قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 31
صفحة رقم : 5817
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> بعث الفنون -> يقظة حاسة الجمال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الحادي والثلاثون: بعث الفنون 1095-1300
الفصل الأول: يقظة حاسة الجمال
ترى لأي سبب بلغت أوربا الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر درجة عليا في الفنون تضارع ما بلغته أثينة في عصر بركليز وروما في عهد أغسطس! الحّق أن لهذه النهضة الفنية أسباباً كثيرة. لقد صدت أوربا غارات أهل الشمال وغارات العرب، ولقد بعثت الحروب الصليبية في نفوس أهلها نشاطاً مبدعاً قوياً، وجاءت إلى أوربا بألف فكرة وفن من الشرق البيزنطي الإسلامي. ونشأت من إعادة فتح البحر المتوسط وفتح المحيط الأطلنطي لتجارة الأمم المسيحية، ومن الأمن والتنظيم اللذين استمتعت بهما التجارة المنقولة في أنهار فرنسا وألمانيا،والبحار الشمالية، واتساع نطاق الصناعة والشئون المالية، نقول نشأت من هذا كله ثروة لم تعرفها أوربا منذ أيام قسطنطين، وقامت فيها طبقات جديدة في مقدور كل منها أن تساعد الفن بالمال، ومدن غنية ذات حكم ذاتي تعمل كل منها جاهدة لكي تشيد كنيسة كبرى أجمل من آخر كنيسة فيها. وكانت خزائن رؤساء الأديرة، والأساقفة، والبابوات تفيض بالمال الذي يأتيها من العشور وعطايا التجار، وهبات النبلاء والملوك. وكانت حركة تحطيم الصور قد قضى عليها، ولم يعد الفن يوسم كما كان يوسم من قبل بأنه عودة إلى عبادة الأصنام، ووجدت في الكنيسة، التي كانت من قبل تخشاه، وسيلة نافعة تغرس بها عقائدها ومثلها في نفوس غير الجهلاء، وتبت فيها ذلك الورع الذي جعلها ترفع الأبراج إلى السماء كأنها أدعية وأوراد صاعدة إلى الله. يضاف إلى هذا أن دين مريم الجديد، المنبعث من قلوب الناس من تلقاء نفسه، قد افرغ ما ينطوي عليه من حب وثقة في معابد فخمة يستطيع آلاف من أبنائها أن يجتمعوا فيها دفعة واحدة يقدمون لها فروض الولاء ويطلبون إليها العون. لقد اجتمعت هذه المؤثرات وأخرى كثيرة لتغمر نصف قارة من الأرض بسيل جارف من الفن لم يسبق له مثيل.
وكانت الفنون قد بقيت في أماكن متفرقة لم تقض عليها أعمال البرابرة المخربة، ولم يمح معالمها ما طرأ على البلدان من ضعف وانحلال، فالمهارات القديمة التي أشتهر بها الأهل الإمبراطورية الشرقية لم تضع قط، وكانت بلاد الشرق اليونانية وإيطاليا البيزنطية هي البلاد التي دخلت منها كثرة الفنانين والموضوعات الفنية في حياة الغرب الذي بعث من جديد. ولقد أدخل شارلمان في خدمته فنانين يونان فروا من وجه محطمي الصور البيزنطيين، وهذا هو الذي جعل فن آخن يقرن الرقة والنزعة الصوفية البيزنطية بالصلابة والنزعة الدنيوية الألمانية. وبدا رهبان دير كلوني الفنانون في القرن العاشر عهداً جديداً في فن العمارة الغربية وزينتها، وكان أول ما فعلوه أن نقلوا النماذج البيزنطية. وكان معلمو مدرسة فن الأديرة التي أقامها منتى كسينو Monte Cassino الرئيس دزدريوس Abbot Desederius، (1072) من اليوناس يسيرون على الأساليب البيزنطية، ولما أراد هونوريوس الثالث (1218) أن يزين جدران سان بولو بالنقوش الجدارية بعث بطلب صناع نقوش الفسيفساء من البندقية، وكان الذين جاءوا متشبعين بالتقاليد البيزنطية. وكان من المستطاع وجود جاليات من الفنانين البيزنطيين في كثير من المدن الغربية، وكان طرازهم في التصوير هو الذي شكل طراز دوتشيو Duccio وسمابيو Cimabue وطراز جيتو Giotto نفسه في بداية عهده. وجاءت الموضوعات البيزنطية أو الشرقية- كالنقوش المركبة من خوص النخل أو ما يشبهه، وأوراق الأقتنا ، والحيوانات التي في داخل الرصائع - جاءت هذه الموضوعات إلى بلاد الغرب على المنسوجات، وعلى العاج، وعلى المخطوطات المزخرفة، وعاشت مئات السنين في طراز النقوش الروماني؛ وعادت أشكال العمارة السورية، والأناضولية، والفارسية- العقد، والقبة، والواجهة المحوطة بالأبراج ، والعمود المركب الجامع لعدة طرز مختلفة، والشبابيك المجتمعة مثنى أو ثلاثاً تحت قوس يربطها- عادت هذه الأشكال إلى الظهور في عمارة الغرب. إلا أن التاريخ لا يعرف الطفرات ولا شيء قط يضيع.
وكما أن تطور الحياة يتطلب الاختلاف كما يتطلب الوراثة، وكما أن نطور المجتمع يحتاج إلى التجديد التجريبي وإلى العادة التي تعمل على الاستقرار، كذلك لم يكن تطور الفن في أوربا الغربية يتضمن استمرار التقاليد القديمة في المهارات والأشكال، والحافز الناشئ من المثل البيزنطية الإسلامية، بل كان يتضمن بالإضافة إلى هذا عودة الفنان المرة بعد المرة من المدرسة الفنية التي ينتمي إليها إلى الطبيعة، ومن الأفكار إلى الأشياء، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن تقليد النماذج إلى التعبير عن الذات. لقد كان من خصائص الفن البيزنطي القتام المقبض الجمود والسكون، ومن خصائص النقش الغربي الرشاقة الهشة النسائية، وليس في مقدور هذه الصفات أن تمثل ما في الغرب وقتئذ من رجولة حيوية، وما عاد إليه من نزعة همجية، ونشاط قوي. وكانت الأمم الخارجة من العصور المظلمة إلى ضياء القرن الثالث عشر تفضل رشاقة نساء جيتو النبيلة عن صور ثيودور الجامدة المنقوشة في الفسيفساء البيزنطية، وتسخر من خوف الساميين من الصور والتماثيل، ولهذا حولت الزخارف المحضة إلى صور الملاك الباسم التي تشاهد في كنيسة ريمس الكبرى، وإلى صورة العذراء الذهبية في أمين Amiens، وهكذا غلبت بهجة الحياة خوف من الفن القوطي.
وكان الرهبان هم الذين حافظوا على الأساليب الفنية في الفن الروماني، واليوناني، والشرقي، ونشروها، كما حافظو على الآداب اليونانية والرومانية القديمة. ذلك أن الأديرة لحرصها على أن تستقل بذاتها دربت النازلين فيها على فنون الزخرفة كما دربتهم على الحرف العملية. فقد كانت كنيسة الدير تطلب مذبحاً، وأثاثاً للمحراب، وكأساً للقربان، وصندوقاً وعلباً لحفظ المخلفات، وأضرحة، وكتلاً للصلاة، وماثلات، وقد تتطلب نقوشاً من الفسيفساء، وصوراً على الجدران، وتماثيل وصوراً تبعث التقى في القلوب، وكان الرهبان يصنعون معظم هذا بايديهم، بل إنهم هم الذين يخططون الدير ويبنونه، كما فعل البندكتيون بدير مونتي كسينو الذي لا يزال قائماً إلى اليوم شاهداً على ما بذلوه في بنائه من جهود. وكانت في معظم الأديرة مصانع واسعة، مثال ذلك أن برناردي تيرون Bernard de Tiron أنشأ بيتاً دينياً جمع فيه على ما يقولون " صناعاً في الخشب والحديد، ونحاتين، وصائغين، ونقاشين، وبنائين ... وغيرهم من العمال الحاذقين جميع الأعمال الدقيقة"(1). ولقد كانت المخطوطات المزخرفة التي كتبت في العصور كلها تقريباً من عمل الرهبان، وكانت أرق المنسوجات من صنع أيدي الرهبان، والراهبات، وكان المهندسون المعماريون الذين شادوا الكنائس على الطراز الروماني في عهدها الأول رهباناً(2)، وأمد دير كلوني غرب أوربا في القرن الحادي عسر وبداية القرن الثاني عشر بالمهندسين المعماريين وبكثير من المصورين والمثالين(3)، وكان دير القديس دنيس في القرن الثالث عشر مركزاً جم النشاط لمختلف الفنون. بل إن أديرة السترسيين نفسها، وهي التي أوصدت أبوابها دون أعمال الزخرفة في أيام برنار اليقظ، سرعان ما استسلمت لمغريات الأشكال وبهجة الألوان، وشرعت تبني أديرة لا تقل في زينتها عن دير كلوني أو دير القديس دنيس. وإذا كانت الكنائس الإنجليزية الكبرى في العادة كنائس أديرة، فإن رجال الدين النظاميين أو الرهبان ظلوا إلى آخر القرن الثالث عشر أصحاب السيطرة على عمارة الكنائس في إنجلترا.
ولكن الدير مهما بلغ من صلاحيته لأن يكون مدرسة وملجأ للروح، مقضي عليه بسبب عزلته أن يكون مستودعاً للتقاليد لا مسرحاً للتجارب الحية، فهو أصلح للحفظ منه للابتكار، ولم تجد حياة العصور الوسطى التعبير الخصب الغزير في أشكال لم تمل التكرار، وصلت بالفن القوطي إلى درجة الكمال، لم تجد تلك الحياة هذا التعبير إلا بعد أن أمدت المطالب الواسعة لذوي الثراء من غير رجال الدين الفنون الدنيوية بحاجتها من الغذاء. ثم تجمع العلمانيون المتخصصون المحررون في إيطاليا أولاً، ثم تجمعت كثرتهم في فرنسا وقلتهم في إنجلترا، في نقابات الحرف، وانتزعوا الفنون من أيدي معلمي الأديرة وصناعها، وشادوا الكنائس الكبرى.
