قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 39
صفحة رقم : 6241
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> دانتي -> شعراء الفروسية الغزليون الإيطاليون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب التاسع والثلاثون: دانتي 1265- 1321
الفصل الأول: شعراء الفروسية الغزليون الإيطاليون
كان بلاط فردريك الثاني هو المكان الذي ولد فيه الأدب الإيطالي. وربما كان لمن في حاشيته من المسلمين نصيب في الحافز الباعث على نشأة هذا الأدب لأن كل مسلم يعرف القراءة والكتابة في ذلك الوقت كان يقرض الشعر. وساعد ذلك أن سيلو دالكلمو Cillo d'Alcamo (حوالي عام 1260) كتب "حواراً" جميلاً "بين عاشق وسيدة". وتكاد مدينة ألكامو إحدى مدن صقلية تكون مدينة إسلامية. ولكن أثراً أقوى من أثر المسلمين جاء إلى الجزيرة من شعراء الفروسية الغزلين في يروفانس. فقد كان هؤلاء يرسلون أشعارهم، أو يأتون بأنفسهم، إلى فردريك وأعوانه المثقفين وكان هو يجلّهم ويقدّر جهودهم. ولم يكن فردريك نفسه يناصر الشعر فحسب، بل كان فوق ذلك يكتبه، ويكتبه باللغة الإيطالية. وقد ألّف كبير وزرائه بيرودل فني Piero delle Vigne أغاني ممتازة، وربما كان هو الذي صاغها في تلك الصيغة المجهدة. وكان رينلدوداكوينو Rinaldo d'Aquino (أخو القديس تومس) والذي كان يعيش في بلاط فردريك، وجيدو دلي كولن Guido delle Colonne، وياقوبو دالنتينو Lacopo da Lentino أحد مسجلي الصكوك في بلاط فردريك، كان هؤلاء جميعاً من بين شعراء تلك "النهضة الأبولية". وإنّا لنجد في أغنية ياقوبو (كتبت حوالي 1233) أي قبل مولد دانتي بجيل من الزمان، ما نجده من قصائد الحياة الجديدة Vita Nuovo من رقة العاطفة وجمال الصقل:
أجد في قلبي قوة تدفعني إلى أن أخدم الله،
لكي يكون مثواي الجنة
المكان المقدس الذي سمعت أن البهجة والنعيم
يفيضان في كل مكان فيه.
غير أني أكره الذهاب إليها من غير حبيبتي
ذات الوجه المتلألئ والشعر البراق،
لأني أعرف أنها غابت عنها وكنت أنا فيها
كان نعيمي أقل من لا شيء.
ولكن حذار أن تظن أني أقول هذا
لأني سأرتكب فيها الآثام،
بل كل ما أبغيه أن أشاهد طلعتها البهية،
وعينيها الناعستين الجميلتين، ووجهها الصبوح
حتى تتم بذلك سعادتي
برؤية سيدتي مبتهجة في مكانها!
ولما أن سافر فردريك وحاشيته في بلاد إيطاليا أخذ معه شعراءه وحيواناته البرية، ونشر هؤلاء أثرهم في لاتيوم، وتسكانيا، ولمباردية. وسار ابنه مانفرد Manfred على سنته في مناصرة الشعر وكتب مقطوعات غنائية استحقت ثناء دانتي. وتُرجم كثير من الشعر "الصقلي" إلى لغة تسكانيا، وكان له نصيب في تكوين مدرسة الشعراء التي انتهت إلى دانتي. وحدث في ذلك الوقت عينه أن هجر شعراء الفروسية الغزلون الفرنسيون بلاد لانجويك Languedoc التي مزّقتها الحروب الدينية، ولجأوا إلى بلاد الإيطاليين، وعلّموا شعراء تلك البلاد فنهم المرح، كما علّموا النساء الإيطاليات أن يرحبن بقصائد المديح، وأقنعوا كبار الإيطاليين بأن يجزلوا العطاء للشعراء وإن توجهوا بشعرهم إلى زوجاتهم،وقد بالغ بعض شعراء التسكان في تقليد شعراء الفروسية فكتبوا شعرهم بلغة بروفنسال نفسها للفرنسيين. ومن هؤلاء Sordello (حوالي 1200-1270) وهو شاعر ولد في منتوا Mantua بلدة فرجيل، وأني ما أغضب إزلينو Ezzelino الرهيب؛ ففر إلى بروفانس، وكتب بلغة تلك البلاد قصائد في الحب الروماني الأفلاطوني.
ونشأ من هذه العاطفة الأفلاطونية، بمزيج عجيب من الميتافيزيقا والشعر "الأسلوب الحلو الجديد" التسكاني. ذلك أن الشعراء الإيطاليين خرجوا على الشهوانية الصريحة التي وجدوها عند المغنين من شعراء بروفانس، وآثروا أن يحبوا،أو ادعوا أنهم يحبون، النساء بوصف كونهن ممثلات للجمال النقي المجرد، أو كونهن رموزاً للحكمة أو الفلسفة الإلهيتين. وكانت هذه نغمة جديدة في إيطاليا التي عرفت مائة ألف من شعراء الغزل. وربما كان قلم القديس فرانسس هو الذي حرك هذه الأفلام العفيفة، أو لعل كتاب الخلاصة لتومس أكوناس كان شديد الوطأة عليهم، أو لعلهم شعروا بتأثير المتصوفة المسلمين الذين لم يكونوا يرون في الجمال غير الله، والذين كانوا يوجهون قصائد الحب للخالق جل وعلا.
وتكونت المدرسة الحديثة من سرب من المغنين العلماء، فأخذ جونزلي Guinizelli، (1230؟-1275) أحد مواطني بولونيا، الذي سماه دانتي والده في الأدب(3)، يتغنى بفلسفة الحب الجديدة في أغنية ذائعة الصيت سماها أغنية "القلب الرقيق"، وطلب فيها أن يغفر له الله حبه لمعشوقته لأنها في رأيه الألوهية مجسدة؛ ونشر لاباجيني Lapa Gianni، ودينو فرسكوبالدي Dino Frescobaldi، وجيدو اورلاندي Gudio Orlandi، وسينودا بستويا Cino da Pastoia، نشر هؤلاء الأسلوب الجديد في شمالي إيطاليا؛ وجاء به إلى فلورنس جيدو كفلكنتي Guido Cavalcanti (حوالي 1258-1300) صديق دانتي وأظرف من عبّر عن هذا الأسلوب قبل الشاعر الكبير. وكان جيدو من الأشراف، ولهذا كان يختلف عن سائر هؤلاء الشعراء العلماء، وكان جيدو من الأشراف، ولهذا كان يختلف عن سائر هؤلاء العلماء، وكان زوج ابنة فاريناتا دجلي أبرتي Farinata degli uberti الذي قاد حزب الجبلين Ghibelline في فلورنس. وكان من أصحاب التفكير الحر في الدين ومن المقتنعين بفلسفة ابن رشد، متشكّكاً في الخلود وفي الله نفسه(4). واضطلع بدور إيجابي، عنيف في الشئون السياسية، وأصدر دانتي ومن معه من الرؤساء في عام 1300 قراراً بنفيه؛ فلمّا أصابه المرض عفي عنه، ومات في ذلك العام نفسه. وكان عقله الأرستقراطي المتكبر أليق ما يكون لصياغة الأغاني فاترة تماثل في رقتها الأغاني القديمة:
جمال النساء؛ وقرار الإرادة العليا؛
والفرسان الأنجاد المسلحون لألعاب الرجولة؛
وشدو الطير الجميل؛ وإجابات المحب الحلوة؛
ورقة السفن المسرعة فوق متن البحار؛
والهواء الصافي حين يبدأ الضوء أن يكون؛
والثلج الأبيض، الذي يسقط ويستقر في سكون الريح؛
وحقول الأزهار، والمكان الذي ينبع منه الماء؛
والفضة والذهب، وزرقة الجواهر:
إذا وزنت أمام مالي من قيمة
في قلب سيدتي العزيزة عليّ
فإنها تبدو ضئيلة. وفي الحق أني لأسمو في نظرها
على هذه كلها وأعلو عنها علو السماء عن الأرضين
وكل خير سرعان ما يمتد للخلائق الأقربين
وأخذ دانتي الشيء الكثير عن جيدو وقلّد أغانيه، ولعله مدين له بعزمه على كتابة الملهاة المقدسةThe Divine Comedy باللغة الإيطالية.وشاهد ذلك قول دانتي نفسه: "وقد رغب إلى في أن أكتب له على الدوام بلغة البلاد لا باللغة اللاتينية"(6). وكان أسلاف دانتي هم الذين بدّلوا في القرن الثالث عشر فجاجة اللغة الجديدة وعجزها إلى نغمتها الحلوة، وإلى العبارات المركزة الدقيقة التي لا تضارعها فيها لفة أخرى من اللغات الأوربية، وهم الذين خلقوا لغة يستطيع دانتي أن يسميها: "فخمة، أصيلة، مهذبة، عظيمة"(7) ـ تليق لأن يكتب بها أعظم العلماء. وكانت أشعار البروفنساليين تبدو إذا قيست إلى أغاني الإيطاليين ناشزة غير متناغمة، وقصص الأبطال الشعرية، وغناء المغنين الجائلين تكاد تكون بالنسبة لها تافهة حقيرة. ولم يعد الشعر في هذه الأغاني الإيطالية مصرفاً للثرثرة المرحة، بل أصبح عملاً من أعمال الفن القوية المحكمة يبذل في صياغته من الجهد مثل ما بذل نقولا لا بيزانو وولده في نحت تماثيل المنابر.وبعد فإن من أسباب عظمة الرجل العظيم أن رجالاً أقل منه قد مهدوا له السبيل، وهيئوا لعبقريته مزاج عصره، وشكّلوا له أداة يمسكها بيديه، وأسلموه عملاً أنجزوا نصفه.
الفصل الثاني: دانتي وبياتريس
في شهر مايو من عام 1265 وَلدت بلا ألجيري Bella Alighieri لزوجها ألجيرو ألجيري Alighiero Aligieri ولداً سموه دورانتي Duarante ألجيري، ولعلهما لم يفكرا في ذلك الوقت أن معنى هذين اللفظين هو حاصل الجناح الطويل البقاء. ويبدو أن الشاعر نفسه هو الذي اختصر اسمه الأول دانتي(8). وكان لأسرته سلسلة نسب طويلة في فلورنس. ولكنها حلت بها القافلة، وماتت والدة الطفل في السنين الأولى من عمره، وتزوج ألجيري وغيرها، ونشأ دانتي مع زوجة أبيه، وأخ له غير شقيق، وأختين غير شقيقتين، ولعله لم يكن سعيداً معهم(9). ومات والد دانتي حين كان ابنه في الخامسة عشر من عمره، وخلف لهم عبئاً من الديون(10). وكان دانتي يذكر من بين مدرسيه برونتو لاتيني Brunetto Latini ولا ينسى فضله عليه. وكان بونتو حين عاد من فرنسا قد اختصر موسوعته الفرنسية الكنز Tresor إلى موسوعة إيطالية صغرى سماها الكنيز Tesoretto وتعلم منه دانتي كيف يخلد الإنسان ذكره Come l'uom s'eterna(11). وما من شك في أن دانتي قد درس فرجيل، وأنه وجد في دراسته لذة كبيرة، فهو يحدثنا عن أسلوب شاعر مانتوا الجميل، وهل يوجد طالب سواه أحب كتاباً من كتب القدماء حباً جعله يسير وراء مؤلفه في الجحيم؟ ويشير بوكاشيو إلى أن دانتي كان في بولونيا عام 1287. وحصل الشاعر في هذه البلدة أو في مكان سواها قدراً يؤسف له من العلوم ومن فلسفة المعجزات التي كانت منتشرة في زمانه جعل قصيدته مثقلة بعلمه الواسع الغزير. وكان مما تعلمه فضلاً عن هذا ركوب الخيل، والمثاقفة، والتصوير، والغناء. ولسنا نعرف كيف كان يحصل على قوته، وأياً كانت سبيله في تحصيله فإنه كان يقبل في الأوساط المثقفة، لصداقته لكفلكنتي إن لم يكن لأسباب أخرى مضافة إلى هذه الصداقة، وقد وجد في هذه الأوساط كثيراً من الشعراء.
