قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 34

صفحة رقم : 5935

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> انتقال المعارف -> نشأة اللغات القومية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الرابع والثلاثون: انتقال المعارف 1000 - 1300

الفصل الأول: نشأة اللغات القومية

حافظت الكنيسة إلى حدٍ ما على وحدة أوربا الغربية التي حققتها الدولة الرومانية وحافظت كذلك شعائرها وعظاتها ومدارسها على تراث روماني لم يبق له وجود في هذه الأيام - هو لغة دولية يفهمها جميع السكان المتعلمين في إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا، وإِنجلترا، واسكنديناوة، والأراضي الوطيئة، وألمانيا، وبولندة، وبلاد المجر، وبلاد البلقان العربية. لقد كان المتعلمون من أهل تلك البلاد يستخدمون اللغة اللاتينية في مراسلاتهم، وفي سجلات أعمالهم التجارية والمالية، والدبلوماسية، وفي القانون والأعمال الحكومية، وفي العلم والفلسفة، وفي آدابهم كلها تقريباً قبل القرن الثالث عشر. وكانوا يتكلمون اللغة اللاتينية على أنها لغة حية، تشتق في كل يوم كلمة أو عبارة جديدية للدلالة على الحقائق أو الأفكار الجديدة أو المتغيرة في حياتهم. وكانوا يكتبون رسائل حبهم باللاتينية من أبسط خطابات الحب إلى الرسائل الفصحى الطويلة المتبادلة بين هلواز وأبلار H(loise and Ab(lard . ولم يكن الكتاب يؤلف أمة بل لقارة، ولم يكن في حاجة إلى ترجمة بل كان ينتقل من قطر إلى قطر بسرعة وحرية غير معروفتين في هذه الأيام، كما كان الطلاب ينتقلون من جامعة إلى جامعة دون أن تصادفهم عقبات اللغة، وكان في وسع العلماء أن يحاضروا باللغة نفسها في بولونيا، وسلمنقة، وباريس، وأكسفورد، وأبسالا Uppsals، وكولونيا. ولم يكونوا يترددون في استعارة كلمات جديدة وضمها إلى اللاتينية، وإن كان ذلك يزعج في بعض الأحيان الآذان التي اعتادت سماع لغة بترارك وشيشرون. وهكذا يستخدم العهد الأعظم الإنجليزي Magna Carta لفظي dessaiaiatus و imprisonatus حين يقول إنه لا يصلح أن "يقبض" على رجل حر أو "يسجن". وأمثال هاتين الكلمتين ثقيلة الوقع على آذاننا، ولكنها قد أبقت اللغة اللاتينية حية؛ وإن كثيراً من الألفاظ الإنجليزية الحديثة - مثل instance، و substantive و essence و entity - لتنحدر من الكلمات التي أضيفت إلى اللغة اللاتينية في العصور الوسطى. غير أن انفصام الصلات الدولية الذي أدى إليه سقوط روما، وانتشار الفاقة في العصور المظلمة انتشاراً أدى إلى انطواء الناس على أنفسهم، وفساد الطرق وكساد التجارة، كل هذا أوجد في الكلام تلك الاختلافات التي ما لبثت أن اتسعت بسبب عزلة المتحدثين بها عن بعض. بل إن اللغة اللاتينية كانت تعاني في أوج عزها بعض التغيرات الناشئة من اختلاف المناخ وأساليب المنطق المترتبة على تركيب أعضائه، وكانت قد تبدلت في موطنها الأصلي نفسه.

وكان موت الأدب قد أفسح الميدان لمفردات الرجل العامي وتراكيبه جمله، وهي مفردات وتراكيب كانت تختلف دائماً عن أقوال الشعراء والخطباء. وجاء تدفق الألمان، والغاليين، واليونان، والأسيويين على إيطاليا باختلافات كثيرة في النطق، وتخلص اللسان والعقل الكسولان بفطرتهما مما في الحديث الفصيح الدقيق من علامات التصريف والإعراب فأضحى حرف H لا ينطق به في اللغة اللاتينية المتأخرة، وبعد أن كان حرف V ينطق به في اللغة الفصحى كما ينطق بحرفV الإنجليزي. وامتنع النطق بحرف N قبل S فكلمة mensa (المائدة) أصبح ينطق بها nesa، وتغير النطق بالحرفين المتصلين AE و CE وكان ينطق بها في اللغة الفصحى كما ينطق بحرف I، OI في اللغة الإنجليزية فأصبح ينطق بهما كحرف A الإنجليزي الطويل أو حرف E الفرنسي. ولما كانت الحروف الساكنة في آخر الكلمات قد مضغت أو نسيت (Coelem, rex, re, roi, portus, porto, porte) cilo, ciel فقد اقتضى ذلك أن تستبدل حروف الجر بعلامات الإعراب في الأسماء، وبعلامات التعريف في أواخر الكلمات أفعال مساعدة. وتبدل أسماء الإشارة القديمان illa, ille فأصبحا هما أدوات التعريف la, le, lo, el,il ؛ واقتضب لفظ unus (واحد) اللاتيني ليكون أداة التنكير un. ولما انعدم تصريف الأسماء صار من الصعب أحياناً أن يعرف هل الاسم فاعل أو مفعول قبل الفعل أو بعده. وإذا ما تدبر الإنسان هذه العملية - عملية التبدل المستمر الممتد طوال عشرين قرناً من الزمان جاز له أن يقول إن اللغة اللاتينية لا تزال هي اللغة الحية الأدبية في إيطاليا، وفرنسا، وأسبانيا، لم تتغير عن لغة شيشرون إلا بقدر ما تغيرت لغته هو عن لغة رميولوس أو لغتنا نحن عن لغة تشوسر. وكانت أسبانيا قد بدأت تتكلم اللاتينية منذ عام 200 ق. م لا بعد، وما وافى عهد شيشرون حتى اتسعت الهوة بينها وبين لاتينية روما اتساعاً روع شيشرون لما بدأ له من رطانة قرطبة البربرية. وكان اتصال هذه اللغة اللاتينية بلهجات أيبيريا سبباً في ترقيق الحروف الساكنة اللاتينية في أسبانيا: فرقت T إلى D، P إلى B، و K إلى G؛ فـ Totum أصبحت todo، و operan أصبحت obra، و ecclesia أصبحت iglesia. كذلك رققت اللغة الفرنسية الحروف الساكنة اللاتينية، وكثيراً ما أسقطتها في النطق وإن ظلت محتفظة بها في الكتابة: est, (glisa, oeuvre, tout. ونطق بالقسم الذي أقسمه لويس الألماني Louis the German وشارل الجسور بلغتين هما الألمانية والفرنسية - الفرنسية التي كانت لا تزال لاتينية إلى حد سميت معه اللغة الرومانية lingua romana، ثم أنقسمت هذه اللغة الرومانية إلى ما سمته فرنسا لغتين: langue d'oc وهي لغة فرنسا الواقعة في جنوب نهر اللوار و langue d'oil وهي لغة فرنسا الشمالية . فلقد كان من عادات العصور الوسطى التفريق بين اللهجات بالطريقة التي ينطقون بها اللفظ المقابل للفظ "نعم" العربي؛ فأهل فرنسا الجنوبية كانوا يعبرون عنه بلفظ oc المشتق من اللفظ اللاتيني hoc ومعناه هذا، أما أهل الشمال فكانوا يستعملون لفظ o(l وهو مزيج من اللفظين اللاتينيين hoc lle، أي هذا - ذاك. وكان لفرنسا الجنوبية لهجة من لهجات اللانج دك تسمى البروفسنال أضحت فيما بعد لغة أدبية مصقولة على أيدي الشعراء الغزليين، ولكن الحروب الصليبية الألبجنسية كادت تقضي على هذه اللغة.

وكونت إيطاليا لغتها القومية ببطء أكثر مما تكونت به لغتنا أسبانيا وإيطاليا. ذلك أن اللاتينية كانت لغتها الوطنية، وأن رجال الدين، وهم الذين كانوا يتكلمون اللغة اللاتينية، كانوا كثيري العدد في إيطاليا، وأن استمرار ثقافتها ومدارسها منع اللغة أن تتغير بنفس اليسر والتحرر اللذين تغيرت بهما في بلاد ذات تقاليد منقطعة غير متصلة.

ولقد كان القديس أنطونيوس أحد رجال الدين في بدوا في ذلك العام المتأخر عام 1230 يخطب العامة باللغة اللاتينية؛ بيد أن عظمة لاتينية ألقاها في بدوا نفسها عام 1189 أسقف لاتيني زائر كان لابد أن يترجمها إلى اللغة الدارجة أسقف من أساقفة تلك المدينة(2). ولم يكد يكون للغة الإيطالية وجود في بداية القرن الثالث عشر؛ وكل ما كان في إيطاليا في ذلك الوقت نحو أربع عشرة لهجة، كانت هي استمرارا وتحريفاً متنوعاً للهجات السوقة لا تكاد إحداها يفهمها الباقون الذين لا ينطقون بها، وتعتز كل منها بما بينها وبين غيرها من فروق اعتزازاً مبعثة للعنصرية العارمة؛ وكان لكل حي من الأحياء المختلفة في المدينة الواحدة - كمدينة بولونيا - في بعض الأحيان لهجة مختلفة. لهذا كان لزاماً على أسلاف دانتي أن يخلقوا لغة، كما كان عليهم أن يخلقوا أدباً. ولقد حسب الشاعر في أحد أخيلته الظريفة أن الشعراء الغزليين التسكانيين اختاروا أن يكتبوا شعرهم باللغة الإيطالية لأنهم كانوا يكتبون في الحب، ولأن السيدات اللائى كن يخاطبونهم قد لا يفهمن اللغة اللاتينية(3). غير أنه مع هذا تردد في عام 1300 بين اللغة اللاتينية واللهجة التسكانية أيهما يختار لكتابة المسلاة الإلهية. وكان الفرق بسيط بين اللغة التي أختارها والتي لم يختارها هو الذي أنجاه من النسيان.

وبيننا كانت اللغة اللاتينية تنقسم وتتولد منها اللغات الرومنسية، كانت اللغة الألمانية القديمة تتفتت هي الأخرى إلى اللغة الألمانية الوسطى، واللغة الفريزية، والهولندية، والفلمنكية، والإنجليزية، والدنمرقية، والسويدية، والنرويجية، والأيسلندية. وليست عبارة "الألمانية القديمة" إلا تعبيراً سهلاً يشمل اللهجات الكثيرة التي كانت تفرض سيادتها القبلية أو الإقليمية في ألمانيا قبل عام 1050.

وهي اللهجات الفلمنكية، والهولندية، والوستفالية (الغالية الغربية) والإبستقالية (الغالية الشرقية) والألمانية Allemanic، والبافارية، والفرنكونية، والثورنجية، والسكسونية، والسيكيزية.... وتطورت اللغة الألمانية القديمة إلى الألمانية الوسطى (1050 - 1500) وكان من أسباب هذا التطور تدفق الكلمات الجديدة التي جاءت مع الدين المسيحي. ذلك أن الرهبان القادمين من أيرلندة، وإنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا جدوا في وضع المصطلحات التي كانوا في حاجة إليها لترجمة الألفاظ اللاتينية. فكانوا في بعض الأحيان يدخلون كلمة لاتينية بنصها إلى اللغة الألمانية - مثل Kaiser (قيصر) و Prinz (أمير) و Legende (قصة)؛ وتلك لصوصية مشروعة؛ لكن كان من المآسي تأثير التركيب اللاتينية للجمل كتأخير الفعل إلى آخر الجملة - فقد أحل الوقفات الجامدة المقلوبة القاطعة للأنفاس التي نراها في الأسلوب الألماني المتأخر محل التراكيب السهلة التي كانت من خصائص لغة الشعوب الألمانية(4). ولعل أجمل اللغات الألمانية كانت هي اللغة الألمانية العليا الوسطى التي كتب بها الشعراء العظام في القرن الثالث عشر- ولتر فن در جلويد Walter von der Vogelweide، وهارتمان فن أوي Hariman von Aue، وجتفرايد الأسترسبرجي Goufried of Strasbourg، و ولفرام فن أسثنباخ Wolfram von Eschenbach؛ ولم تعد اللغة الألمانية إلى مثل هذه البساطة والمرونة، والوضوح، والقصد مباشرة إلى المعنى المطلوب إلا على يد هين Heine وجيتة الشاب.

وانتقل اللسان التيوتوني إلى إنجلترا في القرن الخامس مع الإنجليز، والسكسون والجوت، وكان هو أساس اللغة الإنجليزية الحاضرة. فهو الذي حباها بكل ما تنطوي عليه تقريباً من كلمات قصيرة طلية. ثم طغت اللغة الفرنسية على البلاد حين أقبل عليها النورمان، وسيطرت البلاد، والمحاكم، والأشراف من عام 1066 إلى 1362 وإن ظلت اللاتينية اللغة السائدة في الدين والتعليم، وبقيت (إلى عام 1371) واجبة في الوثائق الرسمية. ودخلت آلاف الكلمات الفرنسية في اللغة الإنجليزية، وبخاصة في الثياب، والطهو، والقانون؛ حتى أصبحت نصف المصطلحات في القانون الإنجليزي فرنسية (5)؛ وظلت آداب فرنسا وإنجلترا مدى ثلاثة قرون آداباً واحدة؛ كما ظلت الرسائل الإنجليزية في روحها ولغتها حتى زمن تشوسر لا قبل (1340 - 1400) نصف فرنسية. ولما فقد الإنجليزية أملاكها في فرنسا عادت إلى الانطواء على نفسها، وانتصرت العناصر الأنجليسكونية في اللسان الإنجليزي؛ ولما زالت السيطرة الفرنسية من البلاد، كانت اللغة الإنجليزية قد اغتنت غناءً لا حد له؛ فقد استطاعت بما أضيف إلى أصلها الألماني من ألفاظ فرنسية ولاتينية، أن تعبر عن كل فكرة من آلاف الأفكار المختلفة بثلاث تعبيرات مختلفة (Kingly, royal, regal بمعنى ملكي؛ towfold, double, duplex بمعنى مزدوج؛ daily, journal, diurnal بمعنى يومي ...). وإلى هذا يرجع غناها بما فيها من مترادفات تميز بها الفروق المختلفة في المعاني والاختلافات الدقيقة في ألفاظ الحديث. ومن يعرف تاريخ الألفاظ يعرف التاريخ كله.


