قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 38

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 6166

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> عصر الخيال -> إحياء اللغة اللاتينية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثامن والثلاثون: عصر الخيال 1100-1300

الفصل الأول: إحياء اللغة اللاتينية

كل عصر في حياة العالم عصر خيال، لأن الناس لا يستطيعون أن يعيشوا بالخبز وحده، والخيال عماد الحياة، ولعل القرنين الثاني عشر والثالث عشر من تاريخ أوربا كانا إلى حد قليل أبعد خيالاً من معظم العصور الأخرى. ذلك أن هذين القرنين لم يرثا جميع المخلوقات الخفية التي ابتدعها خيال أوربا الوثاب فحسب، بل قبلاً الملحمة المسيحية بكل ما فيها من جمال الخيال ورهبته، واتخذا الحب والحرب فناً وديناً؛ وشهد هذان القرنان الحروب الصليبية وجاءا بمئات القصص والعجائب من بلاد الشرق، وكتبا في واقع الأمر أطول القصص الخيالية المعروفة في التاريخ كله.

وكان مما ساعد على ازدهار الأدب قي هذين القرنين ازدياد الثروة، والفراغ والأدب غير الديني، ونشأة المدن والطبقة الوسطى، وارتفاع شأن المرأة في الدين، ونظام الفروسية. ولما تضاعف عدد المدارس بهر شيشرون، وفرجيل، وهوارس، وأوفد، وليفي، وسالست، وسنكا، واستاتيوس، وجوفنال، وكونتليان، وسيوتونيوس، وأبوليوس، وسيدونيوس، وحتى ماريتال وبترونيوس السفيهان المفحشان، بهر هؤلاء بفنهم وعالمهم الغريب كثيراً عن ملاجئ الأساتذة والأديرة المنعزلة عن العالم وتسربا في بعض البلاد إلى قصور الأعيان.واختلست الأرواح المسيحية من جيروم إلى ألكوين، إلى هلواز، وهيدلبيرت، دقائق من أوقات صلواتهم لينشدوا أغاني الإنياذة وهم صامتون. وكانت جامعة أورليان تعتز اعتزازاً خاصاً قوياً بآداب روما الوثنية، حتى شكا أحد المتزمّتين وهو مرتاع وجل قائلاً إن الآلهة القدامى، لا المسيح أو مريم، هي التي تعبد فيها. وكاد القرن الثاني عشر يصبح "عصر أوفد"؛ فقد أنزل فرجيل عن العرش الذي رفعه إليه ألكوين حتى جعله شاعر بلاط شارلمان؛ وكان الرهبان، والسيدات، "والعلماء الجاءلون" على السواء يقرءون بنشوة وابتهاج كتب التحولات، والهيرويدات، وفن الحب. وفي وسعنا أن نعفو عن كثير من أسباب اللهو المباح عند الرهبان الذين أحبوا هذه الكتب الملعونة، وحفظوها من الضياع، ولقّنوها بإخلاص ووفاء إلى الشبان المتبرمين الشاكرين.

ونشأت من هذه الدراسات القديمة لغة لاتينية خاصة بالعصور الوسطى، كان فيها من التنوع وأسباب المتعة ما يعد من أعظم المفاجآت السارة في الكشوف الأدبية. مثال ذلك أن القديس برنار الذي لم يكن يعتد إلاّ قليلاً بالمزايا العقلية، كتب رسائل تفيض بالحب الرقيق، والقدح الفصيح، واللّغة اللاتينية الممتازة؛ وقد احتفظت عظات بطرس دميان، وبرنار، وأبلار، وبرثولد الرجنز برجي للّغة اللاتينية بقوتها وحيويتها.

وكتب المؤرخون الأخباريون في الأديرة بلغة لاتينية فظيعة، ولكنهم يدعون أنهم يكتبون كتابة تشبع حاسة الجمال لدى القرّاء. بل كانوا يسجلون أولاً نشأة أديرتهم وتاريخها - انتخاباتها، ومبانيها، ووفاة رؤسائها، ومعجزات الرهبان ومنازعاتهم؛ وأضافوا إلى ذلك مذكرات عن الخسوف والكسوف، والمذنّبات، والجفاف، والفيضان، والقحط، والأوبئة، ونذر أيامهم؛ وتوسع بعضهم فضمن كتاباته بعض الحوادث القومية والدولية نفسها. وقلّ منهم من كان يبحث في المراجع التي يعتمد عليها بروح النقد الصحيح، أو يفحص عن العلل؛ وكان معظمهم مهملين غير دقيقين، يضيفون إلى أرقامهم صفراً أو صفرين ليبعثوا الحياة في الإحصاءات الميتة. وكلّهم بلا استثناء يأتون بالمعجزات، ويظهرون سذاجةً أو استعداداً ظريفاً لتصديق كل ما يقال. من ذلك أن الإخباريين الفرنسيين افترضوا أن فرنسا قد استوطنها الطرواديون النبلاء، وأن شارلمان فتح أسبانيا واستولى على بيت المقدس، وحاول كِتاب أعمال الفرنسيين Gesta Francorum (حوالي 1100) أن يروي بأمانة نسبية قصة الحرب الصليبية الأولى، ولكن كتاب أعمال الرومان Gesta Romanortum (حوالي 1280) يروي في صراحة تاريخاً مخترعاً لتشوستر، وشكسبير، وألفاً من كتّاب الروايات. وجعل جوفري المنموثي Geoffrey of Monmouth حوالي (1100-1154) من كتابه تاريخ بريطانيا Historia Britonum ضرباً من الأساطير القومية، وجد فيها الشعراء قصص الملك لير، وآرثر، وميرلين Merlin، ولانسلت Lancelot، وترسترام Tristram، وبرسفال، وبرسفال Perceval، وجريل المقدس Holy Grail. ومن الأدب الحي حتى الآن ثرثرة جوسلين Jocelyn وما رواه من أخبار بيوري سانت إدمندس Bury St. Edmonds (حوالي 1200) وما رواه الأخ سلمبيني Salimbene عن بارما (حوالي 1280).

وفي عام 1208 أهدى ساكسولانج (اللغوي) Saxo Lange الذي سمّى بعد وفاته ساكسو النحوي Saxo Grammaticus إلى أبسالوم كبير أساقفة لند Lund كتابه أعمال الدنمرقيين، وهو كتاب فيه بعض الحشو وفيه من سرعة التصديق مالا يصدّقه الإنسان(1). ولكنّه مع ذلك قصة قوية حية، فيها من الاتصال أكثر مما في كثير من تواريخ الغرب في هذه الأيام. ففي الكتاب الثالث من هذا المؤلف نقراً عن أملث Amleth أمير جتلندة Jutland الذي قتل عمه الملك وتزوج الملكة. ويقول سكسو إن أملث هذا "اختار أن يتظاهر بالبلادة وفقدان الوعي فقداناً كاملاً، وضمن بهذا الصنع الماكر سلامته".

وارتقى خمسة من المؤرخين اللاّئين في ذينك القرنين من طبقة الإخباريين إلى طبقة المؤرخين وإن احتفظوا بالطابع الإخباري. من هؤلاء وليم المالزبري (حوالي 1090-1143) الذي رتّب مادة كتابه أعمال الأحبار Gesta Pontificum، وأعمال الملوك الإنجليز Gesta Regum Anglorum ليجعل منها قصة متصلة حية، نزيهة، جديرة بالثقة، تروي أخبار الأحبار والملوك.وأرسل أردركس فيتالس Ordericus Vitalis (حوالي 1075-1143) المولود في شروزبري Shrewsbury إلى دير القديس إفرول St. Evroul في نورمندية في العاشرة من عمره وفاءً لنذر، وعاش فيها بقية سنيه الثمان والستين، ولم ير خلالها أبويه. وقضى من هذه السنين ثماني عشرة في كتابة تاريخ الكنيسة المكون من خمسة مجلدات، ولم يمتنع عن العمل في خلال تلك السنين، كما يقول الرواة، في أشد أيام الشتاء برداً حين كانت أصابعه تفقد حساسيتها من فرط البرد. ومن عجب أن عقلاً مضيقاً عليه في المكان يستطيع التحدّث عن هذا الحديث الحسن في مختلف الشئون الدينية والدنيوية، فضلاً عن استطرادات في تاريخ الرسائل والأخلاق العادية. وقص أتو Otto أسقف فرايزنج (حوالي 1114-58) في كتابه في المدينتين تاريخ الدين والعالم الدنيوي من خلق آدم إلى 1146، وبدأ ترجمة مليئة بالفخر لابن أخيه فردريك بربرسا، ولكنه توفي ولمّا يتجاوز بطله منتصف حياته. وعيّن رجل فرنسي مولود في فلسطين يدعى وليم الصوري William of Tyre(حوالي 1130-1190) مستشاراً لبولدون الرابع ملك بيت المقدس، ثم أصبح بعدئذ كبير أساقفة صور؛ وتعلّم اللغات الفرنسية، واللاتينية واليونانية والعربية وقليلاً من اللغة العبرية؛ وكتب بلغة لاتينية سليمة كتاباً هو خير ما يعتمد عليه من المصادر في تاريخ الحملات الصليبية الأولى، وسمّاه تاريخ حوادث ما وراء البحار Historia reum in partibus transmarinis gestarum. وقد حاول فيه أن يفسّر الحوادث جميعها بالاستناد إلى الأسباب الطبيعية. وكانت نزاهته في تصوير أخلاق نور الدين محمود وصلاح الدين من أكبر أسباب عقيدة أوربا المسيحية في هذين العاهلين اللذين يخالفانها في الدين. وكان ماثيو باريس (حوالي 1200-1259) راهباً في دير سانت أولبنز، وشغل أولاً منصب مؤرخ لديره، ثم بعد ذلك منصب مؤرخ للملك هنري الثالث،واستعان بهذين المنصبين على تأليف كتابه التاريخ الكبير بلغة شيّقة ممتعة؛ وهو يروي الحوادث الهامّة التي وقعت في تاريخ أوربا بين عامي 1235، 1259. ويمتاز كتابه بالوضوح والدقّة، ولكن فيه تحيّزاً لم يكن متوقعاً منه؛ وندّد فيه "بالبخل الذي نفر الشعب من البابا"، وانحاز إلى فردريك الثاني ضد البابوية. وملأ صفحاته بأنباء المعجزات، وروى قصة اليهودي الجوّال (في عام 1228)، ولكنه روى بصراحة تشكّك أهل لندن في انتقال بعض نقط من دماء المسيح إلى دير وستمنستر (1247). ووضّح كتابه بعدّة خرائط لإنجلترا رسمها بنفسه، وهي خير ما رسم من الخرائط في ذلك الوقت،وربما كان هو الذي رسم أيضاً الأشكال التي وضّح بها كتابه. وإنّا لنعجب بجدة وغزارة علمه، ولكن الصورة التي رسمها للنبي محمد (1236) تكشف عمّا يمكن أن يكون عليه رجل مسيحي متعلّم من جهل عجيب بالتاريخ الإسلامي.

أمّا أعظم المؤرخين في ذلك العصر فهما فرنسيان كتبا بلغتهما القومية، وكان لهما مع الشعراء الغزلين ورواة الملاحم وشعرائها الفضل في جعل اللغة الفرنسية لغة أدبية. فأمّا أوّلهما جيوفروي ده فيل هاردون Geoffroy de Villehardouin (حوالي 1150- حوالي 1218). فكان من النبلاء والمحاربين لم ينل من التعليم النظامي إلاّ القليل؛ ولكن جهله بالحيل البلاغية التي تعلمّ في المدارس هو الذي مكّنه من أن يملي كتابه فتح القسطنطينية (1207) بلغة فرنسية دقيقة خالية من التنميق، تتّجه نحو الغرض من أقرب طريق،ومن أن يجعل هذا الكتاب من أهم ما كتب في فن كتابة التاريخ. ولم يكن من أسباب شهرة هذا الرجل بعده عن التحيّز، فقد كان وثيق الصلة بالحرب الصليبية الرابعة، واضطلع فيها بدور هام، فلم يستطيع لهذين السببين أن يرى تلك الخيانة الجميلة الظاهرة، خيانة الحقيقة والتاريخ، بعين الرجل الموضوعي الذي ينظر إلى الحقائق دون غيرها؛ ولكن من أهم مزاياه أنه كان في وسط الحوادث نفسها يشهدها ويحس بها حين وقوعها، ممّا أضفى على كتابه حيوية لا يكاد يبليها الزمن.وظهر بعد قرن أو نحوه من ذلك الوقت جان سير ده جوانفيل Jean Sire de Joinville قيم القصر في شمبانيا؛ وبعد أن خدم لويس التاسع في حملته الصليبية وفي فرنسا، كتب وهو في الثامنة والخمسين من عمره كتابه تاريخ القديس لويس (1309)؛ ونحن نحمد له وصفه خلائق التاريخ وصفاً أميناً بعيداً عن التكلف، واهتمامه بعاداتهم وقصصهم التي توضّح سيرهم وتنير ما يكتنفها من ظلمات. وبفضله نستطيع أن نحس بالجو الذي كان سائداً في ذلك العصر كما لا نحس به في كتاب فيل هاردون، فنصحبه حين يخرج من قصره بعد أن يرهن ما يمتلكه كله تقريباً لينضم إلى الحملة الصليبية؛ ويقول إنه لم يجرؤ على النظر إلى الوراء حتى لا يذوب قلبه أسىً حين تقع عينه على زوجته وأبنائه، ولعلّه لن يراهم بعد ذلك اليوم. ولم يكن لهذا الرجل ما كان لفيل هاردون من دهاء وسعة حيلة، ولكنه كان يمتاز بالإدراك الفطري السليم، وكان يرى ما في قديسه من عيوب، ولهذا رفض أن ينضم إلى الحملة الصليبية التالية حين طلب إليه لويس الانضمام إليها، لأنه رأى ببصيرته أن هذه مغامرة لا يرجى لها فلاح، ويقول إنه حين سأله هذا الملك الورع: "أيّهما تفضّل - أن تصاب بالجذام أو أن ترتكب خطيئة موبقة؟".

"فأجبته وأنا الذي لم يكذب عليه قط بأنه خير لي أن أرتكب ثلاثين خطيئة موبقة من أن أصاب بالجذام.ولمّا خرج الرهبان من حضرته استدعاني وحدي وأجلسني عند قدميه وقال لي: كيف تجرؤ على هذا القول؟... فأجبته بأني قلته مرة أخرى بعد ذلك الوقت؛ فردّ عليّ بقوله: لقد تسرّعت وكنت أحمق في ردّك، فإن من واجبك أن تعرف أنه ليس ثمة جذام أبشع من ارتكاب الخطيئة الموبقة... وسألني: هل غسلت أقدام الفقراء يوم خميس الصعود؟ فأجبته: يا مولاي، لو فعلت لأصبت بالغثيان، إني لن أغسل قط أقدام أولئك الأدنياء.فقال لي الملك: الحق أنك قد أخطأت إذ نطقت بهذا القول، لأن عليك ألاّ تحتقر ما فعله الله ليعلمنا، ولهذا فإني أرجوك بحق حبّك الله أوّلاً وحبّك إياي ثانياً أن تعوّد نفسك غسل أقدام الفقراء"(2).

ولم تكن حياة القديسين كلها تروى بمثل هذا الصدق وتلك الأمانة، ذلك أن الإحساس بالتزام الأمانة ومراعاة الضمير في رواية التاريخ كانا من الضعف في عقول الناس في العصور الوسطى بحيث يخيّل إلينا معهما أن كتّاب هذه القصص الأخلاقية كانوا يظنّون أن لا ضرر مطلقاً في اعتقاد الناس أن ما يروونه صحيح كله، وأن الخير كل الخير في أن يصدقوه.وأكبر الظن أن المؤلفين كانوا في معظم الأوقات يأخذون القصص المنتشرة عن غيرهم، وأنهم كانوا يصدّقون ما يكتبون. وإذا أخذنا تراجم القديسين على أنها قصص لا أكثر وجدناها مليئة بالطرائف والمتع. فلينظر القارئ مثلاً إلى الطريقة التي حصل بها القديس كرستفر Christopher على اسمه. لقد كان في أول حياته رجلاً جباراً من أهل كنعان يبلغ طوله ثماني عشرة قدماً، ثم دخل في خدمة أحد الملوك لأنه سمع أن هذا الملك أقوى رجل في العالم. وحدث في يوم من الأيام أن رسم الملك على نفسه علامة الصليب حين ذكر بعضهم أمامه اسم الشيطان، فاستدل كرستفر من هذا على أن الشيطان أقوى من الملك، ولم يكن منه إلا أن دخل في خدمة الشيطان. ولكن الشيطان رأى علامة الصليب إلى جانب الطريق فولّى هارباً، واستدل كرستفر من هذا على أن عيسى (عليه السلام) أقوى بلا شك من الشيطان، فوهب نفسه للمسيح. ووجد الرجل مشقّة في الصوم المسيحي، فقد كان جسمه الضخم يتطلب الطعام الكثير،وكان لسانه الكبير يتعثر في أبسط الصلوات. ووضعه ناسك صالح على شاطئ مخاضة أغرق تيارها السريع كثيرين ممن حاولوا اجتيازها. وحمل كرستفر المسافرين على ظهره ونقلهم إلى الشاطئ الآخر في أمان دون أن يبتلّوا بالماء، حتى كان في يوم من الأيام يحمل طفلاً صغيراً ليعبر به المجرى، فوجده ثقيلاً؛ ولمّا سأله عن السبب أجابه الطفل بأنه يحمل ثقل العالم كله؛ ولمّا وصل هذا الطفل إلى بر السلامة شكر له حسن صنيعه وقال له: "أنا المسيح عيسى" ثم اختفى؛ وفي هذه اللحظة أزهرت فجاءة عصا كرستفر وكان قد غرسها في الرمل(3). ثم لينظر القارئ إلى قصة القديس جورج شفيع بريطانيا. فمن هو هذا القديس؟ لقد كان بالقرب من سيلينم Silenum في ليبيا تنين يقدّم له في كل عام شاب أو شابة طعاماً له؛ وكان هذا الشاب (أو الشابة) يختار بالقرعة ويقدّم للتنين حتى لا يسمّم القرية بنَفَسه. ووقعت القرعة في أحد الأعوام على ابنة الملك العذراء؛ ولمّا أقبل اليوم الموعود مشت نحو البِركة التي يقيم فيها التنين، فرآها القديس جورج وسألها عن سبب بكائها، فأجابته الفتاة قائلة: "أيها الشاب، أرى أن لك قلباً كبيراً نبيلاً، ولكني أرجوك أن تبادر بالابتعاد عني". وأبى الشاب أن يجيبها إلى ما طلبت، وما زال بها حتى أجابته عن سؤاله، فلما فعلت قال لها:

"لا تخافي فإني سأساعدك باسم عيسى المسيح". وخرج التنين من الماء في هذه اللحظة ورسم جورج علامة الصليب، ونادى باسم المسيح، وهجم على التنين، وطعنه بحربته، وأمر الفتاة أن تلقى بمنطقتها حول عنق التنين الجريح، ففعلت ما أمرها به؛ وخضع التنين لسحر جمالها الفتّان كما يخضع له كل شهم من الرجال، وسار خلفها مطيعاً ذليلاً طوال حياتها. وجمع ياقوبو ده فوراجين Jacopo de Voragine كبير أساقفة جنوى هاتين القصتين وأمثالهما في كتاب ذائع الصيت نشر حوالي 1290؛ فكان يروى لكل يوم من أيام السنة قصة قديسها المخصص هذا اليوم له، وسمّى كتابه قراءات عن القديسين Legenda sanctorum. وصارت مجموعة قصص ياقوبو من الكتب المحببة للقرّاء في العصور الوسطى، وأطلقوا عليها اسم القراءات الذهبية. وأشارت الكنيسة بوجوب الاحتياط في تصديق بعض هذه القصص(4)، ولكن الناس أحبّوها وصدّقوها كلها، ولعلهم لم يكونوا في هذا أكثر انخداعاً في الحياة عن السذّج من الناس الذين يصدّقون القصص الخرافية هذه الأيام.

