قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 30

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 5762



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> القانون الأخلاقي المسيحي


الباب الثلاثون



الأخلاق والآداب في العالم المسيحي



700 -1300



الفصل الأول



القانون الأخلاقي المسيحي


كان لا بد للإنسان في مرحلة سكنى الغاب أوفى مرحلة الصيد أن يكون شرهاً- حريصاً في بحثه عن الطعام، نهما في ابتلاعه - لأنه إذا جاءه الطعام مرة لا يدري متى يأتيه مرة أخرى. وكان لا بد له أن يكون شديد الحساسية الشهوانية، وكثيراً ما يطلق لهذه الشهوات العنان، فلا يتقيد بزواج لأن ارتفاع نسبة الوفيات تحتم ارتفاع نسبة المواليد، فكل امرأة يجب أن تصير أما كلما كان ذلك مستطاعاً، ولا بد أن تكون وظيفة الذكر حامية على الدوام. ولا بد أن يكون مشاكساً دائم الاستعداد للقتال من أجل طعامه ورفيقته. لقد كانت الرذائل في وقت ما فضائل لا غنى عنها للمحافظة على البقاء، فلما وجد الإنسان أن أحسن سبيل إلى البقاء - بقاء الفرد وبقاء النوع - هي سبيل التنظيم الاجتماعي، وسع نطاق عصبة الصيد، فجعلها هيئة من النظام الاجتماعي لا بد فيها من كبح جماع الغرائز التي كانت عظيمة النفع في مرحلة الصيد عند كل خطوة يخطوها الإنسان، حتى يستطاع بذلك قيام المجتمع. فليست كل حضارة إلا توازناً وتجاذباً بين غرائز الإنسان ساكن الغابة وقيود



 صفحة رقم : 5763   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> القانون الأخلاقي المسيحي


القانون الأخلاقي، فإذا وجدت الغرائز دون القانون الأخلاقي قضى على الحضارة، وإذا وجدت القيود دون الغرائز قضى على الحياة، فالمشكلة التي تواجهها الأخلاق هي أن تنظم القيود بحيث تحمي الحضارة دون أن توهن الحياة. وكانت بعض الغرائز، وأكثر ما تكون غرائز اجتماعية، هي صاحبة السبق في تهدئة العنف البشري، والاختلاط الجنسي الطليق، والشره، وكانت هي أساساً حيوياً للحضارة. فقد خلق الحب الأبوي، في الحيوان والإنسان، نظام الأسرة الاجتماعي الفطري، وما فيها من تأديب تعليمي، ومساعدة متبادلة، ونقلت السلطة الأبوية، وهي مزيج من ألم الحب ومتعة الاستبداد، قانون السلوك الاجتماعي المنقذ للحياة إلى الطفل صاحب النزعة الفردية. وأحاطت القوة المنظمة التي يمارسها الزعيم، أو الشريف، أو وتمارسها المدينة أو الدولة، أحاطت هذه القوة وداجت إلى حد كبير قوة الأفراد غير المنظمة. وأخضع حب الاستحسان النفس البشرية إلى إرادة الجماعة، وهدت العادة والمحاكاة من حين إلى حين المراهق والمراهقة إلى السبل التي ارتضاها الناس عد تجاربهم وأخطائهم . وأرهب القانون الغرائز بشبح العقاب، وذلل الضمير الشاب بطائفة لا حصر لها من الموانع والمحرمات. واعتقدت الكنيسة أن هذه المنابع الطبيعية أو الزمنية للأخلاق لا تكفي وحدها للسيطرة على الدوافع التي تحفظ الحياة في الغابة، بل تقضي على النظام في المجتمع، وقالت إن هذه الدوافع أقوى من أن تكبحها أية سلطة لا تكون لها في كل مكان وفي وقت واحد قوة مانعة رهيبة. ولهذا القانون الأخلاقي شديد الوقع على الجسم لا بد له أن يكون مختوماً بخاتم قوة غير بشرية إذا أريد أن يطيعه الناس، ولا بد له أن يكون مؤيداً بقوة إلهية وذا مكانة فوق المكانة الآدمية تحترمها النفس في غياب كل سلطة،وفي أثناء لحظات الحياة وخباياها الخفية، إن السلطة الأبوية نفسها، وهي عماد كل نظام أخلاقي واجتماعي، لتنهار في النزاع



 صفحة رقم : 5764   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> القانون الأخلاقي المسيحي