وبدأت أشهر الحوادث الغرامية كلها حين كان دانتي وبياتريس كلاهما في سن التاسعة. وكانت بدايتها كما يقول بوكاشيو في حفلة من حفلات أولمايو أقيمت في بيت فلكو برتناري Folco Portinari أحد كبار المواطنين في فلورنس. وكانت "بيس" الصغيرة ابنة فلكو، والراجح أيضاً أنها هي التي يتحدث عنها دانتي باسم بياتريس(12)، ولكن هذا الرجحان لا يقرب من التأكيد قرباً يزيل شكوك المتزمتين. ولسنا نعرف شيئاً عن هذا اللقاء الأول إلاّ من الوصف الذي كتبه عنه دانتي بعد تسع سنين من ذلك الوقت في فيتا نيوفو Vita Nuovo وخلع عليها فيه من الصفات ما جعلها مثلاً أعلى قال:
كان لباسها في ذلك اليوم من أبدع الملابس، فقد كان ذا لون قرمزي هادئ جميل، وكانت ممنطقة ومزينة بما يناسب سنها الصغيرة. وإني لأقول صادقاً كل الصدق إن روح الحياة المستكنة في أعمق خبايا القلب أخذت من تلك اللحظة ترتجف ارتجافاً عنيفاً اهتزت معه جميع أجزاء جسمي، وقالت هي تهتز: "هاهي ذي إلهة أعظم مني قوة مقبلة لتسيطر عليَّ" وأصبحت من تلك اللحظة عبداً لهواها(13).
إن فتى يقترب من سن البلوغ لفتى ناضج لهذا الارتجاف متأهب له؛ ولقد عرف معظمنا هذه التجربة، وفي وسعنا أن نعود بذاكرتنا إلى ذلك العشق السريع الزوال، ونرى أنه من أكثر التجارب التي تعترض شبابنا روحانياً، وأنه يقظة عجيبة خفية من يقظات الجسم والروح، ندرك بها الحياة، والصلات الجنسية، ونقص الواحد منّا بمفرده، وإن كان الإنسان مع هذا لا يدرك وقتئذٍ رغبة الجسم في الجسم، بل كان ما في الأمر أنه يتوق في الحياء لأن يكون قريباً من حبيبته ويخدمها، ويستمع إلى حديثها، ويراقب ظرفها ورشاقتها. وإذا ما وهبت نفس الشاب حساسية كحساسية دانتي ـ أي إذا كان ملتهب العاطفة قوي الخيال، فقد يبقى هذا الإلهام وذاك النضوج في ذاكرته مدى الحياة، ويظل أبد الدهر حافزاً قوياً له. ويصف لنا دانتي كيف كان يتحين الفرص ليرى بياتريس، وإن لم تتح له إلاّ نظرة لها دون أن تراه هي؛ ثم يبدو أنه ظل لا يراها تسع سنين، حتى بلغا الثامنة عشر من عمرهما، وفي هذا يقول:
واتفق أن تبدت لي هذه الفتاة العجيبة في أثواب ناصعة البياض بين سيدتين من كرائم العقائل أكبر منها سناً. وبينما كانت تجتاز الشارع التفتت إلى الناحية التي كنت واقفاً فيها يجلّلني الحياء، وحبتني بفضل لا أستطيع وصفه... إذ سلمت عليّ وهي مشرقة البهجة، تحيط بها هالة من الفضيلة والروعة، خيّل إليَّ معها في تلك اللحظة وتلك البقعة أنني قد نلت منتهى ما أصبو إليه من السعادة... ثم غادرت ذلك المكان ثملاً بنشوة الفرحة... وفي هذه اللحظة اعتزمت أن أؤلف أغنية، فقد كنت أنزع إلى حد ما أن أقول الحديث المقفى(14).
وهكذا نشأت سلسلة أغانيه وتعليقاته المعروفة باسم الحياة الجديدة La vita nuovo ، إذا حاز لنا أن نصدق ما قاله هو عن نفسه. وأخذ في فترات من التسع السنين التالية (1283-92) يؤلف مقطوعاته الغنائية، ثم أضاف إليها النثر فيما بعد. وكان يرسل إلى كفلكانتي المقطوعة في إثر المقطوعة، وكان كفلكانتي يحتفظ بها، وأصبح من ذلك الوقت صديقاً له. والقصة الغرامية التي تحدثنا عنها هذه الأغاني من المبتكرات الأدبية إلى حد ما، وإن ذوقنا الذي تبدل في هذه الأيام ليمج هذه القصائد لما فيها من تاليه للحب تأليهاً مسرفاً في الخيال كما كان يفعل شعراء الفروسية الغزلون، وللأحاديث المدرسية المملة التي يفسدها بها، وما تحتويه من البحوث الخفية الغامضة حول الثلاثات والتسعات . لهذا كان من الواجب علينا أن نغض الطرف عن هذه العيوب التي هي في الحق عدوى زمانه:
يقول الحب فيها: "كيف يمكن أن يكون الجسم وهو من تراب نقياً هذا النقاء؟". ثم يقسم وهو لا ينفك يحدق فيها: "حقاً إنها لمخلوق من خلق الله لم يعرف من قبل". إن لها من شحوب الدرة القدر الخليق بالمرأة الجميلة لا أكثر منه ولا أقل ولقد سمت بالقدر الذي يمكن أن تسمو به الطبيعة وإبداع الخالق، بها يقاس الجمال، وكل ما وقعت عليه نظراتها الحلوة. خرجت منه أرواح الحب ملتهبة. فإذا نظر الناس إلى هذه الأرواح سرت في عيونهم وأصابت سهام تلك العيون شغاف قلوبهم.
وفي بسماتها ترى الحب مجسّماً فلا يستطيع إنسان أن يطيل النظر إليها(15) وبعض النثر أبعث على السرور من الشعر:
فإذا ظهرت في مكان ما، خيّل إليّ وأنا أؤمل أن تحييني تحيتها الجميلة، أن لم يبق لي في العالم كله عدو، وغمرني في ذلك الوقت فيض من المحبة لا أشك معه في أنني سأعفو عن كل من أساء إليَّ مهما تكن إساءته... ومشت يجللها التواضع، فلمّا أن غادرت المكان قال كثيرون ممن فيه: "ليست هذه امرأة وإنمّا هي مَلَك جميل هبط من السماء". وإني لأقول بحق إن فيها من الرقة والظرف ما يبعث في نفس كل من ينظرون إليها هدوءاً وسكينة يعجز البيان عن وصفهما(16).
وليس في هذا الافتتان، الذي نحسبه متكلفاً، إشارة إلى فكرة زواجه من بياتريس. ولقد تزوجت بالفعل في عام 1289 من سيمون ده باردي Simon de Bardi، وهو عضو في شركة مصرفية كبرى. ولم يهتم دانتي بهذا الحادث العرضي، بل ظل يكتب فيها القصائد دون أن يذكر اسمها، فلمّا ماتت بياتريس بعد عام من زواجها وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، رثاها الشاعر بقصيدة هادئة ذكر فيها اسمها لأول مرة، جاء فيها:
صعدت بياتريس إلى السماوات العلي،
إلى الملكوت الذي يتمتع فيه الملائكة بالسلام.
فهي تعيش معهم، وإن فقدها الأصدقاء،
ولم يدفعها إليه زمهرير الشتاء، كما يدفع غيرها من الناس
لا ولا حر الصيف اللافح،
وإنما اندفعت بغير هذا وذاك، بلطفها الكامل،
لأن هالة عظيمة خرجت من نور جبينها الوضّاء،
فأثارت الدهشة في نفس الخلاق الأزلي،
وسرت فيه رغبة حلوة في ذلك الجمال البارع،
فأمرها أن تتوق إليه في علاه،
لأنه رأى إن هذا المكان الممل الخبيث
غير جدير بكل هذا اللطف وتلك الرقة(17).
ويصورها في قصيدة أخرى يحيط بها في الجنة من يقدمون لها فروض الولاء، ثم يقول:
وبعد أن كتبت هذه المقطوعة، قدر لي أن أرى رؤيا عجيبة. إذ أبصرت أشياء اعتزمت بعدها ألاّ أقول شيئاً قط عن هذه السيدة المنعمة، إلى أن يحين الوقت الذي أستطيع فيه أن أتحدث عنها حديثاً أجدر بها.وأنا أبذل ما وسعني من جهد لبلوغ هذه الغاية، كما تعرف هي بحق. ومن أجل هذا فإذا أراد الله باعث الحياة في كل شيء أن يطيل حياتي عدداً قليلاً من السنين، فإني أرجو أن أكتب فيها ما لم يكتب من قبل في أية امرأة سواها؛ فإذا فعلت فقد يرى المنعم المتفضل أن تغادر روحي هذه الأرض لتتملّى بمجد سيدتها، أعني مجد بياتريس السعيدة التي لا تنفك الآن تتطلع إلى وجه الله العلي القدير.
وهكذا، أخذ كما يقول في ختام كتابه الصغير، يتطلع إلى وضع كتاب أكبر منه وأعظم، "وأخذت مقطوعاتي تتابع بلا انقطاع من أول يوم رأيت فيه وجهها في هذه الحياة، حتى رأيت هذه الرؤيا" التي يختتم بها أقوله في الجنة(18). وكلما عرفنا إنساناً رسم لنفسه طريقاً واضح المنهج، ولم يحد عنه مهما صادفه من ظروف الدهر وطوارق الحدثان.
الفصل الثالث: الشاعر في غمار السياسة
بيد أنه حاد في بعض الأحيان عن صراطه المستقيم. فقد تورط دانتي بعد موت بياتريس بوقت ما في خفيف بعد حب خفيف ـ أحب "بيترا Pietra"، "وبرجلتا Paragoletta" و "ليزتا Lisetta" "وغيرهن من الأباطيل التي لم ينتفع بهن إلاّ زمناً قصيراً"(19) وقد وجه إلى سيدة واحدة - يسميها السيدة الظريفة قصائد غزلية - أقل روحانية من قصائده إلى بياتريس. ثم تزوج في عام 1291 وهو في السادسة والعشرين من عمره جما دوناتي Gemma Donati، وهي فتاة من سلالة أقدم الأسر الشريفة في فلورنس. وأنجبت له في عشر سنين عدة أبناء يقدرهم البعض بثلاثة، والبعض بأربعة، والبعض الآخر بسبعة(20). وبلغ من إخلاصه لدستور شعراء الفروسية الغزلين أنه لم يذكر قط زوجته أو أبناءه في شعره، ولو فعل لكان هذا عملاً غير لائق به، لأن الزواج والحب الروائي ضدّان لا يجتمعان.
ثم ألقى بنفسه في بحر السياسة، ولعل الذي ساعده على هذا هو كفلكانتي؛ وأنضم لأسباب لا نعرفها إلى حزب "البيض Blanchi" وهو حزب الطبقة المتوسطة العليا. وما شك في أنه ذا مواهب سياسية، لأنه اختير في عام 1300 لا بعد عضو في المجلس البلدي؛ وحدث في أثناء اضطلاعه بهذا العبء القصير الأجل أن حاول السود Neir يقودهم كورسو دوناتي Corso Donati أن يحدثوا انقلاباً سياسياً مفاجئاً يعيدون به الأشراف الأقدمين إلى الحكم. ولكن المقدومين - أعضاء المجلس البلدي - قمعوا الفتنة وسعوا بموافقة دانتي لنشر لواء السلام في المدينة بنفي زعماء الحزبيين - ومنهم دوناتي - صهر دانتي، وكفلكانتي صديقه. لكن دوناتي غزا فلورنس في عام 1301 بعصبة من السود المسلحين، وخلع المقدمين، واستولى على زمام الحكم؛ ثم حوكم دانتي وخمسة عشر من المواطنين في أوائل عام 1302 وأدينوا بعدة جرائم سياسية، ونفوا من البلدة، وحكم عليهم بأن يقتلوا حرقاً إذا عادوا إلى فلورنس مرة أخرى. ففر دانتي ولكنه ترك أسرته في المدينة لأنه كان يأمل في العودة إليها بعد قليل.واضطره هذا النفي وما صحبه من مصادرة أمواله إلى أن يقضي تسعة عشر عاماً في فقر مدقع وتجوال في البلاد، ملأ قلبه غلاًّ وحقداً، وكانا من أسباب مزاجه النكد الذي يسود موضوع الملهاة الإلهية. أما شركاؤه في النفي فقد أقنعوا مدائن أرِزَّو، وبولونيا، وبستويا بأن تسيّر على فلورنس جيشاً مؤلفاً من 10.000 مقاتل ليعيدهم إلى السلطة أو في القليل يردهم إلى أوطانهم (1304)، وقد فعلوا هذا على الرغم من نصيحة دانتي لهم ألاّ يقدموا على هذا العمل. وأخفقت هذه المحاولة، واختط دانتي لنفسه من ذلك الوقت خطة خاصة، وعاش مع أصدقائه في أرِزّو، وبولونيا وبدوا.
