قصة الحضارة - ول ديورانت - م 5 ك 1 ب 1

قصة الحضارة -> النهضة -> مقدمة -> مقدمة الترجمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المجلد الخامس: النهضة

وهو يروي تاريخ الحضارة في إيطاليا من مولد بترارك حتى ممات تيشيان من 1304 إلى 1576

مقدمة الترجمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على عظيم نعمه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل. وبعد، فهذا هو الجزء الاول (رقم 18) من المجلد الخامس من "قصة الحضارة"، وهو المجلد الذي يروي هذه القصة الطريفة في إيطاليا. ولسنا مغالين إذا قلنا ان ذلك العصر هو أهم العصور كلها من حيث الحضارة. ففيه خرج العالم الغربي من ظلمات العصور الوسطى، وبه بدأ العصر الحديث، ومن أجل هذا خصه المؤلف بمجلدين كاملين، هذا المجلد الذي يروي قصة الحضارة في إيطاليا خاصة، ومن حق إيطاليا ان تنفرد في ذلك العصر بمجلد خاص، لأنها كانت مهد النهضة التي نشأت فيه وترعرعت ثم فاضت منه على سائر أوربا. أما قصة النهضة في غير إيطاليا من العالم- في أوربا وآسية- فقد رواها المؤلف في المجلد السادس الذي ظهر في أواخر العام الماضي والذي شرعنا في ترجمته.

وسيجد القارئ في هذا الجزء وفي الأجزاء الثلاثة الأخرى التي سيصدر فيها هذا المجلد الخامس وصفاً رائعاً لمظاهر النهضة الأدبية والفنية والعلمية والمعمارية، وحديثاً شيقاً عن أعلام هذا العصر، والى جانبه حديث آخر عن أحوال البلاد الإيطالية وحكامها ورجال العلم، والدين، والأدب، والسياسة، والحرب فيها، كل ذلك في لغة شيقة تتخللها بعض الدعابة التي تذهب بالملل في كثير من الأحيان. والترجمة صورة دقيقة من الأصل المترجم بلا زيادة ولا نقصان، فلم نحذف من أقوال المؤلف شيئاً قط ولم نزد عليها إلا بعض تعليقات قليلة في هامش الكتاب تفسر الكتاب تفسر عبارة أو تشرح إشارة تاريخية. وقد راعينا في تعريب الأسماء سواء منها أسماء المدن أو الأشخاص نطقها بالإيطالية قدر المستطاع بعد أن حققنا هذا النطق بقدر ما وصل إليه جهدنا. ولهذا قد يجد القارئ فيها بعض الخلاف عن الأجزاء السابقة ولكنه خلاف قليل سنتداركه في تلك الأجزاء عند إعادة طبعها.

ونرجو أن يجد القراء في هذا المجلد من غزارة العلم وطرافة البحث ما يعوضهم عن طول الوقت الذي يقضونه في قراءته. فإن وجدوا فسيعوضنا نحن أيضاً ما عانينا من جهد في ترجمة هذا المجلد الذي يحتوي موضوعات معظمها جديد علينا، كفنون العمارة والعلوم والنقش والتصوير والنحت وغيرها من الفنون والعلوم، وفي البحث عن الاصطلاحات العلمية والفنية التي يزخر بها الكتاب، ونرجو أن نكون قد وفقنا في هذا بعض التوفيق إن لم يكن كله.

ولا يفوتنا أن نسجل شكرنا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية التي يرجع إليها في إخراج هذا الكتاب وللجنة التأليف والترجمة والنشر عنايتها بطبعه ونشره، وللقراء الكرام في مصر وسائر البلاد العربية، الذين كان تشجيعهم حافزاً قوياً لنا على مواصلة الجهد المضني الطويل.

وفقنا الله إلى أداء واجبنا في خدمة لغتنا العربية عن طريق الترجمة، وهو الطريق الذي اخترنا أن نسلكه لخدمتها، وأعاننا على تذليل ما نلاقيه فيه من صعاب.

محمد بدران

أكتوبر سنة 1958


إلى القارئ

هذا المجلد كامل بنفسه مستقل بذاته، ولكنه هو الجزء الخامس من تاريخ الحضارة الذي كتب على أن يكمل بعضه بعضاً وأن يجمع في قصة واحدة نواحي النشاط البشري جميعها. ولقد بدأت هذه السلسلة في عام 1935 وكان أولها ما ورثناه من الشرق - أي تاريخ مصر والشرقين الأدنى والأوسط حتى عام 323 ق.م، وتاريخ الهند والصين واليابان حتى عام 1930. وكان جزؤها الثاني حياة اليونان (1939) وهو يسجل تاريخ اليونان وثقافتهم من اقدم العصور المعروفة، وتاريخ الشرقين الادنى والأوسط من 325 ق.م حتى الفتح الروماني في 146. وواصل الجزء الثالث قيصر والمسيح (1944) رواية قصة الجنس الأبيض حتى عام 325 م، وكان محورها الذي تدور حوله هو نشأة روما وسقوطها والقرون الأولى من المسيحية. وواصل الجزء الرابع عصر الإيمان (1950) رواية هذه القصة حتى عام 1300، ويضم بين طياته الحضارة البيزنطية وحضارات الإسلام واليهودية والعالم المسيحي اللاتيني.

ويهدف هذا المجلد إلى رسم صورة شاملة موجزة لجميع مناحي الحياة البشرية في إيطاليا على عهد النهضة- من مولد بترارك في عام 1304 إلى موت تيشيان Titian في عام 1576. وتشير كلمة النهضة في هذا المجلد إلى إيطاليا دون غيرها من البلاد، ولن تستخدم للدلالة على ما حدث من تقدم ونضوج في فرنسا، وأسبانيا، وانجلترا والاراضي الوطيئة في خلال القرنين السادس عشر إلا ما بعث بعثاً جديداً في تلك البلاد وكانت أصوله أجنبية عنها، وحتى في إيطاليا نفسها تعنى هذه التسمية أكثر ما تعنى بعث الآداب القديمة التي لم يكن لها من الخطر في إيطاليا ما كان لتقدم اقتصادياتها وثقافتها حتى بلغت صورتها المميزة لها في تلك البلاد.

ولقد أردت أن اجتنب التكرار السطحي لما نشر في هذا الموضوع من كتب قيمة، فوسعت نطاق البحث إلى أكثر مما ألفه القارئ في المجلدات السابقة من هذه السلسلة. وكان مما اقتضى هذا التوسع غير هذا السبب أننا كلما اقتربنا من عصرنا الحاضر زاد اهتمامنا بموضوعنا، ذلك اننا نشعر بما يجري في دمائنا من حيوية مستمدة من تلك القرون الخطيرة الأحداث التي نشأت فيها أوربا الحديثة، وبذلك تصبح أفكار تلك القرون، وحوادثها، وأشخاصها، لا غنى عنها لفهم عقولنا وأيامنا. ولقد درست بنفسي كل ما ورد ذكره في هذا الكتاب من مؤلفات خاصة بالفن إلا القليل منها، ولكنني تعوزني الدربة الفنية التي تخولني إصدار أحكام عليها قائمة على البحث والنقد. غير أنني قد أقدمت على التعبير عما أفضله منها وعما أنطبع في ذهني بعد قراءتها. والآن نرى الفن الحديث يسير في طريق مضاد للذي سار فيه فن النهضة، ويحاول جاهداً أن يجد صوراً جديدة للجمال، ومعاني جديدة للأشياء. وليس لدينا ما نأخذه على هذه النزعة، لأنه مهما يكن تقديرنا لها، فإن هذا التقدير يجب الا يحول بيننا وبين الترحيب بكل محاولة صادقة منظمة يقصد بها محاكاة ما تمتاز به من قوة ابتكار لا ما أسفرت عنه من نتائج.

وفي عزمنا إذا واتتنا الظروف أن نصدر مجلداً سادساً سيكون عنوانه في الأغلب الأعم عصر الإصلاح الديني بعد ثلاث سنين أو أربع من هذا الوقت، يشتمل على تاريخ الحضارات المسيحية والإسلامية واليهودية في خارج إيطاليا مبتدئاً عام 1300، وفي إيطاليا نفسها من 1576 إلى 1648. ويحسن بنا بعد هذا التوسع في البحث وما نشعر به من آثار الشيخوخة أن نفكر في أن نختم هذه السلسلة بمجلد سابع نطلق عليه اسم عصر العقل يواصل رواية القصة إلى بداية القرن التاسع عشر.

وأرى فرضاً عليّ أن أشكر لمستر جوزف أوسلاندر Joseph Ouslander إذنه لي بان أنقل عنا ترجمته الجميلة لإحدى أغاني بترارك، ولمطبعة جامعة كيمبردج إذنها بأن أنقل فقرة بقلم رتشرد جارنت Richard Oarnet، في المجلد الأول من تاريخ كيمبردج الحديث Cambridge Modern History، ولزوجتي ما كان لها من اقتراحات وأحاديث أنارت لي السبيل، وللدكتور إدورد هبكن Edward Hopkin ما قدم لي من معونة في تصنيف مواد الكتاب، وللآنسة ماري كوفمان Mary Kaufman والآنسة فلورا كوفمان Flora Kaufman ما قدمتا من معونة كتابية متعددة الأنواع والسيدة إدث ديجيت Edith Digate ما أظهرت من كفاية عظيمة في كتابه المخطوط على الآلة الكاتبة رغم ما به من صعوبات جمة، ولولاس بركواى Wallace Brockway خبرته العظيمة في إخراج الكتاب وما قدم لى في هذه الناحية من نصائح سديدة. وأشكر بعد هذا كله ناشري هذا الكتاب، فلقد دلت صلتي الطويلة بهم على انهم من خير من يستطاع وجودهم من الناشرين، ذلك أنهم لم يضنوا على بأي معونة، فقد تحملوا معي نفقات البحث، ولم يجعلوا لحساب المكسب أو الخسارة أي أثر في علاقاتنا. وقد نشروا في عام 1926 كتابي قصة الفلسفة وكل ما كانوا يرجونه من وراء نشره ألا تصيبهم من هذا النشر خسارة، وقد ظلت علاقتنا قائمة سبعة وعشرين عاماً كانت بالنسبة لي صلة موفقة سعيدة.


ملاحظات عن طريقة استخدام هذا الكتاب


1- حذفنا من النص تواريخ مولد الاشخاص ووفاتهم ولكننا أثبتناها في فهرس الأعلام والأماكن.

2- الفقرات المكتوبة بالخط الصغير تعنى الدارسين المتخصصين وحدهم، وفي وسع القارئ العادي ان يغفلها وهو آمن.

3- رأينا عند ذكر الأماكن التي توجد فيها التحف الفنية أن نذكر اسم المدينة للدلالة على أهم معرض للفنون بها مثال ذلك:

مدينة برجامو للدلالة على مجمع برلين للدلالة على متحف قيصر كرارا الفني فردريخ بها بريستشيا للدلالة على بناكوتيكا تشكاجو للدلالة على معهد الفنون مارتننجو دترويت للدلالة على معهد الفنون بها كليفلند للدلالة على متحف الفنون بها مدريد للدلالة على البرادو لنيننجراد للدلالة على الصومعة بها ميلان للدلالة على معرض لندن للدلالة على المعرض القومي بريرا الفني منتوا للدلالة على قصر الدوق نابلي للدلالة على المتحف القومي مودينا للدلالة على بيناكوتيكا إستنسي بارما للدلالة على المعرض الملكي نيويورك للدلالة على متحف الفن للفنون العاصمي واشنجتن للدلالة على المعرض القومي البندقية للدلالة على المجمع العلمي الفني للفنون غير أنا قد ميزنا معرضي فلورنس الفنيين العظيمين باسميهما أفيزى Uffizi، وبتي Pitti وكذلك المعرض البرغي Borghese في روما.

ول ديورانت

لوس أنجليز في أول ديسمبر سنة 1952



الكتاب الأول: تمهيد 1300 - 1377

الباب الأول: عصر بترارك وبوكاتشيو 1304 - 1375

الفصل الأول: أبو النهضة

في عام 1302 نفسه، أي في العام الذي انتزع فيه حزب الاشراف السود حكم مدينة فلورنس بالقوة، ونفوا دانتى وغيره من حزب الطبقة الوسطى البيض اتهم الاشراف الظافرون محامياً من البيض هو السُر Ser (أي السيد او الرئيس) بتراتشيو Petracceo بأنه زور وثيقة قانونية. ووصف بتراتشيو التهمة بأنها حجة ماكرة للقضاء على حياته السياسية، فأبى أن يمثل أمام القضاء ليحاكم عليها، فحكم عليها، فحكم عليه في غيابه، وخير بين أن يؤدي غرامة باهظة أو تقطع يده اليمنى. وإذا كان قد ظل يرفض الحضور أمام المحكمة فقد صدر الأمر بنفيه من فلورنس، وصودرت أملاكه. فما كان منه إلا أن فر إلى أريتسو Arezzo هو وزوجته. وفي هذه المدينة طلع فرانتشسكو بتراركا Francesco Petrarka (كما سمى نفسه فيما بعد تظرفاً) على العالم على حين غفلة بعد عامين من نفيه.

وكانت بلدة أريتسو الصغيرة جِبليِة Ghibelline عارمة (أي تدين بالولاء السياسي للإمبراطورية الرومانية المقدسة لا للبابوات)، فكانت لذلك تعاني في القرن الرابع عشر كل ما تعانيه المدن الإيطالية من المحن. وكانت فلورنس الجلفية Guelfic - أي التي تناصر البابوات على الأباطرة في النزاع القائم بينهما على السلطان السياسي في إيطاليا - قد أوقعت بأريتسو هزيمة منكرة عند كمبلدينو Campaldino (1189) وهي المعركة التي حارب فيها دانتي؛ فلما حل عام 1340 نفى جميع الجبليين الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسبعين من بلدة أريتسو، ثم خضعت تلك البلدة نفسها نهائياً لحكم فلورنس في عام 1384. وكانت أريتسو هذه هي البلدة التي ولد فيها ماسناس Maccenas في الزمن القديم، وهي التي شهدت في القرنين لخامس عشر والسادس عشر مولد جيورجيوفاسارى Giorgio Vasari الذي أذاع شهرة النهضة، وبيترو أريتينو Pietro Aretino الذي حط من شأنها وقتاً ما، وانجبت كل بلدة في إيطاليا في ذلك العهد عبقرياً من العباقرة ثم نفته منها.

وهرول السيد بتراتشيو نحو الشمال في عام 1312 ليرحب بالإمبراطور هنري السابع الذي كان يرجى في ذلك الوقت أن ينقذ إيطاليا أو في القليل من فيها من الجبليين. ولم يكن بتراتشيو في ذلك العام يقل عن دانتي أملا وثقة في المستقبل، فنقل أسرته إلى بيزا Pizaa وانتظر فيها القضاء على الجلفيين الفلورنسين.

وكانت بيزا لا تزال حتى ذلك الوقت من بين مفاخر المدن الإيطالية. نعم إن تدمير أسطولها على يد اهل جنوى في عام 1284 قد أفقدها بعض أملاكها، وانقص تجارتها، وأن النزاع الذي قام بين الجبليين والجلفيين داخل أسوارها لم يترك لها من القوة ما تستطيع أن تفلت به من قبضة فلورنس التجارية صاحبة النزعة الاستعمارية، والتي كانت تتوق إلى السيطرة على نهر الآرنو حتى مصبه. ولكن أهلها البواسل كانوا يزهون بكنائسها الرخامية الفخمة، وابراجها المزعزعة، ومقابرها الشهيرة، وذلك الحقل المقدس Campo Santo الذي ملئ مربعه الأوسط بثرى الأرض المقدسة، والذي زينت جدرانه بعد قليل من ذلك الوقت بمظلمات من صنع تلاميذ جيتو Gitto واللورندستي Lorenzetti، والذي خلدت قبوره المزدانة بالتماثيل ذكرى الموتى من الأبطال أو الأسخياء وإن لم يدم هذا التخليد إلا إلى حين. وفي جامعة بيزا عكف المشترع البارع بارتولوس Bartolus الساسوفرتووى of Sassoferrato بعد إنشائها بزمن وجيز على تعديل القانون الروماني ليوائم حاجات العصر الذي كان يعيش فيه، ولكنه صاغ علم القانون في عبارات غريبة حمل عليه من أجلها بترارك وبوكاتشيو حملة شعواء. ولعل بارتولوس قد رأى من الحكمة أن تكون لغة القانون غامضة لأنه كان يبرر قتل الطغاة المستبدين، وينكر على الحكومات مصادرة أملاك الناس إلا بعد الإجراءات القانونية الواجب اتباعها في مثل هذه الأحوال(1).

وتوفي هنري السابع (1313) قبل أن يقرر هل يكون إمبراطوراً رومانياً أو لا يكون. وابتهج جلفيو إيطاليا بوفاته، ورأى السيد بتراتشيو أنه غير آمن على نفسه في بيزا فهاجر منها هو وزوجته وابنته إلى أفنيون القائمة على ضفة نهر الرون حيث كان البلاط البابوي قد اقيم من عهد قريب، وحيث كانت التجارة آخذة في الأتساع السريع، فأتاحا فرصاً ثمينة للمحامي البارع في مهنته. وركبت الأسرة سفينة شراعية سارت بمحاذاة الساحل إلى جنوى، ولم ينس بترارك قط ما كان يتجلى أمامه من مناظر ساحل الرفييرا الإيطالي الرائعة - من مدن كأنها التيجان على هامات جبال تنحدر إلى بحار زرقاء مخضرة، يقول فيها الشاعر الشاب: ((إنها أشبه بالسماء منها إلى الارض))(2). ووجدت الأسرة بلدة أفنيون مليئة باصحاب المراتب العالية، فانتقلت منها إلى كاربنتراس Carpentras التي تبعد عنها نحو خمسة عشر ميلا نحو الشمال (1315)، وقضى فرانتسكو في هذه البلدة الثانية أربع سنين سعيداً في تواكله وعدم مبالاته بما يحيط به. وانتهت هذه السعادة حين أرسل إلى منبلييه (1319-1323)، ومنها إلى بولونيا (1323-1326) لدراسة القانون.

وكان من شأن بولونيا أن تسره، فقد كانت مدينة جامعية، مليئة بمرح الطلاب ومجونهم، يغمرها جو التعليم، وتحمس التفكير الحر المستقل. وفي هذه المدينة كانت تدرس في هذا القرن الرابع عشر أولى مناهج التشريح الآدمي، وكانت فيها استاذات من النساء بلغت بعضهن - مثل نوفيلادندريا Novella d'Andrea (المتوفاة عام 1366) - من الجاذبية حدا جعل الرواة يصفونها - وصفا خياليا بلا شك - بأنها كانت تحاضر من تحت قناع لئلا يشغل الطلاب بجمالها عن عملها. وكانت بلدية بولونيا من أوليات البلديات التي ألقت عن كاهلها نير الإمبراطورية الرومانية المقدسة وأعلنت استقلالها بشئونها. وكانت منذ ذلك العهد البعيد وهو 1153 قد اختارت محافظها وظلت قرنين كاملين محافظة على حكومتها الديمقراطية، ولكنها منيت في عام 1325، وبترارك مقيم فيها، بهزيمة ساحقة على يد مودينا Modena لم يسعها إلا أن تضع نفسها تحت حماية البابوية، فلما حل عام 1327 ارتضت أن يكون قس معين من قبل البابا حاكما لها، ونسجت حول هذه الفترة من تاريخها كثير من القصص المريرة.

وكان بترارك يحب الروح السائدة في بولونيا، ولكنه كان يبغض حرفية القانون: " وكان مما يتعارض مع ميويى ويؤلمني أن أحصل فنا لا أربد ان امارسه ممارسة غير شريفة، ولا أستطيع أن أمارسه بغير هذه الطريقة "(2). وكل ما كان يعنى به في الرسائل القانونية هو " ما كان فيها من إشارات يخطئها الحصر للعصر الروماني القديم ". ولهذا فإنه بدلا من أن يدرس القانون قرأ كل ما استطاع أن يجده من كتابات فرجيل، وشيشرون، وسنكا. وفتح هؤلاء أمامه عالما جديداً في الفلسفة والفن الادبي، وشرع يفكر كما يفكرون، ويتوق إلى أن بكتب كما يكتبون، ولما توفى أبواه (1326) هجر دراسة القانون، وعاد إلى أفنيون وألقى بنفسه في غمار الشعر القديم وآداب الغرام.

ويقول إن يوم الجمعة الحزينة هو اليوم الذي وقعت عيناه على المرأة التي كانت مفاتنها المتمنعة هي التي جعلته أشهر شعراء عصره. وقد وصفها وصفاً مفصلاً يفتتن به قارئه، ولكنه حرص على الاحتفاظ بسرية شخصيتها حرصاً حمل أصدقائه على الظن أنها من مبتكرات خياله الشعري، وأن كل ما يبثها من عاطفة إنما هو من قبيل التسامح الشعري لا أكثر.

ولكننا لا يزال في وسعنا أن نرى على الصفحة الاولى من نسخته الخاصة من ديوان فرجيل، التي تحرص مكتبة أمبروز بميلان على الاحتفاظ بها وتعدها من أثمن كنوزها، لا نزال نرى الألفاظ التي كتبها بخطه في عام 1348 بنصها: في سنة 1327 من ميلاد المس، وفي اليوم السادس من شهر إبريل، وفي الساعة الاولى، وقعت عيناي في كنيسة القديسة كلارا Santa Clara بأفنيون على لورا Laura التي تمتاز بفضائلها، والتي ذاعت شهرتها في أغاني. وفي تلك المدينة نفسها، وفي الشهر نفسه، وفي اليوم السادس بعينه، وفي الساعة الاولى ذاتها، من عام 1348 احتجب هذا الضوء من نهارنا.

ترى من كانت لورا هذه؟ لقد سجلت في أفنيون في اليوم الثالث من أبريل عام 1348 وصية أوصت بها سيدة تدعى لوراده ساد Laura de Sade زوجة الكونت هيوج ده ساد Hugue de Sade التي ولدت له أثنى عشر طفلاً. وأكبر الظن إن هذه السيدة هي التي كان يهيم بها الشاعر، وكان زوجها من الأسلاف الأبعدين لأشهر رجل سادي في التاريخ. وتصف الرواية المأثورة نقشاً دقيقاً يعزى إلى سيمون مرتينى Simone Martini محفوظ الآن بمكتبة فلورنس بأنه صورة لورا محبوبة بترارك، والصورة ذات وجه جميل رقيق، وفم ظريف، وأنف مستقيم، وعينين ناعستين توحيان بالتواضع والتفكير. ولسنا نعرف أكانت لورا قد تزوجت أم كانت أما شابة حين وقعت عليها عين بترارك أول مرة.

ومهما يكن من أمرها فإنها تلقت هيامه بها في هدوء، وأبعدته عنها، وشجعته في هيامه بها بتمنعها وصدودها. ويدلنا على ما كان في عاطفته نحوها من إخلاص في بعض الأحيان تأنيب ضميره له لما كان في هذه العاطفة من عنصر شهواني، وحمده الله على كل ما كان لعدم استجابتها لحبه من أثر في تهذيب هذا الحب والسمو به.