القائم ضد الغرائز البدائية إلا إذا كان لها دعامة من العقيدة الدينية تغرس في قلب الطفل. فإذا أريد خدمة المجتمع ونجاته، فلا بد له من دين يقاوم الغرائز الملحدة بأوامر ليست من عند البشر ولا تقبل قط نزاعاً، بل هي أوامر من عند اللّه نفسه، محددة واضحة لا تقبل جدلا. وإذ كان الإنسان شديد الإثم والشراسة فإن هذه الوصايا الإلهية يجب ألا يؤيدها الثناء والشرف اللذان يمنحنهما الناس من يطيعونها، أو الخزي والعقاب اللذان يلحقان بمن يخرج عليها، بل يجب أن يؤيدها، فضلا عن هذا، الأمل في نعيم السماء تناله الفضيلة التي لا تلقى جزاءها في هذه الدنيا، وخوف الجحيم التي يتردى فيها الآثمون الذين لا يلقون على ظهر الأرض عقاباً. إن هذه الوصايا يجب ألا تأتي من عند موسى بل عند اللّه. وكانت عقيدة الخطيئة الأولى في اللاهوت المسيحي هي التي مثلت بها النظرية القائلة إن الغرائز البدائية تجعل الإنسان غير صالح للحضارة وكانت هذه النظرية، كما كانت فكرة"كارما" في الديانة الهندية محاولة قصد بها ما يحل بالناس من آلام هم في الظاهر غير خليقين بها، وهذا التفسير هو أن "الصالحين يقاسون الآلام في هذه الحياة لأن أسلافهم ارتكبوا الإثم، وتقول النظرية المسيحية إن الجنس البشري على بكرة أبيه قد لوثته خطيئة آدم وحواء، ويقول جراتيان Gratiun في كتابه Decrtum (القرار) (حوالي عام 1150) الذي اتخذته الكنيسة بصفة غير رسمية جزءاً من تعاليمها: كل آدمي ولد نتيجة لاتصال الرجل بالمرأة يولد ملوثاً بالخطيئة الأولى؛ معرضاً للعقوق والموت، ولهذا فهو طفل مغضوب عليه(1) لا ينجيه من الخبث واللعنة إلا رحمة اللّه وموت المسيح الذي كفر عن آثامه (ولا ينقذ الإنسان من العنف، والشهوة، والشره، وينجيه هو والمجتمع الذي يعيش فيه من الهلاك إلا المثل الذي ضربه المسيح الشهيد في الوداعة ودماثة الخلق). وبعثت الدعوة إلى هذه العقيدة، مضافة إلى الكوارث الطبيعية التي لم تستطع العقول فهمها إلا على عقاب عن الخطايا، بعثت هذه



 صفحة رقم : 5765   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> القانون الأخلاقي المسيحي


الدعوة في الكثيرين من الناس في العصور الوسطى شعوراً بأنهم مفطورون على الدنس، والانحطاط، والإجرام، وهو الشعور الذي غلب على كثير من أدبهم قبل عام 1200. ثم أخذ ذلك الشعور بالخطيئة والخوف من الجحيم يتناقض حتى جاء عهد الإصلاح الديني، وظهر بعدئذ بقوة ورهبة جديدين بين المتطهرين المتزمتين. وتحدث جريجوري الأول ومن جاء بعده من علماء الدين عن سبع خطايا - الكبرياء، والبخل، والحسد، والغضب، والشهوة، والشره، والكسل، تقابلها في رأيهم السبع الفضائل الرئيسية: أربع منها"فطرية" أو وثنية امتدحها فيثاغورس وأفلاطون - الحكمة، والشجاعة، والعدالة، والاعتدال، وثلاث فضائل "دينية" - الإيمان، والأمل، والإحسان. ولكن المسيحية لم تؤمن قط بالفضائل الوثنية وإن ارتضتها، وكانت تفضل الإيمان عن العلم، والصبر عن الشجاعة، والحب والرحمة عن العدالة ، والتعفف والظهر عن الاعتدال. ورفعت من شأن الإتضاع، ووصفت الكبرياء(وهو من أبرز صفات رجل أرسطو المثالي) بأنه أشنع الذنوب الشنيعة. وكانت المسيحية تتحدث أحياناً عن الحقوق الإنسان، ولكن أكثر ما كانت تؤكده هو واجبات الإنسان - واجباته نحو نفسه، ونحو بني جنسه، ونحو كنيسته وربه. ولم تكن الكنيسة تدعو إلى الاقتداء بالمسيح الرقيق، الوادع، الرحيم، لأنها كانت تخشى أن تجعل الرجال مخنثين. والحق أن رجال المسيحية اللاتينية في العصور الوسطى كانوا أكثر رجولة من ورثتهم وخلفائهم في هذه الأيام، لأنهم كانوا يواجهون من الصعاب أكثر مما يواجهه هؤلاء. ذلك أن علماء الدين والفلاسفة، كالرجال والدول، يتصفون بما يتصفون به، لأنهم في زمانهم ومكانهم، لم يكن لهم مما كانوا عليه بد.



