بأن يكفر عن سيئاته، وأُغرى راهب فرنسيسي اشتهر ببلاغته أن يلقي عظات شعبية يهدف بها إلى إبعاد المستمعين من الرهبان الدمنيكيين عن سفنرولا، ولكن هذا الراهب أخفق في مهمته، وهرعت إلى سان ماركو جماعات أكبر مما كان يهرع إليه من قبل، حتى لم تعد كنيسة الدير تتسع للمستمعين. ونقل سفنرولا منبره إلى الكنيسة الكبرى ليلقي فيها عظاته في موسم الصوم الكبير من عام 1491؛ وكان هذا الصرح يزدحم بالحاضرين كما أعلن أن الراهب سيخطب فيه، مع أنه قد أنشئ لكي يسع أهل مدينة بأكملها. ولم يحاول لورندسو بعدئذ، وكان يقاسي آلام المرض، أن يتدخل في عظاته.
وكان ضعف بيرو بعد موت والده لورندسو سبباً في أن أصبح سفنرولا أكبر قوة في فلورنس؛ ووافق البابا الجديد إسكندر السادس على كره على انفصال ديره عن المجموعات اللمباردية (من أديرة الدمنيك) التي كان هذا الدير جزءاً منها، وبهذا نصب سفنرولا نفسه من الوجهة العملية رئيساً مستقلاً لأهل ديره. فلما تم له ذلك أصلح نظمه، ورفع مستوى الرهبان الخاضعين لحكمه من الناحيتين الخلقية والعقلية؛ فانضم إلى جماعته رهبان جدد، وأحاطه أعضاء الدير البالغ عددهم 250 عضواً بالحب والإخلاص اللذين كان عوناً قوياً له في جميع ظروف حياته ما عدا محنته الأخيرة. وأصبح سفنرولا من أجل ذلك أشد جرأة فيما يوجهه من نقد للفساد الشائع وقتئذ بين رجال الدنيا والدين على السواء. لكنه ورث على غير علم منه آراء الملحدين الولندسيين Waldensian والبتاريين Patarine المعارضة لآراء الكنيسة، وكانت هاتان الطائفتان لا تزالان تكمنان في أماكن مختلفة من شمالي إيطاليا ووسط أوربا، فأخذ يندد بالثراء الدنيوي الذي يستمتع به رجال الدين، وبما يتجلى في الحفلات الكنسية من أبهة وفخامة، ويشنع على "الأحبار الكبار الذين يضعون على رؤوسهم تيجاناً فخمة من الذهب والحجارة الكريمة... وعلى ملابسهم الجميلة وأوشحتهم المنسوجة من الديباج المقصب". وأخذ يقارن هذا بما كان عليه رجال الكنيسة الأولون من بساطة، ويقول إن هؤلاء "لم تكن لهم تيجان ذهبية وأقداح قربان إلا أقل من القليل؛ وذلك لأن القليل الذي كانوا يملكونه منها قد تحطم ليسد حاجة الفقراء والمعوزين؛ أما أحبارنا فإنهم ينهبون من الفقراء ما لا يملكون سواء ليقيموا به أودهم، ليحصلوا به على أقداحهم"(10). وكان يضيف إلى هذا التشهير نبوءات بسوء المصير. وكان قد تنبأ بأن لورندسو وإنوسنت الثامن سيموتان في عام 1492؛ ومات كلاهما في ذلك العام بالفعل. ثم تنبأ في هذا الوقت الذي تتحدث عنه أن الله سيرسل على إيطاليا كارثة مدلهمة ينتقم بها لذنوبها وآثام طغاتها ورجال الدين فيها، فإذا انقضت هذه الكارثة فإن المسيح سوف يقود الأمة في سبيل الإصلاح المجيد، وأنه هو نفسه، سفنرولا، سيموت موتاً عنيفاً. ثم تنبأ في بداية عام 1494 أن شارل الثامن سيغزو إيطاليا، ورحب هو بهذا الغزو ووصفه بأنه يد الله المطهِّرة. ويقول أحد معاصريه إن ما كان يلقيه وقتئذ من عظات كانت "مليئة بالإرهاب، والفزع، والصراخ والعويل، إلى حد جعل كل من سمعها يطوف بالمدينة ذاهلا، صامتا شبيها بالأموات"(11).
وتحققت نبوءة سفنرولا، فعبر شارل الثامن جبال الأبنين في عام 1494 وانقض على إيطاليا يعتزم ضم مملكة نابلي إلى التاج الفرنسي، ودخل أملاك فلورنس في شهر أكتوبر من ذلك العام وحاصر حصن ساردسانا Sarzana، وظن بيرو أنه يستطيع إنقاذ فلورنس من فرنسا؛ كما أنقذها والده من نابلي، بالذهاب إلى عدوه. فقابل شارل في ساردسانا وأجابه إلى كل ما طلب: فسلمت إلى الفرنسيين بيزا وليغورن Leghorn، وجميع ما لفلورنس من حصون في الغرب على أن تبقى في أيديهم طوال أيام الحرب، ورضي أن تقدم فلورنس مائتي ألف فلورين (5.000.000 دولار أمريكي) تساعد بها على تمويل حملة شارل(12): فلما وصل نبأ هذا التسليم إلى فلورنس ارتاعت له حكومة المدينة ومجلسها، ولم يكونوا قد استشيروا من قبل في أمر هذه المفاوضات بعكس ما حدث من قبل في أيام لورندسو.
وقرر مجلس حكام فلورنس بزعامة المعارضين لبيرو من آل ميديتشي أن يخلعوه ويعيدوا الجمهورية القديمة؛ فلما عاد بيرو من ساردسانا وجد أبواب قصر فيتشيو مغلقة في وجهه، وأخذ الناس يهزءون به وهو راكب في طريقه إلى منزله، والصبية يقذفونه بالحجارة. وخشي بيرو الاعتداء على حياته ففر هو وأسرته وإخوانه من المدينة، ونهب العامة قصر آل ميديتشي وحدائقهم، وبيوت عمال بيرو على أمواله؛ ونهبت المجموعات الفنية التي قضي آل ميديتشي في جمعها أربعة أجيال، وبعثرت، وباعت الحكومة ما بقي منها في مزاد علني. وعرض مجلس حكام فلورنس مكافأة قدرها خمسة آلاف فلورين لمن يأتيهم ببيرو والكردنال جيوفني ده ميديتشي على قيد الحياة، وألفين لمن يأتي بهما ميتين. وارسلت خمسة رجال، من بينهم سفنرولا، إلى شارل في بيزا يطلبون إليه شروطاً للصلح أخف وطأة من الشروط السالفة الذكر، وقابلهم شارل بمجاملة سلبية، فلما غادر الوفد بيزا نزع أهلها شارات الأسد والسوسن وهي شعار بيزا عن منازلهم ونادوا باستقلالهم. ودخل شارل فلورنس، ورضي بأن يدخل تعديلا طفيفاً على مطالبه؛ ودفعه حرصه على الوصول إلى نابلي إلى أن يتجه بجيشه نحو الجنوب، وشرعت فلورنس وقتئذ تقوم بتجربة في الديمقراطية تعد من أروع التجارب في التاريخ.
الفصل الثاني: سفنرولا الحاكم
دعي أهل فلورنس في اليوم الثاني من ديسمبر عام 1494 إلى برلمان Parlamento، دعاهم إليه الناقوس العظيم المعلق في برج قصر فيتشيو. وطلب إليهم مجلس السيادة أن يخولوه سلطة ترشيح عشرين من رجالها، يعينون هم مجلس سيادة جديد ورؤساء جدداً للموظفين، وأن يحتفظ هذا المجلس وأولئك الموظفون بمناصبهم عاماً واحداً، تملأ بعده جميع المناصب بطريق القرعة من سجل يحتوي أسماء الذكور المتمتعين بالحقوق السياسية والبالغ عددهم قرابة ثلاثة آلاف. ووافق البرلمان على أن يعهد بهذه السلطة إلى مجلس السيادة القديم.. وحل »العشرون« المجالس والهيئات التي كانت تنظر في الشئون العامة وتديرها أيام آل ميديتشي، ووزعوا المناصب المختلفة على أنفسهم، ولكنهم لم يكونوا ذوي خبرة ودراية بهذه الأعمال، وقامت بينهم التحزبات للأسر فمزقتهم تمزيقاً، وانهارت الأداة الحكومية الجديدة، وأوشكت الفوضى أن تضرب أطنابها في المدينة، وشرع دبيب الكساد يدب في التجارة والصناعة، وتعطل الناس، واحتشدت الجموع الغاضبة في الشوارع؛ وأقنع بيرو كبوني Pero Capponi »العشرين« أن لا سبيل إلى عودة النظام إلا إذا دعي سفنرولا إلى مجالسهم.
واستدعاهم الراهب إلى ديره، وعرض عليهم منهاجاً طموحاً من التشريعات السياسية، والاقتصادية، والخلفية. ووضع »العشرون« بزعامته وزعامة بيترو سديريني Pietro Soderini دستوراً جديداً اتخذوا بعض مبادئه من الدستور الذي نجح أيما نجاح في استقرار الحكم في البندقية. وينص هذا الدستور على إنشاء مجلس أعلى Maggior Consiglio يتكون من رجال تولوا هم أو اسلافهم من الأجيال الثلاثة السابقة مناصب كبيرة في الدولة، على أن يختار هؤلاء الأعضاء الأولون ثمانية وعشرين عضواً آخر ينضمون إليهم في كل عام. أما الهيئة التنفيذية للحكومة فتبقى في جوهرها كما كانت في أيام ميديتشي: مجلس للسيادة مكون من ثمانية رؤساء وحامل للشعار، يختارهم الأعلى لمدة شهرين، ومن عدة لجان -لجنة الأثني عشر، والعشرة والثمانية-مهمتها تصريف الشئون الإدارية، وشئون الضرائب والحرب. وأجل إنشاء الديمقراطية الكاملة بحجة أنها نظام غير عملي في مجتمع لا تزال كثرته من الأميين، يندفعون وراء العواطف والانفعالات؛ ولكن المجلس الأعلى الذي يكاد أعضاؤه يبلغون ثلاثة آلاف عضو كان يعتبر هيئة نيابية. وإذا لم يكن في قصر فيتشيو حجرة تتسع لهذه الجمعية الضخمة، فقد كلف سيمون بلا يولو-ال كروناكا Simone Palaiuolo Ii Cronaca- بأن يعيد تخطيط جزء من داخل القصر ليجعل بهو قاعة الخمسمائة Sala dei cinquecento يتسع لعقد جلسات المجلس مجزءاً. وقد كلف ليوناردو دافنتشي وميكل أنجيلو بعد ثمان سنين من ذلك الوقت أن ينقشا الجدران المتقابلة متنافسين تنافسا ذائع الصيت في التاريخ. ورحبت الجماهير بهذا الدستور المقترح ترحيباً كان الفضل فيه لنفوذ سفنرولا، وشرعت الجمهورية الجديدة تباشر أعمالها في اليوم العاشر من شهر يونية سنة 1495.