وكان في هذه الأثناء يعيش في بروفانس، بلاد شعراء الفروسية الغزلين، وكان صدى أغانيهم لا يزال يتردد في أفنيون، وصار بترارك، كما صار دانتي من قبله بجيل من الزمان من هؤلاء الشعراء الغزلين على غير علم منه، يعبر عن عاطفته بألف حيلة وحيلة من الحيل الشعرية. وكان قرض الشعر وقتئذ من أسباب اللهو الشائعة. وقد بلغ من شيوعه أن شكا بترارك في إحدى رسائله من أن المحامين، ورجال الدين، بل وخادمه الخاص نفسه قد عمدوا كلهم إل قرض الشعر، ويقول إنه يخشى ألا يمضى وقت طويل حتى "تشرع الماشية نفسها أن تخور شعراً " (3). وقد ورث عن بلاده بحر الأغاني، وربط بينه وبين الشعر المقفى العسير الذي ظل مائة عام يشكل الشعر الإيطالي ويقف في سبيله، وألف في خلال الإحدى والعشرين السنة التالية، وهو سائر على ضفاف الجداول، أو بين التلال، أو راكع خاشع أثناء صلوات المساء أو القداس، يتحسس طريقه بين صيغ الأفعال والصفات، في سكون حجرته، تقول إنه ألف في خلال هذه السنين سبع أغان ومائتي أغنية، وقصائد أخرى متنوعة عن لورا الحية الولود. وجمعت هذه الأغنيات والقصائد في نسخ مخطوطة وسميت الكندسنير Canzoniere أو كتاب الأغاني، فأثارت خيال شباب إيطاليا، ورجالها، ورجال الدين فيها. ولم ير أحد حرجا في أن مؤلفها، حين لم يجد طريقا للرقى إلا طريق الكنيسة، قد تيفخ%-@أي حلق شعر اليافوخ وهو كناية عن أنه انتظم في سلك رجال الدين. (المترجم)@

وانتظم في المراتب الصغرى من مراتب الكنيسة، وأخذ يسعى للحصول على الرتب الكهنوتية.وأما لورا نفسها فلعلها قد اعتراها الخجل، واهتزت مشاعرها- حين سمعت أن شَعرها، وأنفها، وشفتيها... كانت يتغنى بها من البحر الأدرياوي إلى نهر الرون. ولم يحدث قط من قبل فيما أنقذ من الضياع من أدب العالم أن عبر إنسان عن عاطفة الحب هذا التعبير الكامل المختلف الأنواع أو بمثل هذه الأساليب الشعرية التي بذل فيها الكثير من الجهد والعناء، ففيه نجد كل تلك الأوهام المتكلفة الظريفة المنبعثة عن الرغبات المصوغة شعراً، ونجد شعلة الحب الملتهبة قد شذبت تشذيبا عجيبا حتى احتواها الوزن والقافية. وفي هذا يقول الشاعر نفسه: "ما من صخرة، مهما بردت، إلا ستشتعل من هذه الساعة وتحترق تحسراً إذا مستها أغاني ".

ولكن الشعب الإيطالي قد تلقى هذه المعاني الحلوة مصوغة في أروع ما عرفته لغته من الأنغام الموسيقية: رقيقة، ظريفة، منسجمة، مزدانة بالخيال الساطع الوقاد، الذي يبدو دانتى بازائه في بعض الأحيان خشناً فجاًّ، فها هي ذي الآن تلك اللغة الفخمة المجيدة التي انتصرت فيها الحركات على الحروف الساكنة، قد بلغت الآن درجة سامية من الجمال لم ترق إليها لغة ما إلى يومنا هذا. إن في وسع الأجنبي الذي ليس من أهل هذه اللغة أن يترجم ما فيها من الأفكار، ولكن منذا الذي يستطيع أن يترجم ما فيها من موسيقى؟ :

في أية مملكة ذات سناء، بل في أي ميدان من ميادين الفكر المتألق

عثرت الطبيعة على النموذج الذي صاغت على مثاله

هذه الصورة الرقيقة الباهرة التي تمثل هنا

على ظهر الأرض ما صنعته الطبيعة في السماء؟

وأية حورية من ساكنات عيون الماء، وأية روح من أرواح الحراج

نشرت مثل هذه الذؤابات الذهبية

على متن الهواء؟ وأي قلب عرف أمثال هذه الفضائل؟

وإن كانت أكبر فضائلها قد انطوت على موتى

إن من لا يتطلع إلى عينيها اللتين اكتمل فيهما الجمال

إنما يبحث عن الجمال السماوي بلا جدوى،

ومن لا يرى هاتين المقلتين النيرتين الزرقاوين تشعان الضياء

لا يعرف كيف يذعن الحب ويصد

وليس يعرف حلو أنفاسها إلا من عرف

حلو حديثها وضحكها

ولقد هيأت لبترارك قصائده، وفكاهته المرحة، وإحساسه المرهف بالجمال في المرأة وفي الطبيعة، وفي السلوك، والآداب، والفنون، مكاناً في المجتمع المثقف، ولم يكن تنديده بأخلاق رجال الدين في أفنيون ليمنع عظماء هؤلاء الرجال من أمثال الأسقف جياكو موكولنا Giacomo Colonna أو أخاه الكردنال جيوفني كولنا أن يعرضا عليه ضيافتهما ومناصرتهما. وقد فعل ما تفعله الكثرة الغالبة منا فاستمتع وغفر قبل أن يمل ويلعن، فقد كان يلهو مع محظية له بين الفترات التي ينشد فيها أغانيه للورا. وولد له طفلان غير شرعيين. ووجد متسعاً من الوقت للأسفار، وجمع فيما يظهر مالا موفوراً، فنحن نجده في باريس عام 1331، ثم نجده بعدئذ في فلاندرز وألمانيا، ثم في روما عام 1336 يحل ضيفاً على آل كولنا Colonna. وقد تركت خرائب سوق روما الكبرى أعمق الأثر في نفسه، فقد كشفت له عن قوة وفخامة قديمتين لا تتفقان مع ما كانت عليه تلك العاصمة المهجورة في العصور الوسطى من فقر وقذارة، وألح على خمسة من البابوات متعاقبين أن يتركوا أفنيون ويعودوا إلى روما، وإن كان هو نفسه قد غادر روما وعاد إلى أفنيون.

وعاش سبع سنين بين أسفاره في قصره الكردنال كولنا في هذه المدينة الثانية، كان يجتمع فيها بأظرف العلماء، ورجال الدين. والمحامين وحكام إيطاليا وفرنسا، وإنجلترا، ويوحي اليهم ببعض تحمسه للآداب القديمة. ولكنه كان يُغضبه ما في أفنيون من فساد ورِشا وخصام رجال الدين، وما يستمتعون به من فراغ منهك قاتل، واختلاط الكرادلة والسراري، و النزول بالمسيحية إلى الشئون الدنيوية. فلما كان عام 1337 ابتاع له منزلا صغيراً في فوكلوز Vaucluse "الوادي المغلق "- الذي يبعد عن أفنيون عشرين ميلاً جهة الشرق. ويجتاز الإنسان مناظر فخمة ذات روعة ليصل إلى ذلك المكان المنعزل، فلا يتمالك نفسه من الدهشة حين يشهد كوخاً صغيراً قائماً أمام صخرة تعلوها أجراف شامخة وعرة، ولكنه يلاطفه انسياب نهر السورج Sorgue الهادئ الرجراج. ولم يستبق بترارك روسو إلى التسامي العاطفي بحبه فحسب، بل استبقه فوق ذلك إلى المتعة التي كان يستمدها من المناظر الطبيعية. انظر مثلا إلى ما كتبه إلى صديق له يقول : " ألا ليتك تعرف ما أحس به من البهجة وأنا أجول، حراً وحيداً، بين الجبال والغابات، ومجاري الماء ". وفي عام 1336 ضرب المثل لغيره من السياح بأن تسلق قمة فنتو Ventoux (التي تعلو 6214 قدماً) لا لشيء إلا الرياضة، واجتلاء ما حولها من المناظر، وما يشعر به المنتصر من زهو وخيلاء. وكان وهو في فوكلوز في ذلك الوقت يرتدي زي الفلاح العامل، ويصيد السمك في الغدير، ويرتاض في حديقتين، ويقنع " بكلب واحد وخادمين لا أكثر ". ولم يكن يندم على شئ (لأن هيامه بلورا قد انصرف في أشعار الصيد) إلا على شدة بعده عن إيطاليا وشدة قربه من أفنيون. ومن هذه البقعة الصغيرة من الأرض أثار بترارك نصف العالم الأدنى. وكان يجب أن يكتب الرسائل لأصدقائه، وإلى البابوات والملوك، والأموات من المؤلفين، وإلى الأبناء الذين لم يولدوا بعد. وكان يحتفظ بصور من هذه الرسائل، ولما تقدمت به السن كان يسلس كبرياءه بمراجعتها وإعدادها للنشر بعد وفاته. وتعد هذه الرسائل المصوغة في لغة لاتينية جزلة، ولكنها تضاهي لغة شيشرون، أهم ما بقى من آثار قلمه. وقد وجه في بعضها إلى الكنيسة نقداً بلغ من شدته أن أبقاها سراً فلم تنشر إلا بعد أن مات وأصبح آمناً على نفسه. ذلك أنه وإن قبل في إخلاص، كما يبدو للعيان، عقائد الكنيسة الكاثوليكية كاملة، كان يقيم بروحه مع الأقدمين: فكان يكتب إلى هوميروس، وشيشرون، وليفي، كأنهم رفاق له أحياء، ويتحسر لأنه لم يولد في أيام البطولة، أيام الجمهورية الرومانية. وكان من عادته أن يطلق اسم ليليوس Laelius على واحد ممن يراسلهم، وأسم سقراط على واحد آخر. وقد أوحى إلى أصدقائه أن يبحثوا عن المخطوطات الضائعة في الآداب اللاتينية واليونانية، وأن ينقلوا النقوش القديمة، ويجمعوا المسكوكات القديمة، لأنها وثائق تاريخية قيم. وحث ولاة الأمور على أن ينشئوا دور الكتب العامة. وكان يجعل نفسه قدوة فيعمل بما يدعو إليه: فكان في أسفاره يبحث عن النصوص الأدبية القديمة ويبتاعها لأنها "تجارة أعظم قيمة من كل ما يعرضه العرب أو أهل الصين " (6)، وينقل بخط يده المخطوطات التي لا يستطيع شراءها، ولما عاد إلى موطنه استأجر النساخين وأسكنهم معه في داره. وكان يزدهي بنسخة من هوميروس أرسلت إليه من بلاد اليونان، ورجا مرسلها أن يبعث اليه بنسخة من مؤلفات يوربديز. وكان يصحب معه أينما رحل النسخة التي لديه من أشعار فرجيل، ويسجل على الصفحة الأولى منها الحوادث البارزة في حياة أصدقائه. ولسنا ننكر أن العصور الوسطى قد حافظت على كثير من الآداب الوثنية القديمة، وأن بعض الدارسين في تلك العصور قد أولعوا بهذه الآداب، ولكن بترارك عرف من إشارات عثر عليها في هذه المؤلفات أن روائع لا حصر لها قد نسيت أو وضعت في غير المكان اللائق بها، وجعل همه الكشف عنها.

ويسميه رينان Renan "أول الرجال المحدثين " لأنه "خلق في العالم الغربي اللاتيني حنيناً رقيقاً إلى الثقافة القديمة "(7). على أن هذا الوصف لا يكفي لتحديد معنى "الحداثة " التي لم تكتف بإعادة الكشف عن أدب العالم القديم، بل أحلت الأدب الطبيعي محل الأدب الخارق للطبيعة، وجعلته مصدر اهتمام بني الإنسان. وبهذا المعنى أيضا يستحق بترارك أن يوصف بالرجل "الحديث "، فهو وإن كان نقياً معتدلاً في تقواه يُحيره في بعض الأحيان ما يحدث للإنسان في الدار الآخرة، فإن ما بعثه من الاهتمام بالعالم القديم كان هو منشأ اهتمام عصر النهضة بحياة الإنسان على هذه الأرض، وعدم تحريم الملاذ الحسية، وتمجيد الحياة الدنيوية بدلا من الخلود الشخصي. على أن بترارك لم يكن يخلو قلبه من العطف على وجهة نظر العصور الوسطى، وقد أنطق في محاوراته عن احتقار الدنيا De Contemptu Mundi القديس أوغسطين بشرح جيد لهذه النظرة. ولكنه وضع نفسه في هذه الأحاديث الخيالية موضع المدافع عن الثقافة الزمنية والشهرة الدنيوية. وكانت هوة سحيقة تفصل بين مزاجي دانتي وبترارك وإن كان ثانيهما قد بلغ السابعة عشرة من عمره حين توفى أولهما. والنقاد مجمعون على أنه أول الكتاب الإنسانيين، وأول كاتب عبر في وضوح وقوة عما للإنسان من حق في الاهتمام بهذه الحياة الدنيا، وفي الاستمتاع بما تحتويه من جمال، وبذل الجهد في زيادته. والعمل على أن يستحق الثناء من الأجيال المقبلة، وقصارى القول أنه كان أبا النهضة.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني: نابلي وبوكاتشيو

وبدأ بترارك في فوكلوز القصيدة التي كان يرجو بها أن ينافس فرجيل، و هي ملحمة سماها أفريقيا Africa، وموضوعها تحرير إيطاليا بفضل انتصار اسكبيو الأفريقي على هنيبال. واختار اللغة اللاتينية واسطة لها كما اختارها الكتاب الإنسانيون بعد قرن من ذلك الوقت، ولم يختر اللغة الإيطالية كما فعل دانتي، لأنه كان يريد أن يفهمه كل العالم الغربي الذي يعرف القراءة والكتابة. وكان يزداد ارتياباً في قيمة قصيدته كلما تقدم في نظمها، ولهذا فإنه لم يتمها، ولم ينشرها. وبينما كان منهمكاً في شعره السداسي الأوتاد، كان كتاب أغانيه الإيطالية ينشر شهرته في طول إيطاليا وعرضها، وأذاعت ترجمة له شهرته في فرنسا. ثم وصلته في عام 1340 دعوتان- كانت له هو يد في توجيههما اليه- إحداهما من مجلس الشيوخ الروماني والأخرى من جامعة باريس-تطلبان إليه القدوم إليهما ليتوج فيهما أميراً للشعراء، فقبل دعوة مجلس الشيوخ كما قبل اقتراح ربرت الحكيم Robert the Wise أن يقيم بعض الوقت في نابلي وهو في طريقه إلى روما.

وأعطيت مملكة فردريك الثاني بعد هزيمته هو وآل هوهنشتوفن بقوة جيوش البابوات ودهائهم السياسي، وكانت تشمل جميع إيطاليا الممتدة جنوب الولايات البابوية - نقول أعطيت هذه المملكة إلى بيت أنجو الذي كان يمثلهم شارل كونت بروفانس. وحكم شارل تلك البلاد بوصفه ملك نابلي وصقلية. ثم انتزع بيت أرغونة صقلية من ابنه شارل الثاني. وكسب ابنه ربرت لقب الحكيم لكفايته، وحسن تصريفه لشئون الحكم، ومهارته الدبلوماسية، ومناصرته للآداب والفنون الراقية، وإن كان قد أخفق في الحرب التي شنها لاستعادة صقلية. لقد كانت مملكته فقيرة في الصناعة، وكانت الزراعة يسيطر عليها ملاك قصيروا النظر يستغلون الزراع كما يستغلهم الملاك الآن استغلالا يكاد يدفعهم إلى الثورة. ولكن تجارة نابلي كانت تدر على بلاط الملك دخلا جعل القصر الجديد Castel Nuovo لا تنقطع منه حفلات الزواج سبيلا إلى الخراب، كما أضحى سباق الزوارق الذي يقام من آن إلى آن مصدر البهجة في خليج نابلي ذي الشهرة التاريخية العظيمة. وفي ميدان المدينة نفسها كان الشبان ذوو الجرأة يثاقفون في ألعاب البرجاس الخطرة بينما كانت السيدات المتوجات يبتسمن لهم من الشرفات المزدانة بالأعلام. وكانت الحياة في نابلي سارة طيبة، والآداب والأخلاق العامة سهلة طليقة، والنساء حساناً لا يصعب منالهن. وقد وجد الشعراء في هذا الجو المليء بالتبذل والغرام كثيراً من الموضوعات لشعرهم ومن الحوافز الدافعة لقرض الشعر. وكانت هذه البيئة هي التي كونت يوكاتشيو.

وكان يوكاتشيو قد بدأ حياته في باريس. وكان مولده ثمرة غير مقصودة لاتفاق حبي بين أبيه- وهو تاجر فلورنسي-وفتاة فرنسية لا يعرف اسمها على وجه التحقيق، وأخلاقها موضع للريبة(9). ولعل مولده غير الشرعي، وأصله النصف الفرنسي، قد تعاونا على تكييف أخلاقه وتاريخ حياته. وجئ به وهو طفل إلى تشر تلدو Certaldo القريبة من فلورنس حيث قضى طفولة غير سعيدة مع زوجة أبيه، ثم أرسل وهو في العاشرة من عمره إلى نابلي (1323)، حيث أعد الحياة المال والتجارة، وفيها سرى في نفسه كره حياة المال والتجارة، كما سرى في نفس بترارك كرهُ القانون، وجهر بأنه يفضل عليها الفقر والشعر، وانهمك في قراءة أوفد، وأعجب أشد الإعجاب بـ التحولات والهيرودات، و حفظ عن ظهر قلب الجزء الأكبر من فنون الحب الذي يقول فيه:

»إن أعظم الشعراء جميعاً يكشف كيف يمكن أن تلتهب نار فينوس المقدسة في أشد الصدور برودا«(10). فلما عجز أبوه عن أن يرغمه على حب المال أكثر من الجمال أجاز له أن يترك الأعمال التجارية والمالية على شريطة أن يدرس القانون الكنسي. ووافق يوكاتشيو على هذا الشرط ولكن عقله كان قد نضج للكتابة في الغرام.

وكانت أكثر النساء مرحاً في نابلي هي مارية داكوينو Maria d'Aquino وهي ابنة غير شرعية للملك الحكيم(11). ولكن زوج أمها قبل أن تكون ابنته. وتعلمت الفتاة في دير للنساء، ثم تزوجت وهي في الخامسة عشرة من عمرها بكونت أكوينو ولكنها لم تجد فيه ما يفي بحاجتها، فشجعت عدداً من العشاق واحداً بعد واحد لكي يسدوا ما تجده من نقص، وينفقوا ما لهم في ترفها وزينتها. وأبصرها بوكاتشيو أول مرة في قداس سبت النور (1331)، بعد أن مرت أربعة من أعياد الفصح على العيد الذي كشف فيه بترارك لورا في ظروف مواتية مقدسة شبيهة بهذه الظروف. وبدت له أجمل من أفرديتي Aphrodite، »فلم يكن في العالم كله أجمل من شعرها الأشقر، ولا شئ أكثر إغراء من عينيها الخبيثتين«، وأطلق عليها أسم فيامتا Fiammetta-اللهب الصغير- وكان يتوق لأن يحرق نفسه بنارها. ونسى في هيامه بها القانون الكنسى، وانمحى من ذاكرته كل ما حفظه في حياته من الوصايا، وقضى شهوراً طوالا لا يفكر إلا في الطريقة التي تقربه منها. وكان يذهب إلى الكنيسة منفرداً لعله يراها فيها، ويذرع الشارع المقابل لنافذتها غادياً رائحاً، ورحل ينتظر حتى فرغت من المال جيوب غيره، ثم سمحت له أن يتغلب عليها. وقضت معه عاماً كلفه المال الكثير وأضعف من حدة شهوته، وشرعت هي تشكو من أنه يتطلع إلى غيرها من النساء، هذا إلى أن موارده المالية قد نضب معينها فأخذت الشعلة الصغيرة تبحث عن موارد للمال جديدة، وانزوى بوكاتشيو في زوايا الفقر.

وأكبر الظن أنه كان قد قرأ لبترارك كتاب الأغاني ولدانتي كتاب الحياة الجديدة Vita Nuova، و شاهد ذلك أن قصائده الأول كانت كقصائدهما أغاني مفعمة بالحنين، والحرقة، والهيام الشديدة. وكانت كثرتهما موجهة إلى فيامتا. ومنها عدد قليل يصف هياماً أقل من هذا الهيام لوعة. وكتب فيها رواية نثرية مملة تدعى فيلوكوبا اقتبسها من إحدى روايات العصور الوسطى الغرامية وهي الزهرة والزهرة البيضاء. وكان أجمل منها قصة فيلوستراتا التي روى فيها في شعر رائع متألق كيف أقسمت كريسيدا Criseida أن تكون وفية لترويلس Troilus طوال حياتها، وكيف أسرها اليونان، وكيف أسلمت نفسها بعد قليل من الوقت إلى ديوميد Diomed بحجة أنه » فارع الطول، قوي، جميل« وأنه سهل المنال. وأختار بوكاتشيو أداة له الموشحات ذات الثمانية الأبيات Ottava Rima التي كانت مثالا احتذاه بلتشى Pulci وبوياردو Boiardo، وأريستو Ariosto. وهي قصة شهوانية سافرة مؤلفة من 5,400 بيت من الشعر، تصل إلى ذروتها حين » تطرح كريسيدا ثيابها وتلقى بنفسها وهي عارية في أحضان حبيبها«(12). ولكن القصة إلى هذا دراسة نفسانية رائعة لصنف من النساء-خائن في قلة، مغرور في مرح، وتختم بعبارات أضحت الآن واسعة الانتشار في التمثيليات الغنائية. » إن الفتاة الشابة طائشة، تشتهى كثيراً من العشاق، تقدر جمالها أكثر مما تنبئها به مرآتها، مختالة فخورة ... لا تعرف كنه الفضيلة ولا الذكاء، قلقة على الدوام كالريشة في مهب الريح«.

وكأنما أراد بوكاتشيو أن يقضى على تمنع فيامتا بوطأة الشعر لا غير، فأهدى إليها بعد قليل من الوقت ملحمة شعرية يبلغ طولها طول الإلياذة تماماً. وتروى هذه الملحمة ما وقع من التنافس الدموي بين أخوين هما باليمون Palemon وارتشيتى Arcite بسبب حبهما لإميليا Emilia، ثم موت الذي انتصر منهما في أحضان حبيبته، ثم قبولها المهزوم بعد التريث الواجب. غير أن حب الأبطال نفسه يهن بعد نصف أبيات القصة البالغ عددها 9896، وفي وسع القارئ الإنجليزي أن يقنع بالموجز المحكم الذي وضعه تشوسر Chaucer لهذه القصيدة في قصة الفارس.

وغادر بوكاتشيو نابلي إلى فلورنس في أوائل عام 1341. وبعد شهرين من ذلك الوقت قدم بترارك إلى بلاط الملك ربرت، وتفيأ بعض الوقت ظلال هذا المليك، ثم سار في طريقه يبحث عن تاج أمير الشعراء في روما.


الفصل الثالث: شاعر البلاط

وكانت روما عاصمة العالم بلداً خليقاً بالرثاء، فقد غادرتها البابوية إلى أفنيون منذ عام 1309، ولم يبق فيها من الموارد الاقتصادية ما يفي حتى بذلك المجد الوسط الذي عرفته تلك المدينة في القرن الثالث عشر، ولم تعد تتلقى تلك الثروة التي كانت تنساب من ألف أبرشية موزعة في نحو اثنتي عشرة دولة. كذلك لم تكن للسفارات الأجنبية قصور فيها، وقلما كان يظهر فيها وجه كردنال بين خربات الإمبراطورية والكنيسة. ولم يكن ما أصاب الأضرحة المسيحية من دمار ليقل عما أصاب الصروح القديمة المعمدة، وكان الرعاة يسرحون بقطعان الماشية على سفوح التلال السبعة، والمتسولون يجوبون شوارع المدينة. وقطاع الطرق واللصوص يكمنون في الطرق العامة، والزوجات يُختطفن من أزواجهن. والراهبات يُغتصبن، والحجاج ينهبون، وكل من في المدينة يحمل السلاح(13). وكانت أسر الأشراف القديمة-آل كولنا، وأرسينى، وسافلي، وأنيبالدى، وجيتانى، وفرنجيبانى- تتنازع فيما بينها، وتلجأ إلى العنف تارة وإلى الدسائس والمكائد تارة أخرى، للظفر بالسيادة السياسية في مجلس الشيوخ الألجاركى الذي كان يحكم روما. وكانت الطبقات الوسطى قليلة ضعيفة، وجمهرة الشعب خليطا مهوشاً من عشرات الشعوب يعيشون على حال من الفقر المدقع يشل كل قواهم ولا يبعث فيهم أقل رغبة في حكم أنفسهم بأنفسهم. وقد تدهورت قبضة البابوية الغائبة على المدينة فلم تعد أكثر من سلطة اسمية نظرية لمندوب بابوي لا يعنى أحد بشأنه.