 صفحة رقم : 5766   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الآداب قبل الزواج


الفصل الثاني



الآداب قبل الزواج


ترى إلى أي حد كانت آداب الناس في العصور الوسطى تمثل أو تحقق المبادىء والنظريات الأخلاقية في تلك العصور؟ فلتنظر أولا إلى الصورة التي كانت عليها تلك العصور دون أن يكون لدينا رأى سابق نريد اثباته. لقد كانت أولى الحادثات التي تمت بصلة إلى الأخلاق في الحياة المسيحية هي التعميد: به كان الطفل يندمج جدياً في المجتمع وفي الكنيسة، ويخضع- أو يخضع عنه من يعمدونه - إلى قوانينهما. وفي هذه الحفل يتلقى كل طفل "اسماً مسيحياً" - ويكون هذا الاسم في العادة اسم أحد القديسين المسيحيين. أما الأسماء التي تضاف بعد هذا الاسم فكانت مختلفة الأصول، ويمكن الرجوع بها خلال أجيال متعددة إلى القرابة، أو المهنة، أو المكان، أو إلى شيء من معارف الجسم أو معالم الخلق، بل يمكن الرجوع بها أحياناً إلى شيء من الطقوس الكنيسة: ومن أمثلة هذه الأسماء سسلي ولكنز دوتر Cicely wilkinsdoughter وجيمس اسمث James Smith، ومرجريت فري ومن Margret Ferrywoman وماثيو باريس Matthew Paris، وأجنيس ردهد Agnes Redhead، وجون مريمان Jogn Merriman، وروبرت لتاني Robert Litany، وروبرت بندبسيت Robert Bendicite أو Benedict. وكان جرجوري الأكبر، كما كان روسو، يحث الأمهات على أن يرضعن أطفالهن(3)، وكانت معظم النساء الفقيرات يفعلن هذا، أما نساء الطبقات العليا



 صفحة رقم : 5767   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الآداب قبل الزواج


فكانت الكثرة الغالبة منهن لا تفعلنه(4). وكان الأطفال محبوبين، كما هم محبوبين الآن؟ ولكنهم كانوا يضربون أكثر مما يضربون في هذه الأيام، وكانوا كثيري العدد بالرغم من كثرة من يموتون منهم في سن الطفولة وسن المراهقة. وكان بعضهم يؤدب البعض لاجتماعاتهم في مكان واحد، وقد تحضروا بسبب خوفهم من ارتكاب الذنوب. وتعلموا من أقاربهم ورفاقهم في اللعب كثيراً من فنون القطر أو المدينة، وتقدموا تقدماً سريعاً في معارفهم وخبثهم. وفي ذلك يقول تومس من أهل سيلانو Celano في القرن الثالث عشر: "لا يكاد الأولاد ينطقون حتى يتعلموا الخبث، وكلما تقدموا في السن زادوا سوءاً على سوء حتى يصبحوا مسيحيين بالاسم لا أكثر"(5). ولكن الذين يكتبون في الأخلاق مؤرخون غير صادقين، فقد كان الأولاد يبلغون سن العمل وهم في الثانية عشرة من عمرهم ويبلغون سن الرشد القانوني في السادسة عشرة. وكانت مبادئ الأخلاق المسيحية تتبع مع المراهقين سياسة صامتة بآراء الأمور الجنسية. فقد كان النضج المالي أي القدرة على كفالة الأسرة يجيء بعد النضج الجنسي أي القدرة على الخلف، وكان الاعتقاد السائد أن التربية الجنسية قد تزيد آلام العفة في تلك الفترة من العمر، وكانت الكنيسة تتطلب العفة قبل الزواج لتساعد بذلك على الاحتفاظ بالوفاء بعده وعلى النظام الاجتماعي والصحة العامة. ولكن الشاب في العصور الوسطى كان في أكبر الظن قد ذاق أنواعاً من الصلات الجنسية قبيل بلوغه السادسة عشرة من عمره. فقد عاد اللواط إلى الظهور في أثناء الحروب الصليبية، وفي أثر تيار الآراء الشرقية ، وعزلة الرهبان والراهبات(6). وكانت المسيحية قد أفلحت في مهاجمة هذا الداء في العصور القديمة المتأخرة. وقد كتب هنري رئيس دير كليرفو عن فرنسا في عام



 صفحة رقم : 5768   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الآداب قبل الزواج


