قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 2 ب 3
صفحة رقم : 6418
قصة الحضارة -> النهضة -> النهضة الفلورنسية -> نشأة آل ميديتشي -> مسرح الحوادث
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب الثاني: النهضة الفلورنسية 1378-1534
الباب الثالث: نشأة آل ميديتشي 1378-1464
الفصل الأول: مسرح الحوادث
أطلق الإيطاليون على هذا النضوج أسم الرناشيتا la Rinascita أي المولد الجديد، لأنه بدا لهم بعثا مظفرا للروح القديمة بعد أوقفت البربرية ف سبيلها مدى ألف عام . ذلك أن الإيطاليين كانوا يشعرون بأن العالم الروماني القديم قد قضت عليه غارات الألمان والهون في خلال القرن الثالث، والرابع، والخامس حين قضت يد القوطية الثقيلة على زهرة الفن الروماني والحياة الرومانية، وهي الزهرة التي كانت لا تزال جميلة وإن كانت آخذة في الذبول. وكان الفن »القوطي« قد كرر هذا الغزو في صورة فن من فنون العمارة مزعزع غير مستقر، فريب الزخرف، وفي صورة نحت خشن، فج، مكتئب، يمثل الأنبياء الصارمين، والقديسين الهزيلي الأجسام. أما الآن فقد كان من نعم الزمان أن أمتص الدم الإيطالي الغالب القوي، أولئك القوط الملتحين واللمبارد »الطوال اللحى«، وبفضل فتروفيوس Vitruvius وخرائب السوق الرومانية، أقيمت من العمد القديمة ، وطيلاتها أضرحة وقصور وقورة، وبفضل بترارك ومائة غيره من العلماء الطليان أخذت الآداب القديمة التي كشفت كشفا جديداً تعير الأدب الإيطالي مصطلحات نثر شيشرون النقي الخالص ودقته، وموسيقى شعر فرجيل الرخيمة المطربة. وقدر لشمس الروح الإيطالية أن يخترق ضياؤها ضباب الشمال، وأن يفر الرجال والنساء من الخوف الذي سجنت في أرواحهم أثناء العصور الوسطى، وأن يعبدوا الجمال على اختلاف أشكاله، وأن يملئوا الجو ببهجة البعث الجديد، وأن تعود إيطاليا فتية مرة أخرى.
ولقد كان الرجال الذين يتحدثون هذا العصر قريبين من ذلك الحادث الجلل قربا لا يستطيعون مع أن يبصروا »المولد الجديد« في ملابساته التاريخية، أو يتبينوا عناصره المختلفة المحيرة. ولكن النهضة كانت تتطلب أكثر من إحياء القديم، كانت تتطلب أولا وقبل كل شئ المال- مال الطبقات الوسطى الرأسمالية العطن المتجمع من مكاسب المديرين الماهرين، والعمال المنخفضي الأجور، وكانت تتطلب رحلات تكتنفها الأخطار إلى بلاد الشرق، وجهودا مضنية لعبور جبال الألب لشراء السلع رخيصة وبيعها غالية، وتتطلب دقة وعناية في الحساب، والاستثمار، والقروض، وفوائد للأموال وأرباحا للمساهمين في المشروعات تتراكم حتى يتبقى منها بعد النفقات الخاصة، وبعد شراء أعضاء مجالس الشيوخ، والأمراء، والعشيقات، ما يكفي لأن يحول ميكل أنجلو، وتيشيان المال إلى جمال، ويعطرا الثراء بشذا انفاس الفن. ذلك أن المال أصل كل حضارة. وفي هذه النهضة بالذات كانت أموال التجار، ورجال المصارف، والكنيسة، تؤدي منها أثمان المخطوطات التي أحيت العهد القديم. على أن هذه المخطوطات لم تكن هي التي حررت عقل النهضة وحواسها، بل كان الذي حررها هو النزعة الزمنية غير الدينية التي انبعثت من نشأة الطبقات الوسطى، وقيام الجامعات، وانتشار العلم والفلسفة، وما أثمرته دراسة القانون من تقوية الأذهان وتوجيهها وجهة واقعية، وما أدى إليه ازدياد العلم بالعالم من اتساع أفق العقل ومجاله. وارتاب الإيطالي المتعلم في قواعد الكنيسة التعسفية، ولم يرهبه الخوف من نار الجحيم، ورأى رجال الدين منهمكين في ملاذ الدنيا انهماك غيرهم من الناس، فحطم بذلك الإيطالي المتعلم الأغلال العقلية والخلقية، وتحررت حواسه من تلك القيود، فابتهجت في غير حياء بكل ما يمثل الجمال في المرأة، والرجل، والفن، وجعلته هذه الحرية الجديدة مبدعا خلاقا خلال قرن من الزمان عجيب (1343-1534)، قبل أن يقضي عليه مما انتشر فيه من فوضى أخلاقية، ونزعة فردية انحلالية، واسترقاق قومي، وكانت الفترة الواقعة بين العهدين هي النهضة.
ترى لم كان شمالي إيطاليا أو الأقاليم التي شهدت هذه اليقظة المزدهرة؟ الجواب عن هذا أن العالم الروماني لم يكن قد قضى عليه في هذا الجزء قضاء تاما، بل ظلت البلدان محتفظة فيه بكيانها القديم وذكرياتها القديمة، وأخذت وقتئذ تجدد قانونها الروماني. وكان الفن القديم قد بقى حيا في رومة، وفيرنا، ومانتوا، وبدوا، وكان مجمع الآلهة الذي أقامه أجربا Agrippa لا يزال يتخذ مكاناً للعبادة، وإن كان قد مضى عليه أربعة عشرة قرنا من الزمان، وفي السوق العامة يكاد الإنسان يسمع شيشرون وقيصر يتناقشان في مصير كاتلين Catiline. كذلك كانت اللغة اللاتينية لغة حية، ليست اللغة الطليانية إلا لهجة منها مرخمة. وبقيت الأرباب، والأساطير، والطقوس الوثنية، مائلة في ذاكرة الجماهير، أو قائمة في صور مسيحية وإيطالية تعترض البحر المتوسط، وتشرف على حوضه الذي قامت فيه الحضارة والتجارة القديمتان. كذلك كان شمالي إيطاليا أكثر مدنا وحواضر واشتغالا بالصناعة من أي إقليم آخر في أوربا إذا استثنينا إقليم فلاندرز، ولم يعان هذا الإقليم من النظام الإقطاعي الكامل ما عاناه غيره من الأقاليم الأوربية، بل إنه أخضع أشرافه إلى مدنه وإلى طبقة التجار فيه. وكان هو الطريق الذي تنتقل فيه التجارة بين بقية إيطاليا وأوربا الواقعة وراء جبال الألب، وبين أوربا الغربية وشرق البحر المتوسط، وقد جعلته تجارته وصناعته أغنى إقليم في العالم المسيحي قاطبة. وكان تجاره المخاطرون يشاهدون في كل مكان من أسواق فرنسا إلى أبعد ثغور البحر الأسود، وقد اعتادوا معاملة اليونان، والعرب، واليهود، والمصريين، والفرس، والهنود، والصينيين والاختلاط بهم، فقدوا حدة عقائدهم التحكيم، ونقلوا إلى الطبقات المتعلمة في إيطاليا ذلك التهاون في العقائد، الذي نشأ بعدئذ في أوربا خلال القرن التاسع عشر من الاتصال المتزايد بالأديان الأجنبية. بيد أن حكمة التجار قد اجتمعت مع التقاليد القومية والمزاج والكبرياء القوميين لإبقاء إيطاليا كاثوليكية حتى في الوقت الذي كانت في وثنية. وأخذت الأموال البابوية تنساب إلى روما من ألف سبيل واردة من عشرات الضياع المسيحية، وفاضت أموال البابا على جميع أنحاء إيطاليا، وكافأت الكنيسة ولاء إيطاليا بالتسامح الكريم عن خطايا الجسد والتسامح الطيب (قبل مجلس ترنت الذي عقد في عام 1545) مع الفلاسفة الملحدين الذين يمتنعون عن تقويض تقي الشعب. ولهذه الأسباب كلها سبقت إيطاليا في الثروة والفن، والتفكير، بقية أوربا بمائة عام، ولم تزدهر النهضة في فرنسا، وألمانيا، وهولندة، وإنجلترا، وأسبانيا إلا في القرن السادس عشر حين أخذت النهضة تزول من إيطاليا. ذلك أن النهضة لم تكن فترة من الزمان، بل أسلوبا من أساليب الحياة والفكر يسير من إيطاليا إلى سائر أوربا متبعا طرق التجارة، والحرب، والأفكار.
واتخذت النهضة موطنها الاول في فلورنس لنفس الأسباب التي جعلت مولدها في شمال إيطاليا. ذلك أن فيورندسا Fiorenza-أي مدينة الأزهار كانت في القرن الرابع عشر أغنى مدائن شبه الجزيرة الإيطالية ما عدا البندقية، وذلك بفضل تنظيم صناعتها، واتساع نطاق تجارتها، وأعمال رجال المال فيها. غير أنه بينما كان البنادقة في ذلك الوقت. يبددون جهودهم كلها تقريبا في الجري وراء اللذة والثروة، كان الفرنسيون يزدادون حدة في العقل، وقوة في الذكاء، وحذقا في كل فن، فجعلوا بذلك مدينتهم باعتراف الناس جميعا عاصمة إيطاليا الثقافية. ولعل نظامها الشبه الديمقراطي المضطرب كان من بواعث هذا الرقي. ذلك أن النزاع القائم بين الأحزاب المختلفة قد رفع حرارة الحياة والتفكير، فأخذت الأسر المتنافسة ينازع بعضها بعضا في رعاية الأدب كما كانت تتنازع على السلطان. وحدث آخر بواعث هذا الرقي- لا أولها-حين عرض كوزيمودة ميديتشي Cosimo de'Medici مصادر ثروته وغيرها من الأموال والقصور لإيواء مندوبي مجلس فلورنس واستضافتهم (1439). وكان الأحبار والعلماء اليونان الذين جاءوا إلى هذا المجلس ليبحثوا في إعادة الوحدة بين المسيحية الشرقية والغربية يعرفون من الأدب اليوناني أكثر مما يعرفه أي رجل في فلورنس في ذلك الوقت. وأخذ بعضهم يحاضر في فلورنس، وهرعت الصفوة الممتازة من أهل المدينة للاستماع إليهم. ولما أن سقطت القسطنطينية في أيدي الأتراك غادرها كثيرون من اليونان ليتخذوا مقامهم في المدينة التي وجدوا فيها حسن الضيافة قبل أربعة عشر عاما من ذلك الوقت. وحمل كثيرون معهم المخطوطات القديمة، وأخذ بعضهم يلقي المحاضرات في اللغة اليونانية أو في شعر اليونان وفلسفتهم. وهكذا نشأت النهضة في فلورنس بعد أن تجمعت فيها أسبابها من سبل كثيرة عظيمة الأثر، وأضحت هذه المدينة بذلك أثينة إيطاليا.
الفصل الثاني: الأساس المادي
كانت فلورنس في القرن الخامس عشر دولة- مدينة لا تحكم مدينة فلورنس وحدها، بل تحكم معها (إلا في فترات قليلة) مدن براتوا Prato، وبستويا Pistoia، وبيزا وفلتيرا Volterra، وكرتوناCortona، وأردسو Arezzo والأراضي الزراعية الواقعة خلف هذه المدن. ولم يكن الفلاحون أرقاء أرض، بل كان بعضهم من صغار الملاك، وكانت كثرتهم من المستأجرين، يسكنون بيوتا من الحجارة الملتصقة بالأسمنت بطريقة خشنة ولا تفترق كثيرا عن بيوتهم في هذه الأيام، وكانوا يختارون بأنفسهم موظفي قراهم ليصرفوا شئونهم المحلية. ولم يكن مكيفلي يرى حطة في التحدث إلى هؤلاء »الفرسان« الشداد، فرسان الحقل، والبستان، والكرمة، ولكن كبار الحكام في المدن كانوا ينظمون شئون البيع والشراء، ويعملون على استرضاء العمال بخفض اثمان الطعام إلى الحد الذي يسبب البؤس للفلاحين، ومن أجل ذلك زاد النزاع القائم بين الريف والمدينة من حدة الأحقاد القائمة بين الطبقات المتعادية التي تضمها أسوار المدينة. ويقول فلاني إن مدينة فلورنس نفسها كانت تضم في عام 1343 حوالي 91.500 من الأنفس، وليس لدينا تقدير لسكانها في سني النهضة المتأخرة نستطيع أن نثق به كما نثق بتقدير فلاني، ولكن في مقدورنا أن نفترض أن سكانها قد ازدادوا بسبب اتساع نطاق التجارة وازدهار الصناعة. وكان نصف سكان المدينة من المشتغلين بالصناعات، وكانت صناعات النسيج وحدها تضم في القرن الثالث عشر ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء يعملون في مائتي مصنع(1). ونال فردريجو أريتشيلاري Frederigo Oricellarii لقبه هذا لأنه جاء معه من بلاد الشرق بصبغة بنفسجية (أركيلا Orchella). وقد أحدث استخدامها انقلاباً في صناعة الصباغة، وكسب من روائها بعض صناع الأقمشة الصوفية مكاسب لو كانت لهم في هذه الأيام لعدوا من أصحاب الملايين. وكانت فلورنس قبل أن يحل عام 1300 قد وصلت إلى مرحلة الاستثمار الكبير الرأسمالي، وإيجاد مراكز لإمدادها بالمواد الخام والآلات، وتوزيع العمل توزيعاً منظماً، والإشراف على الإنتاج من قبل أصحاب رؤوس الأموال. وكان الثوب الصوفي في عام 1407 يمر بثلاثين عملية يقوم بكل منها صانع تخصص فيها(2).
وكانت فلورنس تعمل لترويج منتجاتها بتشجيع تجارها على إنشاء علاقات تجارية مع جميع ثغور البحر المتوسط والثغور القائمة على شاطئ البحر الأدرياوي حتى مدينة بروج. وكان لها قناصل في إيطاليا، وجزائر البليار، ومصر، وقبرص، والقسطنطينية، وبلاد فارس، والهند، والصين لحماية تجارتها وتوسع نطاقها. وكان لا بد لها من الاستيلاء على بيزا لتكون مخرجاً لا غنى عنه لبضائع فلورنس المتجهة إلى البحر، وكانت تستأجر لنقلها سفن جنوي. وكانت المنتجات الأجنبية المنافسة لمصنوعات فلورنس تمنع من دخول أسواق هذه المدينة بفرض ضرائب الحامية عليها من حكومة يديرها التجار وأصحاب المال. وكانت بيوت فلورنس المصرفية البالغ عددها ثمانين بيتاً- وأشهرها بيوت باردي Bardi، واسترتسي Strozzi، وبتي Pitti، وينديتشي- كانت هذه البيوت تستثمر مدخرات عملائها المودعين أموالهم فيها. وكانت تقبض الصكوك (Polizze) (4) وتتبادل المتاجر كما تتبادل الأثمان(5)، وتمد الحكومات بالأموال التي تحتاجها لشئون السلم والحرب. وقد أقرضت بعض البيوت المالية الفلورنسية إدور الثالث ملك إنجلترا 1.365.000 فلورين (34.125.000؟ دولار أمريكي) فلما عجز عن الوفاء أفلست هذه البيوت (1345). إلا أن فلورنس أضحت من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر العاصمة المالية لأوربا على الرغم من هذه الكارثة، وفيها تحدد أسعار تبادل النقد بين مختلف الدول الأوربية(7). ونشأ منذ ذلك الزمن البعيد وهو عام 1300 نظام للتأمين يهدف إلى حماية بضائع إيطاليا أثناء نقلها بحراً- وذلك احتياط لم تتبعه إنجلترا حتى عام 1543(8). وتظهر طريقة القيد المزدوج في إمساك الدفاتر (طريقة الدوبيا) في سجل حسابات فلورنسي يرجع إلى عام 1382، وأكبر الظن أن هذه الطريقة كان قد مضى على وجودها في فلورنس، والبندقية، وجنوي في ذلك العام قرن كامل من الزمان(9)، واصدرت حكومة فلورنس في عام 1345 قراطيس مالية قابلة للتحويل، ويمكن تبديلها ذهباً، وكانت هذه القراطيس ذات سعر منخفض لا يزيد على خمسة في المائة، وهذا الانخفاض في حد ذاته دليل على ما كانت تستمتع به المدينة من سمعة طيبة خاصة برخائها وسلامتها التجارية. وليس أدل على هذا من أن إيراد الحكومة في عام 1400 كان أعظم من إيراد حكومة إنجلترا في عهد الملكة إلزبث الزاهر.
وكان رجال المصارف، والتجار، والصناع، وأصحاب المهن، والعمال الماهرون ينتظمون في سبع طوائف، وكان في فلورنس سبع من هذا النوع تعرف بالطوائف الكبرى (Arti Maggiori) وهي طوائف صانعي الملابس، وصانعي الصوف، وصانعي المنسوجات الحريرية، وتجار الفراء، ورجال المال، والأطباء، والصيادلة. أما الطوائف الأربع عشرة الباقية من طوائف فلورنس أو الطوائف الصغرى Arti Minori فكانت طوائف بائعي الملابس، والجوارب، والقصابين، والخبازبن، وبائعي الخمور، والأساكفة، و صانعي السروج، وصانعي الدروع، والحدادين، وصانعي الأقفال، والنجارين، وأصحاب الفنادق، و البنائين، و قاطعي الأحجار، وخليط مجتمع من بائعي الزيوت، ولحم الخنزير، وصانعي الجبال. وكان من واجب كل ناخب أن يكون عضواً في إحدى هذه الطوائف، وانضم إليها النبلاء الذين حرمتهم ثورة الطبقة الوسطى في عام 1282 من حقوقهم الانتخابية، وكان الباعث على انضمامهم إليها أن يكون لهم من جديد صوت في الانتخابات. وكان يلي هذه الطوائف الواحدة والعشرين اثنان وسبعون اتحاداً من العمال الذين لا أصوات لهم، ومن تحت هذه الاتحادات آلاف من عمال المياومة الذين حرم عليهم الانتظام في جماعات، والذين كانوا يعيشون في فقر مدقع، ومن تحت هؤلاء أيضاً- أو قل من فوقهم لأنهم كانوا يلقون من أسيادهم عناية أكبر- عدد قليل من الأرقاء. وكان أعضاء الطوائف الكبرى يكونون من الناحية السياسية من يسمونهم »البُدن« أو »ذوي الطعام الجيد«، أما من بقي من الأهلين فكانوا يكونون »صغار الناس« (popolo minuto). وكان تاريخ فلورنس السياسي، كتاريخ الدول الحديثة، يتألف أولا من انتصار طبقة رجال الأعمال على طبقة الأشراف القدماء (1293)، ثم يليه كفاح »طبقة العمال« للفوز بالسلطان السياسي، واعدم تشنتو برنديني Cinto Brandini وتسعة رجال آخرون في عام 1345 لأنهم نظموا فقراء العمال في صناعة الصوف، وجئ بعمال أجانب لتحطيم هذه الاتحادات(10) وحاول »صغار الناس« في عام 1368 أن يقوموا بثورة، ولكن ثورتهم أخمدتن وبعد عشر سنين من ذلك الوقت حدثت فتنة ممشطي الصوف التي جعلت لطبقات العمال السيطرة على البلدية فترة قصيرة عصبية. وتفصيل ذلك أن عاملا حافي القدمين يدعى ميتشيلي دي لاندو Michele di Lando قاد هؤلاء الممشطين واندفع بهم إلى البلاتسوفيتشيو Palazzo Vecchio وطردوا كبار الموظفين، واقاموا مكانهم دكتاتورية العمال (1378). والغيت حينئذ القوانين التي تحرم إنشاء الاتحادات، ومنحت الاتحادات الصغرى حق الانتخاب. وأجل أداء ما على الأجراء من ديون مدة اثنتي عشر سنة. وخفضت فوائد هذه الديون ليخفف بذلك العبء على الطبقات المدينة. ورد زعماء العمال على هذا بأن اغلقوا حوانيتهم، وأغروا ملاك الأراضي بقطع الطعام عن المدينة. وضايق ذلك الثوار فانقسموا حزبين أحدهما يتألف نت ارستقراطية العمال وقوامه الصناع الحاذقون، وثانيهما »جناح يساري« تدفعه إلى العمل آراء شيوعية، وانتهى الأمر بأن جاء المحافظون برجال أشداء من الريف، وسلحوهم، وقلبوا الحكومة المنقسمة على نفسها، وأعادوا السلطة إلى طبقة أصحاب العمال (1382).
وعدل أصحاب العمال المنتصرون ليقووا بذلك مركزهم ويجنوا ثمار نصرهم. فألفوا السنيوريا Signoria (أو المجلس البلدي المكون من السنيوري Signori أو السادة) من ثمانية من زعماء الطوائف Priori delle arti يختارون بالقرعة بسحب أوراق من أكياس توضع فيها بعد أن تكتب عليها أسماء الصالحين لأن يختاروا إلى تلك المناصب. فإذا تم اختيار أولئك الثمانية، انتخبوا هم واحدا من بينهم ليكون رئيسا للسلطة التنفيذية ويسمى حامل لواء العدالة gonfaloniere di giustizia أو منفذ القانون. وكان لا بد أن يختار اربعة من الزعماء الثمانية من أعضاء الطوائف الكبرى مع أ هذه الطوائف لم تكن تضم إلا أقلية صغيرة من الذكور البالغين. كذلك كان لا بد من وجود هذه النسبة بعينها في مجلس الشعب الاستشاري Consiglio del Popolo. على أننا يجب أن نذكر هنا أن كلمة Popolo لم يكن يقصد بها إلا أعضاء الطوائف الواحدة والعشرين. أما أعضاء مجلس البلدية Considlio del Comune فكانوا يختارون من بين أعضاء النقابات على اختلاف أنواعها، ولكن اختصاصه لم يكن يزيد على أن يجتمع حين يدعوه مجلس الحكام، وأن يقترع بالإيجاب أو النفي على ما يعرضه عليه الزعماء من اقتراحات. وكان الزعماء يدعون في أحوال نادرة برلمانا Parlamento يجتمع في ميدان الرياسة بأن يقرعوا الناقوس الكبير المعلق في برج قصر فيتشيو. وكانت هذه الجمعية العامة تختار في العادة لجنة من المصلحين Balia وتمنحها السلطة العليا فترة محددة من الوقت، ثم ينفض اجتماعها.