وبين هذه الفوضى والفاقة كانت الآثار المحطمة لعصر قديم مجيد تغذى رؤى العلماء وأحلام الوطنيين. فكان الرومان يعتقدون أن ستعود روما في يوم من الأيام حاضرة العالم الروحية والسياسية، وأن البرابرة المقيمين وراء الألب سيرسلون إليها الجزية والزكاة. وكان لا يزال في وسع الرجال يقيمون في مناطق متفرقة من المدينة أن يجدوا لديهم فضلة من المال يناصرون بها الفن: فقد زين بيتروكفليني Pietro Cavallini كنيسة القديسة تشيتشيليا مدرسة رومانية لرسوم المظلمات تكاد تضارع في أهميتها مدرسة دتشيو Doccio في سينيا أو مدرسة جيتو Giotto في فلورنس. بل إن روما في شدة بؤسها وفقرها لم تخل من الشعراء الذين أنساهم ماضيها المجيد حاضرها البئيس. فبعد أن عادت بدوا Padua وبراتو Prato سنة دومتيان التي كانت تقضى بوضع إكليل على جبهة شاعر محبوب، رأى مجلس الشيوخ أن مما يتفق مع مكانة روما التقليدية بوصفها أولى المدائن الإيطالية أن تتوج الرجل الذي أجمعت الآراء على أنه حامل لواء الشعراء في أمته وعصره.

وتنفيذاً لهذا العزم سار موكب بهيج من الشباب و الشيوخ في اليوم الثامن من إبريل عام 1341 يرافق بترارك وقد ارتدى المئزر الأرجواني الذي خلعه عليه الملك ربرت حتى وصل إلى سلم الكبتول. وهناك وضع تاج من الغار على رأسه. وقام الشيخ استفانو كولنا الطاعن في السن بإلقاء خطبة أثنى فيها عليه جماً. ومن ذلك اليوم كسب بترارك شهرة جديدة وأعداء جدداً، فأخذ منافسوه ينتفون تاجه بأقلامهم، ولكن الملوك والبابوات رحبوا به في بلاطهم، وسرعان ما وضعه بوكاتشيو في مصاف " الأقدمين النابهين "، وأعلنت إيطاليا وهي مزهوة بما بلغه من الصيت أن فرجيل قد ولد مرة أخرى.

ترى أي رجل كان بترارك في ذلك الوقت الذي بلغ فيه ذروة مجده؟ لقد كان في شبابه بهي الطلعة وسيما، يختال بجمال منظره وثيابه، وكان حين كبر يسخر من حرصه الشديد على العناية بمظهره وملابسه وعقص شعره، وضغط قدميه في حذاءين جميلي المنظر. ولما بلغ سن الكهولة سمن وأطال الشعر على ذقنه، ولكن وجهه ظل محتفظاً بسحر رقته وحيويته. وبقى مزهواً بنفسه إلى آخر أيامه، وكان كل ما حدث في هذه الناحية من تغيير أنه أخذ يزهو بجلائل أعماله بدل الازدهاء بمنظره، لكن هذا عيب لا يسلم منه إلا أعاظم القديسين. ولولا ما يظهر في رسائله من تواضع متكلف وافتخار شريف لتضاعف ما فيها من فتنة وبهاء. وكان كسائر الناس يحب الثناء، وتتوق نفسه للشهرة، "وللخلود " الأدبي، وبذلك كان في مستهل عصر النهضة الضارب على وترها الحساس وهو التعطش إلى المجد. وكان يغار من منافسيه، ونزل من عليائه ليرد على ما يصفونه به من عيوب، وقد أثار البعض على ما بلغه دانتي من مكانة (وإن كان قد أنكر ذلك)، وارتاع من شراسة دانتي، كما ارتاع إرزمس فيما بعد من فجاجة لوثر، ولكنه كان يحس أن في عناد شاعر فلورنس وجرأته شيئاً أعمق مما يستطيع القلم الهين أن يسبر غوره. وكان وهو في ذلك الوقت نصف فرنسي في نزعته أكثر تحضراً من أن يسب نصف العالم، وكانت تنقصه العاطفة المتأججة التي رفعت سمت بإيطاليا ثم أنهكت قواها.

وإذ كان قد وهب بعض المناصب الكهنوتية، فقد كان له من الرخاء ما يحمله على ازدراء الثروة، ومن الضعف ما يبعث فيه حب الحياة الأدبية. ويقول في هذا: "ليس ثمة عبء أخف على النفس أو أحب إليها من حمل القلم. فأما غير ذلك من المتع فإنا نعجز عن نيله، أو أنه يجرحنا في الوقت الذي يسحر فيه لبناً، وأما القلم فنمسك به مغتبطين، ونلقيه راضين، ذلك أن فيه من القوة ما لا ينفع ربه وسيده وحده، بل ينفع كذلك كثيرين غيره، وإن لم يولدوا إلا بعد موت صاحبه بآلاف السنين... وكما أنه لا يوجد بين المباهج الدنيوية ما هو أسمى من الأدب، فكذلك لا يوجد بينها ما هو أبقى على الزمن، أو أرق، أو أكثر وفاء، أو ما يلازم صاحبه في جميع صروف الحياة نعيمها وشقائها، دون أن يكلفه إلا القليل من الجهد أو انشغال البال "(14).

لكنه مع هذا يحدثنا عن "أمزجته المتقلبة التي قلما كانت تسعده، والتي كانت عادة تنزع به إلى القنوط "(15). وكان لا بد له، إذا أراد أن يكون كاتباً عظيما، أن يكون مرهف الإحساس بجمال الشكل والصوت، في الطبيعة، وفي النساء والرجال على السواء، أي أنه كان عليه أن يعاني أشد مما تعانيه الكثرة الغالبة منا من صخب العالم وما فيه من تشويه. وكان يحب الموسيقى، ويجيد العزف على العود، وكان يعجب بالتصوير الجميل، ويعد سيمون مرتيني Simone Martini من بين اصدقائه. وما من شك في أن النساء كن يجتذبنه، وشاهد ذلك أنه يتحدث عنهن في بعض الأحيان بخوف لا يقل عن خوف النساك الزاهدين، ويؤكد لنا لأنه لم يتصل قط بامرأة اتصالاً جسمانياُ بعد أن بلغ سن الأربعين، ويقول في هذا: "إن قوة الجسم والعقل التي تكفى النشاط الأدبي وتكفى مع الزوجة، لا بد أن تبلغ درجة كبرى من العظم "(16).

ولم يعرض بترارك على العالم فلسفة جديدة. فقد نبذ الفلسفة الكلامية المدرسية لأن كل ما رآه فيها هو بتر وتقطيع منطقي لا جدوى منه وبعيد كل البعد عن مطالب الحياة. وتحدى القائلين بعصمة أرسطو من الخطأ، وجرؤ على تفضيل أفلاطون عنه. ورجع عن أكوناس ودنزاسكوتس إلى الكتاب المقدس وكتب آباء الكنيسة، وأحب تقوى أوغسطين وأقواله المنغمة الجميلة، كما أحب رواقية أمبروز المسيحية، بيد أنه كان يقتبس من اقوال شيشرون وسنكا بإجلال لا يقل عن إجلاله ما يقتبسه من أقوال القديسين، ويأخذ حججه عن المسيحية أكثر مما يأخذها من النصوص الوثنية.. وكان يسخر من انقسام الفلاسفة على أنفسهم ويقول إنه "لم يجد بينهم من الأتفاق أكثر مما يجده بين الساعات(17). وكان من أسباب شكواه أن "الفلسفة لا تهدف إلا إلى التقسيم والتفتيت، وإلى التنقيب عن الاختلافات والفروق، والتلاعب بالألفاظ "(18). وتلك طريقة يمكن أن تخلق أشخاصاً بارعين في النقاش والجدل، ولكنها قلما تخلق عقلاء.. وكان يسخر من درجة "الاستاذ " أو "الدكتور " التي تتوج هذه الدراسات، وعجب كيف تستطيع الحفلات أن تبدل الأبله الأحمق عالماً تحريراً. ونبذ، في ألفاظ تكاد تكون هي بعينها ألفاظ أهل هذه الأيام، التنجيم والكيمياء الكاذبة القديمة، وحلول الشياطين في أجسام الآدميين، والفأل والطيرة، وزجر الطير، ومعرفة الغيب عن طريق الأحلام، وما كان يروى في أيامه من المعجزات(19) وأوتى من الشجاعة ما استطاع به أن يثنى على أبيقور(20)، في الوقت الذي كان اسمه مرادفاً للكفر بالله. وكان من حين إلى حين يتحدث حديث المتشككين، ويجهر بهذا التشكك جهر ديكارت به ويقول : "إني لارتيابي في مواهبي ... أتقبل الشك نفسه على أنه حقيقة... فلا اوكد شيئاً، وارتاب في كل شئ إلا حيث يكون الشك تجديفاً "(21).

ويبدو أنه حين استثنى هذا كان مخلصاً في استثنائه. ذلك أنه لم يكن يجهر بأي شك في عقيدة ما من عقائد الكنيسة، فقد كان ظرفه ودماثة خلقه وراحة باله مانعة له من الإلحاد. وقد وضع كثيراً من المؤلفات التي تنطق بتقواه وخشوعه، وهو يسائل نفسه سؤال المتحير: ألم يكن خيراً له أن يشق طريقه سهلا إلى الجنة كما شقها أخوه في ظل حياة الدير الهادئة. ولم يكن يرى نفعاً في فلسفة ابن رشد الإلحادية التي كانت قريبة منه في بولونيا وبدوا، وكانت المسيحية في نظره تقدماً لا شك فيه على الوثنية، وكان يرجو أن يتبين الناس أن في وسعهم أن يتعلموا دون أن يتخلوا عن مسيحيتهم.

ورأى بترارك ان من الخير له بعد انتخاب البابا الجديد، كلمنت السادس (1342)، أن يعود إلى أفينون ليقدم له تحياته ويعرض عليه أمانيه. وجرى كلمنت على السُّنَّة القديمة سنة منح هبة- هي عبارة عن إيراد بعض أملاك الكنيسة- لمن يؤيدونها من الكتاب والفنانين، فوهب الشاعر رياسة دير بالقرب من بيزا، ثم عينه في عام 1346 أسقفاً في بارما، ثم أرسله عام 1343 في بعثة إلى نابلي حيث التقى بحاكم من اصعب حكام زمانه مراساً واقواهم شكيمة.

وكان ربرت الحكيم قد مات تواً، وورثت ابنته جونا Joanna الأولى عرشه وأملاكه ومنها ولاية بروفانس وافنيون تبعاً لذلك. وتزوجت جونا بابن عمها أندرو ابن ملك المجر إرضاء لوالدها، وظن أندرو أن من حقه أن يكون ملكاً وزوجاً معاً، فقتله لويس صاحب تارنتو عشيق جونا (1345)، وتزوج الملكة. وخلف أندرو على عرش المجر اخوه لويس فزحف بجيشه على إيطاليا، واستولى على نابلي (1348). وفرت جونا إلى أفنيون، وباعت المدينة إلى البابوية بثمانين ألف فلورين (نحو مليوني دولار)، واعلن كلمنت أنها بريئة، ووافق على زواجها، وامر الغزاة بالعودة إلى بلاد المجر. ولم يأبه الملك لويس بأمره، ولكن الموت الأسود (1348) فشا في جيشه، وأهلك كثيراً من جنوده فاضطر إلى الانسحاب. واستعادت جونا عرشها (1352)، وظلت تحكم البلاد في جو من الأبهة والرذيلة حتى خلعها البابا إربان السادس (1380)، ثم قبض عليها شارل دوق دورتسو Durazzo في العام التالي، وقتلت في عام 1382.

ولم يتصل بترارك بهذه المهزلة الدموية إلا في بدايتها أي في السنة الأولى من حكم جونا، ثم لم يلبث أن عاد إلى تجواله، وأقام فترة من الوقت في بارما، ثم في بولونيا، ثم قضى جزءاً من عام 1345 في فيرونا. وفي هذه المدينة الأخيرة، عثر في مكتبة بإحدى الكنائس على مخطوط يحوي رسائل شيشرون المفقودة لأتكس، وبروتس، وكونتس. وكان قبل ذلك قد كشف في ليبج Li?ge عام 1333 عن خطبة شيشرون المسماة Pro Archia وهي أنشودة للشعر. وكان هذا الكشفان أجل ما كشفته النهضة من الأدب القديم وأعظمها ثمرة.

وفي مقدورنا أن نعد فيرونا في أيام بترارك من أعظم القوى في إيطاليا، فقد كانت هذه المدينة تزهو بقدم تاريخها. وبملهاها الروماني (حيث لا يزال في وسع الإنسان أن يستمع في ليالي الصيف إلى التمثيليات الغنائية في الهواء الطلق)، وزادت ثروتها بفضل التجارة التي تهبط من جبال الألب وتنقل في نهر الأديج Adige. وارتقت المدينة رقياً عظيماً في عهد أسرة اسكالا حتى كادت تنتزع السيادة التجارية من مدينة البندقية، واختارت حكومة المدينة بعد موت إتسيلينو Ezzelino الرهيب (1260) مستينو دلا اسكالا Mostino della Scala حاكماً عليها، واغتيل مستينو (1277) ولكن أخاه ألبرتو Alberto الذي خلفه في الحكم ثبت دعائم حكم الاسكلجيري Scaligeri (أي "حملة السلم " وهو رمز ملائم لهذه الأسرة المصَّعَّدة)، وبدا هذا الحاكم عهد فيرونا المجيد. وفي عهده بدأ الرهبان الدمنيك يشيدون الكنيسة الجميلة كنيسة القديسة أناستاسيا Anastasia، وكشف نَسَّاخ غير ذي شأن القصائد المفقودة التي كتبها كاتلس Catullus اشهر أبناء فيرونا، وحاربت أسرة الكابلتي الجلفية Guelf، أسرة المنتشى montechi، ولم تكن هاتان الأسرتان تحلمان أنهما سوف تصبحان أسرتي الكابيولت Gapulet والمنتجيو Montagues في رواية شكسبير، وكان أقوى "الطغاة، وإن لم يكن أقلهم نبلاً، من أسرة اسكالا هو كان جراندى دلا اسكالا can Grand della Scala الذي جعل بلاطه ملجأ الجبليين المنفيين ومثابة للشعراء والعلماء، وفيه ظل دانتي عدة سنين يتمتع بالعطف المزعزع المطرد الزيادة. ولكن كان جراندى هذا اخضع فيتشندسا Vfcenza، وبدوا، وتريفيزو Treviso، وبلونو Belluno، وفلتري Feltre، وتشقدالى Cividale لسلطانه. ووجدت مدينة البندقية نفسها يتهددها خطر الإحاطة الخانقة من جميع نواحيها. ولما أن خلف كان جراندى أخوه مستينو Mastino الثاني- وكان أقل منه قوة وحماسة-أعلنت البندقية الحرب على فيرونا، وتحالفت مع فلورنس وميلان، وأرغمت فيرونا على أن تتخلى عن جميع ما فتحته من المدن عدا مدينة واحدة، وشاد كان جراندى الثاني جسر اسكاليجيرو Scalegero الفخم على نهر الأديج، وجعل له قنطرة طولها 160 قدماً، وكانت في ذلك الوقت أكبر قنطرة في العالم. واغتاله أخوه كنسنيوريو Consignorio، وحكم بعد هذا الاغتيال حكماً خيراً صالحاً، وشاد أعظم قبر مزخرف من القبور الذائعة الصيت التي دفنت أسرة اسكالا. واقتسم ابناه العرش وظلا يقتتلان إلى أن ماتا، فلما كان عام 1387 استولت دوقية ميلان على فيرونا وفيتشندسا.


الفصل الرابع: ثورة بيندسو

وعاد بترارك إلى افنيون وفوكلوز (1345-1347)، وكان ولا يزال ينعم بصداقة آل كولنا، فسره ان يعلم أن الثورة قد اشتعل لهيبها في روما، وأن ابن صاحب حانة وغسالة (22) قد انتزع السلطة من آل كولنا وغيرهم من الأشراف، وأعاد إلى الوجود الجمهورية المجيدة، جمهورية آل اسكبيو، وجراكس، وآرنلد البريتشيائي Arnold of Brescia. وكان نكولا دي ريندسو جيريني Niccola di Rienzo Gabrini الذي اختصر العامة المقتصدون في الأسماء اسمه في ذلك الوقت فجعلوه كولادى ريندسو Cola di Rinzo ثم أختصره الخلف المهملون فجعلوه ريندسى Rienzi، كان هذا الرجل قد التقى ببترارك في عام 1343، وذلك حين قدم إلى أفنيون، وهو شاب موثق، قبل ذلك الوقت بثلاثين عاماً ليطلع كلمنت السادس على ما آل اليه حال روما من البؤس، وليطلب إلى البابوية أن تمد يد المعونة للشعب الروماني ضد النبلاء المتنازعين النهابين السلابين المسيطرين وقتئذ على العاصمة. وداخلت كلمنت الشكوك في هذا الرجل ولكنه رده بعد أن نفحه بالفلورينات وشجعه بالأقوال لأنه كان يأمل في أن يستخدم هذا القانونى المتحمس في النزاع الكثير الحدوث بين البابوات والأشراف.

وأثارت خرائب روما وآدابها القديمة خيال ريندسو كما اثارت خيال بترارك، فارتدى الشملة الرومانية (Toga) البيضاء التي كان يلبسها أعضاء مجلس الشيوخ القدامى، وأخذ يتحدث إلى الرومان بحماسة لا تقل عن حماسة أبني جراكس وبلاغة لا تكاد تقل عن بلاغة شيشرون، ويشير إلى بقايا السوق الرومانية الكبرى ذات الجلال والفخامة، والحمامات الكبرى، ويذكر الرومان بالأيام الخوالي حين كان الأباطرة أو القناصل يشرعون القوانين من فوق هذه التلال ويصدرون الأوامر للمدينة وللعالم أجمع، ويدعوهم إلى الاستيلاء على زمام الحكم، وإعادة الجمعيات الشعبية، واختيار تربيون له من القوة ما يستطيع به أن يحميهم من الأشراف الغاصبين. واستمع إليه الفقراء وهم فزعون مرتاعون، وتساءل التجار هل يستطيع ذلك التربيون المرتقب أن يجعل روما مكاناً آمناً تقوم فيه الصناعة وتنشط التجارة، وسخر منه الأشراف، واتخذوا ريندسو هدفاً لمرحهم وفكاهاتهم على موائد العشاء، وتوعدهم هو بأن يختار طائفة منهم يشنقهم حين يندلع لهيب الثورة. وما كان أشد فزعهم حين اندلع لهيبها فعلا. فقد حدث في 20 مايو من عام 1347 أن جاء حشد من الرومان وازدحموا في الكبتول. وظهر ريندسو أمامهم يحف به أسقف أرفيتو نائباً عن البابا. وأعلن عودة الجمهورية، وتوزيع الصدقات على المعوزين، واختير الرجل حاكما بأمره، وأجازوا له في اجتماع آخر عقد فيما بعد أن يتخذ لنفسه اللقب الشعبي القديم- لقب تربيون. واحتج على ذلك ايتفانوكولنا عضو الشيوخ الهرم، فأمره كولا أن يخرج هو وغيره من النبلاء من المدينة. واستشاط هؤلاء الأشراف غضباً ولكنهم اضطروا إلى إطاعة الثوار المسلحين، فانسحبوا إلى ضياعهم في الريف. وأسكرت ريندسو خمرة النصر فأخذ يتحدث عن نفسه كأنه "المنقذ الأعظم للجمهورية الرومانية المقدسة " الملهم "بقوة يسوع المسيح "(23).

وكانت إدارته للشئون البلدة أحسن ما تكون الإدارة، فقد نظم أثمان المواد الغذائية ليمنع المكاسب غير المشروعة، وحفظ ما زاد من الغلال في اهراء، وبدأ العمل في تجفيف المستنقعات الموبوءة ببعوض الملاريا، وزرعت أرض كمبانيا. وانشئت محاكم جديدة لتوزيع العدالة بإنصاف لا رحمة فيه ولا هوادة، فكان يحكم على الراهب وعلى البارون بالإعدام إذا ارتكبا نفس الجرم، وشنق عضو شيوخ قديم لأنه سرق مركباً تجارياً، وقبض على القتلة الذين تستأجرهم الأحزاب المتنازعة، وأنشئت محكمة للصلح وفقت في بضعة أشهر بين المتخاصمين في 1800 نزاع. وارتاع الأشراف الذين اعتادوا أن يتصرفوا في القوانين على هواهم إذ وجدوا أنهم قد القيت على عاتقهم تبعة الجرائم التي ترتكب في ضياعهم، وفرضت على بعضهم غرامات فادحة، وسيق بيترو كولنا رغم مهابته وخيلائه إلى السجن حافي القدمين. وعرض القضاة المتهمون بالعبث بالعدالة مصلوبين في الميادين العامة، وفلح الزراع حقولهم في أمن وسلام لم يعهدوا لهما مثيلا من قبل، وكان التجار والحجاج القادمون إلى روما يُقَبَلون شعار الجمهورية التي بعثت من جديد والتي أمنت الطرق العامة بعد أن ظلت نصف قرن من الزمان مباءة لقطاع الطريق(24). ودهشت إيطاليا على بكرة ابيها مما حدث في روما من تغير وتحول، ورفع بترارك إلى ريندسو قصيدة تفيض بالثناء والاعتراف بالجميل.

واغتنم التربيون هذه الفرصة, افاد منها كما يفيد السياسي المحنك الجريء، فأرسل الوفود إلى جميع أنحاء شبه الجزيرة، ودعا المدن أن ترسل ممثليها ليتألف منهم برلمان عظيم يضم أشتات "إيطاليا المقدسة " ويحكمها على نظام البلديات المستقلة المتحدة، وتكون روما عاصمة العالم كما كانت من قبل. وتمهيداً لهذه الغاية جمع مجلساً من القضاة دعاهم من كافة أنحاء إيطاليا، وعرض عليهم السؤال الآتي: هل من حق الجمهورية الرومانية، وقد بعثت إلى الوجود، أن تستعيد جميع الامتيازات والسلطات؟ ولما أجاب المجلس عن هذا السؤال بأن ذلك من حقها، عرض ريندسو على الجمعية الشعبية قانوناً يعيد إلى الجمهورية كل هذه المنح والسلطات. ومحا هذا الإعلان الشامل مئات من الهبات، وحوادث النزول عن العروش، والتتويج، وهدد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والمدن المستقلة، وسلطة الكنيسة الزمنية جميعها. وبعثت خمس وعشرون من حكومات المدن المستقلة بممثليها إلى برلمان ريندسو، ولكن المدن الكبرى-البندقية، وفلورنس، وميلان-ترددت في النزول عن سيادتها العليا إلى دولة اتحادية. وسر كلمنت السادس من تقوى ريندسو، ومن إشراك أسقف أرفيتو معه في السلطة رسمياً, ومما أفاءه على الحجاج من حماية، ومن مشروعه الذي يرمي إلى إقامة عيد عام في سنة 1350 ينتظر أن يدر على البلدة مالا جما، ولكنه شرع يسائل نفسه: أليس هذا الجمهوري العظيم الآمال رجلا مثاليا مندفعا اندفاعا سوف يؤدي به إلى الدمار؟

ثم تحطم هذا الحلم النبيل، وكان تحطمه مثاراً للعجب والأسى معاً. ذلك أن السلطة، كالحرية، امتحان لا يجتازه بنجاح إلا من اتصف بالذكاء والرزانة والهدوء. أما ريندسو فقد بلغت قوته الخطابية مبلغاً يمنعه أن يكون من رجال الحكم الواقعيين. وأصبح يؤمن بعباراته الخلابة، ووعوده، ومطالبه، وسمت عقله أقوالُه المنمقة. ولما اجتمعت الجمعية الاتحادية ( في شهر أغسطس من عام 1347)، اتفق على أن تبدأ أعمالها بمنحه لقب فارس. واتخذ طريقه في مساء ذلك اليوم يحف به حرسه إلى مكان التعميد في كنيسة القديس لاتران، وألقى بنفسه في الحوض العظيم، الذي تطهر فيه قسطنطين من وثنيته وذنوبه، كما تقول القصة، ثم ارتدى ثياباً بيضاء، وقضى الليل نائماً على أريكة عامة وضعت بين أعمدة الكنيسة، فلما أصبح الصباح أصدر إلى الجمعية وإلى العالم أجمع مرسوماً يعلن فيه حرية جميع المدن الإيطالية، ويمنح أهلها جميعاً حق المواطنية الرومانية، ويحتفظ لسكان روما وإيطاليا دون سواهم بحق اختيار الإمبراطور. ثم أستل سيفه ولوح به في ثلاث جهات وقال بوصفه ممثل روما: "ذلك ملكي، وذاك لي، وذاك ". واندفع من ذلك الحي في الإسراف والمباهاة، فكان يمتطي صهوة جواد fdqأبيضأأابأأاتابنتساينبااا أبيض، ويخفق من فوق رأسه علم ملكي، ويتقدمه ألف حارس مسلح، ويرتدي ثوباً من الحرير الأبيض ذا أهداب من الذهب(25). ولما عاب عليه استفانوكولنا أهدابه الذهبية أعلن أن الأشراف يأتمرون به (وأكبر الظن أن هذا صحيح)، وأمر بالقبض على عدد منهم، وأمر بهم فسيقوا مكبلين بالأغلال إلى الكبتول، و عرض على الجمعية أن يعدموا، ثم ندم على ذلك العرض، وعفا عنهم، وانتهى الأمر بأن عينهم في بعض مناصب الدولة في كمبانيا. وكان جزاؤه منهم أن حشدوا قوة من مرتزقة الجند معادية للجمهورية، وخرج حرس المدينة الوطني لملاقاتهم، وهزمهم، وقتل في المعركة استفانوكولنا وولده (20 نوفمبر سنة 1347).