1177 يقول!"إن سدوم القديمة قد أخذت تقوم فوق أنقاضها"(7). واتهم فليب الجميل رهبان المعبد بانتشار اللواط بينهم. وفي كتب التوبة الدينية التي تصف وسائل التكفير عن الذنوب ذكر لضروب الفحش من بينها البهيمية، وكانت طائفة كثيرة التنوع عن البهائم موضع صلات جنسية بالآدميين(8). وكانت الصلات الجنسية من هذا النوع إذا كشفت عوقب الطرفان المشتركان فيها بالإعدام، وفي سجلات البرلمان الإنكليزي ذكر لطائفة من الكلاب، والمعز، والبقر،والخنازير،والإوز، حرقت حية هي ومن ارتكب معها الفحشاء من الآدميين. كذلك كثرت مضاجعة المحارم في تلك الأيام. ويبدو أن العلاقات الجنسية قبل الزواج، وفي خارج نطاق الزواج، كانت منتشرة أنشارها في أي وقت بين أقدم الأزمنة والقرن الثاني عشر، ذلك أن غريزة الإنسان المختلطة كانت تتعدى الحدود التي تقيمها الشرائع الزمنية والكنسية، وكانت بعض النساء يعتقدون أن ورعهن في آخر الأسبوع يكفر عن مرحهن وبطنتهن. وكان الاغتصاب شائعاً(9) رغم ما يتعرض له المغتصب من أشد ضروب العقاب، وكان الفرسان الذين يخدمون النساء أو الفتيات الكريمات المولد نظير قبلة أو لمسة من أيديهن يسلون أنفسهم بخادمات هؤلاء السيدات والفتيات، ومن أولئك السيدات من لم يكن يستطعن النوم مرتاحات الضمائر إلا إذا هيأت بأنفسهن هذه التسلية(10). كان مما يألف له فارس لاتور لاندرى La Tour Landry انتشار الفسق بين بعض الشبان من أبناء الأشراف، وإذا أخذنا بأقواله فإن بعض رجال الطبقة التي ينتمي إليها كانوا يفسقون في الكنائس بل "على المذبح" نفسه؛ وهو يحدثنا عن "ملكتين استمتعتا ببهجتهن الآثمة وبلذتهن داخل الكنيسة في أثناء الصلاة المقدسة في يوم خميس الصعود



 صفحة رقم : 5769   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الآداب قبل الزواج


أثناء الصيام(11). ويصف وليم المالمزبري Wiliam of Malmsbury أشراف النومان بأنهم منهمكون في البطة والدعارة" وأنهم يتبادلون العاشقات بعضهم مع بعض(12) خشية أن يضعف الوفاء حدة الشهوة. وكان الأطفال غير الشرعيين منتشرين في جميع أنحاء العالم المسيحي، وكانت سيرتهم موضوعاً لآلاف القصص، وكان أولاد الزنا أبطال عدد من هذه القصص فمنهم كوشولان Cuchulain ، وآرثر Arthur، وجاوين Gawain ورولان Roland، ووليم الفاتح، وكثيرون من الفرسان المذكورين في تواريخ فرواسار Froissart. وتمشى العهر مع مطالب ذلك الوقت، فقد كان بعض النساء الذاهبات إلى الحج يكسبن نفقة الطريق، كما يقول الأسقف بنيفاس، ببيع أجسادهن في المدن القائمة في طريقهم(13). وكان كل جيش يتعقبه آخر من العاهرات لا يقل خطراً عن جيش أعدائه. ويحدثنا ألبرت من أهل إيكس Aix فيقول إن "الصليبيين كان بين صفوفهم جمع حاشد من النساء في ثياب الرجال، يسافرون معهم دون أن يميزون عنهم، ويغتنمن الفرصة التي تتاح لهم مع الرجال"(14). ويقول المؤرخ العربي عماد الدين إنه في أثناء حصار عكا حضرت ثلاثمائة من الفرنسيات الحسان ليروحن عن الجنود الفرنسيين... لأن هؤلاء أبوا أن يخرجوا للقتال إذا حرموا لذة النساء، فلما رأى جنود المسلمين هذا طلبوا أن يهيأ لهم ما هيئ لهؤلاء(15). ويقول جرانفيل إن الأشراف الذين كانوا مع القديس لويس في حربه الصليبية "أقاموا مواخيرهم حول خيمة الملك"(16). وكان طلبة الجامعات، وبخاصة في باريس، ممن استبدت بهم الحاجة إلى هذا الترفيه أو رغبوا في محاكاة غيرهم فيه، ولهذا أنشأت الفتيات مراكز لسد هذه الحاجة(17). وأباحت بعض المدن- أمثال طولوز (طلوشة)، وأفينون، ومنبليه، ونورمبرج- هذه الدعارة قانوناً. ووضعتها تحت إشراف البلديات بحجة أنه بغير