الفصل الثاني: زينة الحياة
ومع هذا فإن راهباً هو الذي أكمل وأوضح موجز في فنون العصور الوسطى وحرفها، ذلك هو ثيوفليس Theophilus- حبيب الله - الراهب في دير هلمر زشوزن Helmershausen القريب من بادربورن Paderborn والذي كتب حوالي عام 1190 موجزاً في مختلف الفنون يقول فيه: ثيوفلس، القس الوضيع... يوجه كلماته إلى كل من يرغب في أن ينفض عنه كل غبار الكسل وشرود الروح... بالعمل اليدوي النافع، وبالتفكير السار فيما هو جديد...(هنا يجد الناس) كل ما عند بلاد اليونان من ألوان ومركبات مختلفة، وكل ما تعرفه تسكانيا من فنون الميناء... وكل ما تستطيع بلاد العرب أن تعرضه من الأعمال التي تتطلب الليونة، والصهر، والنقش، والحفر، وكل المزهريات الكثيرة الجواهرالمحفورة، والعاج الذي تزينه إيطاليا بالذهب، وكل ما تقومه إيطاليا من أنواع الشبابيك المختلفة الغالية، وكل ما يثني عله الناس من أعمال الذهب، أو الفضة، أو النحاس أو الحديد، أو العمل الدقيق في الخشب أو الحجر.
فها نحن أولاء هذه في الفقرة نشهد ناحية أخرى من نواحي عصر الإيمان، نشهد رجالاً ونساءً، ونشهد بنوع خاص رهباناً وراهبات، يعملون لإشباع الرغبة الغريزية في التعبير، ويجدون متعة في التناسب، والتناسق، والأشكال، ويحرصون على أن يجعلوا النافع جميلا. ولقد كانت أهم ما تحتويه المناظر التي صورت في العصور الوسطى صوراً للرجال والنساء وهم يعملون، وإن غلبت عليها النزعة الدينية، وكان الغرض الأول والأساسي الذي يهدف إليه فنهم هو تجميل أعمالهم، وأجسامهم، وبيوتهم. وكان آلاف من صناع الخشب يستخدمون السكين، والمثقب، والازميل المقعر، والمنحت، ومواد الصقل، لحفر النضد، والكراسي، والمقاعد، والصناديق، والعلب، والخزائن، وأعمدة الدرج، والوزرات، والأسّرة، والصونة، وخزانات الطعام والشراب، والصور والتماثيل المقدسة، وأجزاء المذابح الكنيسة، وأماكن المرنمين... وتزينها بما لا يحصى من أنواع الأشكال والموضوعات، بارزة وغير بارزة، وكثيراً ما كانوا يضفون الفكاهات الخبيثة التي لا تعرف الفوارق بين ما هو مقدس وما هو دنس. وفي وسعنا أن نجد على الخناجر أشكالاً للبخلاء، والنهمين، والثرثارين، والحيوانات والطيور الغريبة ذات الرؤوس الآدمية. وكان نحاتو الخشب من أهل البندقية يصنعون في بعض الأحيان براويز أجمل من الصور التي في داخلها وأعظم منها قيمة، وفي القرن الثاني عشر بدا الألمان في صناعة حفر الخشب العجيبة التي أضحت من الفنون الكبرى في القرن السادس عشر .
ولم يكن الذين يعملون في المعادن أقل شأناً من العاملين في الخشب. فقد كانوا يصنعون الحديد المشغول الرشيق للنوافذ، والأفنية، والأبواب الخارجية، والمفصلات قوية تمتد في عرض الأبواب الضخمة ذات أشكال نباتية متنوعة (كالتي نشاهدها في كنيسة نتردام NotreDame في باريس)، وكان ما يصنع منه لمقاعد المرنمين في الكنائس الكبرى "صلباً الحديد" ورقيقاً، كالمخرمات. وكان الحديد،أو البرونز، أو النحاس يصهر أو يطرق لتصنع منه أجمل المزهريات والقدور، والأباريق، والماثلات، والمباخر، والعلب، والمصابيح، وكانت صفائح البرنز تغطي كثيراً من أبواب الكنائس. وكان صناع الأسلحة يحبون أن يضعوا شيئاً من الزينة على السيوف وأغمادها، والخوذ، والتروس والدروع، وحسبنا شاهدأً على مقدرة صناع المعادن الألمان الثريا البرنزية الضخمة التي أهداها فردريك الثاني لكنيسة آخن الكبرى، وعلى مقدرة أمثالهم الإنجليز المائلة البرنزية الضخمة (المصنوعة حوالي 1100) المنقولة من جلوستر Gloucester والمحفوظة في متحف فكتوريا وألبرت Victoria and Albert Museum، وإن ولع صناع العصور الوسطى بأن يجعلوا من أبسط الأدوات تحفاً فنية ليتجلى في مزاليج الأبواب، وأقفالها ومفاتيحها، وحتى دوارات الهواء نفسها قد عنوا بزخرفتها بالنقوش الجميلة التي لا تستطيع رؤيتها إلا بالمرقب.
وازدهرت فنون المعادن النفيسة والأحجار الكريمة وسط مظاهر الفاقة العامة، فقد كان للملوك المروفنجيين صحاف من الذهب، وقد جمع شارلمان في آخن كنزاً من المصنوعات الذهبية. وكانت الكنيسة تحس، ومن حقها أن نغفر لها هذا الإحساس، أنه إذا كان الذهب والفضة يزينان وائد الأشراف وأصحاب المصارف، فإن من الواجب أن يسخرا أيضاً لخدمة ملك الملوك. ولهذا صنعت بعض المذابح من الفضة المنقوشة، وبعضها من الذهب المنقوش، كما نشاهد في كنيسة القديس أمبروز St. Anbrose بميلان وفي كنيستي بستونا Pistoia وبازل. وكان الذهب هو المعدن الذي تصنع منه عادة الحقة التي يوضع فيها الخبز المقدس، ويصنع منه الوعاء الذي يعرض فيه على المؤمنين ليعظموه، والكأس التي تحتوي النبيذ المقدس، والعلب التي تحفظ فيها المخلفات المقدسة ولقد كانت هذه الآنية في كثير من الأحيان أجمل صنعاً من أغلى الكؤوس التي تهدى للفائزين في المباريات في هذه الأيام. وكان الصياغ في إسبانيا يصنعون الخيام البديعة التي يحمل فيها الخبز المقدس أثناء سير موكبه في الشوارع. وفي باريس استخدم الصائغ بنار Bonnard، (1212) 1544 أوقية من الفضة وستين أوقية من الذهب ليصنع منها ضريحاً لعظام القديس جنيفييفGenevieve . وحسبنا دليلاً على اتساع مجال فنون الصياغة الفصول التسعة والسبعون التي خص بها ثيوفيلس هذا الفن في كتابه. فيها نجد أن كل صائغ في العصور الوسطى كان ينتظر أن يكون هو وقليني Celiini سواء -يصهر، وينحت، ويطلى بالميناء، ويركب بالجواهر، ويطعم. وكن في باريس في القرن الثالث عشر نقابة قوية للصياغ وتجار الجواهر، وذاعت منذ ذلك الحين شهرة قاطعي الجواهر الباريسيين في عمل الجواهر الصناعية(5).وكانت الأختام التي يبصم بها الأغنياء الشمع الموضوع على رسائلهم أو مظاريفها تصمم وتحفر بعناية فائقة، وكان لكل رئيس ديني خاتم رسمي، وكان كل رجل ظريف أو متظرف يتباهى بخاتم، إن لم يتباهى بأكثر من خاتم، في يده. ألا إن الذين يقدمون لبني الإنسان أسباب غرورهم قلما يعدمون قوتهم.
وكانت النقوش البارزة الصغيرة على المواد الثمينة شائعة بين الأغنياء. وكان لهنري الثالث ملك إنجلترا نقش من هذا النوع قدرت قيمته بمائتي جنيه (000و40 ريال أمريكي)، وجاء بولدين الثاني بنقش أعظم من هذا قيمه من القسطنطينية ليضعه في سانت شابل Sainte Chapelle بباريس. وكان العاج يحفر بأعظم عناية ويبذل في حفرة جهد كبير طوال العصور الوسطى، وتصنع من أمشاط، وعلب، ومقابض، وقرون للشرب، وتماثيل مقدسة، وجلود للكتب، ومحافظ لأوراق الكتابة مزدوجة الثنايا أو مثلثتها، وعصى، وصوالج الأساقفة، وعلب وأضرحة.. وفي متحف اللوفر مجموعة من الأدوات العاجية من مخلفات القرن الثالث عشر تقترب من الكمال قرباً يثير الدهشة وتمثل النزول عن الصليب.وقد غلب الخيال وغلبت الفكاهة على التقى في أواخر هذا القرن فظهرت في بعض الأحيان نقوش دقيقة لمناظر غاية في الدقة في بعض الأحيان على علب المرايا وصناديق الزينة المعدة للنساء اللاتي لا يستطعن أن يعكفن على التقى في جميع الأوقات.
وكان العاج إحدى المواد التي استخدمت للتطعيم، وهو الذي يسميه الإيطاليون Intarsia (وهي كلمة مشتقة من اللفظ اللاتيني Intersere ومعناه يدخل أو يحشر) ويسميه الفرنسيون تلبيساً Marquetry (من Marquer أي يعلم). وكان الخشب نفسه يطعم به غيره من أنواع الخشب. كأن يحفر رسم في قطعة من الخشب ثم تدخل فيه قطع من خشب آخر وتضغط وتغرى في مواضع الحفر. وكان من أدق الفنون في العصور الوسطى عمل الميناء السوداء(النيلو Niello من اللفظ اللاتيني Nigellus أي أسود)- فكان السطح المعدني يحفر ويطعم بعجينة سوداء مكونة من مسحوق الفضة، والنحاس والكبريت، والرصاص، فإذا اصطنع فنجويرا Finiguerra من هذا الفن في القرن الخامس عشر صناعة النقش على ألواح النحاس.