وكانت السنون العشرة الأولى من نفيه هي التي جمع فيها بعض القصائد التي كتبها إلى السيدة الظريفة، وأضاف إليها تعليقات نثرية استحالت بها هذه السيدة إلى السيدة الفلسفة. ويحدثنا دانتي في قصيدة المائدة (Conviuio) (حوالي عام 1308) كيف ولّى وجهه، بعد خيبته في الحب وفي الحياة، نحو الفلسفة ليخفف بها من آلامه؛ وكيف وجد في هذه الدراسة المغرية إلهاماً مقدساً، وكيف اعتزم أن يشرك فيما كشفه من إلهام من لا يستطيعون قراءة اللغة اللاتينية بأن يكتب لهم بالإيطالية. ويبدو أنه كان يفكر في كتابة موجز أو كنز جديد يدعي فيه أن كل جزء من أجزاء تعليق على إحدى قصائده عن السيدة الجميلة. وتلك بلا ريب خطة عجيبة أراد بها أن يستعيض عن الحب الشهواني بالحب المجدب. والكتاب الصغير خليط مهوش من العلوم الغامضة العجيبة، والاستعارات المتكلفة، وشذرات فلسفية مستمدة من بؤيثيوس وشيشرون. ويحق لنا أن نشيد بعبقرية دانتي التي حملته على أن يتخلى عن إتمام هذا الكتاب، ويراه عملاً خاسراً كل الخسران، بعد أن كتب ثلاثة من الشروح الأربعة عشر التي كان يعتزم كتابتها.
وشرع وقتئذ في ذلك العمل المتواضع ألا وهو إعادة حكم أباطرة الدولة الرومانية المقدسة في إيطاليا؛ ذلك أن تجاربه قد أقنعته بأن منشأ ما في المدن الإيطالية من فوضى وعنف هو فهمها الخاطئ المجزًّأ للحرية - فقد كان كل إقليم، وكل مدينة، وكل طبقة، وكل فرد، وكل ذي شهوة يطالب بالحرية الفوضوية. وقد كان هو يتوق إلى ما تاق إليه مكيفلي بعد مائتي عام من ذلك الوقت، إلى قوة تنسق جهود الأفراد، والطبقات، والمدن فتجعل منها كلاًّ منظماً، يستطيع الناس في داخله أن يعملوا ويعيشوا في سلم وأمان. وكان يرى أن هذه السلطة الموحدة إمّا أن تأتي من البابا أو من رئيس الدولة الرومانية الشرقية، التي كان شمالي إيطاليا من زمن بعيد يخضع لها من الوجهة النظرية. غير أن دانتي كان قد نفى من زمن قصير بأمر حزب متحالف مع البابوية؛ وتقول إحدى الروايات غير المؤكدة إنه اشترك في بعثة سياسية غير موفقة أرسلت من فلورنس إلى بنيفاس الثامن؛ وقد ظل البابوات زمناً طويلاً يعارضون في توحيد إيطاليا لأن هذا يعرض لخطر حريتهم الروحية وسلطتهم الزمنية. ولهذا بدا أن الأمل الوحيد في عودة النظام في عودة النظام إلى البلاد هو إعادة السلطة الإمبراطورية، بالرجوع إلى السلم الرومانية التي بسطت لواها روما القديمة.
وفي هذه الظروف كتب دانتي في تاريخ غير معروف رسالته المثيرة في الملكية المطلقة De monarchia، كتبها باللغة اللاتينية، وكانت لا تزال لغة الفلسفة؛ وقال إنهم لما لكان عمل الإنسان الذي يليق به هو النشاط الذهني، ولما كان عجز عن ممارسة هذا النشاط إلاّ في السلم، فإن الحكم المثالي هو إقامة دولة عالمية تقر السلام الدائم وتبسط العدالة على جميع سكان الأرض. فإذا قامت هذه الدولة كانت هي الصورة الصحيحة المطابقة للنظام السماوي الذي وضعه الله في الكون. وكانت روما الإمبراطورية أقرب الدول إلى هذه الدولة العالمية، ولقد أظهر الله رضاءه عن هذه الدولة إذ اختار أن يكون إنساناً في عهد أغسطس، وإذا أمر المسيح نفسه للناس بأن يخضعوا لسلطان القياصرة السياسي. ولم يكن سلطان الإمبراطورية القديمة مستمداً بطبيعة الحال من الكنيسة المسيحية، غير أن الدولة الرومانية المقدسة لم تكن إلاّ هذه الدولة القديمة عادت إلى الوجود. نعم إن البابا هو الذي توج شارلمان إمبراطوراً؛ ولاح بهذا أن الإمبراطورية قد خضعت للبابوية؛ ولكن (اغتصاب حق لا يخلق هذا الحق؛ ولو أنه خلقه لدلت هذه الطريقة عينها على خضوع السلطة الكنسية للدولة المدنية بعد أن أعاد الإمبراطور أتو Otto البابا ليو Leo وخلع بنيفاس)(21). ولقد كان كتاب الملكية المطلقة دفاعاً قوياً عن قيام (عالم واحد)، ذا حكومة واحدة، وشرائع واحدة، رغم ما في هذا الكتاب من جدل مدرسي، لم يعد يتمشى مع طرائق التفكير السائدة في ذلك الوقت. ولم يكن مخطوط الكتاب معروفاً في أثناء حياة مؤلفه إلاّ لعدد قليل من الناس، ولكنه انتشر بعد وفاته، واتخذه لويس البافاري Louis of Bavaria عدو البابوية وسيلة للدعاوة، ثم أحرق الكتاب علناً بناءً على مرسوم بابوي صدر في عام 1329، وأدرج في القرن السادس عشر في الثبت البابوي المحتوي أسماء الكتب المحرمة، ثم رفعه من هذا الثبت ليو الثالث عشر في عام 1897.
ويقول بوكاشيو إن دانتي ألف كتاب الملكية (حين جاء هنري السادس). ذلك أن ملك ألمانيا غزا إيطاليا في عام 1310 راجياً أن يبسط على شبه الجزيرة كلها، عدا الولايات البابوية، الحكم الإمبراطوري الذي انقضى عهده بموت فردريك الثاني. ورحب به دانتي، وجاشت في صدره آمال كبار؛ وأهاب بمدن لمبارديا، في "رسالة موجهة إلى أمراء إيطاليا وشعوبها" أن تفتح قلوبها وأبوابها إلى "القادم" اللكسمبرجي الذي سينجيها من الفوضى والبابوات. ولمّا وصل هنري إلى ميلان هرع دانتي إليها وألقى بنفسه وهو في نشوة الحماسة عند قدمي الإمبراطور، وخيّل إليه أن كل ما كانت تصوره له أحلامه من قيام إيطاليا الموحدة يوشك أن يتحقق. لكن فلورنس لم تستجب لنداء الشاعر، وأوصدت أبوابها في وجه هنري؛ ووجه دانتي وهو في سورة الغضب رسالة "إلى الفلورنسيين أشد الناس إجراماً Scelestissimis Florentinis (مارس 1311) قال فيها:
ألا تعرفون أن الله قد أمر أن يخضع بنو الإنسان كلهم لحكم عاهل واحد ليدافع عن العدالة، والسن، والحضارة؟ وأن إيطاليا كانت على الدوام فريسة للحرب الأهلية كلما زال عنها سلطان الإمبراطورية؟ يا من تعتدون على القوانين البشرية والإلهية ويا من يدفعكم النهم الرهيب إلى ارتكاب كل جريمة مهما بلغت من الشناعة - ألم تروعكم رهبة الميت الثانية فخرجتم على مجد الأمير الروماني، ملك الأرض ومبعوث الله؟... يا أحمق الناس وأبلدهم إحساساً! سوف تخضعون صاغرين إلى النسر الإمبراطوري!(24).
وساء دانتي وملأ قلبه هلعاً أن هنري ترك فلورنس وشأنها؛ ولهذا كتب الشاعر إلى الإمبراطور في شهر إبريل كما كتب نبي من أنبياء إسرائيل يحذر الملوك فقال:
لسنا ندري أي خمول يقعدك عن العمل هذا الزمن الطويل... إنك تضيع الربيع كما تضيع الشتاء في ميلان... (لعلك لا تعرف) أن فلورنس مصدر الشر المستطير... وأنها هي الأفعى... التي تنفث من أنفاسها الفاسدة الدخان الموبوء الذي يقضي على القطعان المجاورة لها... هُبَّ إذن يا ابن يسَّي Jesse النبيل!(25).
وكان رد فلورنس أن أعلنت نفي دانتي، وحرمانه أبد الدهر من كل عفو يصدر عن الخائنين. وترك هنري فلورنس دون أن يمسها بسوء، وانتقل عن طريق جنوى وبيزا إلى روما حيث توفي (1313).
وكان موته من أشد الفواجع التي حلت بدانتي؛ ذلك أنه قد قامر بكل شيء على انتصار هنري، وحرق من ورائه كل الجسور الفلورنسية، ولم ير أمامه إلاّ أن يفر إلى جبيو Gibbio ويلجأ إلى دير الصليب المقدس (سانتا كروس Santa Croce). ويبدو أنه كتب في هذا الدير جزءاً كبيراً من الملهاة المقدسة (26). غير أنه لم يكن قد شبع من السياسة فقد كان في أغلب الظن مع أجشيوني دلا فجيولو Uguccione della Fuggiulo في لوكا Lucca عام 1316؛ وفي ذلك العام هزم فجيولو الفلورنسيين عند مونتي كاتيني Montecantini؛ ثم استفاقت فلورنس من هذه الهزيمة وضمت ابني دانتي إلى المحكوم عليها بالإعدام - ولم ينفذ هذا الحكم قط. وخرجت لوكا على أجشيوني وألفا دانتي نفسه بلا وطن. ورأت فلورنس في نشوة النصر أن تكون كريمة، وأن تنسى أحكامها الأبدية، فعرضت أن تعفو عن جميع المنفيين وتؤمنهم على حياتهم إذا عادوا إليها، على شرط أن يؤدوا لها غرامة مالية، وأن يسيروا في شوارع المدينة في أثواب الندم، وأن يزج بهم في السجن وقتاً قصيراً. وتطوع أحد أصدقاء دانتي بإبلاغه هذا القرار، فرد عليه برسالة ذائعة الصيت قال فيها:
إلى صديق فلورنس: تلقيت رسالتك بما يليق بها من الإجلال والحب، وأدركت منها بقلب مفعم بالشكر... أن عودتي إلى بلدي عزيزة على نفسك. ولكن انظر إلى ما هو مفروض عليَّ... ذلك أنني إذا ما قبلت أن أؤدي قدراً من المال وأن أتحمل وصمة السجن، فسيعفى عنّي فأستطيع العودة من فوري..
فهل هذه إذن هي الدعوة الكريمة التي توجه إلى دانتي ألجيري ليعود إلى بلده بعد أن صبر على النفي ما يقرب من خمسة عشر عاماً... إن رجلاً ينادي بالعدالة لا يطيق أن يؤدي ما له إلى من يرتكبون المظالم، كأنهم يحسنون إليه. ألا إن هذه ليست الطريقة التي أعود إلى بلدي... فإذا كان ثمة طريقة أخرى... لا تزري بكرامة دانتي... فإني لن أتوانى قط عن اتباعها؛ أما إذا لم يكن دخول فلورنس مستطاعاً بهذه الطريقة الأخرى، فإني لن أدخلها أبداً... ما هذا الذي تقول! أليس في وسعي أن أستمتع بنور الشمس وجمال النجوم في كل مكان على ظهر الأرض؟ أليس في مقدوري أن أفكر في أعظم الحقائق شأناً؟(27) واغلب الظن أنه قبل في أواخر عام 1316 دعوة وجهها إليه كانْ جراندي دلا اسكالا Can Grande Della Scalla، حاكم فيرونا لأن يجيء إليه ويعيش في ضيافته. ويبدو أنه أتم في هذه البلدة قسم الجنة في الملهاة المقدسة (1318) - وفيها بلا ريب أهدى هذا القسم إلى كان جراندي. وفي وسعنا أن نصوره في تلك الفترة من حياته - أي في الحادية والخمسين من عمره - كما صوره بوكاشيو في الحياة الجديدة عام 1354؛ نصوره رجلاً متوسط القامة "منحني الظهر قليلاً" يسير بخطى وقورة متزنة تنم عن المهابة والانقباض، ذا شعر أسود وبشرة سمراء، ووجه طويل ينم عن كثرة التفكير، وجبهة بارزة مغضنة، وعينين غائرتين ذواتي نظرات صامتة، وأنف رفيع أقنى، وشفتين منطبقتين، وذقن بارز(28).