وكان الشعر أحسن ما كتب باللغة اللاتينية في العصور الوسطى، ولم يكن الكثير منه شعراً إلاّ بالاسم فحسب، لأن جميع المواد التلقينية على اختلاف أنواعها - من تاريخ، وقصص، ورياضة، ومنطق، ودين، وطب ـ كانت تكتب في أبيات موزونة مقفاة، ليسهل بذلك استظهارها. وكتبت أيضاً ملاحم تافهة عظيمة الطول مثل ملحمة الكسندريس Alexandreis (1176) التي نظمها ولتر الشاتيوني Walter of Chatillon؛ وتبدو لنا هذه الملاحم الآن مملة بقدر ما تبدو قصيدة الفردوس المفقود Paradise Lost. وكتب أيضاً جدل شعري ـ بين الجسم والنفس، والموت والإنسان، والرحمة والصدق، والفلاّح والقس، والمرأة والرجل، والنبيذ والماء، والنبيذ والجعة، والورد والبنفسج، والطالب الفقير والقس الذي ينال من الطعام كفايته. بل ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فكتب جدلاً بين هِلين وجنيميد ليوازن بين فضائل عض الرجال للنساء وعشق الرجال للغلمان(5). وقصارى القول أن شيئاً ما من شئون الآدميين لم يكن غريباً على الشعر.

وترك الكتَّاب من القرن الخامس وما بعده قياس أوزان الشعر بمقدار ما فيه من الحروف المتحركة كما كانوا يفعلون في الشعر القديم، وجاء الشعر اللاتيني المستمد من الشعور العام لا من الفن العلمي بنوع من الشعر جديد يعتمد على النبرات والوزن والقافية. وكانت هذه الضروب من الشعر موجودة بين الرومان قبل أن تغزو الأوزان اليونانية بلادهم، وظلّت ألف عام مع الطراز اليوناني. وبقيت الأنماط الفصحى - من شعر سداسي الأوتاد، ومراث، وشعر من نوع شعر سابقو طوال العصور الوسطى؛ ولكن العالم اللاتيني حلّ هذه الأنماط، فقد خيّل إليه أنها لا تتناغم مع أمزجة التقى، والرحمة، والرقة، والأدعية الدينية التي نشرها الدين المسيحي؛ فدخلت فيه أوزان أكثر منها بساطة، هي الأبيات القصيرة من البحر العمبقي تكاد تنقل كل عاطفة بشرية من خلجات القلب إلى ضربات أرجل الجند الزاحفين إلى الحرب. وما من أحد يعرف من أين جاءت القافية إلى العالم المسيحي الغربي وإن الكثيرون يبدون آراء تعتمد على الحدس وحده. لقد اتبعت القافية في عدد قليل من القصائد الوثنية كقصائد إينوس، وشيشرون، وابوليوس؛ وكانت تستعمل أحياناً في الشعر العبري والسرياني، واستعملت مراراً متفرقة في الشعر اللاتيني أثناء القرن الخامس؛ وهي شائعة الاستعمال في الشعر العربي منذ عهد قديم يرجع إلى القرن السادس الميلادي. ولعل حب المسلمين للقافية قد أثر في المسيحيين الذين اتصلوا بالإسلام؛ ويذكرنا الإفراط في التزام القافية في أواسط الأبيات وأواخرها في شعر العصور الوسطى اللاتيني بهذا الإفراط عينه في الشعر العربي.ومهما يكن في هذا من خير أو شر فإن هذه الصيغ الجديدة قد أنتجت ضرباً جديداً من الشعر اللاتيني، يختلف في كل شيء عن الشعر القديم، موفوراً وفرة عجيبة، يبلغ من الجودة درجة لم تكن متوقعة. وإلى القارئ مثلاً من شعر بطرس دميان (1007-1072) الناسك المصلح يشبّه دعوة المسيح بدعوة محب فتاة يحبها:


منذا الذي يدق بابي؟

أتريد أن تبدد أحلام ليلى؟

فيناديني: "يا أجمل العذارى،

يا أختي، ورفيقتي، يا جوهرة متألقة!

أسرعي! قومي! افتحي يا أحلى الفتيات!

أنا ابن الملك العليّ الأعلى

أنا أكبر أبنائه وأصغرهم

هبط من السماء إلى هذه الظلمة

ليحرر أرواح الأسرى

لقد تحملت الموت وكثيراً من ضروب الأذى"

فغادرت فراشي من فوري

وهرولت نحو عتبة الباب

لكي يفتح البيت كله إلى الحبيب

وتتملى روحي برؤية

من تتحرق شوقاً إليه.

ولكنه مرّ بنا مسرعاً

وغادر بابي

فماذا أفعل أنا الشقية البائسة؟

فتبعت والدمع ينهمر من عيني

الشاب الذي صوّرت يداه الإنسان.

وكان قول الشعر عند بطرس دميان أمراً عارضاً؛ أما عند هيلدبرت اللفرديني Hildebert of Lavardin (1055-1133) كبير أساقفة تور فكان هياماً شق به طريقه إلى الإيمان. ولعل برنجر Birenger عالم تور Tours الذي درس على فلبرت في بلدة شارتر Chartres قد بعث فيه حباً للآداب اللاتينية القديمة. ونزلت به محن كثيرة سافر بعدها إلى رومة، وهو لا يدري أي الأمرين أقوى عنده من الآخر: أهو السعي إلى البركة البابوية، أم إلى رؤية الأماكن التي جعلتها القراءة عزيزة عنده؟وتأثر الرجل بعظمة العاصمة القديمة واضمحلالها، وأنطقه شعوره بمرثاة من الطراز القديم.

"أي روما! ليس في المدائن كلها ما يماثلك! وإن كدت تصبحين خربات! ألا ما كان أعظمك وأنت بمنجاة من الدمار! إننا نتعلم منك في محنتك؛ لقد حطم كبرياءك مر الدهور، فتداعت في المناقع حصون قيصر مع هياكل الأرباب. وتهدمت تلك الصروح، تلك الصروح الشاهقة التي كان البرابرة العتاة يرتعدون خوفاً حين يرونها قائمة، ويحزنون حين يرونها متداعية... ولكن كر الدهور وقعقعة السيوف لا يقويان على إبادة هذا المجد".

في هذه المرثاة برع شاعر في العصور الوسطى في استخدام اللغة اللاتينية براعة لا تقل عن براعة فرجيل نفسه. ولكنه لم تفارقه قط نزعته المسيحية، فقد كان يجد من السلوى في المسيح ومريم أكثر مما يجدها في جوبتر ومنيرفا، ولهذا نراه في قصيدة متأخرة عن القصيدة السابقة يهجر الأضرحة القديمة ويقول:

(روما تتحدث): إن هذه الهزيمة أحلى عندي من تلك الانتصارات وإني في فقري لأعظم مني في غناي، وإني وأنا ملقاة على الأرض لأعظم مني وأنا رفيعة العماد، ولقد أمدني عَلَم الصليب بأكثر ممّا أمدّتني النسور، ووهبني بطرس أكثر ممّا وهبني قيصر، وحبتني الجموع العزلاء بأكثر مما حباني القواد المدججون بالسلاح. لقد سدت الأمم وأنا قائمة على قدمي، وهأنذا وأنا مخربة أضرب في أعماق الأرض؛ ولقد سيطرت على الأجسام وأنا قائمة، وهأنذا وأنا محطمة جاثية أحكم الأرواح؛ لقد كنت في الزمن القديم آمر شعباً بائساً، أما الآن فإني أصدر أوامري إلى أمراء الظلام؛ لقد كانت المدائن مملكتي في الزمن القديم أما الآن فمملكتي هي السماء.

إن اللغة اللاتينية لم يكتب بها حتى ذلك الوقت شعر يضارع هذا الشعر منذ أيام فورتناتس Fortunatus.


الفصل الثاني: الخمر والمرأة والأغاني

من الطبيعي أن يكون علمنا بالنواحي الوثنية أو المتشككة في حياة العصور الوسطى قطعاً متفرقة؛ ذلك بأن الماضي لم يصل إلينا نزيهاً أميناً إلا في دمائنا. وهذا يزيد من إعجابنا بروح التسامح والتحرر ـ أو روح الزمالة في الغبطة ـ التي حملت دير بندكتبيرن Benediktbeuern (في بافاريا العليا) على الاحتفاظ بالمخطوط الذي شق طريقه إلى المطبعة في عام 1847 وسمّي باسم قصائد بيران Carmina Burana والذي يعد الآن أهم ما لدينا من المصادر لشعر "العلماء الجوالين" ولم يكن هؤلاء من الذين يضربون في الآفاق؛ فقد كان منهم رهبان ضلوا في طريقهم إلى أديرتهم، ومنهم قساوسة فقدوا مناصبهم، وكانت كثرتهم طلاباً في طريقهم من موطنهم إلى جامعتهم أو من إحدى الجامعات إلى الأخرى؛ وكثيراً ما كانوا يقطعون طريقهم هذا سيراً على أقدامهم. وكان كثيرون من الطلاب بعرجون على الحانات في الطريق، ومنهم من كانوا يتذوقون الخمر والنساء، ويستمعون إلى المعارف غير المدونة، ومنهم من كانوا يؤلفون الأغاني، ويتغنون بها، ويبيعونها لمن يطلبها؛ ومنهم من فقدوا أملهم في أن يكونوا من رجال الدين فكانوا يعيشون بأقلامهم يخصون بشعرهم الأساقفة والأعيان. وكانت أكثر ميادين نشاطهم فرنسا وألمانيا الغربية؛ ولكن شعرهم ما لبث أن انتشر بين البلدان المختلفة لأنهم كانوا يكتبونه باللغة اللاتينية. وكانوا يدّعون أنهم ينتظمون في هيئة خاصة هي نقابة الجوّالين، واخترعوا لها مؤسساً موهوماً وقديساً شفيعاً هو شخصية أسطورية شبيهة بشخصيات ربليه وسمّوه جلياس Golias. وإنا لنجد من ذلك الزمن البعيد، وهو القرن العاشر الميلادي، ولتر كبير أساقفة سان Sens ساخطاً أشد السخط على "أسرة جلياس" المرذولة، كما أن مجلساً كنسياً عقد في عام 1227 جهر بسخطه على الجلياردي Goliardi لأنهم ينشدون أشعاراً يسخرون فيها من أقدس الأناشيد والطقوس الدينية(6). ويقول مجلس سلز برج المنعقد في عام 1281 إنهم "يسيرون بين الناس عراة، وينامون في أفران الخبز، ويغشون الحانات، وأماكن الألعاب، والمواخير،ويكسبون عيشهم برذائلهم، ويتشبثون اشد التشبث بشيعتهم"(7).

ولسنا نعرف من هؤلاء الشعراء الجليارديين، إلاّ أفراداً قلائل، منهم شاعر يسمّى هيو Hugh أو هوجو بريماس Hugo Primas، وكان راهباً علمانياً في أورليان عام 1140 يصفه كاتب من منافسيه(8) بأنه "إنسان دنيء"، مشوه الوجه"، ولكنه اشتهر "في كثير من الأقاليم" بحضور البديهة، وقرض الشعر، هلك لأن أحداً لم يبتع شعره؛ وكان يقذف الأغنياء من رجال الدين بأقذع أنواع الهجاء التي يمليها عليه حقده. كان رجلاً غزي العلم، صفيق الوجه، قليل الحياء، يصوغ أفحش المعاني في شعر سداسي الأوتاد، لا يقل روعة عن شعر هيلدبرت.

وكان أوسع منه شهرة شاعر آخر لا نعرف الآن اسمه ولكن المعجبين به كانوا يسمّونه "كبير الشعراء Archipoeta" (حوالي 1161)؛ وهو فارس ألماني يفضل الخمر والمداد عن السيف والدم، ويعيش عيشاً مضطرباً على الصدقات التي كان يمده بها من حين إلى حين رينلد فن داسل Rainald Von Dassel كبير أساقفة كولوني المنتخب، وسفير بربرسافي بافيا. وحاول رينلد أن يصلح ما فسد من أخلاقه، ولكن الشاعر توسل إليه أن يتركه وشأنه، وكان ذلك في قصيدة من أشهر ما قيل من القصائد في العصور الوسطى، وهي قصيدة "اعتراف جالوت" - التي أصبحت المقطوعة الأخيرة منها نشيد الشراب المحبب الشائع في الجامعات الألمانية:


1- أنا الذي فاضت نفسي بالحقد الدفين الشديد،



استمع يا صاح إليّ أعلن ما في نفسي من حقد مرير:



لقد خلقت من عنصر واحد، مادتي الطيش،



أشبه الأشياء بورقة من شجرة في مهب الريح.





2- لم أطق حتى اليوم الأحزان ولا الاعتدال في الشهوات،



أحب النكات، والمرح عندي أحلى من الشهد.



وكل ما أمرت به فينوس هو عندي الغبطة التي لا تعادلها غبطة،



وهي لم تتخذ قط لها مسكناً في قلب خبيث.





3- إني أسير في الطريق الرحب شاباً غير نادم على شيء؛



إلا فلفني في الرذائل لفاً لكي أنسى كل الفضائل



فإن شرهي لعب اللذات أكثر من شوقي إلى ملكوت السموات،



لأن ما كان فيّ من روح قد مات، وأصبح من الخير لي أن أنجي الجسد.





4- عفواً أيها السيد الصالح، يا صاحب العقل الحصيف،

إن هذا الموت الذي أسعى إليه حلو، وهو سم ما أحلاه.

لقد نفذت في جسمي سهام لحاظ فتاة جميلة.

وماذا على العقل لو عبدها إن لم يكن إليها من سبيل؟

5- ألا تحرقك النار إن جلست في وسطها؟

وإن جئت إلى بافيا، فهل تعود منها طاهراً عفيفاً كما جئتها؟

بافيا التي تجتذب الشباب بأطراف أناملها،

الشباب الذي وقع في شرك عينيها وافتتن بسحر شفتيها.

6- جيء بهبوليتس ليتعشى في بافيا،

فإذا أصبح الصباح اختفى هبوليتس عن الأنظار.

فليس في بافيا طريق لا يؤدي إلى الفجور،

وليس في أبراجها الكثيرة برج واحد للعفاف

7- إن هذا هو معقد أملي؛ فإذا دنت الساعة مني،

فدعني أمت في الحانة وكأس الخمر إلى جواري،

والملائكة يطلون عليّ ويغنون مغتبطين:

"رضي الله عن هذا السكير"


وتشمل قصائد بيرن جميع موضوعات الشباب: تشمل الربيع، والحب، والافتخار بغواية النساء، والفحش الرقيق، وأغاني الحب الحنونة التي لا يستجيب لها الحبيب، وأغنية ينشدها طالب علم يشير فيها بوقف الدرس، وتقرير يوم عطلة للحب... وفي إحدى الأغاني تفاجئ فتاة شاباً أثناء كدحه وتسأله: "ماذا تفعل يا سيدي؟ هيا بنا نلعب سوياً"؛ وتتغنى أنشودة أخرى بخيانة النساء.، وأخرى غيرها بحزن فتاة غدر بها الحبيب، وكانت بدانتها سبباً في الضربات يكيلها لها أبواها. ويتغنى كثير من القصائد بملذات الشراب، والميسر، ومنها ما يتلذذ بثروة الكنيسة مثل "قصيدة الإنجيل حسب المارك الفضي"؛ ومنها ما يقلد أنبل الترانيم، ومنها قصيدة على غرار قصائد هوتمان Whitman تتغنّى بالطريق المفتوح(10). وكثير منها شعر غث لكن منه ما هو آية رائعة من آيات الشعر الغنائي. وهاهي ذي أنشودة محب يتغنى فيها بالموت المثالي:


لما أن استسلَمَت في غير مبالاة للحب ولي،



ضحك الجمال من كوكبها الوضّاء البعيد في السماء،



وغمرتني نشوة لا حد لعظمتها،



ولم يتّسع قلبي لهذه الغبطة العظيمة التي فاضت عليّ



حين بدّلتني حبيبتي، وقد طوّقتني بذراعيها، غير ما كنت،



وصبّت كل ما في شفتيها من رحيق في قُبلة حبتني بها.



وما أكثر ما أحلم بالحرية التي نلتها من صدرها اللين.



لقد أصبحت بعدها ربّاً آخر بين أرباب السماء،



وإذا ما وجدت يدي مرة أخرى فوق صدرها فسأكون المحكمُ الأعلى



بين الآلهة والخلق


ومعظم الشعر الغزلي في قصائد بيرن شهواني صريح. نعم إن فيه أبياتاً تفيض رقةً وظرفاً ولكنها أبيات قليلة نادرة الوجود؛ وكان علينا ولو لم نعثر على هذا الشعر أن نتوقع وجود ترانيم ألفينوس تنشأ عاجلاً أو آجلاً إلى جوار ترانيم الكنيسة، ذلك أن المرأة، وهي الدعامة القوية الوفية للدين، هي أكبر منافس للآلهة. وظلت الكنيسة تستمتع وهي صابرة لهذه الأغاني، أغاني الحب والخمر، ولكن مجلساً لها عقد في عام 1281 قرر أن كل قس (ومن ثم كل طالب) يؤلف أغاني شهوانية أو خارجة على الدين، أو يتغنى بها، يفقد بذلك منصبه الديني وحقوقه. وبذلك انحط من بقى من الطلاب بعد هذا القرار موالياً لجولياث إلى منزلة المغنى، وخرج من سلك الأدباء إلى سلك الوزانين المفحشين. ولم يحل عام 1250 حتى كان عهد الطلاب الجوّالين قد انقضى.ولكنهم كانوا قد ورثوا تياراً وثنياً يسري في طيّات القرون المسيحية، ولهذا فإن مزاجهم وشعرهم بقيا كامنين حتى دخلا في عصر النهضة.

وكان الشعر اللاتيني نفسه يلفظ آخر أنفاسه بانقضاء عهد الطلاب الجوّالين؛ ذلك أن القرن الثالث عشر قد وجه العقول نحو الفلسفة؛ وانزوت الآداب القديمة وقنعت بمنزلة صغرى في برامج الجامعات.ولم يجد الأدب الظريف الممتع أدب هيلدبيرت ويوحنا السلزبري الذي كان يضارع أدب عصر أغسطس، لم يجد هذا الأدب من يرثه. ولما تصرم القرن الثالث عشر واتخذ دانتي اللغة الإيطالية أداة يكتب بها شعره، أضحت اللغات القومية لغات الأدب؛ وحتى التمثيل ربيب الكنيسة وخادمها خلع عنه رداء اللاتينية ونطق بلغات الشعوب.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: بعث التمثيل

مات فن التمثيل القديم قبل بداية العصور الوسطى، لأنه انحدر إلى تمثيليات هزلية ماجنة ثم حلت محله استعراضات للألعاب؛ وكانت تمثيليات سنكا وهرسويذا Hroswitha حركات رياضية لا أكثر، ويبدو أنها لم تجد سبيلها إلى المسرح. وبقيت بعد ذلك ناحيتان من نواحي النشاط التمثيلي تصلان الماضي القديم بالزمن الذي تلا العصور الوسطى: أولاهما مناظر المحاكاة التي كانت تجري في الأعياد الزراعية، وثانيتهما التمثيليات الهزلية التي كان يمثلها المغنون الجوّالون والمهرّجون في أبهاء القصور أو ميادين القرى(12).