وقامت صناعة الخزف مرة أخرى من صناعة الفخار حينما أيقظ الصليبيون العائدون من شرق أوربا من العصور المظلمة. وجاءت صناعة الميناء ذات الحزوز إلى بلاد الغرب من بيزنطة في القرن الثامن. ولدينا من القرن الثاني عشر لوحة مصورة تمثل يوم الحساب ، وحفرت فيها أرضية من النحاس ثم مليء الفراغ بعجينة الميناء. وكانت مدينة ليموج Limoge الفرنسية تصنع الآنية المطعمة بالميناء منذ القرن الثالث، فلما كان القرن الثاني عشر أضحت هي المركز الرئيسي في غربي أوربا لصناعة الميناء ذات الحزوز والميناء المصبوبة فوق النحاس. وكان الفخرانيون المسلمون في أسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر يغطون الآنية بطبقة لامعة من القصدير لا ينفذ فيها الضوء، أو من الميناء، ويتخذونها قاعدة للزخارف المصورة، وفي القرن الخامس عشر استورد التجار الإيطاليون هذه الآنية من أسبانيا في سفن مملوكة لأهل جزيرة ميورقة وسموا هذه الآنية ميولقة، فاستبدلوا بحرف r حرف I على طريقتهم في الترخيم.
وعاد فن الزجاج الذي كاد أن يبلغ حد الكمال في روما القديمة، إلى مدينة البندقية من مصر وبيزنطة، فنحن نسمع منذ عام 1024 عن اثني عشر مصنعاً في تلك المدينة، بلغ من تنوع منتجاتها أن بسطت الحكومة حمايتها على هذه الصناعة. واقترحت أن يطلق على صانعي الزجاج اسم "السادة". وفي عام 1278 نقل صناع الزجاج إلى حي خاص في جزيرة مورانو Murano ليكونوا هناك آمنين من جهة، وللاحتفاظ بسرية الصناعة من جهة أخرى. وسنت قوانين صارمة تحرم على صناعة الزجاج الانتقال إلى خارج الجزيرة أو الكشف عما في هذه الصناعة من أسرار خفية. وظل البنادقة أربعة قرون يسيطرون من هذه البقعة الأرضية الضيقة على فن الزجاج وصناعته فبي العالم الغربي، وارتقى فنا طلاء الزجاج بالميناء وتذهيبه، وكانت أليفو دي فينيزيا Olivo de Venezia تصنع منسوجات من الزجاج، كما كانت مورانو تخرج مقادير كبيرة من الفسيفساء والخرز، والقنينات، والأكواب، وأدوات المائدة، المصنوعة كلها من الزجاج، بل كانت تخرج مرايا زجاجية أخذت في القرن الثالث عشر تحل محل المرايا المصنوعة من الصلب المصقول. وكانت فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا تصنع هي الأخرى زجاجاً في هذه الفترة ذاتها، ولكنه كان يستخدم كله تقريباً في الأغراض الصناعية، ماعدا الزجاج الملون البراق الذي كان يستخدم في الكنائس الكبرى.
وكانت النساء على الدوام يغمط فضلهن في تاريخ الفن فلا ينلن ما هن خليقات به من التقدير. إن الزينة الشخصية والمنزلية من العناصر الجليلة الشأن في فن الحياة، ولقد هيأت أعمال النساء في تصميم الأزياء، وزينتها الداخلية، وزخرفتها، ونسجها والتصوير عليها، هيأت أعمالهن في هذا أكثر مما هيأت معظم الفنون من أسباب المتعة غير المحسة التي نستمدها من وجود الأشياء الجميلة الصامتة معنا أو بالقرب منا. وكان للمنسوجات الرقيقة المغزولة بحذق وعناية ذات المنظر الجميل والملمس اللطيف قيمة عالية في عصر الإيمان، فقد كانت تغطي مذابح الكنائس، ومخلفات الأولياء،والآنية المقدسة، ويرتديها القساوسة، أفراد الطبقة الراقية في المجتمع رجالاً كانوا أو نساء، وكانت هذه المنسوجات نفسها تلف في ورق ناعم لطيف رقيق، اشتق اسمه من اسمها فسمي "ورق النسيج" واستطاعت فرنسا وإنجلترا في القرن الثالث عشر أن تنزلا القسطنطينية عن عرشها بوصفها أكبر منتج للتطريز الفني، فنحن نسمع في عام 1258 عن نقابات المطرزين في باريس، ويحدثنا ماثيو باريس Matthew Paris تحت عنوان سنة 1246 أن البابا إنوسنت الرابع ذهل حين رأى الأحبار الإنجليز الذين زاروا روما يرتدون ملابس مطرزة بالذهب وأمر أن تصنع مثل هذه الزخارف الإنجليزية الفخمة لحرامله وحلله التي يلبسها في أوقات القداس. وكانت بعض ملابس رجال الدين مثقلة بالجواهر، وخيوط الذهب، واللوحات المصورة المصنوعة من الميناء إلى حد يصعب عليهم معه المشي وهم يرتدونها(6)، ولقد اشترى ثري أمريكي ثوباً كهنوتياً يعرف بإسم حبرية أسكولي Cope of Ascol بستين ألف دولار. وكان أشهر ثوب مطرز في العصور الوسطى هو "ثوب شارلمان الدلماشي: وكان الاعتقاد السائد أنه صنع في دلماشيا، ولكن يغلب على الظن أنه من صنع القسطنطينية في القرن الثاني عشر، وهو الآن من أثمن التحف في كنوز الفاتيكان.
وحلت السجف أو الأقمشة المطرزة التي تزين بها الجدران محل الصور الملونة في فرنسا وإنجلترا، وبخاصة في الأبنية العامة. وكان يحتفظ بعرضها كاملة لأيام الأعياد، فكانت في تلك الأيام تعلق تحت العقود بين أعمدة الكنائس، وفي الشوارع، وعلى القوارب في المواكب، وكانت تنسج عادة من الصوف أو الحرير بأيدي "المتُعباَت" أي الوصيفات اللاتي يخدمن قصور سادة الإقطاع تحت إشراف أمينة القصر. وكان عدد كبير منها تنسجه الراهبات، وبعضه ينسجه الرهبان. ولم تكن المنسوجات التي تزدان بها الجدران تطاول الصور الدقيقة الملونة في جمالها، وكان يقصد بها أن ترى عن بعد، وكان يضحى فيها بدقة الخطوط في سبيل وضوح الصورة ولألاء اللون وثباته. وكان يقصد بها تخليد ذكرى حادثة تاريخية أو قصة خيالية ذائعة الصيت، أو تفريج هم من في داخل البيوت بتمثيل المناظر الطبيعية، أو الأزهار، أو البحر. وقد ورد ذكرها في فرنسا منذ القرن العاشر، ولكن أقدم نموذج لها باق إلى اليوم لا يكاد يرجع عهده إلى ما قبل القرن الرابع عشر. وكانت فلورنس في إيطاليا، وشنشيلا في أسبانيا وبواتييه، وأراس، وليل في فرنسا، تتزعم مدائن الغرب في فن أقمشة الجدران والطنافس. هذا وليست أقمشة بايو Bayeux الذائعة الصيت في العالم كله من نوع هذه الأقمشة إذا أردنا الدقة في التعبير، لأن النقوش التي عليها مطرزة على سطحها وليست جزءاً من النسيج. وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى كنيسة بايو التي ظلت تحتفظ بها زمناً طويلاً، وتعزوها الرواية المتواترة إلى ماتلدة زوجة وليم الفاتح وإلى السيدات اللاتي كن في بلاط الملك النورمان، ولكن العلماء الذين لا يبالون بإغضاب كرائم العقائل يفضلون أن يعزوها إلى صناع غير معلومين، وإلى عصر أحدث من عصر وليم(8). وهذه الزينات تنافس المؤرخين الإخباريين في كونها مصدراً من مصادر الفتح النورماندي. فقد نقش على قطعة من نسيج التيل الأسمر، عرضها تسع عشر بوصة وطولها إحدى وسبعون ياردة، ستون منظراً تصور على التوالي الاستعداد إلى الغزو، وسفائن النورمان تشق الإنجليزية بجآجئها العالية المصورة، ومعركة هيستنج الوحشية، وهارولد Harod يتلقى الطعنة ويموت. وهزيمة الجنود الأنجليسكسون وتبدد شملهم، وانتصار القوة المباركة. وهذه الأغطية أمثلة من أعمال التطريز الناطقة بالصبر الطويل، ولكنها ليست من اجمل ما صنع من نوعها. وقد اتخذها نابليون في عام 1083 وسيلة يثير بها الفرنسيين إلى غزو إنجلترا(9) ولكنه نسي أن يستعين على هذا الغزو ببركة الآلهة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: التصوير
الفسيفساء
اتخذ فن التصوير في عصر الإيمان ثلاثة أشكال رئيسية: الفسيفساء، والتحلية الصغيرة للكتب، والصور الجدارية، والزجاج الملون. فأما فن الفسيفساء فكان وقتئذ في عهد الشيخوخة، ولكنه كان في خلال الألفي عام التي مرت عليه قد أثمر كثيراً من الدقة، فقد كان صانعوه، إذا أرادوا عمل الأرضية الذهبية التي يحبونها حباً جماً، يلقون ورقة رقيقة من الذهب حول مكعبات من الفضة، ويغطون هذه الورقة بغشاء رقيق من الزجاج ليمنعوا تلوث الذهب وقتامه، ثم يضعون المكعبات المذهبة في سطوح غير مستوية بعض الشيء ليمنعوا بذلك بريق السطوح. وكان الضوء ينعكس من هذه المكعبات في زوايا مختلفة وبذلك يكسب القطعة كلها نسيجاً حياً.