ذلك وجه روح كانت من قبل وادعة ظريفة، ولكن الآلام جعلتها نكدة مريرة؛ ولي سمن السهل على دانتي صاحب الوصف الوارد في الحياة الجديدة أن يتصنع كل ما وصفه به هذا الكتاب من شفقة ورقة عاطفة؛ وأن شيئاً من هذه الصفات ليظهر فيما بدا عليها من حنان وهو يستمع إلى قصة فرانسيسكا. وكان عبوساً صارماً شأن الرجل المغلوب على أمره المنفي من بلده، وقد أكسبته الشدائد حدة في اللسان، وغطرسة يغطي بها ما فقده من قوة وسلطان.
فكان يفخر بنسبة لأنه كان فقيراً، ويحتقر رجال الطبقة الوسطى من أهل فلورنس الذين يجرون وراء المال؛ ولم يكن في وسعه أن يغفر لبرتناري زواج بياتريس من مصرفي؛ وسلك طريق الانتقام الوحيدة التي وجدها أمامه فوضع أمامه المرابين في الدرك الأسفل من النار.ولم يكن ينسى قط أذى أو إهانة وما أقل من سلم من أعداءه من سموم قلمه. وكان يرى أن الذين يبقون على الحياد في الثورات أو الحروب أقل نفعاً في نظره منهم في نظر سولون. وكان منبع صفاته الخلقية كلها هو الشدة الملتهبة: "لم أكن ما أنا بفضل ثرائي بل بفضل الله عليَّ، وإن غيرتي على بيته لتشعل النار في قلبي"(29).
وقد افرغ في قصيدته كل ما وهبه الله من قوة، ولم يكن أن يستطيع أن يعيش بعد تمامها زمناً طويلاً.ففي عام 1319 غادر فيرونا وسافر إلى رافنا ليعيش فيها مع الكونت جيدو دا بولنتا Count Guido da Polenta، ثم تلقى دعوة من بولونيا للقدوم إليها لكي يتوج فيها شاعراً لبلاطها، ورفض الدعوة بأنشودة رعوية كتبها باللغة اللاتينية. وفي عام 1321 أرسله جيدو إلى مدينة البندقية في بعثة سياسية كان نصيبها الإخفاق، وعاد دانتي من هذه البعثة مريضاً بحمى أصابته من مستنقعات فينيتو Veneto. ولم يستطع جسمه الضعيف مقاومة المرض، فقضى عليه في 14 سبتمبر سنة 1321 وهو في السابعة والخمسين من عمره. واعتزم الكونت أن يقيم شاهداً على قبر الشاعر، ولكن شيئاً من هذا لم يتم، أما النقش القليل البروز القائم فوق التابوت الرخامي في هذه الأيام فقد نحته بيترو لمباردو عام 1483، والعالم كله يعرف أن بيرون جاء إليه وبكى، والقبر في هذه الأيام لا يكاد يبدو للناظر، يجده الإنسان في أحد الأركان وهو قادم من أكثر ميادين رافنا ازدحاماً بالأعمال، وإذا ما قدمت إلى حارسه المقعد الطاعن في السن بضع ليرات أنشدك بعض قطع جميلة طنانة من القصيدة التي يمتدحها الناس جميعاً ولا يقرؤها منهم إلاّ القليلون.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: الملهاة المقدسة
1- القصيدة
يقول بوكاشيو إن دانتي بدأها بالشعر اللاتيني السادس الأوتاد- (ذي الستة تفاصيل)- ولكنه استبدل به اللغة الإيطالية، لكي تصل قصيدته إلى عدداً أكبر من القراء. ولعله تأثر في اختياره بقوة عاطفته؛ فقد بدا له أن التعبير عن الانفعال باللغة الإيطالية أيسر منه باللغة اللاتينية التي طال ارتباطها بالحياة المدنية والقيود القديمة. وكان في شبابه قد قصر اللغة الإيطالية على شعر الحب؛ أما الآن وقد جعل موضوعه أسمى فلسف، وهي افتداء البشرية عن طريق الحب، فقد خطر بباله أن يقدم على التحدث بلغة بلاده. وكان في وقت ماض غير معروف قد بدأ مقالاً لاتينياً لم يتمه سماه في فصاحة اللغة الشعبية De vulgari eloquentia، أراد به أن يغري الطبقة المتعلمة بالتوسع في استخدام اللغة القومية. وقد امتدح فيه جزالة اللغة اللاتينية وإحكامها، ولكنه عبر عن أمله في أن تسمو اللغة الإيطالية فوق لهجاتها العامية بفضل أشعار دولة فردريك، والأسلوب الجديد الذي ابتدعه شعراء التسكان واللمبارد القصاصون، فتصبح (كما ورد في المأدبة"غاصة بأروع التعابير وأجملها")(30). ولم يكن دانتي نفسه- الذي نعلم عن كبريائه ما نعلم- يتصور أن ملحمته ستجعل اللغة الإيطالية صالحة للتعبير عن أي غرض من الأغراض الأدبية، وأنها لن تكتفي بهذا بل ستسمو بهذه اللغة إلى درجة من العذوبة والرقة قلّما عرف لها العالم مثيلاً. ولم يبذل في إعداد قصيدة ما من الجهد مثل ما بذل دانتي في إعداد قصيدته.
وكانت نزعة إلى التثليث- تعبر عن الثالوث الديني المقدس- وتنم عن ضعف الشاعر هي التي عينت شكل القصيدة فجعلتها مؤلفة من ثلاثة "أناشيد"، كل نشيد ثلاث وثلاثون أغنية، تقابل سني حياة المسيح على هذه الأرض، تضاف إليها أغنية أخرى في النشيد الأول فتكون عدتها مائة كاملة. واعتزم أن يكتب كل أغنية في مجموعات كل منها ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثاني من كل مجموعة ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثاني من كل مجموعة في قافيته مع البيتين الأول والثالث من المجموعة التي بعدها. وليس ثمة ما هو أكثر تكلفاً من هذا، ولكن ما من فن يخلو من التكلف، وخير ما يمكن أن يصنعه الفنان أن يخفي تكلفه؛ وهذه القافية الثلاثية terza rima تربط كل أغنية بالتي تليها، وتؤلف منها كلها أغنية واحدة متصلة، تنساب في لغتها الأصلية انسياباً سهلاً على اللسان، ولكنها إذا ترجمت تعثرت وبدت كليلة. ولقد ندد دانتي مقدماً بكل ترجمة لقصيدته، فما من شيء يسري فيه توافق الاتصال الموسيقي يمكن أن ينقل من لغته الأصلية إلى لغة أخرى دون أن يفقد حلاوته وتوافقه .
وكما أن أبيات القصيدة هي التي عينت صورتها، فإن الاستعارات هي التي عينت قصتها، وقد شرح دانتي في الرسالة التي أهدى بها القصيدة إلى كان جراندي(32) ما تنطوي عليه أناشيده من رموز، ولنا أن نظن أن شرحه هذا فكرة متأخرة لاحت لشاعر كان يريد أن يكون فيلسوفاً، ولكن انهماك العصور الوسطى في الرمزية، وما كان في الكنائس الكبرى من تماثيل رمزية، ومظلمات جيتو، وجادي Gaddi ورفائيل، وكلها رمزية، وتسامي دانتي الرمزي في الحياة الجديدة والمائدة ، كل هذا يوحي بأن الشاعر كان يفكر في النقط الرئيسية لمشروعه الذي وصفه وصفاً مفصلاً قد يكون خيالاً. ويقول دانتي أن القصيدة تتبع "جنس" الفسلفة، وأن موضوعها هو الأخلاق. وهو يفعل ما يفعله عالم الدين الذي يفسر الكتاب المقدس فيجعل لكلماته ثلاث معاني: الحرفي، والمجازي، والصوفي.
"وموضوع هذه القصيدة حسب معانيها الحرفية... هو حال الأرواح بعد الموت... أما إذا نظرنا إليها نظرة مجازية فإن موضوعها هو الإنسان من حيث تعرضه للثواب والعقاب العادلين الذين يستحقهما بسبب أعماله الطيبة أو الخبيثة.. والغرض المقصود منها في مجموعها وأجزائها هو انتشال من يحيون هذه الحياة مما يعانونه من شقاء، وإرشادهم إلى طريق السعادة".
وإذا عبّرنا عن هذه المعاني بطريقة أخرى قلنا إن الجحيم Inferno هي مرور الإنسان بالخطيئة، والعذاب، واليأس؛ وإن المطهر هو تطهيره عن طريق الإيمان؛ والفردوس هو نجاته عن طريق الوحي الإلهي والحب غير الأناني. وبمثل فرجيل، الذي يقود دانتي خلال الجحيم والمطهر، والمعرفة والعقل،والحكمة. وهي التي تستطيع أن تقودنا إلى أبواب السعادة؛ والإيمان، والحب (بيرتيس) وحدهما هما اللذان يدخلاننا فيها. وكان النفي في ملحمة حياة دانتي هو جحيمه، كما كانت دراساته وكتاباته هي مطهرة، وكانت آماله وحبه هما نجاته وسعادته اللتين لم تكن له غيرهما نجاة أو سعادة. ولعل اتخاذ دانتي رمزيته في الفردوس مأخذ الجد الشديد هو الذي يجعل هذا النشيد أكثر أناشيده استعصاء على الفهم؛ ذلك بأن بياتريس التي كانت في الحياة الجديدة رؤيا سماوية تصبح في تصويره السماء تجريداً ذا أبهة وفخامة- ومثل هذا الجمال البريء غير خليق بهذا المصير. ويشرح دانتي لكان جراندي في آخر الرسالة سبب تسميته ملحمته ملهاة-Commedia فيقول أن القصة انتقلت من الشقاء إلى السعادة، و (إنها كتبت بأسلوب مهلهل وضيع، باللغة العامية التي تتحدث بها ربات المنازل أنفسهن"(33).
وكانت هذه الملهاة الأليمة وهي "الكتاب الذي هزل فيه جسدي هذه السنين الطوال" شغله وسلوته في منفاه، ولم يفرغ منها إلاّ قبل موته بثلاث سنين. وقد لخص فيها حياته، وتعليمه، وآراءه الدينية، وفلسفته؛ ولو أنها احتوت فضلاً عن هذا ما كان في العصور الوسطى من فكاهة، ورقة، وشهوانية عارمة لجاز أن تكون من المؤلفات "الجامعة في العصور الوسطى". ذلك أن دانتي قد حشر في هذه المائة من الأناشيد المنجزة كل ما أخذه من العلم عن برونتو لاتيني، ولعله حشر فيها أيضاً ما تعلمه في بولونيا- حشر فيها كل ما كان هناك من فلك وعلم الكون، وطبقات الأرض، والتوقيت في عصر تمنعه المشاغل من أن يكون عصر علم. ولم يكن يؤمن فوق ذلك بجميع الأساطير المعماة الملغزة التي كانت تعزو معاني وقوة خفية للأعداد ولحروف الهجاء. فكان يقول مثلاً إن العدد 9 يميز بياتريس من غيرها لأن جذره التكعيبي هو 3 الذي جعله الثالوث رقماً مقدساً. وفي الجحيم تسع دوائر، وتسع طبقات في المطهر، وتسع طبقات كرية في الفردوس. ويستمد دانتي في رهبة واعتراف بالجميل قسطاً كبيراً من فلسفة أكوناس وعلوه الدينية، ولكنه لا يسير وراءه سيراً حقيقياً ولا يراعي الأمانة في النقل عنه. وما من شك في أن القديس تومس لم يكن يرتاح إلى الحجج الواردة في كتاب الملكية أو إلى رؤية البابوات في الجحيم، وإن تصوير دانتي لله بأنه نور وحب "الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم"(23) لهو قول أرسطو انتقل إليه عن طريق الفلسفة العربية. وكان يعرف الشيء القليل عن الفارابي، وابن سينا، والغزالي؛ وأبن رشد؛ ويضع ابن رشد في المحيط الخارجي للجحيم، ولكنه يهز مشاعر المتينين بوضعه سيجر البرابنتي Siger de Brabant معتنق مذهب ابن رشد في الفردوس(36). وفضلاً عن هذا فهو ينطق تومس بالثناء على الرجل الذي أثار ثائرة هذا العالم الديني الذي يكاد يصل إلى مرتبة الملائكة. غير أنه يبدو أن سيجر أنكر عقيدة الخلود الفردي الذي هو دعامة قصيدة دانتي؛ ولهذا فإما أن يكون التاريخ قد تعالى في وصف سيجر بالزيغ والضلال أو في وصف دانتي بالاستمساك بالدين.