الفصل الثاني: عالم الكتب

وكيف كانت تكتب هذه اللغات المختلفة؟ لقد أستعمل البرابرة بعد أن سقطت روما في أيديهم عام 476 الحروف الهجائية اللاتينية، وكتبوها كتابة "جارية"، ربطوا فيها الحروف بعضها ببعض، وخلعوا على معظمها شكلاً دائرياً بدل الحروف المعتدلة التي كانت سهلة الاستعمال في الكتابة على السطوح الصلبة كالحجارة أو الخشب. وكانت الكنيسة في تلك القرون تفضل الكتابة ذات الحروف "الكبيرة" لتسهل بذلك قراءة كتب القداس وكتب الصلوات.ولما عمل النساخون في عهد شارلمان على حفظ الآداب اللاتينية بنسخ عدة كتب من الآداب القديمة، استخدموا في عملهم هذا كتابة ذات حروف "صغيرة" واتفقوا على صور معينة لهذه الحروف، فأوجدوا بذلك "الحروف الصغيرة المقررة" التي ظلت أربعة قرون الطريقة العادية التي تكتب بها نسخ العصور الوسطى. وكأنما أريد أن تتمشى هذه الحروف مع الزخارف الخصيبة التي أخذت تنمو في العمارة القوطية فأضيفت إليها شرط تزيينها، وخطوط شَعْرية رفيعة، وزوائد معقوفة، فأصبحت هي الحروف "القوطية" التي ظلت منتشرة في أوربا إلى عهد النهضة، وفي ألمانيا حتى يومنا هذا. ولم توضع علامات الترقيم إلا في عدد قليل جداً من مخطوطات العصور الوسطى؛ لأن هذه الوسيلة التي ترشد القارئ إلى حيث يلتقط نَفسَه قد ضاقت في أثناء الغوص التي صحبت غارات البرابرة، ثم عادت إلى الظهور في القرن الثالث عشر، ولكنها لم يعم استعمالها حتى قررتها الطباعة في القرن الخامس عشر. وكانت الطباعة قد أعدت عدتها إلى حد ما في عام 1147 وبعد ذلك باستعمال القطع الخشبية. وبدأ ذلك في أديرة بلاد الرين لطبع الحروف الأولى أو الرسوم على المنسوجات (6). وكانت أشكال كثيرة من الاختزال تستخدم في تلك الأيام، وكلها أحط كثيراً من "العلامات النيرونية" التي توصل إليها أرقاء شيشرون.

وكانوا يكتبون على الجلد السميك، وأوراق البردي، والجلد الرقيق أو الورق، بريش الطير، أو بأقلام الغاب، ويستخدمون لذلك مداداً أسود أو ملوناً. واختفى البردي من الاستعمال العام في أوربا بعد فتح العرب مصر. وكان الرق من المتخذ من جلد الخراف الصغيرة غالي الثمن، وكان لذلك يُدخر للمخطوطات المترفة، أما الرق المتخذ من جلد الضأن السميك فكان هو المادة المعتادة للكتابة عليها في العصور الوسطى. وظل الورق مادة غالية الثمن تستورد من بلاد الإسلام، ولكن مصانع أقيمت لصناعته في ألمانيا وفرنسا في عام 1190، وشرعت أوربا في القرن الثالث عشر تصنع ورقاً من الكتان.

وكانت كثيراً من الرقوق يُمحى ما عليها من مخطوطات قديمة ليكتب عليها كتاب جديد، وكان يُطلق على هذه الرقوق اسم خاص هو palimsest ومعناه "المحو مرة ثانية". وقد فقدت كثير من الكتب القديمة بهذا المحو، وبالوضع الخاطئ للمخطوطات، وبالحروب والنهب، والحريق والتلف. فقد نهب الهون مكاتب الأديرة في بافاريا، ونهب أهل الشمال مكاتبها في فرنسا؛ وتلفت كثير من الكتب اليونانية حين نُهبت القسطنطينية في عام 1204. وكانت الكنيسة في بادئ الأمر تعارض في قراءة الكتب الوثنية القديمة، وقامت أصوات مرتاعة في كل قرن تقريباً تندد بهذه الكتب، منها أصوات جريجوري الأول، وإزدو الأشبيلي، وبطرس دميان. ودمر توفيلس كبير أساقفة الإسكندرية كل ما وجده من المخطوطات الوثنية؛ كما أقنع القساوسة اليونان، على حد قول دمتريوس كلكنديلاس Demetrius Chalcondylas(7)، أباطرة الروم بإحراق جميع مؤلفات الشعراء الغزلين ومنهم سابفو وأنكريون. غير أنه كان في هذه القرون نفسها كثيرون من رجال الدين المولعين بالكتب الوثنية القديمة والحريصين على الاحتفاظ بهذه الكتب. وكانوا في بعض الحالات يفعلون سلاح النقد الموجه إليهم بتفسير معنى الشعر الوثني تفسيراً يتضمن أعظم العواطف المسيحية؛ واستطاعوا بطريق الاستعارات الظريفة أن يحولوا شِعر أوفد الغرامي إلى شعر يحض على مكارم الأخلاق. وكذلك احتفظ الناسخون في الأديرة بقسم كبير من التراث الأدبي القديم(8)؛ وكان يقال للرهبنة إذا تعبوا أن الله سيغفر لهم ذنباً من ذنوبهم نظير كل سطر ينسخونه، ويحدثنا أردركس فينالس Ordericus Vitalis أن أحد الرهبان نجا من الجحيم وكان على قيد شعرة منها بحرف واحد نسخه(9). ويلي الرهبان وحدهم في نسخ المخطوطات القديمة الكتبة الخصوصيون أو المحترفون الذين يستخدمهم الأغنياء أو بائعو الكتب أو الأديرة نفسها. وكان عمل هؤلاء النساخين مجهداً مما جعلهم يدونّون على الصفحات الأخيرة من المخطوطات المنسوخة مطالب غريبة كقول أحدهم:


بهذا يتم جميع الكتاب


فبحق المسيح هات لي جرعة


وظن كاتب آخر أنه خليق بأكثر من هذا فكتب في آخر مخطوطة تلك الخاتمة: "فليجز الكاتب على (عمل قلمه) بفتاة جميلة".(11) ولم تفرض كنيسة العصور الوسطى رقابة منظمة على نشر الكتب؛ فإذا تبين أن كتاباً ما مناقض للدين، وكان في الوقت نفسه ذا تأثير قوي ككتاب أبيلار عن التثليث أستنكره مجلس من مجالس الكنيسة، ولكن عدد الكتب كان وقتئذ أقل من أن يكون شديد الخطر على الدين القويم؛ وحتى الكتاب المقدس نفسه كان نادر الوجود في خارج الأديرة، فقد كان نسخُه يحتاج إلى عام كامل، وشراؤه يحتاج إلى إيراد قس أبرشية؛ ولهذا قل من رجال الدين من كان يمتلك نسخة كاملة منه.(12) غير أن كتاب العهد الجديد وأسفاراً خاصة من العهد القديم كانت أوسع منه انتشاراً. وأخرجت في القرن الثاني عشر نسخ من الكتاب المقدس ضخمة الحجم، فخمة الزخرف؛ ولم يكن يستطاع استعمال هذه الكتب إلا على مكتب، وكان في ذلك عادة في مكتبة الدير، وكانت في بعض الأحيان تشد إلى المكتب بسلسة للمحافظة عليها. وقد روعت الكنيسة حين وجدت الولدنسيين والألبجنسيين ينشرون ويوزعون تراجمهم هم للكتب للمقدسة، ولهذا حرم مجلس من مجالس الكنيسة عقد في نربونه (1227) على غير رجال الدين أن يكون لديهم أي جزء من الكتب المقدسة؛ ولقد تحدثنا عن هذا من قبل(13). ولكن يمكن القول بوجه عام إن الكنيسة لم تكن قبل القرن الرابع عشر تعارض في أن يقرأ الكتاب المقدس غير رجال الدين؛ وإن لم تكن تشجع هذه القراءة لأنها لم تكن تثق بتفسير العامة لأسرار الكتب الدينية.

وكان حجم الكتاب وعدد صفحاته يحددهما ما يستطاع وجوده من الجلود، وكان كل جلد منها يطبق لتتكون منه "ملزمة"؛ ولم تكن الكتب بعد القرن الخامس تصدر في صورة ملفات كما كانت تصدر في العهود القديمة ، بل كانت الجلود تقطع قطعاً مستطيلة لتكون ملازم من أربع أوراق، أو ثمان، أو اثنتي عشرة ورقة أو ست عشرة. وكانت ملازم مكونة من ست عشرة ورقة تضم مؤلفات طويلة في كتب صغيرة الحجم توضع في الجيب لتكون سهلة الاستعمال. وكانت تغلف أحياناً بالرق السميك أو القماش، أو الجلد المدبوغ، أو الورق المقوى. وكان الغلاف المصنوع من الجلد يزخرف أحياناً بأن تطبع عليه رسوم غير ملونة بقوالب من المعدن المحمى. وجاء الفنانون المسلمون الذين استقروا في البندقية إلى أوربا بفن ملْ هذه الأجزاء المنخفضة من الغلاف بألوان ذهبية، أما الغلاف الخشبي فقد كان يزخرف أحياناً بالميناء أو العاج المحفور، أو يطعم بالذهب أو الفضة أو الجواهر. وكان مما عابه القديس جيروم على الرومان قوله "إن كتبكم مطعمة بالحجارة الثمينة، مع أن المسيح مات عارياً!"(14) وقل أن يوجد من الكتب الحديثة ما يضارع التجليد الفخم الذي حليت به كتب العصور الوسطى.

وكانت الكتب البسيطة نفسها من مواد الترف. فقد كان الكتاب العادي غير المزخرف يكلف مقتنيه ما بين 160 دولاراً ومائتي دولار من نقود الولايات المتحدة الأمريكية حسب قيمتها في عام 1949(15). وحسبنا شاهداً على هذا أن أحد زعماء حركة إحياء الآداب القديمة في القرن الثاني عشر وهو برنار من أهل شارتر قد خلف مكتبة لا تزيد مجلداتها على أربعة وعشرين مجلداً. وكانت إيطاليا أغنى بالكتب من فرنسا، ولهذا جمع أكرسيوس Accursius الأكبر عالمها القانوني الشهير ثلاثة وستين كتاباً. ونسمع عن نسخة عظيمة من الكتاب المقدس بيعت بعشر وزنات - أي بما لا يقل عن 10.000 دولار، وعن كتاب للصلواة استبدلت به رمة؛ وعن مجلدين من مؤلفات برشيان Prescian أحد النحاة في القرن الخامس بيعاً ببيت وأرض(16). وعاق غلو الكتب قيام تجارة بائعيها حتى القرن الثاني عشر؛ حين استأجرت مدن الجامعات رجالاً من الورَّاقين وأصحاب المكتبات لينظموا جماعات من النساخين ينسخون الكتب للمدرسين والطلاب، وكان هؤلاء الرجال يبيعون نسخاً منها لكل من يعني بأداء أثمانها. ويبدو أنهم لم يدر قط بخلدهم أن يؤدوا شيئاً من المال لمؤلف حي. وإذا أصر رجل ما على أن يؤلف كتاباً جديداً، كان عليه أن يؤدي نفقة كتابته، أو يبحث عن ملك، أو نبيل، أو ثري ينفحه بهبة من المال نظير إهدائه الكتاب أو الثناء عليه فيه. ولم يكن في وسعه أن يعلن عن كتابه إلا شفوياً، كما لم يكن في وسعه أن ينشره - أي يذيعه على الجمهور - إلا بالعمل على أن يستخدم في إحدى المدارس أو أن يتلى أمام من يستطيع جمعهم من المستمعين. وبهذه الطريقة قرأ جرالد من أهل ويلز حين عاد من أيرلندة في عام 1200 كتابه في تخطيط هذا القطر Topography على جمعية في أكسفورد.

وأدى ارتفاع أثمان الكتب، وقلة الأموال اللازمة لإنشاء المدارس إلى انتشار الأمية إلى حد لو أنه وجد في بلاد اليونان أو الرومان الأقدمين لجلب لهم العار. فقد كانت معرفة القراءة والكتابة قبل عام 1100 في البلاد الواقعة شمال جبال الألب تكاد تكون مقصورة على "خدم الدين" - وهم رجال الدين، وَالحَسَبَة، والكَتَبة، وموظفو الحكومة، وأصحاب المهن. وما من شك في أن رجال الأعمال كانوا في القرن الثاني عشر ممن يعرفون القراءة والكتابة، لأنهم كانوا يحتفظون بحسابات دقيقة محكمة. وكان الكتاب في المنزل تحفة ثمينة؛ وكان في العادة يقرأ بصوت عال إلى عدد من المستمعين؛ وقد وضع الكثير من قواعد الترقيم والأسلوب فيما بعد لتيسير القراءة الشفوية؛ وكان يعنى كل العناية بتبادل الكتب بين الأسر بعضها وبعض، وبين مختلف الأديرة، والأقطار.

وكانت دور الكتب كثيرة العدد وإن قل حجمها. وكان القديس قد قرر أن يكون لكل دير بندكتي مكتبة؛ وكانت بيوت الكارثوزيين والسترسيين تجد في جمع الكتب رغم كراهية القديس برنار للعلم، كذلك كان لكثير من الكتدرائيات - أمثال كتدرائيات طليطلة، وبرشلونة، وبامبرج Bamberg وهلدسهايم Hildesheim - مكتبات كبيرة، فكان في كنيسة كنتر بري مثلاً 5000 كتاب في عام 1300، ولكن هذا مثل نادر لا يقاس عليه(17)، أما معظم المكتبات فكان في الواحدة منها ما يقل عن مائة كتاب؛ وكان في مكتبة كلوني وهي من أحسن المكتبات 570 مجلداً(18). وكان عند مانفر ملك صقلية مجموعة قيمة انتقلت إلى البابوية وأضحت نواة مجموعة الفاتيكان اليونانية. وقد بدأت المكتبة البابوية في عهد البابا دمسوس Damasus (366-384)، ثم فقدت مخطوطاتها الثمينة ومحفوظاتها القيمة في فوضى القرن الثالث عشر، ولهذا يرجع تاريخ مكتبة الفاتيكان الحاضرة إلى القرن الخامس عشر. وشرعت الجامعات - أو على الأصح قاعات كلياتها - تنشئ لها مكتبات في القرن الثاني عشر، وأنشأ القديس لويس مكتبة سانت شابل Sainte Chapelle في باريس، وأغناها بالكتب التي أمر بنسخها من مائة دير؛ وكانت كثير من المكتبات، كمكتبات نتردام، وسان جرمان ده بريه St. Germain des Pr(s والسربون مفتوحة للطلبة الموثوق بهم، وكان من استطاع استعارة الكتاب في الخارج بضمان واف؛ وإن طالب العلم اليوم ليصعب عليه أن يقدر قيمة الثروة الأدبية التي كانت المدينة والكلية تضعها بين يديه دون مقابل. وكانت هناك مكتبات خاصة في أماكن متفرقة، وإنا لنجد في ظلمات القرن العاشر نفسه جربرت Gerbert يجمع كتباً بحماسة محبي الكتب الحقة؛ وكان لغيره من رجال الدين أمثال جون السلزبري مجموعات خاصة بهم. كما كان لعدد قليل من النبلاء مكتبات صغيرة في قصورهم؛ وكان لفردريك بربرسا وفردريك الثاني مجموعات كبيرة، وجمع هنري الأرغوني مكتبة عظيمة حرقت علناً لاتهامه بالاتصال بالشيطان(19). وجاء دانيل من أهل مورلي Morley إلى إنجلترا من أسبانيا عام 1200 "بطائفة كبيرة قيمة من الكتب"(20). وكشفت أوربا في القرن الثاني عشرة ثروة أسبانيا العظيمة من الكتب فهرع العلماء إلى طليطلة، وقرطبة، وأشبيلية، وعبرت جموع رجال العلم الجديد التي لا حصر لها جبال البرانس وأحدثت في الحياة الذهنية في بلاد الشمال التي كانت وقتئذ في دور المراهقة انقلابا عظيم الأثر.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: المترجمون

كانت أوربا في العصور الوسطى منقسمة نصفين أحدهما لاتيني والآخر يوناني وإن كانت تجمعهما آلي حد ما لغة مشتركة. وكان النصفان متعاديان ويجهل أحدهما الآخر. وقد نسى الشرق اليوناني التراث اللاتيني ما عدا القانون، كذلك نُسى التراث اليوناني في الغرب كله ما عدا الصقليتين؛ لكن بعض التراث اليوناني كان مختبئاً وراء أسوار المسيحية- في بيت المقدس الإسلامية، والإسكندرية، والقاهرة، وتونس، وأسبانيا؛ أما العالم الواسع الرقعة البعيد الشقة الذي يشمل الهند والصين واليابان، والذي كان من عهد بعيد غنيا بالأدب والفلسفة والفن، فلم يكد العالم المسيحي قبل القرن الثالث عشر يعرف عنه شيئا.

