قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 33

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 5921



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


الباب الثالث والثلاثون



موسيقى العصور الوسطى



(326 - 1300)



الفصل الأول



موسيقى الكنيسة


لقد أسأنا نحن إلى الكثدرائية. إنها لم تكن هذه المقبرة الباردة الخالية التي يدخلها الزائر في هذه الأيام، بل كان لها عمل تؤديه، ذلك أن من كانوا يدخلونها للعبادة لم يكونوا يجدون فيها تحفة فنية فحسب، بل كانوا يجدون فيها مريم وابنها يواسيانهم، ويشدان عزمهم. وكانت تستقبل الرهبان والقساوسة الذين كانوا يقفون عدة مرات في اليوم في مواضع الترنيم ينشدون أناشيد الصلوات الدينية. وكانت تستمع إلى أدعية المصلين الملحين يستمدون من الله الرحمة والعون. وكان صحنها وجناحاها تهدى المواكب التي كانت تحمل أمام الشعب صورة العذراء أو جسم ربهم ودمه. وكانت جنباتها الرحبة تردد في جد ووقار موسيقى القداس، ولم تكن هذه الموسيقى أقل شأنا من صرح الزجاج والحجارة. وما أكثر النفوس الجامدة القوية، المتشككة في العقيدة الدينية، التي أذابتها الموسيقى فخرت راكعة أمام ذلك السر الذي تعجز الألفاظ عنه. وقد اتفق تطور موسيقى العصور الوسطى اتفاقاً عجيباً مع تطور الطرز



 صفحة رقم : 5922   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


المعمارية، فكما أن الكنائس الأولى انتقلت في القرن السابع من شكلها القديم شكل القباب والباسلكات، إلى الشكل الرومنسي القوي المتين، وانتقلت في القرن الثالث عشر إلى الطراز القوطي المعقد، العالي، المزخرف، كذلك احتفظت الموسيقى المسيحية إلى زمن جريجوري الأول(540-604) بنغمات بلاد اليونان والشرق الأدنى الحزينة، وانتقلت في القرن السابع عشر إلى الترنيم الجريجوري أو الترنيم البسيط، ثم ازدهرت في القرن الثالث عشر فتعددت نغماتها وكثرت أصواتها القوية الجريئة تنافس الأساليب المتزنة التي تقوم عليها الكثدرائية القوطية. وتضامنت غارات البرابرة في الغرب، مع بعث النزعة الشرقية في الشرق الأدنى، في تحطيم التقليد الذي كان يرمز إلى النغمات الموسيقية بحروف توضع فوق الكلمات، ولكن الأساليب اليونانية الأربعة -الدوري، والفريجي، والليدي، والمكسوليدي Mixolydeau بقيت وتولد منها بطريق التقسيم الأساليب الثمانية في التأليف الموسيقي- التأملي، والمحبوس، والجدي، والرزين، والمرح، والمبتهج، والقوي، والمنتشي. وظلت اللغة اليونانية ثلاثة قرون بعد الميلاد باقية في موسيقى الغرب الكنيسة، ولا تزال باقية في صلاة "ارحمنا يارب "Kyrie eleison. واتخذت الموسيقى البيزنطية شكلها في عهد القديس باسيلي، وقرئت الترانيم اليونانية بالسورية، وبلغت ذروتها في ترانيم رومانوس (حوالي 495) وسرجيوس (حوالي 620) ونالت أعظم نصر لها في الروسيا. وكان بعض المسيحيين الأولين يعارض في استخدام الموسيقى في الدين، ولكن سرعان ما تبين أن دينا بغير موسيقى لا يمكن أن يقوي على منافسة العقائد التي تمس الإنسان الموسيقية. ومن أجل ذلك تعلم القس أن يغني القداس، وورث بعض الألحان التي كان يتغنى بها المرتل العبري، وعلم الشمامسة



