قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 37

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 6097

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> العلوم المسيحية -> البيئة السحرية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السابع والثلاثون: العلوم المسيحية 1095 - 1300

الفصل الأول: البيئة السحرية

كان الرومان في أوج مجدهم الإمبراطوري يقدرون العلوم التطبيقية، ولكنهم كادوا ينسون علوم اليونان البحتة. وإنا لنجد منذ العهد القديم في كتاب التاريخ الطبيعي تأليف بلنى الأكبر خرافات يظنها الناس من اختراع العصور الوسطى، ولا تكاد تخلو منها صحيفتان من ذلك الكتاب. ولقد تآزرت قلة عناية الرومان والمسيحيين بالعلوم حتى كادت تجدب البلاد منها قبل أن يغزوها البرابرة بزمن طويل وينثرون حطام المجتمع المدمر في سبل انتقال الثقافة.ودفن ما بقي في أوربا من علوم اليونان في مكتبات القسطنطينية، وحتى هذا القليل الباقي امتدت إليه يد التدمير حين نهبت المدينة في عام 1204. وهاجرت علوم اليونان في القرن التاسع إلى بلاد المسلمين عن طريق الشام، ونهبت أفكارهم فقامت في بلادهم نهضة ثقافية من أعظم النهضات وأكثرها إثارة للدهشة في التاريخ كله، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوربا المسيحية تجاهد للخروج من ظلمات الخرافات والهمجية.

وكان لابد للعلوم والفلسفة في العصور الوسطى أن ينمو غرسهما في جو من الأساطير، والخرافات، والمعجزات، والفأل، والطيرة، والعفاريت، والهولات، والسحر، والتنجيم، والتنبؤ بالغيب، وهي العقائد التي لا تنتشر إلا في عصور الفوضى والخوف. كل هذه كانت توجد في العالم الوثني، ولا تزال توجد في هذه الأيام، ولكنها يخفف من حدتها فكاهة المدنية والعقول المستنيرة. وكانت ذات سلطان قوي عند الأقوام الساميين، وأضحت لها الغلبة بعد أيام ابن رشد وأبن ميمون، وحطمت فيما بين القرن السادس والقرن الحادي عشر أسوار الثقافة في غربي أوربا، وغمرت عقول الناس في العصور الوسطى في بحر زاخر من الآراء الغامضة الخفية والسذاجة التي تصدّق كل ما يقال مهما كان بعيداً عن المعقول. وحسبنا أن نذكر مثلاً لذلك أن أوغسطين كان يعتقد أن آلهة الوثنيين لا تزال موجودة في صورة عفاريت، وأن جنّ الحراج وجنيّاتها حقيقة (1). كما كان أبلار يظن أن الشياطين تستطيع أن تقوم بأعمال السحر لمعرفتها الوثيقة بأسرار الطبيعة (2). وكان ألفنسو الحكيم يؤمن بالسحر ويقبل النبوءات عن طريق النجوم(3)،وإذا كان هذا هو اعتقاد أولك الرجال فكيف يشكّ فيه من هم أقل منهم شأناً؟

وتسربت طائفة كبيرة من الكائنات الخفية غير الطبيعية من الوثنية إلى المسيحية، وكانت في الوقت الذي نتحدث عنه لا تزال تتسرب إليها من ألمانيا واسكنديناوة وأيرلندة في صورة سَحَرة، وجن، ومردة، وجنيَّات، وأغوال، وهولات عجيبة، وشياطين وعفاريت تمتص الدماء. وظلت خرافات جديدة تدخل أوربا من بلاد الشرق؛ فكان الأموات يمشون في الهواء في صورة أشباح، وكان الخلائق الذين باعوا أنفسهم للشيطان يجوسون خلال الغابات والحقول كما كانت تجوس خلالها الذئاب؛ وكانت أرواح الأطفال الذين ماتوا قبل أن يعمدوا تغشى المستنقعات وتظهر للناس في صورة غاز المستنقعات المضئ؛ ولما أن رأى القديس إدمند رتش St. Edmund Rich جماعة من الغربان السود أدرك من فوره أنها سرب من الشياطين جاءت لتحمل روح غراب في تلك المنطقة(4)؛ وكانت كثير من قصص العصور الوسطى تقول إنه إذا خرج شيطان من جسم رجل، فإن في مقدور من حوله أن يروا ذبابة كبيرة سوداء تخرج من فمه(5)؛ وكانت دنيا الشياطين لا يعتريها الضعف مطلقاً.

وكانت مئات الأشياء - كالأعشاب، والحجارة، والنمائم، والأقراط، والجواهر - تلبس لكي ترد بقوتها السحرية الشياطين وتأتي للابسها بالحظ الطيب. وكان حذاء الفرس مجلبة للحظ الطيب لأنه على شكل الهلال، الذي كان في وقت ما إلهة معبودة. وكان الملاحون الذين هم تحت رحمة العناصر الطبيعية، والفلاحون الذين تتحكم فيهم تقلبات الأرض والسماء، يرون خوارق الطبيعة أينما ساروا، ويعيشون في جو من الخرافات والأوهام. وانتقل الاعتقاد بأن لبعض الأعداد قوى سحرية من فيثاغورس عن طريق الآباء المسيحيين: فكان رقم 3 وهو عدد الثالوث المقدس أكثر الأعداد قداسة، وكان يرمز إلى النفس البشرية؛ وكان الرقم 4 يمثل الجسم؛ ورقم 7 وهو مجموع الرقمين يرمز إلى الإنسان الكامل؛ ومن ثم كانت فضائل الرقم 7 - سبعة أعمار الإنسان، والكواكب السبعة، والسبع فضائل الرئيسية، والخطايا السبع المهلكة. وكانت عطسة في غير الوقت المناسب نذير سوء. وكان من الخير أن يتقى شرّها بعبارة (يرحمك الله)، كلما حدثت. وكان مزيج من الدواء يعطى لتوليد الحُب أو القضاء عليه؛ وكان منع الْحَمل ببصق ثلاث مرات في فم ضفدعة، أو إمساك حصاة من حجر اليشب باليد أثناء الجماع(6). وكان أجوبار Agobard المستنير كبير أساقفة ليون Lyons في القرن التاسع عشر يشكو من أن المسيحيين يؤمنون بهذه السخافات التي لم يكن يستطيع الإنسان قبل ذلك الوقت أن يحمل الكفرة على تصديقها)(7).

وقاومت الكنيسة وثنية هذه الخرافات، ونددت بالكثير من المعتقدات وأعمال الشعوذة، وعاقبت مرتكبيها بضروب من الكفارات متدرجة في صرامتها، فكانت تندد بالسحر الأسود - الالتجاء إلى العفاريت لنيل السلطان على الحوادث -، ولكن هذه الضرب من السحر كان واسع الانتشار في ألف مكان خفي. وكان الذين يمارسونه يوزعون سراً كتاب اللعنة المحتوي على أسماء العفاريت الكبرى، ومساكنها، وقواها الخاصة(8). وكان كل إنسان تقريباً يؤمن ببعض الوسائل السحرية التي تحول مقدرة الكائنات فوق الطبيعية إلى غايات محبوبة. وهاهو ذا يوحنا السلزبري يحدثنا عن ضرب من السحر يستخدمه شماس وقس كبير أساقفة(9). وكان أبسط أنواع السحر ما يحدث بتلاوة الرقية وهي عبارة تتلى عدة مرات في العادة؛ وبها يمكن اتقاء شر، وشفاء من مرض، وإبعاد عدو من الطريق. وأكبر الظن أن معظم المسيحيين كانوا يعدَون علامة الصليب، والصلاة الربانية، والسلام عليك يا مريم Ave Maria رقي سحرية، ويستخدمون الماء المقدس، والعشاء الرباني على أنهما من الطقوس السحرية ذات الآثار المعجزة. وكاد الاعتقاد بوجود النساء الساحرات يكون عاماً في ذلك الوقت؛ فها هو ذا كتاب التوبة الذي وضعه أسقف إكستر Exter يندد بالنساء اللائي يدعين القدرة على تبديل عقول الرجال بضروب من السحر، كتبديل الكره حُبَّاً، والحب كُرهاً، أو (سحر بضائع الناس وسرقتها)، أو (يدعين القدرة على أن يركبن في بعض الليالي على ظهور بعض الدواب مع حشد من العفاريت في صورة النساء، وعلى أن ينضممن إلى تلك الجماعات)(10) - وذلك هو (سبت الساحرات) الذي ذاعت سمعته السيئة في القرن الرابع عشر. وكان من ضروب سحر النساء السهلة صنع صورة من الشمع للضحية المقصودة، وإنفاذ الأبر فيها، وتلاوة صيغ من اللعنات عليها؛ وقد أتهم وزير من وزراء فليب الرابع بأنه أستأجر ساحرة لتفعل هذا بصورة الملك. وكان من المعتقدات المنتشرة أن بعض النساء يستطعن أن يؤذين أو يقتلن بنظرة من (عيونهن الحاسدة). وكان برثولد الرجنزبرجي Berthold of Regenesburg يظن أن سيلقى في الجحيم من النساء أكثر ممن سيلقى فيها من الرجال لأن كثيرات من النساء يمارسن فنون السحر - فلديهن (رُقي للحصول على الزواج، ورقي للزواج، ورقي قبل مولد الطفل، ورقي قبل التعميد... ومن عجب أن الرجال لا يفقدون عقولهن بسبب فنون السحر الرهيبة التي تمارسها النساء عليهن)(11). وكانت قوانين القوط الغربيين تتهم النساء باستحضار العفاريت، وبتقريب القرابين للشياطين، وبإثارة العواصف وما إلى ذلك، وتأمر بأن تحلق رؤوس من تثبت عليهن هذه الجرائم، وجلدهن مائتي جلدة(12). وكانت قوانين كانوت Cnut في إِنجلترا تعترف بأن من المستطاع قتل إنسان بالسحر. وكانت الكنيسة في بادئ الأمر سهلة مع أصحاب هذه العقائد الشعبية، ترى فيها بقايا وثنية لن تلبث أن تزول، ولكن الذي حدث كان عكس هذا، فقد أخذت تزيد وتنتشر؛ حتى إذا كان عام 1298 شنت محكمة التفتيش حملة قوية بغية القضاء على السحر بحرق الساحرات علناً. ذلك أن الكثيرين من رجال الدين كانوا يعتقدون مخلصين أن من النساء من كن على صلة بالعفاريت، وأن من الواجب أن يحمي المؤمنون من رقاهن السحرية. ويؤكد لنا قيصريوس الهسترباخي Caesarius of Heisterbach أن كثيرين من الرجال في أيامه يتحالفون مع الشياطين(13)، ويقال أن من يمارسون السحر الأسود كانوا يحتقرون الكنيسة ويسخرون من شعائرها بأن يعبدوا الشيطان بقداس أسود(14). وكان كثيرون من المرضى وضعاف النفوس يعتقدون أنهم قد لبستهم العفاريت. ولربما كان القصد من الأدعية، والصيغ، والاحتفالات التي تتلى أو تقام لإخراج هذه العفاريت والتي تستخدمها الكنيسة لهذا الغرض، أن تتخذ علاجاً نفسياً لتهدئة عقول المخرّفين. وكان الطب في العصور الوسطى إلى حد ما فرعاً من اللاهوت والشعائر الدينية؛ فقد كان أوغسطين يظن أن أمراض الآدميين تسببها العفاريت، ووافقه لوثر على ظنه هذا؛ وبدا من ثم أن علاج الأمراض بالصلوات، وعلاج الأوبئة بالموكب الدينية وإقامة الكنائس، أمر يتفق مع المنطق السليم. ومن أجل هذا بنيت كنيسة سانتا ماريا دلاسالوتي Santa Maria della Salute في البندقية لمقاومة الطاعون؛ وقد شفيت تلك المدينة - على حد قولهم - من وباء الزحار بفضل الصلوات التي أقامها القديس جربولد Gerbold أسقف بايو Bayeux(15). وكان الأطباء الصادقون يرحبون بما يسديه الإيمان بالدين من عون لنجاح وسائل العلاج، فكانوا يوصون بإقامة الصلوات، ولبس التمائم(16)؛ ولهذا نجد منذ عهد إدورد المعترف لا بعد الحكام الإنجليز يباركون الخواتم لهذا العلاج الجذام(17). وكان الملوك الذين نالوا القداسة بلمس المخلفات الدينية يشعرون أن في مقدورهم علاج المرضى بوضع أيديهم عليهم؛ وكان يظن أن المصابين بالداء الخنازيري يستجيبون أكثر من غيرهم للمس الملوك؛ ولهذا سمي هذا المرض (داء الملك King's evil). وما أكثر ما تحمل القديس لويس من العناء الطويل في مس المصابين بهذا الداء، ويقال إن فليب فالوا (مس) ألفاً وخمسمائة من الأشخاص في جلسة واحدة(18).

وكان ثمة وسائل سحرية للمعرفة وللصحة جميعا، فقد انتشرت في العصور الوسطى كلها معظم الوسائل الوثنية التي كانت تتبع التنبؤ بالغيب أو رؤية الغائبين على الرغم من تنديد الكنيسة بهذه الوسائل؛ مثال ذلك أن تومس أبكت Thomas à Becket أراد أن يسدي النصح إلى هنري الثاني في مشروعه لغزو بريطاني فاستشار لذلك عرّافاً بزجر الطير ومراقبة طيرانها، وقارئ كف عرف مصير الحملة بدراسة خطوط يده(19). ويدعي قارئو الكف أن (علمهم) هذا مؤيد من عند الله، ويستدلون على صدق السحر بآية من سِفر الخروج (الآية الثامنة عشر من الإصحاح الثاني والعشرين) التي تقول: لا تدع ساحرة تعيش.

وكان غير هؤلاء من المتنبئين يحاولون معرفة الغيب بمراقبة حركات الرياح، أو المياه، أو الدخان المتصاعد من نار. وكان بعضهم يعلمون أن مواضع خبط عشواء على الأرض (أو أية مادة من مواد الكتابة) ويصلون هذه النقط بخطوط، ويتنبئون بحظ السائل بالنظر في الأشكال الهندسية التي تحدث بهذه الطريقة. ويقال أن بعضهم كانوا يتنبئون بالمستقبل باستحضار أرواح الموتى؛ من ذلك أن ألبرتس جروتس Albertus Grotus استحضر - على حد قولهم - روح زوجة الإمبراطور فردريك بربرسا بناء على طلبه(20). ومنهم من كان يستشير كتب التنبؤ بالغيب. كالكتب التي يقال أنها تحتوي على نبوءات السيبلات Sibyls أو من مرلين Merlin أو سليمان. ومنهم من كان يفتح الكتاب المقدس أو الإنياذة في غير موضع معين، ويتنبأ بالمستقبل بقراءة الآية أو بيت الشعر الذي تقع أعينهم عليه. وكان أكثر المؤرخين جداً ووقاراً في العصور الوسطى يجدون - كما وجد ليفي - أن الحوادث ذات البال قد عرفت قبل وقوعها إما مباشرة أو رمزاً، بالنذر، أو الرؤى، أو النبؤات، أو الأحلام. وكانت توجد أكداس من الكتب - ككتاب آرنلد الفلانوفي Arnold of Villanova - تعرض أحدث التفسيرات العلمية للأحلام - ولم تكن هذه التفسيرات أكثر سخفاً مما كتبه أشهر العلماء في القرن العشرين. وكان الناس في الزمن القديم يمارسون الأساليب المتبعة للتنبؤ أو الجلاء البصري كلها تقريباً كما يمارسونها في هذه الأيام.

غير أن زماننا الحاضر، على الرغم مما بذل فيه من بعض الجهود، لم يبلغ ما بلغه عصر الإيمان - في الإسلام أو اليهودية أو المسيحية - من اعتقاد بأن المستقبل مكتوب في النجوم كتابة لا يستطيع حل رموزها . فإذا كان مناخ الأرض - على حد قولهم - ونمو النباتات يتأثران تأثراً واضحاً بالأجرام السماوية، فكيف لا تؤثر هذه الأجرام، في أحوال الناس والدول، بل كيف لا تحدد هذه الأحوال تحديداً فتسيطر على نموهم، وطبيعتهم، وأمراضهم، ومراحل حياتهم، وخصوبتهم، وما يفتشوا بينهم من أوبئة، وما يقع لهم من أحداث وثورات، وتقرير مصيرهم؟ هذا ما كان راسخاً في عقل كل إنسان تقريباً في العصور الوسطى. وقلما كان يخلو بيت من ملك أو أمير من منجم محترف. وكان الأطباء يحجمون مرضاهم، كما لا يزال كثير من الفلاحين يبذرون حبهم، حسب أوجه القمر؛ وكانت معظم الجامعات تدرس مناهج في التنجيم، ويقصدون به (علم النجوم)؛ وكان علم الفلك نفسه جزءاً من التنجيم، وكان من أكبر أسباب تقدمه اهتمام الناس بالتنجيم وأغراضه. وكان العلماء الجادون يقررون أنهم وجدوا علاقات ثابتة منتظمة يمكن التنبؤ بنتائجها بين الأجرام السماوية والأرض؛ فالذين يولدون وزحل في أوجه يكونون باردي المزاج، نكدين، منقبضي الصدور؛ والذين يولدون والمشتري في أوجه يكونون معتدلي المزاج مرحين؛ ومن يولدون تحت تأثير المريخ يكونون ملتهبي المزاج ذوي نزعة عسكرية؛ ومن يولدون تحت تأثير الزهرة يتصفون بالرقة وكثرة النسل؛ ومن يولدون تحت تأثير عطارد يصيرون خلائق منقلبين لا يثبتون على حال؛ ومن يولدون والقمر في كبد السماء يكونون سوداويين قد تصل حالهم إلى الجنون. وكانت قراءة الطالع المولود تنبئ بحياتها كلها بالنظر إلى البرج الموجود وقت مولده. ولهذا فإن من يريد معرفة الطالع الصحيح لشخص يجب عليه أن ينظر إلى الساعة ويعرف بالدقة اللحظة التي ولد فيها، وموضع النجوم بغاية الدقة والتحديد. ومن ثم كانت أهم الأغراض التي وضعت من أجلها الأزياج الفلكية هي المساعدة على معرفة هذه الطوالع.