ولقد وقع أحد المؤرخين من رجال القرن التاسع عشر في غلطة كريمة حين خلع في كتابه على فلورنس درجة من الحكم الديمقراطي لم يكن لها قط وجود في هذه الجنة البلوتوقراطية. ونقول أن هذه الدرجة من الديمقراطية لم يكن لها وجود لأن المدن الخاضعة لفلورنس لم يكن لها رأي في اختيار السادة الذين يحكمون المدينة وإن كانت هذه المدن غنية بالعباقرة، وإن كانت تفخر بتراثها الماضي المجيد. وكان حق الاقتراع في فلورنس مقصوراً على 3200 من الذكور، وكان ممثلو رجال الأعمال في المجلسين أقلية يندر أن يتحداها أحد(11). ذلك أن الطبقات العليا لم يكن يخالجها شك في أن الجماهير الأمية الجاهلة، عاجزة عن أن تصدر حكما صحيحا سليما يتفق مع مصلحة الجماعة في الأزمات الداخلية أو الشئون الخارجة.
لقد كان الفلورنسيون يحبون الحرية، ولكن كان معنى الحرية عند الفقراء حرية السادة الفلورنسيين في أن يحكموهم، وكان معناها عند الأغنياء حريتهم في أن يحكموا المدينة والبلدان التابعة لها دون ان تقف في سبيلهم عوائق من قبل الإمبراطورية، أو البابوية، أو الإقطاع. وكان من عيوب هذا الدستور التي لا يستطيع أحد أن ينكرها او يجادل بها فيها قصر المدة التي يحتفظ فيها الحكام بمناصبهم، وما يحدث في هذا الدستور نفسه على الدوام من تغيرات. وقد ترتب على هذين العيبين قيام الأحزاب، وتدبير المؤامرات، وأعمال العنف، والاضطرابات، ونقص الكفاية، وعجز الجمهورية عن أن تضع وتنفذ السياسة الثابتة الطويلة الأجل الشبيهة بتلك السياسة التي أدت إلى استقرار الأمور في البندقية وإلى زيادة قوتها. أما النتيجة الطيبة فكانت خلق جو مكهرب من النزاع والنقاد، زاد من حيوية الأهلين، وقوي إحساسهم، وعقلهم، وذكائهم، وأثار خيالهم، وجعل فلورنس مدى قرن من الزمان الزعيمة الثقافية للعالم الغربي.
الفصل الثالث: كوزيمو »أبو البلاد«
كانت السياسة في فلورنس هي الصراع بين الأسر الغنية بعضها وبعض -الريتشي Ricci، والألبدسي Albizzi، والميديتشي، والريدلفي Ridolfi، والبستي Pazzi، والاستتسي Strozzi، والروتشيلاي Rucellai، والفالوري Valori، والكبوني Capponi، والسودريني Soderini-للسيطرة على الحكم. وقد احتفظت أسرة الأليتسي بسلطانها الأعلى في الدولة فيما بين عامي 1381 و 1434، إذا استثنينا بعض فترات مختلفة، وحمت بشجاعتها أغنياء المدينة من فقرائها. وفي وسعنا ان نتتبع تاريخ آل ميديتشي من علم 1201، حين كان كيارسيموه ده ميديتشي Chiarissimo عضواً في المجلس البلدي للمدينة المستقلة. وكان أفرار دودة ميدتشي Averardo de'Medici جَدُّ جدَّ كوزيمة هو الذي أفاء على الأسرة ثراءها العظيم بأعماله التجارية الجريئة والمالية الحكيمة، ولذلك اختير حامل شعار المدينة في عام 1314. واختير سلفستر دة ميديتشي Salvestro de'Medici ابنُ ابن أخي افراردو حاملا لشعار المدينة في عام 1378، وهو الذي جمع قلوب أهلها على حب تلك الأسرة بمناصرته قضية الفقراء الثائرين. وعمل جيوفني دي بتشي دة ميديتشي Csiovanni di Bicci de' Medic ابنُ ابن أخي سلفسترو، وحامل شعار المدينة في عام 1421 على زيادة تعلق أهل المدينة بالأسرة بتأييده فرض ضريبة سنوية قدرها0.5 % على الدخل قدرت بسبعة في المائة من راس المال الممول (1427)، وإن كانت هذه الضريبة عبثاً باهظاً عليه. فلما فعل ذلك أقسم الأغنياء، الذين كانوا يؤدون فرضة الرءوس بالقدر الذي يؤديه الفقراء، أن يثأروا لأنفسهم من لآل ميدتشي.
وتوفي جيوفني دي ميدتشي في عام 1428 وترك لابنه كوزيمو اسماً رفيعاً وأكبر ثروة في بلاد تسكانيا-179.221 فلورينا(4.480.525؟ دولار)(31). وكان كوزيمو قد بلغ وقتئذ التاسعة والثلاثين من عمره، وأصبح خليقاً بأن يواصل مغامرات المؤسسة الواسعة النطاق. ولم تكن هذه الأعمال مقصورة على الشؤون المصرفية، بل كانت تشمل إدارة ضياع واسعة، ونسج الحرير والصوف، والقيام بتجارة متنوعة تربط الروسيا بأسبانيا واسكتلندة ببلاد الشام، والإسلام بالمسيحية. ولم يكن كوزيمو وهو يشيد الكنائس في فلورنس يرى شيئاً من الإثم في عقد الاتفاقات التجارية، وتبادل الهدايا الغالية، مع سلاطين الأتراك. وكانت الشركة تحرص بنوع خاص على أن تستورد من بلاد الشرق السلع الصغيرة الحجم الكبيرة القيمة كالتوابل، واللوز، والسكر، وتبيعها هي وغيرها من الغلات في عشرات من الثغور الأوربية. وكان كوزيمة يدير هذه الأعمال بمهارة وهدوء، وبجد بعد ذلك متسعاً من الوقت للاشتغال بالسياسة، فكان عضواً في الديتشي أو مجلس العشرة الحربي، وقاد فلورنس من نصر إلى نصر ضد لوكا Lucca، وكان بوصفه من رجال المصارف المالية يقرض الحكومة الأموال الطائلة لتمويل الحرب. وأثار التفاف قلوب الشعب حوله حسد غيره من كبراء فلورنس له، فاتهمه رينلدو دجلي ألبيتسي Rinaldo degli Albizzi في عام 1433 بأنه يعمل لقب حكومة الجمهورية والانفراد بحكمها حكماً دكتاتورياً، وأقنع رينلدو برناردو جواديني Bernardo Guadagni، وكان وقتئذ حامل شعار المدينة، أن يأمر بالقبض على موزيمو، فأسلم كوزيمو نفسه واعتقل في قصر فيتيشيو. ولما كان رينلدو يسيطر بأتباعه المسلحين على البارلمنتو المنعقد في ميدان دلا فيوري، فقد بدا أن حكم الإعدام وشيك الصدور من هذه الهيئة. ولكن كوزيمو استطاع أن ينفح برناردو بألف دوقة من المال (5.000دولار؟) أصبح بعدها على حين غفلة أكثر رحمة وإنسانية، ورضى أن يكتفي بنفي كوزيمو، وأولاده، وكبار أنصاره من المدينة مدة عشر سنين(14). وأقام كوزيمو في مدينة البندقية واكتسب فيها بفضل تواضعه وثرائه كثيرين من الأصدقاء، وسرعان ما أخذت حكومة البندقية تستخدم نفوذها للعمل على عودته إلى بلده.وكان مجلس حكام فلورنس الذي انتخب في عام 1434 يميل إلى استدعائه، فأصدر حكمه بإلغاء قرار النفي، وعاد كوزيمو ظافراً، وفر رينلدوا وأبناؤه من المدينة.
واختار المجلس حكومة جديدة ومنحها السلطة العليا في المدينة. وخدم كوزيمو ثلاث دورات قصيرة ثم تخلى بعدها عن جميع المناصب السياسية. وقال في ذلك :»إن اختيار الإنسان للمناصب كثيراً ما يضر بالجسم وبالنفس معاً«(15(، وإذا كان أعداؤه قد غادروا المدينة فإن أصدقاءه لم يجدوا أية صعوبة في السيطرة على الحكومة، وأفلح هو بقوة الحجة أو بالمال أن يستبقى اصدقاءه في مناصبهم إلى آخر حياته دون أن تتزعزع أشكال الحكم الجمهوري، ذلك أنه نال تأييد الأسر ذات النفوذ القوي، أو أرغمها على تأييده بما كان يمنحها من القروض، وأن عطاياه السخية لرجال الدين ضمنت له تحمسهم في مساعدته، وأعماله الخيرية العامة التي لم يكن لها من قبل مثيل في اتساع طاقها وسخائها جمعت قلوب المواطنين في غير صعوبة على الرضا بحكمه. وكان من اسباب رضاهم ما تبينوه من أن دستور الجمهورية لا يحميهم من أهل الثراء، وقد انطبع هرس انطباعا قوياً في ذاكرة الشعب بعد هزيمة الكيومي. فإذا كان لا بد للجماهير من ان تختار بين آل ألبتسي الذي يناصرون الأغنياء وآل ميديتشي المناصرين للطبقات الوسطى والفقراء، فإنه لم يطل ترددها في هذا الاختيار. ومن أجل هذا فإن الشعب الذي أرهقه سادته الأغنياء، وذاق الأمرين من التحزب والانقسام، رحب بالدكتاتورية في فلورنس عام 1434، وفي بروجيا عام 1389، وفي بولونيا عام 1401، وفي سينا عام 1477، وفي روما عام 1347، و1922. ويقول فلاني إن »آل ميديتشي استطاعوا أن يحرزوا السيطرة على المدينة باسم الحرية، وبتأييد أعضاء طوائف الحرف والجماهير«(16).
واستخدم كوزيمو سلطانه باعتدال ودهاء يمتزج بهما العنف في بعض الحيان. ومن أمثلة هذا العنف أنه لما ارتاب أصدقاؤه في أن بلداتشيو دنجياري Baldaccio d' Anghiari وكان يحبك مؤامرة للقضاء على سلطان كوزيمو، ألقى هؤلاء الأصدقاء ببلداتشيو من نافذة عالية علواً يكفي للقضاء عليه، ولم يجد كوزيمو في هذا العمل سبباً للشكاية، فقد كان من أقواله الساخرة أن الدول لا تحكم بالأدعية والصلوات«. وقد استبدل بضريبة الدخل الموحدة ضريبة تصاعدية على رأس المال، واتهم بأنه قد حدد مقادير هذه الضريبة ليميز بذلك أصدقاءه، ويلقي العبء على أعدائه. وقد بلغ مجموع هذه الأعباء 4.875.000 فلورين (121.875.000 دولار ) في السنين العشرين الأولى من سيطرة كوزيمو. وكان الذين يحاولون التملص منها يزجون في السجن على الفور. وغادر المدينة كثيرون من الأشراف، وعاشوا في الريف معيشة نبلاء العصور الوسطى، وقبل كوزيمو خروجهم منها بهدوء واطمئنان، وقال إن أشرافاً جدداً يمكن خلقهم ببضعة أشبار من القماش الأرجواني(17).
وتبتسم الناس من قوله ووافقوا عليه لانهم أدركوا أن هذه الأعباء قد خصصت لإدارة فلورنس وتزيينها، وأن كوزيمو نفسه قد اعتمد من ماله 400.000 فلورين (10.000.000 ؟دولار) للأعمال العامة والصدقات الخاصة(18)، ويكاد هذا يعادل ضعفي المبلغ الذي تركه لورثته (19). وظل كوزيمو يعمل بلا انقطاع إلى آخر سني حياته البالغة سبعاً وخمسين سنة في إدارة أملاكه الخاصة وشئون الدولة، ولما أن طلب وغض النظر عن غدر إدورد الثالث، ورد إليه الملك هذا القرض نقداً وعوناً سياسياً. ولما أن احتاج بارنتوتشيلي Parentucelli اسقف بولونيا إلى المال وسأل كوزيمو العون بادر إلى معونته، ولما أن جلس بارنتوشيلي على كرسي البابوية المالية. وكان يحرص على أن تظل نواحي نشاطه المختلفة منتظمة لا يتسرب إليها الارتباك، فلذلك كان يستيقظ مبكراً، ويذهب في كل يوم تقريباً إلى مكتبه، كما يفعل الأمريكي صاحب الملايين. وكان حين يعود إلى منزله يشذب أشجار حديقته، ويعنى بكرومه. وكان بسيطا في ثيابه، معتدلا في طعامه وشرابه، وعاش (بعد أن ولد له ابن غير شرعي من أمة) عيشة هادئة عائلية منتظمة. وكان الذين يسمح لهم بالدخول إلى بيته يدهشون من الفرق الكبير بين طعامه البسيط على مائدته الخاصة والمآدب الفخمة التي يقيمها للكبراء الأجانب استجلاباً لصداقتهم ورغبة في توطيد السلم بينه وبينهم. وكان في الأحوال العادية رحيماً، حليماً، غفوراً للذنب، قليل الكلام وإن اشتهر بنكاته اللاذعة. وكان جواداً بالمال على الفقراء، يؤدي ديون أصدقائه المعوزين، ويخفي صدقاته فيمنحها دون ان يعرف مانحها، كما كان يستخدم سلطانه دون أن يعرف الناس أن يستخدمه. ولقد أجاد بتيتشلي Botticelli، وبنتورمو Pontormo، وبندسو جتسولي benozzo Gsozzoli تصويره لنا فعرفنا أنه متوسط طول القامة، زيتوني لون الوجه، ذا شعر أشمط مرتد عن مقدم رأسه، وأنف حاد طويل، ووجه وقور ينم عن الرأفة والحنان، وينطق بالحكمة والقوة الهادئة.
وكانت سياسته الخارجية كلها تهدف إلى تنظيم السلم، ذلك أنه وقد استحوذ على السلطة بعد أن خاض في سبيلها سلسلة من المعارك المخربة عرف أن الحرب، أو خطر قيام الحرب، تعوق سير التجارة. ومن أعماله في هذه السبيل أنه لما حكم الفيكونتي في ميلان وسادتها الفوضى بعد موت فلبو ماريا Filippo Maria وهددت البندقية بالاستيلاء على الدوقية والسيطرة على شمالي إيطاليا بأجمعه حتى ابواب فلورنس نفسها، بعث كوزيمو إلى فرانتسكوا سفوردسا Francesco Sforza بما يلزمه من المال لتوطيد سلطته في ميلان ووقف تقدم البنادقة. ولما أن تحالفت البندقية ونابلي على فلورنس، طالب كوزيمو بكثير من القروض التي كانت له عند أهل المدينتين، فاضطرت حكومتاهما إلى عقد الصلح(20). ووقفت ميلان وفلورنس من ذلك الوقت ضد البندقية ونابلي، وأصبحت القوتان بعدئذ متوازنتين توازنا لم تجرؤ معه إحداهما بأن تخاطر بالتورط في حرب لا تعلم عاقبتها. وكانت هذه السياسة-سياسة توازن القوى- التي ابتكرها كوزيمو وسار عليها لوراندسو هي التي أفاءت على إيطاليا عشرات السنين من السلم والنظام امتدت من 1450 إلى 1492، اثرت في خلالها مدائنها إثراء امكنها من أن تمد بالمال بداية عصر النهضة.
وكان من حسن حظ إيطاليا والإنسانية جمعاء أن كوزيمو كان يعني بالأدب، والعلم، والفلسفة، والفن بقدر ما يعني الثروة والسلطان. ولقد كان هو نفسه ذا تربية عالية وذوق راق، وكان يتقن اللغة اللاتينية، ويعرف قليلا من اليونانية والعبرية، والعربية، وقد أوتى من سعة الأفق ما جعله يقدر تقوى الراهب أنجلكو وتصويره، وخمسة فلبوليني الجذابة المتعة، والطراز القديم لنقوش جبرتي Gheberti البارزة، والابتكار الجريء الذي عمد إليه دونالتو Donatello في نحته، والكنائس الفخمة التي خططها برونيلسكو Brunellesco، والقوة غير الجامحة التي تشاهد في عمائر متشيليتسو Michelozzo، والأفلاطونية الوثنية التي تتصف بها أعمال جمستوس بيثو Gemitus Pietho، والأفلاطونية الصوفية التي ينطبع بها تفكير بيكو Pico وفيتشينو Ficino، ورقة ألبرتي، وفظاعة بجيو Poggio المتعمدة، وإسراف نيقولوده في تعظيم الكتاب المقدس، وكان هؤلاء جميعا ينالون رفده. وقد استدعى جوانس أرجيروبولوس Joannes Argyropoulos إلى فلورنس ليعلم شبابها لغتي اليونان وروما وآدابهما، وظل اثنتي عشر سنة يدرس مع فيتشينو آداب بلاد اليونان وروما. وأنفق قدراً كبيراً من ماله في جمع النصوص الأدبية القديمة حتى كان أثمن ما تحمله سفنه في كثير من الأحيان المخطوطات التي تأتي بها من بلاد اليونان او الإسكندرية. ولما أن افلس نيقولوده نقولى لكثرة ما أنفقه في ابتياع المخطوطات القديمة، فتح له كوزيمو اعتمادا لا حد له في مصرف آل ميديتشي، ومده بالعون حتى مماته. وكان يستخدم خمسة وأربعين نساخاً يشرف عليهم الكتبي المتحمس فسبازيا نودا بستتشي Vespasiano da Bisticci لكي ينسخوا له ما لا يستطيع شراءه من المخطوطات. وكان يضع كل هذه »القطرات الثمينة« في حجرات بدير القديس ماركو، أو بدير فيسولي Fiesole أو في مكتبته هو. ولما توفى نيقولي (1437) وترك وراءه ثمانمائة مخطوط تقدر قيمتها بستة آلاف فلورين (150.000 دولار) وكان مثقلا بالديون، واختار ستة عشر وصيا يعهد إليهم التصرف في كتبه، عرض كوزيمو أن يتحمل هو الديون كلها إذا ما سمح له ان يعين الأمكنة التي توضع فيها هذه المجلدات. فلما اتفق على هذا قسم كوزيمو مجموعة الكتب بين مكتبة دير القديس ماركو ومكتبته. وكانت هذه المجموعات كلها في متناول المدرسين والطلاب من غير أجر. وذلك يقول فاركي Varchi المؤرخ الفلورنسي مع المغالاة التي تدفعه إليها وطنيته:
إذا كانت الآداب اليونانية لم يجر عليها النسيان التام ذيله فتصاب الإنسانية من جراء هذا النسيان بخسارة فادحة، وإذا كانت الآداب اللاتينية قد بعثت بعثاً جديداً فجنى الناس من وراء ذلك فوائد لا حد لها ولا تقدر قيمتها، فإن إيطاليا كلها، بل والعالم بأجمعه، مدينان بذلك إلى حكمة آل مدييتشي، وعطفهم، وحبهم، لا لأحد سواهم(21). وما من شك في أن عملية البعث العظيمة كانت بدايتها أعمال المترجمين العظماء في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأعمال الشراح العرب، وكتابات بترارك وبوكاتشيو، ثم واصل هذا العمل العلماء وجامعوا المخطوطات أمثال سالوتاري Salutari، وترا فرساري Traversari، وبروني Bruni، وفلا Valla، وكان هذا كله قبل كوزيمو. كذلك واصل هذه الأعمال نقولي، وبجيو، وفيليلفو Filelfo، والفنسو الأفخم ملك نابلي، ومائة غيرهم من معاصري كوزيمو، بل واصلها أيضاً منافسه بلا استرتسي في منفاه وواصلوها كلهم مستقلين عن كوزيمو. ولكننا إذا لم نقصر حكمنا على كوزيمو أبى البلاد بل مددناه حتى شمل أبناءه لورندسو الأفخم، وليو العاشر، وكلمنت السابع لم يسعنا إلا أن نعترف بأن آل ميديتشي لم تضارعهم في مناصرة العلم والفن أية أسرة في تاريخ البشرية المعروف بأجمعه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: الإنسانيون
لقد كان حكم آل مديتشي أو كان زمانهم هو العهد الذي أستحوذ فيه الإنسانيون على عقل إيطاليا واستأثروا به، وحولوه من الدين إلى الفلسفة، ومن السماء إلى الأرض، وكشفوا فيه للجيل المندهش المنذهل عن ثراء الفكر الوثني والفن الوثني، ولقد أطلق على هؤلاء الناس الذين جنوا بالعلم جنوناً منذ ايام أريستو Ariosto(22) البعيدة اسم الإنسانيين umanisti. لأنهم كانوا يسمون دراسة الثقافة القديمة الإنسانيات umanita أو الآداب الأكثر إنسانية Litera humaniores (لا الأكثر رحمة). وأضحت الدراسة الصحيحة الخليقة بالبشر في أيامهم هي الإنسان نفسه بكل ما يكمن في جسمه من قوة وجمال، وما في حواسه ومشاعره من بهجة وألم، وما في عقله من جلال واهن، دراسته من هذه النواحي كلها كما تظهر موفورة كاملة ابعد حد في آداب اليونان والرومان وفنونهم القديمة. وهذه هي الإنسانيات. لقد كانت الكتب اللاتينية كلها تقريباً، وكثير من الكتب اليونانية الموجودة عندنا في هذه الأيام، معروفة عند علماء العصور الوسطى المنتشرين في بقاع مختلفة من أوربا، وكان أهل القرن الثالث عشر يعرفون أكابر الفلاسفة الوثنيين. ولكن ذلك القرن قد غفل أو كاد عن الشعر اليوناني، وكانت طائفة كبيرة من الكتب القديمة القيمة التي نجلها الآن مهملة في مكتبات الأديرة أو الكنائس الكبرى. وكانت هذه الأركان المنسية أكثر الأماكن التي عثر فيها بترارك ومن جاءوا بعده على الكتب القديمة »المفقودة«، التي يسميها »السجينة الظريفة الأسيرة في أيدي السجانين »الهمج«. وارتاع بوكاتشيو حين زار مونتي كسينو Monte Cossino ووجد المخطوطات الثمينة تبلى في التراب، أو تقطع لتكتب عليها المزامير أو تتخذ تمائم. ولما زار بجيو Poggio دير القديس جول St. Gall في سويسرا وجد كتاب الأنظمة لكونتليان Quntilian في جب قذر مظلم، وأحس وهو يستنفذ هذا الملف كأن المعلم القديم يمد يديه متوسلا إليه أن ينقذه من »البرابرة«، فقد كان هذا هو الاسم الذي يطلقه الإيطاليون المعتزون بثقافتهم على الفاتحين الغلاط المقيمين وراء جبال الألب، كما كان يطلقه عليهم اليونان والرومان من قبل. وكان بجيو وحده هو الذي أخرج من هذه القبور نصوص لكريشيوس، وكولوملا Columella، وفرنتينوس Frontinus، وفتروفيوس Vritruvius، وفليريوس فلاكرس Valerius ، وترتليان، وبلوتوس، وبترونيوس، وأميانس مرسلينس، وعدد غير قليل من خطب شيشرون الكبرى. واستخرج كولوتشيو سليوتاتي Coluecio Salutati في فرتشيلي Vercelli كثيراً من رسائل شيشرون إلى أسرته (1389). وعثر جرلدو لندرياني Gheraldo Landriani على رسائل شيشرون في علم البيان موضوعة في صندوق قديم في لدفي Lodfi (1422)، وأنقذ أمبروجيو ترافرساري Ambrogio Traversari كرنليوس نيبوس من النسيان في بدوا (1343)، وكشفت كتب تاستس Tacitus وهي Germania, Agricola، و Dialogi (الزارع، والألمانية، والحوار) في ألمانيا (1455)، واستردت الكتب الستة الأولى من حوليات تاستس ومخطوط كامل من رسائل بلني الأصغر من ديركورفي Corvey،(1508) وأضحت من أكثر ممتلكات ليو العاشر قيمة.