واضطلع اليهود ببعض العمل الذي يهدف إلى ربط الثقافات المختلفة بعضها ببعض، فقد كانوا ينتقلون بين هذه الثقافات تنقل مجاري الماء المخصبة تحت تربة الأرض. ولما كثر عدد اليهود المهاجرين من بلاد الإسلام إلى البلاد المسيحية، ونسوا اللغة العربية، رأى علماؤهم أنه يجدر بهم ان يترجموا المؤلفات العربية (التي ألف اليهود كثيراً منها) إلى اللغة التي لا يعرف علماء هذا الشعب المشتت غيرها وهي اللغة العبرية. ومن أجل هذا ترجم يوسف قمجي (1105؟- 1190؟) في نربونة كتاب (المرشد إلى واجبات القلب) تأليف الفيلسوف اليهودي بهية إلى تلك اللغة. وكان يوسف هذا والد أبناء من جلة العلماء، ولكن أعلى منهم كعبا في شؤون الترجمة أبناء يهوذا بن شاؤل بن طبون (1120؟- 1190؟)؛ وكان هو أيضاً قد هاجر من بلاد الأندلس الإسلامية إلى جنوب فرنسا؛ وهو وإن كان من أكثر أطباء عصره نجاحا في مهنته كان له من النشاط ما استطاع به ترجمة المؤلفات اليهودية العبرية لسعديه جاؤن، وابن جبيرول، ويهودا هلبفي إلى اللغة العربية. وأثار ابنه صمويل (1150؟- 1232) العالم اليهودي إلى ترجمة كتاب دليل الحيران لابن ميمون إلى اللغة العبرية، وترجم موسى بن طبون كتاب العناصر لإقليدس من اللغة العربية أيضا، وترجم كتاب القانون الصغير لابن سينا، وكتاب الترياق للرازي، وثلاثة من مؤلفات ابن ميمون، وشروح ابن رشد القصيرة لأرسطو. وتزعم يعقوب بن طبون حفيد صمويل حركة الكفاح من أجل ابن ميمون في منبلييه، واشتهر بنبوغه في علم الفلك، ولكنه مع هذا ترجم عدداً من الرسائل العربية إلى اللغة العبرية، كما ترجم بعضها إلى اللغة اليونانية. وتزوجت ابنة صمويل عالما أوسع شهرة من أبيها هو يعقوب أناضولي. وقد ولد يعقوب هذا في مرسيلية حوالي عام 1194 ودعاه فردريك الثاني لتدريس اللغة العبرية في جامعة نابلي، وفيها ترجم إلى اللغة العبرية شروح ابن رشد الكبرى. وكان لهذه الشروح أبلغ الأثر في الفلسفة اليهودية. وكانت ترجمة كتاب المنصوري للرازي على يد الطبيب الفيلسوف ثم طب (1264) في مرسيلية حافزاً قوياً إلى النهضة الطبية عند العبرانيين.

وترجمت إلى اللغة اللاتينية كثر من التراجم العبرية للكتب العربية من ذلك أن كتاب التيسير لابن زهر ترجم إلى اللاتينية في بدوا (1280)؛ وفي بداية القرن الثالث عشر ترجم أحد اليهود أسفار العهد القديم كلها ترجمة حرفية من اللغة العبرية إلى اليونانية مباشرة. وتمثل لنا ترجمة كتاب كليلة ودمنة لبيدبا الطرق الملتوية التي كانت تسير فيها الهجرة الثقافية: فقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من ترجمة أسبانية لترجمة لاتينية لترجمة عبرية، لترجمة عبرية لترجمة فهلوية لترجمة للنسخة السنسكريتية المزعومة(21).


أما التيار الرئيس الذي صب به تيار الثروة الفكرية الإسلامية في العالم الغربي فكان عن طريق ترجمة الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية.فقد ترجم قسطنطنين الأفريقي حوالي عام 1060 إلى اللغة اللاتينية كتاب الاختبار للرازي وكتب اسحق يوديوس في الطب، وترجمة حنين العربية لأمثال أبقراط وشرح جالينوس. وجمع ريمند (1130؟) المستنير المتسامح كبير أساقفة طليطلة بعد استردادها من المسلمين طائفة من المترجمين برياسة دمنيكو جند يسلفى وعهد إليهم ترجمة الكتب العربية في العلوم الطبيعية والفلسفية. وكان معظم هؤلاء المترجمين من اليهود الذين يعرفون اللغات العربية، والعبرية، والأسبانية، بالإضافة إلى اللاتينية في بعض الأحيان، وكان اكثر هذه الفئة نشاطاً أحد اليهود المتنصرين يدعى حنا الأسباني (أو "الأشبيلي") وقد حور الفلاسفة المدرسيون كنيته العربية وهي ابن داود فسموه أفنديث Avendeath. وقد ترجم حنا هذا مكتبة حقق من مؤلفات ابن سينا، والغزالي، والفارابي،... والخوارزمي عن أولها العربية أو عن تراجمها اليهودية. وأدخل بترجمته لكتاب الخوارزمي الأرقام الهندية- العربية في بلاد الغرب. ولا يقل هذا الكتاب أثراً عن ترجمته لكتاب مدسوس على أرسطو في الفلسفة والأسرار الخفية يدعى Secretum Secretorum وهو كتاب يدل على سعة انتشاره بقاء مائتي نسخة مخطوطة منه. وكانت بعض الكتب تترجم من العربية إلى اللاتينية مباشرة، وبعضها يترجم إلى اللغة القشتالية ثم يترجمها غنديسلوى إلى اللاتينية. وبهذه الطريقة حول العالمان كتاب حكور حاتم فأصبح Fon Vitae أو ينبوع الحياة وبه أصبح ابن جبيرول (Avicebron) من أشهر الفلاسفة في محيط الفلسفة الكلامية. وكانت هناك روافد أخرى تغذى هذا التيار اللاتيني العربي. من ذلك أن عالما من باث Bath يدى أبلار تعلم العربية في إنطاكية، وطرسوس، وطليطلة ثم نقل كتاب إقليدس من العربية إلى اللاتينية (1120) فكانت هذه الترجمة أول ترجمة لاتينية لهذا الكتاب؛ وهو الذي أدخل حساب المثلثات من بلاد المسلمين إلى الغرب بترجمته ازياج الخوارزمي (1126)(23).

وفي عام 1141 قام بطرس الموقر رئيس دير كلوني هو وثلاثة من العلماء المسيحيين يساعدهم أحد علماء العرب بترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية. ودخل علم الكيمياء والكيمياء الكاذبة العالم اللاتيني بترجمة ربرت من أهل تشتر أحد الكتب الكتب العربية في عام 1144. وبعد عام من ذلك الوقت قام رجل يدعى أفلاطون التيقولى بترجمة رسالة هيورها مشيحه العظيمة الشأن لمؤلفها إبراهام بارحيا. وكان أعظم المترجمون على بكرة أبيهم رجلا يدعى حرار من أهل كريمونا، ذلك أنه لما قدم هذا الرجل إلى طليطلة حوالي 1165 أعجب بثروة العرب في العلوم والفلسفة فصمم على أن يترجم خير ما في هذه الثروة إلى اللغة اللاتينية، وقضى في هذا العمل التسع السنين الباقية من حياته؛ فتعلم اللغة العربية واستعان كما يبدو بمسيحي من أهل المدينة وبآخر يهودي(24).

وليس من المعقول أن يكون هو الذي ترجم الكتب الواحد والسبعين من غير أن يعاونه فيها أحد. ومهما يكن من شيء فإن الغرب مدين له بالتراجم اللاتينية للتراجم العربية لكتب أرسطو في التحليلات، وفي السموات والأرض، والكون والفساد، والمتيورولوجيا؛ وبطائفة من الشروح لإسكندر الفروديسي، والعناصر والفروض لإقليدس، وقياس الدائرة لأرخميدس، والمخروطات لأبلونيوس البرجاوي، وأحد عشر كتاب معزوة إلى جالينوس وعدة مؤلفات في الفلك يونانية الأصل، وأربعة مجلدات يونانية- عربية في الطبيعة، وأحد عشر كتاباً في الطب عند العرب، من بينها أكبر كتب الرازي وابن سينا والفارابي وثلاثة من كتب الكندي، وكتابان لإسحاق إسرائيلي، وأربعة عشر كتاباً في الرياضة والهيئة عند العرب، وثلاث مجموعات من الأزياج الفلكية، وسبعة مؤلفات عربية في الهندسة والفلك؛ وقصارى القول أن ليس في التاريخ كله رجل أغنى بمفرده ثقافة لأخرى كما فعل جرار هذا. ولا يضارع جرار في عمله هذا إلا عمل حنين بن اسحاق، وعمل "بيت الحكمة" الذي أنشأه الميمون، وهما اللذان صبا العلوم والفلسفة اليونانية في القالب العربي.

ويلي أسبانيا في مجد الثقافات على هذا النحو مملكة الصقليتين النورمانية. ذلك ان حكام النورمان لم يكادوا يفتحون الجزيرة (1091) حتى استخدموا مترجمين ليقوموا بترجمة المؤلفات العربية واليونانية في الرياضة والهيئة المنتشرة في بالرم إلى اللغة اللاتينية. وواصل فردريك الثاني هذا العمل في فوجيا Foggia واستقدم إلى بلاطه للقيام به وبغيره من الأعمال عقلاً من اعجب العقول وأكثرها نشاطاً في أوائل القرن الثالث عشر ونعني بصاحب هذا العقل ميخائيل اسكت. وقد اشتق اسم هذا الرجل من موطنه الأصلي في إسكتلندة؛ وتراه في طليطلة عام 1217 وفي بولونيا عام 1220، وفي روما من 1224 إلى 1227، ثم تراه بعدئذ في فوجيا أو نابلي. وكان أول ما ترجمه كتاب الأجسام الكروية للبطروحي وهو نقد كتاب بطليموس. واعجب اسكت لما يمتاز به تفكير أرسطو من حرية واتساع في الأفق فترجم إلى اللغة اللاتينية الترجمة العربية لكتاب تاريخ الحيوان لأرسطو بما فيه "أجزاء الحيوان" و "توالد الحيوان"، وتعزو إليه رواية غير محققة تراجم كتب "ما وراء الطبيعة"، و "الطبيعة" و"النفس"، و "والسموات"، ولعله ترجم كذلك كتاب "الأخلاق". ووصلت تراجم ميخائيل لكتب أرسطو إلى البرتس مجنس وروجربيكن، وكان لها اثر كبير في الحركة العلمية في القرن الثالث عشر، وواصل شارل صاحب أنجو مناصرة الترجمة في جنوبي إيطاليا، وعمد له في هذا العالم اليهودي موسى من أهل سلرنو، واكبر الظن أن شارل هو الذي قدم المال اللازم لترجمة الموسوعة الطبية الضخمة (1274) الرازي وهي معروفة بأسم "كتاب الحاوي" إلى اللغة اللاتينية على يد العالم اليهودي فرج بن سالم الجرجنتي.

وكانت جميع التراجم اللاتينية السالفة الذكر لعلوم اليونان وفلسفتهم مقولة من التراجم العربية- وكان منها ما هو ترجمة عربية للترجمة السريانية للأصل الذي يكتفه الغموض. ولم تكن هذه التراجم خالية من الدقة إلى الحد الذي اتهمها به روجر بيكن؛ ولكن ما من شك في ان الحاجة كانت منذ ذلك الوقت ماسة إلى تراجم من الأصل مباشرة. وكان من بين اقدم هذه التراجم الأصلية ترجمة كتب أرسطو على يد جيمس الذي لا نعرف عنه اكثر من انه "كاتب من البندقية" قبل عام 1128. وفي عام 1154 ترجم يوجين "أمير" بالرم كتاب بطليموس في "البصريات"، ثم اشترك في عام 1160 في ترجمة لاتينية لكتاب المجسطي من اللغة اليونانية مباشرة. وكان ارستيس من اهل قطانيا قد ترجم في الوقت عينة (1156؟) كتاب حياة الفلاسفة لديوجنيز ليرتيوس وكتاب مينون وفيدون لأفلاطون. ولم يؤثر استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في الترجمة بالقدر الذي كان يحق لنا ان نتوقعه؛ فنحن لم نسمع الا عن ترجمة جزء من كتاب الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) لأرسطو (1209)؛ وأعقبت ذلك فترة مجدبة شرع بعدها في عام 1260 وليم الموربيكي William of Moerbeke كبير أساقفة كورنث الفلمنكي يعاونه في أغلب الظن عدد من المترجمين بترجمة طائفة من الكتب عن اللغة اليونانية مباشرة. وان عدد هذه التراجم وأهميتها لتنزلانه بين أبطال نقل الثقافة منزلة لا تعلو عليها إلا منزلة جرادر الكريموني. وكانت استجابته لطلب صديقه وزميله الراهب الدمنيكي تومس أكويناس من الأسباب التي حملته على ترجمة عدد كبير من مؤلفات أرسطو تاريخ الحيوانات، والسياسة، والبلاغة، وعلى إتمام ترجمة بعض التراجم السابقة أو مراجعتها. الميتافيزيقا والمنبورولوجيا (الأرصاد الجوية) وفي النفس.. وترجم للقديس تومس عدة شروح على كتب أرسطو وأفلاطون؛ وأضاف إلى هذه الأعمال الكثيرة تراجم لكتاب التشخيص لأبقراط وكتاب جالينوس في الطعام وعدة مؤلفات في علم الطبيعة لهيرون الإسكندري وأرخميدس. ولعنا مدينون له ايضاً بترجمة لكتاب الأخلاق لأرسطو تعزى من قبل إلى ربرت جروستستي، وكانت هذه التراجم جزء من المادة التي بنى عليها تومس كتابه العظيم الأثر في اللاهوت. ولم يحل عام 1280 حتى كانت كتب أرسطو كلها تقريباً في متناول العقل الغربي.