وأكبر الظن أن فنانين بيزنطيين هم الذين غطوا القباء الشرقي في إحدى الكنائس القديمة في تورچلو Torcello - وهي جزيرة صغيرة قريبة من البندقية - وجدارها الشرقي بنقوش من الفسيفساء تعد اروع ما خلقته العصور الوسطى(10). وتمتد أعمال الفسيفساء في كنيسة القديس مرقص على مدى سبعة قرون، وتمثل أنماطها تلك القرون السبعة، فقد أمر الدوگه دومنيكو سلڤو Domenico Selvo بعمل أولى نقوش الفسيفساء الداخلية في عام 1071، ويظن أنه استخدم في هذا العمل فنانين بيزنطيين، كذلك تمت فسيفساء عام 1153 تحت إشراف فنانين بيزنطيين، ولم يكن للفنانين الإيطاليين الشان الأكبر في تزيين كنيسة القديس مرقس بالفسيفساء قبل عام 1450، وإن الرسم الفسيفسائي المنقوش في القبة الوسطى في القرن الثاني عشر، والذي تمثل صعود المسيح لهو أسمى ما بلغه هذا الفن، ويقرب منه في روعته النقش الفسيفسائي الذي يمثل يوسف والموجود في قبة البهو. ولقد ظل النقش الفسيفسائي الرخامي الموجود في طوار الكنيسة مدى سبعمائة عام يقاوم خطى بني الإنسان.
وفي الطرف الآخر من إيطاليا اتحد الفنانون اليونان والمسلمون صنع آيات النقش الفسيفسائي في صقلية النورمانية - في الكابلا بلتينا Capella Palatina وفي كنيسة مارتورانا Martorana بمدينة پالرمو Palermo وفي دير منريال Monreale وكنيسة شفالو Cefalu (1148). وربما كانت الحروب البابوية التي شبت نارها في القرن الثالث عشر قد عاقت تقدم الفن في روما، ولكن نقوشاً فسيفسائية متألقة صنعت في ذلك القرن لتزدان بها كنائس سانتا ماريا ماجوري Santa Maria Maggiore وسانتا ماريا تراستفيري Trastevere والقديس يوحنا في لاتران "والقديس بولس خارج الجدران". وكان فنان إيطالي هو الذي وضع تصميم النقش الفسيفسائي لكنيسة التعميد في فلورنسا، ولكن هذا النقش لا يبلغ من الروعة ما بلغته أعمال الفنانين اليونان في البندقية أو صقلية. وكان لدير سوجر في سانت دنيس (1150) أرضية فسيفسائية فخمة احتفظ ببعض أجزائها في متحف كلوني، وإن طوار دير وستمنستر (حوالي عام 1288) لمزيج من الظلال الفسيفسائية يثير الدهشة والإعجاب غير أن فن الفسيفساء لم يزدهر قط في شمال جبال الألب ، فلقد طغى عليه في تلك البلاد الزجاج الملون كما طغت عليه في إيطاليا نفسها حتى كادت تخرجه منها الصور الجدارية حين أقبل على هذا الفن دوتشيو Duccio وتشيمابوه Cimabue، وجيتو.
2- نقوش المخطوطات
ظل تزيين المخطوطات بالرسوم والنقوش الصغيرة بالفضة المذابة والذهب المذاب، وبالمداد الملون، فناً محبوباً يوائم تقوى الأديرة وجوها الهادئ. وقد بلغ هذا الفن ذروته في بلاد الغرب في خلال القرن الثالث عشر، شأنه في هذا شأن كثير من أوجه النشاط في العصور الوسطى، ولم يبلغ بعدئذ في وقت من الأوقات ما بلغه في خلال القرن من دقة وابتكار وكثرة، فقد حلت في ذلك العهد محل الصور والكسى الجامدة، والألوان الخضراء والحمراء القاسية التي كانت سائدة في القرن الحادي عشر، حلت محلها بالتدريج أشكال رشيقة رقيقة في ألوان جمة العدد، على أرضية زرقاء أو ذهبية، وغلبت صور العذراء على هذه النقوش، كما أخذت من ذلك الوقت تكثر في الكنائس الكبرى. ولقد أتلفت كتب كثيرة في العصور المظلمة، وتضاعف قيمة ما بقي منها لأنها كانت في نصها وفنها خيطاً رفيعاً من خيوط الحضارة إذا صح هذا التعبير(11). وكان الناس في تلك الأيام يعتزون بكتب الترانيم، وبالأناجيل، والتراتيل، وكتل القداس، وكتب الصلوات، وأدعية الساعات، ويحسبونها الأدوات الحية التي تنقل إليهم الوي الإلهي، ولم يكونوا يرون أن أي مجهود يبذل في تزينها الزينة اللائقة بها أكثر مما تستحق. فكان الواحد منهم يبذل يوماً كاملاً في كتابة الحرف الأول من كلمة، وأسبوعاً كاملا في كتابة عنوان صفحة ، ولا يرى في هذا خروجاً على المعقول، وقد حدث في عام 986 أن أقسم هارتكر Hartker أحد رهبان القديس Gall أن يظل ما بقي من حياته الدنيوية داخل جدران أربعة، ولعله كان يتوقع انتهاء العالم ذلك القرن. وظل في صومعته الصغيرة حتى مات بعد خمسة عشر عاماً من دخولها، وفيها زين بالصور والنقوش تراتيل القديس جول(12).
وكان فن المنظور وعمل القوالب وقتئذ أقل شأناً مما كانا عليه أيام ازدهارهما في عصر الكارولنجيين، فقد كان أصحاب النقوش الصغيرة يعنون بعمق اللون وبهائه، وازدحام الصور وحيويتها أكثر من عنايتهم بأن يخدعوا الناظر حتى يظن أن ما أمامه فضاء ذو ثلاثة أبعاد. وكانت أكثر موضوعاته تؤخذ من الكتاب المقدس، أو من الأناجيل غير القانونية، أو من أقاصيص القديسين، ولكن صوراً للنبات والحيوان كانت تستخدم أحياناً في تلك الزينة، وكان يسر صاحبها أن يصور نباتات وحيوانات خيالية كما يصور نباتات وحيوانات حقيقية. وكانت القواعد الكنسية المفروضة على الموضوعات وطريقة معالجتها في الكتب المقدسة نفسها أقل دقة وتحديداً في الغرب منها في الشرق، وكان يسمح للمصور أن ينتقل ويلهوا حراً في مجاله الضيق. وكانت رؤوس بشرية مركبة على أجسام حيوانات، ورؤوس حيوانات على أجسام بشرية، وكان قرد في زي راهب، وقرد يختبر في وقار كوقار الطبيب قنينة ملآى بالبول، وموسيقى يطرب سامعيه يحك فكي حمار - كانت هذه هي الموضوعات التي ازدان بها كتاب صلوات ساعات العذراء(13). ونشأت نصوص غير هذه مقدسة ودنسة، واتخذت لها مكاناً في مناظر الصيد، أو البرجاس، أو الحرب، وكان من الصور التي اشتمل عليها كتاب ترانيم في القرن الثالث عشر صورة تمثل داخل مصرف إيطالي، ذلك أن العالم الدنيوي، وقد استفاق من رهبة الأبدية، أخذ يغزو أرباض الحياة الدينية.
وكانت الأديرة الإنجليزية موفورة الإنتاج في هذا الفن السلمي، فقد أخرجت مدرسة أنجيليا الشرقية كتب مزامير واسعة الشهرة: منها كتاب محفوظ في مكتبة بروكسل، وآخر (الأورمبزي Ormbsy ) في أكسفورد، وثالث (القديس أومر Omer) في المتحف البريطاني، ولكن خير ما أنتجه هذا الفن كان في فرنسا، فقد بدأت كتب التراتيل التي زينت للويس التاسع طرازاً من النقوش الجامعة المركزة، وتقسما إلى مدليات داخل إطارات، نقلت بلا ريب عن زجاج الكنائس الملون. واشتركت الأراضي الوطيئة في هذه الحركة، فبلغ رهبان ليبج وغنت في فن تزيين الكتب بعض ما بلغه فن النحت في أمين Amiens وريمس Reime من الشعور الحماسي والرشاقة الفياضة، وأخرجت أسبانيا أعظم آية مفردة من آيات هذا الفن في القرن الثالث عشر في كتاب ترانيم للعذراء هو تسابيح (ألفونسو العاشر) الملك الحكيم (حوالي عام 1280). وإن نقوشه الصغيرة البالغ عددها 1226 نقشاً لتشهد بما كان يبذل في كتب العصور الوسطى من كد وإخلاص. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الكتب كانت كتب خط كما كانت كتب تصوير، وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان ينسخ ويؤلف النصوص ويكتبها ثم يرسم النقوش بيده. وإن الإنسان ليتردد، إذا أراد أن يحكم على الكثير من الكتب، أيهما أجمل زينتها أو نصها. إلا إننا قد خسرنا بالطباعة الشيء الكثير.
3- النقوش الجدارية
من العسير علينا أن نقول إلى أي حد أثرت زخارف الكتب من حيث موضوعها وأشكالها في نقوش الجدران واللوحات المصورة، والصور المقدسة، ونقوش الخزف، والنحت البارز، والزجاج الملون، وإلى أي حد أثرت هذه في زخارف الكتب. لقد كان بين هذه الفنون تبادل كثير في موضوعاتها وأنماطها، وتفاعل مستمر. وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان يمارسها جميعاً، وإنا لنظلم الفن والفنان معاً إذا ما فصلنا أحد هذه الفنون عن بقيتها فصلاً تاماً، او فصلنا الفنون عن الحياة القائمة في أيامها، ذلك أن الحقيقة أكثر ارتباطاً أجزائها من تواريخها، وإذا ما جزأ المؤرخ عناصر الحضارة التي يجري تيارها مجتمعاً في مجرى واحد، فإنما يفعل ذلك لسهولة البحث والإيضاح لا غير. وليس من حقنا أن نفصل الفنان عن الثقافة المعقدة التي ربته وعلمته، وأمدته بالتقاليد والموضوعات - وأثنت عليه أو عذبته، واستخدمته، ودفنته، ونسيت اسمه أكثر مما ذكرته.