وكان أكثر من عشرة من الإنسانيين يدرسون أو يطوفون ببلاد اليونان في نصف القرن السابق على فتح الأتراك للقسطنطينية، وأعاد واحد منهم هو جيوفني أورسبا Giovanni Aurlspa إلى إيطاليا 238 مخطوطا تشمل فيما تشمله مسرحيات إيسكلس Aeschylus وسفكليز، واستنقذ رجل آخر يدعى فرانتشسكو فيليلفو Francesco Filelfo من القسطنطينية (1427) نصوص هيرودت، وتوكيديدس، وبوليبيوس، ودمستين، وايسكنيس Aeschines، وأرسطو، وسبعا من مسرحيات يوربديز. ولما عاد هؤلاء الرواد وأمثالهم إلى إيطاليا بما كشفوه من الذخائر، كانوا يقابلون كما يقابل قواد الحرب المنتصرون، وكان الأمراء ورجال الدين يؤدون أغلى الأيمان لبعض هذا الفن. وأدى سقوط القسطنطينية إلى ضياع كثير من الكتب القديمة التي أثبت الكتاب البيزنطيون وجودها في مكتبات تلك المدينة، غير أن آلافاً مؤلفة منها قد أنقذت، وجئ بمعظمها إلى إيطاليا، ولا تزال خير المخطوطات اليونانية القديمة موجودة فيها حتى الآن. وظل الناس ثلاثة قرون من أيام بترارك إلى تاسو Tasso يجمعون المخطوطات بحماسة وحب كحب الآباء للأبناء، وقد اتفق نيقولو دي نقولى أكثر من ثروته في هذا العمل، وكان أندريولو دي أوكيس Andereolo de Ochis على استعداد لأن سيضحي ببيته، وزوجته، وحياته نفسها لكي يضيف شيئاً إلى مكتبته، وكان بجيو يألم أشد الألم حين يرى شيئاً من المال ينفق على غير الكتب. وأعقبت ذلك ثورة في نشر الكتب، فقد شرع الناس يدرسون هذه النصوص المكتشفة، ويفاضلون بها، ويصححونها، ويشرحونها، وقامت من أجل ذلك حملة امتدت من لورندسو فلا Lorenzo Valla في نابلي إلى سيرتومس مSir Thomas More في لندن، وإذ كانت هذه الجهود تتطلب في كثير من الأحيان علماً باللغة اليونانية، فقد أرسلت إيطاليا-ونهجت نهجاً فيما بعد فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا-تستدعي مدرسين للغة اليونانية، وتعلم أورسب، وفيليلفو تلك اللغة في بلاد اليونان نفسها، ولما جاء مانيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras إلى إيطاليا (1397) مبعوثاً إليها من بيزنطية، وأقنعته جامعة فلورنس بالانضمام إلى اساتذتها ليكون أستاذاً للغة اليونانية وآدابها، وكان من بين تلاميذه في هذه الجامعة بجيو، وبلا استروتسي، ومرسوبيني Marsupini ومانتي Manetti. وبدأ ليوناردو بروني Leonardo Bruni بدراسة القانون ولكنه تركه بتأثير كريسلوراس وشرع يدرس اللغة اليونانية، ويحدثنا هو عن ذلك فيقول : »والقيت بنفسي في تيار تدريسه بحماسة بلغ مناه أن امتلأت احلامي بالليل بما كنت أتلقاه منه بالنهار«(23). ترى هل يتصور أحد في هذه الأيام أن النحو اليوناني كان في وقت ما يستحوذ على الألباب استحواذ قصص المغامرات والروايات الغرامية في هذه الأيام؟
والتقى اليونان والإيطاليون عام 1439 في مجلس فلورنس، وكانت الدروس التي يبادلونها معاً في اللغة أبلغ أثراً في شئون الدين. وهناك ألقى جمستس بليثو Gemistus Pletho محاضراته الذائعة الصيت التي كانت ختام سيادة أرسطو على الفلسفة الأوربية وجلوس أفلاطون على عرش هذه الفلسفة جلوس الآلهة. ولما انقض اجتماع المجلس بقى في إيطاليا يؤانس بساريون Joannes Bessarion وكان قد جاء إليها بوصفه أسقف نيفية، وقضى جزءاً من وقته يعلم اللغة اليونانية. وامتدت حمى الدرس إلى غير فلورنس من المدن، فجاء بها بساريون إلى روما، وعلم ثيودورس جازا Theodorus Gaza اللغة اليونانية في بروجيا (1450)، وبدوا، وفلورنس، وميلان (1492-1511 أو نحو ذلك الوقت)، ويؤانس أرجيروبولس في بدوا (1441) وفلورنس (1456-1471)، وروما (1471-1486)، وقد جاء هؤلاء كلهم إلى إيطاليا قبل سقوط القسطنطينية (1453)، ولهذا فإن هذه الحادثة لم يكن لها إلا شأن قليل في انتقال اللغة اليونانية من بيزنطية إلى إيطاليا. غير أن استيلاء الأتراك على الأراضي المحيطة بالقسطنطينية شيئاً فشيئاً بعد عام 1356 كان من العوامل التي حملت العلماء اليونان على الانتقال نحو الغرب. وكان من الذين فروا من العاصمة الشرقية عند سقوطها قسطنطين لسكارس Constantine Lascaris، وقد جاء ليعلم اللغة اليونانية في ميلان (1460-1465)، ونابلي، ومسينا (1466-1501)، وكان كتابه في النحو أول كتاب يوناني طبع في إيطاليا في عهد النهضة.
ولم يمض إلا وقت قليل على وجود هؤلاء العلماء جميعاً، وتلاميذهم، ونشاطهم الحماسي في إيطاليا، حتى ترجمت كتب الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية إلى اللغة اللاتينية ترجمة أكمل، وأدق، وأبلغ مما ترجم منها في القرنيين الثاني عشر والثالث عشر. وترجم جوارينو Guarino أجزاء من كتب استرابون وأفلوطرخس، وترجم ترافرساري ديوجين ليرتيوس، وترجم فلا هيرودوت وتوكيديدس، والإلياذة، وترجم بيرتي Perotti بولبيوس، وترجم فيتشينو أفلاطون وأفلوطين، وكان أفلاطون بنوع خاص أعظم من أهش الإنسانيين وامتعهم. ذلك أنهم كانوا يبتهجون بجمال أسلوبه وسلاسته، ويجدون في المحاولات مسرحية أكثر وضوحاً وحيوية ومواءمة لروح العصر الذي يعيشون فيه مما يجدونه في جميع مسرحيات إيسكلس، أو سفكليز أو يوربديز، وكانوا يحسدون اليونان في عصر سفكليز على ما كان لهم من حرية واسعة في مناقشة أهم مشاكل الدين والسياسة وأكثرها دقة، ويدهشون من هذه الحرية، وكانوا يظنون أنهم واجدون في آراء أفلاطون-التي جعلها صاحبها معماة غامضة-فلسفة صوفية خفية تمكنهم من الاحتفاظ بمسيحية لم يعودوا يؤمنون بها، ولكنهم لم ينقطعوا عن حبها. وتأثر كوزيمو ببلاغة جمستس بلثيو Gemistus Pletho وتحمس تلاميذه في فلورنس فأنشأ في المدينة مجمعاً علمياً أفلاطونياً (1445) لدراسة أفلاطون، وأمد مرسيليو فيتشينو Marsilio Ficino بالكثير من المال الذي أمكنه من أن يخصص نصف حياته لترجمة مؤلفات أفلاطون وشرحها. ومن ذلك الحين فقدت الفلسفة المدرسية (الكلامية) سيطرتها في الغرب بعد أن دامت لها هذه السيطرة أربعمائة عام، وحل الحوار والمقالة محل الجدل المدرسي فأصبحا هما الصورة التي اتخذها العرض الفلسفي، ودخلت روح افلاطون المطربة المبهجة في جسم التفكير الأوربي الناشئ دخول الخميرة المنعشة في العجين. لكن هذه الثورة قد اعقبتها شئ من رد الفعل. ذلك أنه كلما زاد ما كشفته إيطاليا من تراثها الأدبي القديم غلب على إعجاب الإنسانيين ببلاد اليونان فخرهم بأدب روما القديمة وفنها، ولهذا أحبوا اللغة اللاتينية واتخذوها أداة لأدب حي، فجعلوا أسماءهم لاتينية، وجعلوا مصطلحات عباداتهم وحياتهم المسيحيتين رومانية: فصار أسم الله يوبتر Luppiter، وأسم العناية الإلهية فاتوم Fatum والقديسين ديفي Divi، والراهبات vestales والبابا بنتفكس مكسيموس (الحير الأعظم Pontifex maximus)، وصاغوا أسلوب نثرهم على غرار أسلوب نثرهم على غرار أسلوب شيشرون، وشعرهم على غرار شعر فرجيل وهوراس، وبلغ بعضهم مثل فيليفو، وبوليتيان بأسلوبهم درجة من الرشاقة تكاد تعادل رشاقة الأقدمين. وهكذا أخذت النهضة تعود ادراجها من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية، ومن أثينة إلى روما، وبدا كأن خمسة عشر قرناً من الزمان قد أخذت تطوى طيا، وكأن عصر شيشرون، وهوراس، وأوفد، وسنكا، قد ولد من جديد. وأصبح الأسلوب وقتئذ أعظم شأنا من المعنى، وغلبت الصورة على المادة، وترددت أصداء خطب العصر الماضي المجيد مرة أخرى في أبهاء الإيطالية بدل اللاتينية، ولكنهم كانوا يحتقرون لغة المسالي والمغاني ويرونها لاتينية فاسدة منحطة (وفي الحق أنها تكاد تكون كذلك)، ويأسفون لأن دانتي آثر اللغة الدارجة. وقد جوزي الإنسانيون على فعلتهم هذه بأنهم فقدوا اتصالهم بمصادر الأدب الحية، وترك الشعب مؤلفات الإنسانيين إلى الأشراف وآثر عليها القصص المرحة التي كان يكتبها له ساكتي Sacchetti، وبنديلو Bandello، أو الروايات الغرامية التي تمزج الحرب بالحب والتي كانت تترجم أو تقتبس باللغة الإيطالية من الفرنسية. بيد أن الافتتان العابر بلغة ميتة وأدب »خالد« قد أعان المؤلفين الإيطاليين على أن يستردوا ما كان لهم من شغف بفنون العمارة، والنحت وموسيقى الأسلوب، وأن يضعوا قواعد الذوق والنطق التي رفعت اللغة القومية إلى صورتها الأدبية، ووضعت للفن هدفا ومستوى. وإذا انتقلنا إلى مجال التاريخ وجدنا أن الإنسانيين هم الذين أنهوا عهد الإخباريين المتعاقبين من كتاب العصور الوسطى، وهم الكتاب الخالية كتبهم من النقد السليم والمليئة بالفوضى، وأحلوا محل طريقتهم تمحيص المصادر والتوفيق بينها، وعرض مادتها عرضا منتظما واضحا، وبعث الحيوية والإنسانية في الماضي بمزج السير بالتاريخ، والارتفاع بقصتهم إلى مستوى فلسفي بتمحيص علل الحوادث، وتياراتها، ونتائجها، ودراسة ما في دروس التاريخ من انتظام واتساق.
وانتشرت الحركة الإنسانية في جميع أنحاء إيطاليا، ولكن زعماءها كلهم تقريباً من مواطني فلورنس أو خريجيها إلى أن جلس رجل من آل ميديتشي على كرسي البابوية. وكان كولوتشيو سلوتاري Coluccio Salutari الذي أصبح الأمين الإداري لمجلس الحكام في عام 1375 حلقة الاتصال بين بترارك وبوكاتشيو من جهة وكوزيمو من جهة أخرى، وكان يعرف ثلاثتهم ويحبهم جميعاً. وكانت الوثائق العامة التي كتبها نماذج عالية من اللغة اللاتينية الفصحى، وكانت هي المثل الذي حاول الموظفون العموميون في البندقية، وميلان، ونابلي، ورومة أن يحتذوه، وقال جيانجليتسو Giangaleazzo أمير ميلان إن سالوتاري قد أضر اسلوبه الممتاز أكثر مما يستطيع أن يضره جيش من الجنود المرتزقين(24). وكان اشتهار نيقولو دة نيقولي بأسلوبه اللاتيني يعادل اشتهاره بجمع المخطوطات، وكان بروني يسميه »رقيب اللسان اللاتيني«، وكان يفعل ما يفعله غيره من المؤلفين فيعرض ما يكتبه على نقولي ليصححه قبل ان ينشره. وكان نقولي يملأ بيته القديم من كتب الأدب، والتماثيل، والنقوش، والمزهريات، وقطع النقد، والجواهر، وقد امتنع عن الزواج خشية أن يلهيه زواجه عن كتبه، ولكنه وجد لديه متسعاً من الوقت يقضيه مع حظية سرقها من فراش أخيه(25). وقد فتح أبواب مكتبته لكل من يعني بالدراسة فيها، وحث شبان فلورنس على أن يهجروا ويستبدلوا به الأدب. وأبصر مرة شابا ثرياً يقضي يومه بلا عمل فسأله: »ما هي غايتك في الحياة؟« فأجابه في صراحة: »غايتي أن استمتع بوقتي«، فسأله نيقولي مرة أخرى: »فإذا انقضى عهد شبابك فماذا يكون شأنك؟«(26) وأدرك الشاب ما ينطوي عليه هذا القول من معنى، ووضع نفسه من ذلك الوقت تحت سلطان نيقولي وإرشاده.
وترجم ليوناردو بروني، الذي كان أميناً لأربعة بابوات ثم صار فيما بين عامي 1427 و 1444 لمجلس السيادة في فلورنس، طائفة من محاورات أفلاطون إلى لغة لاتينية ممتازة كشفت لإيطاليا لأول مرة عن روعة أسلوب أفلاطون، وألف ليناردو باللغة اللاتينية تاريخاً لمدينة فلورنس كان سبباً في أن أعفته الجمهورية هو وأبناءه من الضرائب، وكانوا يوازنون بين خطبه وخطب بركليز. ولما توفى أقام له كبار المدينة جنازة عامة كما كان يقام للأقدمين، ودفن في كنيسة سانتا كرونتشي (الصليب المقدس Santa Croce) ووضعوا كتابه التاريخ فوق صدره، وخطط له برناردو روسلينو قبراً عظيماً فخما يستريح فيه.
وولد كارلو مارسبيني Corlo Marsuppini في ارتسو كما ولد فيها بروني وخلفه في أمانة مجلس السيادة، وقد روع أهل زمانه بأن كان يحفظ نصف الآداب اليونانية والرومانية عن ظهر قلب. ولم يكن يترك مؤلفاً قديماً لم يقتبس من أقواله في خطابه الأول حين عين أستاذاً للآداب في جامعة فلورنس. وقد بلغ من إعجابه بالوثنية القديمة أن كان يشعر بأن من واجبه أن ينبذ الدين المسيحي(27)، ولكنه رغم هذا كان وقتاً ما أميناً رسولياً للكرسي البابوي في رومة، وقد دفن هو أيضاً في كنيسة سانتا كرتشي ورثاه جيانتسو مانتي Giannozzo Manetti بمرثية رائعة، واختط له دزديريو دا ستنيانو Desiderio de Sttgnano (1453) قبراً مزخرفاً، وإن قيل إنه مات دون أن يعنى بتلقي القربان المقدس(28). وكان مائتي الذي رثى هذا الملحد رجلاً لا تقل قواه عن علمه، وقد ظل تسع سنين لا يكاد يغادر في أثنائها بيته وحديقته، منكباً على دراسة الآداب القديمة، وتعلم اللغة العبرية واللغتين اليونانية واللاتينية، ولما عين سفيراً لدى روما، ونابلي، والبندقية، وجنوي افتتن به كل من رآه، وكسب في هذه المدن كلها صداقة أهلها لحكومته بفضل ثقافته، وسخائه، واستقامته.
وكان هؤلاء الرجال على بكرة أبيهم ما عدا سالوناري من أعضاء الندوة التي تجتمع في بيت كوزيمو بالمدينة أو بيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة العلمية أثناء سلطانه. وكان لكوزيمو بالمدينة أو في بيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة العلمية أثناء سلطانه. وكان لكوزيمو صديق آخر لا يكاد يقل عنه سخاء على العلم والعلماء، ذلك هو أمبروجيو ترافرساري Ambrogio Traversari القائد في طائفة الرهبان الكملدولية Camaldulite، والذي كان يعيش في صومعة في دير سانتا ماريا دجلي أنجيلي القريب من فلورنس. وكان يتقن اللغة اليونانية، وتنتابه نوبات من وخز الضمير لحبه الآداب القديمة، وكان يأبى أن يقتبس شيئاً منها في كتاباته، ولكنه كشف عن أثرها فيه بأسلوبه اللاتيني الذي كانت عباراته الإصلاحية التقية مما يرتاع له الجريجوريون المشهورون جميعاً لو أنهم اطلعوا عليها. وكان كوزيمو، الذي يعرف كيف يوفق بين الآداب القديمة وأساليب المالية العليا من جهة والدين المسيحي من جهة أخرى، ويحب أن يزور ترافرساري، كما كان نقولي، ومارسبيني، وبروني، وغيرهم يتخذون صومعته ندوة أدبية لهم.