وتؤكد الدراسات الحديثة ما استمده دانتي من المصادر الشرقية وبخاصة المصادر الإسلامية كقصة أردا فيراف التي تصف الصعود إلى السماء، ووصف الجحيم الوارد في القرآن، وقصة المعراج، ووصف الجنة والنار في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري؛ وفتوحات ابن عربي... ففي رسالة الغفران يصور المعري إبليس بعذب في الجحيم وهو مقيد بالأغلال، كما يصور الشعراء المسيحيين وغيرهم من "الكفرة" يعذبون فيها. وتستقبل صاحب القصة عند باب الجنة واحدة من الحور العين، اختيرت لترشده(38). وقد رسم ابن عربي في الفتوحات الحياة الآخرة رسماً دقيقاً، ووصف الجنة والنار بأنهما فوق بيت المقدس وتحتها مباشرة، وقسم النار والجنة إلى سبع طبقات، وصور مكان الملائكة المسبحين حول النور القدسي- وصف ذلك كله كما ورد في الملهاة المقدسة لا يفترق عنه في شيء(39) (ونقول هنا استطراداً إن ابن عربي كتب قصائد في الحب يفسرها المفسرون تفسيراً مجازياً دينياً)، ومبلغ علمنا أن شيئاً من هذه الكتابات العربية لم يكن قد ترجم قبل زمان دانتي إلى أية لغة يستطيع قراءتها.
وقد وردت في الآداب الدينية اليهودية والمسيحية غير المعترف بها أوصاف لرحلات أو رؤى في الجنة أو النار؛ ولا حاجة بنا إلى ذكر ما ورد في وصفهما في الكتاب السادس من إنياذة فرجيل. وتقول قصة أيرلندية إن القديس باتريك زار المطهر والجحيم، ورأى فيهما أثواباً وأحزمة من نار، والمذنبين معلقين فيها من أرجلهم، أو تلتهمهم الأفاعي أو يغطيهم الجليد (40). ووصف قس إنجليزي قصاص يدعى آدم ده رس Adam de Ros في قصيدة طويلة طواف القديس بولس في النار يقوده الملاك ميخائيل؛ وينطق ميخائيل بوصف مراتب العقاب التي توقع على درجات الذنوب المختلفة، ويظهر بولس وهو يرتجف من هذه الأهوال كما يرتجف منها دانتي(41). وتحدث قبل هذا يواقين الفلوري Jaockin of Flora عن هبوطه إلى الجحيم وصعوده إلى السماء. وجملة القول أنه قد وجدت مئات من هذه الرؤى والقصص؛ وأمام هذا الحشد الكبير من الأوصاف المروعة نرى أنه لم يكن دانتي بحاجة إلى أن يتخطى الحواجز اللغوية إلى الآداب الإسلامية لكي يجد فيها نماذج لوصف الجحيم. ولقد فعل دانتي ما يفعله كل فنان فمزج ما لديه من مادة وبدل فوضاها نظاماً، ووضعها فوق النار بعد أن أضاف إليها خياله القوي وإخلاصه الملتهب. ولقد أخذ عناصر وصفه أنى وجدها- من تومس، ومن شعراء الفروسية الغزلين، ومن مواعظ بطرس دميان النارية وما ورد فيها من وصف لعذاب الجحيم، ومن تفكيره الطويل في بياتريس في حياتها وبعد موتها، ومن صراعه مع السياسيين والبابوات، ومن العلوم القليلة التي اعترضت طريقه؛ ومن اللاهوت المسيحي وما ورد فيها عن سقوط آدم، وعن التجسد والخطيئة، والغفران، ويوم الحساب؛ ومن الفكرة الأفلوطينية- الأوغسطينية عن مدارج صعود الروح حتى تتحد مع الله. ومن توكيد تومس أن الرؤى الطوباوية هي الهدف الأخير الذي يغتبط به الأبرار؛ من هذا كله صاغ القصيدة التي وجدت فيها روح العصور الوسطى وما يحيط بها من رعب، وأمل، واغتراب صوتاً، ورمزاً، وصورة تعبر بها وتصورها.
2- الجحيم
"وجدت نفسي وأنا في منتصف طريق حياتنا في غابة مظلمة كانت الجادة فيها غير واضحة ومفقودة"(42). وبينما كان دانتي يجول في هذه الظلمة إذ التقى بفرجيل "أستاذي ومرشدي الذي أخذت عنه وحده الأسلوب الجميل الذي شرفت به"(43). ويخبره فرجيل أن السبيل السليمة الوحيدة للخروج من الغاية هي اجتياز الجحيم والمطهر؛ فإذا ما صحبه دانتي فيهما فسيقوده إلى أبواب الفردوس، "حيث يتولى إرشادك من هو أجدر مني وأكرم". ويضيف إلى هذا في صراحة أنه جاء ليقدم العون إلى الشاعر بأمر بياتريس. ويمران خلال فتحة في سطح الأرض إلى أبواب الجحيم، نقشت عليها هذه الألفاظ المريرة: "من خلالي يدخل الإنسان المدينة المحزنة؛ ومن خلالي يدخل الإنسان الآلام السرمدية؛ ومن خلالي يدخل الإنسان بين الأجناس الضالة. لقد حركت العدالة خالقي الأعلى؛ وصنعتني القوة الإلهية هي والحكمة العليا والحب الأزلي. ولم يخلق قبلي سوى الأشياء الأزلية، وأنا باقية أبد الدهر؛ فتخلوا عن كل آمالكم يا من تدخلون هذه الدار!". والجحيم فتحة تحت الأرض تمتد إلى مركزها. ويصورها دانتي بخيال قوي يكاد يبلغ الغاية في الاكتئاب: فهي هاوية سحيقة مظلمة مرعبة، بين صخور ضخمة قاتمة؛ تتصاعد من منافذها الأبخرة والروائح الكريهة، وتجتاحها السيول الجارفة، وبها بحيرات ومجار؛ وعواصف من المطر، والثلج، والبرد؛ ومشاعل من لهب؛ وتزمجر فيها الرياح والزمهرير الذي يجمد فيه الدم والجسد؛ وبها أجسام معذبة، ووجوه كالحة مقطبة؛ ويشقها صراخ وأنين يقف لهما الدم في العروق. وفي أعلى مكان في هذه الفتحة الجهنمية يقيم من لم يكونوا أخياراً أو أشراراً، ومن وقفوا على الحياد بين الخير والشر. أولئك يعاقبون بآلام خسيسة، تلسعهم الزنابير، ويأكلهم الدود، ويحرق قلوبهم الحسد والندم، وهؤلاء يزدريهم دانتي الذي لم يقف على الحياد في يوم من الأيام.
"الرحمة والعدالة تزدريانهم، ونحن لا نتحدث عنهم، بل نلقي نظرة عليهم ونمر بهم". ويعمل الجائلان إلى نهر أكرون Acheron في باطن الأرض، ويعبره بهما كارون Charon الذي يعمل في ذلك المكان من أيام هومر فإذا عبراه وجد دانتي نفسه في المحيط الخارجي للجحيم حيث يقيم الصالحون الذين لم يعمدوا، ومنهم فرجيل وجميع الصالحين من عبدة الأوثان، وجميع اليهود الصالحين إلا عدداً قليلاً من أبطال العهد القديم الذين أطلقهم المسيح حين زار هذا المحيط الخارجي ورفعه إلى السماء. وكل ما يعذب به هؤلاء هو رغبتهم الأبدية في مصير خير من مصيرهم، وعلمهم بأنهم من ينالوا هذا المصير. وفي هذا الموضع من الجحيم شعراء وثنيون يعظمهم كل المقيمين فيه - هومر، وهوراس، وأوفد، ولو كان؛ وهؤلاء يرحبون بفرجيل ويحلون دانتي المكان المقدس بينهم، ثم يقول دانتي: وأنظر إلى أعلى "فأرى سيد العارفين يجلس بين أسرة الفلاسفة" أي أرسطو يحيط به سقراط، وأفلاطون، ودمقريطوس، وديجين، و هرقليقوس، وأنكسغوراس وأنبادقليس، وطاليس، وزنون، وشيشرون، وسنكا، وإقليدس، وبطليموس، وأبقراط، وجالينوس، وابن سينا، وابن رشد"الذي ألف الشرح العظيم"(48). وما من شك في أنه لو كان دانتي مطلق الحرية في رأيه لوضع في الجنة هذه الفئة النبيلة كلها، ومن بينها فلاسفة المسلمين المخالفين له الدين.
ثم يقوده فرجيل إلى الدائرة الثانية، حيث تتقاذف الرياح العاتية الذين ارتكبوا خطايا جسدية شهوانية لا يستريحون منها أبداً. وهنا يشاهد دانتي باريس، وهِلِين، وديدو، وسميراميس، وكليوبطرة، وترستان، وباولو، وفرانسسكا. وقصة فرانسسكا كما يرويها دانتي تتلخص في أن فرانسسكا دا بولنتا الجميلة أريد لها أن تتزوج جيانسيتو مالا تستتا Gianciotto Malateste الشجاع المشوه لتقضي بزواجها على نزاع قام بين أسرة بولنتا سادة رافنا، وأسرة مالتستا سادة ريميني. هذا هو الجزء المؤكد في القصة، أما بقيتها فغير مؤكدة. فهناك رواية يقبلها الكثيرون تقول إن باولو Paolo الوسيم أخا جيان سيتو يدّعي أنه هو الخطيب، وأن فرانسسكا تعاهده على أن تتزوج به، ولكنها تجد في يوم العرس أنها تزف على الرغم منها إلى جيان سيتو. ثم لا يمضي إلاّ القليل من الوقت حتى تستمتع بحب باولو؛ ويقبض عليها جيان سيتو ويقتلها في تلك اللحظة (حوالي 1265). وتُقَص فرانسسكا داريميني قصتها وهي تتأرجح في الريح خيالاً بلا جسد إلى جانب روح حبيبها غير المجسد:
"إن أشد ما يحزن الإنسان أن يذكر أيام الهناء حين يقترب منه الشقاء... كنا في يوم من الأيام نتسلى بقراءة لانسلت، وكيف استبد به الهوى. وكنا في تلك الساعة وحدنا ولا يوجد بالقرب منا ما نرتاب فيه. وكثيراُ ما كانت أعيننا تتبادل النظرات في أثناء هذه القراءة، وذهب اللون من خدودنا وتبدلت صورتها. ثم وقعت أعيينا على نقطة في الكتاب واحدة، وذلك حين وصلنا إلى تلك القبلة المشتهاة التي طبعها في هيامه ونشوته فتى برح به الوجد. وفي تلك اللحظة طبع وهو يرتجف قبلة على شفتيَّ، طبعها ذلك المحب الذي لن يفارقني قط. لقد كان الكتاب وكاتبه كلاهما مبعوثين من عند الحب. ولم نقرأ شيئاً في صحفه بعد ذلك اليوم"(47).
ويتملك الأسى دانتي حين يسمع هذه القصة فيغمى عليه، ثم يفيق فيجد نفسه في الدائرة الثالثة من الجحيم، حيث يستقر من كان ذنبهم النَّهم في حمأة تحت عاصفة دائمة من الثلج، والبرد، والمياه القذرة، وحين ينبح في وجوههم سر بيروس Cerberus ويمزقهم إرباً بأنيابه الثلاثية. ثم يهبط فرجيل ودانتي إلى الدائرة الرابعة، حيث يقيم أفلوطس Plutus؛ وهنا يلتقي المبذرون والبخلاء ويقتتلون، ويلقى بعضهم على بعض أثقالاً ضخمة في حرب سيسفية Sisyphean
ويسير الشاعران بأزاء نهر استيكس Styx المظلم الذي يغلى ماؤه، حتى يصلا إلى الدائرة الخامسة؛ حيث يقيم من كان ذنبهم الغضب ملطخين بالأقذار، يضربون أنفسهم ويمزقون أجسادهم. والذين كان ذنبهم الكسل والتراخي يغمرون في ماء البحيرة الأستيجية Stygiam الآسن، وتعلو سطحها الطيفي فقاعات من زفيرهم. وينقل فليجاس Phlegyas على سطح البحيرة حتى يصلا في الدائرة الثالثة إلى مدينة ديس Dis، أو الشيطان Lucifer، حيث يشوى الملحدون في قبور ملتهبة؛ ثم يهبطان إلى الدائرة السابعة، وهناك يريان من ارتكبوا جرائم العنف تحت راية المنوتور Minotaur يكادون على الدوام يغرقون في نهر من الدناء مضطرب صاخب، ويرميهم القنطورون بالسهام كلما علت رؤوسهم فوق ماء النهر. ويريان قسم من هذه الدائرة المنتحرين ومنهم بيرو دل فنيPiero delle Vigne ، وفي قسم آخر يريان من ارتكبوا جرائم العنف ضد الله، أو الطبيعة، أو الفن، يقفون حفاة فوق رمال حامية، وتسقط على رؤوسهم كسف من النار. ويلتقي دانتي بين السدوميين بمعلمه القديم برونتو لاتيني- وهو مصير لا يليق بشخص كان هادياً لدانتي وصديقاً له وفيلسوفاً.