وتبرز في تلك الأيام أسماء المتبحرين في هذه العلوم الخفية؛ من هؤلاء بطرس الأبنووي Peter of Abano الذي كان ينزل بالفلسفة فيجعلها تنجيماً. وكان لآرنلد الفلانوفي الطبيب الشهير ولع بالسحر؛ وكان سكوداسكولي Cecco d' Ascoli، (1257؟ - 1327) مدرس التنجيم في جامعة بولونيا يفخر بأنه يستطيع قراءة أفكار أي إنسان، أو يعرف ما يخبؤه في يده إذا عرف تاريخ مولده. وأراد أن يشرح آراءه هذه فعمل على كشف طالع المسيح، وأثبت أن البرج الذي كان في السماء ساعة مولده قد جعل صَلْبه أمراً محتوماً. وأدانته محكمة التفتيش (1324)، وأرغم على إنكار دعواه، وعفى عنه شريطة أن يلزم الصمت، وخرج فلورنس، ومارس التنجيم لعدد من العملاء، ثم حرق علناً لأنه أنكر حرية الإرادة (1327). وأتهم كثير من العلماء المخلصين لعملهم - ومنهم قسطنطين الأفريقي، وجربرت، وألبرتس مجنس، وروجر بيكن، وفنسنت البوفسني Vincent of Beauvaris - بالسحر والاتصال بالشياطين لأن الناس لم يكونوا يصدقون أنهم حصلوا على علمهم بالوسائل الطبيعية. وكان ميخائيل اسكت هدفاً للريبة لأنه كتب رسائل ذائعة الصيت عن العلوم الخفية، منها كتاب في التنجيم، وكتاب في العلاقة بين الصفات الخلقية وصفات الجسم، وكتابين في الكيمياء الكاذبة. وكان ميخائيل يندد بالسحر، ولكنه يسره أن يكتب عنه، وقد ذكر ثماني وعشرين طريقة للتنبؤ بالغيب، ويبدو أنه كان يؤمن بها كلها(21). وكان كمعظم معاصريه دقيق الملاحظة، يجري بعض التجارب؛ ولكنه يقول إن حمل حجر اليشب أو الياقوت الأصفر يساعد الرجل على الامتناع عن الجماع(23). وقد بلغ مهارته أن ظل حسن الصلة بفردريك الثاني والبابوات، ولكن دانتي الصلب الذي لا يقبل شفاعة جعل مثواه الجحيم.

وكانت الكنيسة ومحكمة التفتيش جزءاً من البيئة المحيطة بالعلوم الأوربية في القرن الثالث عشر. وكانت الجامعات تعمل في الأغلب تحت سلطان الكنيسة ورقابتها؛ بيد أن الكنيسة كانت تترك للأساتذة قدراً كبيراَ من حرية العقيدة، وكانت في كثير من الأحوال تشجع طلب العلم. من ذلك أن وليم الأوفرني أسقف باريس (المتوفى عام 1249)، كان يناصر البحث العلمي، ويسخر من الذين يتسرعون فيرون في كل حادثة غير مألوفة عملاً من أعمال الله مباشرةً. وقد يرع جروستستي أسقف لنكلن في دراسة العلوم الرياضية، والبصريات، وفي العلوم التجريبية، براعة جعلت روجر بيكن يضعه في منزلة أرسطو. ولسنا نعرف أن طائفتي الرهبان الدمنيك أو الفرنسيس قد أثارتا اعتراضاً على الدراسات العلمية التي قام بها ألبرتس مجنس أو روجر بيكن؛ أما القديس برنار وبعض المتحمسين المتزمتين فكانوا يعرضون في طلب العلم؛ ولكن الكنيسة لم تأخذ برأيهم هذا(23)، وكانت ترى أن من الصعب عليها أن ترضى بتشريح جثث الآدميين لأن من عقائدها الأساسية أن الإنسان خلق في صورة الله، وأن الجسم والروح كليهما سيقومان من القبر. وكان المسلمون واليهود يرون معها هذا الرأي بعينه(24)، كما كانت تقول به الكثرة الغالبة من الناس(25). وقال جيدو الفجيفانوي Guido of Vigevano في عام 1345 عن التشريح إنه (محرم بأمر الكنيسة)(26). ولكننا لا نجد ما يحرمه في أوامرها قبل مرسوم البابا بنيفاس الثامن الصادر في عام 1300، وحتى هذا المرسوم لا ينهى إلا عن تقطيع الجثث وغلى لحمها، لكي ترسل عظام الصليبيين المعقمة إلى أهليهم ليدفنوها في بلادهم(27). وربما فسر هذا تفسيراً خاطئاً ففهم على أنه نهى عن تشريح الجثث بعد الموت، ولكننا نجد مندينو Mondino الجرّاح الإيطالي يغلي الجثث ويشرحها حوالي عام 1320؛ ومبلغ علمنا أن الكنيسة لم تحتج على عمله هذا(28).

وبعد فإذا ما بدت ثمار العلوم الطبيعية في الغرب أثناء العصور الوسطى ضئيلة قليلة الغناء في هذا الموجز الذي يراه القارئ فيما بعد، فإن علينا أن نذكر أنها نشأت في بيئة من الخرافة والسحر معادية للعلم، وفي عصر تتجه فيه خير العقول إلى القانون، واللاهوت، وفي وقت يعتقد فيه الناس كلهم تقريباً أن المسائل الكبرى الخاصة بنشأة الكون، وبني الإنسان، والطبيعة، ومصائر الناس قد حلّت كلها. ولكن العقول في أوربا الغربية استفاقت من رقدتها بعد عام 1150 لما أن ازداد الفراغ، ونمت الثروة، وأخذت التراجم تنصب صباً في أوربا من بلاد الإسلام، واشتدت رغبة الناس في المعرفة حتى صارت ولعاً وتحمساً،وشرعوا يبحثون شئون العالم القديم العظيم الذي كان يبحثه اليونان دون أن تقام في وجههم العقبات والعراقيل، ولم يمض إلاّ قرن من الزمان حتى كانت أوربا اللاتينية كلها تموج بالعلم والفلسفة.


الفصل الثاني: الثورة الرياضية

إن أول الأسماء العظيمة في علوم ذلك الوقت اسم ليوناردو فيبوناتشي ألبيزي Leonardo Fibonacci of Pisa. لقد انتقلت علوم الرياضة السومرية، التي لا نعرف نشأتها، إلى بابل عن طريق بلاد اليونان؛ وانتقل هلم الهندسة المصرية، الذي لا يزال ماثلاً أمام أعيننا في الأهرام، إلى أيونيا وبلاد اليونان، ولعل انتقاله كان عن طريق كريت ورودس؛ وانتقلت علوم الرياضة اليونانية إلى أيونيا في أثر الإسكندر، وكان لها شأن أيما شأن في ذلك التطور الذي بلغ ذروته في براهماجبتا Brahmagubta (588؟-60؟)؛ وترجمت مؤلفات الهنود الرياضية إلى اللغة العربية حوالي عام 775؛ وبعد قليل من ذلك الوقت ترجمت مؤلفات اليونان في هذا العلم إلى تلك اللغة نفسها؛ ودخلت الأرقام الهندية إلى بلاد المسلمين الشرقية حوالي عام 830؛ ثم نقلها جربرت Gerbert إلى فرنسا حوالي عام 1000، ودخلت علوم الرياضة اليونانية، والعربية، والعبرية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بلاد أوربا الغربية عن طيق أسبانيا وصقلية، وحملها التجار الإيطاليون إلى البندقية وجنوى، وأملفي، وبيزا؛ وشأن النقل في الحضارة كشأن التناسل في الحياة.

وظهر طريق آخر من طرق نقل العلوم في القرن السادس قبل الميلاد وذلك في صورة "المِعَد"؛ وهو أداة للعد بنقل عصى صغيرة من الخيزران من مجموعة إلى أخرى؛ ولا تزال أداة منقولة عن هذه تستعمل في بلاد الصين إلى يومنا هذا؛ ويقول هيرودوت إن المصريين في القرن الخامس قبل الميلاد كانوا يستخدمون العصا في العَد، وينقلونه بأيديهم من اليمين إلى اليسار". أما اليونان فقد ساروا فيه من اليسار إلى اليمين. واستخدم الرومان أشكالاً كثيرة من المِعَد، كانت أدوات العد في احدها تنزلق في حزوز، وكانت هذه الأدوات تصنع من الحجارة، أو المعادن، أو الزجاج الملون؛ وكانوا يسمونها الكلسكولي Calculi أي الحجارة الصغيرة(29). ويذكر بؤيثيوس حوالي عام 525 المعد ويقول عنه إنه يمكّن الإنسان من العد بالعشرات؛ ولكن هذه البداية لاستخدام الطريقة العشرية أُهملت؛ وكان تجار إيطاليا يستخدمون العد،ولكنهم يكتبون نتائجه بالأرقام الرومانية السمجة.

ووُلد ليوناردو فيبوناتشي في بيزا عام 1180؛ وكان والده مديراً لإحدى المؤسسات التجارية في بلاد الجزائر، وانضم إليه ليوناردو في تلك البلاد وهو في سن المراهقة، وتعلم على يد أستاذ مسلم، ثم طاف ببلاد مصر، والشام، واليونان، وصقلية، ودرس أساليب التجار، وتعلم طريقة العد، على حد قوله "بوسيلة عجيبة استخدم فيها أرقام الهنود التسعة"(30)؛ وهنا كانت الأرقام الهندية في بداية تاريخها الأوربي تسمى بحق أرقاماً هندية؛ وكانت هذه الأرقام التي هي من أسبابا الملل والإجهاد لأطفال هذه الأيام موضع الدهشة والبهجة في ذلك الوقت. ولعل ليونادرو قد تعلم اللغة اليونانية كما تعلم العربية؛ وسواء كان ذلك أو لم يكن فإنا نجده ملماً برياضيات أرخميدس، وإقليدس، وهيرون، وديوفانتس Diophantus. ونشر في عام 1202 كتاب العدLibre abaci وهو أول عرض أوربي كامل للأرقام الندية، وللصفر، والطريقة العشرية، يقوم به مؤلف مسيحي، وكان بداية بعث العلوم الرياضية في بلاد أوربا المسيحية. وأدخل هذا الكتاب نفسه الجبر العربي في أوربا الغربية، وأحدث انقلاباً بسيطاً في ذلك العلم لأنه كان يستخدم من حين إلى حين حروفاً بدل الأرقام لتعميم المعادلات الجبرية واختزالها. واستخدم ليوناردو في كتابه الهندسة التطبيقية Practica geometrica (1220) لأول مرة في العالم المسيحي على ما نعلم الجبر في حل النظريات الهندسية. ووضع في كتابين آخرين نشرا في عام 1225 طرقاً مبتكرة لحل معادلات الدرجة الأولى والثانية. وفي تلك السنة نفسها رأس فردريك الثاني في مدينة بيزا مهرجاناً رياضياً، وضع فيه يوحنا بالرمو John Palermo مسائل مختلفة حلها فيبوناتشي.

وظل تجار أوربا يقاومون طريقة العد الجديدة على الرغم من ظهور هذا المؤلف الذي يُعدّ بداية عهد جديد في تاريخ العلوم الرياضية، فقد كان كثيرون منهم يفضلون تحريك المِعًد بأصابعهم وكتابة النتائج بالأرقام الرومانية؛ وفي عام 1299 استطاع "العدّادون" في فلورنس أن يقنعوا ولاة الأمور بسن قانون يحرم استعمال "الأرقام الخيالية الجديدة"(32)، ولم يدرك إلاّ عدد قليل من الرياضيين أن الرموز الجديدة وهي الصفر وترتيب الخانات العشرية في آحاد وعشرات ومئات... قد مهدت السبيل إلى تطور علوم الرياضة تطوراً يكاد يكون مستحيلاً إذا ظلوا يتخذون الحروف القديمة اليونانية والرومانية واليهودية أرقاماً. ولم تحلّ الأرقام الهندية آخر الأمر محل الأرقام الرومانية إلاّ في القرن السادس عشر، ولا تزال طريقة العد الاثنا عشرية مستخدمة في ميادين كثيرة في إنجلترا وأمريكا لأن رقم 10 لم ينتصر بعد في كفاحه الطويل الذي دام الف عام انتصاراً حاسماً على رقم 12.

وكان للعلوم الرياضية في العصور الوسطى أغراض ثلاثة: خدمة التجار، وإمساك حسابات رجال الأعمال،ورسم خرائط للسماء. وكانت علوم الرياضة، والطبيعة، والفلك وثيقة الصلة بعضها ببعض، ومن كتب وفي واحد منها أفاد العلمين الآخرين؛ ومن أمثلة هؤلاء العلماء جون الهوليوودي John of Holywood (في يروكشير) المعروف في العالم اللاتيني باسم جوانس ده سكروبسكو Johannes de Saerobosco الذي درس في أكسفورد، وكان أستاذاً في جامعة باريس، وألف رسالة عن الكرة الأرضية وعرضاً للرياضة الجديدة سماه الرياضة للملايين (حوالي 1230). ولكان لفظ اللوغارتمات وهو اسم ممسوخ من اسم الخوارزمي اصطلاحاً لاتينياً يطلق على الطريقة الرياضية التي تستخدم الأرقام الهندية. ويعزو جون إلى العرب فضل اختراع هذه الطريقة، وهو من المسئولين عن الخطأ الذي أدى إلى تسمية الأرقام الهندية بـ"الأرقام العربية"(33). وجاء رجل من تشيستر يدعى ربرت حوالي عام 1149 بحساب المثلثات العربي إلى إنجلترا، وأدخل لفظ الجيب في العلم الجديد، وذلك في أثناء تعديل أزياج البتاني والزرقاني.

وكان من أسباب دوام الاهتمام بالفلك حاجات الملاحة والرغبة الشديدة في التنجيم. وكانت المكانة العظيمة التي يمثلها كتاب المجسطي الذي ترجم مراراً كثيرة من أسباب جمود علم الفلك في أوربا المسيحية واستمساكه بنظرية بطليموس نظرية الدوائر المختلفة المراكز والدوائر التي في محيطات دوائر أخرى، والقائلة إن الأرض هي محور الكون. وأحست بعض العقول اليقظة كعقول ألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، وروجر بيكن، بقوة النقد الذي وجهه العالم الفلكي البطروجي، لهذه النظرية في القرن الثاني عشر، ولكن لم توجد نظرية سماوية مقبولة تحل محل نظرية بطليموس الميكانيكية قبل أيام كوبرنيق. فقد كان علماء الفلك المسيحيون في القرن الثالث يتصورون أن الكواكب تدور حول الأرض، وأن النجوم الثوابت مرصوصة في قبة من البلور يسيرها العقل الإلهي،وتدور في حشد منظم حول الأرض؛ وأن مركز الكون كله وأرقى ما فيه هو ذلك الإنسان الذي يصفه علماء الدين بأنه دودة حقيرة ملوثة بالذنوب، ومحكوم على كثرة أفراده بأن يصلوا نار الجحيم. وقد بحث علماء الفلك الساميون في القرن الثالث عشر رأي هرقليدس القائل بأن منشأ حركة السماء اليومية الظاهرة دوران الأرض حول محورها، ولكن العالم المسيحي نسى هذا الرأي نسياناً تاماً؛ ونقل مكروبيوس Macrobius ومارتيانس كابلا Martianus Capella رأياً آخر لهرقليدس وهو أن عطارد والزهرة يدوران حول الشمس؛ واستمسك جون اسكوتس إرجينس بهذا الرأي في القرن الثامن ثم طبقه على المريخ والمشتري، وبهذا أوشكت النظرية القائلة بأن الشمس مركز العالم أن تنتصر(34). ولكن هذه الفروض الباهرة كانت من بين الأفكار التي اندثرت في العصور المظلمة، وظلت الأرض مركز الكون حتى عام 1512slash وإن كان علماء الفك جميعهم قد اتفقوا على أن الأرض كروية(35).

وجاءت الأزياج والآلات الفلكية إلى الغرب من بلاد الإسلام، أو عملت على غرار الأزياج والآلات الإسلامية. ورصد ولشر اللوريني Walcher of Lorraine الذي أصبح فيما بعد رئيساً لدير ملفيرن Malvern خسوف القمر في إيطاليا بأسطرلاب؛ وكان هذا أول الأرصاد الفلكية المعروفة في العالم المسيحي الغربي؛ ولكن وليم الكلودي William of St Cloud اضطر بعد مائتي عام من ذلك الوقت (حوالي 1296) أن يذكر الفلكيين، بأقواله وبما ضربه لهم من مثل بنفسه، أن خير ما يتقدم به العلم هو الملاحظة لا القراءة أو الفلسفة. وخير ما قدم لعلم الفلك المسيحي من عون في ذلك الوقت هو الأزياج الأُنفسية لحركات الأجرام السماوية التي أعدها عالمان يهوديان أسبانيان لأنفسو الحكيم. وتجمعت المعلومات الفلكية فكشفت عن أخطاء تقويم يوليوس قيصر (46 ق.م) الذي وضع على أساس عمل سويجنيس والذي جعل السنة أطول من حقيقتها بإحدى عشرة دقيقة وأربع عشرة ثانية. وكان ازدياد تنقل الفلكيين، والتجار، والمؤرخين بين أقطار العالم مما كشف عن الصعاب التي يلاقونها من جراء اختلاف التقاويم. وكان البيروني قد قام بدراسات نافعة للطرق المختلفة المتبعة في تقسيم الزمن وتاريخ الحوادث (حوالي عام 1000 )، وواصل هارون ابن مشلام وابراهام بارخبة هذه الدراسة في عامي 1106 و 1122، وأعقبهما ربرت جروستستي وروجر بيكن فعرضا في القرن الثالث عشر مقترحات عملية، أسفرت (حوالي عام 1232) عن وضع جروستستي لطائفة من الأزياج لتعيين أوقات الحوادث الفلكية والتواريخ المتغيرة كتاريخ عيد القيامة، وكانت هذه الأزياج أول خطوة لوضع التقويم الجريجوري (1582) الذي يرشدنا ويضللنا في هذه الأيام.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الأرض وحياتها

وكان أكثر العلوم تقدماً في العصور الوسطى هو علم طبقات الأرض؛ وسبب ذلك أن الأرض كانت في رأيهم موطن المسيح، وغلاف الجحيم، وأن الأحوال الجوية من تقدير الله. وكان المسلمون واليهود والمسيحيون على السواء يغشون علم التعدين بغلاف من الخرافات. ويؤلفون "الجوهريات فيما للحجارة من قوى سحرية. من ذلك أن ماربو Marbood أسقف رنن Rennes (1035-1133) كتب بالشعر اللاتيني كتاباً شعبياً سماه كتاب الجواهر وصف فيه القوى الخفية الكامنة في ستين نوعاً من الحجارة الكريمة، فقال هذا الأسقف المتبحر في العلوم إنه إذا أمسك الإنسان بيده حجراً من الياقوت الأزرق أثناء الصلاة كان ذلك أدعى لاستجابة الله إلى دعائه(36)، وإن حجر عين الهر إذا لف في ورقة من نبات الغار يُخفي من يمسك به من أعين الناس، وإن حجر الجمشت يجعله بمأمن من السكر؛ وإن الماس يجعل من يمسك به صنديداً لا يُهزَم(37).