وكان أعظم الكتاب الإنسانيين نشاطاً وأكثرهم سبباً للمتاعب هو بجيو براتشيوليني Poggio Bracciolini. وقد ولد لأبوين فقيرين بالقرب من أرتسو (1380)، وتلقى تعليمه في فلورنس، ودرس اللغة اليونانية على ما نيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras، وكان يكسب عيشه بنسخ المخطوطات، وصادقه سالوتاري وعطف عليه، وعين في الرابعة والعشرين من عمره كاتباً في المحكمة البابوية في رومة، وقضى السنين الخمسين التالية يعمل في البلاط البابوي، ولم ينل في خلال هذه المدة كلها شيئاً من الرتب الدينية حتى أصغرها، ولكنه كان يرتدي الثياب الكهنوتية. وقدر له القائمون على البلاط نشاطه فأرسلوه في أكثر من عشر بعثات، وكثيراً ما كان يحيد من عمله فيها ليبحث عن المخطوطات القديمة، وقد يسر له منصبه في الأمانة البابوية الوصول إلى الكنوز المخبوءة في المكتبات التي كان يحرص عليها أشد الحرص أو كانت تهمل أشد الإهمال في أديرة القديس جول St. Gall ولانجر Langers، وفينجارتن Weingarten وريتشنو Rsichenau وقد بلغت غنائمه من هذه المكتبة حداً من الثراء جعل بروني وغيره من الكتاب الإنسانيين يحبونه أعظم تحية ويرون أن أعماله كانت من المعالم البارزة في تاريخ ذلك العصر. ولما عاد بجيو إلى روما كتب لمارتن الخامس Martin V دفاعاً مجيداً عن عقائد الكنيسة، ومع أنه كان في المجتمعات الخاصة يسخر مع غيره من موظفي البلاط البابوي من العقائد المسيحية(29). وقد كتب عدة محاورات ورسائل بلغة لاتينية غير مصقولة ولكنها منعشة مطربة، يندد فيها برذائل رجال الدين، بينما كان هو يرتكب تلك الرذائل إلى أقصى حد تمكنه منه موارده. ولما أن غاب عليه الكردنال سانتا أنجيلو وجوده أبناء له، وهو ما لا يليق برجل يرتدي الثياب الكهنوتية، وأن له عشيقة، وهو أمر لا يليق حتى برجل من غير رجال الدين، رد بجيو على ذلك بقحته المعهودة: »إن لي ابناء وذلك أمر يليق بغير رجال الدين، وإن لي عشيقة وتلك إحدى عادات رجال الدين القديمة(30). ولما بلغ الخامسة والخمسين من عمره هجر عشيقته التي ولدت له أربعة عشر طفلاً، وتزوج بفتاة في سن الرابعة عشرة. وكاد في هذه الأثناء أن يكون هو مؤسس علم الآثار الحديث، لأنه جد في جمع القديم من النقود، والنقوش، والتماثيل، وعنى بوصف ما كان باقياً من الآثار الرومانية القديمة بدقة العلماء المبرزين. وقد صحب البابا أوجنيوس الرابع Eugenius V إلى مجلس فلورنس وتنازع مع فرانتشسكو فيللفو، وتبادل مع السباب بأقبح الألفاظ، ولم يتورع عن أن يتهمه بالسرقة، والكفر بالله، واللواط. ولقد اسره كل السرور وهو في روما أن يعمل لنقولا الخامس البابا الإنساني، وكتب وهو في سن السبعين كتاب الفكاهات الذائع الصيت، وهو مجموعة من القصص، والهجاء، والبذاءات. ولما انضم لورندسو فلا إلى هيئة الأمناء البابوية هاجمه بجيو بسلسلة جديدة من المطاعن اتهمه فيها باللصوصية والتزوير، والخيانة، والإلحاد، والسكر، وفساد الأخلاق. ورد فلا على هذا بأن سخر من لغة بجيو اللاتينية، وذكر أخطاءه في النحو والتراكيب، وقال إنه لا يعني به لأنه ابله يهذي ذهبت سنه بعقله(31). ولم يعبأ أحد بهذا الاتهام الأدبي غير الضحية التي وجه إليها، ذلك أن هذه المطاعن كانت مباريات في الكتابة اللاتينية، ولقد أعلن بجيو فعلا في إحدى هذه المقالات أنه سوف يثبت أن في مقدور اللغة اللاتينية الفصحى أن تعبر عن أحدث الآراء وأخص الشئون، وقد برع في فن اختيار الألفاظ البذيئة براعة جعلت »العالم كله يخشاه« من بعده، أداة لابتزاز أموال الناس. من ذلك أنه لما توفي ألفنسو ملك نابلي عن الكتابة إلى بجيو معترفاً بوصول الترجمة اللاتينية لكتاب فيروبيديا تأليف أكسانوفون Xanophon كتب الإنسان الحانق يقول: إن في مقدور القلم الطيب أن يطعن أي ملك من الملوك، فما كان من الفنسو إلا أن بادر بإرسال 500 دوقة ليقطع بها لسانه. وألف بجيو بعد أن أستمتع بكل شهوة وغريزة رسالة في شقاء أحوال البشر قال فيها إن شرور الحياة ترجح مباهجها، واختتمها بقول صولون Solon إن اسعد الناس حظاً من لا يولدون(23). وعاد إلى فلورنس حين بلغ الثانية والسبعين من عمره وعين أميناً للحاكم العام، ثم اختير في آخر الأمر حاكماً للمدينة. وقد عبر عن تقديره لهذا الاختيار بكتابة تاريخ لفلورنس على طريقة الأقدمين-جمع فيه بين أخبار السياسة والحرب والخطب الخيالية، ولما أن وافته المنية أخيراً وهو في سن التاسعة والسبعين تنفس غيره من الإنسانيين الصعداء (1459). ودفن هو أيضاً في كنيسة الصليب المقدس Santa Croce وأقيم له تمثال من صنع دوناتلو عند واجهة الكنيسة ، وحدث في أثناء الارتباك الناشئ من بعض التغييرات أن وضع ذلك التمثال في داخل الكنيسة نفسها بوصفه تمثالً لأحد الرسل الأثني عشر.
ولا جدال في أن المسيحية قد فقدت قبل ذلك الوقت من الناحيتين الفقهية والأخلاقية سلطانها على طائفة كبيرة من الإنسانيين الإيطاليين ربما كانت هي الكثرة الغالبة منهم. نعم إن طائفة منهم أمثال ترافرساري، وبروني، ومانتي في فلورنس، وفتورينو دا فلتري Vittorino da Felter في مانتو، وجوارينو دا فرونا Guarino da Verona في فرارا، وفلافيو بيوندو Flavio Biondo في روما قد بقوا أوفياء مخلصين لدينهم، إلا أن الثقافة اليونانية التي تكشف للكثيرين غيرهم والتي دامت ألف عام كاملة، وبلغت الذروة العليا في الأدب، والفلسفة، والفن مستقلة تمام الاستقلال عن اليهودية والمسيحية، نقول إلا أن هذه الثقافة كانت ضربة قاضية على إيمانهم بالعقيدة الدينية التي علمها القديس بولس، بالعقيدة القائلة أن »لا نجاة خارج الكنيسة«. واصبح سقراط وأفلاطون في نظر هؤلاء قديسين من غير رجال الدين، وبدت لهم أسرة الفلاسفة اليونان أعلى درجة من آباء الكنيسة اليونان واللاتين، كما أن نثر سقراط وشيشرون كان يبعث الخجل في نفس الكرادلة أنفسهم من اللغة اليونانية التي كتب بها العهد الجديد ومن اللغة اللاتينية التي ترجمه بها جيرو. كذلك خيل إلى هؤلاء أن روما الإمبراطورية أعظم نبلاً وكرامة من انزواء المسيحيين المؤمنين في صوامع الأديرة، كما أن الحرية التي اتسم بها تفكير اليونان في أيام بركليز والرومان في عهد أغسطس قد أفعمت عقول كثيرين من اٌلإنسانيين بالحسد الذي حطم في قلوبهم العقائد المسيحية التي تحث على التذلل، والإيمان بالدار الآخرة، والعفة، وأخذوا يتساءلون عما يدعوهم إلى إخضاع أجسامهم، وعقولهم، وأرواحهم إلى قواعد رجال الكنيسة الذين انقلبوا وقتئذ رجالا دنيويين، وأخذوا هم أنفسهم يمرحون ويطربون. وكانت العشرة القرون التي انقضت بين قسطنطين ودانتي في نظر هؤلاء الإنسانيين، غلطة يؤسف لها أشد الأسف، وخروجا، كالخروج الذي يصفه دانتي على نفسه، عن الصراط المستقيم. ولقد عفت من ذاكرة هؤلاء الكتاب ما كان في عقول من قبلهم من الأقاصيص المحببة عن العذراء والقديسين، لتفسح مكانها إلى تحولات أوفد Ovid's Metamorphoses وأغاني هوراس الفاسقة الفاجرة. وبدت الكنائس الكبرى وقتئذ دليلا على الهمجية، وفقدت تماثيلها الهزيلة روعتها في الأعين التي رأت تمثال أبلو بلفدير Apollo Belvedere والأصابع التي لمسته.
وهكذا كان مسلك الكثرة الغالبة من الإنسانيين مسلك من يرون أن المسيحية أسطورة تفي بحاجات خيال العامة وأخلاقهم ولكنها يجب ألا تأخذها العقول المتحررة مأخذ الجد، ولهذا كانوا يؤيدونها فيما ينطقون به أمام الجماهير، ويقولون إنهم يستمسكون بأصول الدين التي تنجيهم من العذاب، ويبذلون غاية جهدهم للتوفيق بين العقائد المسيحية والفلسفة اليونانية. لكن هذه الجهود نفسها قد كشفت عما يضمرون، فقد كانوا يعترفون اعترافاً ضمنيا بأن العقل هو الحكم الأعلى في كل شئ. وكانوا يعظمون محاورات أفلاطون بالقدر الذي يعظمون به العهد الجديد، وبهذا عملوا ما عمله السوفسطائيون السابقون على عهد سقراط في بلاد اليونان فحطموا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة العقائد الدينية عند من كانوا يستمعون لهم، سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد. وكانت حياتهم تنم عن عقيدتهم الحقيقية. فقد كان الكثيرون يتخلقون بالأخلاق الوثنية في ناحيتها الشهوانية لا في ناحيتها الرواقية، ولم يكونوا يؤمنون بالخلود إلا إذا كان هو الخلود الناشئ عن تسجيل الأعمال العظيمة، وهو الخلود الذي لا يهبه الله بل تهبه أقلامهم، والذي يؤدي بالناس إما إلى المجد السرمدي أو العار الأبدي. وقد ارتضوا بعد جيل من أيام كوزيمو أن يقتسموا هذه القوة السحرية مع الفنانين الذين نحتوا أو رسموا صور أنصار الفن والأدب، أو شادوا الصروح الفخمة التي تخلد أسماء الأسخياء الواهبين. وكانت رغبة هؤلاء الأنصار في أن ينالوا هذا الخلود الدنيوي إحدى القوى الخلاقة فن النهضة وأدبها.
وظل تأثير الكتاب الإنسانيين القوة المسيطرة على الحياة العقلية في أوربا الغربية نحو مائة عام. فقد كانوا هم الذين قووا إدراك الكتاب لجمال الشكل والتركيب، وعلموهم أساليب البلاغة، وزخرف القول، وما للأساطير القديمة من سحر وفتنة، وما للاقتباس من الكتاب الأقدمين من قوة، وعلموهم التضحية بالمعنى في سبيل سلامة العبارة وجمال الأسلوب. وكان افتتانهم باللغة اللاتينية هو الذي عاق تطور الشعر والنثر الإيطاليين مدى قرن كامل (1400-1500)، وهم الذين حرروا العلم من سلطان الدين، ولكنهم أخروا تقدمه بعبادتهم الماضي، وباهتمامهم الشديد بالكم في العلم بدل الملاحظة الموضوعية والتفكير الإبتكاري. ومن أغرب الأشياء أن أقل ما لهؤلاء الكتاب من نفوذ هو الذي كان في الجامعات، وسبب ذلك أن هذه الجامعات كانت في أيامهم قد تقادم عهدها في إيطاليا، وأن كليات الحقوق، والطب، والدين، »والفنون«-أي اللغة، والأدب، والبيان، والفلسفة-القائمة في بولونيا، وبدوا وبيزا، وبياتشندسا، وبافيا، ونابلي، وسينا، وأرتسو، ولوكا، نقول كانت الكليات القائمة في هذه المدن قد استحوذت عليها عادات العصور الوسطى استحواذا يرد عنها كل توكيد جديد للثقافات القديمة. وكان أكثر ما فعلته أنها أنشأت في أماكن متفرقة كرسيان للبيان عينت فيه أحد هؤلاء الإنسانيين.أما ما كان لإحياء »الآداب« من أثر فقد جاء أكثره عن طريق المجامع العلمية التي أنشأها أنصار الأدب من الأمراء في فلورنس، ونابلي، والبندقية، وفرارا، ومانتوا، وميلان وروما. فقد كان الإنسانيون في تلك المدن يملون ما يريدون مناقشته من النصوص القديمة باللغة اليونانية أو اللاتينية، وكانوا في خلال هذا النقاش يعلقون باللغة اللاتينية على ما يتصل بهذه النصوص من مظاهر النحو، والصرف، والبيان، والسير، والجغرافية، والأدب،. وكان طلابهم يدونون ما يملونه عليهم من النصوص ويثبتون في هوامش الصفحات كثيراً من الحواشي والتعليقات، وبهذه الطريقة تضاعفت تسخ الآداب القديمة كما تضاعف شروحها وانتشرت في أنحاء العالم. ومن أجل ذلك كان عهد كوزيمو عهد الانهماك في التعليم لا الانهماك في الأدب المبتكر الخلاق، فانحصرت أمجاد ذلك العصر الأدبية في النحو، والمعاجم اللغوية، وعلم الآثار القديمة، والبيان، والمراجعة الانتقادية للنصوص القديمة. وهكذا استقرت طريقة التبحر الحديث في العلم، وأداته، ومادته، ومهد الطريق الذي سار فيه تراث اليونان وروما حتى وصل إلى عقول المحدثين.
ولم يبلغ العلماء منذ عهد السوفسطائيين مثل ما بلغوه وقتئذ من المنزلة العالية في المجتمع وفي الشئون السياسية، ذلك أن الكتاب الإنسانيين صاروا أمناء ومستشارين لمجالس الشيوخ، والأمراء، وألأدواق، والبابوات، وكانوا يردون هذا العطف بالمديح المصوغ باللغة اللاتينية الفصيحة، كما يردون على الصد عنهم والاستهزاء بهم بالهجاء اللاذع القاتل، وقد بدلوا المثل الأعلى القديم للرجل الكامل المهذب من رجل شاكي السلاح لابس الزرد إلى إنسان كامل النماء بلغ أعلى درجات الحكمة والمنزلة الأدبية باستيعاب التراث الثقافي للجنس البشري. وقد غوت شهرتهم العلمية وبلاغتهم الساحرة ما وراء جبال الألب من أوربا حين كانت جيوش فرنسا، وألمانيا، وأسبانيا، تحتشد للاستيلاء على إيطاليا، فأخذت هذه الثقافة تتسرب إليها قطرا بعد قطر، وتنتقل بها من صبغة العصور الوسطى إلى الصبغة الحديثة، فكان القرن الذي شهد كشف أمريكا هو بعينه الذي شهد إعادة كشف بلاد اليونان وروما، وكان التحول الأدبي والفلسفي الذي تم في ذلك الوقت أبلغ أثراً في الروح البشرية من الطواف حول الكرة الأرضية وارتياد مجاهلها. ذلك أن الإنسانيين لا الملاحين هم الذين حرروا عقول البشر من العقائد التعسفية، وعلموهم أن يحبوا الحياة بدلا من التفكير النكد في الموت، وأطلقوا العقل الأوربي من عقاله. وكان الفن آخر ما تأثر بالنزعة الإنسانية، لأن هذه النزعة كانت أكثر تجاوباً مع العقل منها إلى الحواس. ولذلك ظلت الكنيسة حتى ذلك الوقت أكبر نصير للفنون، كما كان أهم أغراض الفن هو نقل قصة المسيحية إلى غير المتعلمين وتجميل بيوت الله، ولهذا بقيت العذراء والطفل، وآلام المسيح وصلبه، وبقى الرسل، وآباء الكنيسة، والقديسون، الموضوعات التي لا غنى عنها لفني النحت والتصوير، بل والفنون الصغرى كذلك. بيد أن الإنسانيين أخذوا يعلمون الإيطاليين شيئاً فشيئاً معنى للجمال أكبر شهوانية من قبل، علموهم الإعجاب الصريح بجمال الجسم الآدمي-ذكرا كان أو أنثى وخاصة إذا كان عاريا-وتغلغل هذا الإعجاب في نفوس الطبقات المتعلمة، وكان اهتمام أدب النهضة بالحياة وتوكيدها، بدل التفكير ي الدار الآخرة مما أكسب الفن نزعة دنيوية خفية، وأدخل مصورو عصر لورندسو وما تلاه من العصور عناصر وثنية في الفن المسيحي، وذلك خين جاءوا بالحسان الإيطاليات يتخذونهن نماذج لتصوير العذراء، وبالشبان الوسيمين الأقوياء ليكونوا نماذج للقديسين. ولما أخذ الأمراء الزمنيون ينافسون رجال الكنيسة في السخاء على الفنيين وإمدادهم بالمال أثناء القرن السادس عشر تحدت فينوس (الزهرة) وأدرياني، ودافني، وديانا، وربات الشعر والأقذار، تحدث هذه سلطان العذراء، لكن مريم الأم ظلت محتفظة بسيطرتها الطيبة الصالحة إلى آخر أيام فن النهضة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الخامس: العمارة (عصر برونلسكي)
نادى أنطونيو فيلاريتي Antonio Filarete في عام 1450 يقول : »لعن الرجل الذي ابتدع العمارة القوطية التعسة! ولم يكن في وسع أحد أن يدخلها إلى إيطاليا إلا شعب همجي«(35). ذلك أن هذه الجدران المقامة من الزجاج لا توائم شمس إيطاليا الساطعة، وبدت الدعامات الأفقية العالية (وأن كانت قد اتخذت في كنيسة نوتردام ده باري صورة جميلة فكانت كأنها ماء في نافورة تجمد أثناء مسيله) في أعين أهل الجنوب كأنها محالات قبيحة المنظر تركها وراءهم البناءون الذين عجزوا عن أن يكسبوا بناءهم استقراراً من تلقاء نفسه. لقد كان الطراز القوطي ذو العقد المستدق والقبة العالية يعبر أحسن تعبير عن آمال الأرواح الرقيقة العائدة من العمل المجهد في الحقول إلى سلوى السماء، غير أن الرجال الذين وهبوا من عهد قريب الثراء والراحة اضحوا يرغبون في تجميل الحياة لا أن يفروا منها ويقدحوا فيها، فكانوا يريدون أن يحيلوا الأرض جنة، وأن يحيلوا أنفسهم أربابا.
ولم تكن عمارة النهضة الإيطالية في أساسها ثورة على العمارة القوطية، لأن هذه العمارة القوطية لم تكن لها الغلبة على إيطاليا في يوم من الأيام؟ فقد كان كل طراز وكل تأثير ممثلين بشيء ما في تجارب القرنين الرابع عشر والخامس عشر: كانت فيها العمد الثقيلة، والعقود المستديرة المأخوذة من الطراز الرومانسي اللمباردي، والصليب الذي كانت تخطط على صورته المباني السفلى، والقبة والعارضة المثلثة بين عقودها المتعامدة، وأبراج النواقيس في الكنائس التي أقيمت على منوالها مآذن المساجد الإسلامية، والعمد الرفيعة في الأديرة التسكانية التي تذكر الناظر إليها بعمد المساجد أو الأروقة الرومانية واليونانية القديمة، والسقف ذات الكتل الخشبية في إنجلترا وألمانيا، والقبة المضلعة والعقد القوطي والشبابيك القوطية، والفخامة المتناسقة في الواجهات الرومانية، وفوق هذا كله المتانة البسيطة في صحن الباسلقا الذي يكتنفه من الجانبين جناحان يدعمانه. لقد كانت هذه العناصر كلها تمتزج في إيطاليا امتزاجا مثمراً حين أخذ الكتاب الإنسانيون يوجهون العمارة نحو خرائب روما. وبدت وقتئذ العمد المحطمة في السوق الرومانية، التي كانت تتراءى من خلال ضباب العصور الوسطى لأعين الإيطاليين أعظم جمالا من طرز البندقية الغربية، أو فخامة تشارتر الكئيبة، أو جسارة بوفيه الهشة، أو إمتدادات قبة أمين الخفية الغامضة، وأضحت الرغبة في العودة من جديد إلى استخدام العمد الملتفة الجميلة، الغائرة في قواعد ضخمة، والمتوجة بتيجان جميلة في صورة الأزهار، والمرتبطة بطيلات رصينة مهيبة المنظر، نقول أضحت الرغبة في استخدام هذه العمد، حين أخذ الماضي القديم المدفون الحي يتلمس طريقه إلى الظهور، هي الحلم الذي يراود خيال رجال من طراز برونلسكي Brunelleschi، وألبرتي، وميكلتسو Michelozzo، وميكل أنجلو، ورفائيل.
وكتب ڤاساري الوطني الصميم عن برونلسكي يقول: »أما فلپو برونلسكي Filippo Brunelleschi فيمكننا أن نقول عنه إن الله قد وهبه القدوة على أن يكسب العمارة أشكالا جديدة بعد أن ظلت السبيل قروناً كثيرة«(36). وقد بدأ عمله صائغا شأن كثيرين من فناني عصر النهضة الإيطاليين، ثم درس فن النحت وظل وقتاً ما ينافس دوناتلو منافسة الصديق لصديقه، ونازعه هو وجبرتي مهمة نقش الأبواب البرنزية لمكان التعميد في فلورنس. ولما ابصر الرسوم التي وضعها دوناتلو غادر فلورنس ليدرس في المنظور والتخطيط في رومة، فلما جاءها افتتن بما رآه فيها من العمائر القديمة وعمائر العصور الوسطى، وشرع يقيس المباني الكبرى بجميع عناصرها، وكان أعظم ما أثار دهشته قبة هيكل مجمع الآلهة الذي أقامه أجربا، البالغ عرضها 142 قدماً، ولاح أنه يتوج بقية مثلها كاتدرائية سانتا ماريا دل فيوره التي لم تكن قد تم بناؤها، في مسقط رأسه. وعاد إلى فلورنس في الوقت الذي أمكنه فيه أنه يشترك في مؤتمر من المهندسين معماريين وغير معماريين ليبحثوا مشكلة سقف موضع المرنمين المثمن الأضلاع في هذه الكتدرائية والبالغ عرضه مائة وثماني وثلاثين قدماً ونصف قدم. واقترح فلبو أن تقام فوقه قبة، ولكن الضغط إلى الخارج الذي سوف تحدثه هذه لقبة الضخمة على الجدران التي لا تسندها دعامات من خارجها أو كتل خشبية من الداخل بدا لهؤلاء المهندسين عقبة لا يمكن التغلب عليها. والعالم كله يعلم قصة البيضة التي تطلق بها برونلسكي: وكيف تحدى الفنانين المجتمعين أن يجعلوا البيضة تقف على أحد طرفيها، فلما عجزوا جميعاً نجح هو في هذا العمل بأن ضغط الطرف الغليظ الفارغ على المنضدة. ولما احتجوا عليه بقولهم إنه كان في وسعهم أن يفعلوا ما فعله هو، قال أنهم سوف يدعون مثل هذه الدعوى بعد أن تتم إقامة قبة الكتدرائية. وكلف هو بالعمل، وظل أربعة عشر عاماً (1420-1434) بلا انقطاع يكدح في القيام بهذا الواجب، ويقاوم ألف محنة ومحنة حتى رفع القبة المزعومة بمقدار 133 قدماً فوق حافة الجدران التي تستند إليها. وانتهى من العمل آخر الأمر، وقامت القبة ثابتة قوية، وابتهجت المدينة كلها لتمامها وعدته أول الأعمال المعمارية الكبرى في عصر النهضة، وأجرأ هذه الأعمال كلها عدا عملا واحداً لا غير. ولما صمم ميكل أنجيلو بعد قرن من الزمان قبة كنيسة الرسول بطرس، وقيل له إنه قد أتيحت له الفرصة للتفوق على برونلسكي رد على ذلك بقوله: »سأقيم قبة مثلها وأختا لها، أكبر منها، ولكنها لا تفوقها في الجمال«(37). ولا تزال هذه لقبة الفخمة الزاهية تشرف على ما حولها من مناظر تمتد عدة فراسخ من مدينة فلورنس ذات السقف الحمراء التي ترقد كأنها حوض من الورد في أحضان تلال تسكانيا.