 صفحة رقم : 5923   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


وخدم الكنيسة أن يغنوا الردود، وعلم بعضهم تعليما فنياً في مدارس خاصة للترنيم جعلت سلستين الأول Celestine 1 (422-432) يصبح هو نفسه مرنماً حاذقاً، وكان هؤلاء المرنمون يكونون فرقاً عظيمة منهم، كان في فرقة أياصوفيا 35 مرنماً، 111 قارئاً. معظمهم من الغلمان(1). وانتشر غناء المصلين من الشرق إلى الغرب، وكان الرجال يتبادلون مع النساء أغنيات متجاوبة ويشتركون معهم قي التسبيحات الدينية وكانوا يظنون أن المزامير التي يغنونها تردد أو تقلد على الأرض تسابيح المديح التي يغنيها الملائكة والقديسون بين يدي الله في الجنة. وأخل القديس أمبروز في أسقفيته تبادل الغناء بين الرجال والنساء على الرغم من نصيحة الرسل بأن تظل النساء صامتات في الكنيسة، وقال هذا الإداري الحازم أن المزامير حلوة النغم في كل عصر، وتليق بكلا الجنسين، وهي تخلق رابطة عظيمة من الوحدة حين يرفع الناس جميعاً عقيرتهم في ترنيمة واحدة(2). وبكى أوغسطين حين سمع المصلين في كنيسة ميلان يتلون ترانيم أمبرزو، وصدق عليه قول القديس باسيلي إن المستمع الذي يستسلم للذة الموسيقى يستجيب للنشوة الدينية والتقوى(3). ولا تزال ترانيم أمبرزو تتلى في كنائس ميلان إلى يومنا هذا. وثمة رواية متواترة كان أهل العصور الوسطى عامة يؤمنون بصحتها، وأضحت الآن بعد شكوك دامت زمنا طويلا مقبولة بوجه عام(4)، تعزو إلى جريجوري الأكبر وأعوانه إصلاحاً وتجديداً في الموسيقى الكنسية الكاثوليكية الرومانية، أدى إلى اعتبار"النشيد الجريجوري" الموسيقى الرسمية للكنيسة مدى ستة قرون. واجتمعت الألحان الهلنستية والبيزنطية مع الإيقاع العبري في الهيكل والمعبد فشكلت هذا النشيد الروماني أو النشيد البسيط. وكان هذا النشيد موسيقى تتألف من أغنية واحدة، وأيا كان عدد الأصوات المشتركة فيه، فقد كانت كلها تغنى نغمة واحدة، وإن كان النساء والغلمان كثيراً ما يغنون طبقة في السلم الموسيقي



 صفحة رقم : 5924   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


أعلى من التي يغنيها الرجال، وكان هذا النشيد موسيقى سهلة على ذات المدى القليل، وكانت تسمح من حين إلى حين بإضافة نغمة أو بضع نغمات مركبة غير لفظية تحلى بها الأغنية، وكانت في مجموعها فواصل متصلة متحررة من قيود الوزن والقافية غير مقسمة إلى أوتاد أو تقسيم الذي تلقى فيه وكانت العلامات الموسيقية الوحيدة المستعملة في النشيد الجريجوري قبل القرن الحادي عشر تتألف من إرشادات صغيرة مأخوذة من علامات التنبير اليونانية توضع فوق الكلمات المراد غناؤها. وكانت هذه "الأنفاس" تدل على ارتفاع النغمة أو انخفاضها، ولكنها لا تدل على درجة الارتفاع أو الانخفاض، ولا تدل على مدة النغمة، فقد كانت هذه تعرف بالتواتر الشفوي وبحفظ طائفة جد كبيرة من أغاني الطقوس الكنسية. ولم تكن يسمح بأن تصحب الغناء آلة موسيقية، ولكن النشيد الجريجوري أصبح على الرغم من هذه القيود-أو لعله أصبح بسبب هذه القيود- أعظم مظاهر الطقوس الكنسية المسيحية واقعاً في النفس. وإن الأذن الحديثة التي اعتادت التوافق الموسيقي المعقد لتجد هذه الأغاني مملة رقيقة، وترى فيها استمراراً للتقاليد اليونانية، والسورية، والعبرية، والعربية ذات الصوت الواحد التي لا تقدرها في هذه الأيام إلا الأذن الشرقية. لكن الأناشيد التي تغنى في كثدرائية رومانية كاثوليكية في أسبوع الآلام، تنقذ بالرغم من هذا النقص إلى قلوب المستمعين بقوة سريعة عجيبة لا نجدها في الموسيقى التي تلهي تعقيداتها الأذن بدل أن تحرك الروح. وانتشر النشيد الجريجوري في أوربا الغربية كأنه انتشار آخر للدين المسيحي، ورفضته ميلان، كما رفضت السلطة البابوية، وظلت أسبانيا زمناً طويلا محتفظة بنشيد"مستعرب Mozarabic" ألفه المسيحيون الخاضعون لحكم المسلمين، وهو نشيد لا يزال يتلى حتى اليوم في جزء من كثدرائية طليطلة. واستبدل شارلمان، وهو الحاكم المحب للوحدة، النشيد الجريجوري بالنشيد الغالي