وسكر ريندسو بخمرة النصر فأخذ يغفل شيئاً فشيئاً شأن ممثلي البابا الذي أشركه معه من قبل في منصبه وسلطانه. وأخذ كردالة إيطاليا وفرنسا ينذرون كلمنت بأن إيطاليا الموحدة ستجعل الكنيسة أسيرة للدولة- وأن هذا الأسر يصبح أشد وأكثر توكيداً إذا قامت إمبراطورية تحكمها روما. وعملا بهذا التحذير كلف كلمنت مندوبه في روما برتران ده دو Bertrand de Deux أن يعرض على ريندسو واحدة من اثنتين: خلعه من منصبه أو تقييد سلطانه بحيث يقتصر على الشئون الدنيوية الخاصة بمدينة روما. وخضع دولا بعد أن قاوم بعض المقاومة، ووعد بإطاعة البابا، واسترد المراسيم التي ألغي بها الامتيازات الإمبراطورية والبابوية. لكن هذا الخضوع لم يرض كلمنت فاعتزم أن يخلع التربيون المعاند، وأصدر في الثالث من ديسمبر مرسوماً بابوياً يضم فيه كولا بالإجرام والإلحاد، ويهيب بالرومان أن يطردوه من البلاد. وأشار المندوب إلى أنهم إن لم يفعلوا هذا لن يقام عيد. وكان الأعيان في هذه الأثناء قد حشدوا جيشاً آخر، زحف على روما. وأمر ريندسو أن تدق الأجراس تدعو الشعب إلى حمل السلاح، لكن هذه الدعوة لم يستجب لها إلا عدد قليل، لأن كثيرين قد أغضبهم فدح الضرائب التي فرضها عليهم، ومنهم من فضل ما ينالونه من المكاسب في العيد عما تلقيه عليهم الحرية من تبعات. ولما اقتربت قوى الأشراف من الكبتول خارت قوى ريندسو، و خلع شارة منصبه، وودع أصدقاءه، وأجهش بالبكاء، وحبس نفسه في كاستلو سانتا أنجليو Castello Sant' Angelo (15 ديسمبر سنة 1347)، وعاد الأشراف الظافرون فدخلوا قصورهم في المدينة واختار المندوب البابوي اثنين منهم ليحكما روما.

وفر ريندسو إلى نابلي، وكان لا يزال مغضوباً عليه من الكنيسة وإن لم يصب بأذى من جانب الأعيان، ثم فر من نابلي إلى غابات الجبال في أبردسي Abruzzi القريبة من سلمونا Sulmona، وهناك لبس أثواب التائبين، وقضى عامين يعيش عيشة الزهاد المنقطعين للدين. وبعد أن مرت به عشرات المئات من المشاق والمحن اتخذ سبيله سراً متنكراً إلى براج مجتازا إيطاليا وجبال الألب والنمسا، ومثل في تلك المدينة في حضرة الإمبراطور شارل الرابع، وأخذ وهو غاضب يندد بالبابوات، و لكنه أبى أن يجيب البابا كلمنت إلى مطلبه من إرسال كولا ليزج في سجن أفنيون، وأبقاه معتقلا تحت الحراسة في إحدى القلاع القائمة على نهر الألب. وقضى كولا في العزلة وعدم النشاط عاماً كاملاً لم يطق بعده صبراً عليهما، فطلب أن يرسل إلى بلاط البابا. وهرع الناس إلى رؤيته وهو في طريقه إلى أفنيون، وعرض عليه بعض الفرسان الأنجاد أن يحموه بسيوفهم. وبلغ أفنيون، وعرض عليه بعض الفرسان الأنجاد أن يحموا الرجل الذي أراد أن يهبهم الحرية. ومما جاء في هذه الدعوة: إلى أهل روما ... البواسل الأنجاد ... الذين سادوا الأمم!

إن زعيمكم السابق أسير الآن في أيدي الأجانب، وكأنه-ويا للهول حقاً!- لص من لصوص الليل أو خائن لبلاده، يعرض قضيته وهو مصفد في الأغلال، تأبى أعلى محكمة أرضية أن تمكنه من الدفاع المشروع عن نفسه... إن روما بلا ريب لا تستأهل هذه المعاملة. لقد كان أهلها من قبل غير خاضعين لقانون أجنبي... أما الآن فيساء إليهم بلا تمييز بينهم. ويلقون هذه المعاملة وهم براء من إثم الجريمة بل وهم جديرون بالثناء العظيم الذي يستحقه أهل الفضيلة ... وليست التهمة الموجهة إليه هي خيانة الحرية، بل هي الدفاع عنها، وليس ذنبه أنه سلم الكبتول بل ذنبه أنه حماه. وإن أعظم التهم الموجهة إليه، والتي يجب أن يكفر عنها فوق المشنقة هي أنه قد جرؤ على التوكيد بأن الإمبراطورية الرومانية لا تزال قائمة في روما، وأنها لا تزال مسيطرة على الشعب الروماني. ألا تباً لهذا الزمان! وتباً لتلك الغيرة الشنيعة، وذلك الحقد المنقطع النظير! أين أنت أيها المسيح! يا أعدل القضاة ويا أحكم الحاكمين؟ أين عيناك اللتان تعودت أن تبدد بهما سحب شقاء البشرية؟... لم لا تقضى ببرقك و صواعقك على هذه المحاكمة الدنسة؟(26).

ولم يطالب كلمنت بإعدام كولا، بل أمر بأن يوضع تحت الحراسة في برج القصر البابوي بأفنيون. وبينما كان ريندسو يدرس الكتاب المقدس وكتاب ليفي في سجنه، استولى تربيون آخر يدعى فرانتشسكو برنتشلي Francesco Baroncelli على زمام السلطة في رومة، ونفي أعيان المدينة، وأهان المندوب البابوي، وتحالف هو والجبليون مؤيدو الأباطرة ضد البابوات، وأطلق إنوسنت السادس، الذي خلف كلمنت في الكرسي البابوي، كولا من سجنه، وأرسله ، وتحالف هو والجبليون مؤيدو الأباطرة ضد البابوات، و أطلق إنوسنت السادس، الذي خلف كلمنت في الكرسي البابوي، كولا من سجنه، وأرسله إلى إيطاليا مساعداً للكردنال ألبرنودس Albornoze الذي عهد إليه اعادة سلطة البابوية في روما. وبينما كان الكردنال الماكر، والطاغية المستضعف يقتربان من العاصمة دبرت فتنة في المدينة، خلع على أثرها برنتشلي وقتل، وأسلم الرومان المدينة لألبرنودس. ورحب العامة بريندسو، واقاموا له أقواس النصر، وهتفوا باسمه وقد احتشدوا في الشوارع إظهاراً لفرحهم. وعينه ألبرنودس عضواً في مجلس الشيوخ، وعهد اليه الأعمال غير الدينية في حكومة روما (1353). ولكن السنين التي قضاها في السجن قد سببت ترهل جسمه، وحطمت شجاعته، وفلت من حدة عقله، وقد كان من قبل قوياً ساطعاً غير هياب ولا وجل. فكانت سياسته متمشية من أغراض البابا، بتهيب المغامرات العظيمة التي كان يندفع إليها في حكمه وهو شاب. وكان الأعيان لا يزالون يحقدون عليه، وصعاليك المدينة يرون فيه الآن رجلا حذراً متحفظاً متجرداً من المثل العليا، فانقلبوا عليه وعدوه خائناً لقضيتهم. ولما أعلن آل كولنا الحرب عليه وحاصروه في بلسترينا، أوشك جنوده الذين لم يتناولوا مرتباتهم أن يتمردوا عليه، فاقترض المال ليؤدي منه مرتباتهم، وفرض الضرائب ليفي بدينه، وأغضب بذلك الطبقة الوسطى. ثم زحفت جموع الغوغاء الثائرة على الكبتول، ولم يكد ينقضي شهران على عودته إلى الحكم، وأخذت تنادى "ليحيى الشعب! الموت للخائن كولا دي ريندسو! ". فخرج إليهم من قصره في دروع الفرسان وحاول أن يسيطر على الجماهير بفصاحته وزلاقة لسانه، ولكن الثائرين علا صياحهم على صوته، وألقوا عليه وابلا من القذائف، فأصاب سهم منها رأسه وانسحب على أثر ذلك إلى القصر. وحينئذ أشعل الغوغاء النار في الأبواب واقتحموها، ونهبوا الحجرات. واختفى ريندسو في إحداها، وأسرع فحلق لحيته، وارتدى ثياب حمال، وكوم بعض قطع من الفرش على رأسه، وخرج من القصر، ومر ببعض الغوغاء دون أن يكشفوا أمره. ولكن سواره الذهبي نم عليه، وسيق أسيراً إلى سلم الكبتول، حيث كان هو من قبل قد حكم على الناس بالإعدام. وطلب إلى الشعب أن يستمع له، وحاول أن يستميل قلوب العامة بخطبته، ولكن أحد الصناع خشي أن يتأثر هؤلاء بفصاحته، فقطع عليه كلامه بضربة سيف في بطنه. وتبعه مائة من أشباه الأبطال فأنفذوا خناجرهم في جسده الميت. ثم سحبت جثته والدم يسيل منها في شوارع المدينة وعلقت في حانوت قصاب كما تعلق جيف البهائم. وبقيت على هذه الحال يومين تعرضت في خلالهما لإهانات الشعب وحجارة الغلمان(27).



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: العالم الجوال

أخفق ريندسو في إعادة روما القديمة التي مات فيها كل شيء إلا الشعر. وقد أفلح بترارك في إعادة الآداب الرومانية التي لم تكن قد ماتت، وكان قد أيد ثورة كولا تأييداً بلغ من القوة حداً خسر معه عطف آل كولنا في أفنيون. وفكر وقتاً ما في الانضمام إلى ريندسو في روما، وأتخذ طريقه فعلا إليها حتى وصل إلى جنوى، وفيها سمع أن مقام التربيون ومسلكه آخذان في الانحطاط، فما كان منه إلا أن غير طريقه وأتجه نحو بارما (1347). وكان في إيطاليا حين نشأ فيها الوباء الأسود، وأودى بحياة كثيرين من أصدقائه، وقضى على لورا في أفنيون، وقبل في عام 1348 دعوة ياقوبو Jacopo الثاني صاحب كراراً لأن ينزل ضيفاً عليه في بدوا.

وكانت المدينة ذات جو عتيق ثقيل ممل. فقد كان عمرها مائة عام حين ولد فيها ليفي عام 59 ق.م، وأصبحت تحكم نفسها بنفسها في عام 1174 ورزحت تحت طغيان أتسيلينو Ezzelino (1237-1256)، ثم استردت استقلالها، وغنت أناشيد الحرية، وأخضعت فيتشندسا سلطانها، ثم هاجمها كان جراندى دلا اسكالا صاحب فيرونا، وكاد يغلبها على أمرها، فتخلت عن حريتها واختارت ياقوبو الأول صاحب كراراً حاكماُ بأمره عليها (1318)، وكان رجلا قُدَّ قلبه من الرخام المسمى باسمه. وتولى سلطته من بعده بعض أعضاء أسرته إما بطريق الميراث أو بالاغتيال. واستولى مضيف بترارك على مقاليد الحكم في عام 1345 بعد أن اغتال سلفه، وحاول أن يكفر عن ذنبه بالحكم الصالح، ولكنه اغتيل بعد أن حكم أربع سنين وخلفه فرانتشسكو الأول صاحب كرارا (1350-1389)، وحكم البلدة حكماً عجيباً ام نحو أربعين عاماً، ورف في خلالها مقام بدا إلى مصاف المدن الكبرى أمثال ميلان، وفلورنس، والبندقية، وإن كان هذا لم يدم إلا وقتاً قصيراً. وقد أخطأ فانضم إلى جنوى ضد البندقية في الحرب العوان التي اتقدت نارها سنة 1378، والتي انتصرت فيها مدينة البندقية وأخضعت بدوا ليلطانها (1404).

وقدمت المدينة في هذه الأثناء أكثر من نصيبها لحياة إيطاليا الثقافية، فأتمت في عام 1307 كنيسة القديس أنطوني المعروفة بذلك الاسم الحبيب إلسانتو EL Santo، ورمم في عام 1306 البهو الأعظم المعروف باسم سالا دلا رجيونى Sala della Ragione (بهو البرلمان) على يد المهندس المعماري الراهب جيوفنى إريمتانو Giovanni Eremitano، ولا يزال هذا البهو قائماً إلى الآن. وكان القصر الملكي (الرجيو Reggio في 1345 وما بعدها) يحتوي على أربعمائة حجرة في كثير منها مظلمات يفخر بها آل كرارا. ولم يبق من هذه المظلمات إلا برج دقت ساعته الشهيرة أولى دقاتها في علم 1346. وابتاع تاجر طوح يدعى انريكو اسكرافني Rnrico Scravegni في بداية ذلك القرن قصراً في المدرج الروماني القديم يسمى "الحلبة " Arena، واستدعى أشهر مثال في ايطاليا وهو جيوفنى بيزانو Giovanni Pisano وأشهر مصوريها وهو جيتو Giotto، لينقشا له معبد بيته الجديد (1303-1305). وكانت نتيجة جهودهما "معبد الحلبة " الصغير الذائع الصيت في أنحاء العالم المتعلم كله. وفيه صوّر جيتو الظريف نحو خمسين صورة جدارية، ونحتاً مستديراً ومدلاة تروى كلها القصة العجيبة قصة العذراء وابنها، وأحاط المظلمات الرئيسية برءوس الأنبياء والقديسين، وبأشكال نسوية ترمز إلى فضائل الجنس البشري ورذائله. وصور تلاميذه على الباب الداخلي بجد فاتر صورة ليوم الحساب ذات أشكال غريبة مختلطة مهوشة كأنها الميازيب، ونقش منتاجينا Montagena بعد 150 سنة من ذلك الوقت ضريح كنيسة الإرمتاني القريبة من هذا البيت. ولعله وهو يقوم بعمله قد سخر من التصميم الساذج، وفن المنظور البدائي، ومن تشابه الوجوه، والمواقف, والأشكال تشابهاً يبعث على الملل والسآمة، ومن نقص في العلم بالتشريح، ومن الشقرة الثقيلة البادية في الكثرة الغالبة من الأشكال، كأنما اللمبارد أهل بدوا لا يزالون هم بعينهم اللنجيوبارد Longobards القادمين تواً من ألمانيا الموفورة الطعام. ولكن ملامح العذراء الجميلة في صورة مولد المسيح، ورأس المسيح الفخم النبيل في صورة العازر، والكاهن الأكبر البادي الجلال في صورة الخطاب، والمسيح الهادئ، ويهوذا الأسخريوطي في صورة الخيانة، واللطف الصافي، والـتأليف المتناسق، والنمو المتدرج الشي يشاهد في المنظر الفسيح من حيث اللون والشكل، كل هذا يكسب المنظر جدة ورونقاً وصفاء لا زال يحتفظ بها بعد ستة قرون، وتجعله أو نصر للتصوير في القرن الرابع عشر.

ولعل بترارك قد وقعت عيناه على مظلمات الحلبة، وما من شك في أنه كان يقدر جيتو أعظم التقدير. وشاهد ذلك أنه أوصى إلى فرانتشسكو داكرارا بصورة للعذراء بريشة " المصور الممتاز، جيتو، وهي صورة يدهش جمالها ... سادة الفن "(28).. وما من شك في أنه قد نبهه وشحذ همته ما سمعه من أن ألبرتينو مساتو Albertino Mussato، وهو رجل من ذوي المشاعر الإنسانية سابقاً على بترارك نفسه قد توج شاعراً للبلاط في بدوا عام 1314 لأنه كتب مسرحية باللغة اللاتينية تسمى إتشرينس Ecerinis نحا فيها نحو أسلوب سنكا. ومبلغ علمنا أن هذه كانت أول مسرحية كتبت في عصر النهضة.وما من شك لإي أن بترارك قد زار الجامعة التي كانت مفخرة المدينة والتي كانت في ذلك الوقت أشهر مدارس إيطاليا بأجمعها، وكانت تنافس جامعة بولونيا بوصفها مركزاً للتدريب على القانون، كما كانت تنافس جامعة باريس بوصف كونها مركزاً للفلسفة. ودهش بترارك حين شاهد فلسفة ابن رشد يعتنقها في غير خفاء بعض أساتذة بدوا الذين كانوا يرتابون في خلود نفوس الأفراد، والذين كانوا يتحدثون عن المسيحية كأنها خرافة مفيدة ينبذها المتعلمون في الخفاء. وفي عام 1348 نجد شاعرنا القلق في مانتوا، ثم نجده بعدئذ في فِرَارا، ثم انضم في عام 1350 إلى سيل الحجاج المتجهين إلى روما للاشتراك في عيدها، وعرج وهو في الطريق على فلورنس فزارها للمرة الأولى وعقد أواصر الصداقة القوية بينه وبين بوكاتشيو. وقد وصف بترارك هذه الصداقة بقوله إنهما من ذلك الحين "كان لهما قلب واحد "(29). وحدث في عام 1351 أن ألغى سيد فلورنس المرسوم القاضي بمصادرة أملاك بترارك، ثم أرسل بوكاتشيو إلى بدوا ليعرض على بترارك تعويضاً مالياً وكرسي الأستاذية في جامعة فلورنس، فلما رفض بترارك هذا العرض رجعت فلورنس عن إلغاء المرسوم.


الفصل السادس: جيتو

إن من العسير أن نحب فلورنس كما كانت في العصور الوسطى . ذلك أنها كانت وقتئذ نكدة صارمة في الصناعة والسياسة، ولكننا لا يصعب علينا مع ذلك أن نعجب بها. لكنها خصصت ثروتها لخلق الجمال. ففيها أيام شباب بترارك كانت النهضة في أوج مجدها. فقد علا شأنها فيما كان يكتنفها من جو حافز ملئ بالتنافس المالي والتجاري، والنزاع العائلي، والعنف الفردي، لم يكن لشيء منها مثيل في سائر أنحاء أوربا. لقد كان أهل المدينة منقسمين على أنفسهم تفرق بينهم حرب الطوائف، وكانت كل طائفة فيها منقسمة هي الأخرى إلى أحزاب لا ترحم إذا كتب لها النصر، ولا تسكت عن الانتقام اذا منيت بالهزيمة، وكان انتقال بعض الأسر من حزب إلى حزب في أي وقت مت الأوقات يخل بتوازن القوي بينهما، وكثيراً ما كان يحدث في أي لحظة أن تنتظر السلاح بعض العناصر المتذمرة، وتحاول إسقاط الحكومة، فإذا أفلحت نفت زعماء الحزب المغلوب من المدينة، وصادرت في العادة أملاكهم، وحرقت بيوتهم أحياناً. على أن هذا النزاع الاقتصادي وذاك الاضطراب السياسي لم يكونا كل ما في فلورنس من حياة، ذلك أن اهلها كانوا ذوي شعور وطني قوي يعتزون به وإن كانوا أكثر إخلاصاً لحزبهم منهم لمدينتهم، وكانوا ينفقون كثيراً من مالهم في سبيل المصلحة العامة. وكان الموروثون من الأفراد ينفقون من اموالهم على رصف الشوارع وإنشاء المجاري، وتحسين موارد ماء الشرب، وإعداد مكان صالح للسوق العامة، وتشييد الكنائس، والمستشفيات، والمدارس، أو اصلاحها. وكذلك كانت تفعل نقابات الحرف. وكان ألاهلون ذوي شعور بالجمال لا يقل في قوته عن شعور اليونان الأقدمين أو الفرنسيين المحدثين، وكان هذا الشعور يدفعهم لرصد الأموال العامة والخاصة لتزيين المدينة بالعمائر، والتماثيل، والصور، وتجميل بيوتهم من الداخل بهذا كله وبعشرات من الفنون الصغرى. وكان الخزف الفلورنسي أرقى أنواع الخزف الأوربي في ذلك العهد، كذلك كان الصياغ يحلون الأعناق والصدور، والأيدي، والمعاصم، والمناطق، ومذابح القرابين، والنضد، والاسلحة، والنقود، بالجواهر أو الخشب الملبس، والنقوش المحفورة أو البارزة التي لا يفوتها شئ من نوعها في عصر آخر من العصور.

وأخذ الفنان في ذلك الوقت تنعكس عليه النزعة الجديدة نزعة اهتمام الفرد بكفايته الذاتية أو حبه للفن الجميل، فبرز من الطائفة أو الجماعة ، ورسم ما ينتجه باسمه. وكان نقولو بيزانو Niccolo Pisano قد خلص قبلئذ فن النحت من تقليد الموضوعات الدينية، وخضوعه لأساليب العمارة وذلك بجمعه بين النزعة الطبيعية القوية ومثل الإغريق العليا في تصوير الجسم. وصب تلميذه أندريا بيزانو Andrea Pisano نصفي بابين من البرنز لمبنى التعميد في فلورنس (1300-1306) صور عليهما في أثنين وعشرين نقشاً بارزاً تقدم الفنون والعلوم منذ حفر آدم وغزلت حواء، وليس هذان الأثران الفنيان الباقيان من القرن الرابع عشر بأقل قيمة من "أبواب الجنة " التي نقشها جبرتي Ghiberti في القرن الخامس عشر على هذا البناء نفسه. وفي عام 1334 وافق أمير فلورنس على تخطيط جيتو لبرج يتحمل ثقل أجراس الكنيسة وينشر أصواتها، وصدر بذلك مرسوم تتمثل فيه روح العصر جاء فيه أن "برج الأجراس يجب أن يشاد بحيث يسمو في فخامته، وارتفاعه، ودقة صنعه، على كل شئ من نوعه أبدعه في الزمن القديم اليونان والرومان في أوج مجدهم(30). وليس جمال البرج في شكله المربع الذي لا يمتاز بشيء عن أمثاله (والذي كان جيتو يرغب في أن تعلوه منارة مستدقة)، بل في نوافذه المزخرفة على الطراز القوطي، وفي النقوش البارزة التي حفرها جيتو, وأندريا بيزانو، ولوكا دلا ربيا Luca della Robia في الرخام الملون على الألواح السفلى. وواصل العمل، بعد موت جيتو، بيزانو، ودوناتلو، وفرتشسكو تالنتي، وإليهما يدين البرج بما حوته أعلى مقنطراته من جمال بالغ الأوج.

وكان جيتو دي بندوني Giolto di Bondoni يحمل لواء المصورين في القرن الرابع عشر كما كان بترارك يحمل لواء الشعر في ذلك القرن نفسه، وكان الفنان يضارع الشاعر في تعدد كفاياته، فقد كان مصوراً، ومثالاً، ومهندساً معمارياً، ورأسمالياً، وخبيراً بأحوال العالم، لا يقل حذقه للآراء الفنية، عن مهارته في الحيل العلمية والأجوبة الفكهة المسكتة، ولهذا كان جيتو يسير في الحياة واثقاً من نفسه، ينثر روائع فنه في فلورنس، وروما، وأسيسى، وفرارا، ورافنا، وريميني، فايندسا، Faenza، وبيزا، ولوكا Lucca، وأرتسو، وبدوا، وفيرونا، ونابلي، وأربينو Orbino، وميلان. ويبدو أنه لم يكن يهتم مطلقاً بأن يكلف بالقيام بعمل من الأعمال، ولما سافر إليهما ضيفاً على الملك في قصره. وهناك تزوج وكان له أبناء قبيحو المنظر، ولكن أعماله الفنية الجميلة الهادئة، وحياته التي تسري فيها روح البهجة، لم تتأثرا قط بهذا القبح، وكان يؤجر الأنوال للصناع بضعفي أجرها المعتاد(31). ومع هذا فأنه يقص لنا قصة القديس فرانسس رسول الفقر في عمل من أعماله الفنية الراقية الباقية من عصر النهضة.