وقد أخذ فلبو فكرته عن هيكل مجمع الآلهة، ولكنه وفق أحسن التوفيق بينها وبين الطراز القوطي التوسكاني الذي يتمثل في كاتدرائية فلورنسا، وذلك بأن جعل استدارة قبته على طراز العقد المستدق القوطي. لكنه حين سمح له بتخطيط مبان في الطابق الأرضي جعل الانقلاب إلى الطراز القديم أتم وأوضح. وكان في عام 1419 قد بدأ يشيد لوالد كوزيمو كنيسة سان لورندسو، ولم يتم منها إلا »غرفة المقدسات«، لكنه اختار لها طراز الباسلقا، والبواكي، والرواق المعمد، والعقد الرومانسكي، فجعلها هي العناصر التي بنى عليها تصميمه، وبنى لأسرة باتسي Pazzi في أديرة سانتا كروتشي (الصليب المقدس) معبدا جميلا يعيد إلى الذاكرة قبة هيكل مجمع الآلهة في أثينة ورواقه المعمد، ثم اختط في هذه الأديرة نفسها مدخلا مستطيل الشكل-من عمد ذات حزوز، وتيجان على شكل أزهار، وطبلات ذات تماثيل، وحليات هلالية منقوشة- كان هو الطراز الذي صنع على نمطه مائة ألف باب والذي بقى حتى الآن في كل مكان في أوربا الغربية وأمريكا. ثم بدأ ينشئ على الطراز القديم كنيسة سانتو سپيريتو Santo Spirito، ثم مات ولما يكد البناء يعلو على الأرض. ففي عام 1446 كان جثمان هذا الفنان المولع بفنه سجى في الكتدرائية محوطاً بمظاهر العظمة وتحت القبة التي أقامها، وأقبل عليه سكان فلورنس من كوزيمو إلى أصغر عامل كان يكدح في ذلك المكان، أقبلوا عليه جميعاً، وقد امتلأت قلوبهم أسى وحسرة على أن يكون الموت مآل العباقرة العظام. ويقول فيه فاساري:
»لقد عاش كما يعيش المسيحي الصالح، وخلف في العالم آثار صلاحه وتقواه...... ولم يجد الزمان من عهد اليونان والرومان القدامى إلى يومنا هذا برجل أعظم منه، لقد كان بحق منقطع النظير(38)«.
وكان برونلسكي في أيام حماسته المعمارية قد وضع لكوزيمو تصميم قصر بلغ من السعة والزخرف مبلغا حمل هذا الحاكم المطلق المتواضع على أن يرفض الاستمتاع بمنظره حين يقوم لأنه يخشى حسد الناس له. ولهذا كلف ميكلتسو دي بارتليمو Michelozzo di Bartolomeo، (1444) أن يشيد له ولأسرته ومكاتبه بدل هذا القصر قصر آل مديتشي Palazzo Medici أو الريكاردي Riecardi القائم اليوم، ذا الجدران الحجرية السميكة الخالية من الزخرف، والتي تنم عما كان في ذلك الوقت من اضطراب اجتماعي، ومنازعات عائلية، وخوف دائم من العنف والثورة، وهي العوامل التي كانت تبعث النشاط والحياة في السياسة الفلورنسة. وكان لهذا القصر ابواب ضخمة من الحديد يدخل منها الأصدقاء والدبلوماسيين، والفنانون، والشعراء إلى فناء مزدان بتماثيل من صنع دوناتلو، ويؤدي إلى حجرات متوسطة الروعة، ومعبد مزدان بمظلمات فخمة زاهية من صنع بنتسو گوتسولي Benozzo Gozzoli. وأقام آل ميديتشي في هذا القصر إلى عام 1538، عدا الفترات التي نفوا فيها من المدينة، ولكنهم كانوا بلا ريب يخرجون من هذه الجدران المكتئبة ليستمتعوا بأشعة الشمس في البيوت الريفية التي شادها كوزيمو خارج المدينة في كاريجي Careggi، وكفاجولو Cafaggiolo، وعلى منحدرات فيسوله Fiesole. وكانت هذه الملاجئ الريفية هي التي يأوى إليها كوزيمو ولورندسو، وأصدقاؤهما، وصنائعهما فراراً من عناء السياسة إلى الاستمتاع بالشعر، والفلسفة، والفن، وإلى كاريجي أوى الأب والحفيد ليستقبلا الموت، وكان كوزيمو من حين إلى حين يفكر فيما بعد الموت فتبرع بكثير من المال لإقامة دير في فيسولي Fiesole، وليعيد بناء الدير القديم في سان ماركو ويجعله أوسع رقعة أكثر متعة.. وخطط ميكلتسو في هذا الدير بواكي مسقوفة رشيقة، ومكتبة تضم كتب نقولي، وصومعة ينفرد فيها كوزيمو من حين إلى حين معتزلا أصدقاءه أنفسهم ليقضي يومه في التأمل والصلاة.
وكان ميكلوتسو أحب المهندسين إليه في هذه المشروعات، كما كان هو الصديق الوفي الذي صاحبه في منفاه، وعاد معه بعد النفي، وعهد إليه الأمير بعد عودته بزمن قليل بذلك الواجب الدقيق واجب تقوية قصر فيتشيو لمقاومة ما كان يتهدده من خطر الانهيار. وقد جدد بناء كنيسة سانتسيما أنندسياتا Santissima Annunziata، وأنشأ لها معبداً جميلا، وأثبت أنه مثال ماهر حين زينها بتمثال للقديس يوحنا المعمدان. وشاد لپييرو Piero ابن كوزيمو معبداً فخما في كنيسة سان منياتو San Miniato القائمة على سفح أحد التلال، وعاون بمهارته دوناتلو في تصميم »منبر النطاق« الجميل وحفره في واجهة كاتدرائية براتو Prato، ولو أن ميكلوتسو كان وقتئذ يعيش في غير بلده لكان هو بلا جدال حامل لواء فن العمارة.
وكان أثرياء التجار في ذلك الوقت يشيدون أبهاء مدينة فخمة وقصوراً رائعة. وفي عام 1376 عهد مجلس المدينة إلى بنتشي دي تشيونه Benci di Cione وسيمونه دي فرانتشسكو تالنتي Simone di Francesco Talenti أن يشيدا رواقاً ذا عمد في مواجهة قصر فيتشيو ليكون مكاناً يخطب فيه الحكام، وأطلق على هذا الرواق في القرون السادس عشر أسم »بهو حاملي الرماح« Loggia dei lanzi، لأن الدوق كوزيمو الأول أقام فيه الرماحة الألمان. وكان أفخم قصر خاص في فلورنس هو الذي شاده (1459) لوكا فانتيشلي Luca Fancelli للمصرفي لوكا پتي Luca Pitti من تصميم قام به برونلسكو قبل أن يشرع في بنائه بتسعة عشر عاماً. وكان في بتي تواضعه، وكان ينازع كوزيمو السلطان، وقد وجه إليه كوزيمو نصيحة لاذعة قال فيها:
إنك تسعى إلى غير غاية، أما أنا فاسعى إلى غاية محددة، وأنت تنصب سلكك في الهواء، أما أنا فأنصبه على الأرض... ويبدو لي أن من العدل، ومن الطبيعي أن أرغب في أن يفوق مجد بيتي وشهرته شرف بيتك أنت وسمعته، فلنفعل إذن ما يفعله كلبان كبيران يشم أحدهما الآخر حين يلتقيان، ويكشران عن أنيابهما، ثم يسير كلاهما في طريقه، فتعنى أنت بشئونك، وأعنى أنا بشئوني(39).
وواصل پتي مؤامراته ودسائسه، ولم ينقطع عنها بعد موت كوزيمو، بل أخذ يعمل على انتزاع السلطة من پييرو ده مديتشي Piero de'Medi، واقترف في عمله هذا الجريمة الوحيدة التي لا يعفو عنها أحد في عصر النهضة- وهي جريمة الاخفاق، وأعقبها نفيه من بلده، وخرابه، وبقى قصره ناقصاً مدى قرن من الزمان.
الفصل السادس: النحت
جبرتي
لقد كانت محاكاة الأشكال اليونانية والرومانية القديمة في النحت أمم منها في العمارة. ذلك أن رؤية الخرائب الرومانية ودراستها، والكشف من حين إلى حين عن آية فنية رومانية كانا يبعثان في المثالين الطليان رغبة قوية في محاكاة هذه المخلفات. وقد يدل على ذلك ما كتبه جبرتي عن تمثال هرم أفروديتي Hermaphrodite الملقى على وجهه الآن في البهو االبرغي Borghese Gallery مستديراً بمظهره إلى النظارة كأنه غير عابئ بهم، وذلك حين وجد هذا التمثال في كروم سان تشلسو San Celso: »إن البيان ليعجز عن أن يصف ما يكشف عنه هذا التمثال من علم وفن أو يُوَفى طرازه الرائع حقه من الثناء«، ويضيف إلى هذا قوله إن ما بلغته هذه الأعمال من الكمال الأعظم من أن تدركه العين، ولا يستطاع تقديره إلا بمرور اليد على سطحه ومنحنياته الرخامية(40). ولما زاد عدد هذه المخلفات المستخرجة من باطن الأرض وألف الناس رؤيتها، اعتاد العقل الإيطالي على مهل مشاهدة التماثيل والصور الفنية العارية، وأضحت دراسة التشريح مما يعني به في مراسم الفنانين كما يعنى به في قاعات الطب، وسرعان ما أخذت النماذج العارية تستخدم بلا خوف ولا حساء. وكان من أثر هذا الحافز القوي أن خرج فن النحت من سيطرة العمارة ومن النقوش على الحجر أو الجص إلى تماثيل البرنز أو الرخام المجسمة.
لكن النقش البارز هو الذي ظفر فيه فن النحت بأشهر انتصاراته فلورنس على عهد كوزيمو. ذلك ان بناء التعميد القبيح المنظر المخطط الذي كان يواجه الكتدرائية لم يكن يزيل قبحه إلا الزخارف التي تضاف إليه. وكان ياقوبو توريتي Jacopo Torriti قد زخرف قبلئذ المنصة، كما زخرف أندريا تافي Andrea Tafi السقف المقبب بنقوش فسيفسائية متزاحمة، كذلك كان أندريا بيزانو Andrea Pisano قد صنع للواجهة الجنوبية بابا مزدوجاً من البرانز (1330-1336). حدث هذا كله من قبل، أما الآن (1401) فإن مجلس السيادة في فلورنس قد اعتمد بالاشتراك مع طائفة تجار الصوف مبلغاً كبيراً من المال ينفق في صنع باب من البرنو للواجهة الشمالية، لعل هذا العمل يرضي عنهم الله فيقضي على وباء الطاعون المنتشر وقتئذ. وأجريت لذلك مباراة، ودعا جميع الفنانين في إيطاليا لتقديم الرسوم، وكان أعظمهم توفيقاً هم برنلسكو، وياقوبو دلاكو يرتشيا Jacopo della Quercia، ولورندسو جبريتي، وعدد قليل آخر من الفنانين، فعهد إليهم أن يصبوا لوحة نموذجية من البرنز تمثل تضحية إبراهيم بإسحق . وعرضت الألواح كاملة بعد عام من ذلك الوقت على القضاء الأربعة والثلاثين-من مثالين، ومصورين، وصياغ. وأجمع المحكمون على أن اللوحة التي صنعها جبرتي كانت أحسنها كلها، وشرع الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره من ذلك الوقت يصنع البابين الأولين من أبوابه البرنزية الذائعة الصيت.
وليس في وسع إنسان أن يعرف لماذا استغرق العمل في تصميم هذا الباب الشمالي وصبه الجزء الأكبر من السنين الإحدى والعشرين التالية، إلا من درس هذا الباب دراسة دقيقة عن كثب. وكان يساعد جبرتي في عمله مساعدة كريمة دوناتلو، وميكلتسو، وطائفة كبيرة من الأعوان، إلا انهم جميعاً قد عقدوا العزم على أن تكون النقوش المطلوبة أجمل النقوش البرنزية في تاريخ الفن كله، وأن فلورنس تتطلع إليهم ليجعلوها كذلك. وقسم جبرتي البابين إلى ثمانية وعشرين لوحة: منها عشرون تروى حياة المسيح، وأربع تصور الرسل، وأربع تمثل علماء القوانين الكنسية. ولما أن صممت هذه الألواح كلها، وانتقدت، ثم أعيد تصميمها، وصبت، ووضعت في أماكنها على الباب، ولم يستكثر واهبوا المال ما أنفقوه عليها وهو 22.000 فلورني (550.000 دولار)، بل عهدوا إلى جبرتي أن يصنع بابا مزدوجاً آخر للناحية الشرقية من بناء التعميد (1425). وكان يساعد جبرتي في هذا العمل الثاني الذي استغرق سبعة وعشرين عاما رجال ذاع صيتهم من قبل، أو بعد قليل من ذلك الوقت: برونلسكو، وأنطونيو فيلاريتي، وباولو أتشلو Paolo Uccello وأنطونيو دل بولايولو Antonio del Pollaiuolo وغيرهم. واصبح مشغله على مر الزمن مدرسة للفن أنجبت أكثر من عشرة من العباقرة. وكان البابان الأولان يشرحان أجزاء من العهد الجديد، أما هذان البابان فقد مثل فيهما جبرتي على عشر لوحات مناظر من العهد القديم، تبدأ من خلق الإنسان وتنتهي عند مجيء ملكة سبأ إلى سليمان، وأضاف على جوانبهما عشرين شكلا من النقش الكامل أو القريب من الكمال وزخارف متنوعة-من حيوان ونبات-ذات جمال فائق رائع. وهنا تلاقت العصور الوسطى وعصر النهضة تلاقيا منسجما أتم الانسجام: فمثلت في اللوحة الأولى قصص العصور الوسطى عن خلق آدم، وإغواء حواء له، وخروجهما من الجنة، وقد عولجت هذه الموضوعات وكانت شخصياتها إما مكتسبة بأثواب مسترسلة كأثواب اليونان والرومان الأقدمين أو عارية وكثير منها كل العري. وكانت الصورة التي تمثل حواء وهي خارجة من جسم آدم تضارع النقش الهلنستي الذي يمثل أفرديتي خارجة من البحر. وقد دهش الناس حين وجدوا في خلفية النقش مناظر تكاد تضارع في دقة مراعاتها لفن المنظور، وفي وفرة التفاصيل ما يجدونه في أحسن الصور الملونة التي رسمت في ذلك الوقت. ومنهم من كان يشكو من أن هذه النقوش تعتدي على فن التصوير أكثر مما يجب، وتتخطى التقاليد الموضوعة لفن النقش اليوناني الروماني القديم. ولسنا ننكر أن هذه الشكوى الصادقة من الوجهة العلمية النظرية البحتة، ولكن الأثر الذي تحدثه كان أثرا حيا واضحا ساميا. وكان هذا الباب المزدوج الثاني بإجماع الآراء أجمل من الباب الأول. وكان ميكل أنجيلو يرى أنه »بلغ من الجمال حدا يجعله خليقا بأن يزدان به مدخل الجنة«، وكذلك يقول عنه فاساري، وهو بلا ريب لا يفكر إلا في النقوش، إنه »يبلغ حد الكمال في جميع دقائقه وتفاصيله، وإنه أجمل آية فنية في العالم كله عن الأقدمين والمحدثين على السواء(41)«. وسرت فلورنس من هذا العمل سرورا دفعها إلى أن تختار جبرتي لمجلس السيادة في المدينة، ووهبته من المال ما يستعين به على الحياة في شيخوخته.
دوناتلو
يظن فاساري أن دوناتلو كان من بين الفنانين الذين اختيروا لكي يعدوا لوحات تجريبية لأبواب بناء التعميد، ولكن الحقيقة أن دوناتلو كان وقتئذ غلاما لا يتجاوز السادسة عشرة من العمر. وقد أطلق عليه أصدقاؤه ذلك الاسم المصغر المحبب الذي يعرفه به الخلف، أما اسمه الحقيقي فهو دوناتو دي نقولو دي بتوباردي Donato di Niccol? di Betto Bardi. ولم يتعلق في مشغل جبريتي إلا بعض فنه، ولكنه سرعان ما شق طريقه لنفسه وانتقل من رشاقة نقوش جبرتي النسوية إلى تماثيل الرجولة المجسمة, وأحدث في فن النحت انقلابا يقوم على إخلاصه للطبيعة وتمسكه بأصولها وقوة شخصيته المبتكرة وطرازه المبدع الخالي من الزخرف والتجميل، أكثر مما يقوم على الأساليب والأهداف اليونانية والرومانية القديمة. لقد كان دوناتلو ذا روح مستقلة لا تقل قوة عن تمثاله لداود أو جرأة عن تمثاله للقديس جورج.ولم تنضج عبقريته بالسرعة التي نضجت بها عبقرية جبرتي، ولكنها كانت أسمى منها وأوسع مجالا. ولما ان تم نضوجها أخذت تنثر الآيات الفنية الرائعة بلا حساب حتى امتلأت فلورنس بتماثيل من صنعه، ورددت اًصداء شهرته أصقاع ما وراء جبال الألب. ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره نافس جبرتي بأن صنع لأورسان ميتشيل Or San Michele، تمثالا للقديس بطرس، ثم فاقه وهو في السابعة والعشرين حين اضاف لهذا الصرح تمثالا للقديس مرقس بلغ من القوة، والبساطة، والإخلاص، درجة »يستحيل معها أن يرفض الإنسان الإنجيلي الذي يبشر به مثل هذا الرجل الصريح« على حد قول ميكل أنجيلو وكان دوناتلو وهو في الثالثة والعشرين قد كلف بنحت تمثال داود ليوضع في الكتدرائية، ولم يكن هذا إلا واحداً من عدة تماثيل لداود قام بصنعها، ذلك أن موضوعها كان لا ينفك يطرب خياله. ولعل أجمل أعماله كلها هو تمثال داود المصنوع من البرنز، والذي كلفه به كوزيمو وصبه في عام 1430 وأقيم في فناء قصر آل ميدتشي وهو الآن في بارجلو Bargello. وكان هذا التمثال أول تمثال عار مجسم من تماثيل النهضة ظهر في غير أمام الجماهير: كان له جسم أملس متين البناء يطالعك لحمه بنضرة الشباب وقوته، ووجه لعله أسرف في جعل صورته الجانبية يونانية الملامح، وخوذة، ولا شك أنهما يونانية من الحد الواجب. ولقد نبذ دوناتلو الواقعية في هذه المرة، واستسلم الفنان لخياله، وكان يبلغ في هذا التمثال ما بلغه فيما بعد تمثال ميكل أنجلو الأكثر منه شهرة للملك العبراني.
ولكنه لم يلق في تمثال المعمدان ما لقيه هنا من النجاح، ذلك أن هذا الموضوع موضوع شاق غريب على روحه الدنيوية، ولهذا كان تمثالا يوحنا القائمان في بارجلو سخيفين ليس فيهما حياة. وأجمل منهما كثيراً رأس طفل سمى لغير سبب معقول سان جيو فانينو-رأى القديس يوحنا الصغير. ومن التماثيل التي تشاهد في معرض دوناتلو أيضاً تمثال القديس جورج الذي يجمع بين واقعية المسيحية المجاهدة وخطوط الفن اليوناني المقيدة غير الطليقة. ووقفة التمثال قوية تنم عن الثقة بالنفس، والجسم قوي ناضج، والرأس بيضي قوطي ولكنه يستبق رأس بروفس الروماني الطراز الذي نحته بوانارتي Buonarotti. وصنع لواجهة كتدرائية فلورنس تمثالين قويين لإرميا وحبقوق، وكان ثانيهما أصلع إلى حد جعل دوناتلو يطلق عليه اسم »القرعة الكبيرة«. ولا يزال تمثال يوديث القائم فوق »بواكي الرماحة« والذي صنعه دوناتلو تنفيذاً لأمر كوزيمو، لا يزال هذا التمثال يلوح بسيفه فوق هولوفرنير Holofernes. ويرى القائد الذي دس له المخدر في النبيذ نائماً في هدوء قبل أن يقطع رأسه، والفكرة التي أوحت به وطريقة تنفيذها غاية في البراعة، ولكن الفتاة التي قتلت الطاغية تقبل على عملها مرتدية كامل ثيابها في هدوء لا يتفق مع رهبة الموقف. ووضع دوناتلو أثناء رحلة قصيرة إلى روما (1432) تصميم معبد من الرخام قديم الطراز لكنيسة القديس بطرس القديمة. وأكبر الظن أنه درس وهو في روما التماثيل النصفية الباقية من عهد الإمبراطورية، وسواء كان ذلك أو لم يكن فقد كان هو الذي عمل أول تمثال نصفي ذي شأن في عصر النهضة. وكانت خير صوره الفنية كلها تمثاله النصفي الذي صنعه من الطين المحروق الملون والذي يصور السياسي نقولو دا أتسانو Niccolo da Uzzano. وقد سلى نفسه وعبر عنها في هذا التمثال بنزعة واقعية تكشف عن الرجولة الحقة وإن كانت لا تضفي على صاحبها شيئاً من التمجيد والثناء. وفيه كشف دوناتلو عن الحقيقة القديمة القائلة إن الفن ليس في حاجة دائمة إلى الجري وراء الجمال، بل إن عليه أن يختار الأشكال ذات القيمة ويبرزها للناظرين. وكان كثير من الكبراء يعلنون أن تماثيله المنحوتة لا تظهر الأشكال على حقيقتها، ولم تكن نتيجة عملهم هذا أحياناً في مصلحتهم. ومن ذلك أن تاجراً من أهل جنوي، لم يرض عن نفسه كما صوره دوناتلو فأخذ يساوم في ثمن التمثال، فلما عرض الأمر على كوزيمو حكم بأن التمثال الذي يطلبه دوناتلو أقل من الواجب أداؤه. وشكا التاجر من أن الفنان لم يقض من العمل إلا شهراً واحداً، ومعنى هذا أن الأجر الذي يطلبه يصل إلى نصف فلوري (12.5دولا) في اليوم وهو أكثر مما يجب أن يتقاضاه إنسان ليس إلا فنانا. فما كان من دونالتو إلا أن حطم التمثال إلى ألف قطعة، وقال إن هذا الرجل لم يؤت من الذكاء إلا القدر الذي يستطيع أن يساوم به على حبات الفول(43).