ولكن اشهر منابع التمثيل في العصور الوسطى هي الطقوس الكنسية شأنها في هذا شأن اليونان القديمة. فالقداس نفسه منظر تمثيلي،والحرم المقدس مسرح مقدس، وكان القساوسة القائمون بخدمة القداس يلبسون حللاً رمزية؛ ويقومون هم وخدم الكنيسة بالحوار. وأناشيد القساوسة والمرتلين المتبادلة، والمرتلين بعضهم مع بعض، توحي بأن التمثيل تطور من الحوار الذي نشأت منه المسرحية الديونيسية. وفي الاحتفالات التي كانت تقام في بعض الأعياد المقدسة نشأ العنصر التمثيلي نشأة واضحة صريحة؛ فقد كان الناس في بعض الطقوس الدينية التي تقام في يوم عيد الميلاد في القرن الحادي عشر يدخلون الكنائس في زي رعاة الغنم ويحييهم غلام "ملاك" من المغنين بقوله: "أخبار سارّة"، ويتعبّدون أمام صورة طفل من الجبس في مذود. ثم يدخلون ثلاثة "ملوك" من باب في الجهة الشرقية ويقودهم إلى المذود نجم يُجرّ على سلك(13). وكانت بعض الكنائس تمثل في الثامن والعشرين من ديسمبر "مذبحة البريئين": فكان بعض الغلمان المرتّلين يمشون في صحن الكنيسة وجناحيها، ويسقطون على الأرض كأن هيرود قد ذبحهم، ثم يقومون،ويسيرون إلى الحرم المقدس، يرمزون بذلك لصعودهم إلى السماء(14). وفي يوم الجمعة الحزينة كانت كنائس كثيرة ترفع صور المسيح المصلوب من المذبح. ثم تحمل هذه الصور وتوجع في مستقر يشبه الضريح المقدس، تعاد منه بعد ذلك إلى المذبح في صباح عيد الفصح باحتفال مهيب رمزاً لبعث المسيح(15). وكتب جريجوري نزيانزين Gregory Nazianzen بطريق القسطنطينية في عام 380 لا بعد قصة آلام المسيح في صورة تمثيلية يوربيدية Euripidean(16)، ولا تزال تمثيلية آلام المسيح من ذلك الوقت حتى الآن ذات شأن عظيم عند الشعوب المسيحية. وكانت الكتب تقول إن أول مسرحية من هذا النوع هي التي مثلت في سينا حوالي عام 1200، ولكن أكبر الظن أن مسرحيات أخرى كثيرة من نوعها مثلّت قبل ذلك التاريخ بزمن طويل.

وإذ كانت الكنيسة تستعين بالبناء، والنحت، والتصوير، والموسيقى لتطبع في عقول المؤمنين المناظر والأفكار الرئيسية في الملحمة المسيحية، فإنها بذلك كانت تلجأ إلى خيال الشعب وتزيد تقواه بما تضفيه على المناظر التمثيلية في الأعياد الكبرى من روعة وتفاصيل مطردة الزيادة؛ وكانت النصوص الموضحة التي أضيفت إلى الطقوس الدينية لتكسبها الروعة الموسيقية، كانت هذه النصوص الموضحة تحوّل أحياناً إلى تمثيليات قصيرة. من ذلك أن نصّاً موضّحاً لعيد الفصح في مخطوط من القرن العاشر في سانت جول St. Gall يدخل الحوار الآتي في ترنيمة مقسمة لتمثل فيها الملائكة والمريمات الثلاث .


الملائكة: منذ الذي تبحثين عنه في الضريح يا خادمات المسيح؟

المريمات: نبحث عن المسيح الذي صلب يا رسلاً من السماء.

الملائكة: ليس هو في هذا المكان، لقد صعد كما قال من قبل؛ اذهبن وأذعن أنه قد صعد.

المرتّلون جميعاً : احمدوا الرب، الرب قد صعد(17).


وأخذت المناظر الدينية منذ القرن الثاني تزداد تعقيداً على مر الأيام حتى لم يعد تمثيلها في داخل الكنيسة مستطاعاً. ولذا أقيم سوار مرتفع في خارجها ومثّل المسرحية فوقه ممثلون يختارون من بين أفراد الشعب، ويدرّبون على استظهار أدوار مطولة مكتوبة. وأقدم ما لدينا من أمثلة لهذا الضرب من التمثيل تمثيلية آدم التي كتبت في القرن الثاني عشر باللغة الفرنسية بينها سطور باللغة اللاتينية مكتوبة بالمداد الأحمر لتكون تعليمات للممثلين.

وفي هذه المسرحية يظهر آدم وحواء في دثارين أبيضين يلعبان في جنة ممثلة بأعشاب وأزهار أمام الكنيسة. ثم تظهر الشياطين في الأثواب الحمراء الملتصقة بالجسم التي أضحت من ذلك الوقت ثيابهم الخاصة في دور التمثيل، ويجري أولئك الشياطين بين النظارة يلوون أجسامهم ويقطّبون وجوههم تقطيباً مروعاً رهيباً، ويقدّمون الفاكهة المحرّمة لآدم فيرفضها، فيقدّمونها لحواء، فتتناولها، وتقنع آدم بأن يحذو حذوها. ويدان آدم وحواء برغبتهما في المعرفة فيسلكان في أغلال من الحديد وتجرّهما الشياطين إلى الجحيم ممثلة بحفرة في الأرض ينبعث منها صوت رهيب دال على الفرح. وفي الفصل الثاني يستعد قايين لذبح هابيل وينادي: "يا هابيل سوف تموت"، فيسأله هابيل: "ولم أموت؟" فيجيبه قايين: "أتريد أن تعرف لم أريد أن أقتلك؟... سأخبرك. سبب ذلك أنك تفرط في سعيك لتنال الحظوة عند الله". ويلقى قايين بنفسه فوق هابيل ويضربه حتى يموت. ولكن مؤلف الرواية تأخذه الرأفة فيكتب بين السطور بالمداد الأحمر: "سيكون تحت ثياب هابيل جفنة"(18).

وأطلق فيما بعد على هذه التمثيليات المستمدة من الكتاب المقدس اسم "الأفعال الخفية"؛ واللفظ مشتق من الكلمة اللاتينية ministerium ومعناها الفعل، وكان هذا أيضاً هو معنى drama. ولمّا أضحت القصة تمثّل أحداثاً وقعت بعد زمن الكتاب المقدس سمّيت بمسرحيات المعجزات، وكانت تدور في العادة حول بعض الأفعال العجيبة التي قامت بها العذراء أو قام بها بعض القديسين. وقد كتب هيلاريوس Hillarius تلميذ أبلار كثيراً من هذه المسرحيات (حوالي 1125) بخليط من اللغتين اللاتينية والفرنسية،ولم ينتصف القرن الثالث عشر حتى كانت اللغات القومية الأداة التي تكتب بها "مسرحيات المعجزات". وأخذت الفكاهات المتزايدة الصراحة تصبح فيها ذات شأن مطرد الزيادة، كما أصبحت موضوعاتها تتجه شيئاً فشيئاً وجهة دنيوية غير دينية.

وكانت "المهازل" في هذه الأثناء قد أخذت تتطور تطوراً مستقلاً نحو المسرحيات. ويتمثل هذا التطور في مسرحيتين قصيرتين وصلتا إلينا من قلم آدم ده لا هال Adam de la Halle (حوالي 1260)، وهو رجل أحدب من أراس Arras. وتدور إحدى هاتين المسرحيتين، مسرحية آدم Li jus Adam، حول حياة المؤلف نفسه. فقد كان يفكر في أن يكون قساً، ولكنه أحب مارية الحسناء. "وفي يوم جميل من أيام الصيف سماؤه صافية، وجوّه لطيف، بينما كانت الطيور تنطلق بأصواتها العذبة،لمحت بين الأشجار العالية على شاطئ النهر فتاة هي الآن زوجتي... لقد رويت الآن ظمأي منها". ويخبرها بهذا في صراحة ظريفة ويعتزم الذهاب إلى باريس وإلى الجامعة. ويدخل المؤلف في هذا الفصل الخاص بشئونه هو وزوجته، طبيباً ومجنوناً، وراهباً، يستجدي الناس الصدقات ويعدهم بالمعجزات، وجماعة من الجنيات ينشدن الأناشيد، ويذكّرنا هذا بأدوار الرقص التي تقحم إقحاماً في التمثيليات الغنائية الحديثة. ويسيء آدم إلى إحدى الجنيات، فتصب عليه لعنة تمنعه أن يفارق زوجته طول حياته، ومن هذا الهراء أخذت المسرحيات تتطور تطوراً مستمراً حتى وصلت إلى مسرحيات برناردشو Bernard Shaw.

وكلما بعدت المسرحيات عن الموضوعات الدينية واقتربت من الموضوعات الدنيوية، انتقل تمثيلها شيئاً فشيئاً من الكنيسة وما حولها إلى السوق العامة أو إلى غيرها من ميادين البلدة. ذلك أنه لم تكن هناك وقتئذ دور للتمثيل، فكانوا إذا أرادوا أن يمثّلوا في مكان ما تلك المسرحيات القليلة ـ وكان ذلك يحدث في العادة في عيد من الأعياد الصيفية ـ يقيمون مسرحاً مؤقتاً، ويضعون مقاعد للنظارة، وينشئون مظلات مزركشة لأصحاب المقامات العالية. وكان من المستطاع أن تستخدم البيوت المحيطة بالميدان لتمثيل المناظر الخلفية وغيرها مما يحتاجه الممثلون. وكان الذين يقومون بالأدوار في المسرحيات الدينية هم الشبان من رجال الدين؛ أمّا في المسرحيات غير الدينية فكان الممثلون هم أهل المدينة "الماجنين" أو المغنّين الجوّالين؛ وقلّما كانت النساء يشتركن في التمثيل. ولما زاد بعد التمثيليات عن الكنيسة في مناظرها وموضوعاتها، نزعت هذه التمثيليات إلى التهريج والخلاعة والفحش؛ ورأت الكنيسة، وهي التي نشأت في أحضانها المسرحية الجدية، أن لابد لها من أن تعلن أن التمثيليات القروية تجافي الأخلاق الفاضلة.وهكذا نرى جروستستي أسقف لنكلن يضم التمثيليات، ومنها "تمثيليات المعجزات" إلى مجالس الشراب، "وعيد الحمقى" ، ويقول إن هذه أعمال يجب ألاّ يشهدها أي مسيحي؛ وصدرت بعده أوامر شبيهة بهذا الأمر (بين عامي 1136و 1144) تقضي بأن الممثلين الذين يشتركون في هذه التمثيليات يحرمون من الدين. أمّا القديس تومس فكان أكثر من هذا تسامحاً، وقال إن مهنة التمثيل قد وجدت لمواساة الإنسانية، وإن الممثل الذي يمارسها على خير وجه ربما نجا من الجحيم برحمة من الله.


الفصل الرابع: الملاحم والقصص المنثورة

سار اصطباغ الأدب بالصبغة الدنيوية مع نشأة اللغات القومية جنباً إلى جنب. ويمكن القول بوجه عام إن رجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يفهمون اللغة اللاتينية قبل القرن الثاني عشر، وإن الكتّاب الذين كانوا يريدون أن يتصلوا بغير رجال الدين كانوا مضطرين إلى الكتابة باللغات القومية؛ وكان جمهور القرّاء يزداد اتساعاً كلما زاد النظام الاجتماعي نماء، وأخذت الآداب القومية ترتقي تدريجاً لتسد مطالب هذا الجمهور. وكانت نتيجة هذا أن نشأ الأدب الفرنسي في القرن الحادي عشر، والأدب الألماني في القرن الثاني عشر، والإنجليزي والأسباني والإيطالي في القرن الثالث عشر.

وكان من الطبيعي أن تصبح الصورة الأولى لهذا الأدب القومي هي الأغنية الشعبية، ثم طالت الأغنية فأضحت هي القصيدة الغنائية، ثم كبرت القصيدة الغنائية بما أدخل عليها من تطور وتضخم فصارت هي الملحمة الصغرى كملحمة بيولف Beowulf، وأغنية رولان Chanson de Roland ونيبلنجنلايد Nibelungenlied والسيد Cid. وأكبر الظن أن أغنية رولان ضمت بعضها إلى بعض حوالي عام 1130 من أغان كانت شائعة في القرن التاسع أو القرن العاشر. وهي تروى في أربعة آلاف بيت من الشعر السهل المنسجم العمبقي الوزن قصة موت رولان في رنسسفال Roncessvales. وتفصيل ذلك أن شارلمان بعد أن "فتح" بلاد الأندلس الإسلامية كان عائداً بجيشه نحو فرنسا، فما كان من جانيلون Ganelon الخائن إلا أن دل العدو على طريق الجيش، وتطوع رولان لقيادة المؤخرة لينجيها من مأزق خطر. وبينا هو سائر في أخدود ضيق ملتو في جبال البرانس إذ انقض حشد من الباشقنس من شعاب الجبال على قوة رولان الصغيرة. ويرجوه صديقه ألفييه أن ينفخ في بوقه الكبير ليستنجد بشارلمان، ولكن رولان يأبى أن يطلب النجدة، ويقود هو وألفييه، وتوربين Turpin كبير الأساقفة، جنودهم، ويدافعون عن أنفسهم دفاع المستميت حتى يقتلوا كلهم تقريبا. وينزف الدم من جروح مميتة في رأس ألفييه ويغشى عليه فيظن رولان جندياً من الأعداء ويضربه بسيفه ويشق خوذته من أعلى رأسه إلى موضع أنفه ولكنه ينجو من الموت:


وينظر إليه رولان وهو يضربه،



ويسأله بصوت لينحنون:



"أيها السيد الرفيق، أتفعل هذا بجد؟



إني أنا رولان الذي يحبك أعظم الحب



ولم تطلب إليّ قط النزال"



فيقول ألفييه: "أنا الآن أستمع إلى قولك؛



ولكني لا أراك، رعاك الله وأنجاك!



لقد ضربتك، فاغفرها لي!"



فيجيبه رولان: "لم أصب بسوء



وأعفو عنك لساعتي وأشهد الله."



فلمّا نطق بهذا انحنى كلاهما لصاحبه



وافترقا متحابين(20).


وينفخ رولان أخيراً في بوقه العاجي، ويواصل النفخ حتى ينبثق الدم من صدغيه، ويسمعه شارلمان فيعود لنجدته و"لحيته البيضاء تطير في الريح". ولكن الطريق طويل و"الجبال شامخة، شاسعة مظلمة، والوديان عميقة، والأنهار سريعة التيار". ورولان في هذه الأثناء حزين مكب على جثة ألفييه يناديها بقوله: "أيها السيد الرفيق، لقد كنا زميلين أياماً وليالي طوالاً، لم تسيء إلي فيها ولم أسيء إليك، فإذا مت فالحياة من بعدك كلها آلام". ويتوسل إليه كبير الأساقفة وهو يحتضر أن ينجو بالهرب، ويأبى رولان، ويواصل الحرب حتى يفرّ المهاجمون، ولكنه هو أيضاً يصاب بجرح مميت. ويستجمع آخر ما فيه من قوة ويحطم فوق صخرة من الصخور سيفه دورندال Durendal المطعّم بالجواهر حتى لا يقع في أيدي الكفار. و"رقد الكونت رولان تحت شجرة صنوبر ووجهه متجه نحو أسبانيا... وطافت به وقتئذ ذكريات كثيرة، ففكر في البلاد التي فتحها، وفي فرنسا الحلوة، وفي أسرته، وفي شارل الذي رباه، وبكى". ورفع قفازه إلى السماء دليلاً على خضوعه لله، ووفائه. ويقبل شارل ويجده قد مات. تلك هي خلاصة القصة مترجمة ولكن الترجمة أياً كانت لا تستطيع محاكاة أصلها السهل الجذل، وما من أحد غير من نشأ على حب فرنسا وتكريمها يستطيع أن يحس بالقوة والعاطفة اللتين تفيض بهما هذه الملحمة التي يحفظها كل طفل فرنسي ويتلوها في كل صلواته.

ووهب شاعر مجهول حوالي عام 1160 أسبانيا ملحمة قوية يمجد فيها أخلاق راي Ruy أو ردريجو دياز (المتوفى سنة 1099)، وهي المعروفة بملحمة السيد Poema de Cid. وموضوعها هي الأخرى القتال بين الفرسان المسيحيين والمسلمين في الأندلس، وتمجيد بطولة سادة الإقطاع، وشرفهم، وعظمتهم، وتفضيل أمجاد الحرب عن ذلة الحب. وينفي رولان ملك جاحد بفضله، فيودع زوجته وأبناءه في أحد الأديرة ويقسم ألاّ يعيش بينهم بعدئذ حتى ينتصر في خمس معارك، ويخر لقتال المسلمين. ويردد النصف الأول من القصيد ذكر انتصارات هومرية. وينهب السيد في خلال الفترات الواقعة بين المعارك أموال اليهود، ويوزع الصدقات على الفقراء، ويقدم الطعام بيده إلى مجذوم، ويأكل معه في صفحة واحدة، وينام معه في فراش واحد، ويتبين أنه ألعازر Lazarus الذي رفعه المسيح من بين الموتى. وليست هذه بطبيعة الحال هي صفات السيد التاريخية، ولكنها لا تسيء إلى التاريخ أكثر مما تسيء إليه أغنية رولان بتمجيدها شارلمان وجعلها إياه مثلاً أعلى للرجال. وأضحت ملحمة السيد حافزاً قوياً للتفكير الأسباني والعزة الوطنية الأسبانية؛ ,الفت مئات الأغاني الشعرية التي تدور حول بطلها، كما ألفت عنه مئات من الكتب متفاوتة القرب من الحقيقية التاريخية. وبعد فليس في الأشياء ما هو أبعد عن قلوب الناس من الصدق، وعماد النفس والدول هو الروايات الخيالية التي تتعاقب على مدى الأيام.

ولننتقل بعد ذلك إلى أيسلندة فنقول إن أحداً لم يفسر لنا بعد كيف أخرجت هذه الجزيرة الصغيرة، التي قست عليها الطبيعة وفصلتها البحار عن غيرها من البلدان، في تلك الفترة من الزمان، أدباً لا يتناسب في مداه ولا في بهائه مع مكانها وحجمها. لقد ساعدها على ذلك عاملان: قدر كبير من الروايات التاريخية المتواترة، العزيزة على قلب كل جماعة من الناس معزولة عن غيرها من الجماعات، وحب للقراءة، أو الاستماع إلى القارئين - أعان عليه طول الشتاء. لقد وجد في الجزيرة منذ القرن الثاني عشر لا بعد كثير من دور الكتب بالإضافة إلى مكتبات الأديرة. ولمّا أن أصبحت الكتابة من مميزات الشخص المهذب، صاغ الكتاب من رجال الدنيا والدين هذه القصص الشعبية صياغة أدبية بعد أن كانت من قبل ملكاً للشعراء الشعبيين.