وكان التشوف والتحمس اللذان أحاطا معادن الأرض بهذه الخرافات هما اللذين بعثا الناس في العصور الوسطى على التجوال في أوربا وبلاد الشرق، فأغنوا بذلك علم الجغرافيا على مهل. من هؤلاء جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis - جرالد الويلزي Girald of Wales، (1147-1223) - الذي طاف ببلاد كثيرة وكتب في موضوعات كثيرة، وأتقن لغات كثيرة ليس منها لغته هو، والذي صحب الأمير جون إلى أيرلندة، وعاش فيها عامين، ثم طاف بأنحاء ويلز يدعو الناس إلى الحرب الصليبية الثالثة، وألف أربعة كتب ممتعة عن هذين البلدين. وقد أثقل صحف كتبه بتحيزه وبكثرة ما أورده فيها من أخبار المعجزات، ولكنه خففها بوصفه الواضح الحي للأشخاص والأماكن، وحديثه الظريف عن الأشياء التافهة التي توضح خصائص الأشخاص والعصور. وكان واثقاً من أن كتبه سوف تخلد ذكره(38)، ولكنه استخف بما يمتاز يه الزمان من قدرة على النسيان.

وكان هو واحداً من آلاف الرجال الذين حجوا إلى بلاد الشرق في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقدر سمت خرائط البلاد والطرق ليهتدي بها هؤلاء الحجاج، وأفاد من ذلك علم الجغرافية. وحدث بين عامي 1107 و1111 أن أبحر سجورد جوراسلفار Siguard Jorasalfare ملك النرويج في حملة صليبية ومعه ستون سفينة،ومرَّ بإنجلترا، وأسبانيا، وصقلية، ووصل إلى فلسطين. وحارب المسلمين كلما لاحت له فرصة لحربهم، ثم قاد حملته بعد أن هلك منها من هلك إلى القسطنطينية، ومنها اجتاز بلاد البلقان، وألمانيا، والدنمرقة بطريق البر حتى وصل إلى النرويج. وتكون قصة هذه الرحلة المفعمة بالأخطار جزءاً من قصص اسكنديناوة الشعبية العظيمة. وفي عام 1270 أعاد لنزارتي مالوسلو Lanzarotte Maocello كشف جزائر الخالدات التي كانت معروفة للأقدمين. وتقول إحدى الروايات المتواترة التي لم تحقق بعد إن أجولينو Ugolino وفادينو فيفلدو Vadino Vivaldo أبحرا من جنوى حوالي عام 1290 على ظهر سفينتين كي يصلا إلى الهند بالطواف حول قارة أفريقية. ويبدو أن جميع من كانوا على ظهر السفينتين من الملاحين لقوا حتفهم. وانتقلت قصة هذه الرحلة بطريقة ساخرة في صورة رسالة من "برجستون" Prester John اسطوري (حوالي عام 1150) يتحدث فيها عن أملاكه في أواسط آسية، وعن جغرافية بلاد الشرق حديثاً مليئاً بالأوهام والخرافات. وقلّما كان المسيحيون يعتقدون بوجود أرضين وسكان في الأجزاء المقابلة لبلادهم وعلى سطح الأرض، وذلك على الرغم من قيام الحروب الصليبية وما استتبعته من الأسفار. وكان القديس أوغسطين يرى أن "من غير المعقول أن يسكن الناس في الجهة المقابلة لنا على سطح الأرض، حيث تغرب الشمس حين تشرق عندنا، وحيث يمشي الناس وأقدامهم في اتجاه أقدامنا"(39)؛ وكان راهب أيرلندي يدعى القديس فرجيل St. Fergil قد أشار حوالي عام 748 إلى إمكان وجود "عالم آخر وخلق آخرين تحت الأرض"(46). وقبِل ألبرتس مجنس وروجر بيكن هذه الفكرة، ولكنها بقيت خيالاً جريئاً يطوف بعقول قلة من الناس حتى طاف مجلان Magellan بالكرة الأرضية.

وجاءت إلى أوربا أهم المعلومات عن الشرق الأقصى من راهبين فرنسيين. ذلك أن إنوسنت الرابع أرسل في إبريل من عام 1245 إلى بلاط المغول في قرقورم جيوفني ده بيانو كربيني Giouanni de Piano Carpeni، وهو رجل بدين في الخامسة والستين من عمره. ولاقى جيوفني ورفيقه من العصاب أشد ما يلقاه الإنسان في حياته، فقد ظلا مسافرين خمسة عشر شهراً، يبدلان الجياد أربع مرات في كل يوم. وإذ كانت قوانين الرهبان الفرنسيس تحرم عليهما أكل اللحمـ فقد كادا يموتان جوعاً بين البدو الذي لا يكادون يجدون غيره طعاماً يمدونهما به.وأخفق جيوفني في مهمته،ولكنه كتب بعد موته وصفاً لرحلته يعد الآن من أمهات كتب الأدب الجغرافي - فهو يمتاز بوضوحه، وإنكاره لشخصه، واهتمامه بالحقائق دون غيرها لا يذكر فيها كلمة شكوى أو كلمة عن نفسه. وأرسل لويس التاسع في عام 1253 وليم الربركويزي William of Rubruquis (وليم فان رويزبروك William van Ruysbrook) إلى الخان الأعظم ليعيد على مسامعه رغبة البابا في عقد حلف معه. وعاد وليم يحمل معه دعوة جافة بخضوع فرنسا إلى سلطة المغول(41)، وكان كل ما أثمرته البعثة هو وصف وليم الشيق الممتاز لعادات المغول وتاريخهم. وعرف الأوربيون وقتئذ لأول مرة منابع نهري الدن Don والفلجا، وموضع بحيرة بلكاش، وشعائر الدلاي لاما Dalai Lama، وأماكن النساطرة المسيحيين في الصين، والفرق بين المغول والتتار. وأشهر الرحالة الأوربيين إلى بلاد الشرق الأقصى في العصور الوسطى وأعظمهم نجاحاً هم أسرة بولو تجار البندقية. فقد كان لأندريا بولو Andrea Polo أبناء ثلاثة هم ماركو الأكبر، ونقولو، ومافيو Maffeo؛ وكانوا كلهم يعملون في تجارة بيزنطية ويعيشون في القسطنطينية. وانتقل نقولو ومافيو حوالي عام 1260 إلى بخارى حيث بقيا ثلاث سنين، ومنها سافرا في أعقاب بعثة سياسية تتارية إلى بلاط كوبلاي خان في شانجتو. وأعادهم كوبلاي في بعثة إلى البابا كلمنت الرابع؛ واستغرقت عودتهما إلى البندقية ثلاث سنين، فلمّا جاء إليها كان كلمنت قد مات. وفي عام 1271 خرجا من البندقية عائدين إلى الصين، وأخذ نقولو معه ابنه ماركو الأصغر وكان وقتئذ في السابعة عشرة من عمره. وقضيا ثلاث سنين ونصف سنة في رحلتهما مخترقين قارة آسية عن طريق بلخ، وهضبة البامير، وكاشغر، ولوب تور، وصحراء غربي، وتنجوت. فلمّا وصلا إلى تنجوت كان ماركو في الحادية والعشرين من عمره؛ وأعجب به كوبلاس، وخصه بمناصب رئيسية، ووكل إليه القيام ببعثات هامة، وأبقى أفراد أسرة بولو الثلاثة في الصين سبعة عشر عاماً. ثم أبحروا عائدين إلى بلادهم، وقضوا في عودتهم ثلاث سنين عن طريق جاوة، وسومطرة، وسنغافورة، وسرنديب، والخليج الفارسي؛ ثم ساروا براً إلى طربزون، ومنها ركبوا السفينة إلى القسطنطينية والبندقية. فلمّا استقروا فيها لم يصدق أحد، كما يعرف العالم كله، القصص التي أخذ يقصها "ماركو ذو الملايين" عن "بلاد الشرق الفخمة". وأسر ماركو وهو يحارب في جيش مدينة البندقية في عام 1298، وألقي في سجون جنوى عاماً كاملاً، وفي أملى قصته على زميل له في السجن. وأثبتت بحوث الرواد بعدئذ صحة عناصر قصته كلها تقريباً، وكانت تعد من قبل غير معقولة. فقد وصف ماركو للمرة الأولى رحلة تخترق جميع بلاد آسية، وفي كتابه أول لمحة كتبها أوربي عن بلاد اليابان، وأول وصف صادق لبكين، وجاوة، وسومطرة، وسيام، وبورما، وسرنديب، وساحل زنجبار، ومدغشقر، وبلاد الحبشة؛ وكشف كتابه للغرب الستار عن بلاد الشرق، وساعد على فتح طرق جديدة للتجارة، ولانتقال الأفكار،وكان له نصيب في تشكيل علم الجغرافية الذي أوحى إلى كولمبس بالسفر إلى الشرق بالاتجاه نحو الغرب.

ولمّا تسع ميدان التجارة والأسفار أخذ علم رسم الخرائط يعود متثاقلاً إلى المستوى الذي بلغه في أيام أغسطس، وشرع الملاحون يُعِدُّن كتباً يُهتَدَى بها إلى الثغور التجارية، تحتوي خرائط، ورسوماً، وإرشادات للسائحين، وأوصافاً لمختلف المرافئ؛ وبلغت هذه الكتب على أيدي أهل بيزا وجنوى درجة كبرى من الدقة. وكانت خرائط العالم التي رسمها الرهبان في ذلك الوقت إذا قورنت بغيرها تسير على نمط محدد لا تحيد له ويصعب فهمها. وكانت رسائل أرسطو في علم الحيوان، وكتاب ثيوفراسطس الحجة في النبات، حافزاً قوياً لعقل الغرب المستيقظ من رقاده، فأخذ يكافح للخروج من القصص ومن أقوال بلني إلى علم الحيوان والنبات. وكان كل إنسان تقريباً في ذلك الوقت يعتقد أن الكائنات العضوية الصغيرة، بما فيها من الديدان والذباب، تتولد من تلقاء نفسها من التراب، والطين، والمواد المتعفنة، الفاسدة. وكادت الكتب التي تصف الحيوانات - الحقيقي منها والخرافي - وترسم صوراً لها تحل محل كتب علم الحيوان؛ وإذ كان الرهبان هم الذين يؤلفون معظم هذه الكتب فقد كان علم الحيوان يوصف في عبارات مستمدة من كتب اللاهوت بأنه مستودع للرموز المقوية للإيمان، وابتدعت منه مخلوقات إضافية ابتكرها الخيال للهو والتسلية، أو خلقتها الحاجة إلى التقى والصلاح. انظر مثلاً إلى قول الأسقف هونوريوس الأوتوني Honorius of Autun من رجال القرن الثاني عشر الميلادي: وحيد القرن، وحش شديد الافتراس له قرن واحد، فإذا أريد القبض عليه وُضعت في الحقل فتاة عذراء، إذا رآها اقترب منها واستراح في حجرها، وبذلك يُقبض عليه. ويمثل هذا الحيوان المسيح، ويمثل قرنه قوة المسيح التي لا تُغلب... فقد انتزعه الصيادون وهو في رحم عذراء - أي أن الذين أحبوا المسيح وجدوه في صورة إنسان(42).

وكان أقرب كتب الأحياء إلى العلم الصحيح في العصور الوسطى هو كتاب فردريك الثاني المسمى "فن القنص بالطير" وهو رسالة في هذا الفن في 589 صفحة، تعتمد فيما تعتمد عليه على المخطوطات اليونانية والإسلامية، ولكن الجزء الأكبر منها مستمد من الملاحظة والتجربة. وكان فردريك نفسه من أشهر الصائدين بالبزاة؛ ويحتوي وصفه لأجسام الطير على عدد كبير من المعلومات الأصيلة التي لم يسبقه إليها غيره من المؤلفين، ويدل تحليله لطيران الطيور وهجرتها، وتجاربه في تفريخ البيض بالطرق الصناعية، وأعمال الصقورة، على روح علمية لا نظير لها في أيامه(43). وقد وضح فردريك نصوص كتابه بمئات من صور الطير، ربما كانت من صنع يده - وهي رسوم "صادقة حتى في أدق التفاصيل"(44). ولم تكن مجموعات الحيوانات التي جمعها، مجرد هوى شاذ يقصد به التظاهر كما كان يظن بعض معاصريه، بل كانت معملاً يدرس فيه دراسة مباشرة مسلك الحيوانات. وبذلك كان هذا الإسكندر أرسطو نفسه.


الفصل الرابع: المادة والطاقة

كان حظ الطبيعة والكيمياء أحسن من حظ علمي طبقات الأرض والأحياء، ذلك أن قوانينهما وعجائبهما كانت في جميع الأوقات أكثر ائتلافاً مع عقيدة الإيمان بالله من "أنياب العالم الطبيعي ومخالبه الحمراء". ويدلنا على قوة هذه العلمين في بداية تلك الفترة ما كان يبذله ألفر المالمزبري Oliver of Malmesbury من جهود لصنع طائرة؛ فقد أتم في عام 1065 تركيب جهازه، وعلا به في الجو من مكان مرتفع ولقي حتفه(45). ولمع في عالم الميكانيكا في القرن الثالث عشر اسم عظيم، اسم راهب دمنيكي سبق إسحق نيوتن إلى عدد من المبادئ الأساسية في هذا العلم. ذلك هو جردانس نموراريوس Jordaus Nemorarius الذي أصبح في عام 1222 القائد الثاني للرهبان الدمنيكيين. وإن قيامه بأعماله الباهرة في ميدان العلوم الطبيعية ليشهد بما كان عليه الإخوان الواعظون من حماسة عقلية وغيرة علمية. وقد ألف هذا الراهب ثلاث رسائل في العلوم الرياضية نافس فيها رسائل فيبوناتشي في شجاعته ونفوذه العظيم، استخدم فيها الأرقام الهندية،وارتقى بعلم الجبر بحرصه الدائم على استعمال الحروف بدل الأرقام في قوانينه العامة. وقد درس في كتابه Elementa super demonstrationem ponderis فعل الجاذبية في مسير جسم متحرك، ووضع القانون المعروف الآن باسم بديهية جردانس. وهو أن القوة التي تستطيع رفع جسم معين إلى ارتفاع معين تستطيع رفع جسم أثقل من الأول ك المرات إلى ارتفاع يقل عن الارتفاع الأول ك المرات. وحلل في رسالة أخرى De ratione ponderis (لعل مؤلفها أحد تلاميذه) فكرة قوة السكون - حاصل قوة ما في طول ذراع رافعتها، واستبق الأفكار الحديثة في ميكانيكية الروافع والمستويات المائلة(46). وحاولت رسالة أخرى تعزى إلى "مدرسة جوردانس" أن تعبر عن نظرية الإزاحة الافتراضية - وهي المبدأ الذي قدره فيما بعد ليوناردو دافنشي،وديكارت، وجون برنولي John Bernoulli وصاغه آخر الأمر ج. ولارد جبز J.Willard Gibbs في القرن التاسع عشر.

وأثر تقدم الميكانيكا في الاختراع تأثيراً بسيطاً. من ذلك أن ربرت الإنجليزي Robert of England عرض في عام 1271 نظرية رقاص الساعة عرضاً واضحاً؛ وفي عام 1288 نسمع عن ساعة كبيرة في برج بوستمنستر، كما نسمع حوالي ذلك الوقت نفسه عن ساعات ضخمة مثلها في كنائس أخرى بالقارة الأوربية؛ ولكننا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن هذه الساعات كانت آلات ميكانيكية كاملة؛ أما أول ذكر صريح لساعة تدار بالبكرات، والأثقال، والتروس فيرجع تاريخه إلى عام 1320(47).

وكان أكثر فروع علم الطبيعة نجاحاً في ذلك الوقت هو علم البصريات، ذلك أن رسالة ابن الهيثم العربية التي ترجمت إلى اللاتينية قد فتحت آفاقاً جديدة في بلاد الغرب؛ وقد تحدث ربرت جروستستي عن هذا العلم في مقال له عن قوس قزح نشر حوالي عام 1230 عن "فرع ثالث من فن المنظور... لم يطرق بابه ولم يعرفه بيننا أحد حتى هذا الوقت... (وهو) يعرفنا كيف نجعل الأشياء الشديدة البعد عنا تبدو شديدة القرب منا، وكيف نجعل الأشياء الكبيرة القريبة التي تبدو جد صغيرة، وكيف نجعل الأشياء البعيدة تظهر بالحجم الذي نريده.