وكان لا يزال في شرخ الشباب حين أستدعاه الكردنال استفانستشي Stefaneschi إلى روما ليصور له بالفسيفساء صوره "الفنية الصغرى navicella " التي تمثل المسيح ينقذ بطرس من الموج. ولا يزال هذا النقش باقياً إلى اليوم، وإن كان قد أدخل عليه تغيير كبير، في دهليز كنيسة القديس بطرس في مكان غير ظاهر فوق عمد المدخل ومن خلفها. وأكبر الظن أن هذا الكردنال نفسه هو الذي كلفه بعمل صورة الملاك المجنح المحفوظة في الفاتيكان. وتظهر هذه الأعمال كلها جيتو شخصاً غير ناضج، قوي التفكير، ضعيف التنفيذ. ولربما كانت دراسات جيتو لنقوش بيتروكفنليني Pietro Cavanelline الفسيفسائية الموجودة بكنيسة القديسة ماريا في ترتستيفيري، ومعلماته في كنيسة القديسة تشيتشيليا Cecilia قد ساعدت على تكوين جيتو في تلك السنين الرومانية، ولعل النحت الطبيعي الذي قام به نقولو بيزانو قد جعله يحول عنايته من أعمال أسلافه إلى ملامح الأحياء من الرجال والنساء ومشاعرهم. وفي ذلك يقول ليوناردو دافنتشي: "لقد ظهر جيتو وصور ما رآه "(32). واختفى الجمود البيزنطي من الفن الإيطالي. ثم أنتقل جيتو إلى بدوا وقضى ثلاث سنين يصور على الجص تلك الرسوم الذائعة الصيت التي تزدان بها كنيسة أرينا. ولعله قد التقى في بدوا بدانتي، ولعله قد عرفه قبل ذلك في فلورنس، فها هو ذا فاساري Vasari، الممتع على الدوام، والدقيق الصادق في بعض الأحيان، يصف دانتي بأنه "الرفيق والصادق الصدوق " لجيتو (33). وها هو ذا يعزو لجيتو صورة لدانتي تكون جزءاً من نقش جصي في قصر الحاكم في فلورنس. وترى الشاعر يثني على المصور ثناء رقيقاً مستطابا في المسلاة الإلهية34). ولما كان عام 1318 كلفت أسرتان من رجال المصارف هما أسرة باردى Bardi وأسرة بيرتسي Peruzzi جيتو بأن يقص لهما على الجص قصص القديسين فرانس، ويوحنا المعمدان ويوحنا المبشر بالإنجيل، وذلك في المزارين اللذين كانا يشيدهما في كنيسة سانتا كروتشي (الصليب المقدس) Sante Croce في فلورنس. وقد غطيت هذه الرسوم بالجير فيما بعد، ولكنه كشف عنها في عام 1853 واعيد تلوينها، وبذلك لم يبق فيها من عمل جيتو إلا الرسم والتأليف. وكان هذا بعينه مصير المظلمات الذائعة الصيت في كنيسة القديس فرانس المزدوجة في أسيسي. ويحج عدد كبير من الإيطاليين إلى هذا الضريح القائم فوق إحدى الروابي، ويبدو أن عدد الذين يفدون منهم لمشاهدة الرسوم التي تعزى لتشيمابيو Cimabue وجيتو لا يقل عمن يفدون لتكريم هذا القديس أو للتبرك به. وأكبر الظن أن جيتو هو الذي وضع تصميم الموضوعات ورسم الخطوط الخارجية للمظلمات السفلى في الكنيسة العليا. أما ما بقى فيبدو أنه اكتفى فيه بالإشراف على عمل تلاميذه. وتقض هذه المظلمات التي في الكنيسة العليا حياة القديس فرانسس بتفصيل قلما حظي المسيح نفسه بسيرة مصورة له تماثل هذه القصة في دقائقها. وهي تمتاز بالبراعة في التفكير والتأليف، وباللطف والرقة والتناسق في الإخراج والتنفيذ، وتقضي قضاء لا رجعة بعده على الجمود الكهنوتي الذي كان يلازم الأشكال البيزنطية، ولكنها مع ذلك يعوزها العمق والقوة والنزعة الإنفرادية، فهي في حقيقة الأمر لوحات مصورة رشيقة خالية من تأثير العاطفة أو دم الحياة. أما مظلمات الكنيسة السفلى فقد كانت أقل من مثيلاتها في الكنيسة العليا تعرضاً لعوادي الأيام، وهي تشهد بما طرأ على قدرة جيتو من تقدم. ويبدو أنه هو نفسه الذي قام برسم الصور التي في مُصًلّى مجدلين، وأن تلاميذه هم الذين صوروا الرسوم الرمزية التي تشرح الإيمان التي يقسمها الرهبان الفرنسيس بأن يلتزموا حياة الفقر والطاعة والطهر. ولقد كانت قصة فرانسس المصورة في هذه الكنيسة المزدوجة حافزاً قوياً، بل تكاد تكون مولداً جديداً، لفن التصوير الإيطالي، ونشأت منها تقاليد بلغت المثل الأعلى من الكمال في أعمال الراهب الدمنيكي "الأخ أنجلكو Fra Angelico ".

وفي وسعنا أن نقول إن أعمال جيتو كانت في مجموعها ثورة على الأوضاع الفنية القائمة وقتئذ. ونحن نشعر بأخطائه لأننا نعرف مقدار ما أحدثته الحركة التي بدأها هو من إتقان وبراعة. نحس بأن رسمه، وصياغته، ومراعاته لفن المنظور، وعلمه بالتشريح، كل هذا ناقص معيب. لقد كان الفن، كما كان الطب في عهد جيتو، قد بدأ تواً في تشريح الجسم البشري، وفي أن يبين موضع كل عضلة، وعظم ، ووتر، وعصب، وتركيبه، وقد أتقن معرفة هذه العناصر رجال من أمثال منتينيا Mantegena ومساتشيو Masaccio، وبرع في هذه المعرفة ميكل أنجلو وبلغ فيها درجة الكمال، بل كاد يجعل منها معبوداً له ولأمثاله من رجال الفن. أما في أيام جيتو فقد كان لا يزال من غير المألوف أن يدرس الناس الجسم البشري عارياً.وكان تصويره يجلل من يقدم على تصويره بالعار. فإذ كان هذا فما الذي يجعل أعمال جيتو في بدوا وأسيسي من معالم تأريخ الفن؟ إن الذي يجعلها هكذا هو الـتأليف المتزن، ورسم العين من كل زاوية إلى مركز الاهتمام، والمهابة المستمدة من الحركة الهادئة، والتلوين الرقيق المتألق، وانسياب القصة في عظمة وجلال، والاعتدال في التعبير ولو كان عن المشاعر العميقة، وعظمة الهدوء الذي يغمر تلك المناظر المضطربة، وما نشاهده بين الفينة والفينة من نزعة طبيعية في تصوير الرجال، والنساء، والأطفال كما شاهدهم وأحس بهم، وهم يتحركون في الحياة لا كما درسهم الفنانون في ماضي الأيام. تلك هي العناصر التي تألف منها انتصار جيتو على الجمود البيزنطي والكآبة البيزنطية. وتلك هي أسرار نفوذه الخالد. لقد ظل فن فلورنس مائة عام بعد وفاته يستمد من أعماله حياته وإلهامه.

وجاء في أعقابه جيلان من الفنانين الذين ساروا على نهجه، فحذوا حذوه في موضوعاته وفي طرازه، ولكنهم قلما كانوا يبلغون ما بلغه من براعة وإتقان، فقد كان تديوجدى Taddeo Gaddi تلميذه وابنه في العماد يرث عنه فنه، وكان والد تديو وثلاثة من ابناء تديو الخمسة رسامين، ذلك أن النهضة الإيطالية، كالموسيقى الألمانية، كانت تنزع إلى الانتقال في الأسر من الآباء إلى الأبناء، وقد ارتقت فيها بانتقال اصولها الفنية وتجمعها في البيوت والمفاقه والمدارس. وقد بدأ باديو حياته صبياً محترفاً عند جيتو، وما وافى عام 1347 حتى كان هو حامل لواء المصورين الفلورنسيين، وكان حتى بعد أن بلغ تلك المكانة يوقع بإمضاء "تلميذ جيتو الأستاذ الجليل " تكريماً لذكرى أستاذه(35). وقد أثرى بجده في فني التصوير والعمارة ثراء استطاع به بنوه أن يكونوا من أنصار الفن.

ولدينا تحفة فنية ظلت زمناً طويلاً تعزى اليه، ولكنها الآن تعزى إلى أندريا دا فريندسي Andrea da Firenze وهي تدل على أن إيطاليا في هذا القرن الأول من عصر النهضة لم تكن قد خرجت بعد من العصور الوسطى. فقد أقام الرهبان الدمنيك حوالي عام 1370 في " كابلادجلي اسبنيولي Copella degli Spagnuoli أو معبد الاسبانيين في كنيسة سانتا ماريا نوفلا صورة يمجدون بها فيلسوفهم الشهير يُرى فيها تومس أكوناس في وضع راسخ مريح ولكنه بلغ من الخشوع حداً يحول بينه وبين الكبرياء، ويقف وقفة الظافر والزنديقان أريوس، وسابيوس، والفيلسوف أبن رشد يتمرغون تحت قدميه، ومن حوله موسى، ويوحنا المبشر الإنجيلي وغيرهم من القديسين، وقد بدأو كأنهم أتباع لهم، ومن تحتهم أربع عشرة صورة ترمز إلى سبعة علوم مطهرة وسبعة دنسة، منها نحو دوناتوس Donatus وبلاغة شيشرون، وقانون جستنيان، وهندسة إقليدس وما إليها. والفكرة التي أوحت أليها بهذه الصورة لا تزال كلها من أفكار العصور الوسطى، أما الفن وحده في تصميمه ولونه فيدل على بزوغ فجر عهد جديد من ظلمات العهد القديم. ولقد كان الانتقال تدريجياً إلى حد لم يشعر الناس معه بأنهم في عالم جديد إلا بعد مائة عام من ذلك الوقت. ويبدو التقدم في التنفيذ الفني أوضح وأكثر جلاء في أعمال اركانيا Arcagna الذي لا يسمو عليه أحد من الفنانين الإيطاليين في العصور الوسطى إلا جيتو وحده. وكان أسمه الأصلي أندريا دي تشيوني Andrea de Cioni، لكن معاصريه المعجبين به سموه أركانيولو Arcagnolo أي الملاك الأعظم، ثم اختصرت الألسنة الكسولة هذا الاسم فجعلته أركانيا. وكثيراً ما يعد هذا الفنان من بين أتباع جيتو، ولكنه كان في الواقع الأمر من تلاميذ المثال أندريا بيزانوا Andrea Pisano. وكان أركانيولا بارعاً في فنون كثيرة شأنه في هذا شأن أعظم العباقرة في عصر النهضة. وهو بوصفه رساماً قد صور لمعبد استرتسي Strozzi في سانتا ماريا نوفلا غطاء ملونا للمحراب مثل عليه المسيح جالساً على عرشه، كما أنشأ أخوه الأكبر ناردو Nardo على الجدران مظلمات واضحة تمثل الجنة والنار (1354-1357)، وخطط بوصفه مهندساً معمارياً التشر تودسا Certoza أو الدير الكرثوذي Carthusian بالقرب من فلورنس، وهو الدير الذي اشتهر بطرقه المسقوفة الجميلة وما احتواه من مقابر أتشيايولي Acciaiuoli). ونفذ هو ووالده بوصفهما مهندسين ومثالين الهيكل المزخرف في "أورسان متشيلي Or San Micchele في فلورنس. وفي هذا الهيكل صورة للعذراء كان الناس يعتقدون أنها تفعل المعجزات، ولهذا فإنه لما زال وباء الموت الأسود الذي أجتاح أوربا عام 1348 بلغت النذور التي قدمها لها الذين نجوا من الوباء من الكثرة درجة اغتنى منها الرهبان القائمون على خدمة البناء، وتقرر بعدئذ ان يضم هذه الصورة ضريح مقام من الرخام والذهب. واختطه تشيوني على شكل كنيسة قوطية مصغرة ذات عمد، وأبراج مستدقة، وتماثيل، ونقوش بارزة، ومعادن ثمينة، وأحجار غالية، فهي والحالة هذه درة من زخرف القرن الرابع عشر. وذاعت بفضلها شهرة أندريا فعين كبير الفنانين في أرفيتو Orvieto واشترك في تخطيط واجهة كنيستها، ثم عاد إلى فلورنس في عام 1362 وأخذ يعمل في الكنيسة العظيمة إلى يوم وفاته. وكانت شهرة سانتا ماريا دل فيوري Santa Maria del Fiori- أكبر الكنائس التي بنيت في إيطاليا حتى ذلك الوقت- قد بدأت من عهد أرنلفو دي كمبيو Cambio Arnolfo di في عام 1296، وتتابع عليها عدد من كبار الفنانين بعضهم في أثر بعض ظلوا يعملون فيها حتى هذا اليوم، ونذكر من هؤلاء جيتو، واندريا بيزانوا، وفرانتشسكو تالنتي وغيرهم. ويرجع تاريخ واجهتها الحالية إلى عام 1887، ولا تزال الكنيسة الكبرى ناقصة إلى هذا اليوم، ولا بد أن يعاد بناء جزء كبير منها في كل قرن. وسبب ذلك أن العمارة كانت أقل الفنون نجاحاً في إيطاليا إبان عصر النهضة، لأنها اخذت في غير حماسة او اهتمام من الشمال بعض عناصر العمارة القوطية المعقد المستدق، وجمعت بينها وبين العمد المأخوذة من العمارة القديمة، ثم شادت فوق هذه كلها في بعض الأحيان القبة ذات الطراز البيزنطي.فكان هذا خليطاً غير متناسق العناصر، إذا استثنينا منه بعض الكنائس الصغرى من عمل برامنتي Bramante حكمنا بأنه تعوزه الوحدة والرشاقة. وكانت واجهة أرفيتو وسينا Siena مظهراً فخماً لفن النحت والفسيفساء أكثر منها مظهراً لفن العمارة الصحيح، وإن العناية الشديدة بإبراز الخطوط المستقيمة والناشئة من وجود طبقات متتالية من الرخام الأسود والأبيض في جدرانها، لما يسبب الانقباض للعين والنفس، مع أن معنى الكنيسة نفسه يجب أن يكون هو الضراعة أو الابتهال الصادرين إلى السماوات العليا. وإن من العسير أن نعد كنيسة سانتا ماريا دل فيوري- وهو الاسم الذي أطلق على كنيسة فلورنس بعد عامي 1412، وقد أشتق اللفظ الأخير (فيوري) من الزنبقة المرسومة على شعار المدينة-زهرة من الأزهار. ولولا القبة الشهيرة التي أنشأها برونلسكو Brunellrsco لعدت كهفاً قد يكون فراغه المظلم هو فم جحيم دانتي بدل أن يكون بيتاً لله.

وكان أرنلفو دي كمبيو، الرجل المجد الذي لا تنفذ قواه، هو الذي بدأ كنيسة الرهبان الفرنسيس المسماة سانتا كروتشي أو الصليب المقدس في عام 1294، والذي بدأ أيضاً في عام 1298 أجمل بناء في فلورنس كلها، وهو بلاتسا دلا سنيورا Palazz della Signora الذي تعرفه الأجيال المتأخرة باسم بلاتسافيتشيو. وتم بناء الكنيسة في عام 1442 ما عدا واجهتها التي تمت في عام 1863، أما البلاتسا دل سنيورا المعروفة أيضاً باسم القصر القديم فقد تمت أجزاؤها الرئيسية في علم 1341. وكانت هذه هي السنين التي شهدت نفي دانتي ووالد بترارك، ذلك أن النزاع الحربي كان وقتئذ على أشده، ولهذا شاد ارنفلوا لحاكم المدينة حصناً لا قصراً وجعل في سقف معاقل ذات مزاغل، وكان برج الجرس الفريد في نوعه يدعو برنين جرسه أهل المدينة إلى الاجتماع في مجلسها النيابي أو إلى حمل السلاح. ولم يكن كبراء المدينة Priori, Signori يحكمون من هذا المكان فحسب، بل كانوا ايضاً يعيشون فيه، وتظهر روح ذلك العصر في القانون الذي ينص على أن اولئك الكبراء لم يكن يجوز لهم أن يغادروا البناء لأي سبب كان. وأقام نيري دي فيورافنتي Neri di Fioravante فوق نهر الآرنوجسرا من أشهر جسور العالم وهو جسر فيتشيو Ponte Vecchio الذي تصدع الآن بفعل الأيام والحروب، ولكنه لا يزال ينوء بحمل حركة المرور واثنين وعشرين حانوتا. وكانت تقوم حول هذه الصروح الضخمة، التي أنشأها أهل فلورنس مدفوعين بروحهم الوطنية، في الشوارع الضيقة المؤدية من الكنيسة وميادين سنيوريا Signoria كانت تقوم حولها بيوت الأغنياء المعذبين، وكانت لا تزال وقتئذ بيوتا متواضعة، والكنائس الفخمة التي استحال فيها ذهب التجار فنا، وحوانيت التجار والصناع الصاخبة والمساكن المزدحمة التي تقيم فيها جمهرة الشعب المجد، الثائر، السريع الاهتياج، الذكي. وفي جنون هذه العناصر ولدت النهضة.


الفصل السابع: ديكمرون

كانت فلورنس هي المدينة التي أحرزت فيها الآداب الإيطالية أعظم انتصاراتها، ففيها خلع جوندسيلي Guenzelli وكفلكنتي Cavalcanti في أواخر القرن الثالث عشر على الأغنية صورتها المصقولة، وأرسل دانتي الشاعر الفلورنسي أولى نغمات شعر الملاحم الإيطالي وآخرها في الحنين إلى فلورنس وإن لم ينشد هذه النغمات فيها نفسها، وفيها ألف بوكاتشيو أعظم كتاب في النثر الإيطالي، وكتب جيوفني فلاني Giovanni Villani أكثر تواريخ العصور الوسطى الإخبارية اتفاقاً مع النزعة التاريخية الحديثة. ذلك أن افلاني زار روما أيام الاحتفال بعيد عام 1300 وتأثر كما تأثر جبن Gibbon فيما بعد بما خلفه ماضيها العظيم من أطلال خربة فخطر له في تلك اللحظة أن يسجل تاريخ المدينة، ثم رأى أن روما قد نالت كفايتها من تخليد ذكراها، فحول فكره إلى موطنه الأصلي وقرر أن "يحشد في هذا المجلد ... جميع ما وقع في مدينة فلورنس من أحداث... وأن يقص أعمال أهل فلورنس كاملة، وأن يورد في إيجاز الشئون الهامة في سائر العالم "(25).

وبدأ تاريخه ببرج بابل وختمه بالأحداث التي وقعت قبيل الموت الأسود الذي مات هو فيه، واتم القصة أخوه ماتيو Matteo وفلبو Philippo أبن أخيه حتى بلغا بها عام 1365. وكان جيوفني حسن الاستعداد للعمل الذي اضطلع به. فقد كان ينتسب إلى أسرة ثرية من التجار، وكان متمكناً من اللغة التسكانية الخالصة، وقد طاف بأنحاء إيطاليا، وفلاندرز، وفرنسا، وعمل ثلاث مرات مختلفة رئيساً لدير، ومرة مديراً لدار سك النقود، وكان لديه إحساس غير عادي، بالنسبة لتلك الأيام، بالأسس والعوامل الاقتصادية التي تعمل في التاريخ، وكان هو أول من أدخل في قصته إحصاءات عن أحوال البلاد الاجتماعية فجعلها بذلك طريقة ممتعة. ومعظم ما في الثلاثة الكتب الأولى من "تاريخ فلورنس الإخباري " قصص خيالية، أما ما تلاها من الكتب فتحدثنا أن فلورنس وما وراءها من الأرضيين كان يسكنها في عام 1338 مائة ألف وخمسة آلاف من السكان، سبعة عشر ألفاً منهم متسولون، وأربعة آلاف يعيشون من الإعانات العامة، وأنه كان بالمدينة ست مدارس ابتدائية يؤمها عشرة آلاف ولد وبنت، وأربع مدارس ثانوية يتعلم فيها ستمائة ولد وقليل من البنات "النحو " (أي الأدب). و "المنطق " (الفلسفة). وقد فعل فلاني ما لم يفعله غيره من المؤرخين فضمن كتابه ملاحظات عما هنالك من كتب، وصور، ومبان، جديدة، حتى ليصح القول بأننا قلما نعرف أن مدينة أخرى قد وصفت جميع مظاهر حياتها وصفاً مباشراً كما وصفت فلورنس، ولو أن فلاني قد سلك كل هذه المناحي والتفاصيل في قصة واحدة من العلل، والمظاهر، والشخصيات، والنتائج لجعل من كتابه الإخباري تاريخاً حقيقياً.

واستقر بوكاتشيو في فلورنس عام 1340 وظل يطارد المرأة في الحياة والشعر والنثر. فقد أهدى امورازا فزيوني Amorasa Visioni إل فيامتا Fiametta واسترجع في 4400 بيت ايام صلتهما السعيدة. وينطق بوكاتشيو فيامتا الأميرة غير الشرعية المولد في رواية نفسانية بقصة انحرافها مع بوكاتشيو وتحلل نشوات الحب القوية، وآلام العاطفة، والغيرة، والهجران بتفصيلات وافية، وحين يؤنبها ضميرها على عدم وفائها تتمثل أفرديتي تؤنبها على جنبها وتقول: "لا تجبني وتقولي إن لي زوجاً وإن القوانين المقدسة والوعود تحرم هذه الأشياء عليَّ لأن هذا كله غرور كاذب واعتراضات حمقاء طائشة على قوة الحب. ذلك أن الحب يفرض قوانينه الأبدية كأنه أمير قوي عظيم، ولا يبالي بغيرها من القوانين التي هي أقل منها شأنا، والتي يراها قواعد منحطة دنيئة(37). ويسيء بوكاتشيو استخدام قلمه فيختم كتابه بأن ينطق فيامتا تمجيداً له وتعظماً بأنه هو الذي هجرها وليست هي التي هجرته. ويعود بوكاتشيو إلى الشعر فينشد في نيفالي فيزولانو حب أحد الرعاة لكاهنة من كاهنات ديانا، ويصف في دقة العاشق الواله ظفره بها بحماسة الذي بنى عليه ديكمرون.