وكانت العصور الوسطى تقاوم الفردية، وتعدها من العقوق المفلس، وتأمر العبقري أن يغمر نفسه في أعمال زمانه ومجرى حوادثه. وكانت الكنيسة، الدولة، والمدينة المستقلة، ونقابة الحرف في عرف ذلك الوقت هي الحقائق الخالدة، وكانت هي الفنانين أنفسهم، ولم يكن الأفراد إلا أيدي الجماعة، وإذا ما قامت الكنيسة الكبرى على قواعدها كان جسمها وروحها يمثلان جميع ما قدسه واستنفده تصميمها، وبناؤها، وتزيينها من أجسام وأرواح. ومن اجل هذا ابتلع التاريخ جميع أسماء الرجال الذين نقشوا جدران عمائر العصور الوسطى قبل الثالث عشر، ولم يبق من هذه الأسماء إلا القليل، وكادت الحروب، والثورات، والرطوبة التي توالت مدى الدهور تبتلع أعمالهم. ترى هل كان في أساليب ناقشي الجدران عيوب. لقد كانوا يستخدمون أساليب المظلمات وأدهنة الجدران القديمة، فيضعون الألوان على الجدران قبل أن يجف بياضها، أو يرسمون على الجدران الجافة بألوان يجعلونها لزجة بما يدخلونه فيها من المواد الغروية. وكانوا يقصدون بكلتا الوسيلتين أن يخلدوا ما يرسمون، أما بنفاذ الألوان في الجدران أو بتماسكها، ومع هذا كله كانت الألوان تتطاير على مر السنين، ولذلك لم يبق من الرسوم الجدارية التي عملت في القرن الرابع عشر ويصف ثيوفليس (1190) طريقة تحضير الألوان الزيتية، ولكن هذه الصناعة لم تبلغ كثيراً من الرقى قبل عهد النهضة.
ويلوح أن تقاليد النقش الروماني القديم على الجدران قد قضت عليه غارات القبائل المتبربرة وما أعقبها من فقر دائم عدة قرون. ولما أن بعث فن النقش الجداري الإيطالي، لم يسترشد باعثوه بالتقاليد القديمة، بل استرشدوا بأساليب بيزنطية النصف يونانية والنصف شرقية، وإنا لنجد في أوائل القرن الثالث عشر مصورين يونان يعملون في إيطاليا - ثيوفانيس في البندقية، أبونيوس في فلورنس وملورمس Melormus في سيينا... وتحمل أقدم لوحات الفن الإيطالي الموقع عليها من راسميها في ذلك العهد أسماء يونانية، وقد جاء هؤلاء الرجال معهم بموضوعات وأنماط بيزنطية - بصور رمزية، دينية - صوفية، وهم لا يدعون قط أنهم يمثلون مواقف أو مناظر طبيعية.
ولما زاد الثراء وارتقى الذوق تدريجياً في إيطاليا خلال القرن الثالث عشر، واجتذبت الهبات العالية التي كان يعطاها الفنانون رجالاً من ذوي المواهب العالية، شرع المصورون الإيطاليون -جيونتا بيزانو Giunta Pisano في بيزا، ولابو Lapo في بستويا، وجيدو Guido في سينا، وبيترو كفليني Pietro Kavallini في أسيسي وروما، شرع هؤلاء المصورين يهجرون الطريقة البيزنطية الخيالية الحالمة، وينفثون في رسومهم اللون الإيطالي والعاطفة الإيطالية. ولهذا نقش جيدو (1271) في كنيسة سان دمنيكو في سينا صورة للعذراء بزت بصورة "وجهها الصافي الحلو"(14) أشكال الرسوم البيزنطية الضعيفة التي لا حياة فيها، والتي كانت سائدة في ذلك العصر وتكاد هذه الصورة تكون بداية عصر النهضة الإيطالية.
وبعد جيل من ذلك الوقت دفع دوتشيو بيوننسنيا Duccio di Bouninsegna (1273 -1319) مدينة سيينا في صورة جمالية مزينة بصورة "الجلالة" Maesta التي تمثل العذراء فوق عرشها. وتفصيل ذلك أن المواطنين ذوي الثراء قرروا أن الأم المقدسة، ملكتهم الإقطاعية، يجب أن ترسم صورتها في حجم رائع بيد أعظم فنان يعثرون عليه في أي مكان، وسرهم أن يختاروا لهذا دتشيو ابن بلدتهم، ووعدوه بأن يقدموا له الذهب، ووفروا له الطعام والوقت، راقبوا كل خطوة يخطوها في عمله. ولما أتم بعد ثلاث سنين (1311) وأضاف إليها ذلك التوقيع المؤثر :-" أي أم الإله المقدسة، هي سينا السلام ودتشيو الحياة لأنه صورك في هذه الصورة"- حملت الصورة (وكان طولها أربع عشرة قدماً وعرضها سبعة أقدام) إلى الكنيسة يحف بها موكب من الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، والموظفين، ونصف سكان المدينة، وسط دوي الأبواق ودق النواقيس، وكانت الصورة التي لا تزال تصف بيزنطة في طرازها، تهدف إلى التعبير الديني لا التصوير الواقعي فقد كان أنف العذراء أطول وأكثر اعتدالاً مما يجب أن يكون، وكانت عيناها اكثر قتاماً، ولكن الصور المحيطة بها كانت ذات رشاقة وصفات أخلاقية واضحة، وكانت المناظر المأخوذة من حياة مريم والمسيح، والمرسومة على منصات المذابح والأبراج ذات فتنة جديدة وجلية. وجملة القول أن هذه الصورة كانت أعظم ما صور قبل جيتو Giotto .
كان جيوفتي سمابو Giovanni Cimabue (1240-1302) قد بدا وقتئذ في فلورنس أسرة من المصورين قدر لها أن تسيطر على الفن الإيطالي ملا يكاد يقل عن ثلاثة قرون. وقد ولد جيوفني لأسرة شريفة، وما من شك أنه قد أحزنها حين هجر القانون إلى الفن، وكان ذا روح عالية متكبرة، لا يتردد في أن يطرح وراء ظهره أية صورة يجد فيها هو أو غيره من الناس عيباً ما. ومع أن مدرسته الفنية، كمدرسة دتشيو، فرع من المدرسة الإيطالية - البيزنطية، فإنه قد أفرغ كل كبريائه وكل نشاطه، في فنه، وأثمرت جهوده هذه ثمرة أوفت على الثورة، وقد عمل هو، أكثر مما عمل دتشيو الذي يعلو عليه في مكانته الفنية، على إبطال الطراز البيزنطي وشق طريقاً للرقي جديداً. فثنى ورق الخطوط الجامدة التي كان يرسمها أسلافه، وكسا الروح لحماً، ووهب اللحم دماً ودفئاً، والآلهة والقديسين حناناً آدمياً، وأستخدم في تصويره الألوان الزاهية الحمراء، والقرنفلية، والزرقاء، فنفث في صورة حياة ولألاء لم تعرفهما إيطاليا العصور الوسطى قبل أيامه، على أننا مضطرون إلى قبول كل ما ذكرناه عنه مستندين إلى سهادة معاصريه، لأن الصور التي تعزى له ليس فيها صورة واحدة موثوق بأنها من صنع يده، وأكبر الظن أن صورة العذراء والطفل والملائكة المرسومة بالطلاء المائي لمصلى روشلاي Rucellai في كنيسة سانتا ماريا نوفلا Santa Maria Novella بمدينة فلورنس، أكبر الظن أن هذه الصورة من صنع دتشيو(15) وتعزو رواية يشك فيها بعضهم، ولكنها في أغلب الظن صادقة، إلى سمابيو صورة "العذراء والطفل بين أربعة ملائكة" الموجودة في كنيسة سان فرانسيسكو السفلى في أسيسي. وهذا المظلم الضخم الذي يرجع المؤرخون تاريخه عادة إلى عام 1256 والذي أعيد في القرن التاسع عشر، هو أولى الآيات الفنية الباقية حتى الآن من روائع فن التصوير الإيطالي. وصورة القديس فرانسس التي فيها واقعية إلى حد يشهد بجرأة رسمها - فهي تمثل رجلاً روعته رؤية المسيح إلى حد هزل معه جسمه، وصورة الملائكة الأربعة هي بداية التآلف بين الموضوعات الدينية والجمال النسوي.
وعين سيمابيو في آخر سني حياته كبير أساتذة الفسيفساء في كنيسة بيزا، وفيها كما يقولون، وضع لقباً للكنيسة تصميم فسيفساء "المسيح في المجد بين العذراء والقديس يوحنا". ويروي فازاري Vassari قصة لطيفة يقول فيها إن سمابيو وجد في يوم من الأيام غلاماً من الرعاة في العاشرة من عمره يسمى جيتو دي بندوني Giotto di Bondone، يرسم بقطعة من الفحم حمل على أردواز، فأخذه إلى فلورنس وجعله تلميذاً له (16). وليس ثمة شك في أن جيتو عمل في مرسم تشيمابوه، وأنه شغل منزل أساتذه بعد موته. وهكذا بدأت أعظم أسرة من المصورين في تاريخ الفن.
4- الزجاج الملون
سبقت إيطاليا شمالي أوربا بمائة عام كاملة في النقوش الجدارية والفسيفساء، وتأخرت عن تلك البلاد مائة عام في العمارة والزجاج الملون. وكان فن تلوين الزجاج معروفاً عند الأقدمين، ولكن أكثر ما عرف منه كان في صورة الفسيفساء الزجاجية، فقد ملأ جريجوري التوري Gregory of Tours (538-593) نوافذ كنيسة القديس مارتن بزجاج "مختلف الألوان" وتحدث بولس المنظم Paul the Silentiary عن جمال ضوء الشمس حين يمر خلال الشبابيك المختلفة الألوان في كنيسة أيا صوفيا بالقسطنطينية. ومبلغ علمنا أنه لم تبذل في هذه الحالات أية محاولة لرسم صورة بالزجاج الملون، لكن ادلبيرو Adalbero أسقف مدينة ريمس زين كنيسته حوالي عام 980 بشبابيك "تحتوي تواريخ"(17)، وتحتوي أخبار القديس بنينيس St. Benignus على وصف ل "شباك مصور قديم جداً" يمثل القديس باسكاسيوس St. Paschasius، في كنيسة بدبحون(18). لقد كان هذا زجاجاً مؤرخاً، ولكن يبدو أن اللون هنا قد وضع على الزجاج ولم يصهر فيه. ولما أن قلل فن العمارة القوطية من الثقل الذي تتحمله الجدران وهيأ بذلك مكاناً للنوافذ الواسعة، سمح الضوء الكثير الذي يدخل الكنيسة بهذه الوسيلة- أو بالأحرى تطلب هذا الضوء - تلوين ألواح الزجاج، وبهذا وجدت الحوافز القوية الكثيرة عن وسيلة لتلوين الزجاج تلويناً أبقى على الزمن من الوسيلة القديمة.