 صفحة رقم : 5925   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


في غالة، وأنشأ مدارس لموسيقى الكنيسة الرومانية في متز وسواسون، ووجد الألمان، الذين تكونت حناجرهم بتأثير مناخهم وحاجاتهم، صعوبة في هذه الأغاني ذات الألحان الرقيقة. وفي ذلك يقول الشماس يوحنا: "إن أصواتهم الخشنة التي تشبه هزيم الرعد، لا يمكن أن تنطق بالنغمات الرقيقة، لأن هذه الأصوات مبحوحة من كثرة الشراب(5). وربما كان الألمان قد كرهوا الأسلوب الذي أخذ منذ القرن الثامن وما بعده يزين النشيد الجريجوري بـ "المحط القصيرة" وبسلسلة النغمات التي تتعاقب بانتظام. وقد بدأ "المط" بوصفه طائفة من الكلمات يسهل بها تذكر اللحن، ثم صار بعدئذ إدماجا للألفاظة والموسيقى في النشيد الجريجوري، كما كان يحدث حين لا ينشد القس Kyrie eleison "ارحمنا يا رب" بل ينشد(Kyrie eleison )(fon Piltatis,aquo bona cuncta Priocedant) "ارحمنا يا رب تمن علينا بجميع الخيرات يا رب". وأجازت الكنيسة هذه التحليات ولكنها لم تقبلها قط ضمن الترانيم الرسمية. وكان الرهبان المتضايقون من حياة الأديرة يسلون أنفسهم بتأليف هذه العبارات وإدخالها ضمن الأناشيد، حتى كثرت أدت إلى وضع كتب خاصة بها لتعلم الناس العبارات المحببة منها أو تحفظها من النسيان. ونشأت موسيقى التمثيل الكنسي من هذه العبارات. وقد وضعت سلاسل النغمات المتعاقبة على نسق تسابيح القداس. ونشأت هذه السنة من إطالة الحرف المتحرك الذي في آخر الكلمة إطالة سموها اليوبيلوس lubiuls أي نشيد الابتهاج، وكتبت في القرن الثامن عدة نصوص لهذه التوقيعات التي أدخلت في الألحان. وأصبحت هذه السنة فنا راقيا حوّل النشيد الجريجوري تدريجا إلى طراز مزخرف لا يتفق مع روحه الأولى أو مع قصده البسيط" . وقضى هذا