وقد بدأ بوكاتشيو يكتب هذه السلسلة الذائعة الصيت والمتصلة الحلقات من قصص الإغواء بعد طاعون عام 1348 بزمن قليل. وكان وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره وكانت حرارة الشهوة قد نزلت من الشعر إلى النثر، وشرع يدرك ما في مطاردة النساء الجنونية من فكاهة. ويبدو أن فيامتا نفسها قد ماتت بالطاعون، وأن بوكاتشيو قد هدأ هدوءاً يكفي لأن يستخدم الاسم الذي أطلقه عليه ليسمى به واحدة من أقل الفتيات الروايات في كتابه. ولم ينشر الكتاب كله إلا في عام 1353 وإن كان بعضه قد نشر من غير شك على أجزاء متقطعة، وشاهد ذلك أن المؤلف يجيب وهو يمهد لليوم الرابع عما وجه إلى القصص السابقة من نقد. والكتاب في صورته التي لدينا الآن مؤلف من مائة قصة، مائة قصة كاملة. ولم يكن يقصد بها أن يقرأ عدد كبير منها دفعة واحدة، وما من شك في أنها وقد نشرت متتابعة قد اتخذت موضوعات للسمر في كثير من الأماسي الفلورنسية. وتصف المقدمة ما كان للموت الأسود الذي اجتاح أوربا بأكملها في عام 1348 وما بعدها من آثار في مدينة فلورنس. ويبدو أن المرض قد نشأ من خصب السكان الآسيويين وقذارتهم وما انتابهم من الفقر بسبب الحرب، والضعف بسبب المجاعة، فأمتد الوباء من بلاد العرب إلى مصر، ومن البحر الأسود إلى روسيا وبلاد بيزنطية، ثم نقله تجار البندقية، وسرقوسة، وبيزا، وجنوي، ومرسيليا وسفنها من القسطنطينية والإسكندرية وغيرهما من ثغور الشرق الأدنى بمساعدة البراغيث والفئران إلى إيطاليا وفرنسا. وأكبر الظن أن سني القحط المتعاقبة التي حلت بأوربا الغربية -1333-1334، 1337، 1342، 1345-1347- قد أوهنت ما كان للفقراء من قوة المقاومة، ثم نقل الوباء إلى سائر الطبقات(39). وأنتشر الوباء في صورتين: طاعون رئوي مصحوب بحمى عالية، وبصاق دموي ويؤدي إلى الموت في خلال ثلاثة ايام من بدء الإصابة، ودملي مصحوب بحمى وخراجات وجمرات ويؤدي إلى الموت في خلال خمسة أيام. وقضى الطاعون في هجماته المتعاقبة على نصف سكان إيطاليا بين عامي 1348 و 1365 (40) وكتب مؤرخ إخباري حوالي عام 354 يصفه فقال: لم يكن يصحب الجثث إلى قبورها أحد من أهل المتوفى أو أصدقائه القساوسة أو الرهبان، ولم تطن تتلى عليها صلاة الجنازة... وحفرت في كثير من أنحاء المدينة خنادق ألقيت فيها الجثث، وغطيت بطبقة رقيقة من التراب، وتلتها طبقة بعد طبقة حتى امتلأ الخندق ثم بدئ بحفر خندق جديد. وقد دَفَنْتُ أنا أنيولو دي تورا Agnolo di Tura... بيدي خمسة من أبنائي في خندق واحد، وفعل هذا بعينه كثيرون غيري. وكانت الطبقة التي غطيت بها جثث بعض الموتى رقيقة إلى حد جعل الكلاب تخرجها وتنهشها، وتنشر أعضاءها في جميع أنحاء المدينة. ولم تدق أجراس، ولم يبك الموتى مهما فدح الخطب لأن كل أنسان تقريباً كان يترقب الموت... وكان الناس يقولون إن "هذه هي آخر العالم " يؤمنون بما يقولون(41).

ويقول ماثيو فلاني إن ثلاثة من كل خمسة من سكان فلورنس ماتوا بين شهري إبريل وسبتمبر من عام 1348، وقدر بوكاتشيو عدد من مات من أهل فلورنس بستة وتسعين ألفا(43)، وتلك بلا ريب مغالاة واضحة لأن سكان المدينة لا يكادون يزيدون وقتئذ على مائة الف. ويبدأ بوكاتشيو كتاب ديكمرون بوصف مروع للطاعون يقول فيه:

ولم يكن الاتصال بالمرضى أو التحدث إليهم وحدهما ينقلان العدوى إلى الأصحاء، بل يبدو أن مجرد لمس ثياب أولئك المرضى أو أي شئ آخر مسوه أو استعملوه كان يكفي لنقل المرض... وكان أي شئ مما يملكه الموتى أو المصابون بهذا الوباء إذا أمسه حيوان,... مات بعد وقت قليل... وتلك أمور شاهدتها بعيني رأسي. وقذفت هذه المحنة الرعب في قلوب الناس جميعاً... فتخلى الأخ عن أخيه، والعم عن أبن أخيه.. وكثيراً من هذا وما لا يكاد يصدقه العقل، وهو أن بعض الآباء والأمهات رفضوا أن يزوروا أبناءهم أنفسهم أو يعنوا بهم كأنهم ليسوا منهم... وأفترس المرض في كل يوم آلافاً من عامة الشعب لأنهم لم يجدوا من يرعاهم أو يعمل لإنقاذهم، وماتوا وهم لا يكادون يجدون ملجأ أو معونة. ولفظ الكثيرون منهم آخر أنفاسهم في الطرقات، ومات كثيرون غيرهم في بيوتهم ولم يعرف جيرانهم خبر موتهم إلا من رائحة أجسامهم المتعفنة لا من أية وسيلة أخرى، وامتلأت المدينة بهؤلاء وأولئك وغيرهم من الأموات. وأخرج الجيران جثث الموتى من منازل اصحابها ووضعوها أمام أبوابها مدفوعين إلى ذلك بخوفهم أن يتعرضوا هم للخطر بسبب تعفن هذه الجثث لا بأي شعور بالرحمة نحو هؤلاء الأموات، ولهذا كان المارة وبخاصة في الصباح يرون من الجثث ما يخطئه الحصر. وكانوا حينئذ يجيئون بالتوابيت فإذا أعوزتهم جاءوا بألواح من الخشب وحملوا عليها. ولم يكن الأمر مقصوراً على أن يحمل التابوت الواحد جثتين أو ثلاث جثث متجمعة، أو أن يحدث هذا مرة واحدة، بل إنك لتستطيع أن تجد توابيت كثيرة وقد وضع فيها الزوج وزوجته، وأخوان أو ثلاثة أخوة، وأب وابنه، وما إلى هذا وأمثاله... ووصل الأمر إلى حد لم يكن الناس معه يحصون من مات من الخلائق إلا كما يحصى الناس عدد الماعز في هذه الأيام(43). ويرسم بوكاتشيو صورة كتابه ديكمرون من مناظر الخراب السالفة الذكر، وقد وضعت خطة إخراجه في "كنيسة سانتا ماريا نوفلا المعظمة " على أيدي "سبع فتيات ترتبك كل منهن بالأخريات برباط الصداقة أو الجيرة أو القرابة، وقد استمعن توا إلى القداس. وتتراوح أعمارهن بين الثامنة عشرة والثامنة والعشرين من العمر ". وكلهن ذوات فطنة، ونبل، وجمال، وآداب عالية، مرحات مرحا يزينه الشرف. "وتقترح إحداهن أن يقللن من خطر عدوى الطاعون بالرجوع إلى بيوتهن الريفية مجتمعات لا فرادى، وأن يأخذن معهن خدمهن، وأن يتنقلن من بيت ريفي إلى آخر وأن "يستمتعن بالمرح واللهو الذي يتيحه ذلك الفصل من فصول السنة... فهناك نستطيع أن نستمع إلى تغريد الطير، ونرى التلال والسهول وقد اكتست بحلة سندسية، والحقول وقد امتلأت بالقمح يتماوج فيها تماوج ماء البحر، وفيها نرى آلافا من أنواع الثمر، ونشاهد وجه السماء مبسوطا للناظرين، لا يحجب عنا جماله، وإن كان مغضبا علينا "(44). وتوافق الفتيات على هذا الاقتراح، ولكن فلومينا Filomena تدخل عليه بعض التحسين فتقول : "إننا نحن النساء متقلبات، عنيدات، شديدات الريبة، خوارات العود " ولهذا فقد يكون من الخير أن يكون معنا بعض الرجال. وساقت إليهن الأقدار في تلك اللحظة ثلاثة رجال "ثلاثة شبان دخلوا عليهن الكنيسة... لم تقو صروف الزمان، أو فقد الأهل والأصدقاء... أن تنال منهن فتطفئ... نار الحب الملتهبة في قلوبهم ... وكانوا جميعاً ذوي لطف وأدب جم وتربية عالية، وقد خرجوا جميعاً يبحثون عن أعظم سلوى لهم... وهي رؤية عشيقاتهم، واتفق أن كانت أولئك العشيقات الثلاث من بين السبع الفتيات السالفات الذكر ". وتشير بمبينيا على صاحبتها أن يدعى أولئك الشبان للانضمام إلى جماعتهن فيخرجوا معهن إلى الريف، وتخشى نيفيلي Neifile أن يؤدي هذا إلى القيل والقال، فترد عليها فلومينا بقولها: "ما دمت أحافظ على شرفي، ولا أفعل ما يؤنبني عليه ضميري، فلست أبالي بما يقول الناس غير هذا ".

ويتم الاتفاق وتبدأ الرحلة في يوم الأربعاء التالي يتقدمهم الخدم يحملون الطعام ميممين شطر بيت ريفي على مسيرة يومين من فلورنس "يتوسطه فناء جميل رحب، وأبهاء، وحجرات للاستقبال، وأخرى للنوم، كل واحدة منها ذات جمال، مزدانة بصور تسر النفس، وتحيط بها خمائل وأرض ذات كلأ، وحدائق عجيبة غناء، وعيون ماء باردزلال، وسراديب ملأى بالخمر الغالي الثمن "(44). وتنام الفتيات والشبان بعد أن يمضي من الليل معظمه، ويفطرون على مهل، ويتنزهون في الحدائق، حتى إذا تعشوا آخر الأمر أخذوا يسلون أنفسهم بالقصص التي تتفق مع هذا الأسلوب من الحياة. وتتفق الجماعة على أن يقص كل فرد من أفرادها العشرة قصة في كل يوم من أيام النزهة، ويقضون في الريف عشرة أيام (ومن ثم اشتق اسم الكتاب من الكلمتين اليونانيتين ديكا همراي Deka hemeral أي عشرة أيام) وتكون النتيجة أنك تجد في مجموعة بوكاتشيو المرحة قصة تعارض كل مقطوعة من مقطوعات دانتي المكتئبة المخزنة. وتضع الجماعة قاعدة تحرم على أي عضو من أعضائها "أن ينقل من الخارج أي خبر غير سار ".

ويندر أن تكون القصص التي بلغ طول الواحدة منها ست صفحات من ابتكار بوكاتشيو نفسه، بل أنه جمعها من المصادر اليونانية والرومانية القديمة، ومن كتاب الشرق ومن أقاصيص العصور الوسطى، والقصص والخرافات الفرنسية، والأقاصيص الشعبية المنتشرة في إيطاليا نفسها. وآخر قصص الكتاب وأوسعها شهرة قصة جريزلدا Griselds الصابرة التي بنى عليها تشوسر Chaucer واحدة من أحسن وأسخف قصص كنتربري Canterbury Tales. أما أجمل قصص بوكاتشيو فهي القصة التاسعة التي تروي في اليوم الخامس -قصة فدريجو Federigo، وصقره وحبه، والتي تحوي من التضحية ما لا يكاد يقل عن تضحية جريزلدا. أما أكثرها فلسفة فهي قصة الخواتم الثلاثة (الكتاب الأول -القصة الثالثة) ومضمونها أن صلاح الدين "سلطان بابل " يحتاج إلى المال فيدعو ملشيزدك Melchisedek اليهودي الثري إلى العشاء معه ويسأله أي الأديان الثلاثة أحسنها-اليهودية أو المسيحية أو الإسلام؟ ويخشى الشيخ اليهودي الحكيم أن يقول ما يعتقد فيجيب عن هذا السؤال بقصة رمزية: كان يعيش في الأيام الخالية رجل عظيم الشأن كثير المال، وكان من بين ما عنده من الجواهر الثمينة في كنوزه خاتم عظيم غالي الثمن...وأراد أن يورث هذا الخاتم أبناءه من بعده وأن يبقى عندهم إلى أبد الدهر، فأعلن أن الذي يوجد منهم عند وفاته ممتلكاً للخاتم تنفيذاً لوصيته يجب أن يعترف به وارثاله، وأن يقر له سائر الأبناء بالزعامة والرياسة، وأن يعظموه ويوقروه. واتبع من أوصى له بالخاتم هذه الخطة نفسها مع أبنائه هو، ففعل مثل ما فعل والده. وقصارى القول أن الخاتم أخذ يتنقل من يد إلى يد أجيالاً طوالا حتى وصل آخر الأمر إلى يد رجل له ثلاثة أبناء صالحين فاضلين كلهم مطيعون لأبيهم أحسن إطاعة، ومن أجل هذا كان الأب يسوى بينهم جميعاً في حبه. وكان الأبناء يعرفون قيمة الخاتم وفائدته، ويريد كل منهم أن يكون هو أعظم الثلاثة قدرا بين قومه... ولهذا أخذ كل واحد منهم يرجو أباه-وكان قد بلغ الشيخوخة-أن يوصى له بالخاتم... ولم يكن ذلك الرجل الصالح يدري كيف يختار من بين أبنائه من يفضله على أخويه فيوصى له بالخاتم، ففكر ... في أن يرضيهم هم الثلاثة وعهد في السر إلى صانع ماهر أن يصنع له خاتمين آخرين يشبهان الخاتم الأول شبها يكاد يعجز معه هو نفسه عن أن يعرف أيهل الحقيقي وأيها المقلد. فلما قربت منيته أعطى كل واحد من أبنائه خاتمه سراً، فلما مات الأب واراد كل واحد من الأبناء أن يرث المال والشرف دون غيره من أخويه أظهر خاتمه يؤيد به حقه. وإذا كانت الخواتم الثلاثة متشابهة كل الشبه فقد كان من غير المستطاع معرفة الخواتم الثلاثة متشابهة كل الشبه فقد كان من غير المستطاع معرفة الخاتم الأصيل. وتأجل من ثم الفصل في أي الثلاثة يرث أباه، ولا يزال ذلك مؤجلا حتى الآن. وكذلك أقول لك يا مولاي: إن كل شعب من الشعوب الثلاثة يرى أنه هو الذي يرث من الله شريعته الحقه ووصاياه من بين الشرائع الثلاثة التي أنزلها الله أبو الخلق على هذه الشعوب. أما أي شعب منها هو صاحب هذه الشريعة وتلك الوصايا فإن هذا لم يعرف بعد، وشأن ذلك شأن الخاتم سواء بسواء.

وتوحي هذه القصة بأن بوكاتشيو وهو في السابعة والثلاثين من عمره لم يكن مسيحياً متعصباً لمسيحيته. وخليق بنا أن نوازن بينه وبين تعصب دانتي وما قاله عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)(46). وفي القصة الثانية من قصص ديكمرون نرى اليهودي يحنات يعتنق الدين المسيحي بعد اقتناعه بالحجة التي أوردها فلتير وهي أن المسيحية دين منزل من عند الله ما في ذلك شك، لأنها قد بقيت بعدما فشا بين رجال الدين من فساد في الأخلاق، وارتشاء، وبيع للمناصب الدينية. ويسخر بوكاتشيو بالنسك، والطهارة، والاعتراف الديني، والمخلفات المقدسة، والقساوسة، والرهبان، وجماعات الإخوان، والراهبات، وإضفاء صفة القداسة على الصالحين. ويرى أن الكثرة الغالبة من الرهبان قوم مراءون منافقون، ويسخر من "البلهاء " الذين يقدمون لهم الصدقات (الكتاب السادس، القصة العاشرة). وتحدثنا واحدة من أكثر قصصه مرحا عن الراهب تشيبلا Cipalla وكيف أراد أن يجمع مبلغاً كبيراً من المال فوعد مستمعيه أن يعرض عليهم "أثرا مقدسا أعظم التقديس، وهو ريشة من ريش الملاك جبريل بقيت في حجرة مريم العذراء بعد أن بشرها بمولد المسيح (الكتاب السادس القصة العاشرة ). أما أكثر هذه القصص بذاءة وفحشا فهي التي تروى كيف أشبع الشاب ماستو Masetto الشَّبِق شهوة دير للنساء بأكمله (الكتاب الثالث-القصة الأولى). وفي قصة أخرى يروى بوكاتشيو كيف زنى الراهب رينلدو Rinaldo بزوجة رجل، ثم يسأل راوي القصة: "ومَن مِن الرهبان لا يفعل هذا " (الكتاب السابع القصة الثالثة).

وتظهر السيدات في كتاب ديكمرون شيئا من الحياء حين يستمعن إلى هذه القصص، ولكنهن يستمتعن بما تحويه من فكاهة شبيهة بفكاهة ربليه Rabelais وتشوسر. وتقص فلومينا، وهي فتاة ذات آداب راقية، قصة رينالدو، ويقول بوكاتشيو في أسوأ صورة من صوره إن "السيدات كن في بعض الأحيان يواصلن الضحك زمنا يكفي لخلع أسنانهن جميعها "(47). ويرجع هذا النحو الذي نحاه بوكاتشيو في قصصه إلى أنه قد نشأ وسط مرح نابلي الطليق، وأنه إذا ما فكر في الحب كان في أغلب الأحيان يفكر في معناه الشهواني، أما حب الفروسية والشهامة فكان يسخر منه، وكان موقفه من دانتي كموقف سانكوبانزا من دون كيشوت. ويبدو أنه كان يؤمن بالحب الطليق مع أنه قد تزوج مرتين(48). وتراه بعد أن يقص نحو عشرين قصة لا يصح أن يتحدث بها البوم بين جماعة من الذكور ينطق أحد الرجال بعبارة يقولها للسيدات : "لم ألاحظ قط أي عمل، أو لفظ، أو كلمة، أو أي شئ ناب صدر منكن أو من الرجال ". ويعترف المؤلف في ختام كتابه بصحة بعض ما يوجه من النقد إلى ما في الكتاب من فحش وخاصة "لأني قلت الحق عن الرهبان في مواضع كثيرة ". وهو في الوقت ذاته يهنئ نفسه على ما بذله من "جهد طويل أتم فيه عمله على أكمل وجه بمعونة الله ".

ولا يزال ديكمرون من روائع الأدب العالمي، ويرجع سبب شهرته إلى أخلاقه اكثر مما يرجع إلى نفسه، ولكنه حتى لو خلا من ما يجافى الخلق الكريم لكان مع ذلك خليقا بالبقاء. وليس في بناء الكتاب شئ من النقص- وهو يسمو من هذه الناحية على كتاب قصص كنتربري. وقد ارتفع نثره بالأدب الإيطالي إلى مستوى لم يسم عليه قط، وهو نثر قد يكون في بعض الأحيان معقداً أو مزخرفاً، ولكنه في معظمها بليغ، جذل، لاذع، مطرب، صاف صفاء النبع الجبلي. إنه كتاب في حب الحياة، وقد استطاع بوكاتشيو في غمرة أكبر كارثة حلت بإيطاليا في مدى ثمانين عاما أن يجد في نفسه من الشجاعة ما يستطيع به أن يرى الجمال، والفكاهة، والطيبة، والمرح لا تزال تمشي على الأرض، وتراه في بعض الأحيان ساخراً كما تبين ذلك في هجوه الخالي من الشهامة للنساء في الكرباتشيو Corbaccio، لكنه كان في ديكمرون شبيها بربليه في ضحكه العالي ومرحه، يتقبل ما تعطيه الحياة إياه وما تأخذه منه، ويرضى منها ومن الحب بمتاعبها وسقطاتهما. ولقد شهد العالم نَفْسه مصورا في الكتاب رغم ما فيه من مغالاة ومن صور هزلية. ولقد ترجم إلى جميع اللغات الأوربية، ونقل هانز ساكس Hans sachs ولسنج Lessing، ومليير Moli?re ولافنتينLa Fontaine، وتشوسر Chaucer، وشكسبير نقل هؤلاء كلهم صحفا منع أعجبوا بها كل الإعجاب. وسيظل الكتاب متعة للقراء بعد أن يكون جميع شعر بترارك قد انطوى في عالم الكتب التي يمدحها الناس ولا يقبلون على قراءتها.

الفصل الثامن: سينا

وكانت سينا خليقة بأن تتحدى ادعاء فلورنس بأنها مهد النهضة. ففيها أيضا رفعت حدة الانقسامات الحزبية من حرارة التفكير، وغذى زهو المدينة باستقلالها شجرة الفن، وأمدت صناعة الصوف وصادرات المدينة إلى البلاد الواقعة في شرق البحر المتوسط، والتجارة المتبادلة بين فلورنس وروما مارة بطريق فلامينا Via Flamina، بقدر لا بأس به من الثراء فلم يحل عام 1400 حتى كانت ميادينها وشوارعها الرئيسية مرصوفة بالآجر أو الحجارة، وحتى بلغ فقراؤها من الثراء درجة شجعتهم على القيام بثورة، ذلك أن العمال في صناعة الخشب حاصروا القصر العام Palazza Pubblico في عام 1371، وحطوا أبوابه، وطردوا منه حكومة رجال الأعمال، وأنشئوا حكومة الفقراء ولم تمض على قيام هذه الحكومة إلا بضعة أيام حتى قام جيش مؤلف من ألفي رجل جهزه ذوو المصالح التجارية في المدينة، فهاجم أحياء العمال، وذبح من فيها من الرجال والنساء، والأطفال، دون تمييز أو رحمة، فمنهم من أنفذت في أجسادهم الحراب، ومنهم من مزقت بالسيوف. وخف الأشراف ورجال الطبقة الوسطى-الدنيا لإنقاذ العامة، وقضى على الثورة المضادة، وتولت حكومة الاصلاح مقاليد الأمور، فوهبت المدينة أشرف نوع من الإدارة يستطيع أهلها أن يتذكروه. ثم ثار التجار الأغنياء مرة أخرى في عام 1385، وأسقطوا حكومة الفقراء، وطردوا أربعة آلاف من العمال العاصين من المدينة. وضعف شأن الصناعة والفن في سينا من ذلك التاريخ . وبلغ الفن في سينا ذروة مجده في القرن الرابع عشر المليء بالاضطراب، فقد قام فيها على الجانب الغربي من الكامبو الفسيح- وهو الميدان الرئيسي في المدينة- القصر العام، البلاتسوببليكو (1288-1309)، يجاوره برج الأجراس Torre de Magnia الذي يعلو إلى 334 قدما، والذي هو أجمل برج في إيطاليا حتى اليوم. وفي عام 1310 انتقل لورندسو ميتاني Lorenzo Maitani أعظم المهندسين المعماريين والمثالين في سينا إلى أرفيتو وخطط الواجهة الفخمة لكنيستها الكبرى، ثم أخذ هو وغيره من الفنانين من أهل سينا ومعهم أندريا بيزانو يعملون في شبه حمى جنونية لتزيين المداخل، والعمد المربوعة، والقواصر، حتى أخرجوا معجزة فنية من الرخام ليخلدوا بها ذكرى معجزه بلسينا Bolsena. وأنشئت لقصر سينا العظيم في عام 1377 واجهة مماثلة للواجهة السالفة الذكر على أساس التخطيط الذي تركه جيوفني بيزانو، ولعلهم قد بالغوا في زخرفته. ولمنه مع هذا لا يزال من عجائب الفن في إيطاليا التي لا تحصى عجائبها الفنية.

وكانت طائفة ممتازة من المصورين في سينا قد واصلت العمل من النقطة التي وقف عندها دي بيوننسنيا Duccio di Buoninsegna. ذلك أن سيمون مارتيني قد عهد إليه في عام 1315 أن يزين بهو المجلس العظيم في البلاتسوبيليكو بصورة تمثل تتويج العذراء (المائستا Maesta)، وذلك لأن العذراء كانت من الوجهة القانونية كما كانت من الوجهة الدينية ملكة المدينة المتوجة، وكان من حقها أن ترأس اجتماعات الحكومة البلدية. ولم تكن الصورة تقل روعة عن مثيلتها التي رسمها دتشيو لتوضع في الكنيسة قبل خمس سنين من ذلك الوقت. نعم إنها تضارعها في حجمها، أو فيما أثقلت به من الذهب، وهي شبيهة بأختها "ذات الجلال " تكشف عما استمده فن التصوير في سينا من فن بيزنطية، وذلك بما تظهره من جمود وعدم حركة في الملامح، ومن وقوف أشخاص الصورة المزدحمين فيها وقفة خالية من الحياة، ولعلها قد تقدمت على الصورة الأولى في اللون وفي التصميم. ولكن سيمون ذهب في عام 1226 إلى أسيسي حيث درس مظلمات جيتو، فلما دعا ليصور في معبد بالكنيسة السفلي حياة القديس مارتن، خرج على الوجوه ذات الطابع الراسخ التي مثلها في صوره السابقة، وصور وجه اسقف تور تصويراً أبرز فيه نزعة انفرادية ذائعة الصيت. والتقى بيترارك في أفنيون ورسم صوراً للشاعر ولورا Laura، ومجد من أجل ذلك الكندسونيير Canzoniére. ويقول فاساري Vasari ان هذه السطور الموجزة "قد أذيعت شهرة سيمون أكثر مما أذاعتها أعماله هو مجتمعة ... ذلك أن أعماله سيأتي عليها وقت لا يكون لها فيه وجود، أما ما يكتبه رجل مثل بترارك فسيبقى أبد الدهر "، وذلك تفاؤل لا نجده عند علماء طبقات الأرض أنفسهم. وعين بندكت الثاني عشر سيمون مصوراً رسمياً للبلاط البابوي (1339)، وأوضح بحكم منصبه حياة المعمدان في معبد البابا وحياة العذراء والمنقذ على مدخل الكنيسة. ومات في أفنيون عام 1334.