وبدأت أعمالها بداية طيبة، فأصدرت عفواً عاماً من جميع المؤيدين لحكم آل ميديتشي الزائل، ودلت على كرمها المنبعث عن احترامها لنفسها بأن ألغت جميع الضرائب عدا ضريبة قدرها عشرة في المائة من دخل الأملاك العقارية، وبذلك أعفى التجار الذين كانوا يسيطرون على الأعمال التجارية من الضرائب، والقوا العبء كله على الأرستقراطية المالكة للأرض، وعلى الفقراء المنتفعين بها. ثم أنشأت الحكومة بإيعاز سفنرولا مكتبا للقروض monte dè pieta يقرض المال بفائدة قدرها خمسة في المائة؛ وبذلك أنجت الفقراء من الاعتماد على المرابين الذين كانوا يتقاضون فوائد تبلغ أحياناً ثلاثين في المائة. ثم حاول المجلس بتحريض الراهب أيضاَ ان يصلح الأخلاق والقوانين: فحرم سباق الخيل، والأغاني البذيئة في الحفلات التنكرية، وانتهاك الحرمات، والميسر، وشجع الخدم على أن يبلغوا عن أسيادهم إذا قامر؛ وكان من يحكم عليهم من المذنبين يعذبون؛ كما كان المجدفون يعاقبون بخرق ألسنتهم، ومن يرتكبون اللواط يلقون من العقوبات الشديدة ما يزري بهم. ونظم سفنرولا الغلمان من جماعته في شرطة أخلاقية مهمتها المساعدة على تنفيذ هذه الإصلاحيات. وتعهد هؤلاء الغلمان بأن يداوموا على الذهاب إلى الكنيسة بانتظام، ويتجنبوا مشاهدة السباق، والاستعراضات، والألعاب البهلوانية، وصحبة الأرذال الفاسدين، والإطلاع على الأدب البذيء، ومشاهدة الرقص، ومدارس الموسيقى، كما تعهدوا بتقصير شعر الرأس. وكانت »عصب الأمل« هذه تجوب الشوارع تطلب الصدقات للكنيسة؛ وتشتت الجماعات التي تحتشد للعب الميسر، وتنتزع أجسام النساء ما ترى أنه غير لائق من الثياب.
وارتضت المدينة هذه الإصلاحيات إلى حين، وأيدتها بعض النساء تأييداً حماسياً، وسلكن مسلكاً مرضياً، ولبسن ثياباً بسيطة، وخلعن الحلي، وبدأت الثورة الأخلاقية فلورنسة آل ميديتشي المرحة تبديلا، وأخذ الأهلون يتغنون في الشوارع بالترانيم الدينية بدل الأغاني الخمرية، وغصت الكنائس بالمصلين، وأخرج الناس الصدقات بمقادير لم يعهد مثلها من قبل، ورد بعض رجال المصارف والتجار مكاسبهم غير المشروعة(13). ودعا سفنرولا جميع سكان المدينة، فقرائهم وأغنيائهم على السواء، أن يتجنبوا البطالة، والترف، وأن يجدوا في أعمالهم، وأن يجعلوا حياتهم قدوة حسنة لغيرهم، وقال في ذلك: »يجب أن نبدأ إصلاحاتكم بشئون الروح... وأن تضعوا مغانمكم الدنيوية في خدمة الصالح الأخلاقية والدينية التي هي أساس هذه المغانم، وإذا كنتم قد سمعتم »أن الدول لا تحكم بالصلوات والأدعية« فاذكروا ان هذا هو حكم الطغاة المستبدين،... وهو حكم لا يعمل لحرية المدينة بل يعمل لظلمها، فإذا شئتم حكماً صالحاً، وجب عليكم أن تردوا هذا الحكم إلى الله«(14). وطلب إلى فلورنس أن تعتقد أن لحكوماتها ملكاً لا تراه العين-هو المسيح نفسه؛ وتنبأ بأن هذه الحكومة الدينية ستؤدي إلى »المدينة الفاضلة«. وقال »أي فلورنس! وإذن ستكونين غنية بثروتك الروحية والزمنية؛ وستفوزين بإصلاح روما، وإيطاليا، وجميع الأقطار، وستبسطين جناحي عظمتك على العالم كله«(15). والحق أن فلورنس لم تسعد في يوم ما قبل ذلك الوقت كما سعدت في تلك الأيام التي كانت لحظة ساطعة في تاريخ الفضيلة القلق المضطرب.
لكن الطبيعة البشرية لا تتغير، فالناس ليسوا فضلاء بفطرتهم، والنظام الاجتماعي إنما يحافظ على كيانه المزعزع وسط التنازع الخفي والعلني القائم بين النفوس والأسر، والطبقات، والعناصر، والعقائد. وكان في المجتمع الفلورنسي عنصر قوي شديد الميل إلى الحانات، والمواخير، وأندية القمار ينفسون بها عن غرائزهم، أو يتخذونها وسيلة إلى الكسب؛ وثارت ثائرة أسر الباتسيين، والزيليين، والكيونيين، والفرع الأصغر من الميديتشيين وغيرهم من الأعيان الذين أخرجوا بيرو، حين رأوا أزمة الحكومة تقع في يدي راهب. وكانت بقية من حزب بيرو لا تزال قائمة تتحين الفرص التي تستطيع بها العودة إلى الحكم وتستعيد بها الثراء. كذلك كان الرهبان الفرنسيس يعملون بكل ما أوتوا من حماسة دينية ضد سفنرولا الدمنيكي، كما كانت عصبة صغيرة العدد من المتشككين تصب اللعنات على الطائفتين. واجتمعت هذه الطوائف المختلفة من أعداء النظام الجديد في تجريح مؤيديه ووصفهم بالباكين Piagnoni (لأن الكثيرين منهم كانوا يبكون إذا سمعوا عظات سفنرولا وذوي الرقاب الملتوية Collitorti، والمنافقين Stropiccioni ومن يلوكون الصلوات Masticapternostri، وكان الذين يلقبون بهذه الألقاب يسمون أعداءهم الكلاب الكلبة Arrabiati لشدة عداء هؤلاء لهم.
وافلحت طائفة الأربياتي (الكلاب الكلبة) في انتخاب مرشحها فلبو كوربتسي Filippo Corbizzi حاملاً لشعار الدولة في بداية عام 1496، فلما تم له ذلك عقد في قصر فيتشيو مجلساً من الكهنوت؛ واستدعى سفنرولا للمثول أمامه، واتهمه بالتورط في نشاط سياسي لا يليق بالرهبان، وانظم إليه في هذه التهمة عدد من رجال الدين من بينهم راهب دمنيكي من طائفة سفنرولا نفسه. وكان جواب سفنرولا: الآن قد حقت كلمات الله: (لقد حاربني أبناء أمي)... ليس الاهتمام بشئون هذا العالم... جريمة يتهم بها راهب إلا إذا خاض فيها دون أن يكون له غرض أسمى، ولم يكن يسعى لنصرة قضية الدين«(16)، وطالبوه بأن يصرح هل كانت عظاته موحى بها من عند الله، ولكنه أبى أن يجيب عن هذا السؤال، وعاد إلى صومعته وهو أشد حزناً مما كان. ولعله كان يستطيع التغلب على أعدائه لو أن الظروف الخارجية كانت في صالحه. لكنها لم تكن؛ ذلك أن الفلورنسيين الذين يمتدحون الحرية كانوا غاضبين أشد الغضب على بيزا لأنهم يطالبون بها؛ وحتى سفنرولا نفسه لم يجرؤ على الدفاع عن المدينة الثائرة. وعوقب قس من قساوسة الكنيسة عقاباً صارماً على يد مجلس للسيادة مؤلف من الباكين لأنه صرح بأن من حق أهل بيزا أيضاً ان يكونوا أحراراً. ووعد سفنرولا بأن يرد بيزا إلى فلورنس، واندفع فادعي أن بيزا في قبضة يده؛ ولكنه كان، كما وصفه مكيفلي ساخراً، نبياً لا جند له. ودعمت بيزا استقلالها بعد أن طرد شارل الثامن من إيطاليا وذلك بتحالفها مع ميلان والبندقية، واسف الفلورنسيين لأن سفنرولا قد ربط نجمهم بنجم شارل الآفل، ولأنهم دون غيرهم لم يشتركوا في ذلك العمل المجيد وهو طرد الفرنسيين من إيطاليا(17). وكان القائدان الفرنسيان للحصنين الفلورنسيين، وهما حصنا سردسانا وبيترا سانتا Pietra Santa قد باعا أحدهما إلى جنوي، والآخر إلى لوكا. وقامت حركات تطالب بالتحرر في مونتي بلتشياتو Montepulciano وأرتسو Arezzo، وفلتيرا Volterra وغيرها من المدائن التابعة لفلورنس اضطربت لها انحاؤها؛ ولاح أن المدينة التي كانت من قبل قوية مزهوة قد أوشكت أن تخسر ممتلكاتها الخارجة كلها تقريباً، وأن تخسر كذلك جميع منافذها التجارية القائمة على نهر الآرنو، والبحر الأدرياوي، وعلى الطرق المؤدية إلى ميلان وروما. وكان لهذا أسوأ الأثر في التجارة، وقل إيراد الضرائب؛ وحاول المجلس أن يحصل على المال الذي تتطلبه الحرب ضد بيزا بقروض جبرية من أغنياء المواطنين، وعرض عليهم في مقابل هذه القروض سندات حكومية؛ فلما أن لاحت امارات الإفلاس انخفضت قيمة هذه السندات إلى ثمانين في المائة، ثم إلى خمسين، فإلى عشرة في المائة من قيمتها الاسمية. واقفرت خزانة الدولة في عام 1496. وحذت الحكومة حذو لورندسو فاقترضت المال من رصيد اؤتمنت عليه الدولة لتقديم البائنات للعرائس الفقيرات. وفشت الرشوة هي والفساد والعجز وضربت أطنابها في إدارة الأموال الحكومية سواء كان مديروها هم الكلاب الكلبة أو الباكين. واختير فرانتشسكو فالوري حاملا لشعار الدولة (يناير 1497) بأغلبية من الباكين فزادت الكلاب الكلبة جنوناً بأن حرمت عليها جميع الوظائف الكبرى ومنعت من عضوية المجلس إذا كان أفرادها ممن تهربوا من أداء الضرائب، ولم يسمح لغير الباكين بالخطابة في المجلس، وأخرج من فلورنس كل راهب فرنسيسي يرفع عقيرته بالخطابة ضد سفنرولا. وحدث في خلال عام 1496 أن ظل المطر ينهمر في كل يوم تقريباً مدة أحد عشر شهراً واتلف المحصولات في الأراضي الضيقة الرقعة الواقعة في مؤخر المدينة؛ وبلغ من شدة القحط أن كان الناس يسقطون موتى من الجوع على قارعة الطريق. وافتتحت الحكومة محطات للإغاثة لمد الفقراء بالحبوب، فكانت النساء يتساقطن موتى من شدة الزحام على طلبها. وأخذ حزب آل ميديتشي يدبر المؤامرات لعودة بيرو؛ وعرفت اسماء خمسة من زعائمهم وحكم عليهم بالإعدام (1497)؛ ومنعوا من استئناف الحكم إلى المجلس وهو الحق الذي يضمنه لهم الدستور، وأعدموا ولما يمض على صدور الحكم إلا ساعات قليلة؛ وأخذ كثيرون من الفلورنسيين يوازنون بين ما هو منتشر في الحكم الجمهوري من تحزب، وعنف، وقسوة، وبين ما كان يسود عهد لورندسو من نظام وأمن وسلام. وتكررت مظاهرات الجموع الغاضبة المعادية أمام دير سفنرولا؛ فكان الكلاب الكلبة والباكون يتراشقون بالحجارة في الشارع؛ ولما أن شرع الراهب يلقي موعظته في يوم الصعود من عام 1497 قاطعه جماعة من الغوغاء وحاول أعداؤه في أثناء الشغب أن يقبضوا عليه ولكن أصدقاءه ردوهم على أعقابهم. وعرض حامل الأختام على مجلس السيادة أن ينفي سفنرولا من المدينة لعل ذلك يسكن من غضب الأهلين، ولكن الاقتراح رفض بأغلبية صوت واحد؛ وكان سفنرولا في هذه العاصفة التي انهارت فيها أحلامه انهياراً مريراً يواجه ويتحدى أعظم قوة في إيطاليا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: سفنرولا الشهيد