 صفحة رقم : 5926   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


التطور على نقاء النشيد الجريجوري وسلطانه في القرن الثاني الذي شهد الانتقال من الطراز الرومنسي إلى الطراز القوطي في العمارة في بلاد الغرب. وتطلب نقل هذه الكثرة من التواليف المعقدة علامات موسيقى أحسن من العلامات التي استعملت في تلك الأغنية السهلة. ولهذا قام أدو Odo رئيس دير كلوني ونوركر بالبولسNorker Ballbulus أحد رهبان دير القديس جول Gall في القرن العاشر بإحياء الطريقة اليونانية القديمة طريقة تسمية النغمات بحروف. وفي القرن الحادي عشر اقتراح كاتب لم يفصح عن اسمه استخدام السبعة حروف الكبيرة الأولى من السلم الموسيقي، واستخدام ما يقابلها من الحروف الصغيرة اللاتينية في الطبقة الثانية من السلم، والحروف اليونانية للطبقة الثالثة منه(6). وقام حوالي عام 1040 راهب بمبوزا Pomoasa القريبة من فرارا Ferrara يدعى جويدو الأرتزو Guido of Arezzo فسمى الست نغمات الأولى من السلم الموسيقي بأسمائها الحالية الغريبة بأن أخذ المقاطع الأولى من كل نصف شطر من ترنيمة ليوحنا المعمدان:


أنقذ الدنيا من دنس الشفاه



حتى يستطيع عبيدك



الذين يقومون بخدمتك



أن يرددوا أعذب



الألحان في الفضاء



الواسع المزهر



Ut queant laxis re sonare floris



Mira gestorum famuli tusrum



Solve Polluti reatum


وأصبحت تسمية النغمات الموسيقية بالمقاطع: أت أو دو، ري، مي ،فا، صل، جزءاً لا يتجزأ من شباب الغرب. وأهم من هذا تطور "الموسيقى" على يد جويدو. فقد نشأت حوالي عام 1000 عادة استخدام خط أحمر للتعبير عن النغمة التي يمثلها حرف F، ثم أضيف بعدئذ خط آخر أصفر أو أخضر ليمثل حرف G، ثم وسع جويدو أو شخص آخر قبله هذه الخطوط ليجعل منها مدرجا ذا أربعة خطوط، أضاف إليه معلمو



 صفحة رقم : 5927   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


الموسيقى فيما بعد خطاً خامساً. وكتب جويدو ويقول إن غلمانه المرنمين قد استطاعوا بهذا المدرج الجديد وبالنغمات أت، ري، مي، أن يتعلموا في أيام قليلة ما كان يتطلب منهم قبلئذ عدة أسابيع "وكان هذا تقدماً يسيراً ولكنه تقدم عظيم الشأن بدأ به عهد جديد في تطور الموسيقى، وبفضله لقب جويدو بلقب "مخترع الموسيقى" وأقيم له تمثال فخلا يزال يرى في ميدان أرزو العام إلى هذا اليوم. وأحدث هذا التطور انقلاباً عظيما في الموسيقى، فبفضله تحرر المغنون من حفظ الترانيم الموسيقية الدينية كلها عن ظهر قلب، وأصبح من الميسور أكثر من ذي قبل تأليف الموسيقى، ونقلها، وحفظها، كما أصبح في مقدور العازف أن يقرأ النغمات الموسيقية بمجرد النظر إليها، ويستمع إليها بعينه، ولم يعد المؤلف مضطراً إلى أن يكون قريباً من الألحان التقليدية خشية أن يرفض المغنون حفظ الأدوار التي يؤلفها، بل أصبح في مقدوره أن يغامر بألف من التجارب. وأهم من هذا كله أنه قد أصبح في وسعه أن يكتب موسيقى متعددة الأنغام، يمكن أن يغنيها صوتان أو أكثر من صوتين في وقت واحد، أو أن يعزف اثنان أو أكثر من اثنين ألحاناً مختلفة ولكنها متوافقة. ونحن مدينون لآبائنا في العصور الوسطى باختراع آخر لأمكن بفضله وجود الموسيقى الحاضرة. ذلك أنه قد أصبح من المستطاع تلحين الغناء بنقط توضع سطور المدرج الموسيقي أو بينها، ولكن هذه العلامات لم تكن تدل أية دلالة على المدى الذي يجب أن تمتد إليه النغمة، وأصبح لابد لتطور الموسيقى ذات اللحنين المستقلين (أو الأكثر من لحنين) تعزفان متناسقين في وقت واحد، أصبح لا بد لهذا التطور من وجود طريقة يقاس بها زمن كل نغمة وتدل على هذا الزمن، وربما كانت معلومات منقولة عن رسائل الكندي، والفارابي، وابن سينا وغيرهم من علماء المسلمين وفلاسفتهم الذين عالجوا موضوع أطوال النغمات الموسيقية أو علامات القياس(7). وكتب قس عالم في الرياضة من كولولي