والراجح أن الزجاج ذا الألوان المصهورة قد تفرع من الزجاج المطلي بالميناء. ويصف ثيوفيلس في عام 1190 هذه الصباغة الفنية الجديدة فيقول إن "رسماً" أو تصميماً يوضع على منضدة ويقسم أقساماً صغيرة، ويميز كل منها برمز للون المرغوب فيه. ثم تقطع قطع من الزجاج قلما يزيد طولها أو عرضها على بوصة واحدة بقدر مساحة الرسم. وتلون كل قطعة من الزجاج باللون المطلوب وذلك بصبغة مكونة من مسحوق الزجاج المخلوط بأكاسيد معدنية مختلفة - الكوبلت للون الأزرق، والنحاس الأحمر أو الأخضر، والمنجنيز للأرجواني... ثم يحرق الزجاج المطلي بعدئذ لتنصهر الأكاسيد والطلاء في الزجاج، وتوضع الأجزاء بعد تبريدها على التصميم، وتلحم بعضها ببعض بقطع رفيعة من الرصاص. وإذا نظر الإنسان لشباك مصنوع من هذا الزجاج الفسيفسائي فإن العين لا تكاد تلاحظ قطع الرصاص، بل تحسب أجزاؤه سطحاً ملوناً متصلاً. وكان ما يتهم به الفنان في هذه الحال هو اللون، وكان هدفه هو مزج الالوان، ولم يبحث في عمله عن الواقع، ولم يعن بالمنظور، وكان يظهر الأشياء المرسومة صورته بأغرب الألوان - ففيها جمالة خضر، وآساد قرنفلية، وفرسان زرق الوجوه(19). ولكنه حصل على النتيجة التي يبتغيها: حصل على صورة متلألئة مخلدة اللون، وعلى تخفيف الضوء الداخل في الكنيسة وتلوينه، وعلى تعليم العابدين والسمو بنفوسهم.
وكانت الشبابيك - حتى "الورود" العظيمة منها - تقسم في معظم الأحوال إلى لوحات مصورة، ورصائع، ودوائر، ومعينات، ومربعات، وذلك لكي يمثل الشباك الواحد عدة مناظر في سيرة أو موضوع ما. فكان أنبياء العهد القديم يصورون أمام نظائرهم في العهد الجديد أو أمام نبوءاتهم التي تحققت فيه. وكان العهد الجديد تضاف إليه أجزاء من الأناجيل غير القانونية، وقد كان ما تحتويه هذه الأناجيل الأخيرة من الأقاصيص ذات الخيال الجميل عزيزاً على عقل العصور الوسطى محبباً له. وكانت القصص المأخوذة من حياة القديسين أكثر في النوافذ من الحوادث المستقاة من الكتاب المقدس، مثال ذلك أن مغامرات القديس يوستاس St. Eustace كانت تروى على شبابيك تشارتر، وعلى شبابيك سان Sens، وأوكسير Auxerre، ولمان Le Mans، وتور. وقلما كانت حوادث التاريخ غير الديني تظهر على الزجاج الملون.
ولم يمض نصف قرن على ظهور أول مثل للزجاج الملون في فرنسا حتى وصل درجة الكمال في تشارتر، كانت شبابيك الكنيسة الكبرى نماذج ينسج على منوالها أو أهدافاً يسعى لبلوغها في Sens، وليون Leon، وبورج Bourge، ورون. ومن هنا انتقل الفن إلى إنجلترا، وأوحى إلى صناع زجاج كنتربي ولنكلن، وقد نصت معاهدة عقدت بين فرنسا وإنجلترا على أن يسمح لأحد المصورين على الزجاج عند لويس السابع (1137-1180) بأن يأتي إلى إنجلترا(20). وفي القرن الثالث عشر كبر الأجزاء التي يتكون منها لوح الزجاج وفقد اللون بعض ما كان في الأعمال الأولى من دقة واهتزاز، وحلت في أواخر ذلك القرن الزخارف المكونة من خطوط خارجية رفيعة حمراء أو زرقاء اللون على قاعدة من لون واحد رمادي محل الألوان المتناسقة في الكنائس العظمى - وكان لفواصل الشبابيك نفسها وقد أخذت أشكالها تزداد تعقيداً على مر الأيام، شأن أكبر في الصورة، ومع أن الزخارف السالفة الذكر أضحت على مر الزمان فناً جميلاً، فإن مهارة المصور على الزجاج أخذت تضعف تدريجياً. ذلك أن روعة الزجاج الملون جاءت مع الكنائس القوطية الكبرى، فلما زال مجد القوط، زالت معه نشوة الألوان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: النحت
لقد دُمر الكثير من أعمال النحت لأن البرابرة نهبوه على أثر انتصارهم في غزواتهم، ولأن المسيحية الناشئة حسبته من قبيل عبادة الأوثان الدنيئة. ولكن قليلاً منه نجا من هذا الدمار وبخاصة في فرنسا، فأثار خيال البربرية بعد أن روضت، والثقافة المسيحية بعد أن نضجت. واحتفظت الدولة الرومانية الشرقية في هذا الفن، كما احتفظت في غيره من الفنون، بالنماذج والمهارات القديمة، وأضافت إليها أساليب العرف والتصوف الأسيوية، وعادت فوزعت على الغرب البذور التي جاءت إليها قبل من روما وانتقل النحاتون اليونان إلى ألمانيا بعد أن تزوجت ثيودورا من أتو الثاني (972)، وانتقلوا كذلك إلى البندقية، ورافنا، وروما، ونابلي، وصقلية، ولعلهم انتقلوا أيضاً إلى برشلونة ومرسيليا، وليس ببعيد أن يكون المثالون الذين كانوا يعملون عند فردريك الثاني قد أخذوا فنهم. من هؤلاء الرجال وعن الفنانين المسلمين الخاضعين لسلطانه، ولما أثرت البربرية كان في وسعها أن تجمع بين الهمجية والجمال، ولما أثرت المسيحية، سخرت النحت كما سخرت غيره من الفنون لخدمة عقائدها وشعائرها الدينية، وكانت هذه في آخر الأمر هي الطريقة التي نمت بها الفنون الكبرى في مصر وآسيا، وبلاد اليونان، وروما، ذلك بأن الفن العظيم وليد الإيمان المنتصر.
ولم يكن النحت يفكر فيه على أنه فن مستقل بذاته، بل كان يعد مرحلة من فن شامل، ليس له اسم في لغة من اللغات -ذلك هو زخرفة العبادة، وشأنه في هذا شأن الصور الجدارية، والفسيفساء والزجاج الملون. فكانت مهمة المثال الأولى هي تجميل بيت الله بالتماثيل والنقوش البارزة، وكانت مهمته الثانية هي صنع الصور والتماثيل الدينية لبث روح التقي في البيت، فإذا بقي بعد ذلك وقت ومال كان في وسعه أن ينحت تماثيل لأشخاص دنيويين، أو يزين أشياء لا تمت بصلة إلى الدين. وكانت المادة المفضلة في النحت الخاص بالكنيسة هي التي تتسم بالبقاء كالحجر، والرخام، والمرمر، والبرنز، أما التماثيل فكانت الكنيسة تفضل أن تصنعها من الخشب، ذلك بأن هذه التماثيل يستطيع حملها من غير مشقة المسيحيون السائرون في المواكب الدينية. وكانت التماثيل تلون كما كان يحدث في الفن الديني القديم، وكانت في أكثر الأحيان واقعية أكثر منها مثالية، تهدف إلى أن يشعر العابد بالنظر إلى صورة القديس أنه بين يديه، وقد بلغ من نجاح المثالين في بلوغ هذه الغاية أن كان المسيحي، كما كان العابد في الأديان القديمة، ينتظر أن يصنع التمثال نفسه المعجزات، وقلما كان يخامره الشك إذا سمع أن ذراع المسيح المصنوعة من المرمر قد تحركت لتبارك إنساناً، أو أن ثدي عذراء من الخشب قد در اللبن.
وخليق بكل من يدرس فن النحت في العصور الوسطى أن يستشعر الندم حين يبدأ هذه الدراسة. ذلك أن قسماً كبيراً من آثاره دمرها المتطهرون المتعصبون في إنجلترا، وكان البرلمان في بعض الأحيان هو الآمر بهذا التدمير، كما دمر الكثير من هذه الآثار في فرنسا أثناء الإرهاب الذي تعرض له الفن أيام الثورة. وكان ذلك العمل الرجعي في إنجلترا موجهاً إلى ما بدا لمحطمي الصور الجدد أنه زخرفة وثنية للأضرحة المسيحية، أما في فرنسا فكان يهدف إلى مهاجمة قبور الأسراف المكروهين وما لديهم من مجموعات فنية ودمى. ولهذا نجد في جميع أنحاء البلدين تماثيل بلا رؤوس، وأنوفاً مكسورة، وتوابيت مهشمة، ونقوشاً بارزة، وطنفاً، وتيجان عمد محطمة. ذلك أن ثورة جامحة من الحقد الدفين الذي ظل يغلي زمناً طويلاً في الصدور على الاستبداد الكنسي والإقطاعي قد انفجر مرجلها آخر الأمر في صورة تخريب شيطاني لهذه الآثار - وكأن الزمن وأتباعه من العناصر الجوية قد أجمعت أمرها في ثورة من التدمير، فاكتسحت ظاهر التماثيل، وأذابت الحجارة، ومحت النقوش، وشنت على أعمال الإنسان حرباً باردة صامتة، لم تتخللها قط هدنة، وشن الإنسان نفسه على هذه الآثار ألف حرب وسعى فيها إل النصر بالتنافس في التدمير، فكان من أثر ذلك أننا لا نعرف النحت في العصور الوسطى إلا من حطامه.