ويضيف إلى ذلك قوله إنه يمكن الوصول إلى هذه الأشياء العجيبة بتكسير "شعاع الضوء" وذلك بجعله يمر خلال عدة أجسام شفافة، أو عدسات مختلفة التركيب. وافتتن تلميذه روجر بيكن بهذه الآراء أيما افتتان. وبحث جون بكهام، وهو في أغلب الظن تلميذ من تلاميذ جروستستي في جامعة أكسفورد، في انعكاس الضوء، وانكساره، وتركيب العين في رسالة سماها فن المنظور العام Perspetiva Communis؛ وإذا ذكرنا أن بكهام أصبح بعدئذ كبير أساقفة كنتربري، أدركنا مرة أخرى ما كان بين العلوم وكنيسة العصور الوسطى من وفاق. وكان من نتائج هذه الدراسات في الضوء اختراع النظارات. فقد كانت المجاهر - النظارات المكبرة - معروفة لليونان الأقدمين(48)، ولكن يبدو أن صنع هذه النظارات بحيث تجمع الأشعة جمعاً صحيحاً وهي قريبة من العين كان لابد أن ينتظر البحوث التي تجري في هندسة انكسار الضوء. وتوجد وثيقة صينية ترجع إلى تاريخ غير موثوق بصحته بين عامي 1260 و1300 تتحدث عن نظارات تسميها آي تاي Ai tai يستطيع بها كبار السن أن يقرءوا الكتابة الدقيقة. وجاء في موعظة لراهب دومنيكي ألقاها في بيسانزا عام 1305: "منذ عشرين عاماً قبل هذا الوقت كشف فن صنع النظارات (أكشيالي Occhiali) التي تمكن الإنسان من أن يحسن القراءة... ولقد تحدثت بنفسي إلى الرجل الذي كان أول من كشفها وصنعها". وورد في خطاب مؤرخ عام 1289: "لقد تقدمت بي السنون حتى أصبحت عاجزاً من القراءة والكتابة بغير النظارات المسماة (أكيالي okiali) التي اخترعت من وقت قريب". ويعزى فضل اختراعها عادة إلى سلفينودا مارتو Salvino da Marto الذي كُتب على شاهد قبره المصنوع في عام 1317 "مخترع النظارات". وفي عام 1305 أعلن طبيب من منبلييه أنه أعد غسيلاً للعين يجعل الإنسان في غنى عن النظارات(49). وكانت قوة المغنطيس الجاذبة معروفة هي الأخرى لليونان، ويلوح أن الصينيين هم الذين كشفوا في القرن الأول الميلادي قدرته على تعيين الاتجاه. وتعزو إحدى الروايات الصينية المتواترة إلى المسلمين أول استعمال للإبرة المغنطيسية في إرشاد السفن حوالي عام 1093. وأكبر الظن أن استعمالها كان واسع الانتشار بين الملاحين المسلمين والمسيحيين قبل نهاية القرن الثاني عشر ؛ وترجم أقدم إشارة لهذا الاستعمال عند المسيحيين إلى عام 1205، وعند المسلمين إلى عام 1282(50)، ولكن لعل الذين عرفوا هذا السر الثمين من زمن طويل لم يتعجلوا في إذاعته؛ يضاف إلى هذا أن الملاحين الذين كانوا يفيدون من هذا الاختراع كانوا يُرتاب في أمرهم فيظن أنهم سحرة، وبلغ من أمرهم أن بعض الملاحين رفضوا أن يسافروا مع أمير سفينة يحتفظ معه بهذه الآلة الشيطانية(51). ونجد أول وصف معروف لبيت إبرة تتحرك على نقطة ارتكاز في رسالة في المغنطيسية كتبها بطرس برجرينس Petrus Peregrinus في عام 1269. وقد سجل الحاج بطرس هذا كثيراً من التجارب، ودعا إلى الطريقة التجريبية، وأوضح فعل المغنطيس في جذب الحديد، ومغنطة غيره من الأجسام، وتعيين اتجاه الشمال، وحاول كذلك أن يصنع آلة دائمة الحركة تعمل بمغنطيسات تولد بنفسها القوة اللازمة لتحريكها(52).

وكانت البحوث في الكيمياء الكاذبة أكبر العوامل في تقدم علم الكيمياء؛ فقد أخذت النصوص العربية في هذا العلم تترجم إلى اللاتينية من القرن التاسع وما بعده، وما لبثت البحوث الخاصة بهذا النوع من الكيمياء أن انتشرت في بلاد الغرب حتى لم تخل منها الأديرة نفسها. فقد نشر الأخ إلياس خليفة القديس فرانسس كتاباً في الكيمياء القديمة طلبه إليه فردريك الثاني؛ وكتب راهب فرنسيسي آخر يشايع فكرة تحويل المعادن بعضا إلى بعض؛ وكان أشهر الكتب الطبية كلها في ذلك العهد كتاب في العلل يعرض الكيمياء القديمة والتنجيم كما وردا في كتاب مدسوس على أرسطو. وكان عدد من ملوك أوربا يستخدمون الكيميائيين القدامى ليسدوا ما ينقص من أموال خزائنهم بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب(53). وواصل غيرهم من المتحمسين البحث عن إكسير الحياة وحجر الفلاسفة. ولم تنقطع هذه البحوث رغم أن الكنيسة حرّمتها في عام 1307 ووصفتها بأنها من البحوث الشيطانية، ولعل بعض المؤلفين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أرادوا النجاة من غضب الكنيسة بأن عزوا مؤلفاتهم إلى "جبر" Gebir المسلم.

وأضافت التجارب الطبية على العقاقير معلومات كثيرة إلى علم الكيمياء، كما أن العمليات الخاصة بالصناعة كادت ترغم على الكشف إرغاماً، وأفاد على الكيمياء فوائد جمة من أعمال عصر الجعة، وصنع مواد الصباغة، والخزف، والميناء، والزجاج، والغَراء، واللك، والمداد، ومواد التجميل. وألّف بطرس العمري Peter of St. Omer حوالي عام 1270 كتاب صنع الألوان libier de coloribus fasciendis، فيه ذِكر لعدد من المواد الملوّنة المستخدمة في التصوير تصف واحدة منها كيفية صنع ألوان زيتية بخلط المواد الملونة بزيت بذر الكتان(54). ونشرت حوالي عام 1150 رسالة تعرف باسم Magister Salernus - ربما كانت من رسائل مدرسة الطب في سلرنو - ذكر فيها تقطير الكحول؛ وكان هذا أول ذكر صريح لهذه العملية المنتشرة في جميع أنحاء العالم في هذه الأيام. وكانت الأقطار التي تنتج العنب تقطر النبيذ وتسمى ما ينتج من تقطير هذا العصير ماء الحياة eau de vie aqua vitae. أما بلاد الشمال ذات العنب القليل والبرد القارس فكانت تجد تقطير الحبوب أقل نفقة من تقطير العنب؛ وكان لفظ يسكبيثاuisqebeatha الكلتي الذي اختصر فصار وسكي whisky يعني أيضاً "ماء الحياة"(55). على أن التقطير كان معروفاً عند الكيميائيين المسلمين قبل ذلك الوقت بزمن طويل، غير أن استكشاف الكحول ثم استكشاف الأحماض المعدنية بعد ذلك في القرن الثالث عشر وسّعا دائرة المعارف الكيميائية وآفاق الصناعة توسيعاً كبيراً.

ويكاد يضارع تقطير الكحول فيما له من آثار خطيرة استكشاف البارود.ويرتاب العلماء الآن فيما كان يظن قديماً من سبق الصينيين إلى هذا الاختراع.وليست في المخطوطات العربية ذكر صريح به قبل عام 1300(56). وكانت أول إشارة معروفة لهذه المادة المفرقعة هي التي وردت في كتاب النيران لحرق الأعداء الذي ألفه ماركس غريقس Marcus Graecus حوالي عام 1270، فقد وصف مارك اليوناني النار اليونانية والتألق الفسفوري، ثم وصف طريقة عمل البارود فقال: حوّل إلى مسحوق دقيق - كلاً على انفراد - رطلاً من الكبريت الحي، ورطلين من الفحم النباتي المصنوع من شجر الليمون الحامض أو الصفصاف، وستة أرطال من ملح البارود (نترات البوتاسيوم)، ثم أمزجها كلها(57). ولم نعثر على ذكر لاستخدام البارود في الأعمال الحربية قبل القرن الرابع عشر.


الفصل الخامس: إحياء علم الطب

يخلط الفقر على الدوام بين الأساطير والطب لأن الأساطير حرة لا ثمن لها والعلم غال عزيز المنال. والصورة الأساسية لطب العصور الوسطى هي صورة الأم ومخزنها الصغير من وسائل العلاج المنزلية؛ والنساء العجائز غزيرات العلم بالأعشاب واللاصوق، والرقى السحرية؛ وجامعي حشائش التطبيب يطوفون بها على الناس، والعقاقير المجربة ذات الفائدة الأكيدة، والحبوب ذات القوة المعجزة؛ والقابلات المتأهبات على الدوام لفصل الحياة الجديدة عن القديمة في عملية الولادة المخزية السخيفة، والدجالين المتأهبين لمداواة الناس أو قتلهم نظير أتفه الأجور؛ والرهبان بما ورثوه من طب الأديرة؛ والراهبات يواسين المرضى في هدوء بما يقدمن لهم من خدمات أو دعوات صالحات؛ والأطباء المدربين في أماكن متفرقة يعالجون القادرين ويمارسون طبهم القائم على أسا علمي إلى حد ما. وانتشرت العقاقير الغريبة المروعة والصيغ السحرية العجيبة؛ وكما أن بعض الحجارة إذا أمسكت باليد كانت في رأي بعض الناس تمنع الحمل، كذلك كانت بعض النسوة وبعض الرجال - حتى في سلرنو مدينة الطب نفسها - يأكلون روث الحمير لتقوى قدرتهم على الإخصاب.

وظل بعض رجال الدين يمارسون الطب حتى عام 1139، وكل ما كان هناك من علاج في المستشفيات كان يوجد عادة في الملاجئ أديرة الرجال والنساء. وكان للرهبان فضل عظيم في حفظ التراث الطبي من الضياع، وهم الذين مهدوا السبيل لزراعة النباتات الطبية، وربما كانوا يعرفون ما يفعلون وهم يخلطون الطب بالمعجزات. وحتى الراهبات أنفسهن كن في بعض الأحيان يحذقن علاج المرضى؛ فقد كتبت هليجاردي Hildergarde المتصوفة رئيسة دير بنجن Bengin كتاباً في الطب العلاجي - هو كتاب العلل والعلاج (حوالي عام 1150) - وكتاباً في المواد الطبية أفسدته في بعض مواضعه بالرقى السحرية ولكنه مليء بالمعلومات الطبية. وربما كانت الرغبة في القيام بالخدمة الطبية الدائمة من البواعث على التجاء الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء إلى الأديرة. ولمّا أن تقدم الطب الذي يمارسه غير رجال الدين، وسرى حب الكسب في القائمين على العلاج في الأديرة، وحرّمت الكنيسة في أوقات مختلفة (1130، 1339، 1663)على رجال الدين ممارسة الأعمال الطبية جهرة، ولم يحل عام 1200 حتى كاد هذا الفن القديم كله يصبح في أيدي غير رجال الدين.

ويرجع أكبر الفضل في بقاء الطب العلمي في بلاد الغرب أثناء العصور المظلمة إلى الأطباء اليهود، الذين نشروا المعلومات الطبية اليونانية - العربية في بلاد العالم المسيحي، وذلك عن طريق الثقافة البيزنطية التي انتشرت في جنوبي إيطاليا وترجمة الرسائل الطبية اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية. وربما كانت مدرسة سلرنو الطبية قائمة في أحسن المواقع، وكانت أحسن المدارس استعداداً للإفادة من هذه المؤثرات؛ فقد كان الأطباء اليونان، واللاتين، والمسلمون، واليهود يعلمون أو يتعلمون فيها؛ وظلت حتى القرن الثاني عشر أكبر المعاهد الطبية في أوربا اللاتينية. وكانت النساء يدرسن التمريض والقبالة في سلرنو(59). وأكبر الظن أن النساء اللاتي يسمين طبيبات سلرنو كن قابلات تدربن في تلك المدرسة. وكان من أشهر ما أخرجته مدرسة سلرنو الطبية رسالة في التوليد نشرت في القرن الثاني عشر بعنوان: ترتولا وعلاج أمراض النساء، وأكثر المؤرخين مجمعون على أن ترتولا Trotula هذه كانت قابلة في سلرنو(60) ولقد وصلتنا من مدرسة سلرنو عدة رسائل هامة تشمل فروع الطب كلها تقريباً منها رسالة لأرخماثيوس Archimatheus تصف حال الطبيب وهو واقف بجوار سري المريض: يجب أن يتحلى الطبيب وهو ينظر إلى حال المريض بالرزانة، حتى لا تقلل من مكانته خاتمة المريض السيئة، وهو يضيف شفاؤه عجيبة أخرى إلى ما اشتهر به من العجائب؛ وعليه ألاّ يغازل زوجة المريض أو ابنته أو خادمته؛ وحتى إذا لم تكن ثمة ضرورة بدواء ما وجب عليه أن يصف له مركباً عديم الضرر، حتى لا يظن المريض أن العلاج لا يساوي أجر الطبيب، وحتى لا يظن أن الطبيعة هي التي شفت المريض دون معونة الطبيب(61).

وحلت جامعة نابلي محل مدرسة سلرنو بعد عام 1268، حتى لم نعد نسمع عن هذه المدرسة إلاّ الشيء القليل. وكان خريجوها قبل ذلك العام قد نشروا طب سلرنو في طول أوربا وعرضها. وكان ثمة مدارس للطب صالحة في القرن الثالث عشر في بولونيا، وبدوا، وفرارا، وبروجيا، وسينا، ورومة، ومنبلييه، وباريس، وأكسفورد؛ وامتزجت في هذه المدارس التقاليد الطبية الثلاثة الشهيرة - اليونانية، والعربية، واليهودية، وامتصتها امتصاصاً تاماً،وصيغ التراث الطبي كله صياغة جديدة حتى أصبح هو أساس علم الطب الحديث، واحتفظ أسلوبا التشخيص القديمان - وهما فحص جدران الصدر بالمسماع وتحليل البول - بشهرتهما وكثرة استعمالهما (ولا يزالان يحتفظان بهما إلى يومنا هذا). وبلغ من انتشارهما أن كانت المبولة رمز مهنة الطب أو دلالتها في بعض الأماكن(62). كذلك بقيت أساليب العلاج القديمة بالمسهلات والحجامة؛ وكان الطبيب في إنجلترا "مركب عَلَق". وكانت الحمامات الحارة من طرق العلاج المحببة. فكان المرضى يسافرون "ليأخذون الماء" من العيون المعدنية. وكان الطعام الخاص بالمرضى يوصف وصفاً دقيقاً في الأمراض كلها تقريباً(63)، ولكن العقاقير الطبية كانت موفورة، فقلّما كان هناك عنصر من العناصر لا يستخدم في العلاج - من الأعشاب البحرية (الغنية باليود) التي وصفها روجر السلرني عام 1180 لعلاج تضخم الغدة الدرقية إلى الذهب الذي كان يتعاطى "لتسكين آلام الأطراف"(64) - ويظهر أن هذه هي طريقتنا الحديثة لعلاج التهاب المفاصل. ويكاد كل عضو من أعضاء الحيوان يكون له عمل في أقرباذين العصور الوسطى - قرون الغزال، دماء التنين، وصفراء الأفاعي، ومنيّ الضفادع؛ وكان براز الحيوان يوصف في بعض الأوقات(65). وكان أكثر العقاقير استعمالاً هو الترياق theriacum، وهو مزيج غريب من نحو سبع وخمسين مادة أشهرها لحم الأفاعي السامة. وكانت عقاقير كثيرة تستورد من بلاد الإسلام وظلت محتفظة بأسمائها العربية.

ولمّا ازداد عدد الأطباء المدربين شرعت الحكومات تنظم صناعة الطب. من ذلك أن روجر الثاني صاحب صقلية قصر مهنة الطب على الذين ترخص لهم الدولة، وأكبر الظن أ،ه حذا في ذلك حذو السوابق الإسلامية القديمة. وحتم فردريك الثاني (1224) على من يريد ممارسة هذه المهنة أن يحصل على ترخيص بذلك من مدرسة سلرنو؛ فإذا أراد إنسان أن يحصل عليها وجب أن يتلقى منهاجاً يدوم ثلاث سنين في العلوم المنطقية Scientia logicali1 - ونظن أن معنى هذا اللفظ العلوم الطبيعية والفلسفة؛ وكان عليه بعدئذ أن يدرس الطب في المدرسة لمدة خمس سنين، وينجح في امتحانين، ويتمرن عاماً تحت إشراف طبيب مجرب(66).

وكانت كل مدينة ذات شأن تدفع أجور الأطباء لعلاج الفقراء مجاناً(67). وكان في بعض المدن أطباء موظفون. من ذلك أنه كان في أسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر طبيب تستأجره البلدية للعناية بقسم خاص من الأهلين، فكان يفحص في فترات محددة كل شخص في الإقليم المخصص له، ويسدي النصيحة له حسب ما يكشف عنه الفحص. وكان يعالج الفقراء في مستشفى عام، ويجبر على زيارة كل مريض ثلاث مرات في الشهر؛ فيصرح له في هذا الحال أن يطلب أجراً عن الزيارة التالية. وكان الطبيب الذي يؤدي هذه الخدمات يعفى من الضرائب ويتقاضى مرتباً سنوياً مقداره عشرون جنيها(68) قيمتها أربعة آلاف دولار في هذه الأيام .

وإذ كان الأطباء المرخصون قليلي العدد في أوربا المسيحية أثناء القرن الثالث عشر، فقد كانت أجورهم عالية، وكانت لهم منزلة اجتماعية سامية؛ فمنهم من جمعوا ثروات طائلة، ومنهم من أصبحوا من هواة جمع التحف الفنية، ومنهم من كانت لهم شهرة عالمية. فمن هؤلاء الأطباء بطرس هسبانس petrus Hispanus - بطرس من لشبونة وكمبوستلا Peter of Lisbon and Compostela - الذي هاجر إلى باريس ثم إلى سينا،وكتب أوسع كتب الطب انتشاراً في العصور الوسطى وهو كتاب كنز الفقراء، وخير بحث في علم النفس في تلك العصور وهو كتاب النفس De anima، وصار بعدئذ البابا يوحنا الحادي والعشرين في عام 1276، ثم قضى نحبه حين سقط عليه سقف في عام 1277. وكان أشهر طبيب مسيحي في ذلك الوقت هو آرنلد الفلانوفي (حوالي 1235-1311). وقد ولد بالقرب من بلنسية وتعلم اللغات العربية، والعبرية، واليونانية؛ ودرس الطب في نابلي، وعلمه هو أو الفلسفة الطبيعية في باريس، ومنبلييه، وبرشلونة، ورومة، وألف عدداً كبيراً من الكتب في الطب، والكيمياء، والتنجيم، والسحر، واللاهوت، وعصر النبيذ، وتفسير الأحلام. ولمّا عين طبيباً لجيمس الثاني ملك أرغونة أنذر الملك مراراً أنه إن لم يحم الفقراء من الأغنياء فإنه سوف يلقى إلى الجحيم(70). وكان جيمس يحبه رغم هذا التحذير ويرسله في كثير من البعثات الدبلوماسية. وهاله ما رآه في كثير من البلدان من البؤس والاستغلال، فأضحى من أتباع يواقيم الفورى Joachim of Flora وأعلن في رسائل يبعث بها إلى الأمراء والأحبار أن آثام الأقوياء وترف رجال الدين نذيران بخراب العالم. ورمى الرجل بالسحر الأسود والإلحاد وانهم بأنه صنع باستخدام الكيمياء سبائك من الذهب لربرت ملك نابلي. وأدانته محكمة الكنيسة ولكن البابا بنيفاس الثامن أطلق سراحه؛ ونجح في علاج البابا الشيخ من حصى في الكلى، فأهداه البابا قصراً في أنياني. ثم أنذر بنيفاس أنه إذا لم تصلح الكنيسة أحوالها، فسيحل عليها غضب الله سريعاً. وما لبث بنيفاس بعدئذ أن حلت به النوائب التي ذاعت أخبارها في طول البلاد وعرضها ومات من فرط اليأس. وظلت محكمة التفتيش تطارد آرنلد ولكن الملوك والبابوات كانوا يدافعون عنه لأنه يداوي أسقامهم، إلى أن مات غريقاً أثناء بعثة من قبل جيمس الثاني لكلمنت الخامس(71).