 صفحة رقم : 5770   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الآداب قبل الزواج


هذا الدنس لا تستطيع النساء الصالحات أن يخرجن إلى الشوارع وهم آمنات على أنفسهم (18). وكتب القديس أوغسطين يقول: "إذا منعت العاهرات والمواخير، اضطربت الدنيا من شدة الشبق"(19)، ووافقه على ذلك القديس تومس أكويناس(20). وكان في لندن في القرن الثاني عشر صف من "المواخير" بالقرب من جسر لندن. وقد أجاز أسقف ونشستر في بادئ الأمر قيامها، ثم صدق البرلمان على قيامها فيما بعد(21). وقد حرم القانون الذي أصدره البرلمان عام 1161 على صاحبات بيوت الدعارة أن يأوين فيها نساء يعانين آلام "الضعف الخطر من الاحتراف" - وهذا أول ما عرف من التشريع ضد انتشار أمراض السرية. وقرر لويس التاسع في عام 1254 نفي جميع العاهرات من فرنسا، ونفذ هذا القرار فعلا، ولكن الدعارة السرية لم تلبث أن حلت محل التجارة العلنية، حتى أهل الطبقات الوسطى من أنه يكاد من المستحيل حماية الفضيلة لدى زوجاتهم ونسائهم من إلحاح الجنود والطلاب. وعن انتقاد هذا القرار في آخر الأمر حتى ألغي في عام 1256. وحدد المرسوم الجديد الأماكن التي تستطيع فيها العاهرات أن يسكن ويمارسن مهنتهن في باريس، وحدد أيضاً ملابسهن وزينتهن، وأخضعهن لرقابة رئيس من رؤساء الشرطة يسمى ملك القوادين أو المتسولين أو الأفاقين Roi de Ribauds(23). ونصح لويس التاسع وهو يحتضر ولده أن يعيد المرسوم الذي قضى بنفي العاهرات، ونفذ فليب وصيته، وكانت النتيجة هي النتيجة السابقة نفسها، وبقى القانون مدوناً في سجل الشرائع الفرنسية ولكنه لم ينفذ(24). وكان في روما، كما يقول الأسقف دوران الثاني المندى Bishop Durand II of Mende (1311)، مواخير بالقرب من الفاتيكان، وقد أجاز رجال البابا إقامتها نظير ما يتقاضون من الأجور(25). وكانت الكنيسة تظهر العطف على العاهرات، وأقامت ملاجئ للتائبات من النساء ووزعت على الفقيرات الصدقات التي كانت تتلقاها من العاشقات التائبات(26).



 صفحة رقم : 5771   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الزواج


الفصُل الثالث



الزواج


كان الشاب في عصر الإيمان قصير الأجل، وكان الزواج يحدث فيه مبكراً، وكان في وسع الطفل وهو في السابعة من عمره أن يوافق على خطبته، وكان هذا التعاقد يتم في بعض الأحيان ليسهل به انتقال الملكية أو حمايتها. ولقد تزوجت جراس صليبي Grace de Saleby في الرابعة من عمرها بشريف عظيم يستطيع حماية ضيعتها الغنية، ثم مات هذا الشريف ميتة سريعة فتزوجت وهي في السادسة من عمرها بشريف آخر، وزوجت وهي في الثالثة عشرة بشريف ثالث(27). وكان يستطاع حل هذا الرباط في أي وقت من الأوقات قبل سن البلوغ، وكان يفترض أن تكون هذه السن هي الثانية عشرة للبنت، والرابعة عشرة للولد(28). وكانت الكنيسة ترى أن رضي الوالدين أو الأوصياء غير ضروري للزواج الصحيح إذا بلغ الزوجان سن الرشد، وتحرم زواج البنات قبل سن الخامسة عشرة،ولكنها كانت تسمح بكثير من الاستثناءات، لأن حقوق الملكية في هذه المسألة كانت تطغى على نزوات الحب، ولم يكن الزواج إلا حادثا من حوادث أعمال المالية. وكان العريس يقدم لوالدي الفتاة هدايا أو مالا، ويعطيها"هدية الصباح" ويضمن لها حق بائنة في مزرعته. وكان هذا الحق في إنجلترا هو أن يكون للأرملة استحقاق مدى الحياة في ثلث ما يتركه الرجل من الأرض. وكانت أسرة الزوجة تقدم الهدايا للزوج، وتخصص لها بائنة تتكون من الثياب، والأثواب الثمينة، والآنية والأثاث، والأملاك في بعض الأحيان. وكانت الخطبة عبارة عن تبادل عهود أو مواثيق، وكان العرس نفسه ميثاقا واسمه