وإذا نظرنا إلى عناصره المتناثرة في المتاحف، أضفنا إلى الأذى سوء الفهم. ذلك أن الفن الذي تمثله هذه العناصر لم يكن يقصد به أن ينظر إليه متفرقاً على هذه الصورة، فقد كان في أصله جزءاً لا يتجزأ من موضوع ديني، وكان صرحاً معمارياً كاملاً، ولهذا فإن ما قد يبدو لنا فجاً قبيحاً وهو بمفرده، قد يكون موائماً أحسن موائمة لما يحيط به من الحجارة. لقد كان التمثال القائم في الكنيسة الكبرى عنصراً في مجموعة، موضوعاً في المكان اللائق به، وكأنه يستطيل ليطاول علو الكنيسة الشامخ. فقد كانت الساقان متلاصقتين، والذراعان ملتصقتين بالجسم، وكان تمثال القديس في بعض الأحيان يدق ويمتد حتى يصل إلى أعلى قائمة كتف الباب. وكان المثال يهدف في أحيان قليلة إلى تقوية الأثر الأفقي لا الرأسي في نفس المشاهد، فكان يجعل التماثيل المقامة فوق الأبواب بدينة مفلطحة، كالتي نشاهدها فوق مدخل تشارتر، أو كان رجل أو حيوان يحشر في تاج عمود كما كان يحسر الإله اليوناني في قوصرة الباب أو الشباك، وبهذا انصهر فن النحت القوطي فأصبح جزاءً لا يتجزأ من فن العمارة الذي يزينه.
وكان خضوع النحت للعمارة في طرازها وهدفها الذي يمتاز به فن القرن الثاني عشر بنوع خاص, ثم شهد القرن الثالث عشر ثورة جامحة من جانب المثال فخرج وقتئذ من النزعة التشكيلية إلى الواقعية، ومن الصلاح إلى الفكاهة والهجاء وتذوق الحياة الأرضية. فبينا نرى تماثيل القرن الثاني عشر الموجود في تشارتر مكتئبة جامدة، إذ نرى تماثيل القرن الثالث عشر في ريمس وقد فاجأها المثال أثناء حديثها الطبيعي أو عملها التلقائي. فمعارفها فردية وفي وضعها رشاقة ملحوظة، وإن كثيراً من هذه التماثيل القائمة في كنائس تشارتر وريمس لتشبه الفلاحين الملتحين الذين لا نزال نلتقي بهم في القرى الفرنسية، وتمثال الراعي الذي يدفئ نفسه بالنار والقائم فوق باب أمين Amiens الغربي قد يكون له نظير في حقل بنومندية أو جسبية Gaspe في هذه الأيام. وليس في التاريخ كله نحت يضارع النقوش القوطية الكنسية في واقعيتها الغريبة. ففي رون نجد تمثال فيلسوف مفكر له رأس خنزير محشوراً في أزهار من ذوات الورقات الأربع، وطبيباً نصفه آدمي والنصف الآخر إوزة، يدرس أنبوبة مليئة بالبول، ومعلم موسيقى نصفه آدمي ونصفه ديك يلقي درساً عل عضو غنطروس، ورجلاً أحاله ساحر كلباً، وظلت قدماه تلبسان حذائيه(21) وهناك صورة صغيرة مضحكة جاثمة تحت التماثيل في تشارتر، وأمين، وريمس. وفي كنيسة استرسبرج تاج عمود أعيد إلى وضعه الأول منذ قليل يمثل دفن رينرد الثعلب، Reynard the Fox يحمل نعشه خنزير وجدي، ويحمل الصليب ذئب، وينير الطريق أرنب بشمعة، ويرش دب الماء المقدس، وينشد القداس وعلٌ، ويتلو حمار صلاة الجنازة من كتاب مستند إلى رأس قطة(22). وفي كنيسة بفرلي Beverley ثعلب على رأسه قلنسوة راهب يرتقي منبراً ويعظ طائفة من الإوز التقية المتدينة(23).
وتمثل الكنائس فيما تمثله حدائق حيوانات من الحجارة، تكاد تجمع كل ما عرفه الإنسان من الحيوان، وإن كثيراً من الحيوانات التي لم تمر إلا بمخيلة رجال العصور الوسطى لتجد لها مكاناً في هذه المجموعات الضخمة التي لا تحصى عديدها. ففي ليون Leon ستة عشر ثوراً تخور فوق أبراج الكنيسة الكبرى، ويقولون لنا إنها تمثل الوحوش القوية التي ظلت السنين الطوال تنقل جلاميد الحجارة من المحاجر إلى الكنيسة القائمة على رأس التل. وتقول إحدى القصص الظريفة: إن ثوراً كان في يوم من الأيام يصعد بمشقة فوق التل فوقع على الأرض من فرط الإعياء، وظل الحمل متزناً مزعزعاً على منحدر التل حتى ظهر ثور بمعجزة من المعجزات، وانزلق تحت عدة الثور الملقى على الأرض، وجر العربة إلى قمة التل، ثم اختفى في الهواء السماوي الإعجازي(24). وإنا لنبتسم ساخرين من هذه القصص الخيالية، ونعود إلى قراءة قصصنا التي تحدثنا عن الجرائم وعن العلاقات الجنسية.
واتسعت الكنائس أيضاً لحدائق النبات، وهل ثمة بعد العذراء والملائكة، والقديسين، زينة لبيت اللله أحسن من النباتات، والفاكهة، وأزهار الريف الفرنسي، أو الإنجليزي، أو الألماني؟ ولقد بقيت الزخارف النباتية القديمة- التي تمثل أوراق الكنكر والكرم- في فن العمارة الرومنسية (800-1200)، ثم حلت محل هذه الزخارف الشكلية العرفية في الفن القوطي طائفة تدهش الإنسان لكثرتها من النباتات المحلية، منقوشة على قواعد الأعمدة وتيجانها، والأجزاء الشبه مثلثة التي بين العقود، والعقود نفسها، وفي الطنف، والعمد نفسها، والمنابر، ومقاعد المرنمين، وقوائم الأبواب ، والمصاطب .. وليست هذه الأشكال مما حدده العرف، بل هي في كثير من الأحيان أنواع فردية، محبوبة في البيئة التي صورتها، وبعث فيها المؤلف الحياة. وتراها في بعض الأحيان زينات مركبة من نباتات مختلفة جمعت بعضها إلى بعض، وذلك أيضاً مما ابتدعه الخيال القوطي، ولكنها مع ذلك ظلت تشعر الناظر إليها بأنها من صنع الطبيعة. وترى الأشجار، والغصون، والعساليج، والأوراق، والبراعم، والأزهار، والفاكهة، والسرخس، والشقيق الأصفر، والطلح، والكرسون المائي، وعود الريح، وأشجار الورد، والشليك، والحسك، والقصعين، والبقدونس، والريس، والكرنب، والكرفس، تساقط من مستودع الكنيسة الذي لا ينضب معينه، لقد كان المثال ثملا ببهجة الربيع، فهدت يده الإزميل في الحجر. وليس الربيع وحده هو الذي تمثله هذه النباتات والأزهار المنحوتة، بل إن جميع فصول السنة ممثلة فيها، وهي فوق هذا تطالعك بكل ما في أعمال البذر، والحصاد، وعصر الخمر، من كدح ومتعة، وليس في تاريخ النحت كله ما هو جمل في نوعه من "تاج عصر العنب" كنيسة ريمس الكبرى(25).
ولكن هذا العالم كله- عالم النبات والزهر، والحيوان والطير- كان في المرتبة الثانية إذا قيس إلى الموضوع الرئيسي في فن النحت أثناء العصور الوسطى- وهو حياة الإنسان وموته. ففي تشارتر ولاءون، وليون Lyons، وأكسير، وبورج نقوش أولية تروي قصة الخلق. وفي لاءون يعد الخالق عل أصابعه ما بقي له من الأيام حتى يتم عمله، وتراه في مناظر متأخرة عن هذا المنظر، وقد أجهده كدحه في خلق المون، متكئاً على عصاه، وجالساً ليستريح، ونائماً ذلك إله يسع كل فلاح ساذج أن يفهمه. وثمة نقوش بارزة في كنائس أخرى تصور أشهر العام وما اختص به كل شهر منها ون عمل وبهجة، وتبين نقوش غير هذه وتلك مختلف أعمال الإنسان فتصور الفلاحين في الحقل أو عند معصرة الخمر، وترى بعضهم يقودون الخيل أو الثيران وهي تشق الأرض أو تجر العربات، ومنهم من يجر الضأن، أو يحلب البقر. وهناك طحانون، ونجارون، وحمالون، وتجار، وفنانون وطلاب علم، بل إن هناك أيضاً فيلسوفاً أو فيلسوفين، ويصور المثال المعنويات المجردة عن طريق الأمثلة: فدونارتس Donartus يمثل النحو، وشيشرون الخطابة، وأرسطو الجدل، وبطليموس الفلك. وتجلس الفلسفة ورأسها في السحب، وفي يمناها كتاب، وفي يسراها صولجان، فهي ملكة العلوم. وثمة نقوش ترمز إلى الإيمان وعبادة الأوثان، والأمل واليأس، والصدقات والبخل، والعفو، والدعارة، والسلام، والشقاق، وفي لاءون نقش على باب عال يصور معركة بين الفضائل والرذائل، وعلى الواجهة الغربية من كنيسة نوتردام في باريس صورة امرأة رشيقة معصوبة العينين تمثل المعبد، وأمامها امرأة أجمل منها في ثياب ملكية وعليها سيماء من اعتادت الأمر والنهي وتمثل الكنيسة بوصفها عروس المسيح. أما المسيح نفسه فيبدو تارة رحيماً وتارة أخرى رهيباً، وتمثله في بعض الصور وأمه تنزله من الصليب، أو يقوم من القبر وبالقرب منه رسم رمزي يمثل أسداً يعيد الحياة بأنفاسه إلى أشباله، كل مكان منحوتة أو مرسومة ملونة في الكنائس، ذلك أنه لم يكن يسمح للإنسان أن ينساها، وهنا أيضاً لم يكن يستطاع الاعتماد إلا على شفيع واحد لغفران الذنوب، ذلك هو مريم العذراء التي تبدو لهذا السبب في الصور المنحوتة، كما تبدو في الأوراد، صاحبة المكان الأول، ومنبع الرحمة اللانهائية، التي لا تسمح لابنها أن يفسر تفسيراً حرفياً تلك الكلمات القائلة إن الكثيرين يُدعَون والقليلين يختارون.