هذا من حيث الطب، أما الجراحة في ذلك الوقت فقد كانت تحارب في جبهتين إحداهما ضد الحلاقين والثانية ضد المطببين العموميين. فقد كان الحلاقون من زمن بعيد يعطون الحقن، ويخلعون الأسنان، ويعالجون بالجروح، ويحجمون. وكان الجراحون الذين تلقوا تدريباً طبياً يحتجون على أداء هذه الخدمات التي تستخدم فيها القوة العضلية، ولكن القانون ظل يحمي الحلاقين طوال العصور المظلمة كلها، حتى لقد ظل من واجبات جراحي الجيش في بروسيا إلى عهد فردريك الأكبر أن يحلقوا ذقون الضباط(72). وكان من نتائج هذا الخلط في الواجبات أن ظل الجراحون أقل منزلة من الأطباء في العلم وفي نظر المجتمع، فكان ينظر إليهم على أنهم صناع بسطاء يطيعون أوامر الطبيب الذي كان قبل القرن الثالث عشر يستنكف أن يمارس الجراحة بنفسه(73). وكان مما يثبط همم الجراحين زيادة على هذا خشيتهم من السجن أو الموت إذا أخفقوا في أعمالهم؛ ولم يكن يجرؤ على القيام بالجراحات الخطرة إلاّ أعظمهم شجاعة؛ وكان معظم الأطباء يطلبون قبل إقدامهم على هذه المجازفة ضماناً كتابياً بأنهم لن يصيبهم مكروه إذا أخفقوا في عملهم(74).

ومع هذا فقد تقدمت الجراحة في ذلك الوقت أسرع من تقدم أي فرع آخر من فروع الطب؛ ويرجع بعض السبب في هذا إلى أنها كانت تعنى بأحوال قائمة لا بنظريات، كما يرجع بعضه إلى ما كان يتاح للجراحين من فرص قيمة في معالجة جراح الجنود. ونشر روجر السالرني حوالي 1170 كتابه العمليات الجراحية وهو أقدم رسالة في الجراحة معروفة في بلاد الغرب المسيحية؛ وظلت هذه الرسالة من المراجع الهامة ثلاثة قرون، وفي عام 1238 أمر فردريك الثاني أن تشرح جثة كل مرة خمس سنوات في سالرنو(75)؛ وظل تشريح الجثث يجري بانتظام في إيطاليا بعد عام 1275(76). وفي عام 1286 فتح طبيب في كرمونا جثة ليدرس عليها سبب وباء انتشر في ذلك الوقت، فكان هذا أول تشريح لجثة بعد الموت لمعرفة سبب الوفاة؛ وفي عام 1266 بدأ تيودريكو برجنيوني Theodorico Brogonomi أسقف سرفيا Cervia كفاحاً طويلاً في الطب الإيطالي ضد الفكرة العربية القائلة إن تكوين الصديد يجب أن يشجع أولاً في علاج الجروح؛ ويعد بحثه من أعظم البحوث في طب العصور الوسطى. وخطا ججليلمو ساليستي Guglielmo Salicetti - وليم الساليستوي Wiliam of Saliceto (1210-1277) - أستاذ الطب في جامعة بولونيا خطوات كبيرة إلى الأمام في تحسين الجراحة، وذلك في كتاب الجراحة الذي صدر في عام 1275. وقد قرن في هذا الكتاب التشخيص الجراحي بمعرفة الطب الباطني،وكان يعنى بالاحتفاظ بسجلات للمرضى، وأظهر كيف يوصل الأعصاب المنفصلة، ودعا إلى استعمال المشرط بدل الكي الذي كان واسع الانتشار عند الأطباء المسلمين، لأن جروح المشرط أضمن من النار شفاءً ولا تترك أثر في الجسم مثل ما تتركه النار. وقال وليم في رسالة عامة إن سبب تضخم الغدة اللمفاوية والقرحة الزهرية هو الاتصال الجنسي بعاهر مصابة بالمرضين، ووصف داء الاستسقاء وصفاً دقيقاً وقال إنه ينشأ من تحجر الكليتين وضيقهما، وأسدى نصائح طبية ممتازة في الصحة والتغذية لكل سن في حياة الإنسان.

ونقل تلميذاه هنري المندفيلي Henri de Mondeville (1260-1320) وجيدو لانفرانشي Guido Lanfranchi (المتوفى عام 1315) المعارف الطبية من بولونيا إلى فرنسا. وعمل المندفيلي ما عمله تيودوريكو فحسن طرق التعقيم بأن دعا إلى العودة إلى طريقة أبقراط وهي الاحتفاظ بالجرح نظيفاً بأبسط الوسائل. ولما نفي لانفرانشي من ميلان في عام 1290 انتقل إلى ليون وباريس، وألف كتاب التشريح الكبير Chirurgia Magna الذي أصبح المرجع المعتمد في هذا العلم في جامعة باريس. وقد وضع لافرانشي مبدأ بفضله أنقذ علم التشريح من الرسائل الهمجية وهو: "ليس في وسع إنسان أن يكون طبيباً قديراً إذا كان يجهل علم التشريح، وليس في مقدور إنسان ما أن يجري جراحات ناجحة إذا كان يجهل الطب". وكان لافرانشي أول من استخدم تشريح الأعصاب لعلاج التتنوس، وإدخال أمبوبة في المريء، وهو أول من أدلى بالوصف الجراحي لارتجاج المخ. وقصارى القول أن الفصل الذي وصف فيه إصابات الرأس من المعالم البارزة في تاريخ الطب.

وقد ورد ذكر الجرعات المنومة في كتب أرجن Origen، (185-254) وهيلاري أسقف بواتيه Hilary Bishop of Poitiers (حوالي 353). وكانت طريقة التخدير المألوفة في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى هي طريقة الاستنشاق مصحوبة في أغلب الظن بشرب مزيج أساسه المندرغورة ، ومحتو في العادة على الأفيون وعصير الشوكران، والتوت. وقد ورد ذكر هذه "الإسفنجة المنومة" في القرن التاسع وما بعده(78). أما التخدير الموضعي فكان يستعان عليه بضمادة غمست في محلول شبيه بهذا. وكان المريض يوقظ بتشميمه عصير الشمر. ولم تكن أدوات الجراحة وقتئذ قد تقدمت عما كانت عليه عند اليونان الأقدمين؛ أما فن التوليد فقد انحط عما كان عليه في عهد سورانس Soranus (عام 100م) وبولس الإنجيني paul of Aegina (حوالي 240م). وقد ذكرت العملية القيصرية في الأدب، ولكن يبدو أنها لم يكن يلجأ إليها. وكان تقطيع الجنين عند تعسر الولادة لتخليصه من الرحم يلجأ إليه في كثير من الأحيان لأن القابلة قلّما كانت تعرف كيف تغير وضع الجنين.وكانت الولادة تحدث في كرسي يعد لهذا الغرض خاصة(79). وتقدمت المستشفيات وقتئذ عما عرف عنها في أي عصر من العصور القديمة. فقد كان عند اليونان الأقدمين مؤسسات دينية لعلاج المرضى؛ وأنشأ الرومان مستشفيات لعلاج جنودهم، ولكن نظم الصدقات المسيحية كانت هي السبب في تقدم نظام المستشفيات تقدماً كبيراً.وحسبنا أن نذكر عن هذا التقدم أن القديس باسيلي أسس في مدينة قيصرية من أعمال كبدوكيا داراً تسمى الباسلياس نسبة إليه، كان فيها عدة مبان للمرضى، والممرضات، والأطباء، والمصانع، والمدارس. وافتتح القديس إفرايم Ephraim مستشفى في الرها عام 375؛ وأنشئت مستشفيات أخرى في جميع أنحاء الشرق اليوناني وتخصصت وتنوعت. وكان عند اليونان البيزنطيين مصحات للمرضى، وملاجئ للقطاء، وأخرى لليتامى، وملاجئ للفقراء، وغيرها للفقراء أو العاجزين من الحجاج، أو للشيوخ الطاعنين في السن. وقد أسست فابيولا Fabiola في رومة عام 400 أول مستشفى في البلاد المسيحية اللاتينية وأنشأت أديرة كثيرة مستشفيات صغيرة، وقام عدد من الرهبان - رهبان المستشفيات، ورهبان المعبد، والأنطونيين، والألكسيين Alexians، - والراهبات بالعناية بالمرضى. ونظم إنوسنت الثالث في روما عام 1204 مستشفى الروح القدس Santo Spirito، وقامت بوحي منه مؤسسات من نوعه في جميع أنحاء أوربا، فكان في ألمانيا وحدها في القرن الثالث عشر أكثر من مائة من "مستشفيات الروح القدس". وكانت المستشفيات في فرنسا تعنى بالفقراء، والطاعنين في السن، والحجاج، كما تعنى بالمرضى؛ وكانت كمؤسسات الأديرة تستضيف هذه الطوائف؛ وأنشأ لويس التاسع حوالي عام 1260 ملجأ في باريس يدعى الثلاثمائة Les quinze-vingt؛ وكان في بادئ الأمر مأوى للمكفوفين، ثم أضحى مستشفى للرمد، وهو الآن من أهم المراكز الطبية في باريس؛ وأنشئ أول المستشفيات الإنجليزية المعروفة في التاريخ (وليس من الضروري أن يكون أول ما أنشئ منها في إنجلترا) بكنتربري عام 1084. وكانت هذه المستشفيات تقوم في العادة بأداء الخدمات بالمجان لمن يعجزون عن أداء الأجور، وكانت ممرضاتها (ماعدا مستشفيات أديرة الرجال) من الراهبات. واتخذت الأثواب التي ترتديها "ملائكة الرحمة ورسلها"، وهي التي تبدو في نظرنا مرهقة لهن، في القرن الثالث عشر، وأكبر الظن أنها اتخذت هذا الشكل لحمايتهن من الأمراض المعدية؛ ولهذا السبب عينه جرت عادة قص الشعر وتغطية الرأس(80). وتطلب مرضان معينان اتخاذ وسائل خاصة للوقاية، وهذان المرضان هما "نار القديس أنطونيوس"، وهو وباء جلدي - لعله مرض الجمرة - وهو مرض بلغ من خبثه أن تألفت حوالي عام 1095 طائفة من الرهبان هي جماعة الأنطونيين لمعالجة ضحاياه. ويذكر جريجوري التوري Gregory of Tours (حوالي عام 560) مستشفيات الجذام؛ وتألفت جماعة القديس لازار St. Lazarus من الرهبان للخدمة في مستشفيات الجذام. وكانت أمراض ثمانية تعد من الأمراض المعدية: وهي الطاعون الدملي، والتدرن الرئوي، والصرع، والجرب، والحمرة، والبثرة الخبيثة، والرمد الحبيبي، والجذام. وكان يحرم على المصاب بأحد هذه الأمراض أن يدخل مدينة إلاّ معزولاً عن غيره، أو أن يعمل في بيع الطعام أو الشراب. وكان يفرض على المجذوم أن يحذر الناس من اقترابه بالنفخ في قرن أو بدق ناقوس. وكان مرضه يبدو عادة في شكل طفح صديدي على الوجه والجسم. وليس هذا المرض شديد العدوى، ولكن أكبر الظن أن ولاة الأمور في العصور الوسطى كانوا يخشون انتشاره بطريقة الجماع. وربما كان هذا اللفظ شمل فيما يشمله، ما يعرف الآن عند الأطباء بأنه مرض الزهري، ولكننا لا نجد إشارة صريحة لهذا الداء قبل القرن الخامس عشر(81). ويبدو أنه لم تتخذ أية وسيلة خاصة لعلاج المصابين بأمراض عقلية قبل القرن الخامس عشر.

وعانت العصور الوسطى من فتك الأوبئة أكثر مما عاناه أي عصر آخر معروف، وذلك لأن الفقر كان يحول بين أهلها وبين النظافة أو الغذاء الصالح ومن أمثلة ذلك "الوباء الأصفر" الذي اجتاح أيرلندة في عامي 550 و664 وأهلك كما تقول الأخبار غير الموثوق بصحتها ثلثي الأهلين(82). واجتاحت أوبئة مثله بلاد ويلز في القرن السادس، وإنجلترا في القرن السابع. وفشا في فرنسا وألمانيا في أعوام 994، 1043، 1089، 1130وباء يسميه الفرنسيون mal des ardents (وباء الاحتراق) وقد وصف بأنه يحرق الأمعاء. وربما كان الصليبيون هم الذين نشروا وبائي الجذام والأسقربوط، ويبدو أن مرض التثني البولندي Plica Polonica- وهو مرض من أمراض الشعر- قد جاء به الغزاة المغول إلى بولندة حين غزوها في عام 1287. وكان السكان البائسون يعزون هذه الأوبئة للقحط، والجدب، وجيوش الحشرات، وتأثير النجوم، وتسميم اليهود لآبار المياه، أو غضب الإله. وأقرب من هذه الأسباب إلى العقل ازدحام المدن الصغيرة المسورة بالسكان، وعدم وجود الاحتياطات الصحية أو مراعاة قواعدها، وما ينشأ عن ذلك من ضعف مقاومة الأهلين للعدوى التي يحملها الجنود والحجاج والطلاب العائدون إلى أوطانهم(83). وليست لدينا إحصاءات عن عدد الموتى في العصور الوسطى ولكن أكبر الظن أن الذين كانوا يصلون إلى سن النضوج لم يزيدوا على نصف المواليد،وكانت خصوبة النساء تعمل جاهدة للتكفير عن غباء الرجال وبسالة الجنود.

وتحسنت وسائل المحافظة على الصحة العامة في القرن الثالث عشر.ولكنها لم تبلغ قط في العصور الوسطى الدرجة الممتازة التي بلغتها أيام الإمبراطورية الرومانية. وكانت معظم المدن، وأحياء المدن، تعين موظفين للعناية بشوارعها(84)،ولكن أعمال هؤلاء الموظفين كانت بدائية. وكان من يزورون المدن المسيحية من المسلمين يشكون - كما يشكو من يزورون المدن الإسلامية من المسيحيين في هذه الأيام - من قذارة "مدن الكفار" ورائحتها الكريهة(85). فق كانت الفضلات وأقذار البالوعات تجري فوق البالوعات في شوارع كمبردج التي تبلغ الآن درجة كبرى من الجمال والنظافة، وكانت تنبعث منها "روائح كريهة... يمرض منها الكثيرون من المدرسين والطلاب"(86). وكانت لبعض المدن في القرن الثالث عشر قنوات مغطاة لنقل ماء الشرب، وبالوعات، ومراحيض عامة؛ وكانت الأمطار هي التي يعتمد عليها في معظم المدن لاكتساح الأقذار، وكان تدنيس الآبار ينشر وباء التيفود؛ وكانت المياه التي تستخدم في عمل الخبز وعصر الخمر تؤخذ عادة- في البلاد الواقعة في شمال الألب- من المجاري المائية التي تتلقى أقذار المدن(87). وكانت إيطاليا أكثر رقياً من غيرها من البلدان، وأكبر السبب في هذا ما ورثته عن الرومان، وما سنه فردريك الثاني، من تشريعات مستنيرة لإزالة الأقذار،ولكن عدوى الملاريا الناشئة من المستنقعات المحيطة بها جعلت رومة مدينة غير صحية، قتلت كثيرين من كبار موظفيها وزائريها، وأنجت المدينة بين الفينة والفينة من الجيوش المعادية التي استسلمت للحمى وسط انتصاراتها.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس: ألبرتس مجنس 1193-1280

تبرز أمامنا في تلك الفترة من الزمان أسماء ثلاثة رجال وهبوا أنفسهم للعلم: أدلارد الباثي Adelard of Bath، وألبرت العظيم، وروجر بيكن. فأما أدلارد فقد تلقى العلم في كثير من الأقطار الإسلامية ثم عاد إلى إنجلترا وكتب (حوالي عام 1130) حواراً طويلاً سماه الأسئلة الطبيعية يشمل كثيراً من العلوم. ويبدأ الكتاب على الطريقة الأفلاطونية بوصف اجتماع أدلارد بجماعة من أصدقائه، ويسألهم عن الحالة في إنجلترا، فيجيبونه بأن الملوك يشعلون نيران الحروب، والقضاة يرتشون، وكبار رجال الدين يسرفون في شرب الخمر، وأن العهود جميعها تنكث،والأصدقاء كلهم يتحاسدون. ويتقبل أدلارد هذا على أنه هو الحال الطبيعية التي لا تقبل التغيير، ويعرض على أصدقائه أن ينسوها. ويسأل ابنُ أخ لأدلارد عمَّه ماذا تعلم في بلاد المسلمين؟فيجيبه بأنه يفضل علوم المسلمين عن علوم المسيحيين، فيتحداه أصدقاؤه وتكون أجوبته لهم مختارات طريفة من جميع علوم ذلك العصر. ويندد فيها بما تفرضه التقاليد والسلطات من قيود ثقيلة ويقول: لقد تعلمت عن أساتذتي العرب أن أسترشد بالعقل، أما أنتم يا من أسرتكم... السلطات، فإنكم تسيرون إلى حيث يقودكم المقود والزمام... وماذا عسى أن تسمى السلطة غير المقود والزمام؟" إن الذين يحسبون الآن من أصحاب السلطان إنما حصلوا على سلطانهم باتباع العقل، لا السلطات. ثم يقول لابن أخيه: "فإذا شئت إذن أن تسمع مني أكثر مما سمعت فأعط العقل وخذه... إذ ليس شيء أكثر ضماناً من العقل... وليس شيء أكثر كذباً من الحواس(88)". ويدلي أدلارد ببعض الأجوبة الطريفة وإن كان يسرف في اعتماده على المنطق الاستدلالي. فإذا سئل ما الذي يمسك الأرض في الفضاء أجاب بأن أسفل الأرض ومركزها شيء واحد؛ ويسأل إلى أي مدى يسقط الحجر إذا ألقى في ثقب يخترق مركز الأرض إلى الجانب الآخر منها؟ فيجيب بأنه لا يصل إلاّ إلى مركز الأرض. وهو يذكر في وضوح مبدأ عدم فناء المادة، ويقول إن مبدأ الاستمرار العالي يجعل وجود الفراغ مستحيلاً. وجملة القول أن أدلارد برهان ساطع على يقظة العقل في أوربا المسيحية أثناء القرن الثاني عشر. فقد كان شديد التحمس لإمكانيات العلوم، ويسمّى في زهو وخيلاء عصره أي عصر أدلارد بالعصر الحديث(89)، وأعلى ما وصل إليه التاريخ كله.