 صفحة رقم : 5928   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


يدعى فرانكو في وقت ما في القرن الحادي عشر(8) رسالة في قياس الغناء جمع فيها كل ما وجد قديماً من المقترحات النظرية والعملية. ووضع أساس ذو رأس مربع كان في بادئ الأمر يستخدم للدلالة على النغم، استخدم هذا العود ليمثل النغمة الطويلة، وكبرت علامة أخرى هي النقطة حتى أضحت شبه منحرف ومثلت بها النغمة القصيرة. ثم بدلت هذه العلامات على مدى الأيام، وأضيفت إليها ذيول حتى تطورت منها بمئات السخافات طريقتنا السهلة التي نستخدمها الآن لقياس النغمات. وقد مهدت هذه التطورات الخطيرة السبيل إلى الموسيقى المتعددة النغمات، وكانت الموسيقى قد كتبت قبل فرانكو، ولكنها كانت موسيقى خشنة تعوزها الرقة، فلما أشرف القرن التاسع على الانتهاء وجدنا طريقة في الموسيقى تدعى "التنظين"- أي غناء النغمات المتطابقة بأصوات متوافقة. ثم انقطعت أخبار هذه الطريقة فلم نسمع منها إلا القليل النادر قبل نهاية القرن العاشر إذ نجد لفظيorganum وسمفونياSymphonia (الأغنية المنتظمة والإيقاع) يستعملان لهذه النغمات المركبة من صوتين. وكانت الأرغنة (الأغنية المنتظمة) قطعة من القداس يواصل فيها الصادح لحناً قديما موحد النغمة، في الوقت الذي يضيف فيه صوت آخر لحناً يتفق معه. ثم نشأت صورة أخرى من هذا النوع نفسه كان للصادح فيها نغمة جديدة عجيبة واجتذبت صوتاً آخر في اللحن المشترك. وخطا المؤلفون في القرن الحادي عشر خطوة لا تقل في نوعها جرأة عن توازن قوة في العمارة القوطية. فقد كتبوا قطعاً متعددة الأصوات بوحدة ملائمة لم ينقد فيها الصوت "المنجذب" إلى الصادح انقياداً أعمى في علو اللحن وانخفاضه، بل اندفع إلى ألحان أخرى ذات نغمات لا يحتم عليها أن تتحرك في خط متواز مع أصوات الصادح. وكاد هذا الإعلان للاستقلال يصبح ثورة حين