وقد أحدثت هذه التراجم كلها في أوربا اللاتينية ثورة عظيمة الخطر، ذلك ان تدفق النصوص العلمية من بلاد الإسلام واليونان كان له اعمق الأثر في استثارة العلماء الذين بدءوا يستيقظون من سباتهم؛ وكان لا بد ان تحدث تطورات جديدة في النحو وفقه اللغة، ووسعت نطاق المناهج الدراسية، وأسهمت بنصيب في نشأة الجامعات ونمائها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وكان عجز المترجمين أن يجدوا مفردات لاتينية تؤدي المعاني التي يريدون نقلها إلى تلك اللغة هو الذي أدى إلى دخول كثير من الألفاظ العربية في اللغات الأوربية؛ ولم يكن هذا اكثر من حادث عارض في أعمال الترجمة، ولكن أهم من هذا أن الجبر، وعلامة الصفر والنظام العشري في الحساب قد دخلت كلها في بلاد الغرب المسيحية بفضل هذه التراجم، وان الطب من ناحيته النظرية والعلمية تقدم تقدماً عظيماً بفضل ما قام به العلماء المترجمون اليونان، واللاتين، والعرب، واليهود، وان ما كان لعلم الهيئة اليوناني والعربي من شأن خطير قد احدث، وكان لا بد ان يحدث، توسعاً في علوم الدين، وفي تعديل أفكار العلماء عن الإله، وكان ذلك إِرهاصاً بتغيير في هذه الناحية أوسع مدى جاء بعد عهد كوبرنيق. وان في إشارات روجر بيكن المتكررة لابن رشد، وابن سينا، والفارابي لدليلاً على ما كان لهؤلاء العلماء من تأثير وحافز جديد. وفي ذلك يقول روجر بيكن نفسه: "لقد جاءت إلينا الفلسفة من العرب"(25)، وسنرى إن الذي دعا تومس أكوناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت هو ان يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية. وهكذا رد الإسلام إلى أوربا ما أخذه عن اليونان بطريق بلاد الشام؛ وكما أن هذه العلوم كانت بداية ذلك العصر العظيم عصر العلوم والفلسفة العربية، كذلك أثارت هذه التراجم عقل أوربا وحفزته إلى البحث والتفكير، وأرغمته على أن يشيد ذلك الصرح العقلي الخطير صرح الفلسفة المدرسية، وان ينقض ذلك الصرح الفخم حجراً بعد حجر، فينهار بذلك نظام العصور الوسطى الفلسفي في القرن الرابع عشر، وتبدأ الفلسفة الحديثة في غمرة التحمس العظيم أثناء عصر النهضة.


الفصل الرابع: المدارس

وكان الذي يقوم بنقل الحضارة من جيل إلى جيل الأسرة، والكنيسة، والمدرسة. وكان يعني عناية خاصة بالتربية الخلقية في العصور الوسطى، على حساب الثقافة العقلية، كما يعني اليوم بالتربية العقلية، على حساب التأديب الخلقي. ولم يكن في غير المألوف في إنجلترا بين الطبقات الوسطى والعليا أن يصل الولد في سن السابعة أو نحوها ليربى وقتاً ما في بيت غير بيته؛ وكان الغرض المقصود من هذا تمكين الروابط بين الأسرة من جهة، وإبعاد الولد عن اللين المنبعث من حنان الأبوين من جهة أخرى(26). كان نظام المدارس الفخم الذي أنشأته الإمبراطورية الرومانية قد انهار من خلال الفوضى الناشئة من الغارات ومن نقص سكان المدن؛ ولما أن هدأت موجة الهجرة في القرن السادس بقيت قلة من المدارس العلمانية في إيطاليا؛ وكان معظم الباقي مدارس لتعليم المعتنقين الجدد الدين المسيحي وقساوسة المستقبل. وظلت الكنيسة فترة من الزمن (500- 800) تخص بعنايتها التدريب الاخلاقي، ولم تكن ترى ان النقل العلوم الدنيوية من واجباتها؛ ولكن الكتدرائيات، والأديرة، وكنائس الأبرشيات وأديرة النساء، قد حفزها شارلمان إلى فتح أبوابها لتعليم البنين والبنات تعليماً عاماً. وحملت مدارس الأديرة وحدها في أول الأمر هذا العبء كله تقريباً. وكانت المدارس نوعين مدرية داخلية تهئ التعليم للمستجدين ومن ينذرهم آباؤهم للرهبنة أو الكنيسة، ومدرسة خارجية تعلم الأولاد من غير أجر على ما يظهر(27). ونجت مدارس الأديرة الألمانية من اضطرابات القرن التاسع، وأسهمت بنصيب مثمر في النهضة الأتونية Ottonian؛ وكانت ألمانيا في القرنين التاسع والعاشر تعلو على فرنسا في كل ما يزين العقل؛ ذلك أن انحلال البيت الكارولنجي في فرنسا، وغارات أهل الشمال، كانا ضربتين قويتين وجهتا إلى مدارس الأديرة، ولهذا لم تبقى مدرسة القصر التي أنشأها شارلمان في بلاط الفرنجة بعد ان مات شارل الأصلع (في عام 877). وزادت الأسقفيات الفرنسية قوة كلما زاد الملوك ضعفاً، ولما أن وقفت غارات أهل الشمال كان الأساقفة ورجال الدين في خارج الأديرة أغنى من رؤساء الأديرة ومن الأديرة نفسها، ولهذا قامت مدارس الكتدرائيات في القرن العاشر في باريس، وشارتر، وأورليان، وتور، ولاؤن، وريمس، ولييج، وكولوني؛ على حين أن مدارس الأديرة ضعفت في ذلك القرن؛ ولما توفي فلبرت الصالح العظيم في شارتر، احتفظ الأسقف إِيفو Ivo بالمستوى الرفيع وبحسن السمعة الذين نالتهما مدرسة كتدرائيتها في الدراسات اليونانية والرومانية القديمة، وجرى برنار أسقف شارتر الذي خلف إِيفو على تقاليد سلفه الطيبة، وقد وصف حنا السلزبري برنار هذا في القرن الثاني عشر بقوله انه "في الوقت الحاضر اغزر منبع للآداب في غالة وعظم هذه المنابع روعة" (28). وفي إنجلترا ذاعت شهرة مدرسة يورك حتى قبل أن تعير ألكوين إلى شارلمان؛ وكادت مدرسة كنتربري تصبح جامعة ذات مكتبة كبيرة، وكان أمينها هو الرجل العظيم حنا السلزبري السالف الذكر؛ وهو رجل من اعظم العلماء والفلاسفة عقلاً في العصور الوسطى. ويبدو ان الطلاب الذين يهيأون لان يكونوا قساوسة كان ينفق عليهم من أموال الكتدرائية، أما غيرهم من الطلاب فكانوا يؤدون أجوراً قليلة. وقد أصدر مجلس لاتران الثالث (1179) قراراً يقول: "لكي لا يحرم الأطفال الفقراء من فرصة القراءة والرقى... يجب أن يخصص مرتب كافي لمدرس يعلم بالمجان من يعدون لممارسة مهنة الكهانة وللفقراء من التلاميذ" (29) وطالب مجلس لاتران الرابع (1215) بأن ينشأ كرسي للنحو في كل كتدرائية من كتدرائيات العالم المسيحي، وأمر كل كبير أساقفه بأن يكون لديه كرسيان للفلسفة والقانون الكنسي(30). وخص البابا جريجوري التاسع (1227- 1241) في أوامره السامية كنائس الأبرشيات على ان تنشئ مدرسة للتعليم الأولى، وتدل البحوث الحديثة على ان مدارس الأبرشيات هذه- المخصصة أولاً للتعليم الديني- كانت منتشرة في جميع أنحاء العالم المسيحي.

ترى ماذا كانت نسبة المراهقين من الأهلين الذين كانوا يؤمون هذه المدارس؟ اما البنات فلم يكن يذهب إليها فيما يبدو إلا بنات الطبقة الموسرة؛ وكانت معظم الأديرة تنشأ مدارس للبنات كالمدرسة التي في أرجنتي Argenteuil؛ وعلمت هلواز الآداب القديمة تعليماً ممتازاً (حوالي عام 1110)، ولكن اغلب الظن ان هذه المدارس لم تدخلها إلا نسبة صغيرة من البنات. ومن مدارس الكتدرائيات ما كانت تقبل البنات، فها هو ذا أبلار يحدثنا عن "النساء الشريفات المولد" اللائي كن يذهن إلى مدرسة نتردام في باريس عام 1114(32). أما الأولاد فكانوا احسن حظاً من البنات، ولكن يبدو أن ابن رقيق الأرض كان يصعب عليه ان ينال تعليماً ما(33)، وان كنا نسمع أن بعض الأرقاء استطاعوا أن يلحقوا أبناءهم بأكسفورد(34). وكان كثير من المواد التي تعلم الآن في المدرسة يعلم وقتئذ في المنزل أو بالتدريب في الحوانيت؛ ولا ريب في أن انتشار الفنون في العصور الوسطى والدرجة الرفيعة التي بلغتها يوحيان بأنه كانت ثمة فرص واسعة للتدرب على الفنون والحرف. وتقدر إحدى الإحصاءات عدد الأولاد الملتحقين بالمدارس الأولية بإنجلترا في عام 1530 بستة وعشرين ألفاً من بين سكانها الذين يقدرون في ذلك الوقت بخمسة ملايين، أي بجزء من ثلاثين جزءاً من سكانها في عام 1931(35)؛ ولكن دراسة حديثة لهذا الموضوع تقول أن "القرن الثالث عشر كان اقرب إلى التعليم الشعبي والاجتماعي من القرن السادس عشر" (36).

وكان قس من قساوسة بيت الكتدرائية هو الذي يدير مدرسة الكتدرائية عادة،؛ وكان يسمى بأسماء مختلفة هي ارشسكولا (كبير المدرسة) Archiscola أو اسكلاريوس scolarius أو اسكلاستكس Scolasticus (المدرس). وكان التعليم كله باللغة اللاتينية؛ وكان التأديب صارماً، فكان الضرب بعد من مستلزمات التعليم كما كانت الجحيم من مستلزمات الدين، ومن اجل هذا كانت مدرسة ونشستر تحي طلابها ببيت من الشعر سداسي الأوتاد صريح في معناه وهو: "Aut disce, an discede manet sors teria caedi" ومعناه "تعلم أو ارحل والثالثة التي تختارها هي أن تضرب ". وكان المنهج يبدأ بالمجموعة الثلاثية- النحو والبلاغة، والمنطق-؛ ثم ينتقل الطالب بعدها إلى "المجموعة الرباعية" -الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك؛ وكانت هذه هي "الفنون الحرة السبعة" على ان هذه المصطلحات لم تكن لها في ذلك الوقت نفس المعنى الذي لها في الوقت الحاضر. فأما المجموعة الثلاثية Trivium فكان معناها بطبيعة الحال إنها مكونة من ثلاث طرق، وأما الفنون الحرة فهي التي عرفها أرسطو قبل ذلك الوقت بأنها المواد الخليقة بالأحرار الذين لا يجرون وراء المهارات العملية (وكانت هذه تترك لصبيان الصناعات)، بل يسعون وراء التفوق العقلي والخلقي(28). وكان فارو (116- 127 ق. م) قد كتب سبعة كتب في التأديب ذكر فيها سبع دراسات وصفها بأنها تؤلف المنهج اليوناني الروماني. وكتب مارتيانس كابلا Martianus Capella في القرن الخامس الميلادي كتاباً في مبادئ التربية نحا فيه منحى الاستعارة والتشبيه وكانت له شهرة واسعة وسماه "في زواج الفلسفة بعطارد On the Marriage of Philosophy and Mercury"، واخرج الطب والعمارة من مناهج التعليم لأنهما دراستان عمليتان اكثر مما يجب أن تكون الدراسات، وبقيت بعد السبع الدراسات الشهيرة. ولم يكن "النحو" هو الدراسة المملة التي تضيع فيها روح اللغة بدراسة عظامها، بل كان هو فن الكتابة (gramma, graphs)؛ وقد عرفة كيودورس بأنه هو دراسة العظيم في الشعر والخطابة دراسة تمكن الإنسان من أن يكتب كتابة صحيحة ظريفة. وكانت هذه الدراسة تبدأ في مدارس العصور الوسطى بالمزامير، ثم تنتقل إلى غيرها من أسفار الكتاب المقدس، ثم إلى كتب آباء الكنيسة اللاتيني، ثم إلى الآداب اللاتينية القديمة - شيشرون، وفرجيل، وهوراس، واستانيوس، وأوفد.وظل معنى البيان هو فن الحديث، ولكنه كان يشمل أيضاً دراسة واسعة الأدب. ويبدو أن المنطق كان من الموضوعات الراقية التي لا يمكن أن تشملها المجموعة الثلاثية. ولكن يبدو انه كان من الخطير للتلاميذ ان يتعلموا اتباع قواعد المنطق حين يبدءون يحبون الجدل.

وأدخلت الثورة الاقتصادية شيئاً من التغير في ميدان التعليم، فقد أحست المدن التي تعيش بالعمل في التجارة والصناعة بحاجتها إلى موظفين ذوى تدريب عملي؛ ولهذا أنشأت، رغم معارضة قوية من جانب الكنيسة، مدارس زمنية يعلم فيها مدرسون ألمانيون نظير أجور يتقاضونها من آباء التلاميذ. وكان الأجر السنوي في المدرسة العامة التي في مرتبة المدارس الثانوية بأكسفورد نحو أربعة بنسات أو خمسة (4.5 دولار امريكي)؛ وقد أحصى فلاني Villani في عام 1483 تسعة آلاف ولد وبنت في مدارس الكنائس بفلورنس، و1100 في ست من مدارس "المِعَدات" التي تهيؤهم للاشتغال بالأعمال التجارية والمالية، و475 تلميذاً في المدارس الثانوية. ونشأت المدارس الزمنية في فلاندرز في القرن الثاني عشر؛ ولم يحل النص الثاني من القرن الثالث عشر حتى كانت هذه الحركة قد انتشرت في لوبك Lübeck ومدن البحر البلطي. ونقرأ في عام 1292 عن معلمة تدير مدرسة خاصة في باريس، وسرعان ما أضحت هذه واحدة من كثيرات مثلها(39)، فقد اخذ تحول التعليم إلى الناحية الدنيوية يجري مجراه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامِس: جامعات الجنوب

وكانت المدارس غير الدينية كثيرة في إيطاليا بنوع خاص؛ وكان مدرسوها في العادة من غير رجال الدين بخلاف ما كانت عليه الحال فيما وراء الألب؛ كما كانت الروح والثقافة الإيطاليتان بوجه عام اقل من نزعتهما الدينية مما كانت عليه الحال في غير إيطاليا من البلاد. بل ذهب البعض إلى اكثر من هذا فحدث حوالي عام 970 ان نظم رجل يدعى فلجاردس Vilgardus حركة في رافنا تهدف إلى إعادة الوثنية(40). وكان في البلاد بطبيعة الحال كثير من مدارس كتدرائيات ميلان، وبفيا، وأوستا Aosta، وبارما ذات كفاية خاصة، وفي وسعنا أن نحكم على مقدار هذه الكفاية إذا عرفنا ان خريجيها لا فرانك وأنسلم؛ وكادت مدرسة مُنتى كازينو في عهد دزدريوس تكون جامعة. ولقد تضافر بقاء الأنظمة البلدية، ونجاح المدن اللمباردية في مقاومة بربرسا (1176)، والطلب المتزايد على المعلومات القانونية والتجارية، تضافرت هذه العوامل كلها على أن تنيل إيطاليا شرف السبق في مضمار إنشاء الجامعات في العصور الوسطى.