وواصل بيترو Pietro وأخوه أمبروجيو Ambrogio ابنا لورندستي Lorenzetti ما حاوله سيمون من إخراج الفن من طابعه الديني إلى طابعه الدنيوي وتوسع فيه. ولعل بيترو قد هجر التقاليد العاطفية المسرفة التي أتسم بها فن التصوير في سينا، وأخرج طائفة من الصور لتزدان بها محاريب الكنائس ليس فيها سبق مثيل في قوتها، وليس لها في بعض الأحيان مثيل في واقعيتها الوحشية. فقد صور أمبروجيو في بهو القسعة (المشيرين) في البلاتسوببليكو أربعة مظلمات (1337-1343): الحكومة الخبيثة وعواقب الحكومة الخبيثة، والحكومة الصالحة وعواقب الحكومة الصالحة. وقد استبقى فيها الرمزية المضادة في العصور الوسطى والتي تخلى عنها جيتو، فنرى صوراً فخمة لأشخاص يمثلون سينا، والعدالة، والحكمة، والاتفاق، والفضائل السبعة، والسلم- وتنحى الشخصية التي تمثل السلم في رشاقة كما تنحى آلهة فدياس. ونشاهد في صورة الحكومة الخبيثة الاستبداد جالسا على العرش، ووزيره الرعب، ونرى التجار تنهب بضائعهم في الطريق، والتحزب والعنف يخضبان المدينة بالدماء. وتظهر صورة الحكومة الصالحة المرسومة على جدران هذا البهو نفسه الأهلين السعداء يعملون مغتبطين في صناعاتهم اليدوية، وفي مسراتهم وتجارتهم، ونرى الزراع والتجار يقودون إلى المدينة بغالا محملة بالطعام والسلع، والأطفال يلعبون، والفتيات يرقصن، والآلات الموسيقية تصدر عنها نغمات صامتة، وترفرف فوق المنظر كله روح مجنحة ترمز إلى الأمن. وربما كان هذان الأخوان النشيطان هما اللذين صورا المظلم الضخم الذي يمثل انتصار الموت في الكامبو سانتو Campo Santo (الميدان المقدس) في بيزا Pisa. وتمثل هذه الصورة جماعة من الصيادين مؤلفة من الأعيان والسيدات يرتدون ثياباً غالية الثمن، ويعثرون على ثلاثة توابيت تحتوي جثثا متعفنة لملوك. ويمسك أحد الصيادين بانفه اشمئزاز من رائحتها. ويحوم ملك الموت فوق هذا المنظر، وهو يلوح بمنجل ضخم، وفي الهواء ملائكة الرحمة يحرسون الأرواح الناجية في طريقها إلى الجنة، ثم نرى الشياطين المجنحة تجر معظم الموتى إلى الجحيم، ونرى الأفاعي تطوق أجسام الرجال والنساء العارية والنسور تنهشها، وتلتهمها، ومن تحتها الملوك، والملكات، والأمراء، والأميرات، والأساقفة، والكرادلة يتلوون في الهاوية التي تضم الملعونين. وقد صور هذان الفنانان نفسهما على جدار مجاور لهذا في مظلم آخر ضخم صورة يوم الحساب إلى اليسار ومنظراً آخر من مناظر الجحيم إلى اليمين. وتتجسم في هذين المنظرين جميع الأهوال التي يتصورها أهل العصور الوسطى. فهي شبيهة بمنظر جحيم دانتي تُرى رأى العين خالية من الرحمة وذاهبة إلى أبعد حد. ولم تخرج سينا يوماً من العصور الوسطى، بل بقيت هي وجبيو Gobbio، وسان جمنيانو San Gimignano، وصقلية على حالها إلى ما بعد النهضة، لم تمت هذه المدن أبداً ولكنها تتربص وقتها صابرة مستورة حتى تظهر من جديد.


الفصل التاسع: ميلان

عاد بترارك إلى أفنيون في عام 1351، وأكبر الظن أنه كتب في فوكلوز Vaucluse مقالا لطيفا في حياة الوحدة De vita solitaria يمتدح فيه الوحدة التي يستطيع أن يتخيلها على أنها علاج شاف ولكنه لا يطيقها إذا كانت طعاما يقيم به الأود. وبعد قليل من عودته إلى أفنيون أثار عليه غضب جماعة الأطباء حين حذر البابا كلمنت السادس، وكان وقتئذ يعاني آلام المرض، من الأدوية التي يصفها له الأطباء: "لقد كنت على الدوام أرجو أصدقائي وآمر خدمي، ألا يسمحوا أبدا بات تجرب أية حيلة من حيل الأطباء هذه في جسمي، وأن يفعلوا عكس ما يشير به هؤلاء تماماً"(49). واستشاط غضبا من إخفاق بعض العلاج فكتب في عام 1355 تنديدا بطبيب. ولم يكن أكثر من ذلك ميلا إلى المحامين "الذين يقضون وقتهم كله في النزاع... على أتفه المسائل": "استمع إلى حكمي على جماعتهم كلها. إن شهرتهم ستفنى بفناء أجسادهم، وإن قبراً واحداً ليكفي أسماءهم وعظامهم"(50) واراد البابا إنوسنت السادس أن يجعل أفنيون بغيضة اشد البغض لبترارك فاقترح أن يحرمه بحجة أن متنبئ روحاني ساحر اعتمادا على أن الشاعر دارس لفرجيل. وخف الكردنال تليران Talleyrand لإنقاذ بترارك، ولكن نفس الشاعر عافت جو أفنيون المعطر بالجهالة القدسية فزار أخاه الراهب جراردو Gherardo وكتب رسالة شيقة في فراغ الرهبان داعب فيها فكرة دخول الدير. ولكنه جاءته دعوة لأن ينزل ضيفا على طاغية ميلان في قصره (1353) فبادر إلى قبولها مبادرة صدمت مشاعر أصدقائه الجمهوريين.

وكانت الأسرة الحاكمة في ميلان يطلق عليها اسم الفيكونتي لأن افرادها كثيراً ما كانوا يشغلون منصب الفيسكوميت Vicecomites أي كبار قضاة الأبرشية. وعين الإمبراطور هنري السابع في عام 1311 ماتيو فيكونتي قسا له في ميلان، وكانت هذه المدينة كما كانت الكثرة الغالبة من مدائن شمالي إيطاليا، تعترف على نحو ما بأنها جزء من الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأظهر ماتيو في حكمه من البراعة والحزم ما مكن بنيه من أن يحتفظوا بالسلطة حتى عام 1447 وأن كان قد ارتكب هو في أثناء حكمه اغلاطا شنيعة. وقلما كان خلفاؤه يراعون في حكمهم ذمة أو ضميراً، وكثيراً ما كانوا قساة غلاظا، كما كانوا أحياناً مسرفين، ولكنهم لم يكونوا أبداً أغبياء. وقد فرضوا الضرائب الفادحة على الشعب ليحصلوا بذلك على الأموال اللازمة لحروبهم الكثيرة التي أخضعت الشمال الغربي من إيطاليا لحكمهم ولكن مهارتهم في اختيار الحكام وقواد الحرب الماهرين أكسبت جيوشهم النصر وعادت بالرخاء على ميلان. وقد أضافوا إلى صناعة الصوف التي اشتهرت بها ميلان صناعة الحرير، وزادوا من عدد القنوات التي ضاعفت تجارتها، وأمنوا رعاياهم على أنفسهم وأموالهم إلى حد أنساهم حريتهم، فأضحت ميلان تحت حكمهم الاستبدادي من أغنى مدائن أوربا، فكانت قصورها ذات الواجهات الرخامية تطل على الشوارع المرصوفة بالحجارة. ووصلت ميلان بفضل جيوفني فيكونتي الوسيم، المجد، الذي يستطيع أن يكون قاسيا أو كريما إذا دعته إلى ذلك الحاجة أو طافت به نزوة من النزوات، إلى ذروة مجدها، واعترفت لودي Lodi، وبارما، وكريما Crema، وبياتشندسا، وبريشيا، وبرجامو، ونوفارا Novara، وكومو، وفرتشلي Vercelli، والسندريا Alessandria، وتورتونا Tortona، وبنتريمولي Pontremoli، واستيا Astia، وبولونيا، اعترفت هذه كلها بحكمه وسلطانه، ولما أن نازعه بابوات أفنيون دعواه في تملك بولونيا، وأصدروا عليه قرار الحرمان، حارب كلمنت السادس بالشجاعة والرشا، وظفر ببولونيا، وبالغفران، والسلم نظير مائتي ألف فلورين (1352). وأصيب من جراء جرائمه بالنقرس، وزاد استبداده بمناصرة الشعر، والعلم، والفن. ولما وفد بترارك على بلاطه، وسأله أي الواجبات يطلب إليه أن يؤديها، رد عليه جيوفني ذلك الرد الجميل: "لا شيء أكثر من وجودك الذي يشرفني ويشرف حكمي"(51).

وأقام بترارك في بلاط الفيكونتي في بافيا أو ميلان ثماني سنين، وألف في أثناء هذا الخضوع المريح سلسلة من القصائد بالشعر الإيطالي الرباعي الأوتاد سماها الانتصار أي انتصار الشهوة على الإنسان، والعفة على الشهوة، والموت على العفة، والشهرة على الموت، والزمان على الشهرة، والخلود على الزمان. وهنا أنشد آخر أغانيه إلى لورا Laura، وطلب أن تغفر له شهوانية حبه، وتحدث إلى روحها الطاهرة وحلم أنه اجتمع بها في الجنة- ولعل زوجها قد ذهب إلى مكان آخر. ولا تقل هذه القصائد شأنا عن قصائد دانتي، وهي تمثل انتصار الغرور على الفن.

وتوفى جيوفني فيكونتي في عام 1345 وأوصى بملكه إلى ثلاثة من أبناء أخيه، وكان ماتيو الثاني عاجزا منهمكا في ملذاته، فقتله أخواه ليحفظا بذلك شرف أسرتهما (1355). وحكم برنابو من ميلان جزءاً من الدوقية، وحكم حليستو الثاني Galezzo من بدوا ما بقى منها. وكان جليستو هذا حاكما قديرا يرسل شعره الذهبي في غدائر، وزوج بناته من أبناء الملوك. ولما أن تزوجت ابنته فيولنتي Violante دوق كلارنس Clarence أبن إدورد الثالث ملك إنجلترا، أعطاها بائنة قدرها مائتا ألف فلورين ذهبي (أي خمسة ملايين دولار)، ونفح كل واحد من حاشية الزوج الإنجليزية المؤلفة من مائتي ألف تابع بهدية ترفع مقامه في الكرم فوق مقام أغنى معاصريه من الملوك. ويؤكد لنا الرواة أن بقايا مائدة العرس كانت تكفي عشرة آلاف رجل. لقد بلغت إيطاليا في القرن الرابع عشر هذه الدرجة العليا من الثراء في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا تتردى في هاوية الأفلاس، وكانت فرنسا تستنزف دماؤها في حرب المائة السنين.


الفصل العاشر: البندقية وجنوى

بعث الدوق جيوفني فيكونتي في عام 1354 بترارك إلى البندقية ليفاوضها في عقد الصلح مع جنوي. وكتب الشاعر في ذلك يقول: "إنك لتشهد في جنوي مدينة حاكمة، مستقرة على سفح تل أجرد ذات أسوار شاهقة ورجال عظام"(52). وكان أهلها من أشد الناس حرصاً على الكسب يتحدون البحار بإقدامهم وبسالتهم، شقوا لتجارة جنوي طرائق في البحر المتوسط إلى تونس، ورودس، وعكا، وصور، وإلى ساموس، ولسبوس، والقسطنطينية، واخترقوا البحر الأسود إلى بلاد القرم وطربزون، واجتازوا مضيق جبل طارق والمحيط الاسود إلى بلاد القرم وطربزون، واجتازوا مضيق جبل طارق والمحيط الأطلنطي إلى رون وبروج. وهؤلاء المغامرون من رجال الأعمال هم الذين ابتدعوا قبيل عام 1340 طريقة القيد المزدوج (حساب الدوبيا) في إمساك الدفاتر، كما ابتدعوا الـامين البحري على السفن قبيل عام 1370 (53). وكانوا يقترضون المال من الأفراد المستثمرين بفائدة تتراوح بين سبعة وعشرة في المائة، في حين أن سعر الفائدة في معظم المدن الإيطالية كان يتراوح بين أثني عشر وثلاثين. وظلت ثمار التجارة ردحا طويلا من الزمن يتقاسمها بغير طريقة حبية عدد قليل من الأسر الغنية- أسرة دوريا Doria، واسبنولا، وجريملدى، والفيسكي Fieschi. وقاد سيمون بكانيرا Simone Boccanera البحارة وغيرهم من العمال في ثورة موفقة، وأسس أول أسرة من الأدواج Doge حكموا جنوي حتى عام 1797. وخلد فيردي Verdi أسمه في تمثيلية غنائية. ثم انقسم الغالبون بدورهم إلى عدة جماعات متعادية ونشروا الاضطراب في المدينة بمنازعتهم التي كلفتهم أموالا طائلة، في الوقت الذي كانت فيه البندقية منافسة جنوي العظيمة يعمها الثراء والرخاء بفضل ما تستمتع به من النظام والوحدة.

وكانت البندقية أغنى دول إيطاليا وأقواها بعد ميلان، وكانت حكومتها أقدر الحكومات وأكثرها حزماً بلا استثناء. واشتهر صناعها اليدويون بجمال مصوغاتهم، وكانت كثرتها خاصة بتجارة مواد الترف. وكانت دار صنعتها البحرية تضم 16.000 رجل، و 36.000 بحار يسيرون 3300 سفينة حربية وتجارية. وكان الذي يسرون سفائنها بالمجاديف رجالا من الأحرار لا من العبيد كما جرت بذلك العادة في القرن السادس عشر. وكان تجار البندقية يغزون جميع الأسواق من بيت المقدس إلى أنتويرب، ويتاجرون مع المسيحيين والمسلمين على السواء، ولا يميزون بين أولئك وهؤلاء، وجروا على أنفسهم اللعنات البابوية التي كانت تتساقط عليهم كما يتساقط الظل على الأرض. وكان بترارك الذي جاب الآفاق من نابلي إلى فلاندرز ليشبع "حبه وتحمسه لرؤية كثير من الأشياء" يعجب أشد العجب من كثرة ما يرى من السفن في مياه البندقية:

"أرى سفناً... لا تقل حجماً عن قصري، وسارياتها أعلى من ستة أبراج، كأنها جبال تسبح فوق الماء، تخرج لتواجه ما لا يحصى من الأخطار في كل صقع من أصقاع العالم، تحمل النبيذ إلى إنجلترا، والشهد إلى روسيا، والزعفران والزيت ونسيج الكتان إلى آشور، وأرمينية، وبلاد الفرس والعرب، والخشب إلى مصر وبلاد اليونان، ثم تعود مثقلة بالحاصلات على اختلاف أنواعها فترسلها إلى جميع أنحاء العالم(54).

وكانت هذه التجارة العظيمة الواسعة تعتمد على الأموال الخاصة يجمعها ويستثمرها المرابون الذين أطلق عليهم في القرن الرابع عشر لقب "المصرفيين" Bancherii، وهذا الأسم الإيطالي مشتق من لفظ Banco أي المقعد الذي كانوا يجلسون عليه أمام نضدهم لمبادلة النقود. وكانت أهم وحدات النقد هي الليرا (واسمها مختصر من لبرا، أي رطل) والدوقات (من دوقا، أي دون أو دوج)، والثانية قطعة من النقد الذهبي زنتها 3560 جراماً وكانت هذه القطعة النقدية هي والفلورين الفلورنسي أكثر أنواع العملة ثباتاً وأعظمها تقديراً في العالم المسيحي .

وكانت الحياة هنا تكاد تبلغ من المرح ما بلغته مدينة نابلي في عهد بوكاتشيو. فكان البنادقة يحتفلون بأعيادهم وأيام نصرهم احتفالات فخمة، ويصنعون ويلونون سفنهم الخاصة بالنزهة وسفنهم الحربية، ويرتدون الحرائر الشرقية، وتتلألأ على موائدهم آنية الزجاج البندقية، وتعزف لهم الموسيقى في البيوت وعلى صفحة الماء.

ورأس الدوج لورندسو تشيليي Lorenzo Celssi يصاحبه بترارك مباراة بين أمهر الموسيقيين في إيطاليا، وأنشدت الأغاني على نغمات مختلف الآلات الموسيقية، وغنت فرق المغنيين، وكانت الجائزة الأولى من نصيب فرانتشيسكو لنديني Francesco Londini الفلورنسي، وهو مؤلف ضرير للقصص الشعرية والقصائد الغزلية. وكان لورندسو فينيدسيانو Lorenzo Veneziano وغيره ينتقلون وقتئذ بالمظلمات من صرامة العصور الوسطى إلى رشاقة النهضة ويبشرون ببهاء فن التصوير البندقي و زهاء ألوانه.

فكانت البيوت، والقصور، والكنائس ترتفع فوق البحر كالمرجان. ولم يكن في البندقية قصور كالقلاع او مساكن محصنة، أو أسوار ضخمة منيعة، لأن خصام الأفراد فيها سرعان ما كان يخضع لسلطان القانون، هذا إلى أنه يكاد يكون لكل بيت خندق من صنع الطبيعة، وظل التخطيط المعماري قوطياً كما كان، ولكنه يحوي من الرشاقة والخفة ما لا تجرؤ العمارة القوطية الشمالية أن تكونه. وشيدت في ذلك العهد الكنيسة الفخمة التي تحمل أسم القديسة ماريا جلوريوزا دي فراري Santa Maria gloriza dei Frari، وظلت كنيسة القديس مرقس بين الفينة والفينة ترفع وجهها القديم مزداناً بالجديد من التماثيل، والفسيفساء، والنقوش العربية، وتعلوها أقواس قوطية فوق عقود مستديرة من الطراز البيزنطي القديم. ولا يكاد بترارك يصدق أن ميدان القديس مرقس Piazza San Marco، "كان له مثيل في أية بقعة من بقاع العالم (55)" وإن لم يكن قد أحيط في ذلك الوقت بكل ما أحيط به من العمائر الفخمة.

ووجهت في عام 1378 ضربة مهلكة إلى هذا الجمال كله الذي كان ظله يتماوج منعكساً على مياه القناة العظمى، وهذا الصرح الموحد من نظامي الحكم والاقتصاد الذي كان يسيطر على إمبراطورية تشمل البحر الأدرياوي وبحر إيجة، وهو نفسه قائم في بقعة مائية صغيرة على سطح الأرض، وذلك حين بلغ النزاع القديم أوجه بين البندقية وجنوي. وسار لوتشيانو دوريا Luciano Doria على رأس أسطول حربي من جنوي إلى بولا Pola، ووجد الأسطول البندقي قد أضعفه وباء تفشى بين بحارته، وأوقع به هزيمة ساحقة استولى فيها على خمس عشرة من سفنه. وأسر نحو ألفين من رجاله. وقتل لوتشيانو في المعركة, ولكن أخاه أمير رجيو خلفه في إمارة الأسطول، واستولى على بلدة Chiogia -الواقعة على رأس ضيق في البحر على بعد خمسة عشر ميلاً أو نحوها جنوب البندقية نفسها. ثم عقد حلفاً مع بدوا وسد الطريق على جميع سفن البندقية، واستعد لغزو المدينة نفسها ببحارة من جنوي وجنود مرتزقة من بدوا. وظنت المدينة المزهوة بنفسها أنها عاجزة عن الدفاع فطلبت الصلح، ولكن الشروط التي فرضها المنتصرون كانت من الوقاحة والشدة بحيث رفضها المجلس الكبير، وصمم على الدفاع عن كل شبر من المياه الضحلة المتصلة بالبحر. وأخرج الأغنياء ما كانوا يخبئونه من المال وصبوه صبا في خزائن الدولة، وأخذ الأهلون يكدون ليلا ونهاراً لبناء أسطول جديد، وانشئت قلاع سابحة حول الجزائر، وجهزت بالمدافع التي ظهرت وقتئذ لأول مرة في إيطاليا (1379). ولكن أهل جنوي وبدوا كانوا قد حاصروا البندقية من ناحية البحر ثم مدوا حصاراً آخر من الجند على مداخلها البرية وقطعوا الطعام عن المدية. وبينما كان بعض أهلها يموتون جوعاً كان فيتوري بيزاني Vittore Pisani يدرب المجندين للأسطول الجديد. حتى إذا كان شهر ديسمبر من عام1379 قاد بيزاني والدوج أندريا كنتاريني Andrea Contarini هذا الأسطول المجدد- وكان مؤلفا من أربع وثلاثين سفينة واطئة ذات سطح واحد، وستين مركباً كبيراً، وأربعمائة قارب صغير-ليحاصر به الغزاة الجنويين وسفائنهم عند كيوجيا. وكان أسطول جنوي أصغر من أن يواجه أسطول البندقية الجديد، وكانت مدافع البنادقة تصب على مراكب جنوي ومعاقل جنودها ومعسكراتهم حجارة زنة الواحد منها مائة وخمسون رطلا، وقتلت فيمن قتلت وهم كثيرون أمير البحر بيترو دوريا. ولم يجد الغزاة من أهل جنوي حاجتهم من الطعام ، فطلبوا أن يؤذن لهم أن يخرجوا النساء والأطفال من كيوجيا، واجابهم البنادقة إلى ما طلبوا، ولما أن طلب الجنويون أن يخضعوا إذا سمح لأسطولهم أن يعود إلى بلدهم، جاء دور البنادقة فطلبوا بلا شرط. ودام حصار البنادقة ستة أشهر حتى فت الموت والمرض في عضد الجنويين فاستسلموا، وعاملتهم البندقية معاملة كريمة رحيمة. ولما أن عرض أمديوس السادس Amadeus VI كونت سافوي أن يتوسط لحسم النزاع وافق الطرفان المنهوكا القوى، ونزل كلاهما عن بعض مطالبه، وتبادلا الأسرى، وجنحا إلى السلم (1381).

الفصل الحادي عشر: خاتمة القرن الرابع عشر

خبر بترارك كل مدينة وكل مضيف، ثم أتخذ مقامه في البندقية عام 1361، وعاش فيها سبع سنين، وجاء معه بمكتبته، وكادت تحتوي كل الآداب اللاتينية القديمة ما عدا كتب لكريشيوس. وأوصى في رسالة بليغة بمجموعته القيمة إلى البندقية، ولكنه احتفظ لنفسه بحق استعمالها حتى مماته وأرادت حكومة البندقية أن تظهر تقديرها لعمله، فوهبته قصر مولينا Palazzo Molina وأثثته له [اثاث مريح، ولكن بترارك حمل كتبه معه في آخر أسفاره، ووقعت عند وفاته في يد آخر مضيفيه فرانتشسكو الأول صاحب كرارا Carrara وكان من أعداء البندقية، وأحتفظ ببعض هذه الكتب في بدوا، وبيع بعضها الآخر، ثم تشتت بغير هذه وتلك من الوسائل.

وأكبر الظن أنه كتب في البندقية مقالا في واجبات الإمبراطور وفضائله وسلسلة طويلة من الحوار عن علاج [الحظ] الحسن و السيئ. وينصح في هذا الكتاب الأخير بالتواضع وقت الرخاء، والشجاعة وقت المحنة، ويحذر الإنسان من أن يربط سعادته بانتصاره على ظهر الأرض أو بالحصول على طيباتها، ويعلم الإنسان كيف يصبر على آلام الأسنان، والبدانة، وفقد الزوجة، وتقلبات السمعة، وهذه كلها نصائح سديدة، ولكنها كلها موجودة في أقوال سنكا. كذلك ألف في هذا الوقت عينه أعظم كتبه النثرية وهو كتاب "الرجال النابهون De viris illustribus" وهو يضم سيرة واحد وثلاثين من عظماء الرومان من رميولوس إلى قيصر، وقد خص قيصر بثلاثمائة وخمسين صفحة من قطع الثُّمن ظلت حتى القرن التاسع عشر أكمل سيرة لهذا الحاكم.