وكان من بعض المصادفات النادرة أن نرى زعيم كتّاب القرن الثالث عشر في أيسلندة كان هو أغنى أهلها، والرجل الذي اختير مرتين ليكون رئيساً لجمهوريتها - الناطق بالقانون كما يسمونه فيها. كان أسنري استورلسون Snorri Sturlson (1178-1241) يحب الحياة أكثر مما يحب الأدب، وكان كثير الأسفار، منهمكاً في السياسة والمنازعات، ثم قتله زوج ابنته وهو في الثانية والستين من عمره.

وقد روى في كتابه العالم المستدير Heimskringla تاريخ بلاد الشمال وقصصها بما فطر عليه رجل الجد والعمل من بساطة وإيجاز؛ وروى في كتاب أدا استرا استور لسونر Edda Snorra Sturlsoner أو إدا المنشورة موجز التاريخ الورد في الكتاب المقدس، وشذرات من أساطير الشماليين، وضمنه مقالاً في أوزان الشعر، ورسالة فنه، وشرحاً فذاً لنشأة هذا الفن من البول يقول فيه إن طائفتين من الأرباب اقتتلوا ثم عقدوا الصلح بأن أخذوا يبصقون في جرة، ونشأ من هذا البصاق نصف إله يدعى أكفاريز Kvasir علّم الناس الحكمة كما علّمهم إياها بروميثيوس. وقتل الأقزام أكفاريز، ومزجوا دمه بالخمر وصنعوا رحيقاً يهب كل من يشربه القدرة على الغناء. واتخذ الإله العظيم أودين Odin سبيله إلى المكان الذي خزن فيه الأقزام هذا الخمر الشعري، وشربه كله، وطار إلى السماء؛ غير أن بعض السائل المحبوس خرج منه بطريقة قلّما تستخدم في الفساقي العامة؛ وسقط هذا الماء الإلهي رذاذاً ملهماً على الأرض، وامتص من سقط عليه موهبة قرض الشعر(21). ذلك هراء جاء به عالم من العلماء وليس هو أبعد عن العقل من التاريخ.

وهذه الفترة من تاريخ أيسلندة غنية بأدبها غنى تحار في العقول، ولا يزال هذا الأدب يفيض طرافةً، ومرحاً، وفكاهةً، وفتنة شعرية تسرى في نثره. وكتبت في ذلك العهد مئات من القصص المنثورة بعضها قصير وبعضها في طول الروايات النثرية، بعضها تاريخي وبعضها يخلط التاريخ بالأساطير. وكلها بوجه عام ذكريات للحضارة من عصر الهمجية، مليئة بأعمال المروءة والعنف، يُعَقّدها التقاضي ويخفف من مللها الحب. وكثيراً ما يرد في قصص إنجلنجا Ynglinga تأليف أستري ذكر فرسال الشمال الذين يحرق بعضهم بعضاً، أو يحرق الواحد منهم نفسه، أو ذكر أبهائهم أو أقداح شرابهم. وأوسع هذه القصص خيالاً قصص الفلسنجاساجا Volsungasaga. وقد وردت قصصها في صورة باكرة في الإدا الكبرى أو الإدا الشعرية؛ وأحدث صورة لها هي التي وردت في خاتم النبلنجيين تأليف فاجنر Wagner.

والفلسنج Volsung هو كل من تناسل من ويلز Waels، وويلز هذا ملك من ملوك الشمال، وهو ابن حفيد أودين وجدّ سيجورد Sigurd (سيجفريد Siegreied). والنيبلنجيون حسب نص النيبلنجيد Nibelungenlied ملوك برغنديون، أما في الفلسنجاساجا فهم سلالة من الأقزام يحرسون في بلاد الرين كنزاً وخاتماً من الذهب يجلاّن من التقدير، ولكنهما يجلبان النقمة لكل من يمتلكها. ويقتل سيجورد فهنير Fahnir التنين الذي يحرس الكنز ويستولي عليه، ويصل في تجواله إلى تل تحيط به النيران وتنام عليه برندهلد Brundhild الفلكيرية Valkyrie (نصف الإلهة التي هي من نسل أودين). وتلك إحدى صور قصة الجميلة النائمة Sleeping Beauty. ويفتتن سيجورد بجمالها وتفتتن هي به، ويقسمان يمين الوفاء، ثم يتركها ويواصل أسفارها - كما يفعل الرجال في كثير من فصص العصور الوسطى. ويلتقي في بلاط جيوكي Guki أحد ملوك بلاد الرين بالأميرة جدرون Gudrun، وتسقيه أمها شراباً مسحوراً ينسيه برندهلد ويتزوج جدرون؛ ثم يتزوج جنار Gunnar بن جيوكي برندهلد ويأتي بها إلى بلاط أبيه، ويسوؤها نسيان سيجورد إياها فتعمل على قتله، ثم تندم على فعلتها فتعلو كرمة حريقه، وتنتحر بسيفه وتحترق معه. وأحدث صورة لهذه القصص الأيسلندية هي قصة أنجال المحترق Njal (حوالي 1220). وشخصيات هذه القصة واضحة تحدد أعمالهم وأقوالهم أكثر مما يحدهم وصفهم. والقصة محكمة البناء وتنتقل حوادثها المثيرة تنقّلاً يحتمه السياق حتى تصل إلى الكارثة التي تدور حولها حوادثها - وهي احتراق بيت نجال، وأحتراقه هو وزوجته برجثورا Bergthura وأبنائه على أيدي جماعة مسلحة من الأعداء يقودهم شخص يدعى فلوسيFlosi يحقد على أبناء نجال ويعمل على الانتقام منهم:


ثم نادى فلوسي... نجال، وقال له: "إني آذن لك، يا سيد نجال، أن تخرج لأنه لا يليق بك أن تحترق في داخل الدار"

فيرد عليه نجال قائلاً: "لن أخرج لأني شيخ كبير، لا أقوى على الثأر

لأبنائي، ولكن لن أعيش مجللاً بالعار"

ثم نادى فلوسي برجثورا قائلاً: "أخرجي يا صاحبة الدار لأني لا أريد

أن أحرقك داخل البيت مهما تكن الأسباب"

فتجيبه برجتورا بقولها: "لقد تزوجت نجال وأنا صغيرة، ووعدته

أن ألقى وإياه نفس المصير"

ثم عادا بعد ذلك إلى البيت.

وسألته برجثورا: "أية نصيحة نتبعها الآن؟"

فيجيبها نجال: "سنذهب إلى فراشنا، ونرقد عليه، فطالما تاقت نفسي

إلى الراحة"

ثم قالت للغلام ثورد Thord بن كاري Kari: "سأخرجك أنت ولن

تحترق هنا"

فيجيبها الغلام قائلاً: لقد وعدتني يا جدتي ألاّ نفترق ما دمت أرغب

في البقاء معك؛ ولكني أرى أن موتي معك ومع نجال خير من

حياتي بعدكما"

ثم حملت الغلام إلى سريرها و... ووضعته بينها وبين نجال، ورسما عليهما

وعلى الغلام علامة الصليب، وأسلما روحهما إلى الله،

وكان هذا آخر لفظ سمعه الناس منهما(22).


وكان عصر الهجرة (300-600) قد ترك في ذكريات الشعوب والمغنين المضطربة ألف قصة وقصة عن الفوضى الاجتماعية، والشجاعة الهمجية، والحب القاتل؛ وانتقلت بعض هذه القصص إلى بلاد النرويج وأيسلندة وأثمرت الفلسنجاساجا، وكثير منها متقاربة الأسماء والموضوعات، وقد عاشت وتضاعف عددها في ألمانيا في صورة قصص تاريخية، وقصائد غنائية، وقصص شعبية، حتى قام رجل ألماني غير معروف في زمن غير معروف أثناء القرن الثاني عشر وصاغ من تلك المواد النيبلنجنليد أو أغاني النيبلنجببين، وهي مصوغة من قصص مسلسل من الشعر لكي بيتين منه قافية واحدة بلغة القسم الأوسط من ألمانيا العليا؛ وقصصها مزيج من الانفعالات البدائية والأمزجة الوثنية. وحكم الملك جنثر Gumther وأخواه برغندية زمناً لها في القرن الرابع الميلادي من قصرهم في ورمز على ضفة نهر الدين، وكانت تقيم معهم في ذلك القصر أختهم الشابة كريمهيلد Kremhild - "التي لم يكن أجمل منها في بلد من البلاد". وكان الملك سجمند في هذه الأثناء يحكم الأراضي الوطيئة، وأقطع ابنه سيجفريد (سيجورد) ضيعة غنية بالقرب من أكسنتين Xanten الواقعة هي الأخرى على ضفة الرين. وترامت إلى مسامع سيجفريد أخبار جمال كريمهيلد فذهب لزيارة بلاط جنثر وأقام هناك على الرحب والسعة مدة عام، ولكنه لم ير كريمهيلد قط، وإن كانت هي قد أبصرت من نافذتها الشبان يتثاقفون في فناء القصر، فأحبته من أول نظرة. ذلك أن سيجفريد كان يفوق سائر الشباب في قراع السيوف، وأظهر بسالة عظيمة في حربة مع صفوف البرغنديين؛ واراد جنثر أن يحتفل بعقد الصلح بعد انتصاره فأمر سيدات القصر أن يشهدن الاحتفال!

وزينت كثيرات من بنات الأشراف أحسن زينة، وتاقت نفوس الشبان لنيل رضاء السيدات وإعجابهن، ونزلوا عن حقهم في أرض الملك الغنية نظير فوزهم بهذا الإعجاب... وتبدت كريمهيلد كأنها كوكب الصباح يتألق بين السحب الدكناء؛ ولم يكد يراها الشاب الذي انطوى قلبه على حبها من زمن بعيد حتى ذهب عنه ما كان يحس به من تعب.... وسر سيجفريد وحزن، فقد قال في نفسه: "كيف أخطب ود فتاة مثلك؟ تلك لا ريب أضغاث أحلام، ولكن الموت عندي أفضل من البعد عنك"... واحمرت وجنتاها حين أبصرت أمامها ذلك الرجل ذا النفس العالية، وقالت: "مرحباً بك يا سيجفريد، أيها الفارس الباسل النبيل". وامتلأ قلب الفارس شجاعة حين سمع هذه الألفاظ، وانحنى أمامها انحناءة جميلة شأن الفارس الشهم، وشكر لها تحيتها. وارتبط قلباهما برباط الحب القوي وتبادلا النظرات سراً.

وترامت أخبار برنهيلد ملكة أيسلندة إلى جنثر وكان أعزب، وقيل له إنها لا ينالها إلاّ من يتفوق عليها في ثلاث تجارب للقوى، وإنه إذا أخفق في أية تجربة منها جوزي بقطع رأسه. ووافق سيجفريد على أن يساعد جنثر على نيل برنهيلد إذا زوجه بكريمهيلد. ويعبران البحر بسرعة القصص وسهولتها؛ ويلبس سيجفريد طيلساناً سحرياً يخفيه عن الأنظار، ويساعد جنثر على الخروج ظافراً من التجارب الثلاث، ويأتي جنثر ببرنهيلد إلى موطنه ليتزوجها على كره منها. وتساعد ست وثمانون فتاة كريمهيلد على إعداد الأثواب الغالية للعروس. ويحتفل بزواج جنثر وبرنهيلد وبزواج سيجفريد وكريمهيلد احتفالاً فخماً.

ولكن برنهيلد تبصر سيجفريد فتحس أن هو لا جنثر الذي يليق أن يكون زوجها. ويقبل جنثر عليها ليلة زفافها فترده عنها خائباً، وتربطه في عقدة وتعلقه على الجدار. وينطلق جنثر من العقدة ويستنجد بسيجفريد؛ وفي الليلة الثانية يتخفى البطل في زي جنثر وينام بجوار برنهيلد، بينما يكون جنثر نفسه مختبئاً في حجرة مظلمة يستمع إلى كل شيء ولا يرى شيئاً. وتلقى برنهيلد بسيجفريد بعيداً عن الفراش وتشتبك معه في معركة تفري العظم، وتحطم الرأس، ولا تجري على سنن متبعة. ويقول في نفسه أثناء المعركة: "واحسرتاه! إنني إذا مت بيد امرأة فإن الزوجات جميعهن سيحتقرن أزواجهن". وتهزم برنهيلد آخر الأمر، وتعد أن تكون زوجة. وينسحب سيجفريد دون أن يراه أحد حاملاً معه منطقتها وقرطها، ويحل جنثر نحله بجوار الملكة الخائرة القوى. ويهدي سيجفريد المنطقة والقرط إلى كريمهيلد، ويأتي بها إلى أبيها، فيتوجه ملكاً على الأراضي الوطيئة. ويستخدم سيجفريد ما له من ثروة في سنيبلنجن فيلبس زوجته ووصيفاتها من الثياب ما لم تلبسه امرأة أخرى قبلهن.

وتزور كريمهيلد بعد فترة من ذلك الوقت برنهيلد في مدينة ورمز. وتبصر برنهيلد أثواب كريمهيلد الغالية فتدب الغيرة في قلبها، وتذكّرها بأن سيجفريد من أتباع جنثر. وترد عليها كريمهيلد بأن تكشف لها عن المنطقة والقرط لتثبت لها أن سيجفريد لاجنثر هو الذي غلبها على أمرها. وكان لجنثر أخ نكد غير شقيق يدعى هاجن Hagen ملأ صدره حقداً على سيجفريد؛ فأرسلا إليه يدعوانه للخروج إلى الصيد. وينحني سيجفريد فوق مجرى ماء ليروي ظمأه، فيطعنه هاجن بحربة، وتبصر كريمهيلد بطلها يلقى منيته "فيغمى عليها وتفقد وعيها طوال ذلك اليوم وتلك الليلة". وترث كنز نيبلنج بوصفها أرملة سيجفريد، ولكن هاجن يغري جنثر باغتصابه منها، ويدفن جنثر وأخوته هذا الكنز في نهر الرين ويقسموا ألاّ يكشفوا لأحد عن مخبئه.

وتظل كريمهيلد ثلاثة عشر عاماً تفكر في الثأر من هاجن وأخوتها، ولكنها لا تجد الفرصة التي تمكنها من هذا الثأر، ثم تقبل ما عرضه عليها إتزل Etzel (أتلا Atilla) ملك الهون من زواجه بها؛ وتنتقل إلى فينا Vienna لتعيش فيها وتكون زوجة له. "وكان إتزل ذا شهرة عظيمة تجتذب إلى بلاطه بلا انقطاع أشجع الفرسان مسيحيين وكفاراً على السواء.... وكان الإنسان يرى عنده ما لا يستطيع أن يراه في هذه الأيام - يرى المسيحيين والكفرة جنباً إلى جنب. وكان الملك ندي اليد سخياً على الناس جميعاً أياً كانت عقائدهم، فلم يكن ثمة أحد لا ينل رفده". وظلت كريمهيلد تحكم البلاد "حكماً صالحاً" مدى ثلاثة عشر عاماً بدا فيها أنها لم تعد تفكر في الانتقام؛ وبلغ من أمرها أن طلبت إلى إتزل أن يدعو هاجن وإخوتها إلى وليمة؛ ويلبي هؤلاء الدعوة رغم تحذير هاجن، ولكنهم يأتون معهم بحاشية من الفلاحين والفرسان المسلحين. وبينما كان إخوة الملك وهاجن ومن معهم من الفرسان يستمتعون بضيافة حاشية الهون في بهو إتزل، إذ يقتل الفلاحون الذين في خارج البهو بأمر كريمهيلد، ويتلقى هاجن النبأ، فيستل سيفه، وتدور معركة رهيبة في البهو بين البرغنديين والهون (ولعل القصة ذكرى حربهم الحقيقية التي دارت في عام 437). ويطيح هاجن بضربته الأولى برأس أرتليب Artlieb ابن كريمهيلد وإتزل البالغ من العمر خمس سنين ويلقى برأسه في حجر كريمهيلد وجنثر. ولمّا كاد البرغنديون جميعاً يهلكون يطلب جرنوت Gernot أخو كريمهيلد وجنثر إلى إتزل أن يسمح للباقين من الزوار بالخروج من البهو. ويظهر فرسان الهون رغبتهم في إجابة هذا الطلب ولكن كريمهيلد ترفضه، وتستمر المذبحة. ويتوسل إليها جزلهر Gisslher أخوها الأصغر الذي كان غلاماً بريئاً في الخامسة من عمره لما قتل سيجفريد ويناديها: "أختي يا أجمل النساء، بأي ذنب أستحق الموت بأيدي الهون؟ لقد كنت على الدوام وفياً لك، لم تمسسك يداي بأذى؛ ولكني جئت إلى هذا المكان يا أعز الأخوات لأني وثقت بحبك، فهلاّ رحمتني". وترضى كريمهيلد بأن يخرج الباقون إذا أسلموا هاجن، فيرد عليها جرنوت بقوله: "ذلك يا أماه الله في علو سمائه، خير لنا أن نهلك عن آخرنا من أن نفتدي أنفسنا بواحد ما". وتخرج كريمهيلد الهون من البناء، وتغلق الأبواب على من فيه من البرغنديين، وتأمر بإحراقه. ويجن البرغنديون من فرط الحرارة والظمأ فيصيحون من شدة الألم، فيأمرهم هاجن بأن يطفئوا ظمأهم بشرب دماء القتلى، فيصدعون بما يؤمرون، ويخرج بعضهم من بين الأخشاب الملتهبة المتساقطة، وتستمر المعركة دائرة في الفناء حتى لا يبقى حياً من البرغنديين غير جنثر وهاجن. ويقاتل ديتريخ Dietrich القوطي وهاجن، وينتصر عليه، ويأتي به إلى كريمهيلد مكبلاً بالأغلال. وتسأله هاجن أين أخفى كنز نيبلنج، فيجيبها بأنه لن يكشف لها عن ذلك السر ما دام جنثر حياً؛ ويقتل جنثر، وكان لا يوال حياً، بأمر أخته، ويحمل رأسه إلى هاجن، ولكن هاجن يتحداها بقوله: "إن مكان الكنز لا يعرفه الآن إلاّ الله وحده وأنا، ولن تعرفي هذا السر أيتها المرأة الشيطانة"، فتقبض بيدها على سيف وتقتله به. وتشمئز نفس هلدبراند Hildebrand القوطي مما سفكته كريمهيلد من الدماء فيقتلها.