لكن مدائن إيطاليا كانت تقدره تقديراً أحسن من هذا وتتنافس في الانتفاع بخدماته، وأغرته كل من سينا، ورومة، والبندقية بالإقامة فيها وقتاً ما، ولكن بدوا هي التي صنع فيها روائعه، فقد نحت لمذبح كنيسة القديس إنثوني ST.Anthony ستاراً من الرخام غطيت به عظام الراهب الفرانسيسي العظيم، ووضع فوقه نقوشاً متحركة وتمثالا برنزياُ لصلب المسيح تنم فكرته عن حنان ورقة منقطعي النظير. وأقام في الميدان الذي أمام الكنيسة (1453) أول تمثال عظيم لفارس في الزمن الحديث، وما من شك في أنه استمد وحي هذا التمثال من تمثال أورليوس الراكب القائم في روما، ولكن وجهه ومزاجه يستوحيان عصر النهضة دون غيره من العصور. ولم يجعله المثال مثلاً أعلى للملك الفيلسوف، بل صوره رجلا تتمثل فيه طبيعة عصره، قاسياً، غير هياب، وقوياً. ذلك هو تمثال جتاميلاتا Gattamelata قائدمدينة البندقية المشهور باسم »القط المعسول«. ولسننا ننكر أن جسم الجواد الغاضب، الذي يقذف بالزبد من فيه أكبر من أن يتناسب مع ساقي راكبه، وأن الحمام يلوث في كل يوم الرأس الأصلع للزعيم الفاتح المغامر، ولكن وقفة التمثال تدل على الزهو والقوة كأن ما كان يتوق إليه مكيفلي من حب الناس للفن قد امتزج هنا مع البرنز المصهور ليكسب تمثال دونالتو القوة والصلابة. وكانت بدوا تنظر في دهشة وتمجيد إلى تمثال هذا البطل الذي أنقذه دوناتلو من النسيان والفناء، ووهبت الفنان 1650 دوقة ذهبية (41.250 دولاراً) في نظير الست السنين التي قضاها في الكدح المتواصل، وطلب إليه أهلها أن يتخذ مدينتهم وطناً له، ولكنه رفض ذلك العرض في نزوة من نزواته، فقد رأى فنه لا يمكن أن يرقى في بدوا حيث يثنى جميع الناس عليه، ولهذا فإن من واجبه لخير الفن أن يعود إلى فلورنس حيث ينتقده جميع أهلها.
والحق إنه عاد إلى فلورنس لأن كوزيمو كان في حاجة إليه، ولأنه كان يحب كوزيمو، لأن كوزيمو كان يفهم الفن، ويعهد إليه بأعمال تدل على الفطنة، ويجزيه عليها الجزاء الأوفى، وقد بلغ الوفاق بينهما حداً يستطيع معه دونالتو أن »يدرك ما يرغب فيه كوزيمو من أقل إشارة تبدر منه«(44). وقد أخذ دونالتو بإيحاء كوزيمو بجميع القديم من التماثيل، والتوابيت، والعقود المعمارية، والعمد، وتيجانها، ويضعها كلها في حديقة آل ميديتشي لكي يدرها الناشئون من الفنانين. وأنشأ دونالتو بمعاونة ميكلتسو استجابة لرغبة كوزيمو قبراً في مكان التعميد للبابا المطرود يوحنا الثالث والعشرين اللاجئ إليه. ونحت لكنيسة سان لورندسو كنيسة كوزيمو المحبوبة منبرين زينهما بنقوش برنزية، ومن هذين المنبرين وغيرهما كان سفنرولا فيما بعد يصب صواعقه على آل ميديتشي المتأخرين. وأنشأ للمذبح تمثالا نصفياً جميلا من الطين للقديس لورنس، ثم صنع المقدسات القديمة زوجين من الأبواب البرنزية وتابوتاً يتسم بالبساطة والجمال لأبوي كوزيمو. وتوالت أعماله الأخرى كأنها عبث اطفال: منها نقش بديع على الحجر يمثل الصعود لكنيسة الصليب المقدس، وصنع للكتدرائية تماثيل للغلمان المكتنزين يرتلون الترانيم في حماسة عظيمة (1433-1438)، ومنها تمثال نصفي من البرنز لشاب كأنه صحة الشباب مجسمة (وهو الآن في المتحف الفني في نيويورك)، وتمثال لسانتا تشيتشيليا Santa Cicilia (وقد يكون من صنع دزيدريو دا سنتيانو) بلغ من الجمال حداً يكفي لأن يجعله ربة للغناء مسيحية، ونقش برنزي يمثل صلب المسيح (في برجلو) لا يسع الناظر إليه إلا أن يعجب بتفاصيله الواقعية، ومنها في كنيسة الصليب المقدس تمثال منفرد ضامر من الخشب يعد من أكثر صور هذا المنظر تأثيراً في النفس رغم ما وجهه إليه برونلسكو من نقد ووصفه إياه بأنه »فلاح مصلوب«.
وتقدمت السن بالفنان ونصيره معاً، وعنى كوزيمو بالمثال عناية قلما كان دوناتلو معها يفكر في المال. ويقول فاساري في هذا إنه كان يحتفظ بماله في سلة معلقة في سقف مشغله، وكان يأمر معاونيه وأصدقاءه أن يأخذوا منها ما يشاءون كل بقدر حاجته دون أن يرجعوا إليه في ذلك. ولما حضرت كوزيمو الوفاة (1464)، أوصى ابنه بيرو بأن يرعى دوناتلو، ووهب بيرو الفنان الشيخ بيتا في الريف، ولكن دوناتلو لم يلبث أن عاد إلى فلورنس، لأنه كان يفضل مشغله المعتاد عن شمس الريف وحشراته. وعاش الفنان في فلورنس، بل اشترك أهلها كلهم تقريباً، في جنازته حتى ورى في مقره الأخير في قبو سان لورندسو بجوار قبر كوزيمو نفسه (1466) كما طلب هو في حياته.
وقد ارتقى دوناتلو بفن النحت رقيا لا حد له، ولسنا ننكر أنه كان من حين إلى حين يصب في مواقف شخصياته أكثر مما يجب من القوة ومن دقة التصميم، وكثيرا ما كان يعجز عن أن يبلغ الشكل المصقول الحد الذي يعلى من قدر أبواب جبرتين. ولكن أخطاءه كان مردها إلى الذي يعلى من قدر أبواب جبرتين. ولكن أخطاءه كان مردها إلى تصميمه على أن يعبر عن الحياة أكثر مما يعبر عن الجمال، وعن الخُلُق المعقد أو المزاج العقلي لا عن الجسم القوي الصحيح فحسب. كذلك ارتقى دوناتلو بفن النحت الملون وذلك بتوسيع مداه، فلم يجعله مقصوراً على الأغراض الدينية بل جعله يشمل كذلك الأغراض الدنيوية، وبما حبا به موضوعاته من تنويعه، وانفرادية، وقوة لم يسبق لها مثيل، وهو الذي أنشأ أول تمثال للفارس بقي إلينا من عهد النهضة، وتغلب في هذا العمل على مائة من الصعاب الفنية، ولم يتفوق عليه من المثالين غير واحد منهم، وحتى هذا التفوق كان مرده إلى أن صاحبه قد ورث ما تعلمه دوناتلو، وأبدعه، وعلمه غيره. ذلك هو برتلدو Bertolda تلميذ دوناتلو ومعلم ميكل أنجيلو.
لوكادلاَّ ربيا
إن الصورة التي ترتسم في عقولنا، حين نقرأ ترجمتي فاساري لحياة جبرتي ودوناتلو، لتظهر مشغل المثال في عصر النهضة في صورة مشروع تعاوني تعمل فيه كثير من الأيدي، ويوجه عقل واحد، ولكنه ينقل الفن يوماً بعد يوم من الأستاذ إلى الطلاب المتعلمين جيلا بعد جيل. وتخرج من المشاغل مثالون صغار خلفوا في التاريخ أسماء لا تضارع في شهرتها أسماء أساتذتهم الكبار، ولكنها ساعدت بالحد الذي وصلت إليه على أن تشكل الجمال الزائل في صورة خالدة. ومن هؤلاء المثالين الصغار ناني دي بانكو Nanni di Banco الذي ورث ثروة كبيرة، أمكنته من أن يصبح إنساناً عديم القيمة، ولكنه أحب النحت ودوناتلو، وتتلمذ عليه وكان وفيا له حتى استطاع أن ينشئ لنفسه مشغلا مستقلا. وقد نحت تمثالا لسانت فيليب يوضع في كوة في مركز طائفة الحداثين في أورسان ميشيل كما صنع للكنيسة تمثالا للقديس لوقا جالسا وممسكا الإنجيل بيده، وينظر بالثقة الكاملة التي يبعثها في النفس الإيمان الجديد بإيطاليا في عهد النهضة التي بدأت وقتئذ فقط تدخلها الريبة في الدين.
وجمع الأخوان برناردو وانطونيو وسلينو Bernardo & Antonio Rosselino حذقهما في العمارة والنحت في مشغل آخر، فوضع برناردو تصميما لقبر من الطراز الروماني القديم لليوناردو بروني Leonardo Bruni في كنيسة الصليب المقدس، ثم انتقل إلى روما حين جلس نقولاس الخامس على كرسي البابوية، وانهمك في الثورة المعمارية التي أحدثها البابا العظيم. وبلغ أطونيو ذروة مجده في سن الرابعة والثلاثين (1461) حين أنشأ قبرا رخاميا في سان منياتو SAn Minato بفلورنس لدون جايمي Don Jayme كردنال البرتغال. ويتمثل في هذا القبر انتصار الطراز الروماني القديم في كل شيء ما عدا جناحي الملاك، وملابس الكردنال، وتاج عفته-لأن دون أذهل العالم بطهارته. وفي أمريكا الآن مثلان جميلان من أعمال أنطونيو-هما التمثال النصفي الرخامي الذي يمثل المسيح الطفل والقائم في مكتبة مورجان Morgan وتمثال الشاب يوحنا المعمدان المحفوظ في المعرض القومي، وهل في أي مكان مثل للنحت الملون الواقعي أنبل من الرأس القوي المموج بالأوعية الدموية والأخاديد التي أوجدها فيها التفكير العميق، والذي يمثل راس الطبيب جيوفني دي سان منياتو Giovanni di San Miniato والمحفوظ في متحف فكتوريا وألبرت؟
وجاء دزدريو دا سنياتو Desiderio da Settignano إلى فلورنس من مدينة ستنيانو القريبة منها والتي ينتسب إليها. وانضم إلى من كانوا يعملون مع دوناتلو، ورأى أن عمل أستاذه لا ينقصه إلا الصقل الذي يتطلب الصبر الطويل، وامتازت أعماله بالظرف والبساطة، والرشاقة. ولم يبلغ القبر الذي صنعه لمرسبيني القبر أقامه رسلينو لبروني، ولكن المعبد الذي وضع تصميمه لكنيسة سان لورندسو (1464)، قد سر له كل من وقعت عليه عيناه، وقد زاد ما صنعه من تماثيل ملونة ونقوش محفورة، وإن لم تكن هذه هي أعماله الجوهرية وتوفي في سن السادسة والثلاثين، ترى ماذا كان يستطيع أن يفعل لو أنه عاش كما عاش أستاذه حتى بلغ سن الثمانين؟
ووهب لوكا دلا ربيا من العمر اثنتين وثمانين سنة، استخدمها على خير وجه، فرفع العمل في الطين المحروق إلى مستوى يكاد يضعه في مصاف الفنون الكبرى، وذاعت شهرته أكثر مما ذاعت شهرة دوناتلو نفسه، وما من متحف في أوربا لا تعرض فيه الآن تماثيل من صنعه للعذراء، ونماذج من اعماله في الصلصال الملون الأزرق والأبيض. وقد بدأ لوكا عمله صائغا، كما بدأه كثيرون من فناني النهضة، فلما تعلم في ميدان التصوير الصغير جميع دقائق التصميم، انتقل إلى نقش التماثيل ونحت ميدان التصوير الصغير جميع دقائق التصميم، ولعل خَزنَة الكنيسة لم يخبروا لوكا أن هذه التحف تفوق أعمال جيتو نفسها، ولكنهم سرعان ما عهدوا إليه أن يزين شرفة الأرغن بنقش أعمال جيتو نفسها، ولكنهم سرعان ما عهدوا إليه أن يزين شرفة الأرغن بنقش يصور الغلمان والفتيات المرنمين والمرنمات في أثناء نشوة الترنيم. ونحت دوناتلو بعد عامين من ذلك الوقت نقشا يماثله، ولا يزال يواجه احداهما الآخر في معرض تحف الكنيسة ويبرز كلاهما في قوة عظيمة حيوية الطفولة، وقد أعاد عصر النهضة في هذين النقشين استخدام الأطفال في الفن. ثم عهد إليه سدنة الكنيسة في عام 1446 أن يعد نقوشا لأبواب من البرنز خاصة بمكان المقدسات في إحدى الكنائس الكبرى. ولم تبلغ هذه النقوش ما بلغته نقوش جبرتي، ولكنها كانت هي التي أنقذت حياة لورندسو ده ميديتشي أثناء مؤامرة باتسيا Pazzia، ونادت فلورنس كلها وقتئذ بأن لوكا من الفنانين العظام. وكان حتى ذلك الوقت قد اتبع الأساليب التقليدية التي يجري عليها فن المثال، إلا أنه كان في هذه الأثناء يقوم ببعض التجارب على الصلصال، ويبحث عن طريقة يستطيع بها أن يجعل هذه المادة المطواعة جميلة في نسيجها جمال الرخام نفسه. فكان يشكل الصلصال بالصورة التي يرسمها في ذهنه، ثم يغطيه بطبقة زجاجية براقة يستخدم فيها مواد كيميائية مختلفة، ثم يحرقه في أتون بني لهذا الغرض خاصة. وأعجب سدنة الكنيسة بنتيجة هذه التجارب وعهدوا إليه أن يصنع صوراً من الصلصال المحروق تمثل البعث والصعود فوق ابواب أماكن المقدسات في الكنائس الكبرى (1443-1446). وكانت هذه الألواح ذات لون أبيض منفرد، ولكنها كان لها تأثير عظيم بفضل مادتها الجديدة ورقة صقلها وجمال تصميمها. وطلب كوزيمو وابنه بيرو أن تصنع نقوش شبيهة بها من الصلصال المحروق يزدان بها قصر آل ميديتشي ومعبد بيرو في سان ميناتو San Minato. وقد اضاف لوكا في هذه النقوش اللون الأزرق إلى اللون الأبيض الغالب عليها. وتوالت عليه وقتئذ الطلبات بكثرة أغرته على الإسراع في عمله والتساهل فيه، فزين مدخل كنيسة الانيسانتي Ognissanti، بصورة من الصلصال المحروق تمثل تتويج العذراء، كما زين مدخل كنيسة باديا Badia بصورة رقيقة من النوع نفسه تمثل العذراء والطفل يحف بهما ملائكة تغرينا بأن نؤمن بخلود السماوات. ثم شرع يعمل صورة كبرى من الصلصال المحروق تمثل الزيارة لتوضع في كنيسة سان جيوفني في بستويا Pistoia، وقد خرج في هذا النقش على التقليد المألوف الذي يمثل ملامح اليصابات العجوز، وسذاجة الفتاة مريم وطهرها وحياتها، وقصارى القول إن لوكا أنشأ بعمله مملكة جديدة للفن، وأوجد أسرة من آل دلا ريبا ظلت مزدهرة حتى آخر ذلك القرن.
الفصل السابع: التصوير الملون
مساتشيو
كان للرسم الملون الغلبة على النحت في إيطاليا أثناء القرن الرابع عشر، وكان للنحت الغلبة على الرسم الملون في القرن الخامس عشر، ثم عادت الزعامة مرة أخرى للرسم في أثناء القرن السادس عشر، ولعل لعبقرية ليوناردو، وروفائيل، وتيشيان في القرن الخامس عشر، نقول لعل لعبقرية هؤلاء في تلك القرون المختلفة بعض المختلفة بعض الأثر في هذا التغيير. بيد أننا نقرر هنا أن العبقرية قوة من قوى روح عصر من العصور أكثر منها سبباً من أسبابها. ولعل الكشف عن النحت القديم وما بعثه هذا الفن من وحي إلهام لم يكونا قد أصبحا في أيام جيتو حافزاً وموجها للمثالين والمصورين كما كانا لجبرتي دوناتلو. لكن هذا الحافز قد بلغ ذروة قوته في القرن السادس عشر، فلماذا إذن لم يرفع سانسوفينو Sansovino وتشيليني Cellini وأمثالها، ولم يرفع ميكل أنجيلو، فوق منزلة المصورين في ذلك العصر-ولماذا كان ميكل أنجيلو مثالا قبل كل شيء اضطر شيئاً فشيئاً إلى أن يكون مصوراً؟ فهل كان ذلك لأنه كان على فن النهضة واجبات، وكانت له حاجات، أوسع وأعمق مما كان لفن النحت؟ ذلك أن الفن، بعد أن تحرر بفضل ما نال من مناصرة مصدرها للذكاء والثراء كان يرغب في أن يشمل جميع ميادين العرض والزخرف، فإذا شاء أن يفعل هذا هن طريق التماثيل تطلب منه ذلك وقتاً، وجهداً مضنياً، وكلها عقبات لا يستطاع التغلب عليها، أما التصوير فكان أيسر عليه أن يعبر عن جميع الأفكار المسيحية والوثنية في اوسع نطاقها، في هذا العصر يتسم بالسرعة والخصب. وهل كان في وسع مثال أن يصور حياة القديس فرانسس بالسرعة والإتقان اللذين صورها بهما جيتو؟ يضاف إلى هذا أن الكثرة الغالبة من أهل إيطاليا في عهد النهضة كانت مشاعرها وافكارها لا تزال مصطبغة بصبغة العصور الوسطى، وحتى الأقلية التي تحررت من هذه الصبغة كانت لا تزال جوانحها تنطوي على اصداء وذكريات من الدين القديم، بآماله، ومخاوفه، ورؤاه الغامضة الخفية، وما ينطوي عليه من رقة، وخشوع، ونزعات روحية، وقوي تسري في نفوسها، وكان لابد لهذه كلها، ولما يعبر عنه فن النحت اليوناني والروماني من جمال متعدد الأنواع، ومثل عليا مختلفة، أن تجد لها في الفن الإيطالي متنفساً وشكلاً، وكان في وسع التصوير أن يؤدي هذه المهمة أداء إن لم يكن اكثر من النحت إخلاصاً ودقة، فلا أقل من أن يكون أكثر منه يسراً. وكان النحت قد درس قبلئذ جسم الإنسان دراسة بلغت من الطول والحب مدى يقلل من قدرته على تمثيل الروح، وإن كان المثالون القوط قد أفلحوا من حين إلى حين في تمثيل الروح في الحجارة أحسن تمثيل. وكان لابد لفن النهضة أن يصور الجسم والروح والوجه والشعور، وكان عليه أن يكون قوي الإحساس بالمدى الذي تستطيع أن تبلغه التقوى، والحب، والانفعال، وألألم، والتشكك، والشهوانية، والكبرياء، بضروبها المختلفة، وأن يتأثر بهذا المدى وتلك الضروب وتنطبع فيه. والعبقرية المجدة الكادحة وحدها هي التي تستطيع أن تمثل هذا في الرخام، أو البرونز، أو الصلصال، ولما حاول جبرتي ودونالتو أن يفعلا هذا كان عليهما أن ينقلا إلى فن النحت اساليب الرسم الملون بما يتطلبه من فن المنظور والتدرج غير المُحَس، وقد ضحيا من أجل وضوح التعبير ما كان يطلب إلى التماثيل اليونانية في العصر الذهبي أن تلتزمه من مثل أعلى في الشكل، ومن هدوء واطمئنان في الوقفة والوضع. ونضيف إلى ذلك أخيراً أن الرسام يتحدث إلى الناس بلغة أقرب إلى أذهانهم من لغة النحت، فهو يتحدث إليهم بالألوان التي تجتذب العين، وبالمناظر التي تروي قصصاً محببة. ولقد وجدت الكنيسة أن التصوير السريع أسرع تأثيراً في الشعب، وأقرب إلى قلوبه من كل نحت في الرخام البارد أو صب في البرنز القاتم الكئيب. ولهذا فإنه لما تقدم عهد النهضة واتسع أفق الفن وهدفه، ارتد النحت إلى الوراء، وخطا التصوير إلى الأمام، وأصبح بعد أن اتسع مداه، وتنوعت أشكاله، وأثبت ما يستطيع أن يبلغه من حذق ومهارة، هو الفن الأعلى الذي يبرز خصائص ذلك العصر، وصار هو وجه النهضة وروحها كما كان النحت أسمى التعبير الفني عند اليونان. لكنه في الفترة التي نتحدث عنها كان لا يزال غير ناضج يتحسس طريقه إلى هذا النضوج. فأخذ باولو أتشيلو Paolo Uccello يدرس فن المنظور حتى لم يعد يهتم بشيء آخر غير هذه الدراسة، وكان الراهب أنجيلكو Fra Angelico هو المثل الأعلى الكامل للعصور الوسطى في الحياة والفن، ولكن مساتشيو وحده هو الذي أحس بالروح الجديدة التي انتصرت فيما بعد على يد بتيشيلي Botticelli وليوناردو وروفائيل.