 صفحة رقم : 5772   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الزواج


الإنجليزي Wedding مشتق من اللفظ الإنجليسكسوني Weddian ومعناه (الوعد) وكان القرين spouse هو الشخص الذي أجاب Responded "إني أريد". وكانت الدولة والكنيسة معاً تعدان الزواج صحيحاً إذا تم بناء على تبادل عهد شفوي بين الطرفين ولو لم يصحبه أي احتفال قانوني أو كنسي(29). وكانت الكنيسة تريد أن تحمي النساء بذلك من أن يهجرهن من يغوينهن، وتفضل هذا الاتحاد عن الفسق أو التسري، ولكنها كانت بعد القرن الثاني عشر تنكر شرعية الزواج الذي يتم دون مصادقة الكنيسة، وأخذت بعد مجلس ترنت (1563) تتطلب حضور قس في هذا التعاقد. وكان القانون الزمني يرحب بتنظيم الكنيسة لشئون الزواج، فكان براكتن Bracton (المتوفى عام 1268) يرى أن لا بد من إقامة احتفال ديني لكي يصبح الزواج صحيحاً. ورفعت الكنيسة شأن الزواج إلى مقام القداسة، وجعلته ميثاقاً مقدساً بين الرجل والمرأة واللّه، ثم بسطت سلطانها القانوني تدريجيا على كل خطوة من خطوات الزواج، من واجبات فراش الزوجية إلى وصية الزوج الأخيرة قبل الوفاة. وذكر قانونها ثبتاً طويلا من "موانع الزواج"، فكان يجب أن يكون كلا الطرفين غير مقيد برباط زواج سابق، أو بنذر أنذره أن يظل بغير زواج، وكان الزواج بمن لم يعمد محرماً، غير أنه وجدت مع ذلك حالات من الزواج بين المسيحيين واليهود(30). وكان الزواج بين الأرقاء بعضهم وبعض، وبين الأرقاء والأحرار، المستمسكين بالدين الصحيح والضالين، وحتى بين المؤمنين والمحرومين، كان الزواج بين هؤلاء يعد صحيحاً(31). ويجب ألا يكون بين الطرفين صلة تصل إلى الدرجة الرابعة من القرابة- أي أنه يجب ألا يكون لهما جد مشترك في خلال أربعة أجيال، وفي هذه المسألة كانت الكنيسة ترفض القانون الروماني وتقبل القانون البدائي قانون الزواج من خارج العشيرة خشية أن يؤدى الزواج بين الأقارب الأدنين إلى الانحطاط الناشئ من التناسل داخل دائرة الأسرة، ولعلها كانت تعمل بذلك على منع تركيز الثروة



 صفحة رقم : 5773   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الزواج


نتيجة للروابط الأسرية الضيقة. وكان من الصعب تجنب هذا التزاوج الداخلي في القرى الريفية، فكان لا بد للكنيسة أن تتغاضى عنه، كما كانت تتغاضى عن كثير من الثغرات الأخرى بين الحقيقة والقانون. ويجئ بعد حفلة الزواج موكب العرس - بموسيقاه المدوية وثيابه الحريرية الفاخرة - يسير من الكنيسة إلى منزل العريس، وتعقبه الحفلات في هذا البيت طول النهار كله ونصف الليل. ولا يصبح الزواج صحيحاً حتى يتم اتصال الزوجين. وكان منع الحمل محرما، ويرى أكويناس أنه جريمة لا تزيد عنها شناعة إلا جريمة القتل العمد(32)، بيد أن وسائل مختلفة بعضها آلية: وبعضها كيميائية وبعضها سحرية، كانت تستخدم لهذا المنع، وكان أكثر ما يعتمد عليه هو وقف الجماع(33). وكانت العقاقير المجهضة، أو المؤدية إلى العقم، أو إلى العجز الجنسي، أو إلى الشبق، تباع مع الباعة المتنقلين. وكانت العقوبات التي وضعها ربانس مورس Rabanus Maurus للتكفير عن الآثام تقضي على "من تخلط منى زوجها بطعامها حتى تحسن قبول حبه، بالندم على فعلتها ثلاثة أعوام"(34). وكان وأد الأطفال نادراً، وقد أنشأت الكنيسة من أموال الصدقات في القرن السادس وما بعده الثامن النساء اللاتي ولدن أطفالا في السر أن يودعنهم عند باب الكنيسة، وأعلنت أنها ستكفلهن، وكان أولئك الأيتام يربون ليكونوا أرقاء أرض يعملون في أملاك الكنيسة. وقرر قانون أصدره شالمان أن الأطفال الذين يعرضون للجو في الخلاء يصبحون عبيداً لمن ينقذونهم ويربونهم. وأنشأ راهب من منبليه حوالي عام 1190 جماعة إخوان الروح القدس التي تخصصت في حماية اليتامى وتعليمهم.