أما ألبرتس مجنس فلم تبلغ روحه العلمية ما بلغته روح أدلارد، ولكن شغفه بمعرفة حقائق الكون أدى به إلى إنتاج ضخم أكسبه اسم "العظيم". واتخذت معظم مؤلفاته العلمية، كما اتخذت معظم مؤلفاته الفلسفية، صورة شروح لرسائل أرسطو المقابلة لها، ولكنها تحتوي من حين إلى حين نسمات جديدة من الملاحظات المبتكرة، وتتاح له وسط سحب المقتبسات المنقولة عن المؤلفين اليونان، والعرب، واليهود فرص ينظر فيها إلى الطبيعة بنفسه. وقد زار معامل التجارب، والمناجم، ودرس كثيراً من المعادن المتنوعة، وفحص عن حيوان بلاده الأصلية - ألمانيا - ونباتها، ولاحظ حلول البحر محل الأرض والأرض محل البحر، وفسر بذلك وجود الحفريات القديمة في الصخور. وإذ كانت فلسفته قد طغت على علمه فحالت بينه وبين الدقة العلمية، فق ترك نظرياته "القَبْلية" تؤثر في نظرته العلمية، مثال ذلك ادعاؤه أنه رأى شعر الخيل يتحول في الماء إلى ديدان. ولكنه كان مثل أدلارد يرفض تفسير الظواهر الطبيعية بأنها تحدث تبعاً لإرادة الله، ويقول إن الله يعمل وفق علل طبيعية، وإن من واجب الإنسان أن يبحث عن الله في هذه العلل نفسها.

وقد طمست ثقته بأرسطو رأيه في التجارب العلمية. وإنّا لتثير عقولنا فقرة شهية في الكتاب العاشر من مؤلفه De vegetabilis يقول فيها:" إن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة Experimentum solum Certificat" ولكن كلمة تجربة esperimentum كان لها وقتئذ معنى أوسع من معناها في هذه الأيام كما يبدو ذلك من سياق هذه الفقرة: "إن كل ما هو مدون هنا إمّا ثمرة تجربتنا أو مأخوذ من مؤلفين نعلم أنهم قد كتبوا ما أيدته تجربتهم الشخصية، لأن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة". ومع هذا كله فقد كان عمل ألبرتس تقدماً سليماً عظيم النفع. ويسخر ألبرتس من المخلوقات الأسطورية أمثال الحيوان الذي نصفه أسد وتصفه نسر؛ والهولة المفترسة القذرة التي لها جسم امرأة، وجناحا الطير الجارح ومخالبه وقدماه، والتي هي رسول انتقام الآلهة، والخرافات وقصص الحيوانات الخرافية الواردة في أحد الكتب الواسعة الانتشار في ذلك الوقت وهو كتاب Physiologus؛ ويذكر فيما يذكره أن "الفلاسفة يذكرون كثيراً من الأكاذيب"(90). وكان في بعض الأحيان - ولا نقول في أغلب الأحيان - يجري تجارب، كما حدث حين أثبت هو ورفاقه أن "زيز الحصيدة"(Cicada) ظل يغني لحظة وجيزة بعد أن قطع رأسه. ولكنه كان يثق بأقوال بلني ثقة الإنسان البريء بأولياء الله الصالحين، ويصدق تصديق السذج البلهاء القصص التي يرويها الكذابون من صائدي الوحوش والسمك.

وقد خضع لزمانه حين آمن بالتنجيم، وبعلم الغيب؛ وعزا قوى عجيبة للجواهر والأحجار، ويدعى أنه شاهد بعينيه ياقوتة زرقاء شفت قرحاً. وهو يرى، كما يرى تومس الواثق من نفسه، أن السحر من الحقائق المؤكدة، وأنه من فعل العفاريت ويؤمن بأن الأحلام تنبئ أحياناً بالحوادث المستقبلة، ويقول: "إن النجوم في الحقيقة هي التي تحكم العالم" في الأحوال الجسمية، وأن اقتران الكواكب يفسر في أغلب الظن "أحداثاً خطيرة وأعاجيب عظيمة"، وأن المذنبات قد تنذر بالحروب وموت الملوك: "إن في الإنسان مصدراً مزدوجاً للعمل - الفطرة والإرادة؛ فأما فطرته فتحكمها النجوم، وأما الإرادة فحرة؛ لكن الإرادة إذا لم تقاوم، اكتسحتها الفطرة". ويعتقد أن في وسع المنجمين القادرين أن يتنبئوا إلى حد كبير بما سوف يحدث للإنسان في حياته، أو بنتيجة ما سوف يقدم عليه من المشروعات، وذلك بالنظر في مواقع النجوم. وهو يقبل ببعض التحفظ نظرية الكيميائيين القدامى، (أو المذهب النووي الحديث) القائل بتحول العناصر بعضها إلى بعض(92).

وكان أحسن ما عمله في علم النبات. فقد كان أول عالم في النبات من أيام ثيوفراسطس (على قدر ما وصل إليه علمنا) بدرس النبات للعلم بالنبات لا لفائدته في الزراعة أو الطب. وقد صنف النباتات، ووصف ألوانها، ورائحتها، وأجزاءها، وثمارها، ودرس قوة إحساسها، ونومها، وتذكيرها وتأنيثها، ونموها، وحاول أن يكتب مقالاً في الفلاحة . وقد دهش همبولدت Humboldt إذ وجد في كتاب النبات لألبرت: "ملاحظات غاية في الدقة عن التركيب العضوي للنبات وعن وظائف أعضائه"(93). وأما كتباه الضخم في الحيوان فمعظمه شرح لأرسطو، ولكننا نجد فيه أيضاً ملاحظات أصيلة. فهو يحدثنا مثلاً بأنه "سافر في بحر الشمال للقيام ببحوث فيه، وبأنه نزل في الجزائر، وعلى الشواطئ الرملية ليجمع" نماذج للدرس(94) وقد وازن بين الأعضاء المتماثلة في الحيوان والإنسان(95).

وإذا ما نظرنا إلى هذه الكتب في ضوء علمنا الحاضر حكمنا على أن فيها كثيراً من الأغلاط، ولكننا إذا نظرنا إليها في ضوء ما كانت عليه عقول الناس في الزمن الذي ألفت فيه حكمنا بأنها من أعظم ما أثمرته العقول في العصور الوسطى. فقد كان الناس في ذلك الوقت يعترفون بأن ألبرت أعظم المعلمين في زمانه، ولقد طال به العمر حتى رأى رجالاً من طراز بطرس الأسباني Peter of Spain، وفنسنت البوفيزي اللذين ماتا قبله ينقلون عنه في مؤلفاتهم. نعم إنه لم يكن في مقدوره أن يضارع ابن سينا أو ابن ميمون أو تومس في دقة الحكم وصدقه أو في قبضته على ناصية الفلسفة، ولكنه كان أعظم علماء التاريخ الطبيعي في زمانه.


الفصل السابع: روجر بيكن حوالي عام 1214 - 1292

ولد أشهر علماء العصور الوسطى في سمرست حوالي عام 1214،ونحن على يقين من أنه عاش حتى عام 1292، وأنه قال عن نفسه في عام 1267 إنه شيخ كبير(96). ودرس في أكسفورد على جروستستي وكسب من هذا العالم المحيط بشتى الفنون افتتاناً بالعلم. وكانت الروح الإنجليزية، روح النفعية والاعتماد على الاختبار، قد أخذت تتشكل. وسافر بيكن إلى باريس حوالي عام 1240، ولكنه لم يجد فيها الحافز القوي الذي بعثته فيه أكسفورد؛ وأدهشه كثيراً أن لم يجد إلاّ قلة ضئيلة من أساتذة جامعة باريس تعرف لغة من لغات العلم خلاف اللغة اللاتينية، وأنهم لا يولون العلم إلاّ قدراً ضئيلاً من وقتهم، وأنهم ينفقون الكثير منه في الجدل المنطقي والميتافيزيقي وهو الذي كان يبدو لبيكن عديم النفع في الحياة إلى حد الإجرام. ودرس الطب وشرع يكتب رسالة في تخفيف متاعب الشيخوخة. وسعى للحصول على ما يلزمه من المعلومات لهذه الرسالة بالسفر إلى إيطاليا؛ ودرس اللغة اليونانية في بلاد اليونان الكبرى ، وفيها عرف بعض المؤلفات الطبية الإسلامية، ثم عاد إلى أكسفورد في عام 1251، وانضم إلى هيئة التدريس في تلك الجامعة؛ وكتب في عام 1267 يقول إنه أنفق في العشرين السنة السابقة على ذلك العام ألفي جنيه في شراء "الكتب السرية والآلات" وفي تعليم الشبان اللغات والعلوم الرياضة(97). واستأجر اليهود ليعلموه هو وطلابه اللغة العبرية وليعاونوه على قراءة العهد القديم بلغته الأصلية.

وانضم إلى طائفة الرهبان الفرنسيس حوالي عام 1255، ولكن يبدو أنه لم يصبح في يوم من الأيام قساً.

وعافت نفس بيكن ميتافيزيقية المدرسيين، فألقى بنفسه بحماسة بالغة في تيار العلوم الرياضية، والتاريخ الطبيعي، والفلسفة. وليس من حقنا أن نفكر فيه على أنه مبتكر فذ، وصوت عالمي يدوي في بيداء الفلسفة المدرسية؛ لأن الواقع أنه كان في كل ميدان مديناً لمن سبقوه، وأن ما وهب من القدرة على الابتداع كان هو الذروة المحتومة لتطور طويل المدى. ولقد وضع ألكسندر نكهام، وبارثلميو الإنجليزي Bartholomew the Englishman، وربرت جروستستي، وآدم مارش Adam Marsh في أكسفورد تقاليد علمية ثابتة، ورثها بيكن، وأعلنها إلى العالم؛ وكان يعترف بفضل أولئك السابقين عليه ويثني عليهم ثناءً لا حد له: وكان يعترف كذلك بما للعلوم والفلسفة الإسلامية من فضل عليه وعلى العالم المسيحي كله، وربما هو مدين به لليونان عن طريق العلماء المسلمين؛ وأشار إلى أن علماء اليونان والمسلمين "الكفرة" كانوا هم أيضاً ممن تلقوا الوحي والهداية من الله(98). وكان يجل إسحق إسرائيلي، وابن جبيرول وغيرهما من المفكرين العبرانيين، ووجد في نفسه من الشجاعة ما يمكنه من أن يقول كلمة طيبة عن اليهود الذين كانوا يقيمون في فلسطين حينما صلب المسيح(99). ولم يكن يأخذ العلم بنهم عن العلماء وحدهم، بل كان يأخذه أيضاً عن أي إنسان تستطيع معارفه في الصناعات اليدوية أو الأعمال الزراعية أن تزيد ما لديه من معلومات. وكتب في هذا المعنى بتواضع لا عهد لنا به:

لا ريب في أن إنساناً ما لن يستطيع، قبل أن يرى الله وجهاً لوجه، أن يعرف شيئاً مؤكداً تأكيداً نهائياً...لأنه لا يوجد إنسان ملم بجميع أحوال الطبيعة إلماماً يمكنه من أن يعرف كل شيء... عن طبيعة ذبابة واحدة وخواصها.. وإذ كانت الأشياء التي يجهلها الإنسان لا حصر لها، وكانت أعظم وأجمل إذا قيست إلى ما يعرفه منها، فإن من يمتدح نفسه بكثرة ما يعرفه، مخبول قد اختلت موازين عقله. وكلّما زاد الناس حكمة، كانوا أكثر تواضعاً واستعداداً لتلقي العلم من غيرهم؛ وهؤلاء لا يحتقرون من يأخذون عنهم لسذاجته، ولكنهم يظهرون التواضع للفلاحين، وللعجائز من النساء والأطفال، لأن السذج وغير المتعلمين يعرفون أشياء كثيرة تخفى على الحكماء.... ولقد عرفت أنا نفسي من ناس ذوي مكانة وضيعة حقائق أكثر أهمية من التي عرفتها من جلة العلماء الذائعي الصيت. فليحذر كل إنسان إذن أن يفاخر بما أوتي من حكمة(100). واندفع في العمل بجهد وسرعة أثرنا في صحته حتى أعتل جسمه في عام 1256، فانسحب من الحياة الجامعية ولم نعد نعرف عنه شيئاً في العشر سنين التالية. وأكبر الظن أنه ألّف في هذه الفترة بعض كتبه الصغيرة أمثال: في العدسات المحرقة وفي قوى الاختراع والطبيعة العجيبة، وتقدير الحادثات الطبيعية. ووضع في هذا الوقت خطة ((الكتاب الرئيسي))، وهو موسوعة من عمل رجل واحد أراد أن تكون في أربعة مجلدات: (1) النحو والمنطق. (2) الرياضة، والهيئة، والموسيقى. (3) العلوم الطبيعية - البصريات، والجغرافية، والتنجيم، والكيمياء القديمة، والزراعة، والطب، والعلوم التجريبية. (4) ما وراء الطبيعة والأخلاق.

وبعد أن كتب أجزاء متفرقة من هذه الموسوعة واتته فرصة خيل إليه أنها فرصة سعيدة، فحالت بينه مبين إنجاز برنامجه. ذلك أن جاي فولك Guy Foulques كبير أساقفة نربونة ارتقى عرش البابوية في شهر فبراير من عام 1265 وتسمى باسم كلمنت الرابع، وجاء معه إلى البابوية ببعض الروح الحرة التي نشأت في جنوبي فرنسا من اختلاط الشعوب والعقائد الدينية. وكتب إلى بيكن في شهر يونية بأمره بإرسال "نسخة مبيضة" من مؤلفاته "سراً وعاجلاً" و"دون مبالاة بتحريم أي رئيس ديني، أو لائحة الطائفة التي تنتمي إليها"(101). وشرع بيكن بكل ما في وسعه من جهد (كما يتبين ذلك من أسلوبه الحماسي) يعمل ليتم موسوعته؛ ولكنه خشي أن يتوفى كلمنت أو يفقد اهتمامه بالعمل قبل تماما÷ فأجله، وألف في اثني عشر شهراً - أو جمع من مخطوطاته - الرسالة الأولية المعروفة لنا بسام الكتاب الأكبر Opus Maius. وظن أن هذا المؤلف نفسه قد يكون أطول مما يريده البابا الكثير المشاغل فكتب عناصر منه سماها الكتاب الأصغر؛ وأرسل هذين المخطوطين في أوائل عام 1268 إلى كلمنت ومعها قال عن تضاعف الرؤية. وخشي أن تضيع هذه في طريقها إلى البابا فكتب خلاصة أخرى لآرائه هي الكتاب الرابع وأرسلها إلى كلمنت مع رسول خاص، مصحوبة بعدسة، وأشار على البابا أن يجري بها تجارب بنفسه. وتوفي كلمنت في شهر نوفمبر من عام 1268. ومبلغ علمنا أن كلمة واحدة لم ترسل إلى الفيلسوف من البابا نفسه أو ممن جاءوا بعده اعترافاً منه أو منهم بوصول هذه الكتب.

فالكتاب الأكبر إذن هو عندنا "أكبر مؤلفات" بيكن، وإن كان هو لم يرده إلاّ أن يكون فاتحة لمؤلفاته. وهو كتاب ضخم يضم ثمانمائة صفحة مقسمة إلى سبع رسائل: (1) في الجهل والخطأ. (2) وفي العلاقة بين الفلسفة وعلوم الدين. (3) وفي دراسة اللغات الأجنبية. (4) وفي فائدة العلوم الرياضية. (5) وفي فن المنظور والبصريات، (6) وفي العلوم التجريبية. (7) وفي الفلسفة الأخلاقية. وفي الكتاب قدره الخليق به من السخافات، وفيه كثير من الاستطراد، وأكثر مما يليق من المقتبسات الطويلة من مؤلفات غيره؛ ولكنه يمتاز بالقوة، والإخلاص، والاتجاه إلى القصد مباشرة، ويقبل عليه القراء في هذه الأيام أكثر من إقبالهم على أي مؤلف آخر من مؤلفات العصور الوسطى في العلوم أو الفلسفة. وإنّا ليسهل علينا أن نفهم الاضطراب الحماسي، والإشادة البابوية، والحرص الشديد على الجهر بالتمسك بالدين القويم، والنزول بالعلم والفلسفة إلى منزلة الخدم لعلوم الدين، نقول إنّا ليسهل علينا أن نفهم وجود هذا كله في كتاب يبلغ هذا المبلغ من اتساع المدى وتعدد الموضوعات، كتب ليكون خلاصة عاجلة، ويراد به الحصول على تأييد البابا للتربية العلمية والبحث العلمي. ذلك أن روجر بيكن كان يشعر بما يشعر به فرانسس بيكن وهو أن تقدم العلوم في حاجة إلى معونة رؤساء الدين وكبار رجال الدولة، وإلى أموالهم لتبتاع بها الكتب، والآلات والسجلات، ومعامل الاختبار، والتجارب، ولأداء أجور الموظفين.

وكأنما أراد أن يستبق سميه إلى تحطيم "الأصنام" بثلاثمائة عام، فبدأ بذكر أربعة أسباب هي التي توقع الإنسان في الخطأ وهي: "الاقتداء بالمراجع الراهنة غير الجديرة بأن يقتدى بها، والعادة التي استقرت من زمن بعيد، وإحساس الجماهير الجاهلة، وتغشية الجهل بستار من التظاهر بالحكمة"(102). ويحرص على أن يضيف إلى هذا أنه "لا يشير بحال من الأحوال إلى تلك السلطة القوية الموثوق بها التي... وهبت إلى الكنيسة". (5) وهو يأسف لتسرع أهل زمانه واعتقادهم أنه يكفي لأن تكون قضية ما في رأيهم قد ثبتت بالدليل إذا وجدت في أرسطو، ويجهر بأنه لو أوتي السلطة الكافية لأحرق جميع كتب هذه الفيلسوف، لأنها في رأيه منبع الأخطاء ومصدر الجهل(103)، ثم تراه بعد هذا لا تخلو صفحتان من كتابه دون عبارة مقتبسة من أرسطو.