لم يضطرب البابا اسكندر السادس اضطراباً شديداً بسبب ما وجهه سفنرولا من نقد لرجال الدين أو لأخلاق أهل روما. ذلك أنه سمع مثل هذا النقد من قبل؛ فقد ظل مئات من رجال الكنيسة قروناً طوالا يشكون من أن القساوسة يحيون حياة تنافي الفضيلة، ومن أن البابوات يحبون المال والسلطان حباً لا يليق بخلفاء المسيح(18). وكان البابا اسكندر سهلاً رضي الطباع، لا يسوئه النقد الهين ما دام يحس بأنه آمن في الكرسي الرسولي. أما الذي كان يسوئه من سفنرولا فهو آراء هذا الراهب السياسية؛ ولسنا نعني بهذه الآراء السياسية ما في الدستور الجديد من نزعة شبه ديمقراطية. كذلك لم يكن البابا يهتم خاصاً بالميديتشيين، ولعله كان يؤثر أن تقوم في فلرونس جمهورية ضعيفة عن أن تقوم فيها حكومة مستبدة قوية. كذلك كان يخشى أن يغزو الفرنسيون البلاد مرة أخرى؛ فقد اشترك من قبل في تكوين عصبة من الدول الإيطالية تعمل على طرد شارل الثامن من إيطاليا، وتحبط أي هجوم ثان يقوم به الفرنسيون؛ ولم يكن يطيق استمساك فلورنس بتحالفها مع فرنسا، ويرى أن سفنرولا هو القوة الخفية التي توجه سياسة المدينة هذه الوجهة، ويرتاب في أنه يراسل في السر الحكومة الفرنسية. وقد كتب سفنرولا في واقع الأمر ثلاث رسائل يؤيد فيها ما اقترحه الكردنال جوليانو دلا روفيري Guiliano della Rovere من أن يعقد الملك مجلساً عاماً من رجال الدين والحكم يصلح الكنيسة، ويخلع الإسكندر لأنه »كافر وزنديق«(19). وحرض الكردنال أسكانيو اسفوردسا Ascanio Sforza ممثل ميلان في البلاط البابوي، البابا على أن يضع حداً لخطب الراهب ونفوذه؛ فكتب الإسكندر في اليوم الحادي والعشرين من شهر يوليه عام 1495 رسالة موجزة إلى سفنرولا قال فيها: إلى ابننا المحبوب نهدي تحياتنا وبركتنا الرسولية. لقد سمعنا أنك أشد العاملين في كرمة الرب غيرة، فابتهجنا لذلك أشد الأبتهاج وحمدنا الله العلي القدير على هذا. وسمعنا كذلك ما تؤكده من أن تنبوءاتك لا تصدر منك بل من الله . ومن أجل هذا نرغب في أن نتحدث إليك في هذه الأمور كما يقضي علينا بذلك قيامنا على رعاية أبناء هذا الدين؛ حتى إذا ما زدنا بهذه الطريقة علما بإرادة الله كنا أقدر على أداء واجبنا؛ ولهذا نأمرك بمالنا عليك من حق الطاعة المقدسة التي أقسمت بالحرص عليها أن تعجل بالمثول بين يدينا، وسوف تلقي منا الترحيب المشفوع بالحب والحنان(20).
وكانت هذه الرسالة نصراً عظيماً لأعداء سفنرولا، لأنها وضعته في مأزق لا يسعه معه إلا أن يختم حياته بوصفه مصلحا أو أن يعصى أمر البابا علناً. وخشي سفنرولا ألا يستطيع العودة إلى فلورنس إذا ألقى بنفسه في قبضة البابا؛ ولربما قضى بقية أيامه في جب سانت أنجيلو Sant' Angelo؛ وإذا لم يعد فإن أنصاره سيقضي عليهم لا محالة. لهذا عمل بنصيحتهم فرد على الإسكندرية قائلا إن مرضه الشديد يحول بينه وبين القدوم إلى روما. وتكشفت بواعث البابا السياسية إلى هذه الدعوة حين كتب إلى مجلس السيادة في فلورنس في الثامن من سبتمبر يحتج على استمرار التحالف بين فلورنس وفرنسا، وينبه الفلورنسيين إلى أنهم لا يليق بهم أن يوجه إليهم اللوم بأنهم دون سائر الإيطاليين يتحالفون مع أعداء إيطاليا؛ وأمر سفنرولا في الوقت عينه أن يمتنع عن الخطابة، وأن يخضع لسلطان الوكيل العام للرهبان الدمنيك في لمباردي، وأن يرحل إلى أي مكان يأمره هذا الوكيل بالرحيل إليه.
ورد عليه سفنرولا (في التاسع والعشرين من سبتمبر) بأن أتباعه لا يريدون أن يخضعوا إلى الوكيل العام للدمنيك، ولكنه في الوقت عينه سيمتنع عن الخطابة. فرد عليه الإسكندر مرة أخرى رداً يدل على رغبته في التوفيق والمصالحة (16أكتوبر)، وأعاد في هذا الرد أمره له بالامتناع عن الخطابة، وعبر عن أمله في أن يجيء سفنرولا إلى روما حين تسمح له صحته بالمجيء إليها لكي يستقيل منها »بروح البهجة والأخوة«(21)، ثم ترك الإسكندر الأمر عند هذا الحد مدة عام.
وكان حزب سفنرولا في هذه الأثناء قد استرد لنفسه السلطان في المجلس وفي مجلس السيادة، ورجا مبعوثو حكومة فلورنس في روما البابا أن يلغي أمره القاضي بمنع الراهب من الخطابة، قائلين أن فلورنس في حاجة إلى تأثيره القوي أيام الصوم الكبير. ويبدو أن الإسكندر أجابهم إجابة شفوية إلى ما طلبوا، وعاد سفنرولا في السابع عشر من فبراير سنة 1496 إلى الخطابة في الكنيسة الكبرى. وعهد الإسكندر حوالي ذلك الوقت إلى أحد الأساقفة الدمنيكيين المتبحرين في العلم أن يفحص ما نشر من مواعظ سفنرولا ليتبين ما بها من خروج على الدين. وكتب الأسقف في تقريره يقول: »أيها الأب الأقدس؛ إن هذا الراهب لا ينطق بشيء يتعارض مع الحكمة أو الشرف؛ فهو يتحدث عن بيع المناصب الدينية وعن فساد القساوسة؛ وهو إن شئت الحقيقة شائع شيوعاً كبيراً؛ وهو يحترم عقائد الكنيسة وسلطاتها؛ وأفضَّل من أجل هذا أن أتخذه لي صديقاً- ولو تطلب هذا أن تعرض عليه ثياب الكردنال الأرجوانية«. ولم يفارق الأسكندر ظرفه فبعث إلى فلورنس راهباً دمنيكياً يعرض على سفنرولا القلنسوة الحمراء؛ ولم يشعر الراهب بأن هذا تكريماً له بل كان وقعه عليه أليماً، لأنه لم ير فيه إلا مثلا آخر من شراء المناصب، فقال لمبعوث الإسكندر: »عليك أن تأتي إلى عظتي التالية تعرف ردي على روما«(23).
وكانت عظته الأولى في ذلك العام إيذاناً ببدء النزاع مع البابا، وكان هذا النزاع حادثاً عظيم الخطر في تاريخ فلورنس؛ وتاق نصف المدينة المهتاجة إلى سماعه، ولم تتسع الكتدرائية على رحبها لكل من أرادوا الدخول، وإن كانوا قد ازدحموا في داخلها حتى لم يستطع أحد منهم حراكا. وأحاطت بالرئيس جماعة من اصدقائه المسلحين حتى اوصلته إلى الكنيسة. وبدأ عظته بأن شرح سبب انقطاعه الطويل عن المنبر، وأكد ولاءه التام لتعاليم الكنيسة، لكنه أتبع ذلك بتحدي البابا تحدياً جريئاً فقال:
إن الرئيس لا يستطيع أن يصدر إليّ أمراً أياً كان يتعارض مع القواعد التي تسير عليها طائفتي، ولا يستطيع البابا أن يصدر أمراً ما يتعارض مع مقتضيات البر أو أوامر الإنجيل؛ ولست أعتقد أن البابا سيحرص يوماً ما على أن يفعل هذا؛ فإن فعل فسأقول له: »إنك الآن لست براع، ولست أنت كنيسة روما، إنك مخطئ«... وإذا تبين بوضوح أن أوامر الرؤساء تتعارض مع أوامر الله، وبخاصة إذا تعارضت مع قواعد البر والخير، فما من أحد من الناس في هذه الحال ملزم بإطاعتها ... وإذا ما تبينت بوضوح أن رحيلي عن مدينة ما سيؤدي إلى هلاك أهلها الروحي والزمني، فإني لن أطيع إنساناً على ظهر الأرض يأمرني بالرحيل عنها... لأني إن اطعته عصيت أوامر الله(24). وندد في عظته التي ألقاها في يوم الأحد الثاني من آحاد الصوم الكبير بأخلاق عاصمة العالم المسيحية بأقسى الألفاظ فقال: »إن ألف عاهر، وعشرة آلاف عاهر، وأربعة عشر ألف عاهر عدد قليل لا يكفي روما لأن جميع من فيها من رجال ونساء في العهر سواء«(25). وانتشرت هذه العظات في طول أوربا وعرضها عن طريق الاختراع الجديد العجيب ونعني به المطبعة، وكان الناس يقرئونها في كل مكان حتى سلطان تركيا نفسه، وأثارت عاصفة من المنشورات والكتيبات في داخل فلورنس وخارجها، منها ما اتهم الراهب بالخروج على الدين والنظام ومنها ما دافع عنه ووصفه بأنه نبي وقديس. وأخذ الإسكندر يبحث عن وسيلة غير مباشرة يتقي بها الحرب العلنية. ومن أجل هذا أمر في شهر نوفمبر من عام 1496 أن توحد جميع الأديرة الدمنيكية التسكانية لتؤلف مجموعة تسكانية- رومانية جديدة توضع تحت سلطة بادر جياكومو دا تشيتشيليا (الصقلي) Padre Giacomo de Cicilia. وكان بادر جياكومو هذا ممن يعطفون على سفنرولا، ولكنه في أغلب الظن لا يمانع في نقل الراهب إلى بيئة أخرى إذا اشار عليه البابا ذلك. ورفض سفنرولا أن يطيع أمر التوحيد، وعرض الأمر على الشعب برمته في نشرة سماها :»دفاع من إخوان سان ماركو«. وجاء في هذه النشرة: »إن هذا الاتحاد مستحيل، وغير معقول، ومضر، ولا يمكن إرغام إخوان سان ماركو على قبوله، لأن الرؤساء لا يحق لهم أن يصدروا أوامر تتعارض مع القواعد التي تسير عليها الطائفة، أو تتعارض مع قانون الخير العام أو سلامة النفوس«(26). وإذا نظرنا إلى الأمر من الناحية الرسمية فإنه جميع من يؤمون الأديرة يخضعون خضوعاً مباشراً للبابوات، ومن حق البابا أن يضم هؤلاء كلهم ويوحد بينهم رغم إرادتهم؛ بل إن سفنرولا نفسه قد وافق في عام 1493 على أمر أصدره الإسكندر بضم جماعة الدمنيكين في دير سانت كترين بمدينة بيزا إلى جماعة سفنرولا في دير سان ماركو الذي يرأسه(27). على أن الإسكندرية لم يتخذ إجراءً عاجلاً، وظل سفنرولا يخطب وأصدر إلى الجمهور سلسلة من الرسائل يدافع عن تحديه للبابا.