تلك قصة رهيبة تجري فها الدماء كما تجري في أية قصة أخرى في عالم الأدب أو فيما هو دونه. وإنا لنظلم هذه القصة بعض الظلم إذا انتزعنا لحظاتها الرهيبة مما يحيط بها من ولائم، ومثاقفة، وصيد، وشئون النساء. ولكن هذا هو الموضوع الذي تدور حوادثها حوله - فتاة رقيقة يبدلها ما صادفته من الشر امرأة وحشية سفاحة. ومن عجب أنه قلّما يبقى في القصة بعد هذا شيء يقربها من الدين المسيحي، فهي في الواقع مأساة يونانية تدور حول الانتقام، ولا تفعل ما تفعله المآسي اليونانية إذ تأبى أن تقع في أعمال العنف على المسرح. وتطغى هذه الجرائم على جميع فضائل الإقطاع فلا يكاد يظهر منها شيء حتى إكرام رب الدار أضيافه الذين دعاهم لزيارته، وليس ثمة ما يفوق وحشية هذه القصة إلاّ وحشية أيامنا هذه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: شعراء الفروسية الغزليون Troubadour

في أواخر القرن الثالث عشر، أي في الوقت الذي كنا نتوقع فيه أن يكون الأدب الأوربي مصطبغاً بالحماسة الدينية التي بعثتها في الناس الحروب الصليبية، في أواخر هذا القرن بالذات نشأت في جنوبي فرنسا مدرسة من الشعر الغنائي أرستقراطية، وثنية، غير كهنوتية، عليها الطابع العربي، تنبئ بانتصار المرأة على القيود الثقيلة التي فرضتها عليها نظرية سقوط آدم. وانتقل هذا الطراز الشعري من طولوز إلى باريس ومن باريس إلى لندن ومع إليانور الأكتانية، واستحوذ على قلب ابنها الباسل رتشرد الأول، وأوجد المتصببين بالشعر من الألمان، وصاغ النغمات العذبة الهادئة التي مهدت السبيل إلى دانتي.

ويتلألأ في بداية هذا الطراز من الشعر وليم التاسع كونت بواتو، ودوق أكتين، وجد إليانور نفسها، وألفى هذا الخليع المستهتر نفسه في الحادية عشرة من عمره (1087) حاكماً لفرنسا الجنوبية يكاد يكون مستقلاً بحكمعا؛ واشترك في الحرب الصليبية الأولى وتغنى بنصرها؛ ولكنه كان مثل كثيرين من غيره من النبلاء في أرضه التي طغى عليها الإلحاد، فكان قليل الإجلال للكنيسة يسخر من قساوستها. وقد وُصف في ترجمة بروفنسالية له بأنه "من أكثر خلق الله أدباً وظرفاً، ومن أكثرهم غواية للنساء، وأنه فارس مغوار، كثير التورط في مغامرات الحب، يجيد الغناء وقرض الشعر، وقد ظل وقتاً طويلاً يجول في البلدان ويغوي النساء"(23). وقد اختطف وهو متزوج كونتة شاتل رول Chatellerault الحسناء، وعاش معها علناً دون حياء؛ ولمّا أمره أنجوليم Angouleme الأصلع الجريء أن يقلع عن غيه أجابه بقوله: "سأنبذ الكونتة في الساعة التي يحتاج فيها شعرك إلى مشط". والتقى يوماً ما بأسقف بواتيه بعد أن حكم بطرده من الكنيسة وقال له: "اغفر لي وإلاّ قتلتك" فرد عليه الأسقف وهو يمد له عنقه: "اضرب"، وأجابه وليم: "لست أحبك بالقدر الذي يكفي لأن أبعث بك إلى الجنة"(24). ووضع الدوق طرازاً من الشعر الغزلي يكتب إلى النبيلات، وكان يفعل ما يقول، وكانت حياته قصيرة مليئة بالمرح، فقد مات في السادسة والخمسين من عمره (1137)، وأورث إليانور ضياعه الواسعة وذوقه الشعري والغرامي.

وجمعت إليانور الشعراء حولها من طولوز، وسرّهم أن يتغنوا لها ولحاشيتها لجمال النساء وما تبعثه مفاتنهن من نشوة. وشرع برنار ده فنتادور Bernard de Ventadour، وكان شعره في نظر بترارك لا ينقص إلاّ قليلاً عن شعره هو نفسه، يتغنى بجمال فيكونتة فنتادور؛ وحملت الفيكونتة مديحه محمل الجد فاضطر زوجها أن يحبسها في برج قصره. وشجع هذا برنار فراح يتغنى بجمال إليانور نفسها وتبعها إلى رون Rouen؛ ولمّا أن فضلت حب ملكين أفرغ ما في قلبه من هيام في لحن حزين ذائع الصيت. وبعد جيل من ذلك الوقت أصبح الشاعر الغزلي برتران ده بورن Bertrand de Born صديق رتشرد الأول الحميم، ومنافسه المتفوق عليه في حب السيدة مينز المرتنياكية Dame Maens of Martignac؛ وصحب شاعر غزلي آخر يدعى بيرفيدال Piere Vidal (1167؟-1215) رتشرد الأول في الحرب الصليبية، ورجع سالماً، وعاش بعد مجيئه فقيراً يقرض الشعر حتى رفض آخر الأمر بضيعة وهبها له ريمند السادس كونت طولوز(25). ولدينا أسماء 446 شاعراً آخر من الشعراء الغزلين، ولكن حسبنا هؤلاء الأربعة دليلاً على ما كانت عليه هذه الطائفة المغنية من انحلال.

كان بعض أفرادها موسيقيين أفاقين، وكانت كثرتهم من صغار النبلاء المولعين بالغناء، وكان أربعة منهم ملوكاً - رتشرد الأول، وفردريك الثاني، وألفنسو الثاني، وبدرو الثالث ملك أرغونة. وظل هؤلاء الشعراء قرناً من الزمان (1150-1250) يسيطرون على أدب فرنسا الجنوبية، ويشكلون عادات الطبقة الأرستقراطية التي كانت تنتقل في ذلك الوقت من الوحشية الريفية إلى الفروسية التي كادت تكفّر بالمجاملات عن آثام الحرب، وبالظرف والأدب عن الفجور والفسق. وكانت لغة شعراء الفروسية الغزلين هي لانج دك Langue Dioc أو لغة الرومان Roman التي كانوا يتكلمون بها في جنوبي فرنسا وشمالي أسبانيا الشرقي. أما اشتقاق اسمهم فهو موضع الخلاف الشديد، والراجح أن كلمة تروبدرو Troubodour مشتقة من الكلمة الرومانية تروبار Trobar ومعناها يجد أو يخترع، كما أن من الواضح أن الكلمة الإيطالية Trovatore (تروفتوري) مشتقة من تروفاري Trovare، ولكن من الناس من يقول إنها مشتقة من كلمة الطرب العربية ومعناها الغناء(26). وكانوا يسمون فنهم "الحكمة المرحة" gai sebar أو gaya ciencia ولكنهم كانوا يرونه من الأعمال الجدية التي تتطلب وقتاً طويلاً من المران على الشعر، والموسيقى، وآداب الحديث التي تليق بالفرسان أولي النبل والشهامة. وكانوا يتزيّون بزي الأشراف، ويتّشحون برداء طرزت حواشيه بالذهب والفراء الثمينة، وكثيراً ما كانوا يركبون وهم مدرعون بدروع الفرسان، ويتسابقون في ألعاب البرجاس، سيقاتلون بالرماح وبالأقلام في سبيل السيدات اللاتي يقدمون لهن شعرهم وإن لم يقدموا لهن حياتهم.ولم يكونوا يكتبون لغير طبقة الأشراف، وكانوا عادة يلَحّنون بأنفسهم شعرهم الغنائي ويستأجرون المغنين ليغنوه في المآدب وألعاب البرجاس، ولكنه كثيراً ما كانوا هم أنفسهم يعزفون على القيثار وينفّسون بأغنية عن عاطفة مكبوتة.

وأكبر الظن أن العواطف التي كانوا يعبّرون عنها لم تكن إلاّ صورة أدبية، وأن تحرّقهم لم يكن أكثر من رغبة، وأن مسكنهم مع حبيباتهم في السماء تعبير عن إشباع رغبتهم، وأن يأس التروبدور المحزن إن هو إلاّ رخصة شعرية وأداة للتعبير.

ويبدو أن الأزواج الذين كانوا يسمعون هؤلاء الشعراء يتشبثون بنسائهم لم يكونوا يرون في هيامهم أكثر من هذا، وأنهم لم يكونوا أكثر حرصاً على أزواجهم من معظم الذكور. وإذ كان الزواج بين الأشراف لا يعدو أن يكون حادثاً من حوادث تداول الثروة، فقد كان الحب إذا وجد يعقب الثروة لا يسبقها كما يحدث في القصص الفرنسي. وأما ما وجد من الحب في أدب العصور الوسطى فكان كله، من فرنسسكا Francesa وبيتريس Beatrice في الجنوب إلى إيسلد Isolde وجنيفير Guinevere في الشمال، حباً حراماً إذا استثنينا منه بعض الأمثلة القليلة. وكان عجز المحب عن الوصول إلى السيدة المتزوجة هو الذي أوجد طائفة التروبدور؛ ذلك أن من الصعب خلق رواية غرامية تدور حول الرغبة المشبعة، وحيث لا توجد العقبات لا يوجد الشعر.ولسنا نسمع إلاّ عن أفراد قلائل من شعراء الفروسية الغزلين حظوا آخر الأمر بعطف السيدات اللائي اختاروهن موضوعاً لأغانيهم، ولكن هذا لم يكن إلاّ خرقاً للمألوف من القواعد في العشر، فقد جرت العادة أن يطفئ الشاعر حرقته بقبلة من الحبيبة أو بلمس يدها. وكان هذا التمنع من أسباب الرقة والظرف؛ ومن أجل هذا انتقل شعر التروبدور - ولعله تأثر في هذا الانتقال بعبادة مريم - من الشهوانية إلى ما يقرب من الرقة الروحية.

لكنهم قلّما كانوا رجالاً أتقياء صالحين، وكان عدم تعففهم من أسباب التنافر بينهم وبين الكنيسة. وقد ألف بعضهم القصائد في هجو كبار رجال الدين، وفي السخرية من الجحيم(27)، والدفاع عن الملاحدة الألبجنسيين، والإشادة بالحملة الصليبية التي انتصر فيها فردريك العاصي حيث أخفق لويس الصالح. ولم يرض جولم أديمار Guillem Ademar إلاّ عن حملة صليبية واحدة، وكان سبب رضائه عنها أنها أبعدت من طريقه زوج سيدة يتشبّب بها. وكان ريمون جوردن Ra mon Jorden يفضل ليلة يقضيها مع محبوبته عن أية جنة سماوية يعدونها بها(28).

وكانت الصور الإنشائية في نظر شعراء الفروسية الغزلين أجل شأناً من الوصايا الأخلاقية. وكان لكل ضرب من قصائدهم اسم يتسمى به فالكانزو Canzo أغنية الغرام، و البلانتي plante مرثية لصديق أو حبيب مات، والسرفنتي sirvente أغنية الحرب، والنزاع والهجوم السياسي، والستينة sixtene قصيدة تتألف من ست مقطوعات معقدة القافية، في كل واحدة منها ستة أبيات، اخترعها أرنو دانيل Arnaud Daniel واعجب بها دانتي، والرعوية pastourelle حوار بين شاعر فروسية غزلي وراعية، والفجرية aubade أو alba أغنية الفجر، وهي في العادة تنذر العاشقين بأن النهار سوف يفضح أمرهم، والسيرينا أو السرنيد serena أو serenade أغنية المساء، والبلادا balada قصة شعرية. وهاهي ذي فجرية لشاعر غير معروف تنطق ببعض أبياتها فتاة من فتيات القرن الثاني عشر تذكرنا بجوليت Juliet:


في حديقة ينشر فيها الشوك الأبيض أوراقه،

كانت سيدتي يضطجع حبيبها بجوارها

حتى نادي الرقيب بطلوع الفجر - ويلاه الفجر الذي يحزن المحبين!

رباه، يا رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

...

أتوسل إليك يارب ألا ينقضي الليل، الليل الحبيب،

وألاّ يبتعد عني حبيبي،

وألاّ ينادي الرقيب "الفجر" - الفجر الذي يقضي على السلام!

رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

...

"صديقتي الجميلة الحلوة، أنيليني شفتيك - شفتينا مرة أخرى!

ها هي ذي الطيور في المراعي تشدو

فليكن نصيبنا الحب، ونصيب الحسود الألم!

رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

...

من تلك الريح الحلوة التي تقبل من بعيد

شربت حتى ارتويت من أنفاس الحبيب،

نعم، من أنفاس حبيبي المرح العزيز!

رباه! يا رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

...

ألا ما لأجمل فتاتي وما أظرفها،

وما أكثر من يرقبون الطريق الذي يتجلى فيه جمالها

ولا يطوف بقلبها طائف القدر!

رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً!(29)


وقضى على حركة شعراء الفروسية الغزلين في فرنسا في منتصف القرن الثالث عشر، وكان من أسباب القضاء عليها ما في صياغتها وعواطفها من تكلف وتصنع أخذا يتزايدان على مر الأيام، وما حل بجنوبي فرنسا من دمار بسبب الحروب الدينية الألبجنسية، فقد تهدمت في الوقت العصيب كثير من القصور التي كان يأوي إليها شعراء الفروسية الغَزِلون؛ ولمّا أن قاست طولوز نفسها حصاراً مزدوجاً انهار نظام الفروسية هذا في أكتين. وفر بعض المغنين إلى أسبانيا وبعضهم إلى إيطاليا، وفيها بعث فن أغاني الحب بعثاً جديداً في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، ولم يكن بترارك ودانتي إلاّ وريثين للتروبدور. وكان ما خلفوه من تقاليد الشهامة والمرح عوناً على صياغة دستور الفروسية،وتحويل سكان جنوبي أوربا الهمج إلى رجال مهذبين؛ ولقد ظلت الآداب من ذلك الحين تحس بأثر أغانيهم الرقيقة، ولعل الحب تفوح منه في هذه الأيام رائحة ذكية مستمدة من عطر مديحهم.

الفصل السادس: المتصببون بالشعر من الألمان

انتشرت حركة شعراء الفروسية الغزلين من فرنسا إلى جنوبي ألمانيا حيث ازدهرت في عصر أباطرة هوهنستاوفن الذهبي وكان الشعراء الألمان يسمون المنيسانجر Mennisanger أي المتصببين بالشعر، ووجد شعرهم في الوقت الذي وجدت فيه في دستور الفروسية المعاصر خدمة المحبوب Minnedienst وخدمة السيدات Fraundienst. ونحن نعرف أسماء ثلاثمائة من هؤلاء المتصببين، ولدينا ثروة موفورة من شعرهم؛ وكان بعضهم من طبقة الأشراف الدنيا، وبعضهم من الفقراء، يرعاهم الأباطرة أو الأدواق. وكان كثيرون منهم أميين وإن التزموا قواعد صارمة في الوزن والقافية، وكانوا يملون ألفاظ أغانيهم موسيقاها؛ ولا يزال الشعر يسمى في ألمانيا إلى يومنا هذا دختونج Dichtung أي الإملاء. وكانوا عادة يتركون المغنين العازفين يغنون أشعارهم، وكانوا أحياناً ينشدونها بأنفسهم. ويروي لنا الرواة مباراة غنائية Sangerkreig عظيمة عقدت في قصر وارتبيرج Wartburg عام 1207، ويقال إن تان هوزر Tannhauser وولفرام فن إشنباخ Wolfram von Eschenbach اشتركا فيها . وظل المتصببون قرناً من الزمان يعملون على رفع منزلة المرأة في ألمانيا، وأضحت نساء طبقة الأشراف الباعثة والملهمة لثقافة أرق من أية ثقافة عرفتها تلك البلاد فيما بعد حتى عصر شلر Schiller وجيته.

ويضم ولفرام وولتر فن در فوجلويد Walter von der Vogeleide إلى طائفة المتصببين لأنهما كتبا في أغاني الحب، ولكن الأفضل أن يسلك ولفرام وقصائده المعروفة باسم بارزفال Parzival في سلك كتاب الروايات الغرامية. وكان مولد ولتر "ابن مرج الطيور" في مكان ما في التيرول Tirol قبل عام 1170. وكان من طبقة الفرسان ولكنه من فقرائهم، وزاد أحواله سوءاً على سوء بأن اتخذ الشعر صناعة له.ونسمع عنه وهو في سن العشرين يكسب قوته بالغناء في بيوت الأشراف من أهل فينا. وكان وهو في سن الشباب هذه يكتب في الحب كتابة شهوانية طليقة أغضبت منه منافسيه، ولا يزال الألمان حتى الآن يعتزون بقصيدته تحت شجرة التيلياUnter den Linden :


تحت شجرة التيليا وعلى الخلنج



كان لنا نحن الاثنين فراش،



وهنا كنت تبصيرنا وقد التفت حولنا



الأزهار المتقطعة والكلأ الهشيم؛



ومن أجمة في الوادي - تندرادى -



يشدو البلبل بألحانه العذبة.





وأسرعتُ إليه من خلال الفضاء بين الأشجار،



ووصل حبيبي إلى المكان قبلي،



وهناك وقعت في شرك الحبيب - وكنت أسعد الفتيات،



وحظيت بسعادة ليس فوقها سعادة.



وهناك قبّلني مراراً - تندرارى.


انظروا إلى شفتيّ ما أشد حمرتهما!





وهنا أسرع وهو مغتبط



فأقام لنا عريشاً من الأزهار،



ولا يزال هذا دعابة زائلة،



لأن الذين يمرون بهذا الطريق يرون المكان الذي



وضعت فيها رأسي بين الورود - تندرارى!





ولو أن إنساناً (لا قدّر الله!) كان بالقرب منا



لجللني العار، فقد رقدنا هناك سويا.



ولكن هذا لم يعرفه أحد غيري أنا والحبيب



والعندليب لصغير - تندرارى! -



وأنا أعرف أنه لن ينم علينا(32)


ونضج تفكيره لما كبر، وبدأ يرى في المرأة مفاتن ومحاسن أجمل من بشرتها البضة، وبدت له فوائد الاتحاد بالزواج أعظم قيمة من التقلب بين النساء: "ما أسعد الرجل وما أسعد المرأة، اللذين يرتبط قلباهما بالإخلاص المتبادل، والذين تزداد حياتهما قيمة على مر الزمن، وبارك الله في بيتهما وجميع أيامهما(33). وأخذ يندد بتملق زملائه الشعراء نساء البلاط، وقال إن لقب "المرأة" أعظم قيمة لديه من لقب "السيدة"، وإن النساء الصالحات والرجال الصالحين هم الأشراف بحق، وإن "النساء الألمانيات يضارعن الملائكة في الجمال، وإن من ذمهن كذاب أشر"(34).

ومات الإمبراطور هنري السادس في عام 1197 وعمّت الفوضى بلاد ألمانيا مدى جيل كامل ولم تنقطع إلاّ بعد أن بلغ فردريك الثاني سن الرشد. ولم يعد الأشراف يناصرون الأدباء ويبسطون عليهم رعايتهم، فأخذ ولتر ينتقل من بلاط إلى بلاط يغني غناء البائس الشقي طلباً للقوت، ينافسه فيه المشعوذون والمهرجون الأذلاء. وحسبنا دليلاً على ما كان يعانيه في ذلك الوقت هذه العبارة المنقولة من حساب نفقات ولفجر Wolfeger أسقف باسو Passau "خمسة صلدات صرفت في 12 نوفمبر عام 1203 إلى ولتر فن درفوجلويد ليشتري بها سترة من الفراء يتقي بها برد الشتاء"(35). وكانت هذه حسنة مضاعفة لأن ولتر جبليني متحمس، هجا في شعره البابوات، وندد بعيوب الكنيسة، وثار على نقل الأموال الألمانية فوق جبال الألب لتملأ بها خزائن كنيسة القديس بطرس(36). غير أنه كان على الرغم من هذا مسيحياً صادقاً، ألف نشيداً عظيماً سماه "نشيد الصليبيين"، ولكنه كان يستطيع في بعض الأوقات أن يسمو فوق المعارك الحربية ويرى أن الناس كلهم أخوة:


الناس كلهم من أم واحدة



ونحن جميعاً أكفاء من الخارج والداخل؛



وأفواهنا تطعم كلها بطعام واحد،



وإذا ما سقطت عظامهم وأصبحت كومة مختلطة



فهل تعرفون يا من تميزون الأحياء بنظرة إليهم



أيهم الدنيء الآن وأيهم الشريف



بعد أن أكل الدود لحومهم وتعرت عظامهم؟



إن المسيحيين واليهود والكفار كلهم يتعبدون



والله يبسط رعايته على جميع الخلق(37).