وتظهر عند طرف الدائرة الثامنة هولة مروعة تحمل الشاعرين وتنحدر بهما إلى هاوية المرابين؛ وفي أحد أخوار هذه الهاوية يشاهدان طائفة عجيبة من الآلام السرمدية يعذب بها من يغوون النساء، والمتملقون والمتجرون بالوظائف الدينية. وهؤلاء المتجرون يعلقون من أرجلهم في حفر لا تظهر منها إلا سيقانهم، ويلحس اللهب أقدامهم تدليلاً لهم. ومن بين هؤلاء المتجرين البابا نقولاس الثالث (1277 - 1280)؛ ويندد دانتي أشد التنديد بسوء أعمال هذا البابا وغيره من البابوات؛ ويصور نقولاس هذا صورة فذة جريئة فيقول إن البابا يحسب أن دانتي هو بنيفاس الثامن (المتوفي عام 1303) وأن قدومه إلى الجحيم متوقع في أية لحظة من اللحظات(48). ويتنبأ نقولاس بأن كلمنت الرابع (المتوفي عام 1314) سينضم إليهم بعد زمن قليل. وفي الخور الرابع من الدائرة الثامنة يقيم من يدعون معرفة الغيب، ورءوس أولئك الأقوام مثبتة في أعناقهم ومتجهة نحو ظهورهم. ويطل الشاعران من جسر - "ماليبلج Malebolge"- فوق الخور الرابع فيريان من تحتهما مختلسي الأموال العامة يسبحون إلى أبد الدهر في بحيرة من القار في درجة الغليان. أما المنافقون فلا ينقطع مرورهم حول الخور السادس في أردية من الرصاص مطلية بالذهب. ويشاهد في الممر الوحيد الذي يخترق هذا الخور قيافي مصلوباً وملقى على الأرض بحيث لا يستطيع أحد اجتياز الطريق إلا إذا وطئ جسده. وفي الخور الرابع يعذب اللصوص بأفاع سامة؛ وهنا يتعرف دانتي على عدد من الفلورنسيين، ويشاهد عقد قائم فوق الخور الثامن لهيباً يحرق جلوده مثيري السوء، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب؛ ويرى من بين هؤلاء أديسيوس المخادع. وفي الخور التاسع يستقر النمامون والعاملون على الانشقاق تنتزع أطرافهم طرفاً بعد طرف.
وفي الخور العاشر من الدائرة الثامنة يرقد المزورون، والمزيفون، والكيميائيون الكاذبون، يئنون من أوجاع مختلفة، وتملأ الهواء من حولهم رائحة كريهة هي رائحة العرق والصديد، وأنين المعذبين يملأ الهواء بأصوات كقصف الرعد.
وينتهي مطاف الشاعرين بالدائرة التاسعة وهي الدرك الأسفل من الجحيم، ومن عجب أن توصف بأنها هوة واسعة من الجليد؛ وفيها يدفن الخونة في الجليد إلى أذقانهم، وتتجمد دموع الألم فتصبح قناعاً متبلوراً فوق وجوههم. ومن بين هؤلاء يرى كونت أجولينو دلا غراردسكا Count Ugolino della Gheardesca الذي خان بيزا مشدوداً أبد الدهر إلى رجييري Ruggieri كبير الأساقفة، الذي سجنه هو وأبناءه وأحفاده وتركهم كلهم يموتون جوعاً. والآن يستند رأس أجولينو على رأس كبير الأساقفة، ويظل رجييري إلى الأبد يضع رأس أجولينو وفي مركز الأرض أي في قاع فتحة الجحيم الآخذة في الضيق يرقد الشيطان (لوسفر) الجبار مدفوناً في الجليد إلى وسطه يرفرف بجناحين ضخمين مثبتين في كتفيه، ويذرف من وجوهه الثلاثة التي تقسم رأسه دموعاً من الدم المتجمد من شدة الزمهرير، ويمضغ في كل فك من فكوكه الثلاثة أحد هؤلاء الخونة: بروتس، وكاسيوس، ويهوذا Judas.
وقصارى القول أن نصف الأهوال التي كانت تزعج الأنفس في العصور الوسطى قد جمعت في هذه القصة الدموية. وكلما أمعن الإنسان في قراءة صحفها الرهيبة ازداد رعباً على رعب حتى تطغى عليه نتيجة هذا الرعب آخر الأمر فلا يعود يطيقها. وإن ذنوب الإنسان وجرائمه في هذا العالم وفي جميع عوالم الكون وسلامه لأقل من غضب الإله وانتقامه بالصورة التي يتخيلها الشاعر. وإن فكرة دانتي عن الجحيم لهي منتهى ما وصل إليه لاهوت العصور الوسطى من فظاعة. لقد كان اليونان والرومان القدامى يصورون جحيماً يسمونها Hades أو avenrus تتلقى جميع الموتى من الآدميين. وكان مقرها مكاناً عظيماً مظلماً تحت الأرض لا يمكن تمييز شيء فيه، ولكنهم لم يصوروا هذه الجحيم بأنها مكان للتعذيب؛ وكان لابد من أن تمر قرون طوال من الهمجية، والاضطراب، والحرب قبل أن يتقول الإنسان على خالقه فيعزو إليه صفتي الانتقام السرمدي والقسوة التي لا ينضب لها معين.
ويخفف من روعنا أن نعلم أن دانتي وفرجيل قد مرا من خلال مركز الأرض، وأنهما قلبا اتجاه رأسيهما وأقدامهما، وأنهما يتحركان إلى أعلى نحو الجهة المقابلة لبلادنا من الأرض. ويجتاز الشاعران قطر الأرض كله في سرعة الأحلام التي تهزأ بم رالزمان، ويخرجان إلى النصف الجنوبي منها في صباح يوم عيد الفصح، ويشربان في وضح النهار، ويقفان عند اسفل الجبل المدرج وهو المطهر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3- المطهر
إذا قيست فكرة المطهر بفكرة الجحيم بدت فكرة رحيمة؛ ذلك أن في مقدور الإنسان بجهده وألمه، وأمله ورؤياه، أن يطهر نفسه من الذنوب والأثرة، ويرق خطوة خطوة في مدارج الإدراك، والحب، والنعيم، والمطهر، كما يصوره دانتي، مخروط جبلي مقسم إلى سبع طبقات: ما قبل المطهر وهو سبعة أسطح - واحد للتطهير من الذنوب الميتة - وفي أعلاه يقوم الفردوس الأرضي.وينتقل المذنب من كل طبقة إلى التي تليها وتقل آلامه كلما انتقل إلى طبقة أعلى من التي كان فيها، وفي أثناء هذا الانتقال ينشد ملك إحدى التطويبات. وتوجد في المراحل السفلى من المطهر سبع عقوبات للذنوب التي اعترف بها وغفرت، ولكنها لم يكفر عنها بما يكفي من العقاب. بيد أن هناك فارقاً عظيماً بين المطهر والجحيم من هذه الناحية؛ ففي الجحيم يعرف الإنسان هذه الحقيقة المريرة وهي أن العذاب سرمدي، أما المطهر ففيه تلك الحقيقة التي تبعث القوة في النفس وهي أن السعادة السرمدية ستعقب العقاب الذي أحل له أجل ينتهي عنده. ويسري في هذه المقطوعات مزاج ارق وضياء أبهى مما يسري في المقطوعات السابقة،وتكشف عن دانتي يتعلم الرأفة من فرجيل مرشده الوثني. ويغسل فرجيل بالدهن والندى ما غطى وجه دانتي من عرق الجحيم وأقذارها. وتتلألأ في ضوء الشمس المشرقة مياه البحر الذي يحيط بالجبل حين تهتز النفس التي كدرتها الذنوب طرباً وهي تستقبل الرحمة الإلهية. وهنا في الطبقة الأولى يلتقي دانتي بكاتو اليوتكي Cato od Utica، الرواقي الصارم العنيد، الذي آثر أن يقتل نفسه على أن يتلقى عذاب رحمة قيصر. وقد وضعه دانتي في هذه الطبقة تحقيقاً لأمل تومس أكانوس في أن ينجو بعض عبدة الأوثان من الهلاك. وفي هذه الطبقة نفسها يقيم مانفرد بن فردريك الذي قاتل بابا من البابوات ولكنه أحب الشعر. ويسرع فرجيل بدانتي وهو يتلو عليه تلك الآيات التي تجري على كثير من ألسنة الناس. "دع الناس يتكلموا، وقف أنت كالبرج المتين الذي لا تهتز قمته وإن هبت عليه كل الرياح"(50). وليس المطهر بالمكان الذي يوائم فرجيل، فهو لا يستطيع أن يجيب عن أسئلة دانتي بالسرعة التي تعّود أن يجيب بها عن أسئلته في الجحيم. وهو يحس بنقص ذكائه، ويظهر أحياناً حنيناً يؤلمه، غير أن ألمه هذا يزول حين يلتقي الشاعران بسردلو Sordello. ويحتضن الشاعران إبنا مانتوا أحدهما الآخر، يؤلف بين قلبيهما حبهما للبلدة التي قضيا فيها عهد الشباب. وفي هذه اللحظة ينطلق لسان دانتي بهذا الخطاب المؤلم يوجهه إلى بلده، ويلخص فيه مقاله عن الحاجة إلى الحكومة الملكية:
أي إيطاليا المستعبدة! يا موطن الأحزان! يا سفينة بغير دليل في مهب العاصفة الهوجاء! يا سيدة انتزعت منها ولاياتها الجميلة، ولم تعد إلاّ ماخوراً دنساً! إن هذا الروح الرقيق قد حفزه الصوت الجميل الصادر من بلده العزيز أن يحيي رجلاً من أهل وطنه مرحباً به مبتهجاً بلقائه. وفيك يقيم الأحياء من أبنائك يقتتلون؛ يأكل الواحد منهم لحم أخيه من الغل والحقد؛ نعم ما أشد الضغن الذي يملأ قلوب من يحيد بهم جدار واحد وخندق واحد. ألا أيها البائس الحزين طف بشواطئ بجارك، ثم عد إلى نفسك فاسألها هل يستمتع جزء منك بالسم الحلوة؟ وماذا يفيدك إذا كان جستنيان قد (أحيا القانون الروماني) من أجلك، وهل ينفعك أن يصلح العنان إذا كان السرج (بغير مَلك)؟ أيها الخلائق، يا من يجب عليكم أن تظلوا مخلصين أوفياء، أجلسوا قيصر في السرج إذا شئتم أن تستجيبوا لأمر الله(51)!".
وكأنما أراد دانتي أن يظهر شوقه إلى الملوك الذين يستطيعون القبض على الأعنة الثابتة، فيصف لنا كيف يقوده سردلو هو وزميله إلى واد مشمس جميل عند سفح جبل المطهر منثورة عليه الأزهار، ويفوح منه شذى عطرها الذكي، ويقيم فيه الإمبراطور رودلف، وأتوكا Ottokar ملك بوهيميا، وبطرس الثالث ملك أرغونة، وهنري الثاني ملك إنجلترا، وفليب الثالث ملك فرنسا.