ولما اقترب موعد الصوم الكبير من عام 1494 أعد الكلاب الكلبة عدتهم للاحتفال بالعيد بإقامة المهرجانات، والمواكب، والأغاني بجميع المظاهر التي كانت متبعة في أيام الميديتشيين. وأراد مساعد سفنرولا الأمين الراهب دمنيكو أن يحبط هذه الخطط، فأمر الأطفال من اتباعه أن ينظموا هم احتفالا يختلف عن الاحتفال السالف الذكر. فأخذ هؤلاء الأولاد والبنات في خلال الأسبوع السابق لأيام الصوم يطوفون بالمدينة في جماعات، يدقون الأبواب، ويرجون او يطلبون في بعض الأحيان- أن يعطوا ما يسمونه »الأباطيل« أو الأشياء الملعونة (أناثمازي Anathemase)-ويقصدون بها الصور التي يرون أنها بذيئة، وأغاني الغرام، وأقنعة أعيد المساخر وملابسها، والشعر المستعار، وملابس التنكر، وأوراق اللعب، والنرد، والآلات الموسيقية، ومستحضرات التجميل، والكتب الخبيثة مثل ديكمرون أو مورجنتي مجيوري... ولما حل اليوم الأخير من أيام المساخر وهو اليوم السابع من فبراير، سار أشد الناس حماسة من أتباع سفنرولا في موكب رهيب وهو ينشدون الأناشيد خلف تمثال للطفل يسوع نحته دوناتلو يحمله أربعة أطفال في هيئة ملائكة إلى ميدان مجلس السيادة Piazza della Signoria. وكان قد أعد في ذلك الميدان من المواد القابلة للاشتعال هرم ضخم ارتفاعه ستون قدماً ومحيطه عند قاعدته مائتان وأربعون. وصفت على طبقات الهرم السبع أو ألقيت عليها جميع »الأباطيل« التي جمعت في خلال الأسبوع أو جيء بها وقتئذ لتحرق، وكان منهل مخطوطات وتحف فنية عظيمة القيمة. وأشعلت النار في الكومة من أربع نقط، ودقت أجراس قصر فيتشيو لتعلن هذا أول »حريق للأباطيل يقوم به اتباع سفنرولا «. ونقلت عظات الراهب في أيام الصوم ميدان الحرب إلى روما، ذلك أن الراهب، وإن قبل المبدأ القائل بأن الكنيسة يجب أن يكون لها قسط تعتمد عليه من السلطة الزمنية، قال إن ثروة الكنيسة هي سبب انحطاطها. ولم يكن هجومه عليها وقتئذ يقف عند حد:
»إن الارض تسفك فيها أنهار الدماء، ولكن القسس لا يعبثون بشيء من هذا؛ بل إنهم ينشرون الموت الروحي بين الناس جميعاً بما يضربونه لهم من المثل السيئة. لقد ابتعدوا عن الله، فلا يعرفون من أسباب التقوى إلا أن يقضوا لياليهم مع العاهرات... وهم يقولون إن الله لا يعني قط بشئون العالم، وإن كل شئ يحدث فيه مصادقة واتفاقاً، وهم لا يؤمنون بأن المسيح موجود في العشاء الرباني... تعالي أيتها الكنيسة السفيهة... إن الله يقول: لقد وهبتك ثياباً جميلة، ولكنك اتخذتها أصناما، وجعلت من الأدعية المقدسة زينة وغروراً، وجعلت العشاء الرباني سلعة تباع وتشترى. لقد أصبحت في شهوانيتك عاهراً مجردة من الحياة، وأنت أحط من الحيوان، إنك من الفظائع الممقوتة. لقد كنت يوماً ما تشعرين بالخجل من آثامك، أما الآن فقد فارقك الحياء؛ وكان من مسحوا من رجال الدين يسمون أبناءهم اخوتهم وأخواتهم، أما الآن فهم يتحدثون صراحة عن أبنائهم ... والآن أيتها الكنيسة الفاجرة لقد كشفت عن خبثك ورذائلك للعالم أجمع وبلغ خبث رائحتك عنان السماء(28).
وكان سفنرولا يتوقع أن يؤدي هذا الهجاء القاذع إلى حرمانه من حظيرة الدين، وقد رحب فعلاً بهذا الحرمان فقال: يقول الكثيرون منكم إن قرار الحرمان سيصدر... أما أنا فإني أتوسل إليك يا الله أن تعجل بهذا القرار... فليحمل هذا الحرمان إليّ على سن حربة، ولتفتحوا له الأبواب! وسأرد عليه، وإذا لم يذهلكم هذا الرد فقولوا فيَّ ما شئتم... إني لا أبغي يارب إلا صليبك! فلأضطهد؛ إني أسألك هذه النعمة؛ اللهم لا تمتني في فراشي، بل دعني أقدم لك دمي، كما قدمت أنت دمك لي(29).
وأوقدت هذه الخطب النارية لهيب الحماسة في كافة أنحاء إيطاليا، وهرع الناس من أقصى مدائنها للاستماع إليها، وجاء دوق فراراً متخفياً، وفاضت الجماهير إلى الشوارع من الكنيسة، وكانت كل عبارة جامعة محكمة تنقل ممن في داخل الكنيسة إلى من في خارجها، أما في روما فقد انقلب الناس على الراهب انقلاباً كاد يشمل جميع الأهلين وأخذوا يطالبون بإنزال العقاب به(30). وحدث في إبريل من عام 1497 أن سيطرت الكلاب الكلبة على المجلس وادعوا أن المدينة معرضة لخطر الطاعون، فحرموا الخطابة تحريماً تاماً في الكنائس بعد اليوم الخامس من شهر مايو. وانصاع الإسكندر إلى تحريض الكلبيين فوقع في الثالث عشر من مايو قراراً بحرمان الراهب، ولكنه أذاع في الوقت عينه أنه مستعد لإلغاء هذا القرار إذا استجاب سفنرولا إلى أمره بالقدوم إلى روما. وأصر الراهب على رفض الدعوة لأنه كان يخشى أن يزج به في السجن؛ ولكنه لزم الصمت ستة أشهر؛ فلما حل عيد الميلاد أنشد في سان ماركو نشيد القداس الأكبر ، وقدم العشاء الرباني لرهبان ديره، وسار على رأسهم في موكب كبير حول الميدان. وروع كثيرون من الناس حين رأوا رجلاً محروماً يحتفل بالقداس، ولكن الإسكندر لم يعترض على هذا العمل، بل فعل عكس هذا إذ لمح بأنه مستعد للرجوع في قرار الحرمان إذا انضمت فلورنس إلى الحلف الذي يقاوم عودة فرنسا لغزو إيطاليا(31). لكن مجلس السيادة رفض هذا الاقتراح ظنا منه أن الفرنسيين قد ينتصرون في هذا الغزو، وفي الحادي عشر من فبراير عام 1498 بلغ عصيان سفنرولا غايته، فقد خطب في كنيسة سان ماركو فوصف قرار الحرمان بأنه قرار ظالم باطل، واتهم بالمروق من الدين كل من يؤيد صحته، وانتهى الأمر بأن أصدر هو قراراً بالحرمان قال فيه:
ومن اجل هذا فلتحل اللعنة Anathema على من يصدر أوامر تتعارض مع الخير. ولو أن هذا الأمر قد نطق به ملك من السماء، بل نطقت به مريم العذراء نفسها، ونطق به جميع القديسين (وهو مستحيل لا ريب) لحلت عليهم اللعنة... وإذا ما نطق أي بابا بما يناقض هذا، فليعلن حرمانه(32). وقرأ سفنرولا صلاة القداس في اليوم الذ قبل الصوم الكبير في الميدان القائم أما كنيسة سان ماركو، وقدم العشاء الرباني لجمع غفير من الناس ودعا الله جهرة بقوله: »اللهم إني كنت غير مخلص في أعمالي، أو إن كانت ألفاظي غير موحى بها منك فأمتني في هذه الساعة«، ونظم سفنرولا في عصر ذلك اليوم حرقاً ثانياً للأباطيل. وأبلغ الإسكندر مجلس السيادة أنه سيصدر قراراً بحرمان المدينة إذا لم يستطع هذا المجلس إقناع سفنرولا بأن يكف عن الخطابة؛ لكن المجلس أبى أن يسكته وإن كان في ذلك الوقت شديد العداء له، وآثر أن يحمل البابا وحده عبء هذا القرار، هذا إلى أن الراهب البليغ قد يكون ذا نفع في مقاومة البابا الذي كان في ذلك الوقت ينظم الولايات البابوية تنظيماً يجعل منها قوة عظيمة تقلق بال جيرانها. وواصل سفنرولا خطبه، ولكنه قصرها على كنيسة الدير؛ وكتب سفير فلورنس في روما يقول إن عداء روما للبابا قد اشتد إلى حد يعرض حياة أهل كل فلورنسي فيها للخطر، وإنه يخشى إذا نفذ البابا ما هدد به من الحرمان فإن جميع التجار الفلورنسيين في روما قد يلقي بهم في السجون. ولم يسع مجلس السيادة إلا الخضوع، وأمر سفنرولا أن يكف عن عظاته (17 مارس). وأطاع الراهب الأمر، ولكنه تنبأ بأن فلورنس ستحل بها أشد الكوارث؛ وشغل الراهب دمنيكو منبر الدير بدله، وجعل نفسه الناطق بلسان الراهب؛ وكتب سفنرولا في خلال ذلك إلى ملوك فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا، وبلاد المجر، يرجوهم أن يدعوا إلى عقد مؤتمر عام لإصلاح الكنيسة وجاء في رسالته: لقد حان وقت الانتقام؛ وقد أمرني الله أن أكشف عن أسرار جديدة،
صفحة رقم : 6588
قصة الحضارة -> النهضة -> النهضة الفلورنسية -> سفنرولا والجمهورية -> سفنرولا الشهيد
وأن أظهر للعالم الأخطار التي تتهدد سفينة القديس بطرس نتيجة لطول إهمالكم. إن الكنيسة غاصة بكل ما هو ممقوت ومرذول من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، ومع ذلك فإنكم لا تكتفون بالسكوت عن علاج مساوئها بل إنكم تقدمون الولاء والخشوع للمتسببين في هذه الرذائل التي تدنسها؛ وقد غضب الله من هذا أشد الغضب، وترك الكنيسة زمناً طويلاً من غير راع ... ذلك بأني بهذا أقر ... أن الإسكندر هذا ليس بابا، ولا يمكن أن يكون بابا؛ لأنه يغض الطرف عن الخطيئة المهلكة خطيئة الاتجار بالمقدسات والمناصب الكهنويتة التي ابتاع بها كرسي البابوية، وهو في كل يوم يبيع المناصب الكنسية لصاحب أكبر عطاء؛ وإذا غضضنا النظر عن آثامه الأخرى البادية للعيان، فإني أعلن على رؤوس الأشهاد أنه ليس مسيحياً ولا يؤمن بالله(33).