وظل ولتر ربع قرن في تجواله وفقره، ثم وهبه فردريك الثاني ضيعة ودخلاً ثابتاً (1221)، فاستطاع أن يقضي السبع السنين الباقية من حياته هادئاً مطمئناً. وقد أحزنه أن شيخوخته ومرضه لا يمكنانه من الاشتراك في الحرب الصليبية، وطلب إلى الله أن يغفر له عجزه عن أن يحب أعداءه(38). وقد أوصى في قصيدة له بمن يرث مخلفاته "فللحساد سوء حظي، وللكاذبين أحزاني، وللمحبين النادرين حماقاتي، وللسيدات آلام قلبي"(39). ودفن في كتدرائية ورزبج Wurzburg وأقيم بالقرب منها نصب تذكاري يعلن حب ألمانيا لأعظم شعراء عصره. وقضى على حركة الشعراء المتصببين بعد موته ما تورطت فيها من إسراف ومغالاة، وحل بها ما حل بألمانيا من دمار وسقوط فردريك الثاني. ويصف لنا ألريخ فن لختنشتاين Ulrich von Lichtenstein (حوالي 1200-1276) في سيرته الذاتية الشعرية (Frauendienst) كيف نشأ وسط عواطف "خدمة السيدات". فاختار سيدة لتكون له معبودة، وخيطت شفته الشرماء ليقلل نفورها منه، وحارب من أجلها في ألعاب برجاس. ولمّا قيل له إنها عجبت حين عرفت أنه لا تزال له إصبع كانت تظن أنه فقدها في الدفاع عن شرفها، قطع هذا العضو الآثم وبعث به إليها دليلاً على الولاء والخضوع. وكاد يغمى عليه من شدة الفرح حين أسعده الحظ بشرب الماء الذي غسلت فيه يديها(40). ولمّا تلقى منها رسالة ظل يحملها في جيبه عدة أسابيع حتى وجد شخصاً يستطيع أن يثق بأنه سيقرؤها له سراً، لأن الريخ كان يجهل القراءة(41). ولمّا وعدته بأنها ستعطف عليه انتظر وفاءها بوعدها يومين كاملين في ثياب المتسولين بين المجذومين الواقفين ببابها، ثم أذنت له بالدخول، ولمّا تبينت إلحاحه أمرت فأنزل من نافذة مخدعها في ملاءة سرير. وكان له في ذلك زوجة وأبناء.

واختتمت حركة الشعراء المتصببين اختتاماً فيه بعض الكرامة بموت هنريخ فن مايسن Henrich von Meissen الذي أحرز بأغانيه في تكريم النساء لقب "مداح النساء". ولمّا مات في مينز عام 1317 حملت نساء المدينة نعشه وأخذن يندبنه حتى ووري التراب في كتدرائية المدينة، وسكبن فوق تابوته خمراً بلغ من كثرتها أن جرت في طول الكنيسة كلها(42). وخرج فن الغناء بعد موته من أيدي الفرسان إلى أيدي الطبقة الوسطى؛ وزالت نزعة عباد السيدات الغرامية، وحل محلها في القرن الرابع عشر مرح جماعة المغنين في المدن وفنهم العارمان يرفعان إلى ربات الشعر قيام طبقة الملاك الوسطى.


الفصل السابع: الروايات الغرامية

أما في الروايات الغرامية فقد كانت الطبقة الوسطى هي المسيطرة على الميدان؛ ذلك أن شعراء شمالي فرنسا أبناء الطبقة الدنيا - المعروفين عند الفرنسيين باسم التروفير Trouveres أي المخترعين - كانوا يحيون ليالي الطبقات الوسطى والعليا بقصص شعرية تتحدث عن الحب والحرب، كما كان شعراء الفروسية الغزلون - التروبدور والتروفنوري يكتبون الأغاني الشعرية الرقيقة لنساء جنوبي فرنسا وإيطاليا.

وكانت كتابات المخترعين تتخذ صور القصص الشعرية، Ballade والأغاني الشعرية lai، والتحدث بأعمال الأبطال Chanson de geste، والقصص الغرامية. وقد وصلت إلينا نماذج جميلة من الأغاني الشعرية من قول كاتبة تدعى إنجلترا وفرنسا كلتاهما أنها أول شاعراتها العظيمات. فقد انتقلت Marie de France (ماريا الفرنسية) من بريطاني لتعيش في إنجلترا في أيام هنري الثاني (1154-1189). وأشار عليها أن تصوغ عدداً من أقاصيص البريطانيين شعراً، ففعلت وخلعت عليها من طلاوة اللفظ وقوة العاطفة ما لم يفقها فيهما أي شاعر من شعراء الفروسية الغزلين. وخليق بإحدى قصائدها العاطفية أن تحتل مكاناً في صفحات هذا الكتاب، هي جديرة به، لموضوعها غير العادي - حديث المحبوبة الحية إلى حبيبها الميت:


هل أحبَّك هناك إنسان طوال الصيف والشتاء؟

وهل وجدت هناك جمالاً وضع في القبر معك؟

وهل قبلة الميت الطويلة أحلى مما كانت قبلتي لك؟

أو هل انتقلت إلى سعادة بعيدة ونسيتني كل النسيان؟

أي نوم رقيق همت به فلفّك لفاً رقيقاً؟

وأي موت ساحر أغواك بقوته العجيبة فاستحوذ عليك بالليل والنهار؟

إنك ترقد في بقعة صغيرة تحت الكلأ بعيدة من الشمس والظلال

ولكنها لشدة حزني بعيدة عني بعد السماء....

ستظل ترقد في ذلك المكان كما ترقد الآن

وإن كان في العالم العلوي شخص آخر يحيا حياتك مرة أخرى

ويحب حبيبتك كما كنت تحبها.

أليس مقامك حلواً تحت النخيل؟

أليس اليوم الدفيء الهادئ الطويل الجميل الذي لا يعرف أحد كنهه

خيراً من الحب ومن الحياة؟

ألا ما أشبه أوراق الشجر العطرة العريضة العجيبة

بالأيدي تنسج برد الليل إلى نهايته،

تنسج النوم الذي لا يستطيع الطير البراق مقاومته،

أما أنت فالموت ينسج لك النوم

ويسلبك في الصباح وفي الظهيرة

كثيراً من الأنفاس العجيبة القوية.

ويقيني أنك وأنت في هذا المكان

قد وجدت الموت إغماءً لذيذاً.

لا تستمسك من هذه الساعة بكلمة قلتها أو غنّيتها؛

فما من شك في أنك قد سمعت من زمن بعيد أغاني كثيرة أعذب منها؛

لأن التربة الخصيبة قد وصلت بلا ريب إلى قلبك؛

وحولت إيمانك أزهاراً،

واختلست الريح الدافئة شيئاً فشيئاً روحك أثناء الساعات الغادرة.

ووجدت كثير من البذور الطرية تربة من التفكير المثمر

أنبتت زهرة تستقبل الشمس، ولولاها لما استقبلتها،

ولا ريب في أنك قد استمعت إلى كثير

من العواطف القوية الجائشة

التي جعلت ذلك الموضع أجمل مما كان

وجعلت جزءاً من عواطفك لا يحنو عليّ هناك(43).


وربما نشأت أغاني الأفعال من قصص الحوادث أو الأغاني. فكان الشاعر ينسج حول حادث تاريخي، يأخذ عادة من المؤرخين الإخباريين، قصة من المغامرات الخيالية يريها في أبيات ذات عشرة مقاطع أو أثني عشر مقطعاً، وتبلغ من الطول ما لا تتسع له إلاّ ليالي الشتاء في الشمال. ولقد كانت أغنية رولان مثلاً متقدماً لهذه الأغاني. وكان البطل المحبب لأغاني الأفعال الفرنسية هو شارلمان؛ وقد أفاد الشعراء الغزلون الفرنسيون من عظمته التاريخية فرفعوه في شعرهم إلى درجة من العظمة لا يكاد يسمو إليها آدمي، فبدلوا هزيمته في أسبانيا فتحاً مبيناً، وسيروه في حملات مظفرة إلى القسطنطينية، وبيت المقدس، ومن حول لحيته البيضاء الخرافية هالة من العظمة والجلال. وكانت الأغاني الفرنسية مرآة ينعكس عليها عصر الإقطاع في موضوعاته، وأخلاق أهله، وأمزجته. وكما كان بيولف والنيبلنجليد يرددان أصداء "عصر الأبطال" في زمن الهجرات، كانت هذه الأغاني الفرنسية - أيا كان موضوعها، أو مكانها، أو زمانها - تتحرك في جو إقطاعي إلى أهداف إقطاعية في أثواب إقطاعية. وكان موضوعها الذي لا تنفك تردده هو الحرب، بين سادة الإقطاع، أو بين الدول، أو الأديان، ولم تكن المرأة والحب يجدان بين قعقعة السيوف إلاّ أصغر مكان.

ولمّا صلحت أحوال النظام الاجتماعي، وارتفعت منزلة المرأة على أثر ازدياد الثروة، تختل الحرب عن مكانها في هذه الأغاني للحب، فأضحى هو موضوع الشعراء الرئيسين فلمّا كان القرن الثاني عشر حلت القصص الغرامية محل أغاني الأفعال، وجلست المرأة على عرش الأدب، وظلت تجلس عليه قروناً عدة. وكان اللفظ الفرنسي romanالمقابل للرواية الغرامية يعني في أول الأمر أي مؤلَف مكتوب باللغة الفرنسية التي كانت تسمى هي الأخرى رومان Roman دليلاً على أنها من تراث الرومان الأقدمين. ولم تكن القصص الغرامية Romances تسمى في اللغة الفرنسية بهذا الاسم لأنها قصص وجدانية، بل كان الأمر عكس هذا أي أن بعض العواطف أضحت توصف بأنها رومانسية romantic (وجدانية) لأنها كثيراً ما كتبت بهذه اللغة الرومانية roman الفرنسية. فكانت رواية الوردة Roman de la rose أو طروادة le Troie أو الثعلب de Renard لا تعني أكثر من قصة عن وردة، أو عن طروادة، أو عن ثعلب باللغة الرومانية أي الفرنسية الأولى. وإذ كانت كل صورة أدبية يجب ألاّ تولد في عرف الأدباء إلاّ من أبوين شرعيين، فإن لنا أن نعزو اصل الروايات الغرامية إلى أغاني الأفعال ممتزجة مع ما كان في قصائد شعراء الفروسية الغزلين من عواطف الغرام. ولعل بعض مادة هذه القصص قد أخذ من الروايات اليونانية مثل أثيوبيكا Ethiopica لهليودورس Heliodorus. وكان لكتاب واحد يوناني ترجم إلى اللغة اللاتينية في القرن الرابع أثر عميق في هذه الناحية، ونعني به سيرة الإسكندر الخيالية التي تعزى زوراً إلى كلسثنيز Callisthenes مؤرخه الرسمي. ذلك أن القصص التي تروى عن الإسكندر أضحت المعين المحبب الذي لا ينضب للفيض المتتابع من "سلاسل" الروايات التي انتشرت خلال العصور الوسطى في أوربا وفي بلاد الشرق الناطقة باللغة اليونانية. وكانت أجمل صورة لهذه القصة في بلاد الغرب هي رواية الإسكندر Roman d'Alixandre من تأليف الشاعرين الغزلين لامبيير لي تور Lambert li Tors وإسكندر البرنابي Alexander of Bernay حوالي عام 1200. وتقع هذه الرواية في عشرين ألفاً من الأبيات الأثني عشرية المقاطع، أي من البحر المعروف بالبحر "الإسكندري".

وأكثر من هذه تنوعاً وأرق منها عاطفة سلسة الروايات الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية التي أخذت موضوعاتها من حصار طروادة. وكان أكبر ملهم لهذه الروايات هو فرجيل لاهومر. وكانت القصة التي كتبها ديدو Dido رواية غرامية حقة وإن جاءت في هذا الوقت البعيد. ألم يستوطن الطرواديون الفارون من هزيمة هم غير خليقين بها فرنسا، وإنجلترا، كما استوطنوا إيطاليا؟ ثم قام حوالي عام 1184 شاعر فرنسي غزلي يسمى بنوا ده سانت مور Benoit de Ste-Maure بإعادة قصة طروادة في ثلاثين ألف بيت من الشعرـ ترجمت إلى أكثر من عشر لغات، ودخلت في آداب أكثر من عشر أمم. وفي ألمانيا كتب ولفرام فن إسشنباخ Wolfram von Eschenbach قصة حصار طروادة التي لا تقل في حجمها عن الإلياذة نفسها، وفي إيطاليا أخذ بوكاشيو Boccaccio من بنوا Benoit قصة فيلوستراتو Filostrato؛ وفي إنجلترا كتب ليامون Layamon قص بروت Brut (حوالي عام 1205) في 32.000 بيت وصف بها تأسيس لندن على يد بروتس ابن حفيد إينياس Aeneas؛ ومن بنوا جاءت قصة ترويلس وكرسدي Troilus and Criseyde لتشوستر ومسرحية شيكسبير.

وكانت السلسلة الثالثة العظيمة من روايات العصور الوسطى الغرامية هي روايات آرثر Arthur. ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن آرثر هذا نبيل مسيحي إنجليزي، حارب الغزاة السكسون في القرن السادس. ولسنا ندري من هو الذي خلق منه هو وفرسانه تلك القصص البديعة المطربة التي لم يتذوق جمالها إلاً محبو مالوري Malory وحدهم؟ ومنذا الذي ابتدع جاوين Gawaine وجلاهاد Galahad وبرسفال Perceval، ومرلين Merlin وجنيفر Guenevere، ولانسلت Lancelot، وترسترام Tristram، وفروسية المائدة المستديرة Round Table ذات الصبغة الدينية المسيحية، وقصة الكأس المقدسة Holy Grail؟لم يصل الأدباء إلى جواب مؤكد عن هذه الأسئلة بعد نقاش دام مائة عام كاملة، ذلك أن البحث يقضي على الحقيقة المؤكدة . ونجد أقدم إشارة لآرثر في كتب المؤرخين الإخباريين الإنجليز، وتظهر بعض عناصر قصته في أخبار نينوس Nenius (976)، ووُسّع نطاق هذه القصة في التاريخ البريطانيHistoria Britanica لجوفري المنسوئي Geoffrey of Monmouth؛ وصاغ قصة جوفري شعراُ فرنسياً ربرت ويس Robert Wace وهو شاعر غزلي من جرسي Jersey في رواية بروتس الإنجليزي Le Brut d'Anglettere (1155)؛ وفيها نجد للمرة الأولى قصة المائدة المستديرة. والراجح أن أقدم أجزاء متقطعة لهذه القصة هي بعض قصص ويلز التي جمعت الآن في مابنوجيون Mabinogion؛ وأقدم مخطوطات عثرنا عليها للقصيدة بعد نمائها وتطورها مخطوطات فرنسية. والإجماع منعقد على أن مكان بلاط آرثر والكأس المقدسة في ويلز والجنوب الغربي من بريطانيا. وأقدم رواية كاملة منثورة للقصة هي التي ندها في مخطوط إنجليزي يعزى إلى ولتر ماب Walter Map أحد كبار شمامسة أكسفورد (1137-1196) وإن كان هذا مشكوكاً في صحته. وأقدم صياغة شعرية لهذه السلسلة هي التي نجدها في روايات Romans كريتيان ده تروييه Chretien de Troyes (حوالي 1140-1191).

ولسنا نعرف عن حياة كريتيان إلاّ قدراً ضئيلاً لا يكاد يزيد على ما نعرفه عن حياة آرثر. نعرف عنه أنه ألف في بدء حياته الأدبية قصة مفقودة تدعى ترستان Tristan. ووصلت هذه القصة إلى يدي الكونتة ماري ده شمپاني Marie de Champagne ابنة إليانور الأكيتانية، ويلوح أنها قد بعثت في قلبها الأمل بأن كريتيان هو الرجل الخليق بأن يصوغ "الحب الرقيق"، وأنبل المثل العليا في صورة الرواية الغرامية. واستدعته ماري لأن يكون شاعرها الغزلي - إذا صح هذا التعبير - في بلاطها بتروييه Troyes. وكتب وهو في رعايتها (1160-1172) أربع روايات غرامية في شعر مقفى (الشعر الدو بيت العربي) كل بيتين منه ذوا قافية، وفي كل بيت ثمانية مقاطع. وهذه الروايات هي إريك وإنيد Eric et Enide وكليجيه Cliges، وأيفين Yvaine وفارس العربة Le Cheva,ier de la Charette - ولم يجد هذا الشاعر عنواناً أرقى من هذا لقصة "الفارس الكامل" لا نسلت Lancelot. وبدأ في عام 1175 أثناء إقامته في بلاد فليب كونت فلاندرز رواية كونت دل جرال Conte del Graal أو برسفال له جالوا Perceval le Gallois، وكتب منها 9000 بيت وتركها ليتمها غيره في 60.000 بيت. ويظهر جو هذه في القصص بداية ارك:

عقد الملك آرثر في يوم عيد الفصح مجلساً للبلاط في كاردجان Cardigan، ولم يشهد الناس قبل ذلك الاجتماع حاشية أغنى من حاشيته، فقد حضر الاجتماع كثيرون من صفوة الفرسان الأقوياء، البواسل، ذوي الجرأة والشجاعة، كما أجتمع منها كثيرات من النساء والفتيات ذوات الثراء الواسع، وبنات الملوك ذوات الرقة والجمال. وقبل أن ينفض الاجتماع في ذلك اليوم أبلغ الملك فرسانه أنه يرغب في أن يخرج في اليوم الثاني لصيد الوعل الأبيض؛ وكان ذلك استمساكاً منه بالعادة القديمة. فلما سمع لورد جاوين هذا غضب أشد الغضب وقال: "مولاي! لن يعود عليك من هذا الصيد ثناء ولا رضاء. فنحن نعرف من زمن بعيد ما هي هذه العادة عادة الوعل الأبيض: نعرف أن من يقتل الوعل الأبيض يجب أن يقبل أجمل فتاة في حاشيتك ... ولكن هذا قد يؤدي إلى شر مستطير، لأن في هذا المكان خمسمائة فتاة من ذوات الحسب والنسب، ... وما من واحدة منهن إلا لها فارس جريء مغوار، على استعداد لأن يعلن بالحق أو بالباطل أن السيدة التي هو متيم بها أروعهن كلهن جمالاً وأعظمهن رقة". فأجابه الملك بقوله: "إني أعلم هذا حق العلم، ولكن علمي به لا يحول بيني وبين تنفيذ ما أعتزمته... وسنذهب غداُ لنصيد الوعل الأبيض وسيكون ذلك اليوم يوم بهجة ومرح"(44).