ويكتب في أول الجزء الثاني يقول: "وبعد أن أقصيت أسباب الخطأ الأربعة وألقيت بها في الدرك الأسفل أحب أن أبين حكمة واحدة لا أكثر هي الحكمة الكاملة، وهي الحكمة التي يحتويها الكتب المقدس". وفي رأيه أنه إذا كان فلاسفة اليونان قد ألهموا نوعاً من الإلهام الثانوي، فسبب ذلك أنهم اطلعوا على كتب الأنبياء والبطارقة(104). ويبدو أن بيكن يؤمن بقصص الكتاب المقدس إيماناً ساذجاً، ويعجب لم لا يسمح الله للناس أ، يعيشوا ستمائة عام(105). ويؤمن كذلك بقرب نزول المسيح وبنهاية العالم. وهو يدافع عن العلم لأنه يكشف عن الخالق في خله، ولأنه يمكن المسيحيين من أن يهدوا الكفار الذين لا يتأثرون بالكتاب المقدس. وهكذا "يتأثر العقل البشري فيؤمن بحقيقة مولد المسيح من العذراء، لأن بعض الحيوانات تحمل وهي عذراء وتلد صغاراً،ومن أمثلة ذلك الصقورة والقردة، كما يقول أمبروز في كتابه الأيام الستة . هذا إلى أن الخيل في كثير من البلدان تحمل بفعل الرياح وحدها حين تشتهي الذكر كما يقول بلني(106)، وتلك كلها أمثلة يؤسف لها اعتمد فيها على أصحاب "السلطة" العلمية لا أكثر.

ويبذل بيكن في الجزء الثالث من كتابة غاية جهده ليعلّم البابا اللغة العبرية لأن دراسة اللغات في رأيه لازمة للدين، والفلسفة، والعلوم، وذلك لأن الترجمة أياً كانت لا تنقل معنى الكتب المقدسة أو أقوال الفلاسفة الكفرة نقلاً دقيقاً. ويتحدث بيكن في الكتاب الأصغر حديثاً علمياً مدهشاً عن التراجم المختلفة للكتاب المقدس ويثبت علمه الواسع بالنصوص العبرية واليونانية. ويقترح أن يعين البابا لجنة من العلماء المتبحرين في اللغات العبرية، واليونانية، واللاتينية لمراجعة الترجمة اللاتينية القديمة لهذا الكتاب، وأن تكون هذه الترجمة المراجعة - لأحكام بطرس لمبارد هي التي تدرس مع علوم الدين. ويحث على إنشاء كراسي أساتذة لتدريس اللغات العبرية واليونانية والعربية، والكلدانية؛ ويعارض في استخدام القوة لتحويل غير المسيحيين إلى الدين المسيحي، ويتساءل كيف تستطيع الكنيسة أن تتصل بالمسيحيين اليونان، والأرمن، والسوريين، والكلدان إلاّ عن طريق لغاتهم. وكان بيكن يعمل بجد في هذا الميدان ويعظ الناس، وكان أول العلماء في العالم المسيحي الغربي يتم وضع كتاب نحو يوناني ليستخدمه الذين يعرفون اللاتينية، وأول مسيحي يؤلف في نحو اللغة العبرية. وكان يقول إن في مقدوره أن يكتب باللغتين اليونانية والعبرية، ويبدو أنه درس أيضاً اللغة العبرية(107).

وحين يصل بيكن إلى موضوع الرياضيات تصبح كتبه مسرحاً للتحمس البليغ والنظريات الغامضة. ويقول عن الرياضيات: "واعتقادي أن العلوم الرياضية لازمة وأنها تلي في ذلك اللغات". ويكشف عن خضوعه لتأثير الدين حين يقول إن العلوم الرياضية "يجب أن تساعد على معرفة مكان الجنة والنار"، وتزيد من علمنا بجغرافية الكتاب المقدس والتواريخ الدينية، وتمكن الكنيسة من إصلاح التقويم(108)، ويقول: ولنلاحظ كيف تساعدنا "القضية الأولى في الهندسة" - وهي إنشاء مثلث متساوي الأضلاع على خط معلوم - على "أن ندرك أننا إذا سلمنا بشخص الله الأب، تبدى أمامنا الثالوث ذو الأشخاص المتساوين"(109), ثم ينتقل من هذا المركز السامي الذي يضع فيه الرياضة فيستبق استباقاً مدهشاً علم الطبيعة الرياضية الحديث بإصراره على أن العلم لا يبلغ حد الكمال في الخصائص العلمية إلاّ إذا صاغ نتائجه كلها في صورة رياضية، وإن كان لابد له أن يجعل التجارب هي الطريقة التي يستخدمها في الوصول إلى تلك الغاية. وعنده أن جميع الظواهر غير الروحية آثر من آثار المادة والقوة، وأن جميع القوى تعمل في تناسق وانتظام، ولهذا فإنها يمكن التعبير عنها بخطوط وأشكال؛ "ومن الواجب تحقيق الأشياء بالبراهين المبينة بخطوط وأشكال"؛ وليست جميع العلوم الطبيعية في آخر الأمر إلاّ علوماً رياضية(110).

ولكن إن كانت الرياضة هي النتيجة، فإن التجربة يجب أن تكون وسيلة العلم وطريقة اختبار نتائجه. ولقد أحدث بيكن ثورة علمية أداتها الرياضيات والتجارب، على حين أن الفلاسفة المدرسيين من أبلار إلى تومس أكوناس قد وضعوا كل ثقتهم في المنطق، وكادوا يضمون أرسطو إلى الثالوث المقدس، لأنهم في واقع الأمر جعلوه روحاً قدساً. فهو يقول إن أدق النتائج التي يؤدي إليها المنطق تتركنا غير واثقين من صدقها، حتى تؤيدها الخبرة، فالحرق وحده هو الذي يقنعنا بحق أن النار تحرق؛ "ومن يُرد أن يبتهج ابتهاجاً لا ريب فيه بالحقائق الكامنة وراء الظواهر الطبيعية فليهب نفسه للتجارب العلمية"(111). ويبدو أنه في بعض الأوقات يرى أن التجربة experimentum ليست وسيلة من وسائل البحث، بل هي الطريقة النهائية من طرق البرهان بوضع الأفكار - التي وصل إليها الإنسان بالخبرة والاستدلال - موضع الاختبار، وذلك بأن تصنع على أساسها أشياء ذات فائدة علمية(112). وهو يدرك ويعلن في وضوح أكثر من فرانسس بيكن أن التجربة في العلوم الطبيعية هي البرهان الذي لا برهان غيره. ولم يكن يدّعي أن هذه الفكرة جديدة أتى بها من عنده، بل يعتقد أن أرسطو، وجالينوس، وبطليموس، والعلماء المسلمين، وأدلارد، وبطرس الاسبانيولي، وربرت جروستستي، وألبرتس مجنس وغيرهم قد قاموا بالتجارب العلمية أو امتدحوها، وكل ما فعله روجر بيكن أن جعل الضمني صريحاً، وأن ثبت راية العلم في الأرض المنتزعة من بيداء الجهل.

ولم يفد روجر بيكن العلوم نفسها، كما لم يفدها فرانسس بيكن، إلاّ في القليل الذي لا يغني، إذا استثنينا من ذلك علم البصريات وإصلاح التقويم. ذلك أن هذين الرجلين لم يكونا عالمين بل كانا من فلاسفة العلم. وقد واصل روجر عمل جروستستي وأمثاله فاستنتج أ، التقويم اليوليوسي البالغ في طول السنة الشمسية فزادها يوماً في كل 125 سنة - وهو أدق تقدير وصل إليه العالم في ذلك الوقت - وأن التقويم كان في عام 1267 متقدماً عن الشمس بعشرة أيام. ولهذا اقترح إسقاط يوم من التقويم اليوليوسي في كل 125 سنة. ولا تكاد الصفحات المائة التي خصها بعلم الجغرافية في الجزء الرابع من الكتاب الكبير تقل براعة عن هذه الفكرة البارعة. فقد تحدث روجر بحماسة بالغة مع وليم ربرسكوي William of Rubresquis عن عودة زملائه الرهبان الفرنسيس من الشرق، وعرف الشيء الكثير عنه، وانطبع في ذهنه قول وليم إن ثمة ملايين لا حصر لها من الناس لم يسمعوا شيئاً قط عن الدين المسيحي. وأعلن بالاستناد إلى أقوال وردت في أرسطو وسنكا أن "البحر الذي يفصل طرف أسبانيا الغربي عن شرقي الهند يمكن اجتيازه في بضعة أيام قليلة جداً إذا كانت الريح مواتية"(113). وقد اقتبس كولمبس الفقرة التي نقلت عنه في مصور العالم (1480) الكردنال بيير دايي Pierre d'Ailly في خطاب كتبه إلى فرديناند وإزبلا في عام 1480 وقال إنها مما أوحي إليه بالرحلة التي قام بها في عام 1492(114).

وكأنما كان بيكن في العمل الذي قام به في علم الطبيعة يرى بعين الخيال المخترعات الحديثة، وإن كان يغشاها من حين إلى حين الآراء السائدة في عصره. وإلى القارئ ترجمة حرفية لفقرات مشهورة يقفز فيها من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين: يختص جزء من خمسة أجزاء من كل بصنع آلات عظيمة النفع إلى أقصى حد كالآلات التي تستخدم في الطيران، أو بالانتقال في مركبات لا تجرها دواب، ولكنها تجري مع هذا بسرعة لا تعادلها قط سرعة أخرى؛ أو في عبور البحار من غير مجاديف وبسرعة أكبر مما يظن إنها مستطاعة على أيدي الآدميين. ذلك أن هذه الأشياء قد حدثت في أيامنا هذه. وليس من حق أي إنسان أن يسخر أو يدهش منها. وهذا الجزء من العلم يرينا كيف تصنع آلات يستطاع بها رفع أثقال لا يصدقها العقل أو إنزالها بغير مشقة ولا جهد...(115). ألا إن من المستطاع صنع آلات طائرة... إذا جلس الرجل في وسط الواحدة منا أمكنه أن يدير دولاباً عجيب الابتكار تستطيع به أجنحة صناعية أن تضرب الهواء كما يضربه جناحا الطائر... ويمكن أيضاً صنع آلات يمشي بها الإنسان في البحر أو النهر وفي قاعهما نفسه، من غير خطر عليه(116).

وفي الكتاب الأكبر فقرة فسرت بأنها تشير إلى البارود:

لقد كشفت فنون جديدة لمقاومة أ'داء الدولة يستطاع بها إهلاك كل من يجرؤ على مقاومتها وإن لم يستخدم في ذلك سيف أو غيره من الأسلحة التي تحتاج إلى الاتصال البدني... ذلك أن دوياً مروعاً يصدر من قوة الملح المعروفة بنيترات البوتاس إذا اشتعل فيه جسم ضئيل الحجم، وهو قطعة صغيرة من الرق؟... وهذا الدوي المروع يفوق هزيم الرعد وينبعث منه بريق أشد من البرق الذي يصحب الرعد. وفي فقرة لعلها مدسوسة على الكتاب الثالث يضيف بيكن إلى القول السابق قوله إن بعض اللعب "المفرقعة" تستعمل في ذلك الوقت وتحتوي على خليط من نيترات البوتاس (بنسبة 41.2%) والفحم النباتي (بنسبة 29.4%) والكبريت (بنسبة 29.4%)(117)، ويشير إلى أن قوة هذا المسحوق المفرقعة يمكن مضاعفتها بوضعه في داخل مادة صلبة. وهو لا يدّعي بأنه اخترع البارود، وكل ما في الأمر أنه كان من أوائل من درسوه كيميائياً وتنبئوا بإمكانياته.

وخير ما كتبه بيكن على الإطلاق هو الجزء الخامس من الكتاب الأكبر "في علم المنظور". وفي الرسالة المكملة له في تضاعف الرؤية. وقد تفرعت هذه المقالة البارعة في البصريات من كتاب جروستستي عن قوس قزح، ومن تلخيص وتلو Witelo لكتاب ابن الهيثم، ومن دراسات علم البصريات التي تنقلت من ابن سينا، إلى الكندي، إلى بطليموس، وبلغت غايتها في إقليدس (300 ق.م) الذي برع في تطبيق الهندسة النظرية على حركات الضوء. وكان من البحوث التي قام بها بيكن: هل الضوء هو انبعاث جزيئات من الجسم المرئي؟ أو هل هو تحرك الوسط الكائن بين هذا الجسم والعين؟ ويعتقد بيكن أن كل جسم مادي يشع قوة في جميع الاتجاهات، وأن هذه الإشعاعات قد تنفذ في الأجسام الصلبة: ليس ثمة جسم يبلغ من الكثافة حداً يمنع الأشعة منعاً باتاً من أن تمر فيه. ذلك أن المادة التي تتركب منها الأجسام واحدة فيها جمياً، ولهذا فليس ثمة جسم لا تحدث الأفعال التي تصحب مرور شعاع ما تغيراً فيه... إن أشعة الحرارة والصوت تخترق جدران إناء من الذهب أو الشب، ويقول بؤيثيوس إن عين الوشق تخترق الجدران السميكة(118).

ولسنا واثقين من هذه القوة المعزوة إلى الوشق، ولكننا إذا استثنينا هذا القول حق علينا أن نعجب بهذا الخيال الجريء لذلك الفيلسوف،وهو "الخيال المتماسك في كل أجزائه". وحاول بيكن وهو يقوم بالتجارب على العدسات والمرايا أن يصوغ قوانين انكسار الضوء، وانعكاسه، وفعل الأشعة الضوئية في تكبير الأجسام وتصغيرها. ومثل لنفسه قدرة العدسة المجدبة على تركيز كثير من أشعة الشمس في نقطة واحدة، ثم تشتيت هذه الأشعة خلف هذه النقطة لتتكون منها صورة مكبرة فكتب يقول:

في مقدورنا أن نشكل الأجسام الشفافة (العدسات) ونرتبها بالنسبة إلى قوة بصرنا وللأجسام المرئية ترتيباً يجعل الأشعة تنكسر وتنحني في أي اتجاه نريده، فنرى من أية زاوية نشاء الجسم قريباً منا أو بعيداً عنا. وعلى هذا فإن في وسعنا أن نقرأ أصغر الحروف من بعد لا يصدقه الإنسان، وأن نعد حبات التراب أو الرمل... وعلى هذا فإن جيشاً صغيراً يمكن أن يبدو للناظر كبيراً... وقريباً منه كل القرب... وفي وسعنا أيضاً أن نجعل الشمس، والقمر، والنجوم تبدو كأنها قد نزلت إلينا،... وما إلى هذا من الظواهر الكثيرة المماثلة مما لا يتقبله عقل الشخص الذي يجهل الحقائق...(119) ويمكن إلى هذا تصوير السماء بكل ما لها من طول وعرض بصورة مجسمة تتحرك حركتها اليومية،وقيمة هذا عند الرجل العاقل تعادل مملكة بأسرها... ثمة عجائب أخرى غير هذه يخطئها الحصر ويمكن عرضها على العين(120).

تلك فقرات ذات روعة وجلال، ويكاد كل عنصر من عناصر النظرية التي نبسطها يوجد قبل بيكن وخاصة في كتب ابن الهيثم؛ ولكنه هو الذي جمع مادتها كلها في صورة عملية ثورية استطاعت وقت أن حل أوانها أن تبدل العالم. وهذه الفقرات هي التي أرشدت ليونارد دجس Leonard Diggis (المتوفى حوالي 1571) إلى وضع النظرية التي اخترع المرقب على أساسها(121).

ولكن ما الذي يحدث إذا زاد تقدم العلوم الطبيعية من قدرة الإنسان دون أن يسمو بأغراضه؟ لعل أكثر نظرات بيكن نفاذاً إلى الصميم هي سبقه إلى تصور مشكلة لم تتضح للعالم إلاّ في أيامنا هذه، فهاهو ذا في الكتاب الأكبر يعبر عن اعتقاده الراسخ أن العلم وحده لا ينجي الإنسان: كل هذه العلوم السالفة الذكر نظرية. ولسنا ننكر أن لكل علم وجهة عملية؛... ولكن الفلسفة الأخلاقية وحدها هي التي نستطيع أن نقول عنها... إنها عملية في جوهرها... لأنها تبحث في سلوك الإنسان، في الفضيلة والرذيلة، في السعادة والشقاء... والعلوم الأخرى كلها لا قيمة لها إلاّ من حيث أنها تعين على العمل الصالح؛ وعلى هذا الاعتبار تصبح العلوم "العملية"، كالتجارب والكيمياء، وغيرها علوماً نظرية إذا قورنت بالعمليات التي تعنى بها العلوم الأخلاقية أو السياسية. وعلم الأخلاق هذا هو سيد كل رفع من فروع الفلسفة(122).

ويصور بيكن حكمه الأخير في صالح الدين لا في اصلح الفلسفة، فبالأخلاق وحدها يؤيدها الدين يستطيع الإنسان أن ينجي نفسه. ولكن أي دين يقصد؟ إنه يحدثنا عن ندوة الأديان - البوذية، والإسلام، والمسيحية - وهي الندوة التي عقدت، على ما يقول وليم الربرسكوي في قرقورم Karakorum بناءً على دعوة منجوخان وتحت رياسته(123). ويفاضل بيكن بين الأديان الثلاثة، ويصدر حكمه في صالح الدين المسيحي، ولكنه لا يصدر هذا الحكم بوصفه ديناً يتعبد به الناس في العالم وكفى. وهو يشعر بأن البابوية، مهما وجه إليها جروستستي من نقد لاذع، هي الرابطة الروحية لأوربا، وبدونها تمزقها فوضى العقائد والحروب، وكان يأمل أن يدعم الكنيسة بالعلوم، واللغات، والفلسفة ليمكنها من أن تحكم العالم حكماً روحياً خيراً من حكمها الحاضر(124). وختم كتابه كما بدأه بالجهر الصادر عن عقيدة قوية بولائه للكنيسة، ويمجد في نهايته القربان المقدس - كأنه يقول إن الإنسان إذا لم يعمل من حين إلى حين للاتصال بأسمى مثله العليا احترق في لهيب هذا العالم.

ولعل عجز البابوات عن الاستجابة بوسيلة ما إلى المنهج الذي وضعه بيكن وإلى دعواته المتكررة وقد أظلم روحه وأمرَّ قلمه. وكانت نتيجة هذا أنه نشر في عام 1271 موجز الدراسات الفلسفية غير كامل لم يضف إلاّ القليل للفلسفة، ولكنه أضاف الشيء الكثير إلى الأحقاد الدينية التي كانت تمزق المدارس تمزيقاً. وفيه قضى قضاءً عاجلاً على الجدل الآخذ وقتئذ في الضعف بين الواقعية والصورية فقال: "ليس الكلى إلاّ تماثيل عدة أفراد" و"في الفرد الواحد من الواقعية أكثر مما يف الكليات كلها مجتمعة"(125). وأخذ بنظرية أوغسطين ووصل إلى أن جهود الأشياء كلها لإصلاح شأنها قد أحدثت سلسلة طويلة من التطورات(126). كما أخذ بفكرة أرسطو القائلة بوجود العقل الفاعل أو العقل الكوني الذي "يسري إلى عقولنا وينيرها" وأقترب اقتراباً شديداً من مبدأ وحدة الوجود الذي ينادي به ابن رشد(127).