 صفحة رقم : 5929   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


صحب الصوت الثاني نغمة الصادح الآخذة في الارتفاع بحركة انخفاض مقابلة لها. وأصبح هذا التوافق عن طريق التباين وحل التنافر المؤقت في يسر، أصبح هذا وذاك هياماً عند المؤلفين يكاد يجري مجرى القانون، وهذا دعا جون كتن John Cotton أن يكتب حوالي 1100 ويقول:" إذا كان الصوت الرئيسي يرتفع، وجب أن ينخفض الجزء المصاحب له"(9). وانتهى الأمر بأن جعلت ثلاثة أصوات مختلفة، أو أربعة، أو خمسة بل ستة في بعض الأحيان تغنى في مجموعة متشابكة من الإيقاع الانفرادي، تتقابل فيه الألحان المتباينة المتطابقة وتمتزج في انسجام رأسي أفقي دقيق، رشيق، شبيه بالعقود المتقابلة في قبة قوطية. ولم يحل القرن الثالث حتى كان هذا الفن القديم فن تعدد الأصوات قد وضع أساس التأليف الموسيقي الحديث. وكان التحمس للموسيقى في هذا القرن ذي العواطف الثائرة والمهتاجة يضارع الولع بالعمارة والفلسفة. وكانت لكنيسة تنظر شزراً إلى تعدد الأصوات في الموسيقى، لأنها لم تكن تثق بقوة التأثير الديني للموسيقى إذا ما أصبحت في نفسها إغراء وغاية. ولهذا دعا جون أسقف سلزبري وفيلسوفها إلى وجوب وقف حركة التعقيد في التأليف الموسيقي. ووسم الأسقف جوليوم دوراند Guillaume Durand الصادح بأنه "موسيقى مختلفة النظام"، وأسف روجر بيكن، الثائر في ميدان العلم، لزوال النشيد الجريجوري الضخم. وندد مجلس ليون Lyous (1374) بالموسيقى الجديدة، وأصدر البابا يوحنا الثاني عشر (1324) اعتراضاً على الموسيقى المتعددة الأصوات لأن المؤلفين أصحاب هذه البدعة:" يفتتون الألحان.. فتندفع بعضها في إثر بعض بلا توقف، حتى تسكر الأذن من غير تهدئها، وتقلق بال المتعبد الخاشع دون أن تثير فيه خشوعه"(10). لكن الثورة ظلت تجري في مجراها، ففي أحد حصون الكنيسة الحصينة - كنيسة نتردام في باريس- ألف ليونينس Leoninus رئيس جماعة



 صفحة رقم : 5930   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الكنيسة


المرنمين حوالي عام 1180 أجمل أغنية في أيامه، وارتكب خليفته بترونيوس Petronius إثما كبيراُ إذا ألف مقطوعات من ثلاثة أصوات أو أربعة. وانتشرت الموسيقى المتعددة الأصوات، كما انتشر الطراز القوطي، من فرنسا إلى إنجلترا وأسبانيا وقال جرالدس كمبرنسس Giraldus Chambraensis، (1146-1220) بوجود أغاني مكونة من جزأين في أيرلندة، كما قال عن بلدة ويلز قولا لا تخطئ إذا قلناه عنها اليوم: وهم في أغانيهم لا ينطقون بالنغمات متحدة... بل ينطقون بنغمات كثيرة-بطرق كثيرة وأصوات كثيرة، ومن ثم فإن وجود المغنين الكثيرين الذين جرت عادة هذا الشعب على جمعهم، يؤدى إلى سماع أصوات يبلغ عددها عدد من تقع العين من المغنين، كما يؤدى إلى سماع أجزاء مختلفة متباينة تجتمع آخر الأمر في لحن متوافق متحد(11). وخضعت الكنيسة آخر الأمر لروح العصر ونزعته اللتين لا تخطئان أبداً وارتضت الموسيقى المتعددة الأصوات، واتخذتها خادماً قوية للإيمان وأعدتها لما نالته من انتصار في عهد النهضة.