وفي بداية الرواية أيضاً نجد المبالغات القصصية الممتعة. "لقد عمدت الطبيعة في تكوين إنيد Enide إلى كل ما لديها من حذق، ودهشت الطبيعة خمسمائة مرة من نجاحها في إبداع هذا المخلوق الكامل".ويقال في قصة لانسلت إن "المحب الكامل مطيع على الدوام، يسارع إلى تنفيذ رغبات حبيبته وهو مسرور...والألم (في سبيلها) محبب إليه، لأن الحب الذي يهديه ويقوده في سبيله يخفف هذا الألم بل يمحوه"(45). غير أن الكونتة ماري كان لها في الحب رأي فيه شيء من المرونة:

إذا وجد الفارس فتاة أو عذراء مهجورة، وإذا كان يعنى بسمعته الطيبة، فإن نفسه لا تطاوعه بأن يعاملها معاملة غير شريفة إلاّ بقدر ما تطاوعه لأن يقطع عنقه. وإذا ما هاجمها فإنه سيجلل بالعار في كل بلاط، أما إذا انتزعها منه وهي تحت حراسته بحد السلاح فارس آخر اشتبك معه في معركة، فإن من حق هذا الفارس الثاني أن يفعل بها ما يريد دون أن يجلله عار أو يستحق من أجله لوماً(46).

وشعر كريتيان ظريف ولكنه ضعيف، وسرعان ما يمل الإنسان ثقله وكثرته في عصر السرعة الحديث. لكنه يمتاز بأن فيه أكمل تعبير باق حتى اليوم عن المثل الأعلى للفروسية، وذلك في الصورة التي رسمها الكاتب لحاشية تبدو فيها المجاملات، والشرف، والبسالة والإخلاص للحبيب أجل قدراً من الكنيسة أو العقيدة. ولقد أثبت كريتيان في روايته الأخيرة أنه خليق باسمه ، ورفع سلسلة الروايات التي تدور حول الملك آرثر إلى الذروة العليا بأن أضاف إليها قصة الكأس المقدسة فقد جاء في القصة أن يوسف الأريماثيائي Josephh of Arimathea تلقى بعض دم المسيح المصلوب في وعاء شرب منه المسيح نفسه أثناء العشاء الأخير؛ وجاء يوسف أو واحد من نسله بهذا الوعاء والدم الخالد إلى بريطانيا، حيث احتفظ به ملك مريض سجين في قصر خفي عجيب، ولن يعثر على الكأس ويطلق سراح الملك بسؤاله عن سبب مرضه إلاّ فارس كملت طهارة حياته وقلبه. وتقول قصة كريتيان إن برسفال الغالي أخذ يبحث عن الكأس، أما الصيغة الإنجليزية للقصة فتقول إن الذي أخذ يبحث عنها هو جلاهاد الآن الطاهر للانسلوت الملوث. وتتفق القصتان في أن الذي عثر عليها صعد بها إلى السماء. وفي ألمانيا بدل ولفرام فن اسشنباخ برسفال فجعله بارفيزال Parvizal وأعطى القصة أشهر صورة كانت عليها في العصور الوسطى.

وولفرام هذا فارس بافاري (حوالي 1165- حوالي 1220) كان يكسب قوته بشعره، ثم وجد له نصيراً في هرمان Herman أمير ثورنجيا Thuringia، وأقام في قصر وارتبرج Wartburg عشرين عاماً، وكتب أشهر قصيدة في القرن الثالث عشر. وما من شك في أنه كان يمليها إملاء لأن الرواة يؤكدون لنا أنه لم يتعلم قط القراءة. وهو يقول إنه لم يأخذ قصة بارزيفال عن كريتيان بل أخذها عن شاعر بروفنسالي يدعى كيو Kiot. ولسنا نعرف شاعراً يسمى بهذا الاسم، كما أننا لا نعرف أحداً لعرض لهذه القصة بين زمني كريتيان (1175) وولفرام (1205). ويبدو أن أحد عشر "كتاباً" من "كتب" قصيدة ولفرام البالغ عددها ستة عشر تعتمد على قصة كونت دل جرال Conte del Graal لكريتيان، ولم يكن المسيحيون الصالحون والفرسان الأنجاد من رجال العصور الوسطى يرون أن مادة الروايات الغرامية ملك مشاع، من حق كل من يشاء أن يستعيرها إذا كان في وسعه أن يرقى بها، ولقد فاق ولفرام في هذه الناحية أستاذه كريتيان.

وبارزيفال في قصة ولفرام لبن فارس من أنجو Anjou رزقه من الملكة هرزليد Herzeleide (الحزينة القلب) حفيدة تيتورل Titurel - أول حراس الكأس - وأخت أمفورتاس Amfortas الملك المريض في ذلك الوقت. ويبلغها قبل أن تلد بارزيفال بقليل أن زوجها خر صريعاً في معركة بين الفرسان أمام الإسكندرية. وتعتزم ألاّ تعرض بارزيفال للموت وهو صغير السن، فتربيه في عزلة في الريف، وتخفي عنه أصله الملكي، وينشأ جاهلاً بفنون القتال وحمل السلاح:


وحزن لذلك أهلها أشد الحزن، لأنهم رأوه عملاً مشئوماً،

وقالوا إن هذه النشأة لا تليق قط بابن ملك عظيم،

ولكن أمه أخفته في أودية الغابات البرية،

وحال حبها وحزنها بينها وبين التفكير في مبلغ إساءتها للطفل الملكي.

فلم تعطه قط سلاحاً من أسلحة الفرسان إلاّ ما كان يصنعه لنفسه

في أثناء لعبه من الأعشاب التي تنبت في طريقه المنعزل.

فقد صنع لنفسه منها قوساً وسهاماً، يقذف بها،

وهو مرح غافل عن التفكير،

الطيور وهي تشدو فوق رأسه على الأشجار المورقة.

فلمّا أن سقط طير الغاب المغرد ميتاً عند قدميه،

مال برأسه ذي الشعر في دهشة وحيرة صامتة،

واندفع في غضب الطفولة وحيرتها الصامتة يقتلع غدائر شعره الذهبي؛

(فأنا أعلم حق العلم أنه لم يكن على ظهر الأرض كلها من يضارعه في جماله)

وطاف بعقله أن الموسيقى التي ظل طول حياته يعزفها بيده

قد ملأت بأنغامها العذبة قلبه نشوة، فأحزنه هذا التفكير وأمضه(47).


ويبلغ بارزيفال طور الرجولة وهو قوي الجسم فارغ العقل، حتى تقع عينه في يوم من الأيام على فارسين في الطريق، فيجب بدروعهما البراقة، ويظنهما إلهين لا فارسين، ويعتزم أن يكون له مثل ما لهما من رونق وبهاء. ويعود إلى موطنه ليبحث عن الملك آرثر الذي يجعل الرجال فرساناً، وتحزن أمه لذهابه حزناً يكاد يقتلها. ويلتقي بارزيفال في طريقه بدوقة نائمة فيختلس منها قبلة، ويسلبها منطقتها، وخاتمها، ويرتكب بعمله هذا إثماً يدنسه سنين طوالاً. ثم يلتقي بإيثر Ither، الفارس الأحمر، ويرسل معه هذا الفارس رسالة يدعو فيها الملك آرثر للقتال. ويدخل بارزيفال على الملك ويستأذنه في أن يجيب هو دعوة إيثر، فيأذن له ويعود إلى إيثر، ويقتله - لأن الحظ في القصص يكون في جانب المبتدئ - ويلبس دروعه، ويركب طلباً للمغامرات. ويطلب إلى جرنمانز Gernemanz في أثناء الليل أن يستضيفه، ويعجب به البارون الشيخ، فيعلمه أساليب القتال الإقطاعية وسدي إليه نصيحة الفرسان:

أشفق على المحتاجين، وكن رحيماً، كريماً، متواضعاً. إن الرجل الكريم المحتاج يستحيي أن يسأل، فتقدم إليه أنت بالعون قبل أن يسألك... ولكن كن حازماً لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط... لا تكثر من السؤال، ولا ترفض الإجابة عن سؤال خليق أن تسأله. لاحظ واستمع... أعف عمن يستسلم لك مهما تكن إساءته إليك... تخلّق بأخلاق الرجولة وكن مرحاً... احترم النساء وأحبهن، فذلك مما يزيد في شرف الشاب - كن ثابتاً فإن الثبات من شيم الرجال. ألا ما أقل ما ينال من الثناء شخص يخون الحب الشريف(48).

ويخرج بارزيفال مرة أخرى في طلب المغامرات، ويفك الحصار عن كندورامور Kondurramur، ويتزوجها، ويتحدى زوجها بعد عودته، ويبارزه، ويقتله، ثم يترك لزوجته يبحث عن أمه. وتشاء الصدف أن يصل إلى قصر "الكأس المقدسة" فيستضيفه حراسه الفرسان، وتقع عينه على الكأس (والكأس في هذه القصة حجر ثمين)، ويذكر نصيحة جورنماتز الطيب، فلا يسأل عن الكأس المسحورة أو الملك المريض، ولم يكن يعرف أنه عمه. ويصحو في صباح اليوم الثاني فيجد القصر كله خاوياً على عروشه؛ فيخرج منه على ظهر جواده، وترفع أيد مجهولة الجسور الموصلة إلى القصر كأنها تنهاه عن العودة إليه. وينضم مرة أخرى إلى بلاط آرثر، ولكن العرافة كندرى Kondury تتبعه في أثناء هذا الترحيب بالجهل وقلة الأدب لأنه لم يسأل عن سبب علة أمفورتاس، ويقسم بارزيفال أن يعود مرة أخرى لطلب الكأس.

ولكن سورة من الغضب تظلم عليه حياته في تلك الساعة. فهو يشعر أنه غير جدير بما وجهته إليه كندرى من تقريع، ويدرك كثرة ما في العالم من مظالم، ويخرج عن طاعة الله، ويظل أربع سنين لا يزور كنيسة، ولا ينطق بصلاة(49). وتصيبه في تلك السنين مائة من الكوارث، ويظل يبحث عن الكأس ولكنه لا يجدها. ثم يعثر في يوم من الأيام على خلوة ناسك يدعى تريفر يزنت Treverezent ويتبين أنه عمه، ويعرف منه قصة الكأس، وأن علة أمفورتاس التي تفارقه سببها أنه ترك حراسة الكأس ليشغل نفسه بحب غير مشروع. ويعيد الناسك بارزيفال إلى الدين المسيحي، ويتحمل عنه عقاب ذنوبه. وهكذا يهون بارزيفال على نفسه، وتطهر من خطاياه، وجهله وينجيه عذابه من آثامه، فيعود إلى البحث عن الكأس المقدسة. ويكشف الناسك إلى كندرى أن بارزيفال ابن أخي أمفورتاس ووارث ملكه، فتبحث عنه وتعلن إليه أنه اختير ليخلف أمفورتاس على العرش وليكون حارساً على الكأس. ثم تقوده إلى القصر الخفي، ويسأل أمفورتاس عن سبب مرضه، ويشفي الملك الشيخ لساعته. ويجد بارزيفال زوجته كندوبرامور وتأتي إليه لتكون ملكته. ويرزقان بولد يدعى لوهنجرين Lohengrin.

وكأنما أراد جتفرايد السلزبرجي Gottfied of Salisburg أن يمد فاجنر Wagner بموضوع آخر لمسرحياته الموسيقية، فأخرج حوالي عام 1210 أعظم تراجم قصة ترستان نجاحاً. وهذه القصة تمجد الزنا وعدم الوفاء تمجيداُ حماسياً، وتندد بالدستور الأخلاقي الإقطاعي والمسيحي على السواء.

ولد ترتستان، كما ولد بارزيفال، لأم صغيرة السن تدعى بلانش فلير Blanche fleur (الزهرة البيضاء) ولمّا يمض إلاّ وقت قصير على نبأ يأتيها بأن زوجها الأمير قتل في معركة. ولهذا تسمى الطفل ترستان - أي الحزين - وتموت بعد مولده. ويكفل الولدَ عمُّه مارك Mark ملك كورنوول Cornwall ويجعله من الفرسان. ولمّا بلغ أشده واستوى نبغ في ألعاب البرجاس وقتل مورولد Morold خصيمه الأيرلندي، ولكنه يجرح في المعركة جرحاً مسموماً يقول له عنه مورولد وهو يحتضر إنه لا يشفيه إلاّ إيزيولت Iseult ملكة أيرلندة. فيتخفى في زي تانتريس Tantris العازف على القيثارة، ويزور أيرلندة وتشفيه ملكتها. ويعين مربياً لابنة الملكة واسمها أيضاً إيزيولت. ويعود بعدئذ إلى كورنوول ويحدث مارك عن جمال إيزيولت الصغيرة وحسن صفاتها وأدبها، ويرسله مارك مرة ثانية ليخطب له هذه الفتاة. وتأبى إيزيولت أن تفارق وطنها، وتتبين أن ترستان هو قاتل عمها مورولد فيمتلئ قلبها حقداً عليه، ولكن أمها تقنعها بالرحيل، وتعطي وصيفتها برنجين Brangane شراباً مسحوراً يبعث الحب في القلوب لتسقيه إيزيولت ومارك لتستثير به حبهما. وتخطيء الوصيفة فتسقيه إيزيولت وترستان فلا يلبث الاثنان أن يحتضن كلاهما الآخر، وتكثر الخيانات ويتفقان على أن يخفيا حبهما؛ وتتزوج إيزيولت مارك، وتنام مع ترستان، وتدبر مكيدة لقتل برنجين لأنها تعرف أكثر مما ينبغي أن تعرفه. ومارك هو الرجل الشهم النبيل في هذه القصة (وليس الأمر كذلك في قصة مالوري)؛ فهو يكشف الخديعة، ويخبر إيزيولت وترستان أنهما أعز عليه من أن ينتقم منهما، ويقنع في ذلك بنفي ابن أخيه من البلاد. ويلتقي ترستان في تجواله بإيزيولت ثالثة ويقع في حبها، وإن كان قد أقسم أن يكون هو وملكة مارك "قلباً واحداً، وروحاً واحدة، وجسماً واحداً، وحياةً واحدة". وهنا يترك جتفرايد القصة ناقصة حطمت فيها جميع المثل العليا للفروسية. أما بقية القصة فمن صنع مالوري وعصر متأخر.

وأخرجت ألمانيا في هذا الجيل العجيب، الحيل الأول من القرن الثالث عشر شاعراً آخر يكون هو وولتر، وولفرام، وجتفرايد أربعة لا يدانيهم أربعة سواهم في أي مكان آخر في أدب العالم المسيحي في أيامهم. بدأ هارتمان فن أو Hartman von Aue بتقليد كريتيان تقليداً أعرج في روايتيه الشعريتين ارك Erec و إوين Iwein، ولكنه لمّا التفت إلى أقاصيص بلاده سوابيا Swabia أخرج آية فنية صغرى هي Der arme heinrich (حوالي عام 1205). وكان "هنري المسكين" كما كان أيوب رجلاً غنياً يصاب وهو في عنفوان مجده بداء الجذام ولا يستطيع أن يشفيه منه إلاّ موت عذراء طاهرة من أجله (إذ لابد أن يقول السحر في العصور الوسطى كلمته في القصص). ولا يتوقع هنري أن يجد هذه التضحية فيستسلم للحزن واليأس، ولكن فتاة هذه صفاتها في الوجود، تعتزم أن تموت كي يشفى هنريخ من دائه الوبيل. ويظن أبواها أن قرارها هذا موحى به من عند الله فيوافقان على هذا العمل الذي لم يكن أحد يظن أنهما سيوافقان عليه، وتكشف الفتاة عن صدرها الجميل للنصل. ولكن هنريخ تدب فيه نخوة الرجولة على حين غفلة، فيأمر بألاّ تقتل الفتاة، ويرفض هذه التضحية، ويمتنع عن العويل، ويرتضي آلامه معتقداً أنها من عند الله، وتتبدل روحه بفضل هذه النزعة الجديدة، فيزول مرضه الجثماني زوالاً سريعاً، ويتزوج الفتاة التي أنقذته ويعوض هارتمان القصة عما فيها من سخف وبعد عن المعقول بشعره البسيط السلس الخالي من التكلف، وقد احتفظت ألمانيا بهذه القصيدة حتى هذا العصر القليل الإيمان.

وثمة قصة أجمل منها كتبها شاعر فرنسي غير معروف في وقت ما في النصف الأول من القرن الثالث عشر وسماها هذان هما أوكسيان ونيقولت c'EST D'Aucassin et Nicolette. والقصة نصفها رواية غرامية، ونصفها سخرية من الروايات الغرامية، صيغت كما يليق بها أن تصاغ تارةً شعراً وتارةً نثراً، ووضعت لها علامات موسيقية بين النصوص الشعرية.

وخلاصتها أن أوكسان ابن الكونت بوكير Beaucaire يغرم بنيقولت متبناة فيكونت بوكير. ويعارض الكونت في زواجه بها لأنه يريد أن يزوج ابنه من أحد البيوت الإقطاعية التي تستطيع أن تمده بالعون في الحرب، ويأمر تابعه الفيكونت أن يخفي الفتاة. ويريد أوكسان أن يراها فيشير عليه الفيكونت أن "يدع نيقولت وشأنها وإلاّ فلن يرى الجنة قط". ويرد عليه أوكسان رداً يتفق مع نزعة التشكك التي أخذت تظهر في الوقت:

ما شأني أنا والجنة؟ إني لا يهمني قط أن أدخلها، وكل الذي يهمني أن أحظى بنيقولت... ذلك أن الجنة لا يدخلها إلاّ القساوسة الطاعنون في السن، والشيوخ المقعدون، والمرضى الذين لا يبارحهم السعال ليلاً أو نهاراً أمام مذابح الكنائس... أما أنا فلا شأن لي بهؤلاء، بل إني أريد أن يكون مأواي الجحيم، لأن الجحيم مثوى العلماء الظرفاء، والفرسان الأنجاد الذين يقتلون في ألعاب الفروسية أو الحروب العوان، كما هي مأوى النًّابل القوي والرجل الوفي. إني أريد أن أكون مع هؤلاء. وإليها تذهب السيدات الحسان الظريفات اللاتي لكل منهن أصدقاء - اثنان أو ثلاثة - زيادة على زوجها. وفيها يمر العازفون والمغنون، وملوك العالم. سأذهب مع هؤلاء إذا كان نيقولت صديقتي الحلوة الجميلة إلى جانبي.

ويغلق والد نيقولت باب حجرتها عليها، كما يحبس والد أوكسان ابنه في سرداب أرضي حيث يتغنى بدواء عجيب مسحور:


نيقولت - يا زهرة الزنبق البيضاء،

يا أحلى فتاة وجدت في عريش،

يا حلوة كالكرمة

التي تفيض بها الكأس المتبلة حلاوة؛

حدث لك في يوم من الأيام،

أن جاء من ليموزين Limousin

حاج متعب خائف،

يرقد من شدة الألم على فراشه،

يتقلب ويخشى الموت حين يتنفس،

مكتئب أشد الاكتئاب،

قاب قوسين أو أدنى من الموت.