وتقود لوشيا (التي ترمز إلى ضوء رحمة الله) دانتي وفرجيل، ويدخلهما أحد الملائكة إلى الشرفة الأولى من شرفات المطهر. وهنا يعاقب المتكبرون بأن يحمل كل منهم فوق ظهره المقوس حجراً ضخماً، وترى على الجدار والطوار نقوش بارزة تصور أعمال التواضع الذائعة الصيت وما للكبرياء من نتائج رهيبة. وفي الشرفة الثانية يرى الحاسدون في أثواب من الخيش الغليظ، تخلط عيونهم باستمرار بخيوط من حديد؛ وعلى السطح الثالث يستقر الغضب، وعلى الرابع الكسل ، وعلى الخامس البخل، ويلقى كل واحد منهم ما يستحقه من العقاب.ويرى على هذا السطح الأخير البابا هدريان الخامس، الذي كان في وقت ما حريصاً على الثروة. يكفّر عن ذنبه وهو هادئ هدوء الواثق من النجاة في آخر الأمر. وفي إحدى الحوادث الباهرة التي تضيء ختام قصة المطهر يظهر الشاعر الروماني استاتيوس Statius ويحيي الشاعرين الجائلين ويظهر من السرور بلقائهما ما يندر أن يظهره شاعر يلتقي بشاعر آخر على ظهر الأرض. ويصعد الشعراء الثلاثة جميعاً إلى السطح السادس حيث يطهر النّهمون من نهمهم. وهناك تهتز الفاكهة الذكية الرائحة على الأشجار أمام أولئك النادمين، فإذا امتدت أيديهم إليها لتقطفها استرجعت الأشجار فاكهتها؛ وتسمع أصوات في الهواء تردد ما في التاريخ من أعمال القناعة. وعلى السطح السابع والأخير يستقر الذين كان جرمهم أنهم لم يستعففوا، ولكنهم اعترفوا بذنبهم قبل الموت، وهؤلاء يمسسهم مساً خفيفاً ليطهرهم من ذنبهم. وهكذا يظهر دانتي أنه يعطف عطف الشعراء على آثام الجسد وخاصة إذا ارتكبها ذوو المزاج الفني ممن هم لهذا السبب رقيقو الإحساس، واسعوا الخيال، مندفعون في أعمالهم. ومن بين هؤلاء جيدو جوينزلي Guido Guiuxelli؛ الذي يحبه دانتي ويسميه أباه في الأدب، ويشكر له "الأغاني الحلوة، التي ستوحي إلينا ما بقيت لغتنا بأن نحب المداد الذي خطت به"(52). ويقودهما أحد الملائكة خلال نار في صعودهما الأخير إلى جنة الأرض، وهنا يودع فرجيل صاحبه بقوله:
"إن علمي لا يصل إلى أبعد من هذا، لقد سرت بك بحذقي وفني إلى هذا الحد، فاتخذ الآن مسرتك دليلاً لك... انظر! تر الشمس التي تسطع أشعتها على جبتهك؛ انظر! تر الأعشاب والشجيرات والأزهار التي تخرجها هذه الأرض موفورة من تلقاء نفسها. وإلى أن تأتيك هاتان العينان الوضّاءتان (عينا بياتريس) تشع منهما البهجة، وهما اللتان جعلتاني ببكائهما أسرع إلى معونتك حيث تشاء. ولا تنتظر أن تسمع مني بعد الآن صوتاً أو غشاوة تحذرك. وإذ كنت الآن حراً تختار لنفسك ما تشاء، حصيفاً، حكيماً... فإني أخلع عليك التاج والعمامة وأجعلك سيد نفسك"(53).
ويجوس الآن دانتي خلال الغابات والحقول، وعلى ضفاف الأنهار في جنة الأرض ومن ورائه - لا من أمامه - فرجيل واستاتيوس، يستنشق هواءها النقي ذا الرائحة الذكية، ويستمع من خلال الأشجار شدو الطير تغنى القسم الأول من النشيد الكهنوتي. وتمتنع سيدة تجمع الأزهار عن الغناء لتشرح لم خلت هذه الأرض الجميلة من الناس، فتقول إنها كانت فيما مضى جنة عدن، ولكن الإنسان عصى ربه، فأخرج هو وذريته من مباهجها البرئية. وتنزل بياتريس من السماء إلى هذه الجنة المفقودة يحيط بها لألأء يذهب سناه بالأبصار، فلا يستطيع دانتي، أن يراها بعينه، بل كل ما يقدر عليه أن يحس بوجودها:
"ومع أن عيني لم ترياها فقد سرت منها قوة فضلى خفية لم أكد أمسها حتى استبدت بي قوة الحب القديم"(54).
ويلتفت ليحدث الشاعر الذي يرشده، ولكن فرجيل كان قد عاد إلى المحيط الخارجي للجحيم وهو الموضع الذي جاء به منه استجابة لنداء بياتريس. ويبكي دانتي ولكن بياتريس تأمره أن يندب بدل البكاء شهواته التي دنس بها بعد موتها صورتها التي في قلبه. وتؤكد له أن تلك الغابة المظلمة التي أنجته منها على يد فرجيل لم تكن إلاّ حياة الدعارة التي ضل فيها في منتصف عمره واظلم أمامه بسببها السراط المستقيم. ويقع دانتي على الأرض من فرط الخجل، ويقر بذنوبه، فتقبل عذارى سماويات ويشفعن له عند بياتريس التي أساء إليها بفعله، ويرجونها أن تكشف له عن جمالها الثاني الروحي. وليس هذا لأن بياتريس قد نسيت جمالها الأول:
"فأنت لم تر في حياتك، لا في الفن ولا في الطبيعة شيئاً يبلغ من الحلاوة ما بلغته تلك الأعضاء التي كانت داخل إطارها الجميل، والتي تناثرت الآن هباء"(55).
ويرق قلبها، وتكشف له عن جمالها السماوي الجديد، ولكن العذارى يحذرن دانتي من النظر إليها مباشرة، ويطلبن إليه أن يكتفي بالنظر إلى قدميها. وتقوده بياتريس هو واستاتيوس (الذي أتم أجله في المطهر بعد أن قضى فيه اثني عشر قرناً) إلى نبع يخرج منه نهران - أحدهما ليثي Lethe (النسيان) والآخر يونوئي Eunoe (الفهم الصالح). ويشرب دانتي من يونوئي فيتطهر، وتتحدد حياته، و"يصلح للصعود إلى النجوم"(56). وليس صحيحاً أن وصف الجحيم هو وحده الجزء الطريف الممتع في الملهاة المقدسة. نعم إن في وصف المطهر كثيراً من الفقرات التعليمية المجدية، وإن فيه على الدوام قدراً كبيراً من اللاهوت الذي لا حاجة للقصيدة به، ولكنها وقد خلت في هذا النشيد من رهبة التعذيب ترثى في مدارج الجمال والحنان خطوة بعد خطوة، وتغمر هذا الرقي بجو من جمال الطبيعة الذي عاد إليها من جديد فأكسبها بهجة وطلاوة، وبذلك تتأهب القصيدة لأن تضطلع بشجاعة بذلك الواجب العظيم واجب إحاطة بياتريس المجردة من الجسد بالجمال الروحاني، وبفضلها يدخل دانتي الجنة مرة أخرى، كما دخلها في أيام شبابه.
4- السموات
لقد كان تفقه دانتي في علوم الدين مما زاد عمله مشقة؛ فلو أنه أجاز لنفسه أن يصور الجنة في صورة حديقة مليئة بالمباهج الجسمية كما هي مليئة بالمباهج الروحية، لوجدت فطرته مجالاً واسعاً لهذا التصوير. ولكن كيف يستطيع العقل البشري وهو "المركب المادي"، أن يتصور جنة ذات نعيم روحي خالص؟ يضاف إلى هذا ان نشأة دانتي الفلسفية كانت تمنعه أن يصور الله أو ملائكة الجنة وقديسها بصورة مجسدة؛ بل كان تمثلهم جميعاً كأنهم صور ونقط من نور؛ وكان تصويرهم بهذه الصورة تتبعه تجريدات تضيع في الفراغ النوراني حياة الجسد المذنب وحرارته. غير أن العقيدة الكاثوليكية كانت تعترف بعث الجسم بعد الموت؛ ولهذا فإن دانتي وهو يحاول أن يكون روحانياً يخلع على بعض سكان الجنة ملامح جسدية وينطقهم كلام بشري؛ وممّا يسر له الإنسان أن يقرأ لبياتريس، وهي في الجنة قدمين جميلتين.
ولقد نَفَّذ الصورة التي صور بها الجنة في خياله تنفيذاً متناسقاً يدعو إلى الدهشة، ونَفّذها بخيال رائع، وتفاصيل دقيقة واضحة. واسترشد بفَلَك بطليموس فصوّر السماء كأنها سلسلة من تسع كرات مجوفة مطردة الاتساع تدور حول الأرض؛ وهذه الكرات هي "المساكن الكثيرة" التي فيها "بيت الأب". وقد ثبت في كل كرة كوكب وعدد كبير من النجوم، كما تثبت الجواهر في التاج. وكلما تحركت هذه الأجرام السماوية، وقد وهبت كلها ذكاءً ربانياً متفاوت الدرجات، أخذت تتغنى ببهجة سعادتها وتسّبح بحمد خالقها، وتغمر السماوات بموسيقى تلك الكرات. ويقول دانتي إن النجوم هي أولياء السموات الصالحون، وأرواح الناجين، ويختلف ارتفاعها عن الأرض باختلاف ما كسبت في عمل صالح في حياتها على ظهر الأرض، وبقدر هذا الارتفاع تكون سعادتها، ويكون قربها من أعلى السموات التي يقوم عليها عرش الله.
وكأن النور الذي تشعه بياتريس قد جذب دانتي فارتفع من جنة الأرض إلى الدائرة الأولى من دوائر السماوات وهي دائرة القمر؛ وفيها تستقر أرواح الذين اضطروا لغير ذنب ارتكبوه إلى الحنث بأيمانهم الدينية، ومن هؤلاء شخص يدعى بكاردا دوناتي Piccarda Donati. ويقول لدانتي إنهم في أسفل دائرة من دوائر السموات، وإنهم يستمتعون بقدر من النعيم أقل مما تستمتع به الأرواح التي فوقهم؛ وقد أنجتهم الحكمة الإلهية من كل حسد، وشوق، وتذمر؛ ذلك بأن جوهر السعادة هو الخضوع لإرادة الله خضوعاً مقروناً بالغبطة والسرور، لأن "في إرادته راحتنا"(57). وهذا هو بيت القصيد في الملهاة المقدسة.
ويرقى دانتي مع بياتريس إلى السماء الثانية منجذباً إليها بقوة مغنطيسية سماوية تجذب كل شيء إلى الله. وهذه السماء الثانية هي التي يسيطر عليها الكوكب عطارد. وفيها يقيم الذين كانوا يقومون وهم على الأرض بنشاط عملي يبتغون به الخير، ولكنهم كانوا أكثر إنهِماكاً في الشرف الدنيوي منهم في خدمة الله.ويظهر من بين هؤلاء جستنيان، يصوغ في عبارات ملكية الوظائف التاريخية للإمبراطورية الرومانية والشريعة الرومانية. وعن طريقه يوجه دانتي ضربة أخرى يبغي عليها قيام عالم واحد، خاضع لشريعة واحدة، وملك واحد. ثم تقود بياتريس الشاعر إلى السماء الثالثة، وهي دائرة الزهرة حيث يتنبأ فلك Folque الشاعر البروفنسالي بمأساة بنيفاس الثامن. وفي السماء الرابعة وهي دائرة الشمس يشاهد دانتي الفلاسفة المسيحيين يوئيثيوس، وإزدور الأشبيلي، وبيد Bede، وبطرس لمبارد، وجراتيان، وألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، وبونا فنتورا، وسيجرده برابانت. ويتبادل كل من تومس الدمنيكي، وبونا فنتورا الفرنسيسي حديثهما، فيقص تومس على دانتي حياة القديس فرانسس، كما يقص عليه بونا فنتورا قصة القديس دمنيك. وإذ كان تومس على الدوام رجلاً واسع العقل إلى حد فإنه يقحم في قصته أقوالاً عن موضوعات دينية دقيقة؛ وتشتد رغبة دانتي في أن يكون فيلسوفاً فيمتنع في عدة أغان عن أن يكون شاعراً.
وتقوده بياتريس إلى السماء الخامسة، سماء المريخ، حيث تقيم أرواح المحاربين الذين قتلوا وهم يحاربون لنصرة الدين الحق - يوشع، ويهوذا مكابيوس، وشارلملن، وحتى ربرت جوسكاد Robert Guiscard الذي خرب روما. وينتظم هؤلاء على شكل صليب متلألئ عليه المسيح المصلوب؛ ويشترك كل نجم من النجوم في هذا الرمز المضيء في إيقاع موسيقى سماوي. ويصعد الشاعر وبياتريس إلى السماء الخامسة سماء المشتري فيجد فيها دانتي من كانوا وهم على ظهر الأرض يوزعون العدالة بالقسطاس المستقيم؛ ففيها داود، وحزقيال، وقسطنطين، وتراجان - وها هو ذا وثني آخر يقتحم السماء. وتنتظم هذه النجوم الحية في صورة نسر، وتكلم بصوت واحد، وتُحدث دانتي في علوم الدين، وتردد الثناء على الملوك العدول. ويصعد وقائدته إلى تسمية بياتريس تسمية مجازية لم العصر الخالد" فيصلان إلى السماء السابعة سماء البهجة، سماء زحل وحاشيته من النجوم. ويزداد جمال بياتريس بها كلما علت في السموات، كأن كل دائرة تعلو إليها تزيدها بهجة وجلالاً؛ وهي لا تجرؤ على الابتسام لحبيبها لئلا يحترق ويستحيل رماداً بقوة إشعاعها. وهذه السماء هي دائرة الرهبان الذين عاشوا معيشة الصالحين، وأخلصوا لأيمانهم، ومن بينهم بطرس دميان؛ ويسأله دانتي كيف يوفق بين حرية الإنسان وعلم الله بالغيب، وما يؤدي إليه هذا العلم من الإيمان بالقضاء والقدر؟ فيجيبه بطرس بأن أكثر الأرواح استنارة في السماء تحت عرش الله لا تستطيع الإجابة عن هذا السؤال. وهنا يظهر القديس بندكت، ويرثى للفاسد الذي انحدر إليه رهبانه.