ولكنه لم يهز مشاعر معاصريه بآرائه الفلسفية بقدر ما هزها بهجومه على منافسيه وعلى مبادئ زمانه الأخلاقية. ذلك أنه في موجز الدراسات الفلسفية كاد يلهب بسوطه جميع نواحي الحياة في القرن الثالث عشر: اضطراب نظام المحاكم البابوية، وانحطاط طوائف رهبان الأديرة، وجهل رجال الدين، وثقل مواعظهم وخلوها من التشويق، وفساد أخلاق طلاب العلم، وما في الفلسفة من لغو وتلاعب بالألفاظ. وذكر في رسالة له عن أخطاء الطب "ستة وثلاثين عيباً أساسياً كبيراً" في النظريات والأعمال الطبية في عصره، وكتب في عام 1271 فقرة ربما تدعونا إلى التسامح في عيوب أيامنا هذه:

يُرتكب في عصرنا هذا من الذنوب أكثر مما يرتكب في أي عصر قبله. فالكرسي البابوي يمزقه خداع الظالمين وغدرهم... ولقد فشا الكبرياء بين الناس، وغلت مراجل الطمع في الصدور، وأنشب الحسد أنيابه في جميع النفوس؛ والبلاط البابوي كله يسربله الفجور بالعار، والنهم هو سيد الجميع... وإذا كان هذا هو شأن الرأس فماذا عسى أن تفعل سائر الأعضاء؟ فلننظر إلى كبار رجال الدين كيف يجرون وراء المال، ويهملون العناية بالأرواح، ويرفعون إلى المناصب العليا أبناء أخوتهم وأخواتهم وغيرهم من الأصدقاء وأولي الأرحام؛ والمحامين الماكرين الذين يفسدون كل شيء بنصائحهم... ولننظر إلى طوائف الرهبان من رجال الدين، لست أستثني أحداً مما أشاهده بينهم؛ انظروا في أية هاوية تردوا، وهووا من شامخ مجدهم فرادى وجماعات، وهاهم أولاء الرهبان (الإخوان) الجدد قد فسدوا فساداً مروعاً وحادوا عن تقواهم الأولى. إن رجال الدين على بكرة أبيهم لا هم لهم إلاّ التكبر، والفجور، والبخل، وحيثما يجتمع طلاب العلم...

لا تسمع منهم إلاّ اغتياب غير رجال الدين والتشهير بحروبهم ومنازعاتهم ويغرها من الرذائل. والأمراء، والأشراف، والفرسان يظلم بعضهم بعضاً، ويُشقون رعاياهم بحروبهم ومطالبهم التي لا حد لها... والشعب الذي يشقى بأمرائه، يحقد على هؤلاء الأمراء، ولا يدين لهم بولاء إلاّ إذا أرغم على ذلك قوة واقتداراً؛ وقد أفسده المثل السيئ الذي ضربه له سادته وكبراؤه، فترى أفراده يظلم بعضهم بعضاً ويخدعه ويغشه، ونحن نشهد هذا كله بأعيننا في كل مكان، وهم منهمكون في فسقهم ونهمهم، وقد بلغوا من الانحطاط حداً يعجز اللسان عن النطق به. أما التجار والصناع فحدث عنهم ولا حرج، لأن الخداع والغش هما ديدنهم في جميع أقوالهم وأفعالهم... لقد كان الفلاسفة الأقدمون، وإن أعوزتهم الكياسة المنعشة التي تجعل الناس خليقين بالخلود، يعيشون خيراً منا إلى ابعد حد مستطاع، سواء في أدبهم أو في احتقارهم هذا العالم وكل ما فيه من بهجة وغنى، وثروة، وألقاب التكريم، كما يتبين الناس جميعاً من مؤلفات أرسطو، وسنكا، وتلي Tully، وابن سينا، والفارابي، وأفلاطون، وسقراط وغيرهم؛ وبهذا وصلوا إلى أسرار الحكمة،وكشفوا عن جميع المعارف؛ أما نحن المسيحيين فلم نكشف شيئاً شبيهاً بما كشفه أولئك الفلاسفة، بل إننا لنعجز عن إدراك حكمتهم. ومنشأ جهلنا هذا هو أن أخلاقنا شر من أخلاقهم... وليس ثمة بين العقلاء من يخالجه أدنى شك في أن الواجب يقضي بتطهير الكنيسة(128).

ولم تنطبع في عقله صورة طيبة من الفلاسفة المعاصرين له، وشاهد ذلك ما كتبه عنهم إلى كلمنت الرابع يقول إن أحداً منهم لا يستطيع في عشر سنين أن يؤلف كتاباً مثل الكتاب الأكبر، فقد كانت مؤلفاتهم في نظر بيكن مجلدات ضخمة من "الكذب الذي لا يستطاع وصفه" والحشو الذي لا ضرورة له(129)؛ وكان هيكل تفكيرهم كله يقوم على الكتاب المقدس ومؤلفات أرسطو، وذاك قد أسيء فهمه وهذه قد أسيئت ترجمتها(130). وكان يسخر من نقاشا تومس الطويل في عادات الملائكة، وسلطانهم، وذكائهم، وحركاتهم(131).

وما من شك في أن هذا الإسراف في اتهام حياة أوربا وأخلاقها،وتفكيرها، في ذلك القرن المتلألئ الباهر قد جعل بيكن وحده في ناحية أوربا كلها في ناحية أخرى. ولكننا لا نجد دليلاً على أن طائفته أو الكنيسة قد اضطهدته أو تدخلت في حرية فكره أو قوله قبل عام 1277، أي قبل أن يكتب المرثاة السالفة الذكر بست سنين.ولكن حدث في تلك السنة أن أخذ يوحنا الفرشلي John of Vercelli رئيس الرهبان الدمنيك وجيروم الأسكولي Jerom of Ascoli رئيس الرهبان الفرنسيس يتفاوضان ليخففا من حدة بعض النزاع الذي شجر بين الطائفتين. واتفقا على أن يمتنع الإخوان في كل طائفة عن نقد الطائفة الأخرى، وأن "كل أخ يتبين أنه أساء إلى أخ من الطائفة الأخرى بالقول أو بالفعل يجب على مجلس مقاطعته أن يوقع عليه من العقاب ما يرضى أخاه الذي أسيء إليه(132). وبعد قليل من ذلك الوقت قام جيروم - على حد قول أخبار قادة الطائفة الأربعة والعشرين التي كتبت في القرن الرابع عشر - "عملاً بمشورة كثيرين من الإخوان فعارض واستقبح تعاليم الأخ روجر بيكن مدرس علم اللاهوت المقدس لأنها تحتوي على بدَع تثير الشك، ومن أجل هذا حكم على روجر المذكور بالسجن"(133). ولسنا نعلم عن هذه المسألة شيئاً غير هذا؛ فهل كانت هذه "البدع" هي الإلحاد، أو ارتياب من حكموا عليه في أنه يمارس فنون السحر، أو أن هذا الأمر يخفي في طياته قراراً بإسكات هذا الناقد البغيض إلى الدمنيك والفرنسيس على السواء؟ ولسنا نعرف كذلك ما فرض من التضييق على بيكن في سجنه أو طول الزمن الذي ظل فيه سجيناً مضيقاً عليه. وكل ما نعرفه أن بعض المساجين الذين حكم عليهم بالسجن في عام 1277 قد أطلق سراحهم في عام 1292، وربما كان بيكن ممن أطلق سراحهم في ذلك الوقت أو قبله، لأنه نشر في عام 1292 موجزاً في الدراسات اللاهوتية، ثم لا نجد بعد ذلك إلاّ كلمة في سجل قديم: دفن الدكتور روجر بيكن الجليل القدر في كنيسة جريسي فريزر Grecy Frairs (كنيسة الرهبان الفرنسيس) بأكسفورد في عام 1292"(134).

ولم يكن لبيكن في عصره إلاّ أثر قليل. فكل ما يذكره به ذلك العصر أنه رجل يأتي بكثير من الأعاجيب، وأنه ساحر ومشعوذ. وقد صور بهذه الصورة في مسرحية كتبها روجر جرين Roger Green بعد ثلاثمائة سنة من وفاته. وليس من السهل علينا أن نعرف مقدار ما يدين له سمه فرانسس بيكن (1561 - 1626)؛ وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا أن فرانسيس وروجر على السواء كليهما رفضا منطق أرسطو، والطريقة المدرسية، وارتابا في الاعتماد على المراجع القديمة، وعلى العادات وغيرها من أصنام التفكير التقليدي، وامتدحا العلوم، وذكرا ما يتوقع اختراعه بالاعتماد عليها، ورسما منهاجاً لها، وأكدا فائدتها العملية؛ وطالبا بالمعونة المالية للبحوث العلمية. وأخذت شهرة بيكن تعظم وتنتشر ببطئ من القرن السادس عشر حتى أصبحت حياته من القصص الخرافية - فقيل إنه هو مخترع البارود، والبطل الحر التفكير، الذي ظل طول حياته مضطهداً من رجال الدين، والمبتكر العظيم للتفكير الحديث. والآن أخذت الآية تنقلب، فالمؤرخون يقولون أنه لم تكن لديه إلا فكرة مهوشة عن التجارب العلمية، وإنه لم يجر من هذه التجارب إلا القليل، وإنه كان في الدين أكثر حرصاً على تقاليده من البابا نفسه، وإن صفحات كتبه تنتشر فيها الخرافات والسحر، والخطأ في الاقتباس، والتهم الكاذبة، والقصص غير الصادقة المأخوذة من التاريخ.

وهذا كله صحيح؛ وصحيح أيضاً أنه وإن لم يجر من التجارب إلا القليل، قد ساعد على دعم مبدأ التجربة العلمية، ومهد السبيل الى قيامها، وأن جهره بالتمسك بالسنن الدينية قد يكون إجراءً سياسياً من رجل يسعى للحصول على تأييد البابوية للعلوم التي كانت مثاباً للريبة. أما أخطاؤه فقد كانت عدوى زمانه، أو لعلها قد نشأت من العجلة التي تسير بها روح تحرص على أن تجعل المعارف كلها ميداناً لها. وأما امتداحه نفسه فقد كان هو البلسم الشافي لتجاهل عبقريته؛ كذلك كان هجومه على غيره تنفيساً لغرض إنسان جبار خابت آماله، فأخذ يشهد إخفاق أحلامه النبيلة تغرق في بحرٍ من الجهل وهو عاجز عن إنقاذها. وأما هجومه على النقل في الفلسفة والعلم فقد أنار السبيل لتفكيرٍ أوسع مجالاً وأكثر حريةً مما كان في زمانه؛ كذلك كان تأكيده لأسس العلم وأهدافه الرياضية تقدما بخمسمائة عام عن العصر الذي يعيش فيه؛ وخير من هذا كله أن تحذيره الناس من إخضاع الأخلاق للعلم درس لرجال الغد يجب أن يأخذوا به. وملاك القول أن الكتاب الأكبر، رغم أخطائه وآثامه، خليق باسمه، وأنه أعظم من أي مؤلف في جميع آداب ذلك القرن العجيب.


الفصل الثامن: أصحاب الموسوعات

وقف العلماء المحيطون بمختلف العلوم موقفاً جريئاً بين العلم والفلسفة يعملون لبث النظام والوحدة في معارف عصرهم التي كانت آفاقها تزداد أتساعاً على مر الأيام؛ وليكونوا من العلم والفن، والصناعة والحكومة، والفلسفة والدين، والأدب والتاريخ، وحدة كلية منتظمة يمكن أن تتخذ أساساً للحكمة. ولهذا برز القرن الثالث عشر سائر القرون بما وضع فيه من الموسوعات، والخلاصات التي كانت كتباً جامعة طابعها التركيب. وكان أكثر أصحاب الموسوعات تواضعاً يقنعون بتلخيص موضوعات العلوم الطبيعية، ومن هؤلاء الكسندر نكهام رئيس دير سرنسستر Cirencester (حوالي عام 1200)، وتموس الكنتمبريئي Thomas of Cantimpre الراهب الدومنيكي الفرنسي (حوالي عام 1244)؛ وقد كتب كلاهما موجزاً في العلوم بعنوان طبيعة الأشياء، ومنهم بارثلميو الإنجليزي Bartholomew of England وهو راهب فرنسيسي أخرج مجلداً كثير الحشو في خصائص الأشياء (حوالي 1240)؛ وفي عام 1266 كتب برونتو Brunetto Latini، وهو مسجل صكوك من فلورنس نفي من بلده لمبادئه السياسية الجلفية (Guelf)، وأقام بضع سنين في فرنسا، كتب بلغة دوئيل Lange d' oil كتاب الكنز Le livre de Tresor وهو موسوعة موجزة في العلوم والأخلاق والتاريخ والحكم. وظلت هذه الموسوعة واسعة الانتشار حتى أن نابليون نفسه فكر في أن تصدر الدولة طبعة منها بعد أن تراجع وذلك بعد خمسين عاماً من إصدار ديدرو Diderot موسوعته الكبرى التي هزت العالم هزاً. وكانت هذه المؤلفات كلها التي صدرت في القرن الثالث عشر تمزج اللاهوت بالعلوم، والخرافات بالمشاهدات، لأنها كانت تتنفس هواء زمانها؛ ولو أننا قدر لنا أن نعرف نظرة الناس الى علمنا الجامع بعد سبعة قرون من هذه الأيام لأغضبنا ما نراه.

وأشهر موسوعات المسيحيين في العصور الوسطى موسوعة فنسنت بوفيه المسماة المرآة الكبيرة (1200 - 1264 أو حوالي ذلك الوقت). وقد انضم بوفيه هذا إلى جماعة الرهبان الدومنيك، وأصبح معلماً للويس التاسع وولده، وعهد إليه الإشراف على مكتبة الملك، وأخذ على عاتقه هو وجماعة من أعوانه أن يضع في صورة سهلة التناول جميع ما يحيط به من ألوان المعرفة. وقد أطلق على موسوعته أسم صورة العالم Imago Mundi، ومثل فيها العالم بمرآة ينعكس عليها الذكاء القدسي والتخطيط الإلهي، وكانت موسوعة ضخمة تعادل في حجمها أربعين مجلداً من المجلدات الكبيرة الحجم في هذه الأيام. وأتم منها فنسنت مع النساخين ثلاثة أجزاء: المرآة الطبيعية، ومرآة العقائد، ومرآة التاريخ، وأضاف إليها من خلفوه في هذا العمل، حوالي عام 1310 مرآة الأخلاق ومعظمها مأخوذ من موجز تومس أكوناس. وكان فنسنت إنساناً متواضعاً ظريفاً، قال عن نفسه "إني لا أعرف علماً واحداً"، وهو يتنصل من أنه ابتكر شيئاً ما ويقول إن كل ما أراد أن يفعله هو أن ينقل أقوال 450 مؤلفاً يونانياً، ولاتينياً، وعربياً. وقد نقل أخطاء بلني بأمانة، وصدق كل عجائب التنجيم، وملء صحفه بالصفات السحرية للنبات والحجر، ولكن عجائب الطبيعة وروائع جمالها تبدو مع ذلك واضحة في كتابه من حينٍ إلى حين، تنفذ من خلال ما فيه من أقوال غير ذات قيمة، ويحس هو بها كما لا يستطيع أن يحس بها ملتهم الكتب فحسب:

أعترف، وأنا الإنسان المذنب، ذو العقل الملوث في الجسد، أنني تدفعني الروح السامية نحو الخالق المسيطر على هذا العالم، وأني أزداد تعظيماً له حين تقع عيني على ما في خلقه... من عظمة وجمال. ذلك بأن العقل إذا أرتفع من الأقذار التي يحبها، وسما، وهو القادر على السمو إلى نور التأمل، أبصر من شاهق علوه عظمة الكون المحتوي على أماكن لا حصر لها مليئة بطوائف المخلوقات المختلفة الأنواع(135). ويضارع النشاط العلمي الذي انبثق في القرن الثالث عشر عظمة فلسفاته المختلفة، وآدابه المتنوعة الباهرة، من الشعراء الغزلين الى دانتي. لقد كان علم تلك الأيام، كما كانت موجزاته العظيمة والمسلاة الإلهية، يعاني الشيء الكثير من إسراف أصحابه في الوثوق به، ومن عجزهم عن بحث فروضه، ومن خلط المعارف بالدين بلا تفريق بينهما. ولكن سفينة العلم الصغيرة التي كانت تسبح في بحرٍ من المزاعم الخفية خطت خطوات واسعة في عصر الإيمان نفسه. فقد بدأ أدلارد وجروستستي، وألبرت، وآرنلد الفلانوفي، ووليم السليستوي، وهنري المندفيلي، ولانفراتشي وروجر بيكن، وبطرس الحاج وبطرس الأسباني، بدأ هؤلاء كلهم مشاهدات وملاحظات جديدة، وتجارب صغيرة أخذت تحطم ما كان لأرسطو، وبلني، وجالينوس من سلطان على العقول. وملأ التحمس للارتياد والمغامرة أشرعة سفينة الرواد، قد عبر عن ذلك الإخلاص العلمي الجديد ألكسندر نكهام في بداية ذلك القرن العجيب فكتب يقول " إن العلم لا ينال إلا بثمنٍ باهض، هو اليقظة الدائمة، وإنفاق الوقت الطويل، وبالجد والكدح المتواصلين، وباستخدام العقل بحماسة وقوة"(136).

ولكن مزاج العصور الوسطى يتحدث إلينا قبيل نهاية كتاب ألكسندر أحسن أحاديثه، ويتحدث إلينا برقة لا تتناسب مع عصره فيقول:

ربما عشت أيها الكتاب بعد ألكسندر هذا، وربما أكلني الدود قبل أن تقرض صفحاتك... إنك مرآة عقلي، وشارح تأملاتي... والشاهد الصادق على ضميري، والماسي الرحيم لأحزاني... وإنك أنت المستودع الأمين الذي أودعت فيه أسرار قلبي... فيك أقرأ ما في نفسي... سوف تقع في يدي قارئ ينزل من عليائه فيدعو لي بخير، وإذن فسيفيد منك صاحبك أيها الكتاب الصغير، وإذن ستجزى إسكندرك أحسن جزاء وأعظمه؛ ولست آسفاً على كدحي، فستصادف إخلاص قاري صالح يضعك تارة في حجره، ويرفعك تارة إلى صدره، ويتخذك حيناً وسادة تحت رأسه، ويطويك برفق، ويدعو لي في حرارة وإخلاص عيسى المسيح الذي يعيش مع الله والروح القدس خلال الأحقاب التي لا نهاية لها - آمين(137).