واضاف إلى ذلك قوله إنه إذ عقد الملوك مجلساً فإنه سيمثل أمامه ويبرهن على صحة هذه التهم جميعها. واعترض أحد عمال ميلان على إحدى هذه الرسائل وبعث بها إلى الإسكندر.
وقام راهب فرنسيسي في الخامس والعشرين من شهر مارس عام 1498 وسلط أضواء المسرحية على نفسه بأن خطب في كنيسة سانتا كروتشي (الصليب المقدس) يتحدى سفنرولا ويدعوه إلى التحكيم الإلهي بوساطة النار؛ واتهم في خطابه الراهب الدمنيكي بأنه خارج على الدين، ومتنبئ كذاب، وعرض أن يخوض النار إذا قبل سفنرولا أن يحذو حذوه؛ وقال إنه يتوقع أن يحترق كلاهما، ولكنه يرجو أن تنجو فلورنس بهذه التضحية من الاضطراب الذي أحدثه فيها دمنيكي مزهو يعصي أوامر البابا. ورفض سفنرولا هذا التحدي لكن دمنيكو قبله. واغتنم مجلس السيادة هذه الفرصة التي سنحت له لكي يندد بالراهب الذي أصبح في زعمه زعيما مهرجاً أثار في المدينة كثيراً من المتاعب. وارتضى الالتجاء إلى أساليب العصور الوسطى، وأعد العدة لكي يدخل النار الراهب جوليانوا رندينلي Giuliano Rondinelli أحد الرهبان الفرنسيس والراهب دمنيكو دا بستشيا Domenico da Pescia في البياتسا دلا سنيوريا (ميدان مجلس السيادة).
واحتشد في اليوم المحدد جمهور كبير في الميدان العظيم ليستمتع بالنظر إلى معجزة من المعجزات أو إلى عذاب يحل ببني الإنسان، واحتل النظارة كل نافذة وكل سقف يطل على هذا المنظر. وأعدت في وسط الميدان كومتان متماثلتان من الخشب الممزوج بالقار، والزيت، والراتنج، والبارود،تعترضان طريقاً عرضه قدمان، وتضمنان اشتعال لهب شديد. واتخذ الرهبان الفرنسيس موقفهم في اللوجيا دي لاندسي Loggia dei Lanzi، واقبل الرهبان الدمنيك من الاتجاه المقابل لهم، وكان الراهب دمنيكو يحمل قرباناً مقدساً، بينما كان سفنرولا لا يحمل الصليب. وشكا الفرنسيس من أن قلنسوة الراهب الدومنيكي الحمراء قد سحرها رئيس الدير حتى أضحت غير قابلة للاحتراق؛ وأصروا على أن يخلعها؛ واحتج الراهب الدومنيكي على هذا الطلب ولكن الجماهير ألحت عليه بالامتثال ففعل. ثم طلب إليه الفرنسيس أن يخلع اثواباً أخرى ظنوا أنها هي أيضاً قد تكون مسحورة؛ وارتضى دمنيكو هذا، وسار إلى قصر مجلس السيادة واستبدل بثيابه ثياب راهب آخر. وألح الفرنسيس مرة أخرى أن يحرم عليه الاقتراب من سفنرولا، لئلا يعود إلى التأثر بسحره؛ وارتضى دمنيكو أن يحيط به الرهبان الفرنسيس؛ وعارضوا في أن يخوض النار وهو يحمل الصليب أو القربان المقدس، فأعطاهم الصليب ولكنه أبى أن يعطيهم القربان، وأعقبت هذا مناقشة فقهية بين سفنرولا والرهبان الفرنسيس وخلاصتها هل يحترق المسيح مع ظاهر القربان المقدس أو لا يحترق معه. وظل البطل فرنسيس في خلال هذه المدة في القصر يرجو مجلس السيادة أن ينقذه بوسيلة ما؛ وأطال الرهبان الجدل حتى أقبل الليل وخيم الظلام، ثم أعلنوا أن التحكيم الإلهي لن يحدث.
وغضبت الجماهير لهذا الخداع الذي حرمهم رؤية الدم المسفوك، وهاجموا القصر لكنهم صدوا، وحاول بعض الكلاب الكلبة أن يعتقلوا سفنرولا، ولكن حراسه دفعوهم عنه، وعاد الدمنيك إلى سان ماركو وسط سخرية الجماهير، وإن كان من الواضح أن الفرنسيس هم الذين كانوا السبب الأكبر في هذا التأخير: وشكا الكثيرون من أن سفنرولا قد سمح بأن يمثله دمنيكو في التحكيم الإلهي بدل أن يواجهه بنفسه، بعد أن أعلن أنه يتلقى الوحي من الله، وأن الله سيحميه. وانتشرت هذه الأفكار في المدينة، ولم يكد ينقضي الليل حتى تنحي أتباع رئيس الدير عنه. وكان اليوم الثاني هو أحد السعف، وفيه سارت الغوغاء من جماعة الكلاب الكلبة وغيرهم تريد مهاجمة دير سان ماركو، وقتلوا في طريقهم بعض الباكين من بينهم فرانتشسكو فالوري، ولما أطلت زوجته من النافذة حين سمعت صراخه رميت بسهم أرداها قتيلة، ونهب بيته وحرق، وقتل أحد أحفاده خنقاً. ودق جرس سان ماركو يدعو الباكين إلى النجدة، ولكنهم لم يلبوا النداء، واستعد الرهبان للدفاع عن أنفسهم بالسيوف والهراوات، وأمرهم سفنرولا بأن يضعوا أسلحتهم ولكن أوامره ذهبت أدراج الرياح، ووقف هو نفسه أعزل أمام المحراب ينتظر الموت. واستبسل الرهبان في الكفاح، وأخذ الراهب إتريكو يضرب بسيفه وهو مبتهج ابتهاج غير رجال الدين، ويصرخ عن كل ضربة صرخة مدوية قائلا: أنج شعبك يا رب Salvum fuc populum tuum Domine ، ولكن الجماهير الغاضبة كان أكثر من أن يطيقها الرهبان؛ وأقنعهم سفنرولا في آخر الأمر أن يضعوا أسلحتهم. ولما أن جاء الأمر من مجلس السيادة باعتقاله هو ودمنيكو، استسلم الرجلان، وسيقا وسط الجماهير التي أخذت تسخر منهما، وتضربهما بالأيدي، وتركلهما بالأقدام، وتبصق عليهما، وأودعا زنزانتين في قصر فيتيشيو، وضم الراهب سلفسترو إلى السجينين في اليوم الثاني.
وبعث مجلس السيادة إلى البابا إسكندر بأنباء التحكيم الإلهي والقبض على الرهبان، ورجاه أن يعفو عما وقع على أحد رجال الدين من عنف، وطلب إليه أن يأذن بتقديم المسجونين إلى المحاكمة، وأن يعذبا إذا استدعى الأمر تعذيبهم. وطلب البابا أن يرسل الرهبان الثلاثة إلى روما ليحاكموا أمام محكمة كنسية؛ فرفض مجلس السيادة هذا الطلب، ولم يسع البابا إلا أن يقنع بأن يشترك مندوبان بابويان في محاكمة المتهمين(34). وكان مجلس السيادة يصر على إعدام سفنرولا، وذلك لاعتقاده أن حزبه سيبقى قائماً ما دام هو حياً؛ وأن موته هو الذي يرأب الصدع الذي قسم المدينة والحكومة على نفسيهما حتى اصبح مع فرنسا عديم القيمة لا تخشاه أية دولة أجنبية، وأضحت فلورنس بسبب ذلك مُعششا للمؤامرات الأجنبية في الداخل ومعرضة للغزو من الخارج.
وجرى المحققون على الشريعة التي سنتها محكمة للتفتيش، فأخذوا يعذبون الرهبان الثلاثة عدة مرات بين اليوم التاسع من أبريل واليوم الثاني والعشرين من مايو. وانهار سلفسترو على الفور، ولم يتردد في أن يجيب المحققين إلى كل ما رغبوا فيه حتى كانت اعترافاته عديمة القيمة بسبب الإفراط في يسرها. أما دمنيكو فقد ظل يقاوم؛ حتى النهاية وحتى بعد أن عذب عذاباً كاد ان يؤدي به إلى الموت ظل يجهر بأن سفنرولا قديس لا تشوبه شائبة من خداع أو إثم. وتوترت أعصاب سفنرولا وخارت قوله فلم يلبث أن انهار تحت ضغط التعذيب، وأدلى المحققين بكل ما أوحوا إليه به. فلما أفاق أنكر ما اعترف به، فعذب وعاد إلى الخضوع. ولما تكرر عذابه للمرة الثالثة تحطمت روحه وأمضى اعترافا مهوشاً بأنه لم يتلق وحياً إلهياً، وأنه آثم في كبريائه وأطماعه، وأنه حث قوى أجنبية زمنية على أن تعقد مجلساً عاماً للكنيسة، وأنه دبر مؤامرة لخلع البابا. وأدين الرهبان الثلاثة بأنهم منشقون خارجون على الدين، وأنهم أذاعوا أسرار الاعترافات؛ وادعوا أنها رؤى ونبوءات، وأنهم أشاعوا الفرقة والاضطراب في الدولة؛ وحكم عليهم بالإعدام باتفاق الدولة والكنيسة. وتفضل الإسكندر فبعث إليهم بالغفران.