وغادر بترارك البندقية إلى بافيا في عام 1368 يرجو أن يتوسط في الصلح بين جالياتسو الثاني فيسكونتي والبابا اوربان الخامس، وكان كل ما وجده أن البلاغة إذا لم تصحبها المدافع لا تجد من السياسيين إلا آذانا صماء. وفي عام 1370 قبل دعوة فرانتشسكو الأول صاحب كرارا لينزل ضيفا عليه مرة أخرى في بلاطه الملكي في بدوا. لكن أعصابه التي أوهنتها الشيخوخة عافت صخب المدينة وزحامها، وما لبث أن آوى إلى بيت ريفي متواضع في أركوا Arqua بين التلال الأوجانية Euganean في الجنوب الغربي السنين الباقية من حياته، جمع فيها رسائله وأعدها لتنشر بعد وفاته، وكتب لنفسه ترجمة صغيرة فاتنة سماها رسالة للمستقبل Epistola ad Posteros (1371). ثم استسلم مرة أخرى لضعف الفلاسفة القديم، فأخذ يسدي النصائح إلى الحكام في كيفية تصريف شئون الدول، وكتب إلى أمير بدوا في رسالته التي أسماها خير الوسائل لأدارة شئون الدولة (1372) يقول "لا تكن سيد رعاياك بل أباهم، وأحبهم كما تحب أبناءك"، ونصحه بأن يجفف المناقع، ويضمن لرعاياه الطعام، ويحافظ على الكنائس، ويعين المرضى والمحتاجين، ويبسط حمايته ورعايته على رجال الأدب-الذين تعتمد على أقلامهم كل أسباب السمعة الطيبة، ثم عمد إلى كتاب ديكمرون فترجم قصة جريزلدا إلى اللغة اللاتينية لكي تكون في متناول القراء في أوربا.

وكان بوكاتشيو وقتئذ في حالة نفسية تجعله يندم على كتابة ديكمرون أو القصائد الشهوانية التي قالها في أيام شبابه. وكان أحد الرهبان قد بعث وهو يحضر إلى بوكاتشيو رسالة يؤنبه فيها على حياته الآثمة وعلى قصصه المرحة، وينذره، إذا لم يعجل بالتوبة ويصلح حاله، بالموت العاجل والعذاب المقيم في نار جهنم. ولم يكن بوكاتشيو في وقت من الأوقات يصبر على التفكير الطويل، وكان يقبل أوهام زمانه وما يؤمن به أهله من معرفة الطالع والتنبؤ بالمستقبل عن طريق الأحلام، ويؤمن بوجود آلاف الشياطين، ويعتقد أن أينياس Aeneas قد زار الجحيم بحق)56).

وأخذ يجمع بتحريض بترارك المخطوطات القديمة، وأنقذ من النسيان الكتب من 11 إلى 16 من الحوليات والكتب من 1 إلى 5 من التواريخ لتاستس وكانت وقتئذ في مكتبة مونتي كاتشيو، وأعاد نصوص ماريتال وأوسنيوس، وحاول أن يقدم هوميروس إلى العالم الغربي. وكان بعض العلماء في أثناء عصر الإيمان قد ظلوا على علم باللغة اليونانية، أما في أيام بوكاتشيو فقد كادت هذه اللغة تختفي اختفاء تاما من غربي أوربا ما عدا جنوبي إيطاليا الذي كان وقتئذ نصف يوناني. ثم شرع بترارك في عام 1342 يدرس اللغة اليونانية على راهب من كلابريا Calabria يدعى بارلام Barlaam. ولما خلت إحدى اسقفبات كلابريا من راعيها أوصى بترارك بأن يختار لها بارلام، وأخذ بوصيته، فلما سافر الراهب إلى مقر عمله انقطع بترارك عن دراسة اللغة اليونانية لأنه لم يجد لها مدرسا، أو كتابا في النحو، أو معجما، ذلك بأن هذه الكتب لم يكن لها وجود باللغة اللاتينية أو الإيطالية. ثم التقى بوكاتشيو في عام 1359 بتلميذ لبارلام في ميلان يدعى ليون بيلاتس Leon Pilatus، فدعاه للمجيء إلى فلورنس، وأقنع جامعتها- وكانت قد أسست قبل أحد عشر عاما من ذلك الوقت، بأن تنشئ فيها لبيلاتس كرسيا للغة اليونانية. وتبرع بترارك بجزء من مرتب الأستاذ، وبعث بنسخ من الإلياذة والأوديسية إلى بوكاتشيو، وكلف بيلاتس بترجمتها إلى اللغة اللاتينية. وتعطل العمل مرة بعد مرة وورط بترارك في مراسلات متعبة، وكان يشكو من أن رسائل بيلاتس أطول وأجف من ذقنه نفسها على طولها وجفافها(57)، ولم يتحرك بيلاتس لإنجاز العمل إلا بمساعي بوكاتشيو. وكانت هذه الترجمة النثرية الخالية من الدقة هي الترجمة اللاتينية الوحيدة التي تعرفها أوربا لملحمتي هوميروس في القرن الرابع عشر.

وكان بيلاتس في خلال هذا الوقت قد علم بوكاتشيو من اللغة اليونانية ما يكفيه لقراءة الآداب اليونانية القديمة قراءة عاجزة. وكان بوكاتشيو نفسه يعترف بأنه لا يستطيع أن يقرأ النص إلا قراءة ضعيفة، ولكنه وصف ما قرأه بأنه يبلغ من الجمال حدا لا يستطيع وصفه. وألهمته هذه الكتب كما ألهمه بترارك نفسه، فخصص ما بقى من جهوده الأدبية كلها تقريبا لأن يعرف أوربا اللاتينية بأدب اليونان، وأساطيرهم، وتاريخهم. فنشر سلسلة من التراجم القصيرة سماها في حظوظ مشهوري الرجال من آدم إلى جون ملك فرنسا، وروى في النساء النابهات قصص شهيرات النساء من حواء إلى جوانا الأولى Joanna I ملكة نابلي، وفي كتاب الجبال والغابات والعيون، الخ ثبتا مرتبا حسب الحروف الهجائية بأسماء الجبال، والغابات، والعيون، والأنهار، والبحيرات التي ورد ذكرها في الأدب اليوناني، ثم وضع كتيبا في الأساطير اليونانية سماه في تسلسل الأنساب. وقد بلغ من انهماكه في موضوعه أن كان يسمى إله المسيحيين جوف، والشيطان بلوتو، ويتحدث عن الزهرة (فينوس) والمريخ كأنهما شخصان حقيقيان كمريم والمسيح. وتبدو هذه الكتب في هذه الأيام مملة ثقيلة لا تطاق، كتبت بلغة لاتينية رديئة وليس فيها كثير من العلم، ولكنها كانت في زمانها كتبا دراسية لطلاب اللغة اليونانية، وكان لها شأن ايما شأن في تهيئة أسباب النهضة.

وهكذا خرج بوكاتشيو من نزق الشباب إلى وقار الشيوخ، واستخدمته البندقية بين الفينة والفينة في بعض شئونها الدبلوماسية، فأرسلته في مهمات سياسية إلى فورلي Forli، وأفنيون ورافنا، والبندقية. وضعف جسمه حين بلغ سن السنين واصيب بالقوباء الجافة و "أمراض لا أعرف كيف أحصيها"(58). وعاش في تشرتلدو Certaldo إحدى أرباض فلورنس عيشة ضنكا يشكو آلام الفاقة. ولعل رغبة بعض أصدقاء بوكاتشيو في أن يقدموا له بعض المعونة المالية هي التي حدت بهم إلى أن يقنعوا أمير فلورنس بأن ينشئ في عام 1373 كرسيا لدراسة دانتي، وأن يوظف لبوكاتشيو مائة فلورين (2500 دولار) ليلقى سلسلة من المحاضرات عن دانتي في الباديا Badia. لكن صحته وهنت قبل أن يتم المنهج المقرر، فعاد إلى تشرتلدو وقد وطن نفسه على ملاقاة الموت.

وكان بترارك قد كتب عن نفسه يقول: "أحب أن يجدني الموت مستعداً للقائه أكتب أو، إذا شاء المسيح، أصلي وابكي"(59). وقد أجاب الله دعاءه فوجده في يوم عيد ميلاده المتمم للسبعين وهو اليوم العشرون من شهر يوليه عام 1374 مكباً بوجهه على كتاب يبدو كأنه نائم ولكنه في الحقيقة ميت. وقد ترك في وصيته خمسين فلورينا يشتري بها رداء لبوكاتشيو يتقي به البرد في ليالي الشتاء الطويلة. ومات بوكاتشيو أيضا في اليوم الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1375 وهو في الحادية والستين من عمره. واقفرت إيطاليا بعد وفاته من كبار الأدباء حتى نبتت البذور التي زرعوها وأينعت وآتت أكلها.

الفصل الثاني عشر: نظرة عامة

تتبعنا تنقل بترارك وبوكاتشيو في أنحاء إيطاليا، لكن إيطاليا من الوجهة السياسية لم يكن لها وجود، بل الذي كان موجوداً هو دول- المدن، وهي قطع ممزقة حرة في أن تهلك نفسها في الأحقاد والحروب. فقد دمرت بيزا منافستها التجارية أملفى، ودمرت ميلان بياتشنوسا، ودمرت جنوي وفلورنس بيزا، ودمرت البندقية جنوي، وانضمت بعد هذا العهد نصف أوربا إلى الجزء الأكبر من إيطاليا لتدمر البندقية. وأدى انهيار الحكومة المركزية على أثر غزوات البرابرة، و "الحروب القوطية " التي ثار عجاجها في القرن السادس، وانقسام شبه الجزيرة بين لمبارديا وبيزنطية، وتهدم الطرق التجارية الرومانية، والنزاع بين اللمبارد والبابوات، وبين البابوات والإمبراطورية، وخوف البابا أنه إذا قامت سلطة عليا في إيطاليا تمتد من الألب إلى صقلية، فإن قيامها يجعل البابا أسيراً ويخضع رئيس أوربا الروحي إلى رئيس الدولة السياسي، كل هذا فكك وحدة إيطاليا ومزقها كل ممزق. ولم يقتصر أشياع البابوات وأشياع الأباطرة على تقسيم إيطاليا شيعاً، بل قسموا فضلا عن ذلك كل مدينة تقريباُ إلى جلف وجبلين Guelf & Ghibelline، ولما أن شبت نار النزاع بين الطائفتين استخدم الشعارين القديمين منافسون جدد، وظلت نيران الأحقاد مشتعلة في جميع مناحي الحياة. فكان إذا وضع الجبلين الريش في ناحية من قبعاتهم وضعها الجلف في الناحية الأخرى، وإذا اتخذ الجبلين وردة بيضاء شارة لهم اتخذ الجلف شارة حمراء. وانتزع الجبلين في ميلان تمثالاً للمسيح من محراب في كنيسة واحرقوه لأن وجهه كان متجهاً إلى ما ظنوه ناحية الجلف، وفي برجامو الجبلينية اغتال مضيفون بعض ضيوفهم من الكلبريين لأنهم تبينوا من اسلوب أكلهم الثوم أنهم من الجلف(60). وبعث ضعف الأفراد وخور عزيمتهم، واضطراب الأمن بين الجماعات، وخداع الغرور، بعث هذا في النفوس دوام الخوف، والارتياب، والكراهية، واحتقار المخالفين، والأجانب، والأغراب.

ونشأت دولة- المدينة الإيطالية من هذه العقبات القائمة في سبيل الوحدة، فلم يكن الناس يفكرون إلا في مدينتهم، ولم يكن أحد يفكر في إيطاليا بوصفها وحدة وكُلاًّ إلا قليل من الفلاسفة أمثال مكيفلي Machiavelli أو شاعر مثل بترارك، وكان تشليني في القرن السادس عشر نفسه يشير إلى أهل فلورنس بقوله إنهم "رجال من أمتنا " وإلى فلورنس بأنها: "وطني ". وكان بترارك، الذي تحرر بفضل إقامته بالبلدان الأجنبية من الوطنية المحلية الضيقة يأسف لهذه الحروب التافهة، والانقسام المتفشي في بلده، وتوسل في أنشودة بليغة عنوانها: بلادي إيطاليا إلى أمراء إيطاليا أن يهبوها السلم والوحدة:


أي بلادي إيطاليا!- وإن كانت الألفاظ لا تجدى



في اندماج الجروح المتنسرة



التي لا يحصى عديدها، والتي تمزق صدري،



بيد أنه قد يخفف من آلامي



أن أتغنى بأحزان التيبر



وبالمظالم التي حلت بلآرنو حين أطوف وأنوح



بشواطئ البو المحزنة أترنم بقصائدي...



ويلاه! أليست هذه هي الأرض التي وطئتها قدمي أول ما وطئت؟



أليس هذا هو المكان الذي دُللت فيه برفق


وأنا مستريح في المهد، وربيت به في عز وحنان؟



ويلاهّ أليست هذه بلادي-التي أعزها



لما بيني وبينها من روابط البنوة



والتي يثوى في ثراها أبواي؟



فهلا بعثت هذه الفكرة الحنونة



بعض الأسى في قلوبكم القاسية



فنظرتم إلى أحزان الشعب،



الذي يرجو منكم، بعد الله، أن تنقذوه؟



فإذا ما عطفتم وأذعتم،



فإن الفضيلة سترفع رأسها عالية،



وتتأهب للحرب العوان



ضد قوى الغضب العمياء



ولن يطول الزمن الذي تحترب فيه القوتان غير المتكافئتين،



لا! لا! إن اللهب القديم



الذي رفع اسم إيطاليا إلى السماكين لم ينطفئ بعد.


وكان بترارك يحلم أن يستطيع ريندسو Rienzo توحيد إيطاليا، فلما أن خاب أمله فيه اتجه كما اتجه دانتي إلى عاهل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان هذا العاهل من الوجهة النظرية الوارث من غير رجال الدين لجميع السلطات الزمنية التي كانت للإمبراطورية الرومانية الوثنية في بلاد الغرب. ومن أجل هذا فإنه لم يمض إلا قليل من الوقت على انسحاب ريندسو من ميدان العمل (1347) حتى وجه بترارك رسالة مثيرة إلى شارل السادس ملك بوهيميا، الذي كان بوصفه "ملك الزمان " الوارث لعرش الإمبراطورية. وقال الشاعر في هذه الرسالة: "فليأت الملك إلى رومة ليتوج فيها إمبراطوراً، وليتخذ روما لابراج عاصمة لملكه، وليرجع إلى إيطاليا "حديقة الإمبراطورية " الوحدة، والنظام، والسلم (61). ولما اجتاز شارل جبال الألب في عام 1354 دعا بترارك لمقابلته في مانتوا Mantua واستمع في رقة وبشاشة إلى ما وجهه إليه من دعوات تردد أصداء نداء دانتي الحار إلى جده هنري السابع. ولكن شارل لم يكن لديه من القوة ما يكفي لهزيمة جميع طغاة لمبارديا، وجميع اهل فلورنس والبندقية، فأسرع إلى روما. ولم يكن البابا فيها وقتئذ، فعمل على أن يتوج نائبه، ثم قفل راجعاً إلى بوهيميا، وجد في بيع المناصب الدينية وهو عائد إلى بلاده. وسافر اليه بترارك في براج بعد عامين من ذلك الحادث، في سفارة من ميلا، ولكن هذا اللقاء لم تجن منه إيطاليا ثمرة تستحق الذكر.

ولعل نهضة ما لم تكن قد وجدت إذا ما تحقق أمل بترارك. ذلك أن تقطيع أوصال إيطاليا كان مما ساعد على قيام النهضة، فالدول الواسعة الرقعة توطد النظام وتدعم السلطان أكثر مما تنشر لواء الحرية وترعى الفنون. أضف إلى هذا أن لاتنافس التجاري بين المدن الإيطالية كان هو الذي بدأ واتم عمل الحروب الصليبية في تنمية اقتصاد إيطاليا وثروتها. ولسنا ننكر أن تعدد المراكز السياسية قد ضاعف من عدد المنازعات بين المدن، ولكن هذه المنازعات الصغرى في مجموعها لم تسبب من هلاك في الأنفس وخراب في البلاد قدر ما سببته حروب مائة السنين في فرنسا. ولسنا ننكر كذلك أن استقلال المدن قد أضعف من قدرة إيطاليا على صد غارات الأجانب عليها، ولكنه ولد منافسة نبيلة بين المدن والأمراء لرعاية الثقافة، والحرص على التفوق في فنون العمارة، والنحت، والتصوير، والتعليم، والمنح التعليمية، والشعر. لقد كان في إيطاليا النهضة، كما كان في ألمانيا القوطية، مراكز كثيرة مثل باريس.

ولسنا في حاجة إلى المبالغة لكي نقدر ما كان لبترارك وبوكاتشيو من فضل في التمهيد إلى النهضة: لقد كان كلاهما لا يزال أسيراً لأفكار العصور الوسطى. وكان القَصّاص العظيم في عنفوان شبابه يسخر من فساد أخلاق رجال الدين واتجارهم بمخلفات القديسين، ولكن ىلاف الآلاف من رجال العصور الوسطى ونسائها كانوا يفعلون فعله، وقد اصبح أكثر استمساكاً بالدين واصطباغاً بصبغة العصور الوسطى في الأيام التي أخذ يدرس فيها اللغة اليونانية. وكان بترارك يصف نفسه بحق بأنه واقف بين عهدين(63). وكأنه بهذا كان يتنبأ بما سوف يكون. فقد كان يقبل قواعد الكنيسة التحكمية في الوقت الذي كان يشن فيه حرباً شعواء على أخلاق بابوات أفنيون، وكان يحب الآداب القديمة في أواخر عصر الأيمان، كما كان جيروم Jerome يحبها في بدايته، وكان في قرارة نفسه غير راض عن هذا الحب. وكتب في العصور الوسطى مقالات ممتازة في احتقار العالم الدنيوي وفي السلم المقدسة التي تنبعث من الحياة الدينية. لكنه رغم هذا كان أكثر وفاء للآداب القديمة منه للورا Laura. وكان يبحث عن المخطوطات القديمة ويعتز بها، ويلهم غيره بأن يحذو في ذلك حذوه، وقد بز جميع المؤلفين في العصور الوسطى تقريباً عدا أوغسطين في العمل على عدم انقطاع الصلة بالأدب اللاتيني، وصاغ عباراته وأسلوبه على مثال فرجيل وشيشرون، وكان يفكر في ذيوع شهرته أكثر مما يفكر في خلود نفسه. وقد أثمرت قصائده مائة عام من الأغاني المصطنعة المتكلفة في إيطاليا، ولكنها اعانت على تشكيل أغاني شكسبير. وانتقلت روحه الحماسية من بعده إلى بيكو Pico كما انتقل اسلوبه المصقول إلى بولتيان، وكانت رسائله ومقالاته بمثابة قنطرة من الدماثة والرشاقة بين سنكا ومنتاني، واكتمل توفيقه بين العهود القديمة والمسيحية في البابا تقولاس الخامس والبابا ليو العاشر. وملاك القول أنه كان بحق أبا النهضة في تلك الأيام.

لكننا نقول مرة أخرى: إن من الخطأ أن نبالغ في حظ الأقدمين من هذا المجد الذي بلغته إيطاليا، ذلك أنه كان تتمة لا انقلاباً، وكان لنضوج العصور الوسطى في هذه التتمة شأن أعظم من الكشف الثاني للمخطوطات القديمة والفن القديم. وكان كثير من علماء العصور الوسطى يعرفون الآداب الوثنية ويحبونها، وكان الرهبان هم الذين حافظوا عليها، ورجال الدين هم الذين ترجموها ونشروها، وكانت الجامعات الكبرى هي التي أخذت منذ عام 1100 تنقل إلى شباب أوربا قدراً من التراث العقلي والأدبي للجنس البشري. وكانت نشأة الفلسفة الانتقادية عند إرجينا Erigena وأبلار، وإدخال دراسة أرسطو وابن رشد في مناهج الجامعات ودعوة أكوناس الجريئة إلى إثبات كل العقائد المسيحية تقريباً على اساس العقل، وما تلاها بعد قليل من اعتراف دنزاسكوتس Duns Scotus بأن الكثرة الغالبة من هذه العقائد خارجة عن نطاق العقل، كان هذا كله سبباً في نشأة صرح الفلسفة المدرسية العقلي ثم تحطيمه بعدئذ، وفي ترك المسيحيين المتعلمين أحراراً يحاولون التأليف من جديد بين الفلسفة الوثنية ولاهوت العصور الوسطى من جهة، وتجارب الحياة من جهة أخرى. وكان تحرر المدن من عوائق الإقطاع، واتساع نطاق التجارة، وانتشار الاقتصاد القائم على النقود،- كانت كل هذه قد سبقت مولد بترارك،. وعلم روجر ملك صقلية، وفردريك الثاني، دع عنك خلفاء المسلمين وسلاطينهم، علم هؤلاء كلهم حكام البلاد أن يضيفوا سنا المجد إلى السلطان بمناصرة الفن، والشعر، والعلوم، والفلسفة. وقد احتفظ رجال العصور الوسطى ونساؤها، رغم قلة منهم كانت منهمكة في شئون الدار الآخرة، دون حياء بما طبع عليه الإنسان من سرور بملاذ الحياة البسيطة، وكان للرجال الذين صوروا، وشادوا، ونحتوا تماثيل الكنائس الكبرى إدراكهم الخاص للجمال، فسموا بالتفكير وبالشكل سمواً لم نر له نظيراً قط.

لهذا نقول دون أن نخشى الزلل إن جميع قواعد النهضة قد وضعت قبل أن يموت بترارك. وكان النماء العجيب في تجارة إيطاليا وصناعتها، واستئثارهما بجانب كبير من نشاط اهلها، قد كدسا الثروة التي أمدت الحركة بالمال، كما كان الانتقال من سلم الريف وركوده إلى حيوية المدن ونشاطها سبباً في خلق المزاج الذي غذى هذه الحركة. أما الأساس السياسي فقد قام على حرية المدن وتنافسها، والقضاء على الأرستقراطية المتعطلة، وقيام الأمراء المتعلمين، والطبقة الوسطى القوية. وأما الأساس الأدبي فقد مهد له تحسن اللغات القومية، والتحمس إلى الكشف عن الآداب اليونانية والرومانية القديمة ودراستها. وكان الأساس الأخلاقي قد وضع هو الآخر: فقد أخذ ازدياد الثروة يحطم القيود الأخلاقية القديمة، وشجع الاتصال بالبلاد الإسلامية عن طريق التجارة والحروب الصليبية نزعة التسامح في الانحراف بالقواعد الدينية والاخلاقية عن المعتقدات والأساليب التقليدية. وكان لإعادة الكشف عن العالم الوثني ذي الحرية النسبية في التفكير السليم نصيب في تحطيم عقائد العصور الوسطى ومبادئها الأخلاقية، ولهذا كله تقهقر الاهتمام بالحياة الآخرة أمام المشاغل الزمنية، البشرية، الدنيوية. ونما الإحساس بالجمال نماء مطرداً، فقد خلفت ترانيم العصور الوسطى، والقصص الغرامية المتتالية، وأناشيد شعراء الفروسية الغزلين، وأغاني دانتي ومن سبقه من الشعراء الإيطاليين، والتصوير المنسجم الذي يطالع الإنسان في المسلاة الإلهية، كل هذا خلف وراءه تراثا من الفن الأدبي، كما أن النماذج الأدبية اليونانية واللاتينية القديمة قد نقلت إلى بترارك رقة في الذوق والتفكير، وصقلا وتأدبا في الحديث وفي الأسلوب، أورثهما بترارك من بعده أسرة تجمع أفرادها من دول مختلفة كلهم عباقرة الحضر جاءوا في سلسلة متصلة الحلقات من إرزمس إلى أناتول فرانس. وكانت ثورة الفن قد بدأت حين هجر جيتو الصرامة الصوفية التي انطبعت بها الفسيفساء البيزنطية لكي يدرس الرجال والنساء في مجرى حياتهم الحقة وظرفهم الفطري. لقد كانت كل الطرق في إيطاليا تؤدي إلى النهضة.