 صفحة رقم : 5774   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الزواج


وكان عقاب الزنا قاسياً، مثال ذلك أن أقل ما كان يحكم به القانون السكسوني على الزوجة التي تخون زوجها هو جدع أنفها وصلم أذنيها، وأجاز لزوجها أن يقتلها ولكن الزنا كان منتشراً رغم هذه العقوبات الشديدة وأمثالها(35)، وكان أقل ما يكون انتشاراً بين الطبقات الوسطى، وأكثر ما بين الأشراف. فكان سادة الإقطاع يغوون رقيقات الأرض ولا يحكم عليهم بغرامة قليلة: فمن "وطئ بنتاً من غير شكرها" -أي رغم إرادتها- أدى للمحكمة ثلاث شلنات(36). ويقول فريمان Freeman إن القرن الحادي عشر "كان عصراً فاسقاً"، وكان يعجب من وفاء وليم الفاتح الظاهري لزوجته(37) وهو وفاء لا يستطيع أن يعزو مثله لأبيه، ويقول تومس رايت Thomas Wright الأريب إن "مجتمع العصور الوسطى كان مجتمعاً فاسد الأخلاق فاجراً"(38). وكانت الكنيسة تجيز انفصال الزوجين بسبب الزنا، أو الارتداد عن الدين، أو القسوة الشديدة وكان هذا الانفصال يسمى divortium ولكن معناه لم يكن إبطال الزواج، أما هذا الإبطال فلم يكن يمنح إلا إذا ثبت أن الزواج قد خالف أحد الموانع الشرعية التي نص عليها قانون الكنيسة. ويبعد أن تكون هذه الموانع قد ضوعف عددها عن قصد لكي يستعين على الطلاق من يستطيعون أداء الرسوم والنفقات الضخمة التي يتطلبها إبطال الزواج، بل إن الكنيسة كانت تستخدم هذه الموانع استخداماً حكيماً مرناً في الظروف الاستثنائية التي يرجى أن يؤدى الطلاق فيها إلى وجود وارث إلى ملك لم ينجب أبناء، أو يكون من ورائه فائدة أخرى للسلم أو السياسة. وكان القانون الألماني يجيز الطلاق في حالة الزنا، بل كان يجيزه في بعض الأحيان إذا اتفق عليه الطرفان(39). وكان



 صفحة رقم : 5775   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الزواج


الملوك يفضلون قانون أسلافهم على قانون الكنيسة الصارم، وكان سادة الإقطاع وسيداته يعودون إلى القوانين القديمة فيطلق بعضهم بعضاً من غير إذن الكنيسة، ولم تبلغ الكنيسة في سلطانها واستمساكها بمقتضيات الذمة والضمير درجة من القوة تمكنها من تنفيذ قرارتها إلا بعد أن رفض إنوسنت الثالث أن يوافق على طلب الطلاق الذي تقدم به إليه فليب أغسطس ملك فرنسا القوي.



 صفحة رقم : 5776   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> النساء


الفصُل الرابع



النساء


كانت نظريات رجال الكنيسة بوجه عام معادية للمرأة، فقد غالت بعض قوانين الكنيسة في إخضاعها، لكن كثيراً من مبادئ المسيحية وشعائرها رفعت من مكانتها. وكانت المرأة في تلك القرون لا تزال في نظر القساوسة وعلماء الدين كما كانت تبدو لكريستوم - (شراً لا بد منه، وإغواء طبيعياً، وكارثة مرغوباً فيها، وخطراً منزلياً، وفتنة مهلكة، وشراً عليه طلاء)(40). وكانت لا تزال حواء مجسدة في كل مكان، حواء التي خسر بسببها الجنس البشري جنات عدن، وأداة الشيطان المحببة التي يقود بها الرجال إلى الجحيم. وكان تومس أكويناس، وهو في العادة رسول الرحمة، يتحدث عنها كما يتحدث الرهبان، فينزلها من بعض النواحي منزلة أقل من منزلة الرقيق: إن المرأة خاضعة للرجل لضعف طبيعتها، الجسمية والعقلية معاً(41). والرجل مبدأ المرأة ومنتهاها كما أن اللّه مبدأ كل شئ ومنتهاه(42)... وقد فرض الخضوع على المرأة عملا بقانون الطبيعة، أما العبد فليس كذلك(43).. ويجب على الأبناء أن يحبوا آباءهم أكثر مما يحبون أمهاتهم(44). وأوجب قانون الكنيسة على الزوج حماية زوجته، كما أوجب على الزوجة طاعة زوجها. وقد خلق اللّه الرجل لا المرأة، في صورته هو. ويعقب العالم بالقانون الكنسي على ذلك بقوله: (ويتضح من هذا أن الزوجة يجب أن تكون خاضعة لزوجها بل يجب أن تكون له أقرب ما تكون إلى الخادمة)(45) على أن في هذه الفقرات نغمة الرغبات المرجوة لا الحقائق الواقعة، غير أن الكنيسة