وكان بعض ذوي المواهب الأصغر من هؤلاء شأنا قد نقلوا أصول هذا الفن وتقاليده. فقد تتلمذ جدو جدي Gaddo Gaddi على جيتو، وتتلمذ تديو جدي Taddeo Gaddi وتتلمذ جدي Taddeo Gaddi على جدو جدي، وتتلمذ أنجولو جدي Angoloo Gaddi على تديو جدي، وزين أنجولو هذا في ذلك العام المتأخر عام 1380 كنيسة سانتا كروتشي بمظلمات من طراز مظلمات جيتو. وجمع تشينينو تشينيني Cennino Cennini تلميذ أنجولو في كتاب الفن Libro dell Arte (1437) كل ما كان لدى عصره من معلومات في الرسم، والتركيب، والفسيفساء، والصبغات، والزيوت، والورنيش، وغيرها من مستلزمات أعمال المصور. وإلى القارئ ما ورد في الصفحة الأولى من هذا الكتاب:
وهنا يبدأ كتاب الفن، وهو الكتاب الذي وضع وألف دليلا على تعظيمنا لله ولمريم العذراء... ولجميع القديسين... وإجلالاً لجيتو، وتديو، وأنجولو«(45)، لقد بدأ الفن يأخذ طريقه لأن يكون ديناً. وكان أعظم تلاميذ أنجولو راهب كملدوليسي Camaldulese يدعى لورندسو موناكو Lorenzo Mon. ولقد ظهرت قوة جدية في التصوير والتنفيذ في صورة تتويج العذراء التي صورها الراهب لورنتشي Lawrence(1413) على ستار المحراب الفخم في ديره المعروف بدير »الملائكة«. فقد كانت الوجوه في هذه الصورة فردية لا تجري على النمط التقليدي، وكانت الألوان براقة قوية. لكن تلك الألواح المتنوعة لم يراع فيها فن المنظور، فقد كانت الصورة التي في المؤخرة أطول من التي في المقدمة، كأنها رؤوس النظارة حين يطل عليها الإنسان من فوق المسرح. ومنذا الذي علم المصورين الإيطاليين فيما بعد علم المنظور؟
لقد أخذ بورنلسكو، وجبرتي، ودوناتلو قبل هذا القوت يحاولونه ويقتربون منه، وكاد باولو أتشيلو ينفق فيه حياته كلها، فكان يقضي الليلة بعد الليلة مكباً عليه انكباباً جعل زوجته تستشيط منه غضباً. وحدث أن قال لها مرة: »ألا ما أجمل هذا المنظور وما أعظم فتنته! آه ليتني أستطيع أن أجعلك تفهمي«(46) ولم يكن شيء يبدو لباولو أجمل من تقارب الخطين المتوازين تقارباً مطرداً ثم امتزاجهما آخر الأمر في صورة حقل محروث. وأخذ باولو يصوغ قوانين المنظور مستعيناً على ذلك بأنطونيو مانتي وهو عالم رياضي من أهل فلورن، فشرع يدرس الطريقة التي يمثل بها تمثيلاً دقيقاً عقود القبوة المرتدة عن البصر، وازدياد حجم الأجسام ازدياداً يشوه منظرها حين تقترب من جزء الصورة الأمامي، وما يحدث من التواء في العمد على شكل قوس. وشعر أخيراً بأنه قد وصل إلى القواعد المسيطرة على هذه الأمور الغامضة العجيبة. وعرف أنه بفضل هذه القواعد يستطيع بُعْد واحد أن يخدع العين فتظنه ثلاثة أبعاد، وأن التصوير يمكن أن يظهر الفضاء والعمق، وخيل إلى باولو أن هذه ثورة لا تقل في عظمتها عن أية ثورة أخرى في تاريخ الفن. وشرح مبادئه هذه فيما أخرجه من صور، ثم زين مقنطرات سانتا ماريا نوفلا بمظلمات أدهشت معاصريه، ولكنها عدت عليها عوامل التعرية. غير أنه لا يزال باقيا من صوره صورة حية واضحة المعالم لسير جون هوكود Sir John Hawkwood على أحد جدران الكنيسة (1436)، ذلك أن الزعيم المغامر الفخور قد تحول من هجومه على فلورنس إلى الدفاع عنها، فاستحق بذلك أن ينضم في الكنيسة إلى جماعة العلماء والقديسين.
وكان نمط آخر من أنماط التطور قد بدأ في هذه الأثناء من البداية نفسها ووصل إلى الغاية عينها. فقد كان أنطونيو فينيد سيلنو Antonio Veneziano من أتباع جيتو، وكان جيراردو استارنينا Gerardo Starnina تلميذا لفينيد سيانو، وتتلمذ ماسولينو دا بنيكالي Masolino da Panicale على استارنينا ثم تتلمذ عليه هو مساتشيو . وأخذ ماسولنو ومساتشيو يدرسان فن المنظور مستقلين عن باولو، وكان ماسولينو من الرعيل الأول من الإيطاليين الذين صوروا الأجسام العارية، كما كان مساتشيو أول من طبق مبادئ علم المنظور الجديدة بنجاح استرعى أنظار أهل جيله وبدأ بذلك عهداً جديداً في فن التصوير.
وكان أسمه الحقيقي هو توماسو جيدي سان جيوفني Tommaso Guidi di San Giovanni، أما مساتشيو فقد لقب به من قبيل السخرية ومعناه تومس الكبير. كما أن ماسولينو يعني تومس الصغير، ذلك أن إيطاليا كانت مولعة بأن تلقب أبناءها بهذه الألقاب المميزة لهم. وعمد مساتشيو إلى الفرشاة في سن مبكرة، وانهمك في التصوير انهماكا أهمل معه كل شيء سواه-ملابسه، وجسمه، ودخله، وديونه. وعمل في وقت ما مع جبرتي، ولعله مال في هذه الدار العلمية إلى تلك الدقة في التشريح التي أضحت فيما بعد من مميزات صوره، ودرس كذلك المظلمات التي كان يصورها ماسولينو في معبد برانكاتشي Brancacci بكنيسة سانتا ماريا دل كارميني Santa Maria del Carmine، ولاحظ في بهجة عظيمة تجاربها في المنظور وتمثيل الصور أو اجزائها إذا ما اقتربت من الناظر إليها، ثم مثل على عمود في كنيسة الدير المعروفة باسم باديا Badia القديس أيفو Jvo شفيع بريطاني ورسم قدميه كما تبدوان إذا نظر إليهما من أسفل. لكن النظارة أبوا أن يعتقدوا أن قديسا يمكن أن تكون له قدمان بهذه الفخامة. وصور في كنيسة سانتا ماريا نوفلا قبواً ذا سقف نصف أسطواني ضمن مظلم يمثل الثالوث الأقدس، وأتقن في هذه الصورة قواعد المنظور وتناقص أجزائها إلى حد خيل إلى العين معه أنها ترى السقف كأنه غائر في جدار الكنيسة.
أما الآية الفنية الرائعة التي كانت من أهم معالم ذلك العهد، والتي جعلته معلم أجيال ثلاثة، فهي الأجزاء التي اضافها إلى مظلمات ماسولينو برانكاتشي والتي تمثل حياة القديس بطرس (1423). وقد مثل الفنان الشاب حادثة مال الخراج بقوة جديدة في التفكير، ودق في التخطيط: فظهر المسيح في نبل صارم، وبطرس في جلال غاضب، والجابي في جسم الرياضي الروماني اللدن، وظهرت ملامح كل واحد من الرسل وثيابه، ووقفته مميزة عن غيرها في سائر الرسل. وكانت المباني، والتلال التي في خلف صورته بمرآه رسولا ملتحياً في هذا المجمع الحاشد. ودشن المعبد بينما كان هو يعمل في هذه المجموعة، وأقيم فيه حفل وسار فيه موكب جليل، وراقب ماساتشيو هذه المراسيم بعين نافذة احتفظت بصورته، ثم مثله في مظلم بأحد المقنطرات. إذ كان برونلسكو، ودوناتلو، وماسولينو، وجيوفني دي بيتشي دو ميديتشي، وأنطونيو برنكاتشيو القائم على المعبد قد شاركتا جميعاً في هذا الموكب، فقد وجدوا أنفسهم في الصورة. وحدث لأسباب لا نعرفها أن ترك مساتشيو العمل دون أن يتمه وسافر إلى روما في عام 1425. ولم نعد نسمع عنه شيئاً بعد ذلك الوقت، وليس لنا إلا أن نظن مجرد ظن أن حادثاً ما أو مرضاً قد قضى على حياته قبل الأوان. غير أن المعاصرين قد اعترفوا من فورهم بأن مظلمات برنكاتشيو هذه كانت خطوة كبيرة في تقدم فن التصوير. ذلك أن هذه الأجسام العارية الجريئة والثياب الرشيقة، وفن المنظور المدهش، والتماثيل الواقعي للقرب والبعد، والتفاصيل الدقيقة في تشريح الجسم، واستخدم تدرج الضوء والظل لتمثيل العمق، كل هذا ينبئ بتحول فني جديد يسميه فاساري الطراز »الحديث«. وأقبل كل مصور طوح يستطيع الوصول إلى فلورنس لدراسة هذه المجموعة: أقبل الراهب أنجيلكو، والراهب لبولبي Fra Lippo Lippi، وأندريا دل جستانيو Andrea del Gastagno، وفيروتشيو Verrocehio، وجرلندايو Ghirlandaio وبتيشلي، وبيروجينو Perugino، وبيرو دلا فرانتشسكا، وليوناردو، والراهب برتولوميو، وأندريا دل سارتو، وميكل أنجيلو، وروفائيل، ولم يكن لأحد من الأموات تلاميذ ممتازون كما كان لمساتشيو، ولم يكن لأحد من الفنانين منذ أيام جيتو من التفوق مثل ما كان له، وإن لم يكن هو عارفاً بنفوذه. ويقول ليوناردو إن »مساتشيو أظهر بأعماله التي وصلت إلى حد الكمال أن الذين يسترشدون في عملهم بهدى غير هدى الطبيعة، وهي السيدة العليا، يدفنون في الثرى الفقر المجدب«(47).
فرا أنجيلكو
وظل فرا أنجيلكو وسط هذه الأساليب الجديدة المثيرة يسير في هدوء على طريقته هو طريقة العصور الوسطى. وكان مولده في قرية تسكانية وسمي جيدو دي بيترو، ثم وفد إلى فلورنس وهو شاب، ودرس فن التصوير، وأكبر الظن أنه درسه مع لورندسو وموناكو. وسرعان ما نضجت موهبته الفنية، وهيئت له جميع السبل التي تمكنه من أن يشغل مكاناً طيباً مريحاً في العالم، ولكن حب السلام وأمله في النجاة حملاه على أن يلتحق بطائفة الرهبان الدمنيك (1407). وظل فرا جيوفني (الأخ جوفني)- وهو الاسم الذي اطلق عليه في هذه الفترة-يتدرب على نظام الرهبنة زمناً طويلاً في عدة مدن مختلفة، استقر بعدها في دير سان دمنيكو SanDominico ببلدة فيسولي Fiesole(1418)، حيث شرع وسط عادته التي حباه احتجاجه وخمول ذكره يزين المخطوطات ويرسم صور الكنائس وجماعات الإخوان الدينية. وحدث في عام 1436 أن نقل رهبان سان دمنيكو إلى دير سان ماركو الجديد الذي شاده ميكلتسو بأمر كوزيمو ومن ماله. ورسم جيوفني في التسع السنين التالية نحو خمسين صورة بالجص على جدران كنيسة الدير-تشمل بيت القسيسين، ومكان نومهم، ومطعمهم، وموضع راحتهم، وطرقات الدير المقنطرة المسقوفة، وصوامع الرهبان. وكان في خلال هذه المدة يقوم بالشعائر الدينية في تواضع وخشوع حملا زملاءه الرهبان على أن يسموه »الأخ الملاك« فرا أنجيلكو Fra Angelico. وقد بلغ من حلمه أن أحداً من الناس لم يره غاضباً قط، وان أحداً لم يفلح قط في أن يغضبه. وكان في وسع تومس أكمبس Thomas à Kempis أن يجد الصورة التي رسمها لتمثيل محاكاة المسيح قد تحققت إلى أكمل حد فيه إذا استثنينا من ذلك التعميم زلة واحدة لا يستطيع الإنسان معها أن يحاجز نفسه عن الابتسام: ذلك أن الراهب الملاك الدمنيكي لم يستطع أن يقاوم نزعة من نزعاته فوضع في صورة من صور يوم الحساب عدداً قليلا من الرهبان الفرنسيس في الجحيم(48).
وكان التصوير عند الأخ جيوفني عملا دينياً كما كان متعة وانطلاقاً لحماسة الجمال. وكان مزاجه وهو يصور نفسه مزاجه وهو يصلي، ولم يبدأ قط تصويره دون أن يصلي قبل بدئه. وإذا كان قد تحرر من منافسات الحياة القاسية، فقد كان ينظر إلى هذه الحياة كأنها ترنيمة من الحب الإلهي والتوبة الإلهية. وكانت الصور التي يرسمها دينية على الدوام-حياة مريم والمسيح، والمنعمين في الجنة، وحياة القديسين ورؤساء طائفته. وكان غرضه هو أن يبث التقي أكثر مما يخلق الجمال، وجربا على هذه القاعدة رسم في البيت الذي يعقد فيه الرهبان اجتماعاتهم الصورة التي يظن أنها يجب أن تكون في ذهنهم على الدوام-صورة صلب المسيح، وهي تعبير قوي أظهر فيها أنجيلكو دراسته للأجسام العارية كما أظهر فيها في الوقت عينه الصفة العامة الشاملة للمسيحية. وقد صور فيها عند أسفل الصليب مع القديس دمنيك مؤسسي طوائف الرهبنة المنافسة لطائفته وهم - أوغسطين، وبندكت، وفرانسس، وجون جولبرتو John Gualberto مؤسس طائفة الفلمبروزان Vallombosans، واكبرت مؤسس طائفة رهبان الكرمل. كذلك قص أنجيلكو، في الكوة التي فوق مدخل حجرة الاستقبال التي يطلب إلى الرهبان أن يقدموا فيها واجب الضيافة لكل عابر سبيل، قص في هذه الكوة قصة الحاج الذي تبين أنه هو المسيح نفسه، وكان يهدف بتصويره إلى أن كل حاج يجب أن يعامل على أنه قد يكون هو المسيح. وقد جمعت الآن في حجرة الاستقبال هذه بعض الموضوعات التي صورها أنجيلكو لمختلف الكنائس والحرف الطائفية: منها عذراء عمال الكتان وفيها جعل للملائكة المرنمين أجسام النساء اللدنة، ووجوه الأطفال الطاهرة الصريح، ولا تقل صورة النزول عن الصليب جمالا ورقة عن أية واحدة من ألف الصورة التي تمثل هذا المنظر في فن النهضة. أما صورة يوم الحساب فهي مسرفة بعض الإسراف في تناسب أجزائها، كما أنها مزدحمة بالخيالات المرعبة المنفرة كأنما العفو من صفات البشر والكره من صفات الله. أما أروع صور أنجيلكو فتقوم في أعلى الدرج المؤدية إلى خلوات الرهبان، تلك هي صورة البشارة- وهي تصور ملكاً في منتهى الظرف والرشاقة يظهر الإجلال والتعظيم لمن ستكون أم المسيح، وتصور مريم تنحني، وتمسك كلتا يديها بالأخرى مظهرة بذلك خشوعها وعدم تصديقها. وقد وجد الراهب المحب من الوقت ما استطاع به أن يصور في الصوامع الخمسين بمساعدة تلاميذه الرهبان صوراً على الجص تذكر الرائي بمنظر ملهم من مظاهر الإنجيل كالتجلي، واجتماع الرسل حول العشاء الرباني، ومريم المجدلية تمسح قدمي المسيح. وصور أنجيلكو في الصومعة المزدوجة التي ترهب فيها كوزيمو صورة لصلب المسيح، وأخرى لعبادة الملوك، تظهر فيها الثياب الشرقية الفخمة التي يحتمل أن الفنان قد شاهدها في مجلس مدينة فلورنس. ورسم في صومعته هو صورة تتويج العذراء، وكان موضوعها هو الموضوع المحبب له الذي صوره المرة بعد المرة، ويحتوي معرض أفيزي Uffizi على واحدة منقولة عنها، كما يحتوي مجمع فلورنس العلمي على واحدة أخرى، ومتحف اللوفر على ثالثة، وأحسنها كلها هي التي رسمها أنجيلكو لقاعة النوم في دير سان ماركو، لأن صورة المسيح ومريم في هذه الصورة من أبدع الصور في تاريخ الفن كله.
وذاعت شهرة هذه الصور الدالة على التقي والخشوع وتوالت بسببها على جيوفني مئات الطلبات، وكان كلما جاء طلب منها رد على صاحبه بقوله إن عليه أولاً أن يحصل على موافقة رئيس الدير، فإذا حصل على هذه الموافقة أجابه إلى ما طلب على الدوام، ولما طلب إليه نقولاس الخامس أن يحضر إلى روما غادر صومعته في فلورنس وذهب ليزين معبد البابا بمناظر من حياة القديسين استيفن ولورنس، ولا تزال هذه الصور من أجمل ما تقع عليه العين في الفاتيكان، وبلغ من إعجاب نقولاس بالفنان أن عرض عليه منصب كبير أساقفة فلورنس، ولكن أنجيلكو اعتذر وأوصى بأن يعين في هذا المنصب رئيسه المحبوب، وقبل نقولاس هذا العرض، وبقى الراهب أنطونيو من القديسين حتى بعد أن لبس ثياب كبير الأساقفة.
وليس من بين المصورين جميعاً-إذا استثنينا إلجريكو El Greco (الإغريق)- من ابتكر له طرازاً في التصوير خاصاً به كما ابتكر الأخ أنجيلكو، وفي وسع كل إنسان حتى المبتدئ أن يتبين هذا الطراز فلا يخطئ فيه. وهو يمتاز ببساطة الخط والشكل وهي البساطة التي ترجع إلى عهد جيتو، وقلة في مجموع الأوان ولكنها قلة أثيرية سماوية- تشمل الألوان الذهبي والزنجفري، والقرمزي، والأزرق، والأخضر-وهي تكشف عن روح نيرة، وإيمان هانئ، وصور رسمت في بساطة متناهية، تكاد تغفل علم التشريح، ووجوه جميلة، ظريفة، ولكنها شاحبة يبعدها عن الحياة، متشابهة تشابهاً يبعث الملل في الرهبان، والملائكة، والقديسين، كأنها في الفكرة التي قامت عليها أزهار في جنات النعيم، وكلها قد سمت بها روح بلغت المثل الأعلى في الحنان والخشوع، ونقاء المزاج والتفكير الذي يعيد إلى الذاكرة أجمل لحظات العصور الوسطى، ولا تستطيع النهضة أن ترجها. لقد كانت هذه آخر صرخة تبعثها العصور الوسطى في الفن. وظل الأخ جيوفتي يعمل سنة في روما، ثم عمل بعض الوقت في أرفيتو Orvreto، ثم كان مدة ثلاث سنين رئيساً لدير الدمنيك في فيسولي، ودعا مرة أخرى إلى رومة، حيث توفى في سن الثامنة والستين. وربما كان قلم لورندسوفلا الفصيح هو الذي كتب قبريته:
لست أريد أن يكون ما أمدح به أنني كنت أبليس آخر، بل أريد أن يكون سبب مديحي أنني خرجت عن جميع مكاسبي إلى المؤمنين بك أيها المسيح، لأن بعض الأعمال يتوجه بها إلى الأرض وبعضها إلى السماء. لقد كنت، أنا وجيوفني، من أبناء فلورنس المدينة التسكانية.