ونفذت الجمهورية العاقة قاتلة ابيها في الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1498 حكم الإعدام في منشئها ورفاقه. واقتيدوا حفاة مجردين من ثيابهم الكهنوتية إلى ميدان مجلس السيادة الذي حرقوا فيه »الأباطيل« مرتين، واحتشدت جماهير كثيرة لتشاهد هذا المنظر كما احتشدت من قبل لتشاهد منظر التحكيم الإلهي، ولكن الحكومة أمدتهم في هذه المرة بحاجتهم من الطعام والشراب. وسأل أحد القساوسة سفنرولا »بأي روح تتحمل هذا الاستشهاد؟ « فرد عليه بقوله: »ما أكثر ما تعذب الرب من أجلي!« وقبل الصليب الذي كان معه ولم ينبس بعد ببنت شفة. وسار الرهبان بجنان ثابت ليلقوا مصيرهم المحتوم، وكاد الطرب يستخف دمنيكو فأخذ ينشد تسبيحه الشكر لله الذي أنعم عليه بنعمة الاستشهاد. وشنق ثلاثتهم وتركوا معلقين، وسمح للصبيان أن يرشقوهم بالحجارة وهم في حشرجة الموت. وأوقدت تحتهم نار حامية أحالت جثثهم رماداً؛ ثم ألقي الرماد في نهر الأرنو لئلا يعبد الناس بوصفه بقايا القديسين. وجاء بعض الباكين يتحدون الإحراق بالنار فركعوا في الميدان وأخذوا ينتحبون ويصلون؛ وظلت الأزهار تنثر في صباح اليوم التالي للثالث والعشرين من مايو في كل عام حتى عام 1703 في البقعة التي سقطت فيها دماء الرهبان الساخنة. وترى اليوم لوحة في أرض الميدان المرصوفة تشير إلى أشنع جريمة وقعت في تاريخ فلورنس.
وبعد فقد كان سفنرولا هو العصور الوسطى بعثت حية في عصر النهضة، وكانت النهضة هي التي قضت عليه. وكان يشهد انحلال إيطاليا الأخلاقي بفعل الثروة، كما يشهد اضمحلال العقيدة الدينية؛ ووقف مستبسلاً، متعصباً، ولكنه وقف عبثاً، في وجه روح العصر المتشككة، الشهوانية. لقد ورث الرجل ما كان يتصف به القديسون في العصور الوسطى من غيرة أخلاقية وسذاجة عقلية، وبدا أنه لا مكان له في عالم يسبح بحمد بلاد اليونان الوثنية التي عثر عليها من جديد. وأخفق الرجل في هدفه وكان إخفاقه نتيجة قصور عقله وفي كفايته، ويستخف استخفاف السذج الطيبي القلوب بما تتطلبه مقاومة سلطان البابوية وغرائز الآدميين من قوة ليست له. ولقد روعته أخلاق الإسكندر ترويعاً نستطيع أن ندرك سببه، ولكنه كان عنيفاً في اتهاماته عنيداً في سياسته. لقد كان بروتستنتيا قبل أن يجيء لوثر، ولكن بروتستنتيته لم يكن لها معنى إلا أنها الدعوة لآراء الكنيسة القائمة، ولكن ذكراه أصبحت قوة تملأ عقول البروتستنت؛ ولذلك لقبه لوثر بالقديس. وكان أثره في الأدب ضئيلا لأن الأدب كان وقتئذ في أيدي المتشككين والواقعيين أمثال مكيفلي وجولتشيارديني Guicciarddini، أما أثره في الفن فكان عظيما إلى أبعد حد. وقد كتب الراهب بارتولوميو على صورته يقول: »صورة جيرولاما من أهل فرارا، النبي المبعوث من عند الله«. وقد تحول بتيتشيلي من الوثنية إلى التقي والصلاح بتأثير مواعظ سفنرولا؛ وكثيراً ما كان ميكل أنجيلو يستمع إلى الراهب ويقرأ عظاته في خشوع، وكانت روح سفنرولا هي التي حركت الفرشاة في سقف معبد ستيني Sistine ورسمت وراء المحراب صورة يوم الحساب.
أما عظمة سفنرولا فترجع إلى ما بذله من الجهد لإحداث ثورة أخلاقية في فلورنس، و لحث الناس على أن يكونوا أشرافاً، صالحين، عادلين. ونحن نعرف أن هذه أشق الثورات كلها، ولا ندهش لأن سفنرولا أخفق فيما أفلح فيه المسيح، وهو أن يصلح قلة ضئيلة يرثى لها من الخلائق؛ ولكننا نعرف أيضاً أن ثورة كهذه هي وحدها التي تؤدي إلى تقدم حق في شئون الخلق، وأن تقلبات التاريخ إذا قيست إليها كانت مناظر عارضة سريعة الزوال عديمة الأثر، إن بدلت شيئاً فلن تبدل الإنسان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: الجمهورية والميديتشيون 1498-1534
لم يخفف موت سفنرولا من الفوضى التي كادت تجعل البلاد بلا حكومة أيام سلطانه. ذلك أن الفترة القصيرة التي لم تكن تدوم إلا ثلاثة شهور، وهي التي كان يقضيها أعضاء مجلس السيادة وحامل الأختام في مناصبهم، كانت تقضي على الاستمرار الواجب في الهيئة التنفيذية، وتبعث فيها قلقاً أشبه بقلق المحموم، وتؤدي إلى الفساد وعدم الإحساس بالتبعة. وحاول المجلس في عام 1502، وكانت تسيطر عليه وقتئذ أقلية ظافرة من أصحاب المال، أن يتغلب على بعض هذه الصعوبة بأن يختار حامل الشعار على أن يبقى في منصبه طول حياته حتى يستطيع مواجهة البابوات الحكام الزمنيين على قدم المساواة، وإن ظل مع ذلك خاضعاً لمجلس السيادة ومجلس الحكام. وكان اول من حظي بهذا الشرف بيتروسدريني، وهو من أصدقاء الشعب الأثرياء، وكان وطنياً أميناً، لم يؤت من العقل والإرادة درجة كبرى تهدد فلورنس بالدكتاتورية. واستخدم مكيفلي فيمن استخدمهم من المستشارين، وساس البلاد بحكمة وراعى جانب الاقتصاد، واستعان بأمواله الخاصة على العودة إلى مناصرة الفنون التي انقطع حبلها في عهد سفنرولا. واستبدل مكيفلي بتأييد منه بجنود فلورنس المرتزقة مجندين من أهلها، اضطروا بيزا آخر الأمر (1508) إلى قبول »الحماية« مرة أخرى. ولكن السياسة الخارجية التي إتبعهتا الجمهورية أوقعت البلدة في عام 1512 في الكارثة التي تنبأ بها الإسكندر السادس. ذلك بأن فلورنس أصرت على الاستمساك بحلفها مع فرنسا طوال المدة التي كان فيها »الحلف المقدس« المكون من البندقية، وميلان، ونابلي، وروما يبذل الجهود تلو الجهود ليطهر إيطاليا من الغزاة الفرنسيين. فلما توجت جهود الحلف بالنصر ولى شطر فلورنس لينتقم منها، وسير إليها جنوده لكي يستبدلوا الالجاركية الجمهورية بدكتاتورية ميديتشية. وقاومت فلورنس جنود الحلف، وبذل مكيفلي جهودا جبارة لتنظيم وسائل الدفاع عنها. واستولى الغزاة على براتو Prato حصنها الامامي ونهبوه، وإلى عساكر مكيفلي الادبار أمام جنود الحلف المرتزقين المدربين. واستقال سدريني حتى لا يطول سفك الدماء، ودخل جوليانو ده ميديتشي ابن لورندسو فلورنس، بعد أن نفح الحلف بعشرة آلاف دوقة (نحو 250.000 دولار)، في حماية الجنود الاسبانية، والجرمانية، والإيطالية. وسرعان ما انضم إليه أخوه الكردنال جيوفيني، والغى دستور سفنرولا، وأعيدت سيادة آل ميديتشي على فلورنس.
وسلك جيوفيني وجوليانو مسلك الحكمة والاعتدال، وارتضى الشعب هذا التغيير بعد أن أتخمه طول الاستشارة والاهتياج. ولما أن أصبح جيوفيني هو البابا العاشر (1513)، وتبين أن جوليانو أرق واظرف من أن يكون حاكماً ناجحاً، أسلم حكم فلورنس إلى ابن أخيه لورندسو، ومات هذا الشاب الطموح بعد ست سنين من حكم الاستهتار، وخلفه الكردنال جويليوده ميديتشي Giulio de'Medici، ابن جوليانو الذي قتل في مؤامرة باتسي Pazzi، فأدار شئون فلورنس بكفاية ممتازة؛ ولما اصبح هو البابا كلمنت السابع (1521) حكم المدينة وهو جالس على كرسي البابوية. وانتهزت فلورنس فرصة الكوارث التي حلت به فطردت منها ممثليه (1527)، وظلت أربع سنين تستمع مرة أخرى بتجارب الحرية. ولكن كلمنت خفف بالدبلوماسية وقع الهزيمة، واستخدم جنود شارل الخامس ليثأر لاقاربه المطرودين. وزحف جيش من الاسبان والجرمان على فلورنس (1529)، وأعاد قصة عام 1512؛ وقاومت المدينة مقاومة الابطال ولكنها لم تجدها نفعا، وبدا السندروده ميديتشي Alessandro de Medici (1513) عهداً من الظلم والوحشية، والفجور لم يسبق له مثيل في سجلات اسرته، ومضت بعد ذلك ثلاثة قرون بعد أن تذوق فلورنس طعم الحرية مرة أخرى.
الفصل الخامس: الفن في عهد الجمهورية
أن عصر الاهتياج السياسي يكون في العادة حافزاً قوياً للأدب وسندرس فيما بعد كاتبين من الطراز الأول - مكيفلي وجوتسيارديني Guicciardini - كانا من كتاب تلك الفترة. لكن الدولة المشرفة على هاوية الإفلاس، والتي لا تكاد تخرج من ثورة إلا إلى ثورة، لا تكون صالحة لنماء الفنون - وهي أقل ما تكون صالحاً لنماء العمارة بوجه خاص. ومع هذا فقد وجد عدد من الرجال الاغنياء، أوتوا من البراعة ما يستطيعون به أن يطفوا فوق الفيضان الجارف، فظلوا يتحدون الحظ العاثر بإقامة القصور. من ذلك أن جيوفيني فرانتشيسكو، وأرسطوطيلي دا سنجلو Aristotele da Sagalla، أقاما قصراً فخماً لأسرة بندلفيني Pandolfini بناء على تصميم من عمل روفائيل، وخطط ميكل أنجيلو بين عامي 1520، 1524 غرفة مقدسات جديدة Nuova Sagrestia لكنيسة سان لورندسو بتكليف من الكردنال جويليوده ميديتشي - تتكون من فناء مربع بسيط، وقبة متواضعة يعرفها العالم كله بأنها موطن أجمل ما نحته ميكل أنجيلو وهو مقابر الميديتشيين.
وكان بين منافسي هذا الفنان الجبار المثال بيترو ترجيانو Pietro Torrigiano الذي كان يعمل معه في حديقة التماثيل التي أنشأها لورندسو، والذي جدع أنفه ليؤيد بذلك حجة له. وغضب لورندسو من هذا العمل العنيف غضباً اضطر ترجيانو من أجله أن يلجأ إلى روما ويصبح جندياً في خدمة سيزاري بورجيان وأظهر بسالة عظيمة في كثير من المعارك، واتخذ سبيله إلى إنجلترا، وخطط فيها إحدى آيات الفن الإنجليزية وهي قبر هنري السابع في دير وستمنستر (1519). ونحت بعدئذ(1) وهو يطوف في إسبانيا طواف القلق المضطرب، تمثالاً جميلاً للعذراء والطفل كلفه به دوق أركوس Arcos، ولكن الدوق لم يكافئه عليه بما يستحق، فحطم التمثال، وانتقم منه الدوق بأن اتهمه لدى محكمة التفتيش بالمروق من الدين، وحكم على ترجيانو بعقوبة شديدة، ولكنه فوت على أعدائه غرضهم بأن أضرب عن الطعام حتى مات جوعا.