إن في فن النحت القوطي لعمقاً في الشعور، وتنوعاً ونشاطاً في الحياة، وتعاطفاً مع أشكال عالم النبات والحيوان جميعاً، وإن فيه لرقة، وظرفاً، ورشاقة، فهو معجزة من الحجارة لا تكشف عن اللحم بل الروح، وهذه كلها تحركنا وتشبعنا بعد أن فقدت روعة أجسام التماثيل اليونانية بعض ما كان لها من جاذبية ولعل سبب ضياعها هو أننا بلغنا سن الشيخوخة. وتبدو الآلهة الثقيلة القائمة في قوصرة البارثنون إذا وضعت إلى جانب الصور الحية التي أخرجها إيمان العصور الوسطى باردة ميتة. ولسنا ننكر أن النحت القوطي معيب من الناحية الفنية، فليس فيه ما يضارع كمال إفريز البارثنون، أو جمال آلهة بركستليز والإهانة الشهوانية، أو سيدات نقش السلام وشيوخه في روما، وما من شك في أن صور أولئك الشبان ذوي الوسامة، وصور أفرديتي اللينة العريكة، كانت تمثل في وقت ما متعة الحب والحياة السليمة. ولمن آراءنا الدينية المبتسرة، إذا تذكر ما فيها من جمال وتغفل عما فيها من رهبة، تعود بنا المرة بعد المرة إلى الكنائس الكبرى وترجح كفة الإله الجميل المصور في أمين والملاك الباسم المصور في ريمس، و"عذراء شارتر".
وكان المثال في العصور الوسطى كلما زادت مهارته في فنه قوى أمله في تحرره من فن العمارة وفي أن يعمل فيه أعمالاً توائم الذوق الدنيوي المتزايد عند الأمراء والأحبار، والأشراف، والطبقة الرأسمالية المتوسطة.
ففي إنجلترا كان نحاتو الرخام في بربك Purbeek يستخدمون النوع الممتاز الذي يقطعونه من نتوء دورسسترشيد Dorestershire، واشتهر في القرن الثالث عشر بالعمد والتيجان الجاهزة، وبالدمى المضطجعة التي ينحتونها على توابيت الأموات الأغنياء- وصب وليم تورل William Torel وهو صانع من أهل لندن حوالي عام 1292 تمثالين من البرنز لهنري الثالث وإليانور القشتالية زوجة ولده ليوضعا في قبرهما الرخاميين في دير وستمنستر، ويبلغ هذان التمثالان من الجمال والدقة ما تبلغه أية تحفة برنزية في ذلك العصر واجتمعت في ذلك الوقت مدارس النحت عظيمة الشأن لييج، وهلدس هايم Hildesheim ونومبرج Naumburg . ونحت مثّال غير معروف حوالي عام 1240 التمثالين القوطيين البسيطين- ذوي الأبواب الفخمة- لهنري الأسد ولبؤته القائمين في كنيسة برنزويك Bruswick. وتزعمت فرنسا أوربا بأجمعها في جمال تماثيلها الرومنسية (في القرن الثاني عشر) والقوطية (في القرن الثالث عشر) ولكن معظم هذه التماثيل قائمة في كنائسها الكبرى، ولهذا فإن خير مكان تدرس فيه هو هذه الكنائس.
ولم يكن النحت في إيطاليا وثيق الصلة بالعمارة، ولا بالمدن ذات الحكومات المستقلة، ولا بنقابات الحرف كما في فرنسا، ولهذا فإنا في القرن الثالث عشر نجد فنانين منفردين تسيطر شخصياتهم على أعمالهم وتخلد أسماءهم. من هؤلاء نيقولو بيزانو Niccolo Pisano الذي اجتمعت له عدة مؤثرات مختلفة انصهرت كلها فخرجت منها شخصية مركبة فذة. فقد ولد هذا الفنان في أبوليا عام 1225 واستمتع فيها بالجو الحافز الذي يحيط بحكم فردريك الثاني، ويبدو أنه درس فيها بقايا الفن الإيطالي القديم وآثاره المعادة(26). ثم انتقل إلى بيزا وورث فيها التقاليد الرومانسية، وسمع بالطراز القوطي الذي بلغ وقتئذ ذروة مجده في فرنسا. ولما أن نحت منبراً لمكان التعميد في بيزا اتخذ له نموذجاً تابوتاً في عهد هدريان. وقد تأثر أشد التأثر بالخطوط القوية الرشيقة التي تمتاز بها الأشكال القديمة، ولهذا فإن معظم الأشكال التي في منبره ذات ملامح وثياب رومانية وإن كانت أقواسه رومنسية وقوطية، فوجه مريم الذي نراه في لوحة المخاض وثوبها هما بعينهما وجه امرأة رومانية وثيابها، ونرى في إحدى الزوايا صورة لشخص رياضي عار شاهدة على الروح اليونانية القديمة التي كان يتأثر بها هذا الفنان، ودبت الغيرة في هذه التحفة في قلب سيينا (1256) فاستخدمت نقولو وأبنة جيوفيني، وتلميذه أرنلفو دي كمبيو Arnolfo di Cambio في صنع منبر أجمل من هذه لكنيستها، وحالفهم التوفيق في هذه المهمة. ويقوم المنبر الجديد المصنوع من الرخام الأبيض على عمد ذات تيجان تمثل أوراق النبات، وتتكرر فيه الموضوعات التي في منبر بيزا مع لوحة مزدحمة تمثل الصلب. وهنا يتغلب التأثير القوطي على التأثير الروماني القديم، ولكن المزاج القديم يظهر فيما يسبغه الفنان على الصورة النسائية التي تتوج الأعمدة من صحة سابغة لإخفاء فيها. وكأنما أراد نقولو أن يؤكد عواطفه الرومانية القديمة فوق قبر القديس دمنيك الناسك في بولونيا صوراً كاملة عن الرجولة على الطراز الوثني مليئة ببهجة الحياة. وانضم في عام 1271 إلى ابنه وأرنلفو لينحتوا الواجهة الرخامية التي لا تزال حتى اليوم قائمة في ميدان بروجيا العام. ومات بعد سبع سنين من ذلك الوقت، وهو لا يزال إلى حد ما في سن الشباب، ولكنه مهد في حياته السبيل إلى دناتلو Donatello وإلى بعث فن النحت القديم في عصر النهضة.
وكان ابنة جيوفتى بيرانو (حوالي 1240 إلى حوالي 1320) يضارعه فيما تعرض له من تأثير متعدد النواحي، ولكنه يفوقه في مهارته الفنية. وقد عهدت إليه بيزا بناء مقبرة تليق بالرجال الذين كانوا في ذلك الوقت يقتسمون البحر المتوسط الغربي مع جنوى. وجيء بالتراب المقدس للميدان المقدس Compo Santo من جبل كلفارى. وأقام الفنان حول مستطيل كلئ عقوداً رشيقة امتزج فيها الطرازان الرومنسي والقوطي. وجيئت بروائع النحت لتزيين اليوائك، وظل الميدان المقدس قائما يخلد ذكرى جيوفنى بيزانو حتى حطمت الحرب العالمية الثانية نصف عقوده وتركته أنقاضاً مهملة .
ولما منى البيزيون من الهزيمة على أيدي الجنويين (1284) لم يعد في مقدورهم أن يمدوا جوڤانى بما يحتاجه من المال، فانتقل إلى سيينا. ونحت في عام 1290 بعض النقوش البارزة لواجهة كنيسة أورفييتوا Orvieto الغربية غير المألوفة. ثم عاد فانتقل شمالا إلى بستونيا Pistonia ونحت لكنيسة سانتا أندريا Santa Andrea منبراً صورة أقل اكتمالا في رجولتها من صورة منبر والده في بيزا، ولكنه يفوق منبر أبيه في رشاقته وفي اتفاقه مع الطبيعة، والحق أن هذا المنبر لهو أجمل ما أخرجه فن النحت القوطي في إيطاليا.
وظل أرنلفو دي كمبيو (1232-1300) ثالث هؤلاء الثلاثة الذائعي الصيت يمارس عمله على الطراز القوطي برعاية البابوات، وكانت لمعضمهم روابط سابقة بفرنسا. فقد اشترك وهو في أورفييتو في قطع واجهة كنيستها، وصنع تابوتاً جميلا للكردنال دي براي Cardinal de Braye وكان شبيهاً بفناني النهضة في تعدد مهاراتهم؛ وبهذه المهارات المتعددة صمم، وشرع ينفذ، ثلاثة من الأعمال المجيدة التي تفخر بها فلورنس؛ كنيسة سانت ماريا دل فيوري Janta Maria del fiori وكنيسة سانتا كروچه Santa Croce (الصليب المقدس) وپلادتسو ڤكيو Plazzo Vecchio (القصر القديم).
ولكننا حين نتحدث عن أرنلفو وعن هذه الأعمال ننتقل بالقارئ من النحت إلى العمارة. فقد عادت كل الفنون وقتئذ إلى الحياة وإلى الصحة؛ ولم ترجع المهارات القديمة إلى سابق عهدها وكفى، بل أخذت تغامر في اتجاهات وصياغات فنية جديدة تكاد لكثرتها تبلغ حد التهور. وتآلفت الفنون وتوحدت، كما لم تتآلف أو تتوحد من قبل ولا من بعد، في المغامرة الواحدة وفي الرجل الواحد. وكان كل شئ قد أعد لتلك الدرجة الرفيعة التي بلغتها فن العصور الوسطى، فتجتمع الفنون كلها وتتعاون أكمل تعاون وأعظمه، ويطلق اسم فنها الجامع على الطراز ذلك العصر وفنه.