 صفحة رقم : 5931   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الشعب


الفصل الثاني



موسيقى الشعب


وظهرت الرغبة في الوزن في مائة صورة من الموسيقى والرقص غير الدينيين. وكان لدى الكنيسة من الأسباب ما يجعلها تخشى هذه الغريزة إذا لم تفرض عليها رقابة. وكان من الطبيعي أن تتحالف هذه الرغبة مع الحب مصدر الأغاني والمنافس القوي للدين من هذه الناحية. وكانت النزعة الأرضية القوية التي تغلب على عقول العصور الوسطى في غيبة القسيس مما يميل بتلك العقول إلى التحرر في النصوص وإلى البذاءة فيها في بعض الأحيان، تحرراً وبذاءة ارتاع لها رجال الدين وأثار المجامع الدينية إلى إصدار قرارات لم يكن لها أثر. وكان المتعلمون الجوالون يلقون في تجوالهم أو يؤلفون في أثنائها أهازيج في النساء والخمر، ويقلدون الطقوس المقدسة تقليداً ساخراً معيبا. ونشرت مخطوطات تحتوي مقطوعات موسيقية جدية تلحن الألفاظ المرحة لقداس السكيرين، كما نشر كتاب صلوات الصخابين(13). وكانت أغاني الحب كثير كما هي في هذه الأيام، وكان منها ما هو في رقة ابتهالات الحور وحنانها، ومنها ما هو حوار للإغواء تصحبه نغمات رقيقة. ولا حاجة إلى القول بأنه كانت في ذلك الوقت أغان حربية، يقصد بها الوصول إلى الوحدة عن طريق إيجاد الأصوات، أو تحث على طلب المجد بالألفاظ الموزونة التي تسلب الحس. وكانت بعض الموسيقى أغني شعبية وضعها عباقرة غير معروفين، وادعاها عامة الشعب- أو لعلهم نقلوها عن مؤلفيها، كما كان البعض الآخر من الموسيقى الشعبية ثمرة قرائح محترفين ماهرين يستخدمون كل ما تعلموه في أوراد الكنيسة من فنون الموسيقى المتعددة الأصوات. ووجد



 صفحة رقم : 5932   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الشعب


في إنجلترا ضرب من الموسيقى المتعددة الألحان المحبوبة وهو الموسيقى الدورية، فيها يبدأ أحد الأصوات لحناً، ثم يبدأ ثان هذا اللحن عينه أو لحناً آخر مؤتلفا معه حين يصل الأول إلى نقطة متفق عليها فيه، ثم يبدأ ثالث والثاني مستمر في غنائه، وهكذا دواليك حتى يجتمع عدد من الأصوات قد تبلغ الستة في دورة مرحة نشطة من النغمات المجتمعة. وتكاد أغنية "الصيف مقبل" الذائعة الصيت تكون أقدم أغنية دورية، وأكبر الظن أن مؤلفها راهب من رهبان بلدة ريدنج Reading وأن ذلك كان في عام 1240. وتدل هذه الأغنية المعقدة ذات الستة الأجزاء على أن الموسيقى المتعددة الألحان قد استقرت بين الشعب. ولا تزال ألفاظ هذه الأغنية شاملة لروح ذلك القرن الذي كانت فيه حضارة العصور الوسطى كلها في طريق الأزهار:


الصيف مقبل



فغن يا وقوق بصوت عال



فالبذور تنبت والكلأ يتمايل



والزهر يتفتح الآن في الغاب



غن يا وقوق!



النعجة تنفى وراء الحْمل



والبقرة تخور وراء وليدها



والثور يقفز والوعل يفر



غن مرحاً يا وقوق!



يا وقوق يا وقوق ما أعذب شدوك،



فلا تقف عن الغناء لا تقف الآن أبداً،



غن يا وقوق الآن ، غن يا وقوق،



غن يا وقوق، غن يا وقوق الآن.