ولم تشهد فلورنس في فترة من تاريخها مثل ذلك العدد الجم من الفنانين الذي شهدته في عام 1492، ولمن كثيرين منهم فروا منها بسبب ما كانت تموج به من اضطراب، وخصوا بشهرتهم أماكن غيرها؛ فذهب ليوناردو إلى ميلان، وميكل أنجيلو إلى بولونيا، وأندريا سانسوفينو Andrea Sansovino إلى لشبونة وأتخذ سانسوفينو لقبه من جبل سو فينو، وأذاع شهرته إلى حد نسى معه الناس اسمه الحقيقي وهو أندريا دي دنيكو كنتوتشي Andrea di Domenico Contucci. وكان أندريا ابن عامل فقير ولكنه اولع اشد الولع بالرسم وبعمل نماذج من الصلصال؛ وارسله رجل رحيم من أهل فلورنس إلى مرسم أنطونيو دل بولا يولو؛ وسرعان ما نضج الغلام فشاد في كنيسة سانتو اسبريتو معبد القربان المقدس، وصنع فيه تماثيل ونقوشا بارزة »بلغت من القوة والجودة« كما يقول فاساري »درجة لا يجد الإنسان معها أي عيب فيها«، ثم وضع أمام المعبد دريئة مصعبة من البرنز بلغت من الجمال حداً لا يسع الإنسان معه غلا أن يحبس انفاسه عند النظر إليها. ورجا جون الثاني ملك البرتغال لورندسو أن يبعث إليه بالفنان الشاب، وذهب إليه أندريا وظل عنده تسع سنين يكدح في النحت والعمارة. وعاوده الحنين إلى إيطاليا، فعاد إلى فلورنس (1500)، ولكنه سرعان ما غادرها إلى جنوى، ثم انتهى به المطاف إلى روما، وأنشأ في كنيسة سانتا ماريا دل بوبولو قبرين من الرخام - للكردنالين اسفوردسا - وبسو دلا روفيري Basso delle Rovere نالا أعظم الثناء من مدينة تزدحم وقتئذ (1505-1507) بالعباقرة.
وأرسله ليو العاشر إلى لوريتو Loreto حيث زين بين عامي 1523 و1528 كنيسة سانتا ماريا بمجموعة من النقوش البارزة مستمدة من حياة العذراء، وبلغت من الجمال حداً بدا معه الملك في صورة البشارة كأنه »من السماء لا من الرخام«، على حد قول فاساري، ثم آوى أندريا بعد قليل من ذلك الوقت إلى ضيعة قريبة من موطنه مونتي سان سافينو، وعاش فيها عيشة الفلاح المجد حتى توفي في عام 1529 في الثامنة والستين من عمره.
وكانت أسرة دلا ربيا Robbia della في هذه الاثناء تواصل العمل بامانة ومهارة في اشغلا الصلصال المزجج؛ وطال عمر أندريا دلا ربيا أكثر مما طال عمر عمه الذي بلغ خمسة وثمانين عاماً، وأوتى بذلك من الوقت ما مكنه من أن يدرب على فنه ثلاثة من أبنائه هم جيوفني، ولوكا، وجرولو. وقد بلغت اشغال أندريا في الصلصال المحروق من بريق اللون والرقة حداً يذهل معه زائر المتحف، فيهبر عينه ويمسك قدمه فلا يستطيع التحرك من مكانه. وقد امتلأت حجرة في البرجيلو Bargello بروائع من صنع يده، وامتاز مستشفى الالمبرئين بالزخارف الهلالية التي زين بها صورة البشارة. ونافس جيوفني دلا ربيا أباه أندريا في مهارته التي يتبينها الإنسان في البرجيلو واللوفر؛ وكاد آل دلا ربيا يقصرون جهودهم على الموضوعات الدينية مدى ثلاثة أجيال كاملة، وكانوا من أشد أنصار سفنرولا واعظمهم تحمساً لآرائه،وانضم ثلاثة من ابناء أندريا إلى إخوان سان ماركو يطلبون النجاة مع الراهب.
وكان الرسامون يحسون أعمق الإحساس بتأثير سفنرولا، وقد أخذ لورندسو ده كريدي Lorenzo de Credi فنه عن فيرتشيو Verrocchio، وحاكى طراز ليوناردو زميله في الدرس، وأخذ رقة صوره الدينية من التقوى التي بعثها فيه بيان سفنرولا ومصيره المفجع، وقضى نصف عمره يعمل في تصوير العذراء؛ حتى لا يكاد يخلو مكان من هذه الصور، فنحن نراها في رومة، وفلورنس، وتورين، وافنيون، وكليفلاند. ووجوه هذه الصور غير متقنة، واثوابها فخمة، ولربما كانت أحسنها كلها صورة البشارة المحفوظة في متحف أفيزي. ولما بلغ لورندسو الثانية والسبعين من العمر وأحس بأن الوقت قد حان للتحلي بمظهر القداسة، ذهب ليعيش مع رهبان رانتا ماريا نوفو؛ ومات في ذلك المكان بعد ست سنين من ذهابه إليه.
واتخذ بيرو دي كوزيمو Piero di Cosimo لقبه من معلمه كوزيمو روسلي Cosimo Rosselli لأن »من يدرب الكفايات، ويزيد من سعادة الانسان أب بحق لا يقل شأناً عن أبي الإنسان الذي ولده«(35). وأيقن كوزيمو أن تلميذه قد بَزَّه؛ فلما استدعاه سكستس الرابع لزخرفة معبد سستيني صحب بيرو معه؛ وهناك رسم بيرو صورة هلاك جند فرعون في البحر الأحمر وسط مناظر طبيعية مكتئبة من الماء، والصخر، والسماء الملبدة بالغيوم. وقد خلف لنا صورتين عظيمتين كلتاهما في متحف لاهاي وهما صورتا جوليانو دا سنجلو. ووهب بيرو نفسه كلها للفن، فقلما كان يعني بالمجتمعات او بالصداقة؛ وكان يعشق الطبيعة والوحدة، وينمك في الصور والمناظر التي يصورها. ومات الرجل وحيداً دون أن يعترف، بعد أن أخذ عنه فنه تلميذان تفوقا على أستاذهما كما تفوق هو على استاذه من قبل: نعني بهما الراهب بارتولميو وأندريا دل سارتو Andrea del Sarto.
واتخذ باتشيو دلا بورتا Baccio delle Porta لقبه من باب سان بيرو الذي كان يعيش عنده، فلما انضم إلى طائفة الرهبان سمى الأخ بارتولميو Fra Bartolommeo؛ وبعد أن درس الفن مع كوزيموروسلين وبيرو دي كوزيمو اتخذ لنفسه مرسماً مع ماريتو البرتنلي. وشاركه في رسم عدة صور، وظل وثيق الصلة به، صديقاً وفياً له، حتى فرق بينهما الموت.
وكان بارتولميو شاباً متواضعاً، حريصاً على طلب الفن، ينطبع فيه كل تأثير، ظل فترة من الزمن يسعى للحاق بليوناردو، والوصول إلى بعض ما وصل إليه؛ ولما جاء روفائيل إلى فلورنس درس معه باتشيو فن المنظور والطرق المثلى لمزج الالوان؛ ثم زار روفائيل بعدئذ في روما، ورسم معه صورة فخمة نبيلة هي رأس القديس بطرس، ثم شغف حباً بطراز ميكل أنجيلو الفخم الرائع، ولكنه كانت تعوزه الشدة الرهيبة التي يمتاز بها ذلك الغاضب؛ ولما حاول بارتولميو ذلك العمل الضخم فقد وهو يحاول تكبير آراءه البسيطة ما كان في صفاته هو من سحر وفتنة - ونعني بتلك الصفات ما كان في الوانه من غنى وعمق وتظليل رقيق، وما في تواليفه من تناسب فخم رائع، وما في موضوعاته من تقوى وعاطفة.