ولقد احتفلت جامعة بدوا في عام 1945 بالعيد المتمم للمائة بعد الألف من إنشائها على يد لوثير الأول Lothair I. وأكبر الظن أنها كانت مدرسة حقوق لا جامعة، ولم تتلق المرسوم الذي يجمعها مدرسة عامة إلا في عام 1361. وكان هذا هو الاسم هو يطلق في العصور الوسطى على الجامعة التي تضم عدداً من الكليات المختلفة، وكانت إحدى المدارس الكثيرة التي شرعت من القرن التاسع عشر وما بعده نحي دراسة القانون الروماني: مدارس روما، ورافا، وأورليان في القرن التاسع؛ ومدارس ميلان، ونربونة، وليون Lyons في القرن العاشر؛ ومدارس فرونا، ومنتوا، وأنجرس Ongers في القرن الحادي عشر. ويبدوا أن بولونيا هي أولى مدائن غربي أوربا التي وسعت مدرستها فجعلتها مدرسة عامة، وفي ذلك يقول المؤرخ الإخباري أودوفريدوس Odsfredus في عام 1076: "شرع مدرس يدعى بببو Pepo يحاضر في القانون على مسئوليته الخاصة... في بولونيا، وكان من اعظم الرجال شهرة" (41). ثم انضم إليه غيره من المدرسين، حتى غدت مدرسة الحقوق في بولونيا قبل أيام إرتريوس Irnerius بإجماع الآراء خير مدارس أوربا على الإطلاق.

وبدأ إرنربوس يدرس القانون في بولونيا عام 1088، وانحاز في تدرسيه من جانب الجلف إلى جاني الجبلين، وفسر فقه القانون الذي عاد وقتئذ إلى الحياة تفسيراً يتفق ومصلحة المطالب الإمبراطورية. ولسنا نعلم أكان منشأ هذا العمل من جانبه أن دراسة القانون الروماني أقنعته بقوة الحجج التاريخية والعملية التي تؤيد تفوق السلطة الإمبراطورية على السلطة الدينية أم أن المكافآت التي تتيحها له الخدمة الإمبراطورية قد أغرته بهذا الانحياز؟ وسواء كان هذا أو ذاك فإن الأباطرة الذين قدروا له عمله أغدقوا المال على المدرسة، وهرع عدد كبير من الطلاب الألمان إلى بولونيا، وألف أرنربوس مجلداً في التأويلات أو الشروح على كتاب القوانين لجستنيان وطبق الطريقة العلمية علة تنظيم القانون. ويعد كتاب قوانينه الذي جمعه أو جمع مع محاضراته آية من آيات المرض الجيد والحجج القوية.

وبدأ بإرنريوس العصر الذهبي في التشريع أثناء العصور الوسطى، وأقبل الرجال على بولونيا من جميع بلاد أوربا اللاتينية ليتلقوا فيها علم القانون الذي عاد وقتئذ إلى شبابه، وطبق جراتيان تلميذ أرنريوس الأساليب الجديدة على التشريع الكنسي، ونشر (1139) المجموعة الأولى من القانون الكنسي. وجاء بعد أرنريوس "العلماء الأربعة"- بلجارس Bulgarus، ومرتينس Martinus، وياقوبس Jacobus، وهوجو Hugo- بسلسلة من التأويلات الشائعة الصيت لتطبيق دستور جستنيان على المشاكل التشريعية في القرن الثاني عشر، وافلحوا في إدخال القانون الروماني إلى ميدان مطرد الاتساع. وجمع أكرسيوس Accursius الاكبر (1185؟- 1260)، أعظم "الشراح " في بداية القرن الثالث عشر، أعماله هو وأعمالهم في شروح عامة أصبحت هي المرجع المعتمد الذي استعان به الملوك والعامة على تخطيط سلطان القانون الإقطاعي، ومحاربة سلطان البابوات. وبذلت البابوية كل ما تستطيع من الجهد لتعطيل حركة بعث القانون الذي يجعل الدين عملاً من أعمال الدولة وخادماً لها، ولكن الدراسة الجيدة غذت النزعة العقلية وحركة التحول إلى الناحية الدنيوية اللتين قامتا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكانت هي المعبرة عنهما، وأوجدت طبقة من المحامين أخذت تتضاعف على مر الأيام وتجد في تخفيض نصيب الكنيسة في الحكم وتوسيع سلطان الدولة. ووصل الأمر إلى حد شكا معه القديس برنار من أن محاكم أوربا تدوي بشرائع جستنيان، ولم تعد تسمه قوانين الله(42). وكان انتشار فقه القانون الجديد حافزاً إلى خلق روح الاحترام للقانون، والشغف باتباع العقل لا يقل عن تراجم الكتب العربية واليونانية، وكان هذا الشغف هو الذي أوجد الفلسفة المدرسية الكلامية وقوض بعدئذ أركانها.

ولسنا نعلم متى قامت مدرسة للفنون- أي الفنون السبعة الحرة، في بولونيا، كما لا نعلم أيضاً متى أنشأت مدرسة الطب الشهيرة بهذه المدينة. ومبلغ علمنا أن الصلة الوحيدة التي قامت بين المدارس الثلاثة كانت تنحصر في أن يتسلم جريجو كل واحدة منها درجاتها من وكيل الأسقف في بولونيا. وقد نظم الأساتذة أنفسهم في نقابة كنقابات الحرف، وحوالي عام 1215 نظم طلبة كل كلية أنفسهم في اتحاد طلاب جنوب الألب أو اتحاد طلاب ما وراء الألب. وضمت هذه "الجامعات" من بداية القرن الثالث عشر طالبات وطلاباً، وكان في كليات بولونيا في القرن الرابع عشر أستاذات.

وأنشئت نقابات الطلاب في بداية الأمر لتقوم بواجب الحماية المتبادلة لهم وتمكينهم من حكم أنفسهم بأنفسهم؛ ثم صار لها في القرن الثالث عشر سلطة عظيمة على هيئة التدريس؛ فقد كان في مقدور الطلبة ان يحولوا أي إنسان وبين الاستمرار في حياة التدريس في بولونيا بالمقاطعة المنظمة لمن لا يرضيهم من المدرسين. هذا إلى أن مرتبات الأساتذة كانت في كثير من الأحيان تؤديها "جامعات الطلاب" أي رؤساء نقابات الطلاب(44). وكان على المدرس الذي يرغب في إجازة للتغيب عن العمل، وان لم تزد على يوم واحد، ان يحصل على إذن بذلك من تلاميذه عن طريق رؤساء نقاباتهم. وكان يحرم عليه تحريماً صريحاً أن "يبتدع عطلات بمحض رغبته"(45). وكانت اللوائح التي تضعها لوائد الطلاب تحدد الدقيقة التي يبدأ فيها المدرس محاضرته، والتي تنتهي فيها هذه المحاضرة، ونوع العقوبات الذي تفرض عليه إذا خالف هذه القواعد. وكانت قوانين النقابات تأمر الطلاب أن يغادروا قاعة الدرس إذا أطال الأستاذ محاضراته عن الوقت المحدد لها. وكانت لوائح النقابات تفرض غرامة على المدرس إذ ترك فصلاً أو مرسوماً في شرحه القوانين، كما كانت تحدد مقدار ما يخصصه من المنهج لكل جزء من أجزاء الكتب المقررة. وكان يطلب إلى الأستاذ في بداية كل سنة جامعية أن يودع أمانة مقدارها عشرة جنيهات في أحد مصارف بولونيا، تخصم منها الغرامات التي يفرضها عليه رؤساء نقابات الطلاب، ويرد إليه ما يبقى منها في نهاية العام الدراسي بناء على أوامر أولئك الرؤساء. وكانت لجان من الطلاب تعين لمراقبة سلوك كل مدرس وتبلغ رؤساء النقابات كل ما تراه من شذوذ أو عيب في هذا السلوك(46). وإذا ما بدت هذه القواعد لطالب هذه الأيام معقولة إلى درجة غير عادية، وجب عليه أن يذكر أن طلاب الحقوق في جامعة بولونيا كانوا رجالاً بين السابعة عشر والأربعين من عمرهم، وانهم كانوا في سن يستطيعون وهم فيها أن يؤدبوا أنفسهم؛ وانهم جاءوا للدرس لا للعب، وان الأستاذ لم يكن موظفاً عند أمناء الجامعة، بل كان محاضراً حراً يؤجره الطلبة في واقع الأمر لكي يعلمهم. وكان مرتب المدرس في بولونيا يتكون من الأجور التي يؤديها طلابه ويحدد اتفاق يعقد معهم. ثم غير نظام الأداء حوالي آخر القرن الثالث عشر حين عرضت المدن الإيطالية، حرصاً منها على أن يكون لها جامعات خاصة بها، مرتبات تؤديها البلديات إلى بعض أساتذة بولونيل؛ فما كان من مدينة بولونيا نفسها وقتئذ (1289) إلا أن وعدت بأداء مرتب سنوي لاثنين من الأساتذة؛ ولكن اختيار الأساتذة ظل متروكاً للطلاب؛ وقد زاد عدد هذه المرتبات السنوية التي تؤديها البلديات شيئاً فشيئاً، حتى إذا كان القرن الرابع عشر انتقل اختيار الأساتذة وانتقلت مرتباتهم إلى المدينة نفسها. ولما أصبحت بولونيا جزءاً من الولايات البابوية في عام 1506 صار تعيين الأساتذة من اختصاص السلطات الكنسية.

بيد أن جامعة بولونيا انطبعت في القرن الثالث عشر بروح علمانية تكاد تكون معادية للكنسية، وقلما نجد في غيرها من المراكز التعليمية الاوربية، وجرى غيرها من جامعات إيطاليا على هذا النسق وان لم تبلغ فيه ما بلغته جامعة بولونيا، فبيننا كانت كلية أصول الدين أهم الكليات في هذه الجامعات الاخرى، لم يكن في بولونيا كلية دينية على الإطلاق قبل عام 1364، بل حل القانون الكنسي فيها محل علم اللاهوت؛ وحتى علم البيان نفسه قد اتخذ صورة القانون، بل أن فن الكتابة نفسه أضحى- في جامعات بولونيا، وباريس، وأورليان، ومنبلييه، وتور،... فن كتابة الوثائق القانونية، أو التجارية والمالية، أو الرسمية، وكانت درجات جامعية خاصة تمنح في هذا الفن(17). وكان من الأقوال الشائعة اقرب ما يمكن الحصول عليه من تعليم إلى الأحوال الواقعية هو الذي يتلقاه الطلاب في بولونيا؛ وترى أحد القصص المتداولة أن أحد علماء التربية الباريسيين نقض في بولونيا ما علمه في باريس، ثم عاد إلى باريس فنقص ما علمه في بولونيا(18). وتزعمت بولونيا في القرن الثاني عشر الحركة العقلية في اوربا، فلما كان القرن الثالث عشر تركت تعليمها يجمد حتى أضحى فلسفة القانون مدرسية كلامية آسنة، وحتى أضحى الشروح الأكورسية نصاً مقدساً لا يكاد يقبل التغيير، ويعطل تكييف القانون تكييفاً تقدمياً يوائم سير الحياة؛ ومن اجل هذا انتقلت روح البحث إلى ميادين أوسع حرية من ميدان القانون.

وانتشرت الجامعات في جميع أنحاء إيطاليا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ونشأت بعضها من جامعة بولونيا بهجرة الأساتذة والطلاب من هذه الجامعة؛ من ذلك أن بليوس غادرها في عام 1182 لينشئ مدرسة في مودينا؛ وأن يقوبس ده مندرا Jacobus de Mandra خرج منها إلى رجيو إميليا Reggio Emilia في عام 1188 واخذ معه تلاميذه؛ ونشأ من هجرة أخرى حدثت في اغلب الظن من بولونيا عام 1204 مدرسة عامة أو اتحاد مؤلف من عدة كليات في فيسنزا؛ وفي عام 1215 غادر رفريدس Roffredus جامعة بولونيا ليفتتح مدرسة للحقوق في أرزو Arezzo؛ وفي عام 1222 وسع عدد كبير من المدرسين والطلاب الذين غادروا بولونيا مدرسة قديمة كانت في بدوا، فأضيفت كليات للطب والآداب إلى مدرسة الحقوق التي كانت في هذه المدينة؛ وبعثت اليها مدينة البندقية بطلابها، وأسهمت فيما كانت تؤديه المدينة من مرتبات للأساتذة، وبذلك أصبحت بدوا في القرن الرابع عشر من أنشط مراكز التفكير الأوربي. وفي عام 1224 أسس فردريك الثاني جامعة نابلي ليمنع طلاب إيطاليا الجنوبية من الهجرة جماعات إلى الشمال. ولعل هذا السبب عينة مضافاً إلى الدبلوماسية الكنسية هو الذي حمل أونسيت الرابع على إنشاء جامعة بلاط روما التي تبعت البلاط البابوي في هجراته ومنها هجرته إلى أفنيون نفسها، وفي عام 1303 أسس بنيفاس الثامن جامعة روما التي بلغت مجدها في أيام نقولاس الخامس وليو العاشر، وأحرزت لقب سبنزا Sapienza (العاقلة) في عهد بولس الثالث. وبدأت سينا جامعة بلديتها في عام 1246، وبياسنزا في عام 1248؛ وقبل أن يختتم القرن الثالث عشر وجدت مدارس القانون، والآداب، والطب أيضاً أحياناً، في كل مدينة كبرى بإيطاليا. وكانت جامعات أسبانيا فذة في نوعها، فقد أنشأها الملوك وبسطوا حمايتهم عليها، فكانت تخدمهم وتخضع لأشراف حكوماتهم. فأنشأت قشتلة جامعة ملكية في بالنسية (Palencia) (1208)، ثم أنشأت جامعة أخرى في بلد الوليد (1304)؛ وأنشأت ليون Leon جامعة في سلمنقة (1227) وأنشأت جزائر البليار جامعة في بالما (1280)، وأنشأت قطلونية جامعة في لريدا (1300). وكانت الجامعات الأسبانية تقبل إشراف الكنيسة عليها والمعونة المالية منها رغم صلتها بالملوك؛ ومنها ما نشأ من مدارس الكتدرائيات كجامعة بالنسية. وخص سان فرنندو وألفنسو الحكيم جامعة سلمنقة بأموال كثيرة في القرن الثالث عشر، وسرعان ما ساوت هذه الجامعات تعلم اللغة اللاتينية، والعلوم الرياضية، والفلك، وعلوم الدين، والقانون؛ ومنها ما كان يعلم الطب، واللغة العبرية، أو اليونانية. وافتتح راهب دمنيكي في عام 1250 مدرسة للدراسات الشرقية في طليطلة لتدريس اللغتين العربية والعبرية. وما من شك في ان هذه المدرسة قد أفادت خيراً كثيراً لان أحد خريجيها ريمند مارتن Raymond Martin (حوالي عام 1260) اظهر علماً واسعاً بجميع كبار الفلاسفة ورجال الدين المسلمين. وكذلك كان للدراسات العلمية مكاان بارز في جامعة أشبيلية التي أنشاها ألفنسو الحكيم في عام 1254. وأنشأ الملك الشاعر دنيز Diniz في لشبونة جامعة للبرتغال عام 1290.


الفصل السادس: جامعات فرنسا

كانت فرنسا بلا ريب الزعيمة العقلية لأوربا في العصور الوسطى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فقد أصبحت لمدارس كتدرائياتها منذ بداية القرن الحادي عشر شهرة دولية عظيمة؛ وإذا كانت هذه المدارس قد نمت وازدهرت حتى أضحت جامعة عظيمة في باريس لا في شارتر، أولاؤن، أوريمس، فأكبر الظن إن سبب هذا هو إن تجارة السين الرابحة والأعمال المالية التي توجد عادةً في العاصمة قد جاءت إلى تلك المدينة بالثراء الذي يغري العقول وإنها كانت تقدم المال الذي يحتاجه العلم والفلسفة والفن.