فدخلتِ يا ذات الطهر والنقاء،

ومشيت بخفة حتى أبصرك الرجل العليل،

ورفعت زيل ثوبك المسبل.

ورفعت الجلباب الموشى بالفراء،

ورفعت الشعار وكشفت له لخفة

عن كل عضو فيك جميل.

وحدث وقتئذ حادث عجيب،

فقد قام في تلك الساعة سليماً معافى،

وغادر فراشه، وأمسك بيده الصليب،

واتجه مرة أخرى نحو بلاده العزيزة.

يا زهرة الزنبق البيضاء الحلوة،

ما أحلى وقع قدميك!

وما أحلى ضحكك وما أخلى حديثك!

وما أجمل لعبنا معاً!

وما أحلى قبلاتك وما ألين ملمسك!

إن الناس كلهم لابد مولعون بك(51).


وفي هذه الأثناء تفتل زهرة الزنبق حبلاً من أغطية فراشها وتنزل به إلى الحديق، وتمسك ذيل ثوبها بكلتا يديها... وانزلقت بخفة فوق الندى المتراكم على الكلأ، وخرجت بهذه الطريقة من الحديقة. وكان شعرها ذهبياً، جعلت منه غدائر حب صغيرة. وعيناها زرقاوين باسمتين، ووجهها جميل يسر المرء أن يراه. لها شفتان أشد حمرة من الوردة أو الكرزة في حر الصيف، وأسنان بيضاء صغيرة، وثديان ناهدان يبدوان تحت ثيابها كأنهما رمانتان. وكانت ذات خصر نحيل تكاد يداك تنطبقان عليه، وكانت الأزهار التي تنكسر تحت قدميها تبدو سوداء أمام باطنهما وبشرتها. ألا ما أنصع بياض تلك الفتاة الحسناء(52).

وتتخذ سمتها إلى نافذة سجن أوكسان ذات القضبان الحديدية وتقص خصلة من شعرها وتلقيها إليه، وتقسم أن حبها لا يقل عن حبه. ويرسل والدها من يبحث له عنها، فتفر إلى الغابات وتعيش مع الرعاة الذين يعرفون قدرها. ويظن والد أوكسان بعد مضي فترة من الزمان أنها أصبحت بعيدة عن ولده فيطلق سراحه. فيخرج اوكسان إلى الغابات ويبحث عنها وتعترضه في ذلك البحث حوادث لا تخلو من الهزل، ثم يعثر عليها ويردفها خلفه على جواده و"يقبّلها وهما راكبان". ويريدان الفرار من أبويها اللذين يتعقبانهما، فيركبان سفينة يعبران بها البحر المتوسط؛ وينزلان في أرض يلد فيها الرجال، ويحترب الناس بالترامي المرح بالفاكهة. ويعتقلهما محاربون أقل من هؤلاء رقة، ويفترقان مدى ثلاثة أعوام، ثم يجتمعان آخر الأمر مرة أخرى؛ ويموت الوالدان الحانقان لحسن الحظ، ويصبح أوكسان ونيقولت كونت بوكير وكنتتها.

وليس في أدب فرنسا الموفور الثراء ما هو أبدع من هذه القصة.

الفصل الثامن: الرجوع إلى الهجاء

وكانت الفكاهة التي تخللت فصول هذه القصة توحي بأن الفرنسيين بدءوا يتخمون بالروايات الغرامية. ذلك أن أشهر قصائد العصور الوسطى - وهي القصيدة التي يعرفها من القراء أكثر ممن يعرفون المسلاة الإلهية - بدأت قصة غرامية وانتهت بأن كانت أقوى وأفحش قصيدة هجائية في التاريخ كله. وتفصيل ذلك أن جيوم ده لوريس Guillaume ، وهو طالب صغير السن في أورليان، كتب حوالي عام 1237 قصيدة رمزية كان يقصد بها أن تشمل جميع فنون الحب، وأن تكون بفضل صبغتها التجريدية نموذجاً لجميع الروايات الغرامية وخلاصة لهذه الروايات. ولسنا نعرف عن وليم اللواري هذا William of the Loire أكثر من أنه كتب الأبيات الأولى البالغ عددها 4226 من رواية الوردة roman de la rose. وهو يصور نفسه فيها يطوف في حلمه بحديقة حب فخمة تتفتح فيها كل زهرة معروفة وتشدو فيها جميع الطيور، وتجتمع فيها أزواج سعيدة تمثل كل ما في حياة الحب من متعة ونعيم - المرح والسرور، والأدب والجمال، ويرقص كل زوجين اثنين من هذه المتع تحت رياسة إله الحب. ذلك دين جديد يحتوي فكرة جديدة عن الجنة تحل فيها المرأة محل الله. وفي هذه الجنة يرى الحالم زهرة أبهى من كل ما يحيط بها من جمال، ولكنها تحرسها ألف شوكة. وهذه الوردة هي رمز المحبوب. وتتألف من شوق بطل الرواية إلى بلوغها وقطفها قصة جميع الحملات الغرامية التي تثيرها الشهوة المكبوتة التي تثير الخيال وتغذيه. وليس في القصة كلها إنسان سوى راويها نفسه، أمّا من بقى من الممثلين فيها فتجسيد الصفات خُلُقية توجد في كل القصور التي يطارد فيها الرجال النساء: المظهر الجميل، والكبرياء، والنذالة، والحياء، والثراء، والبخل، والحسد، والخمول، والنفاق، والشباب، واليأس، و"الفكر الجديد" نفسه - ومعنى الفكر الجديد هنا هو التذبذب. وأعجب ما في القصة أن جو يوم استطاع بهذه التجريدات أن يقرض شعراً ممتعاً - ولعل سبب ذلك أن الحب أياً كان عصره وأياً كان مظهره فيه من المتعة بقدر ما في الدم من حرارة .

ومات وليم صغير السن دون أن يتم قصيدته؛ وظل العالم أربعين عاماً حائراً لا يدري هل فعل المحب الذي أصابه كيوبد إله الحب بسهمه فأخذ يرتجف من شدة الحب، نقول هل فعل أكثر من أن يقبل الوردة. ثم أمسك فرنسي آخر يدعى جان ده مونج Jean de Meung بالشعلة، وبلغ بها أكثر من اثنين وعشرين ألف بيت من الشعر في قصيدة بينها وبين قصيدة وليم من البعد مثل ما بين رابليه وتنيسون Tennyson. ذلك أن مرور جيل من الزمان قد بدل مزاج القوم؛ وأن الروايات الغرامية قد استنفذت إلى حين كل ما عندها من حديث، وأخذت الفلسفة تغشى بستار العقل شعر الإيمان؛ وكانت الحروب الصليبية قد أخفقت، وبدأ عصر الشك والهجاء. ويقول بعضهم إن جان كتب الجزء العاصف العجاج الذي أكمل به القصيدة بناءً على إشارة الملك فليب الرابع الذي بعث بمحاميه المتشككين ليضحكوا في وجه البابا. وكان مولد جان كلوبنل Jean Clopinel في مونج القائمة على شاطئ نهر اللوار حوالي عام 1250، ودرس الفلسفة والأدب في باريس، وأصبح من أعظم رجال زمانه تبحراً في العلوم. ولسنا ندري أي عامل من عوامل الشر والفساد أغراه بأن يسخّر علمه، وبغضه للكهنوتية، واحتقاره للمرأة والروايات الغرامية، أن يسخّر هذا كله ليكمل به أعظم قصيدة غرامية في الأدب كله. فقد أخذ جان يبسط آراءه في جميع الموضوعات من خلق العالم إلى يوم الحساب بينما ينتظر الحبيب المسكين في الحديقة طوال هذا الوقت ليقطف الوردة. ويصوغ أبياته في شعر من نفس البحر ذي الثمانية المقاطع والقافية الواحدة في كل بيتين كالذي صاغ فيه وليم قصيدته، ولكنه بما فيه من حماسة وطرب بعيدٌ كل البعد عن أشعار وليم الحالمة. وإذا كان قد بقى في قلب جان شيء من الغرام فقد كان ذلك هو صورة أفلاطون الخيالية للعصر ذهبي في الماضي "لا يقول أحد فيه إن هذا الشيء أو ذلك ملك له، ولا يعرف فيه الناس الشهوات أو السلب والنهب"، ولم يكن فيه سادة إقطاعيون، ولا دولة، ولا قانون، يعيش الناس فيه دون أن يأكلوا اللحم أو السمك أو الطير، و"تكون فيه جميع خيرات الأرض ملكاً مشاعاً بينهم"(53). وليس جان متحرراً من الدين، فهو يقبل عقائد الكنيسة دون أن يحط من قدرها، ولكنه يبغض "أولئك الفجار البدن المترفين، والإخوان المتسولين، الذين يخدعون الناس بالألفاظ الكاذبة، ويملأون بطونهم باللحم والشراب"(54) وهولا يطيق المنافقين، ويوصيهم بأكل البصل والثوم لييسر لهم أن يذرفوا دموع التماسيح(55). ويقر بأن "حب امرأة ظريفة" خير ما في الحياة مننعم، ولكن يبدو أنه لم يتذوق قط هذه النعمة(56)، ولعله لم يكن خليقاً بأن يتذوقها لأن الهجاء لم يكن قط طريق كسب فتاة حسناء؛ ولأن جان كان شديد التأثر بأوفد، وقد تتلمذ عليه إلى حد جعله يفكر في وسائل الانتفاع بالنساء، ويُعَلّم غيره هذه الوسائل، أكثر ممّا يحبهم. وهو يجهر بأن الاقتصار على زوجة واحدة سخف، لأن الطبيعة قد أعدت الكل للكل- كل النساء لكل الرجال. وهو يُنطق الرجل المشبع بهذه الأبيات يؤنب بها زوجته المزدانة:

وماذا تجدي هذه المظاهر كلها؟

وأي نفع يعود على من الأثواب الغالية وهذه الحلل ذات القطع الشاذ الغريب؟

وماذا يعنيني من هذه العصائب التي تولين بها شعرك وتعقصينه،

وتجدلينه بخيوط من الذهب؟ ولماذا تطعمين بالعاج

مرايا مرصعة بالميناء، منشورة عليها دوائر ذهبية؟

وما شأن هذه الجواهر الخليقة بتيجان الملوك،

لؤلؤ وياقوت أحمر وأزرق جميل، يبعث فيك الغرور الجنوني الممقوت؟

وما جدوى هذه الأقمشة الغالية!

والطيات المثناة المجدولة، والمناطق التي تطوقين بها خصرك.

محلاة ومزدانة بالنقوش الكثيرة؟

ثم قولي لمَ تختارين أن تلبسي في قدميك حذاءين ملتمعين

إلاّ إذا كنت تشتهين أن تكشفي عن ساقيك الجميلتين؟

قسماً بالقديس ثيبو Thibaud لأبيعنّ هذه الأشياء الغثة

قبل أن تمضي من هذا الوقت ثلاثة أيام، ولأنبذنّك نبذ الثوب الخلق!


وإنّا لنجد بعض السلوى حين نعرف أن إله الحب يهاجم في آخر الأمر، على رأس أتباعه الذين يخطئهم الحصر، البرج الذي يقوم فيه الخطر، والحياء، والخوف (تردد السيدة) بحراسة الوردة، ويُدخِل الترحابُ الحبيبَ إلى الكعبة الداخلية ويتركه يقتطف أمل أحلامه. ولكن أنّى لهذه الخاتمة الغرامية التي طال انتظارها أن تمحو 18.000 بيت من الواقعية الفظة والبذاءة الساحرة؟

وكان أكثر ما يقبل الناس على قراءته في أوربا الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كتب ثلاثة هي رواية الوردة، والقصة الذهبية، ورينار الثعلب. وبدأت قصة Reynard باللاتينية في إيسنجرينس Ysingrinus حوالي عام 1150 ثم انتقلت منها إلى عدة لغات قومية بأسماء مختلفة Roman de Renart، Reynard the Fox، Reinele de Vos، وانتهى تطوافها برواية Reineke Fuchs لجيته. وأضاف مؤلفون مختلفون نحو ثلاثين قصة مرحة لهذه السلسلة حتى بلغ مجموعها 24.000 بيت خصصت كلها تقريباً لهجاء الأساليب الإقطاعية، وحاشية الملوك، والاحتفالات المسيحية، والعيوب الآدمية على لسان الحيوان.

ويحتال رينار الثعلب حيلاً شيطانية على الأسد نوبل Noble (الشريف) ملك الدولة، ويُعطّر درع نوبل بالسيدة هاروج Dame Harouge الفهدة وينصب لها من الدسائس ما لا يقل عن دسائس تليران Talleyrand حتى ترضى أن تكون عشيقته. ويسترضي نوبل وغيره من الوحوش بأن يهب كلاً منها طلسماً ينبئ الزوج بخيانات زوجته. وبهذه الطريقة تنكشف مخاز رهيبة، ويضرب الأزواج زوجاتهم الخائنات، فتفر الزوجات ويحتمين ببرنار فيتخذهن جميعاً حريماً له. وتقول إحدى القصص إن الحيوانات تشتبك في ألعاب الفروسية، وتبدو بأثواب الفرسان الزاهية في استعراض رائع. وترى الثعلب في قصة رينار الميت La Mort Renart يحتضر؛ ويقبل برنار Bernard الحمار كبير أساقفة الحاشية ليقوم له بالمراسيم الدينية، ويخاطبه بلغة توفى على الغاية في العاطفة والإخلاص، وتصنع منتهى الجد والوقار. ويعترف رينار بذنوبه، ولكنه يشترط إذا شفي من مرضه أن يصبح في حل من يمينه غير مقيد بها. وتدل المظاهر كلها على أنه مات، وتجتمع كل الوحوش الكثيرة العدد التي خانها في زوجاتها، أو ضربها، أو مزق لحمها، أو خدعها، تتظاهر بحزنها عليه, ولكنها في خبيئة أمرها سعيدة بموته. ويلقى كبير الأساقفة على قبر الميت عظة شبيهة بأقوال ربليه، ويلوم رينار لأنه كان يرى "أن كل شيء حسن إذا استطعت أن تستحوذ عليه". ولكن رينار تدب فيه الحياة حين يرش عليه الماء المقدس، ويقبض على عُنق شانتكلير (الديك) وهو يطوح بالمبخرة، ويخرج إلى الغابة بفريسته. وبعد فإذا أراد الإنسان أن يفهم العصور الوسطى على حقيقتها فعليه ألاّ ينسى رينار.

ذلك أن قصة رينار أعظم القصص الخرافية التي تروى على لسان الحيوان لهجاء الإنسان. وكانت هذه القصص عادة تكتب بالشعر ذي الثمانية الأوتاد، ويتراوح طولها بين ثلاثين بيتاً وألف بيت؛ ومنها ما هو قديم يرجع إلى عهد إسيوب Aesop أو إلى أقدم من عهده، وجاء بعضها من بلاد الهند عن طريق المسلمين. وكان أكثره قذفاً في حق النساء أو القسيسين، يحسد النساء على ما حبتهن الطبيعة من سلطان، والقسيسين على ما لهم من قوى غير طبيعية؛ يضاف إلى هذا أن النساء والقساوسة قد عابوا على المغنين تلاوة القصص الخرافية الشائنة. ذلك أن الخرافات كانت تتجه على الدوام لأصحاب البطون القوية، وتستخدم لغة الحانات والمواخير، وصاغت آلافاً من الفكاهات شعراً. ولكن تشوسر، وبوكاشيو، وأريستو Aristo، ولافنتين، ومائة غيرهم من القصاصين استمدوا من معينها الفياض كثيراً من القصص المثيرة المدهشة.

وكانت نهضة الشعر الهجائي سبباً في انحطاط منزلة الشعر الغنائي. واشتق الشعراء المغنون الجوالون اسمهم Minstrels الإنجليزي من لفظ Ministerials، وهم في الأصل خدم في حاشية البارونات، اشتقوا اسمهم الفرنسي Jonglenurs من اللفظ اللاتيني ioculator أي صاحب النكات. وقد قام هؤلاء بوظيفة شعراء اليونان الدوارين والماجنين الرومان، وشعراء اسكنديناوة القدماء، والمغنين الإنجلوسكسون، وشعراء ويلز وأيرلندة المداحين. وكان المغنون حين بلغت الروايات الغنائية قمة مجدها في القرن الثاني عشر يقومون مقام الطباعة في هذه الأيام؛ وقد احتفظا بمكانتهم بما كانوا يروونه أحياناً من القصص الخليقة بأن تسمى أدباً. فكان الواحد منهم يمسك بقيثارة أو الكمان الكبيرة وينشد الأغاني أو القصص القصيرة، أو الملاحم، أو قصص مريم أو القديسين، وأغاني أعمال الأبطال، والروايات الغرامية أو خرافات الحيوانات . وإذا حل موسم الصوم الكبير، وقل عليهم الطلب، عقدوا إذا استطاعوا مؤتمراً للمغنين والماجنين كالمؤتمر الذي نعرف أنه عقد حوالي عام 1000؛ وفيه يتعلم بعضهم ما عند البعض الآخر من حيل وأساليب، وما عند شعراء الفروسية الغزلين والقصاصين من أغان وقصص جديدة. ومنهم من كان يرضى، إذا تبين أن أو قاله ذات طابع عقلي أقوى مما يطيقه المستمعون، أن يسلوهم بالشعوذة، والألعاب البهلوانية، وثني الأجسام، والمشي على الحبال. ولمّا أخذ القصاصون يتنقلون في المدن يروون أقاصيصهم، ولمّا انتشرت عادة القراءة وقل الطلب على القصاصين، تحول المغني الجائل تدريجاً إلى ممثل للمهازل ذات الأغاني والرقص، وأصبح المغني في واقع الأمر مشعوذاً، يقذف بالسكاكين، ويحرك الدمى، ويعرض ألعاب الدببة المدربة؛ والقردة، والخيل، والديكة، والكلاب، والجمال، والأسود. ومن المغنين من حول خرافات الحيوانات إلى روايات هزلية، ومَثَّلها دون أن يمحو ما فيها من فحش. وقاومت الكنيسة شيئاً فشيئاً هذه الطائفة، وحرمت على الصالحين الاستماع إلى أفرادها، وعلى الملوك أن يطعموهم، وكان هونوريوس أسقف أوتون Autun يرى أن أحداً من أولئك المغنين أو القصاصين لن يدخل الجنة.

وكان حب الشعوب لأولئك المغنين والقصاصين ورواة خرافات الحيوانات، والترحيب الصاخب الذي لقيته ملحمة جان ده مونج عن الطبقة الوسطى bourgoisie من الطبقات المتعلمة وطلبة الجامعات المتمردين؛ كان هذا خاتمة ذلك العصر. نعم إن الروايات الغرامية ظلت باقية، ولكنها كانت تتحداها من كل ناحية القصائد الهجائية، والفكاهات، والمزاج الدنيوي الواقعي الذي يسخر من قصص الفروسية قبل أن يولد سرفنتيز Cervantes بزمن طويل. وظل الهجاء قرناً كاملاً من ذلك الوقت هو المسيطر على الميدان، يقرض بأنيابه قلب الإيمان، حتى تزعزعت جميع دعائم صرح العصور الوسطى، وتحطمت أضلاعه، وتركت نفس الإنسان مزهوة تترنح على حافة العقل.