وتأثر أشد التأثر بعظات سفنرولا، وجاء إلى حرق الأباطيل بجميع ما صور من الأجسام العارية، ولما هاجم أعداء الراهب دير سان ماركو ( 1498) انضم إلى المدافعين عنه، وأقسم في أثناء ذاك الاشتباك أن ينظم إلى سلك الرهبان إذا نجا من الموت؛ وبر بقسمه فدخل دير الرهبان الدمنيك في براتو Prato، وظل خمس سنين ممتنعاً عن التصوير، منهمكاً في ممارسة الشعائر الدينية؛ ولما أنتقل إلى دير سان ماركو رضى أن يضم روائعه الفنية المرسومة بالالوان الزرقاء، والحمراء، والسوداء إلى مظلمات الراهب أنجيلكو الوردية. وصور في مطعم هذا الدير صورتين إحداهما للعذراء والطفل، والثانية ليوم الحساب؛ كما صور في طريقه المقنطر المسقوف صورة للقديس سبستيان؛ ورسم في صومعة سفنرولا صورة قوية للراهب متنكراً في زي القديس الشهير بطرس. وكانت صورة القديس سبستيان الصورة العارية الوحيدة التي صورها بعد الانضمام إلى سلك الرهبان؛ وقد وضعت هذه الصورة اولاً في كنيسة سان ماركو، ولكنها بلغت من الجمال حداً اعترفت معه بعض النساء بأنها بعثت في نفوسهن أفكاراً خبيثة، فما كان من الراهب إلا أن باعها إلى رجل من أهل فلورنس أرسلها إلى ملك فرنسا. وظل الراهب بارتولميو يرسم الصور حتى عام 1517 حين شل المرض يديه فلم يقو على أن يمسك الفرشاة. ثم مات في تلك السنة وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
وكان منافسه الوحيد على مركز السيادة بين المصورين الإيطاليين في عصره تلميذاً آخر من تلاميذ بيرو دي كوزيمو، ذلك هو أندريا دمنيكو دا نيولو دي فرانتشيسكو فيينوتشي Andrea Domenico d'agnolo di Francesco Vennuci المعروف لنا باسم أندريا دل سارتو Andrea del Sarto لأن أباه كان خياطاً. ونضج الرجل نضوجاً سريعاً كما ينضج معظم الفنانين في عصر النهضة، فقد بدأ تدريبه وهو في السابعة من عمره. ودهش بيرو من براعة الشاب في التصميم، ولاحظ وهو فرحان جذل كيف كان أندريو في أيام العطلة التي يغلق فيها المرسم يقضي وقته في عمل صور في الرسوم التمهيدية التي كان يصنعها ليوناردو وميكل أنجيلو لقاعة الخمسمائة في قصر فيتشيو. ولما أن اصبح بيرو في شيخوخته رجلا شاذاً غريب الأطوار، اتخذ أندريا وفرانشيابجيو Franciabigio زميله في الدرس مرسماً خاصاً بهما، وظلا فترة من الزمن يعملان معاً. ويولوح أن أندريا بدأ حياته المستقلة بأن صور في فناء كنيسة البشارة Annunziata (1509) خمسة مناظر مأخوذة من حياة سان فلبوبنتسي San Filippo Benizzi، وهو نبيل فلورنسي أنشأ طائفة الرهبان الخادمين لعبادة مريم العذراء خاصة. وتمتاز هذه المظلمات، رغم ما أصابها من عوادي الزمان وتعرضها للجو، ببراعة التنفيذ، والتأليف، ووضوح القصص، ومزج الألوان المتناسقة القوية حتى أصبح هذا الفناء في هذه الأيام كعبة يحج إليها المولعون بالفن إذا زاروا فلورنس. وقد أتخذ أندريا نموذجاً لإحدى صور النساء تلك المرأة التي أضحت زوجة له أثناء قيامه بهذه الرسوم-نعني بها لكريدسيا دل فيدي Luerezia del Fede وهي سليطة جميلة ظل وجهها الأسمر، وشعرها الفاحم يراودان خيال الفنان إلى ما قبل وفاته. وشرع أندريا وفرانتشيا بجيو في عام 1515 يعملان طائفة من المظلمات في طرقات دير إخوة أسكالدسو Scalzo، واختارا موضوعاً لهما حياة القديس يوحنا المعمدان؛ ولكن بدأ أندريا بلا ريب هي التي أظهرت خصائصها في طائفة من الصور؛ فقد رسم صور الإناث بكل ما فيها من كمال الشكل والتركيب. وتلقى في عام 1518 دعوة من فرانسس الأول بالمجيء إلى فرنسا؛ فقبل دعوته ورسم صورة الصدفة المعلقة في متحف اللوفر؛ غير أن زوجته التي تركها في فلورنس رجته أن يعود؛ وأذن له الملك بالعودة بعد أن تعهد بالرجوع إلى فرنسا، وأعطاه مبلغاً كبيراً من المال ليبتاع له تحفاً فنية من إيطاليا. لكن أندريا أنفق مال الملك في بناء بيت له ولم يعد قط إلى فرنسا. ولما أوشك على الإفلاس رغم هذا عاد إلى التصوير ورسم لطرقات كنيسة البشارة آية من آياته الفنية يصفها فاساري بأنها: »بتصميمها، وظرفها، وبراعة ألوانها، وحيويتها، ونقوشها، لا تترك مجالا للشك في أنه يسمو بمراحل طويلة على جميع من سبقوه«-ومنهم ليوناردو وروفائيل(26). وقد تلفت هذه الصورة، صورة عذراء الكيس، Madonno del socco- وهو اسم سخيف سميت به لأنها تصور مريم ويوسف متكئين على كيس-ولم تعد تكشف عما كانت عليه من روعة الألوان وبهجتها؛ ولكن تركيبها الذي يبلغ حد الكمال، وألوانها الرقيقة المتناسقة، وتمثيلها للأسرة تمثيلا هادئاً- بما فيها يوسف، وقد أصبح فجأة قادراً على القراءة، فأخذ يقرأ في كتاب-كل هذا يضعها في مصاف أعظم الصور في عصر النهضة. وصور أندريا في مطعم دير سلفي Selvi صورة العشاء الأخير (1526) يتحدى بها ليوناردو، واختار لها نفس الساعة ونفس الموضوع:
"سيخونني واحد منكم". وكان أندريا أكثر جرأة من ليوناردو، إذا أكمل في صورته وجه المسيح؛ ولكنه هو أيضاً قصر عن بلوغ العمق الروحي، والرقة الفطنة التي نعهدها في عيسى، غير أن صور الرسل واضحة تتميز كل منها عن الأخرى تمييزاً يثير الدهشة، والمعاني التي تبرزها واضحة، والتلوين غزير، هادئ، كامل، والصورة حين ينظر إليها الإنسان من مدخل قاعة الطعام تخدعه فلا يستطيع أن يحاجز نفسه عن الظن بأنها تمثل منظراً من الأحياء.
وقد بقي موضوع الأم العذراء الموضوع المحبب لأندريا، كما بقي الموضوع المحبب للكثرة الغالبة من فناني عصر النهضة في إيطاليا؛ فأخذ يصورها المرة بعد المرة في دراساته للأسرة المقدسة، كما نشهد ذلك في معرض آل بورجيا في روما، أو في متحف نيويورك، وقد صورها في إحدى الكنوز المحفوظة في معرض أفيزي في صورة عذراء المنتقمات Madonna del Arpie وتعد هذه الصورة أجمل صورة لعذارى لكريدسيا، وصورة الطفل هي أجمل ما أخرجه الفن الإيطالي. وتوجد في معرض بتي Pitti على الضفة الأخرى لنهر الآرنو صورة صعود العذراء يظهر فيها الرسل ورجال الدين ينظرون في ذهول وخشوع إلى الملائكة الصغار وهم يرفعون العذراء-وهي هنا أيضاً لكريدسيا-إلى السماء؛ وهكذا تتم ملحمة العذراء بهذه الصورة المتلألئة التي رسمها أندريا.
وقلما نجد شيئاً من السمو في صور أندريا دل سارتو، كما لا نجد فيها جلال ميكل أنجيلو، أو التدرج غير المحس الذي لا يسبر عمقه والذي نجده في ليوناردو، أو كمال الصقل الذي نراه في رفائيل، أو مدى القوة التي نشهدها في الفنانين البنادقة العظام. غير أنه هو وحده الذي يضارع أولئك البنادقة في جمال اللون ويضارع كريجيو Correggio في الرشاقة، وإن براعته في التلوين- في عمقه، وتدرجه، وشفيفه- لترفع صوره فوق صور تيشيان Titian، وتنتوريتو Tintoretto وفيرونيري Veronese لما في هذه من إسراف كثير في التلوين. نعم إن صور أندريا ينقصها التنوع، فهي تتحرك داخل دائرة من الموضوعات والاحساسات شديدة الضيق، فصور العذراء التي تبلغ المائة عدا كلها صورة من الأم الشابة الإيطالية، المتواضعة، المحببة، المكتظة بالحلاوة؛ ولكن ما من أحد قد فاقه في براعة التكوين، وقلما بزه أحد في التشريح، وعمل النماذج، والتصميم. ويقول ميكل أنجيلو فيه: »إن في فلورنس إنساناً صغيراً إذا اشتغل بأعمال عظام جعل العرق يتصبب من جبينك«(37).
ولم تطل حياة أندريا نفسه حتى يصل إلى درجة النضج الكامل، ذلك أن الألمان الظافرين استولوا على فلورنس في عام 1530، ثم نشروا فيها عدوى الطاعون، وكان أندريا من أوائل ضحاياه؛ وتجنبت زوجته حجرته في تلك الأيام الأخيرة المضطربة، وكانت هي التي اثارت فيه آلام الغيرة التي تصحب الزواج بالحسان من النساء؛ وقضى الفنان الذي حباها حياة تكاد تعز على الموت، وليس إلى جانبه أحد، وهو في الرابعة والأربعين من عمره. وبعد فإن من واجبنا أن ننظر إلى الفنانين القلائل الذين ورد ذكرهم في هذا الباب، لا على انهم وحدهم الجديرون بأن تسجل أسماؤهم فيه، بل على أنهم ممثلون لا أكثر لما كان في هذا العصر من عبقرية مرنة نيرة. فقد وجد في هذا العصر مثالون ومصورون وغيرهم، ولا يزال لهم في المتحف وجود كوجود الأشباح-نذكر منهم بينيديتو دا روفيتسانو Bendetto da Rovezzano، وفرانشيابجيو Franciabigio، وريدلفو جرلندايو Ridolfo Ghirlandaio ومئات آخرين غيرهم. وعاش في ذلك العصر فنانون في شبه عزلة، منهم سكان الأديرة ومنهم غير رجال الدين، كانوا لا يزالون يمارسون الفن ذا الصلة القوية بهم فن تزيين المخطوطات، نذكر منهم الراهب يوستاتشيو Eustachio، وأنطونيو دي جيرولامو؛ وعاش فيه خطاطون بلغ حظهم من الجمال درجة لا يسع الإنسان معها إلا أن يعذر فيدريجو الأربنودي Federigo of Urbino حين يتحسر لاختراع الطباعة؛ وكان هناك فنانون يتقنون أعمال الفسيفساء، ويحتقرون التصوير لأنه في رأيهم زهو زائل لا يدوم أكثر من يوم، وكان هناك حفارون في الخشب أمثال بتشيودانيو لو Baccio d'Agnolo ازدانت بيوت فلورنس بكراسيهم، ونضدهم، وصناديقهم، ذات النقوش المحفورة؛ وكان هناك من لم يحفظ التاريخ أسماءهم من العاملين في الفنون الصغرى. ذلك أن فلورنس قد احتوت ثروة ضخمة من الفنون استطاعت بها أن تتحمل معها انتهاب الغزاة، ورجال الدين، وأصحاب الملايين، من عهد شارل الثامن إلى هذه الأيام، ولا تزال تحتفظ بقدر رائع من روائع الصناعة الدقيقة يبلغ من الكثرة حداً لم يستطع معه إنسان فرد أن يحصي جميع الكنوز التي ادخرت في تلك المدينة وحدها خلال قرني النهضة، أستغفر الله بل خلال قرن واحد منهما؛ لأن عصر فلورنس العظيم في الفن بدأ حين عاد كوزيمو من منفاه سنة 1434، واختتم بوفاة أندريا دل سارتو سنة 1530. ذلك أن الشقاق الداخلي، وعهد سفنرولا المتزمت، وما عانته المدينة من حصار، وهزيمة، ووباء قد أخمدت كلها روح أيام لورندسو المرحة، وحطمت قيثارة الفن الهشة.
غير أن الأوتار العظيمة كانت قد ضربت، وتردد صدى موسيقاها في طول شبه الجزيرة وعرضها. فكانت الطلبات تنهال على فناني فلورنس من سائر المدن الإيطالية، بل جاءتها أيضاً من أسبانيا، وفرنسا، وبلاد المجر، وألمانيا، وتركيا. وهرع إلى فلورنس ألف فنان ليغترفوا من بحر فنها العباب، ويكون كل واحد منهم طرازه-بيرو دلا فرانتشسكا Piero della francesca، وبيروجينو Perugino، ورفائيل Raphael... ونقل مائة فنان وفنان إنجيل الفن من فلورنس إلى خمسين من المدن الإيطالية وإلى البلاد الأجنبية. وفي هذه المدن الخمسين كانت روح العصر وذوقه، وسخاء ذوي الثراء، وتراث الفن تعمل كلها متضامنة مع الحافز الفلورنسي؛ فلم تلبث إيطاليا كلها من جبال الألب إلى كلبريا Calabria أن أخذت تمارس فنون التصوير، والنحت، والبناء، والتأليف والغناء، في سورة من الإبداع والابتكار، يخيل إلى الإنسان معها أنها، فيما انتابها من حمى العجلة، كانت تدرك أن هذه الثروة الضخمة لن تلبث أن تبيد في أتون الحرب العوان، وإن كبرياء إيطاليا ستزول حين يطأها الطغاة الأجانب بالأقدام، وأن سجون العقائد التعسفية ستغلق ابوابها مرة أخرى على عقل إنسان النهضة الخصيب، الوفير، العجيب.