وأول من عرف من المعلمين في مدرسة كتدرائية نتردام هو وليم الشامبووي William of Champeaux (1070- 1121)، وكانت محاضراته التي تقلى في أبهاء نتردام مثار الحركة العقلية التي نشأت منها جامعة باريس، ولما خرج أبلاد من بريطانيا (حوالي عام 1103) ووجه إلى وليم قياساً منطقياً أفعمه وقضى على سمعته، وبدأ اشهر المحاضرات في التاريخ الفرنسي، هرع الطلاب من كل صوب ليستمعوا إليه؛ فازداد عدد طلاب باريس وتضاعف عدد المدرسين. وكان الأستاذ (magister) في عالم التربية بباريس في القرن الثاني عشر رجلاً أجاز له رئيس كتدرائية نتردام أن يدرس. وكانت جامعة باريس في ذلك الوقت قد خطت خطوات سريعة لا نستطيع تتبعها، فارتقت من مدرسة كنيسة المدينة ونالت وحدتها الأولى من هذا المصدر الوحيد مصدر الإجازة التعليمية. وكانت هذه الإجازة تعطى عادةً بالمجان لكل من قضى وقتاً كافياً تلميذاً لأستاذ مرخص بشرط أن يوافق هذا الأستاذ على طلبه؛ وكان من التهم التي وجهت إلا أبلار إنه أشتغل بمهنة التدريس دون أن يقضي فترة التلمذة المعتمدة من أستاذ.

وكان إدراك فن التدريس على هذا النحو، أي الأستاذ المعلم والصبي المتعلم، من الأصول التي قامت عليها الجامعة. ولما إن تضاعف عدد الأساتذة أنشأ والهم بطبيعة الحال نقابة طائفية. وظل لفظ (جامعة Univiresitas) يطبق منذ قرون على كل هيئة من عدة أفراد بما في ذلك النقابات الطائفية. وفي عام 1214 وصف ماثيو باريس "زمالة الصفوة المختارة من المدرسين" في باريس بأنها منظمة قائمة من زمن بعيد. ولنا أن نفترض، وإن كنا لا نستطيع أن نبرهن، أن (الجامعة) اتخذت حوالي عام 1170 صورة نقابة طائفية للمدرسين لا اتحاداً لعدة كليات، فلما كان عام 1210 أصدر البابا إنوسنت الثالث -وكان هو نفسه من خريجي جامعة باريس- مرسوماً اعترف فيه بقوانين نقابة المدرسين المدونة واعتمدها، ثم أصدر هذا البابا نفسه مرسوماً آخر خول فيه النقابة تختار مندوباً عنها يمثلها في المحكمة البابوية.

وقبل أن ينتصف القرن الثالث عشر انقسم مدرسو جامعة باريس إلى أربع (سلطات) أو كليات كما نسميها الآن (Faculties) : اللاهوت، والقانون الكنسى، والطب، و(الفنون). ولم يكن للقانون المدني بعد عام 1219 مكان في جامعة باريس بعكس ما كانت عليه الحال في جامعة بولونيا. وكان المنهج يبدأ بالفنون السمعية، ثم يرقى إلى الفلسفة وينتهي بعلوم الدين. وكان طلبة الفنون Arts (وكانوا يسمون Artlstae أي فنانين) هم المقاتلين عندنا (الطلاب) الذين لا يزالون في الجامعة، وإذ كانوا هم يؤلفون الجزء الأكبر من المتعلمين في باريس فقد انقسموا -لتبادل المعونة ولأغراض الألفة والاختلاط- إلى أربع أمم Nations حسب مسقط رأسهم natio أو أصلهم: (فرنسا) (أي المملكة الضيقة الخاضعة خضوعاً مباشراً للملك الفرنسي) وبكاردي Picardy، ونورمندية، وإنجلترا؛ وضم طلاب جنوبي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى الطلبة الفرنساويي المولد، وضم طلبة الأراضي الوطيئة إلى (بكاردي) وطلبة أوربا الوسطى الشرقية إلى (إنجلترا)، وكان الطلاب الذين جاءوا من ألمانيا من الكثرة بحيث تأخرت تلك البلاد عن إنشاء جامعات بها حتى عام 1347. وكان يحكم كل جامعة (وكيل Procurator) أو مدير، وكل كلية عميد، وكان لطلاب كلية الفنون -ومدرسيها في أغلب الأحيان- مدير يرأسهم، ثم اتسعت دائرة أعماله تدريجاً حتى أصبح قبل عام 1255 مدير الجامعة كلها.

ولسنا نسمع عن وجود أبنية خاصة بالجامعات، ويلوح إن المحاضرات كانت تلقى أثناء القرن الثاني عشر في أروقة نتردام، وسان جنفبيف، وسان فكتور، وغيرها من الأبنية الدينية، ولكننا نجد في القرن الثالث عشر مدرسين يستأجرون حجرات خاصة لفصولهم. وكان المدرسون -الذين أصبحوا يسمون أيضاً أساتذة Professores، ومعنى هذا اللفظ اللاتيني (المعلنون)- رجال دين مترهبين يفقدون مناصبهم إذا تزوجوا. وكانت طريق التعليم هي المحاضرات، وأكبر السبب في هذا أنه لم يكن في مقدور كل تلميذ أن يبتاع الكتب التي تجب عليه دراستها، أو يحصل على نسخ منها من دور الكتب. وكان الطلاب يجلسون على الطوار أو على الأرض ويدونون كثيراً من المذكرات. وكان العبء الملقى على ذاكرتهم شديداً أضطرهم إلى ابتكار عدة أساليب لمساعدة الذاكرة تتخذ في العادة شكل أبيات شعرية مثقلة بالمعنى بغيضة الصورة. وكانت لوائح الجامعة تحرم على المدرس أن يقرأ محاضرته للطلاب، بل كان يطلب إليه أن يتكلم ارتجالاً، بل كان يحرم عليه أيضاً أن يُقطع الكلام. وكان الطلاب يتبرعون بتحذير المستجدين من أن يؤدوا أجر أي منهج قبل أن يستمعوا إلى ثلاث محاضرات فيه. وقد شكا وليم الكنشيسي في القرن الثاني عشر من إن المدرسين يلقون على الطلاب مناهج سهلة لكي يكسبوا بذلك الشهرة، والطلبة، والأجور، وإن طريقة الاختيار التي تعطى للطالب مجالاً واسعاً لاختيار الموضوعات والمدرسين أخذت تنزل بمستوى التعليم(50).

وكان التعليم ينتعش ويكتسب بعض الحيوية من حين إلى حين بمناقشات عامة تجرى بين المدرسين، والطلبة المتقدمين، والزائرين الممتازين، وكان النقاش يجري في العادة على شكل مقرر محدد يسمى النقاش المدوسي: فيوضع السؤال، ويجاب عنه جواباً سلبياً، ويؤيد هذا الجواب بعبارات مقتبسة من الكتب المقدسة أو كتب آباء الكنيسة، وبالاستنباط الذي يتخذ شكل الاعتراضات. ويتلو ذلك جواب إيجابي يؤيد بمقتبسات من الكتاب المقدس، ومن كتب آباء الكنيسة، وبأجوبة منطقية على الاعتراضات. والنقاش المدرسي هو الذي حدد الصورة النهائية الفلسفة المدرسية في عهد تومس أكوناس. وكانت تقعد بالإضافة إلى هذه المناقشات المدرسية الرسمية مناقشات غير رسمية يسمونها (أي شيء نحب quodiberta)- يستطيع المناقش بموجبها أن يتقدم بأي سؤال يناقش في التو والساعة. وقد أوجدت هذه المناقشات غير المقيدة هي الأخرى صورة من الصور الأدبية نشاهد مثلاً منها في كتابات القديس تومس الصغرى. وشحذت المناقشات الرسمية منها وغير الرسمية العقول في العصور الوسطى، وأفسحت المجال لحرية التفكير والقول؛ غير إنها اتجهت عند بعض الناس إلى خلق نوع من المهارة يستطيعون به أن يثبتوا أي شيء يريدون إثباته، أو الشعوذة اللفظية التي تكدس جبالاً من الجدل حول أنفه النقط.

وكان معظم الطلاب يعيشون في مضايف Hospicia تؤجرها جماعات منظمة من الطلاب. وكانت بعض المضايف تأوي فقراء الطلاب نظير أجر أسمي؛ ومثال ذلك إن بيت الله Hôtel Dieu الملاصق لكتدرائية نتردام خصص حجرة (للطلبة الفقراء). ثم اشترى جوسيوس اللندني Jucius of London هذا المسكن في عام 1180 واشترك من ذلك الوقت من المستشفى في تقديم المسكن والمأكل لثمانية عشر طالباً يقيمون فيه؛ ولم يحل عام 1231 حتى كانت هذه الطائفة من الطلاب قد انتقلت إلى مسكن أوسع من مسكنها القديم، ولكنها مع ذلك ظلت تسمى نفسها جماعة الثمانية عشر. ثم أنشأت طوائف الرهبان، أو الكنائس، أو أنشأ المحسنون الخيرون، مضايف أو مساكن أخرى للطلاب، وحبست عليها الحبوس، أو خصت بأقساط سنوية خفضت بعض نفقات العيش على الطلاب. وفي عام 1257 وهب ربرت ده سربون Robert de Sorbon قس القديس لويس (بيت السربون) المال اللازم لإيواء ستة عشر طالباً من طلبة علوم الدين، وأضيفت إلى ذلك هبات لغير هؤلاء من لويس وغيره من المحسنين حتى ارتفع عدد من تشملهم إلى ستة وثلاثين؛ ومن هذا البيت نشأت كلية السربونوأصبحت السربون في القرن السادس عشر الكلية الدينية في الجامعة، ثم أغلقتها الثورة في عام 1792، وأعادها بعدئذ نابليون، وهي الآن مركز لتدريس مناهج عامة في العلوم والأدب في جامعة باريس.@ .وأنشئت كليات -Collegia بمعناها القديم وهو الجماعات- بعد عام 1300، وجاء المدرسون إليها ليسكنوا فيها، وعملوا مدرسين خصوصين للطلاب، يستمعون إلى محفوظاتهم، و(يقرأون) معهم النصوص؛ وأخذ المدرسون في القرن الخامس عشر يدرسون بعض المناهج في أبهاء المساكن، وازداد عدد المناهج التي تدرس بهذه الطريقة، ونقص عدد ما يدرس منها في خارجها، حتى أضحت (الكلية) مكاناً للتعليم ومسكناً للطلاب في وقت واحدة.

وحدث مثل هذا التطور في الكلية من بيت الطلبة في أكسفورد، ومنبلييه، وطولوز. وهكذا بدأت الجامعة من جمعية للمدرسين حتى أضحت جمعية من المعاهد والكليات.

وكان من بين مساكن الطلاب في باريس مسكنان مخصصان للطلاب المبتدئين الجدد في طائفتي الرهبان الدمنيك أو الفرنسيس، وكان الرهبان الدمنيك من بداية أمرهم يهتمون بالتعليم ويتخذونه وسيلة لمقاومة الإلحاد. وقد أنشئوا لهم مدارس على نظام خاص بهم أشهرها كلها المدرسة العامة Studium generale في كولوني، وكانت لهم معاهد أخرى من نوعها في بولونيا، وأكسفورد. وأصبح كثيرون من الإخوان أساتذة في هذه المدارس، يعلمون في الأروقة الخاصة بطائفتهم. وفي عام 1232 انضم ألكسندر الهاليسي Alexander of Hales وهو من أقدر المدرسين في باريس إلى طائفة الرهبان الفرنسيس، وواصل تدريس مناهجه للجمهور في دير الكردلير Cordeliers، وأخذ عدد الإخوان الذين يدرسون في باريس يزداد عاماً بعد عام، كما أخذ عدد من يستمعون إليهم من غير الرهبان يتضاعف، حتى شكا المدرسون من غير رجال الدين إنهم قد تركوا جالسين أمام مكاتبهم (كالطيور المنفردة في أعلى البيوت)، وأجاب الرهبان عن ذلك بأن المدرسين غير الرهبان يسرفون في الطعام والشراب، فأضحوا لذلك كسالى بلداء(51). وحدث في عام 1253 أن قتل طالب في شجار بأحد الشوارع، فأعتقل ولاة الأمور في المدينة عدداً من الطلاب، وأعرضوا عن احتجاجهم وطلبهم أن يحاكموا أمام أساتذة الجامعة أو الأسقف، وأمر رهبان الدمنيك، وواحداً من الرهبان الفرنسيس، وهم من جمعية المدرسين، لم يطيعوا أمر الامتناع عن إلقاء المحاضرات، فقررت الجمعية وقف عضويتهم فيها، غير إنهم لجأوا إلى الإسكندر الرابع فأمر أساتذة الجامعة (1255) بإعادتهم إلى عضوية الجمعية. وأراد المدرسون أن يتجنبوا إطاعة الأمر فتفرقوا، وحرمهم البابا من الدين واعتدى الطلاب والغوغاء على الرهبان في الشوارع؛ ودام الجدل ست وستين تراضى الطرفان بعدها: فقبل الأساتذة، بعد أن نظموا من جديد، المدرسين الرهبان، وأقسم هؤلاء أن يطيعوا من ذلك الوقت قوانين (الجامعة). ولكن كلية الفنون حرمت جميع الرهبان حرماناً دائماً من عضويتها. وناصبت جامعة باريس البابوية العداء بعد أن كانت محل عطفهم، وناصرت الملوك في نزاعهم مع البابوات، وأضحت في مستقبل الأيام مركز حركة (غالية) تسمى لفصل الكنيسة الفرنسية عن روما.

ولم يكن لأي معهد علمي منذ أيام أرسطو من النفوذ ما كان لجامعة باريس، فقد ظلت ثلاثة قرون لا تجتذب إليها أكبر عدد من الطلاب فحسب، بل تجتذب فوق ذلك أعظم مجموعة من الرجال ذوي العقلية الفذة. فأبلار، وحنا السلزبري، وألبرتس مجنس، وسيجر البرابنتي، وتومس أكوناس، وبونافنتورا Bonaventura، وروجربيكن، وذنزاسكوتس، ووليم الأكامي William of Occam -هؤلاء يكادون يكونون هم تاريخ الفلسفة من 1100 إلى 1400. وما من شك في إنه كان في باريس مدرسون أفذاذ هم الذي أخرجوا أولئك الرجال العظام، ونشروا من المتعة العقلية ما لا يوجد إلا في ذرى التاريخ البشري. يضاف إلى هذا إن جامعة باريس كانت خلال هذه القرون ذات سلطان قوي في الدين والدولة، فقد كانت لساناً قوياً يعبر عن الرأي العام، وكانت في القرن الرابع عشر من أعظم مراكز التفكير الحر، وفي القرن الخامس عشر حصناً منيعاً للدين القويم والمحافظة على القديم. ولا يمكن القول بأنها (لم تضطلع بدور حقير) في الحكم على جان دارك.