 صفحة رقم : 5933   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الشعب


وما من شك أن هذه الأغنية وأمثالها توائم المغنين الجوالين الذين كانوا يتنقلون من بلدة إلى بلدة، ومن بلاط إلى بلاط، بل قطر إلى قطر. فنحن نسمع عن مغنين من هذا النوع يأتون من القسطنطينية ليغنوا في فرنسا، وعن آخرين من إنجلترا يغنون في أسبانيا. وكان وجود هؤلاء المغنين وقيامهم جزءاً معتاداً في كل وليمة رسمية. فقد استخدم إدوارد الأول ملك إنجلترا (426) مغنيا في احتفال بزواج ابنته مرجريت(13). وكثيراً ما كانت هذه الجماعات من المغنين تنشد أغاني مجزأة كما كانت في بعض الأحيان معقدة تعقيداً غير مألوف. وكانت هذه الأغاني يؤلفها عادة-ألفاظها وموسيقاها- شعراء غزلون في فرنسا وآخرون مثلهم في إيطاليا وألمانيا . وكان معظم الشعر في العصور الوسطى يكتب لكي يغنى، وفي ذلك يقول فلكيه Folquet الشاعر الغزلي الفرنسي: إن القصيدة بغير الموسيقى كطاحون بلا ماء"(14). ولدينا في هذه الأيام موسيقى لمائتين وأربع وستين من الأغاني الباقية للشعراء الغزلين البالغ عددها 2600. وتتألف هذه الموسيقى في العادة من نغمة متتابعة ذات مقطع واحد ووصلات على مدرج من أربعة خطوط أو خمسة. وأكبر الظن أن شعراء أيرلندة وويلز كانوا يغنون ويعزفون على آلات. وإن كثرة الآلات الموسيقية واختلافها في العصور الوسطى يثير الدهشة: فآلات القرع- كالأجراس، والصنوج، والدفوف، والمثلث الموسيقي، والطبلة-والآلات الوترية-كالقيثارة على اختلاف أنواعها، والربابة، والعود، والكمان الأصغر، وذات الوتر الواحد وغيرها، وآلات النفخ، كالصفارة، والناي، والمزمار، والآلة القربة، والنفير، والبوق والقرن، والأرغن، هذه أمثلة اخترناها من مئات. لقد كان لدى أهل تلك الأيام



 صفحة رقم : 5934   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> موسيقى العصور الوسطى -> موسيقى الشعب


كل ما تتطلبه اليد أو الإصبع، أو القدم، وكل ما يحتاجه لضبط الأوتار . وكانت بعض هذه الآلات قد بقيت من أيام اليونان وجاء بعضها الآخر، بصورته واسمه، من بلاد الإسلام كالرق والناي والقيثارة؛ وكانت الآلة العادية للمغني الجائل هي الكمان الصغيرة، وهي آلة كالكمان قصيرة يعزف عليها بقوس الرامي منحنية الظهر. وكان أكثر أنواع الأرغن انتشاراً قبل القرن الثامن هو الأرغن المائي، ولكن جيروم وصف في القرن الرابع أرغناً هوائياً(17)، وكتب بيدي يصف أرغناً ذا أنابيب من الشبه تملأ بالهواء من منفاخ ويصدر منه نغمات فخمة حلوة إلى أقصى حد"(18). وقد اتهم القديس دنستان St.Dunston (925؟-988؟) بالسحر حين صنع قيثاراً يعزف إذ وضع ثقب في جدار(19)، ووضع في كثدرائية وستمنستر حوالي عام 950 أرغن ذو ستة وعشرين منفاخا، وأثنين وأربعين نافخاً لهذه المنافيخ، وأربعمائة أنبوبة، وكانت منافيخه ضخمة ضخامة تضطر العازف إلى أن يضربها بقبضات تحميها قفازات ذات بطانات سميكة(20). وكان في ميلان أرغن أنابيبه من الفضة، وفي البندقية أرغن ذو أنابيب من الذهب(21). وبعد فإن كل ما يبعثه وصف العصور الوسطى للجحيم من رهبة قي النفس ليفني إذا ما نظر الإنسان إلى مجموعة الآلات الموسيقية في تلك العصور. وإن الصورة التي تبقى لدينا من ذلك الوقت لهي صورة قوم لا يقلون عنا سعادة إن لم يزيدوا علينا، يستمتعون بمرح الحياة ومطامعها، لا ينوء بهم الخوف من نهاية العالم أكثر مما تنؤ بنا شكوكنا هل تدمر الحضارة وتفنى قبل أن كتابة تاريخها؟