ويسبح الشاعر وقتئذ من دوائر الكواكب إلى السماء الثامنة، منطقة النجوم الثوابت. ويطل إلى أسفل من كوكبة الجوزاء فيرى الأرض المتناهية في الصغر ذات منظر حقير لم أتمالك معه نفسي من الابتسام". ولربما كان خليقاً بأن يسري فيه وقتئذ إلى أمد قصير حنين إلى هذا الكوكب التعس، ولكن نظرة من بياتريس تنبؤه أن هذه السماء، سماء الضوء والحب، لا مكان للذنوب والنزاع، هي موطنه الحق.
وتبدأ الأغنية الثالثة والعشرون بتشبيه من التشبيهات التي يمتاز بها شعر دانتي:
كالطائر الذي جلس طوال الليل في عشه المظلم بين أوراق الشجر، ومعه صغاره الجميلة، يتحرق شوقاً إلى رؤية نظراتها الحلوة،وإلى أن يسعى سعيه الحبيب ليأتي إليها بطعامها غير شاعر بما يلاقيه في سبيلها من مشقة، جلست تستبق الزمن على الغصن المعلق فوق عشها، يقظة تترقب أن تطلع الشمس فتطرد من الشرق ستار الفجر.
وتحدق بياتريس بعينيها في جهة من الجهات مترقبة، فتنشق السماء فجاءة عن منظر وضّاء؛ وتناديه قائلة: "انظر! إلى جيش المسيح المنتصر" - أرواح جديدة كسبتها الجنة. ويلتفت دانتي ولكنه لا يرى إلاّ ضوءاً ساطعاً قوياً يذهب سناه ببصره، فلا يعرف ما يمر به. وتأمره بياتريس أن يفتح عينيه، وتقول له إنه يستطيع في ذلك الوقت أن يطيق النظر إلى بهائها كاملاً. وتبتسم له، ويقسم أن هذا حادث لا يمحى من ذاكرته. وتسأله: "لم يأسرك جمال وجهي؟" وتأمره أن ينظر بدلاً منه إلى المسيح ومريم والرسل. ويحاول هو أن يتبينهم، ولكنه لا يبصر إلاّ "كتائب من البهاء، تسقط عليها من فوقها بورق ترسلها أشعة محرقة"، وتصل إلى أذنيه في تلك اللحظة موسيقى الكتائب السماوية.
ويصعد المسيح ومريم، ولكن الرسل يبقون خلفهما، وتطلب بياتريس إليهم أن يتحدثوا إلى دانتي، فيسأله بطرس عن دينه، وتسرّه أجوبته، ويوافقه على أن الكرسي الرسولي سيظل شاغراً أو مدنساً مادام بنيفاس بابا(58). إن بنيفاس لا يجد في قلب دانتي ذرة من الرحمة.
ويختفي الرسل في الطباق العليا، ويصعد دانتي أخيراً مع "التي أسكنت روحي الجنة" إلى السماء التاسعة، أعلى السموات جميعا". وليس في هذه السماء نجوم، بل كل ما فيها نور صاف، وفيها الله الروح الخالص، المجرد من الجسد، والذي لا علة له، والأصل الثابت لجميع الأرواح، والأجساد، والأسباب، والنور، والحياة. ويحاول الشاعر وقتئذ أن يستمتع بنور النعيم الباهر، ولكنه لا يرى إلاّ نقطة من الضوء تدور حولها تسع دوائر من الذكاء الخالص - ملائكة الطبقة الأولى، وأرواح سماوية، وعروش، وأملاك، وفضائل، وسلطات، وإمارات ، وملائكة كبار، وملائكة غير كبار. وعن طريق هؤلاء - وهم عمال الله ومبعوثوه - يحكم الخالق جلا جلاله العالم. ولا يستطيع دانتي أن يرى الجوهر الإلهي، ولكنه يرى كل كتائب السماء تؤلف من نفسها وردة وضّاءة، هي أعجوبة من النور البراق وألوان المختلفة تتمدد ورقة بعد ورقة حتى تصبح زهرة ضخمة.
وحينئذ تترك بياتريس حبيبها، وتحتل مكانها في الوردة. ويراها تجلس على عرشها، ويظل يرجوها أن تساعده، فتبتسم له، وتحدق في ذلك الوقت بعينيها في مركز جميع الأضواء؛ ولكنها ترسل القديس برنار ليساعده ويواسيه. ويوجه برنار نظر دانتي نحو ملكة السماء؛ ويتجه الشاعر نحوها ولكنه لا يرى إلاّ بريقاً وهاجاً يحيط به آلاف من الملائكة مسربلين بالنور. ويقول له برنار إنه إذا شاء أن يكون له من القوة ما يستطيع به أن يشهد الرؤى السماوية واضحة، فإن عليه أن ينضم إليه في الصلاة لأم الإله. وتبدأ الأغنية الأخيرة بتضرع برنار بنغمه الحلو:
"أيتها العذراء، يا ابنة ابنك، يا من أنت أعظم تواضعاً ورفعة من كل الخلائق". ويتوسل إليها برنار أن تمن على دانتي بأن يقدر على رؤية ذات الجلال القدسي؛ فتنحني بياتريس وينحني كثير من القديسين نحو مريك ويرفعون أيديهم مقبوضة يتوسلون إليها بالدعوات.وتلقي مريم نظرة قصيرة رحيمة على دانتي، ثم تحول عينيها نحو "النور السرمدي". والآن، كما يقول الشاعر: "تصفو نظراتي، فيدخل فيها شيئاً فشيئاً ذلك النور الأعلى وهو الحق". ويقول إن كل ما رآه بعدئذ تعجز اللغة عن وصفه، ويعجز الخيال عن تصوره؛ ولكن "في هذه الهوة من البهاء المتألق، الصافية الشامخة، خيل إلى أني أرى كرة ذات ثلاثة ألوان مجتمعة في لون واحد". وتختتم الملحمة الفخمة ونظرات دانتي لا تزال مثبتة على النور المتألق، يجذبها ويدفعها "حب الله الذي يحرك الشمس وجميع النوم".
وجملة القول أن الملهاة المقدسة أعجب القصائد كلها وأصعبها. فليس ثمة قصيدة غيرها تضن بكنوزها إلاّ على من يبذلون في سبيلها جهوداً جبارة؛ ولغتها أكثر اللغات إيجازاً وإحكاماً بعد لغة هوراس وتاستس، فهي تجمع في كلمة أو بضع كلمات معاني وأفكاراً دقيقة يتطلب فهمها كاملة معلومات سابقة غزيرة، وعقلاً مستيقظاً، وذكاءً؛ وحتى بحوثها المملة في علوم الدين، والنفس، والفلك، تمتاز بدقة في اللفظ وغزارة في المادة، لا يستطيع أن يجاريها فيهما أو يستمتع بهما إلاّ الفيلسوف المدرسي. ذلك أن دانتي كان يحيا في عصره حياة قوية عميقة تكاد قصيدته بسببها أن تتحطم تحت عبء الإشارات إلى الحوادث والمعاني المعاصرة التي لا يمكن فهمها إلاّ إذا أضيف إليها كثير من الشروح التي تعطل تتابع القصة.
وكان يحب أن يعلم الناس، ولهذا أراد أن يفرغ في قصيدة واحدة ما تعلمه كله تقريباً، وكانت النتيجة أن البيت الحي من الشعر يرقد إلى جانب السخافات الميتة، ويضعف جمال بياتريس وفتنتها بأن ينطقها بما يحبه ويكرهه في الشئون السياسية. وهو يقطع قصته ليصب جام غضبه على مائة مدينة أو جماعة أو فرد، ويغرق ملحمته أحياناً في بحر من السباب؛ وهو متيم بحب إيطاليا؛ ولكن بولونيا مليئة بالقوادين(59)، وفلورنس هي الثمرة المحبوبة من ثمار الشيطان(60)، وبستونيا حظيرة للوحوش(61)، وجنوى "استشرى فيها الفساد"(62)؛ وأما بيزا "ألا لعنة الله على بيزا! ألا ليت نهر الآرنو يسد عند مصبه، ويغرق بيزا كلها، بما فيها من حرث ونسل، تحت مياهه الصاخبة"(63). ويظن دانتي أن "الحكمة العليا، والحب الأزلي" هما اللذان خلقا الجحيم. وهو يعد بأن يزيل الجليد لحظة من الزمان عن عيني البريجو Alberigo إذا ما أخبره هذا باسمه وقص عليه قصته. ويجيبه البريجو إلى ما طلب ويرجوه أن ينجز ما وعد- ويقول "مد إليَّ يدك، وافتح عيني!" - ويواصل دانتي حديثه قائلاً: ولكنني "لم أفتحهما له؛ لأن الوقاحة معه هي المجاملة بعينها"(64). ألا إننا سننجو جميعاً من العذاب إذا كان رجل مليء قلبه بهذا الغل يستطيع أن يطوف به طائف خلال الجنة. ومع هذا كله فإن قصيدته أعظم كتب العصور الوسطى، ومن أعظم كتب التاريخ بأجمعه. ذلك بأن تجمع قوتها وغزارة مادتها تدريجياً خلال أغانيها البالغ عددها مائة أغنية تجربة لا يستطيع قارئ أكمل قراءتها أن ينساها؛ وهي كما قال فيها كارليل Carlyle أعظم القصائد إخلاصاً؛ فليس فيها شيء من الادعاء، أو الملق، أو التواضع الكاذب، أو الخنوع، أو الجبن؛ بل إن أقوى رجال ذلك العصر، ومنهم البابا الذي يدّعي أنه صاحب السلطان الأعلى، يهاجمون بقوة وحرارة ليس لهما في الشعر كله مثيل. وفيها فضلاً عن هذا كله خيال وثّاب يسري فيها كلها ويبعث فيها القوة، ويغالب شيكسبير لينتزع منه لواء الشعر: فيها صور واضحة حية لأشياء لم يرها الأرباب أو البشر؛ ووصف الطبيعة لا تستطيعه إلاّ روح يقظة قوية الملاحظة مرهفة الحس؛ وقصص قصيرة، كقصة فرانسسكا وأجلينو، تجمع المآسي العظيمة في حيز صغير دون أن تترك منها شيئا ذا بال. نعم إن هذا الرجل خلو من الفكاهة، ولكن فيه حُبًّاً ظل حتى أحالته المصائب لاهوتاً.
ويبلغ دانتي آخر الأمر بقصيدته مرتبة السمو. نعم إننا لا نجد في ملحمته ما نجده في الإلياذة من تيار الحياة الجارف أو تتابع الحوادث سراعاً، كما أننا لا نجد فيها ما في شعر فرجيل من انسياب سهل هادئ، أو يمتاز به شكسبير من إدراك شامل، وتسامح، وغفران الذنوب؛ ولكن فيها عظمة، وقوة معذبة نصف همجية تستبق ميكل أنجلو وتنبئ بقدومه؛ وإذ كان دانتي ممن يحبون النظام كما يحبون الراية، فقد قيد عواطفه ورؤياه فخلع عليهما صورة محددة، ولهذا أخرج قصيدة ذات قوة ماثلة أمام أعيينا لم يصل إلى مثلها إنسان آخر من بعده. وقد ظلت إيطاليا طوال القرون التي أعقبت عصره تجله وترى فيه الرجل الذي حرز لغتها الذهبية من القيود؛ وتلقى بترارك ويوكاشيو ومائة غيرهما من الأدباء الإلهام من وقائعه وفنه، ورددت أوربا كلها أصداء قصة المنفّي الفخور الذي سار إلى الجحيم ثم عاد منها ولم يبتسم قط بعد عودته.