وكان لغيرها من الجامعات نصيب في رفع فرنسا إلى منزلة الزعامة الثقافية في أوربا. فقد كان في أورليان مدرسة للقانون منذ القرن التاسع لا بعد، وكانت في القرن الثاني عشر مركزاً للدراسات القديمة والأدبية الحديثة تنافس شارتر، ولم يكن يفوقها في القرن الثالث عشر إلا بولونيا في تدريس القانون المدني والكنسى. ولا تكاد تقل عنها في شهرتها مدرسة القانون في أنجر Angers وهي المدرسة التي أضحت في عام 1232 من أكبر جامعات فرنسا. وكانت طولوز (طلوشة) مدينة بجامعتها إلى إلحادها في الدين: ذلك أن جريجوري التاسع أرغم الكونت ريمند في عام 1229 على أن يتعهد بأداء مرتبات أربعة عشر أستاذاً -في علوم الدين، والقانون الكنسي، والفنون - يرسلون من باريس إلى طولوز لمقاومة حركة الإلحاد الألبجنسية بفضل ما لهم من النفوذ على الشبان الأكتانيين.

وكانت أشهر الجامعات الفرنسية القائمة في خارج باريس هي جامعة منبلييه. لقد كانت هذه المدينة، بفضل وقوعها على شاطئ البحر المتوسط في منتصف المسافة بين مرسيليا وإسبانيا، تستمع بمزيج وثاب من الدم الفرنسي، واليوناني، والإسباني، ومن ثقافة هذه الأجناس؛ وكان من أهلها عدد من النجار الإيطاليين وبقية من الجالية الإسلامية المغربية التي كانت في وقت ما تحكم المدينة. وكانت تجارتها رائجة ناشطة. وأنشأت منبلييه في وقت غير معروف مدرسة للطب ما لبثت أن فاقت مدرسة سلرنو، ولسنا نعلم علم اليقين أكان إنشاؤها أثراً من آثار طب سلرنو، أم طب العرب، أم اليهود. وأضيفت إلى هذه المدرسة مدارس للقانون وعلوم الدين، و(الفنون)، واكتسبت منبلييه بفضل تقارب هذه الكليات وتعاونها شهرة علمية واسعة، وإن كانت كل واحدة منها كلية مستقلة. وأضمحل شأن الجامعة في القرن الرابع عشر، ولكن مدرسة الطب انتعشت في عصر النهضة، وقام فيها عام 1537 أستاذ يدعى فرانسوا بليه يلقى سلسلة من المحاضرات عن أبقراط باللغة اليونانية.


الفصل السابع: جامعات إنجلترا

نشأت أكسفورد، كما نشأت بسبورس المماثلة لها في إسمها، لتكوين معبراً للماشية؛ ذلك بأن نهر التايمز يضيق عند هذه النقطة ويقل غوره. وبنى حصن عندها في 912، ونشأت سوق، وعقد الملكان كنوت Cnut وهرلد Harold جمعيات هناك قبل أن تنشأ الجامعة بزمن طويل. ويبدو إن مدارس نشأت في أكسفورد في أيام كنوت، ولكننا لا نسمع بوجود مدرسة كتدرائية بها. ونسمع حوالي عام 117 عن وجود (أستاذ في أكسنفورد)، Oxenford. وفي عام 1133 جاء من باريس ربرت بلن Robert Pullen، وهو رجل من رجال الدين، وأخذ يحاضر في اللاهوت في أكسفورد(52). وخطت المدرسة خطوات لا يعرف التاريخ عنها شيئاً الآن، أضحت بعدها مدرسة أكسفورد في القرن الثاني عشر مدرسة عامة أي جامعة -(و لا يعرف أحد متى تم ذلك) (53). وفي عام 1209، كما يقدر ذلك أحد كتاب ذلك العصر، كان في أكسفورد ثلاث آلاف طال ومدرس(54). وكان فيها كما كان في جامعة باريس أربع كليات: كلية الفنون، وكلية اللاهوت، وكلية الطب، وكلية قانون الكنيسة. أما تدريس القانون المدني فقد أغلقته الجماعات في إنجلترا وأستقر في دور المحاكم في لندن -وكانت دار لنكولن، وجراى، والمعبد الداخلي Inner Temple، والمعبد الأوسط Middle Temple في القرن الرابع عشر وليدة البيوت أو الحجرات التي كان القضاة وأساتذة القانون في القرن الثاني عشر يستقبلون فيها الطلاب ليدربوهم.

وبدأت الكليات في أكسفورد كما بدأت في باريس وكمبردج أروقة محبوسة عليها الأموال لفقراء الطلاب، وأصبحت في زمن مبكر، بالإضافة إلى غرضها الأول قاعات للمحاضرات؛ فكان المدرسون يسكنون فيها مع الطلاب، ولم ينقص القرن الثالث عشر حتى كانت القاعات هي الأقسام المادية والتعليمية التي تكونت منها الجامعة. وحوالي عام 1260 أنشأ سيرجون ده بالبول Sir John de Balliol الاسكتلندي (والد الملك الذي حكم أسكتلندة في عام 1292) (بيت باليون) في أكسفورد، ليكفر به عن جرم غير معروف، ليأوى بعض الطلاب الفقراء الذين سموا Socii أي الزملاء، وخص كلا منهم بثمانية بنسات (أي ما يعادل 8 دولارات أمريكية) في الأسبوع. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت أنشأ ولترده مرتون Walter de Merton (بيت طلاب مرتون) في مولدن Malden أولاً ثم في أكسفورد بعد قليل، وحبس عليه بعض المال، ليعنى بطلاب بقدر ما تمكنه من ذلك موارده. وتضاعفت هذه الإيرادات أكثر من مرة على أثر ارتفاع قيمة الأرض، وبلغ هذا الارتفاع حداً شكاً معه كبير الأساقفة بكهام Peckham في عام 1284 من إن (الطلبة الفقراء) يتلقون منحاً إضافية (للمعيشة المترفة) (55). ويمكن القول بوجه عام إن الكليات الإنجليزية لم تغتن بفضل المنح الدراسية وغيرها من الهبات فحسب، بل اغتنت فوق ذلك بفضل ارتفاع قيمة الضباع التي حبست عليها. وفي عام 1280 أنشأت قاعة الجامعة- وهي الآن كلية الجامعة University College بهبة من وليم الدرهامي كبير أساقفة رون Rouen. ويتبين الإنسان كيف بدأت هذه الكليات الشهيرة بداية متواضعة إذا اطلع على شروط تأسيسها، فقد كانت تنص على وجود أربعة أساتذة وعدد من الطلاب الذين يهمهم أن يسكنوا معهم. وكان الأستاذة يختارون واحداً من بينهم ليكون "الزميل الأكبر" أو "الرئيس principal" وهو الاسم الذي يعرف به عمداء الكليات الإنجليزية في هذه الأيام. وكانت جامعة أكسفورد في القرن الثالث عشر هي هذه الكليات مجتمعة في نقابة الاساتذة University ؛ وكان هؤلاء يحكمهم وكلاء عنهم ثم مدير يختارونه ويخضع إلى أسقف لنكولن وإلى الملك.

ولم يحل عام 1300 حتى كانت أكسفورد مركزاً للنشاط الذهني والنفوذ العام لا تفوقها في ذلك إلا باريس. وكان اشهر خريجيها كلهم هو روجر بيكن. والتف حوله عدد اخر من الرهبان الفرنسيس من بينهم آدم مارش Adam Marsh ، وتومس اليوركي Thomas of York، وجون بكهام John Peckham، فتألفت منه ومنهم جماعة ممتازة من رجال العلم. وكان زعيمهم وملهمهم ربرت جروستستيRobert Grosseteste (1175؟- 1253) اظرف شخصية في حياة أكسفورد في القرن الثالث عشر. فقد درس فيها القانون والطب، والعلوم الطبيعية، وتخرج في عام 1179، ونال درجته في علوم الدين في 1189، وسرعان ما اختير بعدئذ (أستاذ مدارس أكسفورد)- وتلك اقدم صورة من لقب مدير الجامعة.

وأصبح في عام 1235، وهو لا يزال مديراً لجامعة أكسفورد، أسقف لنكولن، وأشرف في منصبه هذا على إتمام الكتدرائية العظيمة. وأبدى نشاطاً عظيماً في تشجيع دراسة اللغة اليونانية وأرسطو، واسهم في الجهود العقلية الجبارة التي بذلت في القرن الثالث عشر للتوفيق بين فلسفة أرسطو والدين المسيحي، وكتب شروحاً لكتاب الطبيعة لأرسطو، والتحليلات، ولخص علوم زمانه في موسوعة علمية، وعلى على إصلاح التقويم. وكان يفهم المبادئ التي يقوم عليها المجهر والمرقب، وفتح أبواباً كثيرة لروجر بيكن في الرياضيات والعلوم الطبيعية؛ واكبر الظن انه هو الذي عرف بيكن بالخصائص المكبرة للعدسات. ويبدو أن كثير من الآراء التي نعززها إلى بيكن - في فن المنظور، وقوس قزح، والمد والجزر، والتقويم، والاعتماد على التجارب العلمية- قد أشار بها عليه جروستستي، ونخص منها بالذكر الفكرة القائلة أن العلوم كلها يجب أن تعتمد على الرياضيات، لان القوى كلها أثناء انتقالها في الفضاء تتبع أشكالاً وقواعد هندسية(57). وكتب شعراً فرنسياً ورسالة في الزراعة، وكان رجل قانون وطبيباً، كما كان عالماً في الدين وفي العلوم الطبيعية، وقد شجع دراسة اللغة العبرية، وكان يهدف بذلك إلى هداية اليهود إلى الدين االمسيحي، وكان في هذه الأثناء يعاملهم معاملة المسيحي الكثير التسامح، ويحميهم قدر ما يستطيع من حقد الجماهير واعتدائهم. وكان فوق هذا كله مصلحاً اجتماعياً نشيطاً، يدين على الدوام بالولاء للكنيسة، ولكنه جرؤ على ان يعرض على البابا أنوسنت الرابع في (1250) مذكرة مكتوبة يعزو فيها عيوب الكنيسة إلى محكمة الكرسي البابوي(58). وانشأ في أكسفورد أول (صندوق) يقرض الطلاب المال بغير فائدة(59). وقصارى القول انه هو أول واحد من ألف من ذوي العقول النابهة الذين أوجدوا بأعمالهم الجليلة هيبة أكسفورد العالية ومكانتها العظيمة في عالم العلم والعقل.

وأكسفورد الآن جامعة ومركز صناعي معاً تصنع السيارات كما تصنع العظماء، أما كيمبردج فلا تزال مدينة كليات جامعية، وجوهرة من جواهر العصور الوسطى تزينها الثروة الحديثة وحسن الذوق الإنجليزي، كل ما فيها ينتمي إلى كلياتها، ولا يزال الهدوء العقلي الذي هو من خصائص العصور الوسطى باقياً في هذه البلدة، اجمل البلدان الجامعية على الإطلاق. ويبدو أن عظمتها الذهنية يجب أن ترجع إلى حادث اغتيال وقع في أكسفورد. فقد قتل أحد الطلاب في عام 1209 امرأة في تلك البلدة الأخيرة، فاعتدى أهلها على مسكن الطلاب وشنقوا طالبين أو ثلاثة منهم. وأضربت نقابة المدرسين عن العمل احتجاجاً على ما اقترفه أهل المدينة، وغادر أكسفورد 3000 طالب ومعهم، بطبيعة الحال، كثيرون من المدرسين - إذا صدقنا مافيو باريس وهو رجل لا يوثق بأقواله عادة. ويقال أن عدداً كبيراً منهم ذهبوا إلى كيمبردج وأقاموا فيها قاعات وكليات. ذلك أول ما ذكر عن وجود شيء أعلى درجة من مدرسة أولية. وحدثت هجرة ثانية- من الطلاب الباريسيين في 1228- زاد بها عدد الطلاب زيادة كبيرة. وفي عام 1281 نظم أسقف إلي Ely أولى الكليات غير الدينية في كمبردج - وهي كلية القديس بطرس التي تسمى الآن ببترهوس (بيت بطرس). وشهدت القرون الثلاثة الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر إنشاء كليات أخرى وازدهارها، منها ما هو آية من آيات العمارة في العصور الوسطى ويحتضنها كلها نهر كام Cam الهادئ الممشى، وتكون هي وملحقاتها طائفة من أروع ما قام به الإنسان من الأعمال.


الفصل الثامن: حياة الطلاب

لم تكن سن طالب العصور الوسطى محددة، فقد يكون في أي سن، وقد يكون قساً او راهباً ممتازاً، أو رئيس دير، أو تاجراً، وقد يكون متزوجاً أو غلاماً في الثالثة عشر من عمره، يثقله عبء الكرامة المفاجئة التي ألقيت عليه في هذه السن. وكان هذا الطالب يذهب إلى بولونيا، أو أورليان، أو منبلييه ليصبح محامياً، أو طبيباً، أو يذهب إلى غير هذه من الجامعات في بعض الأحوال لكي يأهل نفسه لخدمة الحكومة، أو يجد لنفسه في العادة مجالاً في الكنيسة. ولم يكن يؤدي امتحاناً للدخول في الجامعة؛ بل كل ما كان يطلب إليه أن يعرف اللغة اللاتينية، وان يكون قادراً على أداء أجراً زهيد لكل مدرس يدرس منهجه عليه. فإذا كان فقيراً فانه قد يستعين على ذلك بمنحة دراسية أو بمعولة تسديها إليه قريته، أو كنيسته، أو يسديها إليه أصدقاؤه أو أسقفه. وكانت هناك آلاف من هذه الحالات(60). فسامسون Samson رئيس الدير وبطل اخيار جوسلينJocelyn's Chronicle والماضي والحاضر لكارليل Carlyle's Past and Present مدين بتعليمه إلى قس فقير كان يبيع الماء المقدس ليؤدي لسامسون اجر تعليمه(61). وكان الطالب الذاهب إلى جامعة أو العائد منها ينتقل عادة بالمجان، ويجد الطعام والمأوى في الأديرة التي في طريقه(62).

فإذا قدم إلى أكسفورد، أو باريس، أو بولونيا ألفى نفسه عضواً في جماعة كبيرة من الطلاب السعداء، أو الحيارى، المقبلين على العلم، يجرفهم تيار دافق من الحماسة يجعل الفلسفة -المشوبة بنزعة إلى الإلحاد- مثيرة كالحرب، كما يجعل الجدل ممتعاً فتاناً كأنه العاب البرجاس. واذا كان يعيش في عام 1300 فانه يجد في باريس 7000 طالب، وفي بولونيا 6000، وفي أكسفورد 3000 . وكان عدد طلاب جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، في القرن الثالث عشر يزيد عادةً على عددهم بعده، واكبر الظن أن سبب هذه الزيادة قلة الجامعات المنافسة لها، وكان الطالب الحديث تستقبله (أسرته) وقد ترشده إلى مسكن يعيش فيه- ربما كان مع أسرة فقيرة. وإذا كانت لها صلات قوية بالمسؤولين فقد يعطى سريراً ويترك مع غيره من الطلاب في حجرة في (بيت الطلبة) فتقل بذلك نفقاته. وكان الطالب في أكسفورد عام 1374 يؤدي مائة شلن وأربعة شلنات (ألف دولار وأربعين دولار) في العام نظير مسكنه وطعامه وعشرين شلنات (أي مائتي دولار) أجراً لتعليمه وأربعين شلناً ثمناً لملابسه(66).