الأخ فلپو لپي
ولد من اقتران فن أنجيلكو الظريف بفن مساتشيو الشهواني فن آخر أخرجه رجل يفضل الحياة عن الخلود. كان فلبو ابن قصاب يدعى توماسو لبي Tommaso Lippi. وكان مولده في شارع من حي فقير بمدينة فلورنس خلف دير هبان الكرمل. وتيتم الطفل وهو في الثامنة من عمره، فكفلته عمة له وهي كارهة حتى بلغ سن الثامنة، ثم تخلصت منه بأن سلكته في طائفة رهبان الكرمل، وأخذ الطفل الصغير يملأ هوامش صفحات الكتب التي طلب إليه أن يدرسها برسوم هزلية. ولاحظ رئيس الدير براعته في هذه الرسوم فعهد إليه أن يرسم المظلمات التي فرغ مساتشيو تواً من تصويرها في كنيسة رهبان الكرمل. وما لبث الصبي أن أخذ يرسم صوراُ من عنده في تلك الكنيسة نفسها. ولم يبق لنا الآن شيء من هذه الصور، ولكن فاساري يظن أنها لا تقل جودة عن صور مساتشيو نفسه. ولما بلغ فلبو السادسة والعشرين من عمره (1432) غادر الدير، وظل يسمي نفسه »فرا Fra أي الأخ أو الراهب«، ولكنه كان يعيش في هذا »العالم« ويكسب عيشه من فنه. ويروي فاساري قصة تصدقها الرواية المتواترة، وإن لم يكن في وسعنا أن نتبين صدقها:
»يقولون إن فلبو كان عاشقا متيما، بلغ من حبه النساء أنه كان إذا رأى امرأة أعجبته، لم يكن يتردد في أن يخرج عن كل ما يملك لكي ينالها، فإذا لم يفلح في هذا أطفأ لهيب حبه برسم صورتها. وغلبت عليه هذه النزعة حتى كان إذا انتابته نوبة الهيام لم يلتفت، طالما كانت مستحوذة عليه، إلى شيء من عمله. وحدث مرة، حين كان كوزيمو يستخدمه في عمل ما، أن اغلق عليه باب البيت الذي كان يعمل فيه حتى لا يخرج منه ويضيع وقته. وظل فلبو على هذا النحو يومين، ولكن شهوة الحب الحيوانية غلبته، فمزق اللوحة التي كان يعمل فيها بمقص، وتدلى من النافذة، وقضى يومين كاملين في ملذاته. ولما بحث كوزيمو عنه لم يجده، أمر بأن يبحث عنه في كل مكان، وظل البحث جارياً حتى عاد فلبو إلى عمله من تلقاء نفسه. وكان كوزيمو من ذلك الوقت يسمح له بالخروج والعودة متي يشاء بكامل حريته،وندم على حبسه السابق في البيت... لأن العباقرة، على حد قوله، أجسام نورانية سماوية وليست حمير حمل... وجعل همه من ذلك الوقت أن يربط فلبو برباط الحب، وبذلك كان الفنان أكثر استعداداً لخدمته من ذي قبل.
ووصف »الأخ فلبو« نفسه في رسالة بعث بها إلى بيرو ده ميديتشي بأنه أفقر راهب في فلورنس، يكفل بنات أخيه اللاتي يتقن إلى الزواج ويعيش معهن(50). وكان الطلب كثيراً على أعماله، ولكن يلوح أن ما يتقاضاه عليه كان أقل مما ترغب فيه بنات أخيه. ولسنا نظن أن أخلاقه الشخصية قد بلغت حداً كبيراً من السوء، لأنا نجده قد كلف بأن يرسم صوراً لمختلف أديرة النساء. وبينما كان يعمل في دير سانتا مرجريتا ببلدة براتو Prato إذ وقع في حب لكريتسا بوتي Lucrezia Boti (إلا إذا كان فاساري مخطئاً، وكانت الرواية المتواترة خاطئة أيضاً). وكانت الرواية المتواترة خاطئة ايضاً). وكانت لكريتسيا هذه راهبة أو حارسة للراهبات. وأقنع رئيسة الدير بأن تجعلها تقف أمامه ليرسم على مثالها صورة العذراء، وسرعان ما فرا معاً. وظلت تعيش مع الفنان على الرغم من تأنيب والدها إياها وإلحاحه عليها بالعودة، وظل يتخذها نموذجاً لصور العذراء على الرغم من غضب والدها وإلحاحه عليها بأن تعود، وولدت له أبنه فلبينو لبي Filippino Lippi الذي ذاع صيته فيما بعد. ولم ير سدنة كنيسة براتو في هذه المغامرات منقصة كبيرة لفلبو، ولهذا عهدوا إليه في عام 1456 أن يزين موضع المرنمين في الكنيسة بمظلمات تصور حياة يوحنا المعمدان والقديس استيفن. وكانت هذه الصور، التي عدا عليها الزمان، تعد في ذلك الوقت من الآيات الفنية الرائعة: وتبلغ حد الكمال في تركيبها، غنية بألوانها، حية في قَصَصِها، وتصل إلى ذروة الفن على أحد جانبي موضع المرنمين حيث نشاهد رقص سالومة، وعلى الجانب الثاني حيث نشاهد رجم استيفن. ووجد فلبو أن هذا العمل ممل أكثر مما يتقن مع حركته ونشاطه، ففر منه مرتين، ثم أقنع كوزيمو البابا بيوس الثاني في عام 1461 أن يحل الفنان من الإيالن التي أقسمها عند دخول الدير، ويبدو أن فلبو قد أحل أيضاً من وفائه للكريتسيا، التي لم تعد تليق لأن تقف امامه ليتخذها نموذجاً لصور العذراء. وبذل سدنة الكنيسة براتو كل ما في وسعهم ليغروه بالعودة لاتمام مظلماته، وبعد عشر سنين من بدئه فيها أفلح كارلوده ميديتشي ابن كوزيو غير الشرعي الذي كان وقتئذ المبلغ لأوامر البابا، في حمله على إتمامها. وبذل فلبو في تصوير منظر دفن استيفن كل ما لديه من قوة- بذله في فن المنظور الخداع الذي يتمثل في البناء القائم في خلفية الصورة، وفي الصور الانفرادية للأشخاص المحيطين بالجثة، وفي التناسب القوي بين أجزاء الصورة وفي وجه النغل ابن كوزيمو الهادئ المستدير وهو يقرأ الصلوات على الموتى.
ولقد كانت أجمل الصور التي رسمها فلبو هي صور العذراء ، وذلك بالرغم من مغامراته الجنسية الشاذة، ولعله كان بسبب حساسيته القوية وعشه لجمال المرأة. وإن هذه الصورة لتنقصها روحانية صور أنجيلكو للعذراء وما فيها من روحانية أثيرية، ولكنها مع ذلك تنقل إلى الناظر إحساساً قوياً بالجمال الجثماني الهادئ، والحنان الذي لا حنان بعده. ولقد أصبحت الأسرة المقدسة في صور الراهب لبو أسرة إيطالية، تحيط بها حوادث عادية، وقد خلع فيها على العذراء جمالا جثمانياً ينبئ باقتراب عهد النهضة الوثني. وقد أضاف فلبو إلى هذه المفاتن النسوية فيما أخرجه من صور للعذراء رشاقة وخفة انتقلتا منه إلى تلميذه بتيتشلي.
ودعته مدينة اسبليتو في عام 1466 ليصور قصة العذراء مرة أخرى في قبا كنيستها. وأخذ يعمل فيها بذمة وأمانة بعد أن سكنت حمى عاطفته النسائية، غير أن قواه كانت هي الأخرى قد ضعفت مع ضعف عاطفته، ولم يكن في وسعه أن يكرر في هذه الكنيسة الصور الجدارية التي صورها في كنيسة براتو. وبينما كان يبذل هذه الجهود إذ مات مسموماً، ويظن فاساري أن اللذين دسوا له السم هم أقارب فتاة أغواها. وهذه القصة بعيدة الاحتمال، لأن فلبو دفن في كنيسة أسبليتو، حيث شاد له أبنه بعد سنين قلائل من ذلك الوقت قبراً فخماً عهد إليه به لورندسو ده ميديتشي.
إن كل إنسان يخلق الجمال جدير بأن تحيا ذكراه، ولكن من واجبنا أن نمر بسرعة وفي خجل بدمنيكو فنيدسيانو Dominico Veneziano وقاتله المزعوم أندريا دل كستانيو Andrea del Castagno. فأما دمنيكو فقد استدعى من بروجيا (1439) ليرسم صوراً على جدران كنيسة سانتا ماريا نيوفا (القديسة مارية الجديدة Santa Maria Nuova)، وكان من مساعديه شاب تلوح عليه أمارات النجابة من أهل برجو سان سبلكرو Borgo San Sepolcro يدعى بيرو دلا فراتشسكا. وقد قام في هذه الصور التي لم يبق منها شيء الآن بتجربة من أولى التجارب التي أجريت في فلورنس بالألوان الممزوجة في الزيت، وخلف لنا وراءه آية واحدة فنية هي صورة امرأة (في متحف برلين) ذات شعر منسدل إلى أعلى، وعينين تنمان عن القلق، وأنف بارز وصدر منتفخ. ويقول فاساري إن دمنيكو علم أندريا دل كستانيو قواعد الفن الجديدة، وكان هو أيضاً وقتئذ يرسم صوراً جدارية في كنيسة سانتا ماريا نوفا. وربما كان تنافسهما قد أفسد ما بينهما من صداقة لأن أندريا كان رجلا عنيدا سريع الانفعال. ويصف لنا فاساري كيف قتل أندريا دمنيكو، ولكن الروايات الأخرى تقول إن دمنيكو عاش بعد موت أندريا أربع سنين. وكان الذي أذاع شهرة أندريا هو صورة جلد المسيح التي رسمها في إحدى بواكي كنيسة سانتا كروتشي حيث أدهشت أفانين المنظور كل من رآها حتى زملاءه الفنانين. وتوجد في دير سانت أبولونيا القديم في فلورنس مختفية فيه صوره الخيالية لدانتي، وبترارك، وبوكاتشيو، وفارينانا دجلي أوبرتي Farinata Degli Uberti، وصورة حية واضحة لببو اسبانا Pippo Spana الجندي المتعجرف، وصورة للعشاء الأخير (1459) تبدو تافهة خالية من الحياة، ولكنها رغم ذلك ربما أوحت إلى ليوناردو بفكرة أو فكرتين.
الفصل الثامن: متنوعات أشتات
إذا شئنا أن نشعر بحياة الفن في فلورنس أيام كوزيمو شعوراً حياً واضحاً فإن علينا ألا نقتصر إلى درس حياة اولئك العباقرة اللذين مررنا بهم، بل إن علينا فوق ذلك أن ندخل الشوارع الجانبية والأزقة الضيقة من شوارع الفن وأزقته، وأن نزور مئات الحوانيت ومشاغل الفنانين حيث كان صناع الفخار يشكلون الطين ويلونوه، أو صناع الزجاج ينفخون الزجاج أو يقطعونه إلى اشكال من الآنية الهشة الجميلة، أو الصياغ يشكلون المعادن النفيسة أو الحجارة الكريمة، ويصنعون منها الحلي، والميداليات، والأختام، وقطع النقود، وألف قطعة وقطعة من زينة الثياب أو الأشخاص، أو البيت أو الكنيسة: وعلينا أن نسمع إلى ضجيج الصناع المنكبين على أعمالهم يطرقون الحديد، أو النحاس، أو البرنز أو ينقشونها، ويصنعون منها أسلحة ودروعا، وأوعية وآنية وأدوات للعمل والصناعة. وعلينا فوق ذلك أن نلاحظ لنجارين صناع الأثاث وهم يصممون، أو ينحتون الخشب، أو يرصعونه أو يمسحونه، والحفارين ينقشون المعادن، وغيرهم من العمال ينقشون أثاث المعبد، أو يرسمون على الجلد، أو ينحتون العاج، أو يخرجون المنسوجات الرقيقة ليجعلوا بها الأجسام مغرية، أو يزينوا بها البيوت. وعلينا كذلك أن ندخل الأديرة، ونشاهد الرهبان يزينون المخطوطات في صبر وأناة، والراهبات الهادئات يطرزن الأقمشة تروي القصص وتزدان بها الجدران. وعلينا قبل هذا كله أن نتخيل أهل البلاد وقد بلغوا درجة من الرقي تكفي لفهم الجمال، ومن الحكمة ما يكفي لأن يغمروا أولئك الذين يهبون أنفسهم للفن باسباب الشرف والعيش، ويمدوهم بالحوافز القوية لمواصلة هذه الجهود.
وكان حفر المعادن من مخترعات فلورنس، ومات مبتدع هذا الفن في نفس العام الذي مات فيه كوزيمو. كان توماسو فنجورا Tommaso Finiguerra من صناع النِّل أي أنه كان يحفر أشكالا مختلفة على المعدن أو الخشب، ثم يملأ الفراغ الحادث بمركب أسود مصنوع من الفضة والرصاص. وتقول أحد القصص اللطيفة إن قطعة من الورق أو القماش سقطت مصادفة على سطح معدني فرغ هو توا من تطعيمه، فلما رفعها وجد صورة السطح المعدني مطبوعة عليها. إن في هذه القصة شواهد على أنها وضعت بعد أن تم اختراع هذا الفن، على أنه مهما يكن من أمرها فإن فنجورا وغيره من الفنانين قد عمدوا إلى أخذ بصمات على الورق ليحكموا منها على أثر الرسوم المحفورة. ويلوح أن باتشيو بلديني Baccio baldini (حوالي 1450) وهو صائغ فلورنسي هو أول من أخذ هذه الطوابع من سطوح المعادن المحفورة، ليتخذها وسيلة لحفظ رسوم الفنانين وتكثيرها. وكان بتيتشلي، ومنتنيا Mantegna وغيرهم يمدونه بالرسوم. وبعد جيل من ذلك الوقت ارتقى ماركنتنيو رايموندي Marcantonio بالأصول الجديدة لفن النحت، واتخذها وسيلة ينشر بها في العالم فن التصوير في عهد النهضة بجميع مظاهره ما عدا ألوانه.
ولقد استبقينا إلى آخر هذا الباب رجلا لا نعرف أي صنف نضعه فيه، وخير طريقة لفهمه أن نقول إنه جمع كل خصائص زمانه وتجسمت فيه. لقد جمع ليون باتستا ألبرتي Leon Battista Alberti كل خصائص القرن الذي عاش فيه عدا ناحيته السياسية. فقد ولد في مدينة البندقية لأب منفي من فلورنس، ثم عاد إلى فلورنس، حين أعيد إليها كوزيمو، وشغف حباً بفنها، مومسيقاها، وندواتها الأدبية والفلسفية. واستجابت فلورنس لحبه هذا بأن خلعت عليه لقب الرجل الكامل الذي ليس بعد كماله كمال. فقد كان وسيما الوجه، قوي البنية، بارعاً في جميع أنواع الرياضة الجسمية، ويستطيع وقدماه موثوقتان أن يقفز من فوق رجل واقف، كما يستطيع وهو واقف في الكاتدرائية الكبرى لأن يقذف بقطعة من النقود إلى داخل حلقة في القبوة، وكان يسلي نفسه بترويض الحيوان البري وتسلق الجبال. وكان إلى هذا مغنيا بارعاً، وعازفاً قديراً على الأرغن، ومحدثاً ساحراً، وخطيباً مفوهاً، يقظ الذهن هادئه، سيداً رقيقاً مجاملاً، شهماً كريماً في معاملة جميع الناس عدا النساء، فكان لا ينفك يهجوهن هجاء لاذعاً، وبغضب قد يكون متكلفاً، وقلما كان يعنى بالمال، ولهذا فقد عهد إلى أصدقائه أن يعنوا بأملاكه، وكان يقتسم معهم ما تدره عليه من دخل، وكان يقول إن »في وسع الناس أن يفعلوا كل شئ إذا أرادوا« والحق إنا قلما نجد من كبار الفنانين في النهضة الإيطالية من لم يبرعوا في كثير من الفنون. وكان البرتي، كما كان ليوناردو بعد نصف قرن من أيامه، أستاذاً أو في القليل ممارساً ماهراً، في أكثر من عشرة ميادين-في الرياضة والميكانيكا، والعمارة، والتصوير، والموسيقى، والشعر، والتمثيل، والفلسفة، والشرائع المدنية والكنسية. وكان يكتب في هذه الموضوعات كلها تقريباً، وكان مما كتبه رسالة في التصوير تأثر بها بيرو دلا فرانتشسكو، ولعلها أثرت أيضاً في ليوناردو. وأضاف إلى كتاباته حوارين عن النساء وعن فن الحب، ومقالا ذائع الصيت عن »العناية بالأسرة«. وكان إذا انتهى من رسم صورة دعا الأطفال وسألهم عما يفهمونه منها، فإذا عجزوا وتحيروا في الإجابة حكم عليها بالإخفاق(51). وكان من أوائل المصورين الذين أدركوا الفائدة التي ترجى من آلة التصوير المظلمة الصندوق. وإذا كان الرجل مهندساً معمارياً قبل كل شئ، فقد أخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ليبني واجهات للمباني أو معابد على الطراز الروماني. واشترك وهو في روما في تخطيط المباني التي كان نقولاس الخامس »يقلب بها العاصمة ظهراً لبطن« كما يقول فاساري، وحول في رميني Rimini كنيسة سان فرانتشسكو القديمة إلى معبد لا يكاد يفترق في شئ عن الهياكل الوثنية. وأقام في فلورنس واجهة من الرخام لكنيسة سانتا ماريا نوفلا، وشاد لأسرة روتشيلاي Rucellai معبداً في كنيسة سان بانكرادسيا San Pancrazia، وقصرين فخمين ذوي تخطيط بسيط، وزين في مانتوا Mantua كاتدرائية إنكوروناتا Incoronata ومعبدها وأنشأ لكنيسة سانت أندريا واجهة على صورة قوس نصر روماني.
وألف مَسْلاَةً تدعى فيلودكسوس بلغة لاتينية مثقلة بالتراكيب الاصطلاحية إلى حد لم يشك أحد معه في أنها من تأليف كاتب قديم حين قال لهم هو هذا من قبيل السخرية بالجيل الذي كان يعيش فيه. وكان يكتب رسالاته في صورة حوار مهلهل وبلغة إيطالية سهلة خالية من الزخرف يستطيع أن يقرأها رجل الأعمال الكثير المشاغل نفسه. وكان دينه رومانياً أكثر منه مسيحياً، ولكنه كان يصبح على الدوام مسيحياً حين يسمع الترانيم الكنسية. ونظر بعين بصيرته إلى الأمام، فعبر عن خوفه من أن ضعف العقائد المسيحية سيلقى بالعالم في غمار الفوضى الأخلاقية والفكرية. وكان يحب الرف المحيط بفلورنس، ويأوى إليه كل ما أستطاع، وأنطلق تيوجنيو Teogeni، وهو الشخصية التي سمى بها حواره، بقوله: في وسعي أن استمتع في هذا المكان على مهل بصحبة الأموات العظماء، فإذا ما آثرت أن أتحدث إلى الحكماء، أو رجال الحكم، أو الشعراء العظام، فما علي إلا أن ألجأ إلى أرفف كتبي، فأجد فيها من الصحاب خيراً ممن تستطيع قصوركم أن تحبوني بهم على ما فيها من موال ومتملقين.
وكان كوزيمو يتفق معه في رأيه ولا يجد في شيخوخته سلوى أكثر من بيوته الريفية، وأصدقائه الأخصاء، ومجموعات الفنية، وكتبه. وكان يعاني آلاماً مبرحة من داء الرثية، وترك في آخر أيامه مهام الدولة الداخلي إلى لوكا بتي، فأساء هذا استخدام تلك الفرصة ليزيد بها ثروته. ولم تكن ثروة كوزيمو نفسه قد نقصت بسبب ما كان ينفقه في الصدقات، وكان يشكو تلك الشكوى الوهمية الفكهة وهي أن الله كان دائماً يسبقه فيعيد إليه ما ينفقه في أوجه الخير، مضافاً إليه ربحه(52). وكان حين يذهب للإقامة في الريف يدرس كتب أفلاطون، وتتلمذ في هذه الدراسة على محسوبه فتشينو Ficino. ولما حضرته الوفاة وعده فتشينو بالحياة في دار الأخيار معتمداً في ذلك على ما نقله أفلاطون عن سقراط لا على أقوال المسيح. ولما مات (1464) حزن على موته أصدقاؤه وأعدائه على السواء، فقد كانوا يخشون أن تضرب الفوضى أطنابها في الحكومة، فخرجت المدينة كلها تقريباً تشيع جثته إلى قبره الذي كلف دزيديريو دا ستنيانو Desiderio da Settignano أن يعده له في كنيسة سان لورندسو.
وكان الوطنيون من أمثال جوتشيارديني Guicciardini، الذين أغضبهم مسلك آل مديتشي المتأخرين، يرون فيه ما يرى بروتس Brutus في قيصر(53)، وكان مكيافلي يعظمه كما يعظم قيصر(54) لقد قضى كوزيمو على الديمقراطية، ولكن الحرية التي وقف في سبيلها لم تكن إلا حرية الأغنياء في أن يحكموا الدولة حكماً قائماً على العنف والتحزب. ولسنا ننكر أنه قد لوث حكمه بأفعال القسوة التي كان يرتكبها في بعض الأحيان، ولكن حكمه كان في معظمه من أكثر العهود ليناً، وسلاماً، ونظاماً في تاريخ فلورنس، وكان العهد الآخر الذي يضارعه هو عهد الحفيد الذي دربه آباؤه. وقلما عرف التاريخ أميراً أوتى ما أوتيه من حكمة في الكرم، واهتمام حق بتقدم الإنسانية، ويقول فتشينو هذا: » إني مدين لأفلاطون بالشيء الكثير، ولكني لست أقل من ذلك ديناً لكوزيمو، فهو الذي حقق لـي الفضائل التي أخذت فكرتها عن أفلاطون«(55). وقد ازدهرت في عهده الحركة الإنسانية الأدبية، وفي عهده نالت العبقريات المتعددة التي وهبها دوناتلو والراهب انجيلكو، ولبولبي من السخاء ما كان أكبر مشجع لها، وفي أيامه عاد أفلاطون إلى تيار الإنسانية الفكري، بعد أن ظل يطمس معالمه عهوداً طوالاً. ولما انقضى على موت كوزيمو عام، وسنحت للزمان الفرصة لأن يطمس مجده ويكشف عن أخطائه قرر المجلس الأعلى في فلورنس أن ينقش على قبره أنبل ما يستطيع أن يمنحه من الألقاب وهو »أبو وطنه Pater Patriae«. والحق أنه كان خليقاً بهذا اللقب، فقد رفعت النهضة بفضله رأسها عالياً، ووصلت في عهد حفيده إلى أنقى ذروتها، وفي عهد ابن حفيده فتحت روما. ألا إن في وسع المرء أن يغفر لأمثال هذه الأسرة كثيراً من الذنوب.