ولم يكن تفرض عليه ملابس جامعية خاصة؛ على أنه كان يطلب إليه أن يشد ثوبه الخارجي بالأزرار وان لا يمشي حافي القدمين إلا إذا كانت جلبابه يصل إلى عقبيه(66). وكان الأساتذة يميزون بلبس القبةCappa وهي (حرملة) حمراء أو أرجوانية ذات حاشية من جلد السنجاب ومقنعة، وكانوا في بعض الأحيان يغطون رؤوسهم بقلنسوة مربعة في أعلاها خصلة بدل (الشرابة). وكان الطالب في جامعة باريس في منزله رجل الدين ويتمتع بحصاناته فكان يعفى من الخدمة العسكرية، ومن الضرائب التي تفرضها الدولة على غيره ومن المحاكمة أمام المحاكم غير الدينية. وكان ينتظر منه أن يدخل في سلك رجال؛ الدين على انه لم يكن يرغم على ذلك في كل الأحوال. وكان في وسعه إذا تزوج أن يظل طالباً، ولكنه في هذه الحال يفقد امتيازات رجال الدين، ولا يستطيع الحصول على درجة علمية. أما الاختلاط الجنسي المتزن فلم يكن يجازي عليه بمثل هذه العقوبات. وقد وصف الراهب جك دة فترى Jaque de Virty طلبة جامعة باريس في عام 1230 بأنهم: (فاسقون أكثر من سائر أبناء الشعب؛ فهم لا يرون الفسق إثماً؛ وكانت العاهرات يسحبن الطلاب إلى المواخير صحباً يكاد يكون قوة واقتداراً، ويفعلن ذلك علناً في شوارع المدينة، فإذا امتنع الطلاب عن الدخول اتهمتهم العاهرات باللواط وكانت هذه الرذيلة البشعة (اللواط) تملأ المدينة إلى حد كان يعد معه من علامات النبل أن يكون للشخص غلام أو اكثر. وكان يوجد في المنزل الواحد حجرات للدرس في الطابق العلوي وماخور في اسفل منه؛ فكان الأساتذة يحاضرون في الطبقة العليا، والعاهرات يمارسن حرفتهن الدنيئة في الطبقة السفلى؛ وكانت مناقشات الفلاسفة تسمع في البيت الواحد مختلطة ومشاحنات العاهرات والقوادين(67).

هذا وصف يحمل في طياته المغالاة الواجبة؛ وكل ما يحق لنا أن نستنتجه منه أن لفظي طالب الدين والقديس لم يكونا مترادفين في باريس . ويواصل جاك وصفه فيقول أن كل (أمة) من الطلاب كانت لديها صفات محببة لها تصف بها (الأمم) الأخرى؛ فالإنجليز كانوا يوصفون بأنهم يكثرون من الشراب وان لهم ذيولا؛ والفرنسيون كانوا مزهوين مخنثين؛ والألمان كانوا صخابين، (بذيئين إذا شربوا)؛ والفلمنكيون كانوا بدلاً نهمين (ليّنين كالزبد)؛ وكانوا كلهم (كثيراً ما ينتقلون بهذا الاختيار من الألفاظ إلى اللكمات)(69). وكان طلاب جامعة باريس يحشرون أولاً في الجزيرة التي تقوم عليها كتدرائية نتردام؛ وكانت هذه الجزيرة هي الحي اللاتيني الأصلي، وكان سبب تسميتها بذلك الاسم أن الطلاب كان يراد منهم أن يتكلموا باللغة اللاتينية - حتى في حديث غير المدرسي- وهي قاعدة كثيراً ما كانت تخرق، وحتى حين اتسعت رقعة الحي اللاتيني حتى شملت الطرف الغربي من الضاحية الممتدة في جنوب نهر السين، كان عدد الطلاب فيها من الكثيرة بحيث لم يكن من المستطاع السيطرة عليهم، فكانت المشاحنات كثيرة بين الطالب والطالب، وبين الطالب والأستاذ، وبين الطالب والشخص من أهل البلدة، وبين الراهب وغير الراهب. هذا في باريس، وفي أكسفورد كان ناقوس سانت ماري يدعو الطلاب، وناقوس سانت مارتن يدعو أهل البلدة، إلى حرب متقطعة بين بلدة وبلدة، وقد حدث شغب في أكسفورد (1928) وقعت فيه على الممتلكات أضرار قيمتها 3000 جنيه (150.000 دولار)(20). وإصدار موظف في باريس (1269) أعلاناً ضد الطلاب الذين (يرتكبون بالنهار والليل فضائع تؤدي إلى إصابة الكثيرين بالجروح وإلى قتلهم، ويخطفون النساء، ويفسقون بالعذارى، ويسطون على البيوت)، ويرتكبون (مراراً وتكراراً حوادث السرقة وغيرها من الفظائع)(71). وربما كان طلاب أكسفورد اقل انهماكا في الشهوات الجنسية من طلبة باريس، ولكن حوادث القتل كانت كثيرة فيها، وتنفيذ العقاب في القاتل كان نادراً؛ فقلما كان القاتل يطارد إذا غادر البلدة، وكان الرجل في أكسفورد يرى أن حسب القاتل عقاباً له على جرمه أن يضطر إلى الانتقال إلى كمبردج(72).

وإذ كان شرب الماء غير مأمون العاقبة وقتئذ، لان أوربا لم تكن قد عرفت الشاي، أو القهوة، أو الدخان، فان الطلاب كانوا يوفقون بين حاجتهم من جهة، وبين مطالب أرسطو والحجرات غير المدفأة من جهة أخرى، بالخمر والجعة. وكان من الأسباب الداعية إلى إنشاء (نقابات) الطلاب الاحتفال بالأعياد الدينية والجامعية بالشرب الكثير جهرة. وكانت كل خطوة في السنة المدرسية (مسموماً للطرب) يحيا بالشراب. وكان الطلاب في كثير من الحالات يقدمون هذه المرطبات لممتحنيهم. وكانت (الأمم) في العادة تنفق في الحانات كل ما بقى لديها من المال في آخر العام الدراسي. وكان لعب الكعوب تسلية أخرى للطلاب، وقد فرضت عقوبة الحرمان الديني على بعض الطلاب للعبهم بالكعوب على مذابح نتردام(73). أما في الأوقات الأكثر نظاماً فقد كان الطلاب يسلون أنفسهم بالكلاب، والصقور، والموسيقى، والرقص، والشطرنج، ورواية القصص، والسخرية من الطلبة الجدد. وكان هؤلاء الجدد يسمون ذوي المناقير الصفر، وكانوا يتخذون هدفاً للإساءة والسخرية، ويرغمون على إقامة وليمة لسادتهم الذين سبقوهم إلى الجامعة بعام؛ وكان الخروج على القانون يعاقب بالغرامات أو بإرغام الخارج على تقديم عدة جالونات من الخمر يشربها الجماعة. ولم يرد ذكر للجلد في تأييد طلاب الجامعات حتى القرن الخامس عشر وان كان كثيراً ما يلجأ إليه في المدارس العامة. وكان ولاة الأمور في الجامعة يفرضون على الطلاب زيادة على هذا العام أن يقسموا يميناً مغلظة بإطاعة جميع اللوائح، وكان من الإيمان المفروضة بجامعة باريس يميناً يتعهد الطالب بمقتضاها ألا ينتقم من الممتحنين الذين يسقطونه في الامتحان(74)، فكان التلاميذ يقسمون مسرعين وينقضون إيمانهم على مهل. لقد كان الحنث في الإيمان كثيراً لان الجحيم لم تكن ترغب رجال الدين المحدثين.

ومع هذا كله كان وقت الطلاب يتسع لسماع المحاضرات وكان منهم الكسالى، ومنهم من كان الفراغ احب إليه من الشهرة؛ فكان لذلك يفضلون مناهج القانون الكنسي الذي كانت دروسه تبدأ في الساعة الثالثة وتمكنهم من ان يواصلوا نومهم(75). وإذ كانت الساعة الثالثة بحساب ذلك الوقت هي الساعة التاسعة صباحاً، فانه يظهر من هذا انه معظم الفصول كانت تبدأ الدراسة بعيد الفجر؛ واكبر الظن إن ذلك كان في الساعة السابعة صباحاً وكانت السنة الدراسية في بداية القرن الثالث عشر تدوم أحد عشر شهراً، وقبل أن ينصرم القرن الرابع عشر كانت (العطلة الطويلة)، التي نشأت من الحاجة إلى أيدي الشباب في زمن الحصاد، تمتد من 28 يونيه إلى 25 أغسطس أو 15 سبتمبر، وفي جامعتي أكسفورد وباريس لم تكن عطلة عيد الميلاد وعيد الفصح تزيد على بضعة أيام قليلة، أما في جامعة بولونيا حيث كان الطلاب اكبر سناً واكثر غنى، ولعلهم كانوا أيضاً ابعد موطناً فقد كانت عطلة عيد الميلاد عشرة أيام وعطلة عيد الفصح أربعة عشر يوماً وكانوا يعطون واحداً وعشرون يوماً في الحفلات التي تسبق الصوم الكبير.

ويبدو أن لم تكن تعقد امتحانات في أثناء دراسة المناهج، ولكن كان هناك إلقاء ونقاش، وكان يمكن إقصاء العاجزين في خلال الدراسة. ثم نشأت حوالي منتصف القرن الثالث عشر عادة إلزام الطالب، بعد أن يمضي خمس سنين مقيماً في الجامعة للدراسة، أن يؤدي امتحاناً أولياً أمام لجنة من (أمته). وكان هذا يتضمن اولاً اختباراً خاصاً منفرداً- يشمل إجابات عن اسئلة، ويتضمن ثانياً مناقشة علنية يدافع الطلب فيها عن موضوع أو موضوعين، ويفند اعتراض المعترضين، ثم يختتم النقاش بتلخيص للنتائج وكان الذين يجتازون هذه الاختبارات الأولية بنجاح يسمون البكلارى Baccalarii أي الأتباع؛ وكان يسمح لهم أن يخدموا أستاذاً بوصفهم مدرسين مساعدين أو محاضرين (عاجلين). وكان في وسع التابع أن يواصل دراساته وهو مقيم ثلاث سنين أخرى، فإذا رأى أستاذه بعدئذ انه خليق بالتقدم إلى الامتحان قدم إلى ممتحنين يعينهم رئيس الجامعة.

وكان ينتظر من الأساتذة ألا يقدموا طلاباً يتضح انهم غير مستعدين للامتحان ألا إذا كان هؤلاء الطلاب من ذوي الثراء أو المكانة الممتازة؛ وكان الامتحان في هذه الحالة يعد لكي يناسب مقدرة الطالب، أو كان يستغني عنه استغناءً تاماً(76). وكانت الصفات الخلقية من الموضوعات التي يشملها الامتحان؛ لذلك فان الجرائم الخلقية التي يرتكبها الطالب خلال السنين الأربع او السبع التي يقضيها في الجامعة قد تحول بينه ولين الحصول إلى الدرجة التي يريدها لان الدرجة كانت شهادة بالرقى والأخلاقي والاستعداد العقلي في وقت واحد. وحسبنا شاهداً على ذلك ان السبعة عشر الذين رسبوا من ثلاثة وأربعين تقدموا لامتحان جامعة فينا في عام 1449 رسبوا كلهم لنقص في اخلاقهم، ولم يرسب منهم واحد لعدم كفايته العقلية.

فإذا اجتاز هذا الامتحان العلني والأخير اصبح أستاذاً أو (دكتوراً) وحصل من تلقاء نفسه على إجازة مصدق عليها من السلطة الدينية ليدرس في أي مكان شاء في العالم المسيحي. وكان وهو (تابع) يدرس مكشوف الرأس، أما الآن وقد نال إجازته فقد كان يتوج بقلنسوة، ويقبله أستاذه ويباركه، ثم يجلسونه في كرسي الاستاذية، فيلقي محاضرة افتتاحية، او يعقد نقاشاً افتتاحياً؛ وكان هذا هو بداية عمله أستاذاً. وكان من مستلزمات هذا التخرج ان يدعو جميع أساتذة الجامعة أو كثرتهم إلى وليمة ويقدم لهم الهدايا، وبهذه الاحتفالات وغيرها ينضم إلى نقابة الأساتذة.

ومما يريح بالنا أن نقول أن التعليم في العصور الوسطى كان فيه من العيوب المتعبة بقدر ما في نظمنا التعليمية في الوقت الحاضر. فلم يكن يواصل الدراسة في الخمس السنين التي يتطلبها نيل البكالوريوس إلا قلة صغيرة من المقيدين في سجلات الجامعة. وكان افتراض ذوي الشأن أن جميع عقائد الكنيسة المقررة يلتزم بها المؤمنون بالدين مما يدعو عقول الطلاب للدعة لا للعمل. وكان البحث عن الحجج التي تثبت هذه العقائد، وإيراد الشواهد من الكتاب المقدس أو من أقوال آباء الكنيسة لتأييدها، وتفسير أقوال أرسطو بحيث تتفق معها، كان هذا كله يدرب العقول على التقسيم الشعري الدقيق اكثر مما يدرب الذهن على توخي الحقيقة والإذعان لما يمليه الضمير الحي. وفي وسعنا أن نسارع إلى أي أسلوب من أساليب الحياة ينسى مثل هذا التعسف في الإيمان بالفروض التي يقوم عليها هذا الأسلوب. وها نحن أولاء في هذه الأيام نترك الناس أحراراً يشكون في عقائدهم آبائهم الدينية، ولا نتركهم أحراراً يشكون في عقائدهم السياسية؛ وهاهو ذا الإلحاد السياسي يعاقب عليه بالحرمان الاجتماعي كما كان الإلحاد في الدين يعاقب عليه بالحرمان الديني في عصر الإيمان. والآن ورجل الشرطة يعمل جاهداً لكي يحل محل الله، فقد اصبح الارتياب في الدولة اشد خطورة من الارتياب في الكنيسة، ذلك انه ما من نظام عن تحدي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها.

وما من شك في أن انتقال المعارف والتدريب على معرفة اكثر انتشاراً واعظم قدراً فيما يبدو لنا مما كانا في العصور الوسطى، ولكننا لا يصح لنا أن نقول هذا القول نفسه عن التربية الخلقية. ولم تكن المقدرة العلمية مما تعوز خريج الجامعة في العصور الوسطى، فقد كانت تخرج في كل عام عدداً كبيراً من رجال الإدارة القادرين، ورجال القانون الذين أوجدوا الملكية الفرنسية، والفلاسفة الذين قادوا سفينة المسيحية في بحار العقل الصاخبة، والبابوات الذين أتوا من الجرأة ما جعلهم يفكرون تفكير أوربا الموحدة. ولقد شحذت المسيحية ذكاء الرجل الغربي، وخلقت لغة الفلسفة، ورفعت مكانة التعليم وهيبته، وقضت على فترة المراهقة الذهنية عند البرابرة الظافرين.

لقد انهارت كثير من أعمال العصور الوسطى أمام عجلة الزمن التي تدمر كل شيء في سبيلها، أما الجامعات التي خلفها لنا عصر الإيمان بكل ما فيها من عناصر التنظيم، فها هي ذي تكيف نفسها حسب التطورات التي لا مفر منها، وتخلع عن نفسها إهابها القديم لتحيا حياة جديدة، وتنتظر منا أن تعقد لواءها بلواء الحكومة.