 صفحة رقم : 5777   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> النساء


كانت تحتم على الرجل ألا يتزوج أكثر من واحدة، وتصر على أن يكون القانون الأخلاقي ذا مستوى واحد للرجال والنساء على السواء وتكرم المرأة بعبادة مريم وتدافع عن حق المرأة في وراثة الممتلكات. وكان القانون المدني أشد عداء للمرأة من القانون الكنسي. فقد كان كلا القانونين يجيز ضرب الزوجة(46) ولما أن أمرت "قوانين بوفيه وعاداتها في القرن الثالث عشر" الرجل ألا يضرب زوجته" إلا لسبب(47) كان ذلك خطوة كبرى إلى الأمام. وكان القانون المدني ينص على ألا تسمع للنساء كلمة في المحكمة "لضعفهن"(48) ويعاقب على الإساءة للمرأة بغرامة تعادل نصف ما يفرضه على الرجل نظير هذه الإساءة نفسها(49) وقد حرم القانون النساء حتى أرقاهن مولداً، من أن يُمثلن ضياعهن في برلمان إنجلترا أو في الجمعية العامة للطبقات بفرنسا. وكان الزواج يعطى الزوج الحق الكامل في الانتفاع بكل ما لزوجته من متاع وقت الزواج والتصرف في ريعه(50) ولم يكن يرخص للمرأة أن تكون طبيبة. وكان في حياتها الاقتصادية من التنوع بقدر ما كان حياة الرجل، فكانت تتعلم وتباشر فنون البيت العجيبة المجهدة: تصنع الخبز والفطائر المتنوعة، وتطهو اللحم، وتصنع الصابون والشمع، والزبد والجبن، وتعصر الجعة، وتستخرج الأدوية البيتية من الأعشاب وتغزل الصوف وتنسجه، وتنسج الأقمشة التيلية من الكتان، وتخيط الملابس لأسرتها، والسجف والملاءات، وأغطية الأسرة، والأنسجة التي تزين بها الجدران. وكان عليها أن تزين بيتها وتحتفظ به نظيفاً إلى الحد الذي يسمح به من فيه من الرجال، وأن تربي الأطفال. وكانت في خارج الكوخ الزراعي تشترك بقوة وجلد في أعمال المزرعة: تبذر، وتزرع، وتحصد، وتطعم الفراخ الصغار، وتحلب البقر، وتجز الأغنام، وتساعد على إصلاح البيت ونقشه وبنائه. وإذا كانت من سكان المدن، كانت وهي في



 صفحة رقم : 5778   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> النساء


البيت أو الحانوت، تقوم بغزل ما يلزم لنقابات المنسوجات الطائفية من غزل ونسيج. ولقد كانت شركة من (نساء الحرير) أول ما أنشأ في إنجلترا فنون غزل الحرير وثنيه ونسجه(51). وكان عدد النساء في معظم نقابات الحرف الإنجليزية مساوياً لعدد الرجال، ويرجع معظم السبب في نقابات الحرف الإنجليزية مساوياً لعدد الرجال، ويرجع معظم السبب في هذا إلى أن الصناع كان يسمح لهم أن يستخدموا زوجاتهم وبناتهم، ويسجلوا أسماءهن في النقابات. وكانت بعض النقابات الطائفية المخصصة للصائغات من النساء تتألف من النساء وحدهن، وكان في باريس في آخر القرن الثالث عشر خمس عشرة نقابة طائفية من هذا النوع(52). على أن النساء قلما كن رئيسات في نقابات الحرف المكونة من الذكور والإناث، وكن يتقاضين أجوراً أقل من أجور الرجال نظير الأعمال المتساوية. وكانت نساء الطبقات الوسطى يعرضن بملابسهن ثروة أزواجهن، ويقمن بدور مثير في الأعياد الدينية والحفلات الاجتماعية التي تقام في البلدة. وقد ارتفعت نساء الأشراف الإقطاعيين، باشتراكهن في تحمل التبعات مع أزواجهن، وتقبلهن في ظرف وتمنع ما يقدمه الفرسان وشعراء الفروسية الغزلون من مراسم التبجيل والغرام، ارتفعت أولئك النسوة إلى منزلة اجتماعية قلما ارتفعت إليها النساء من قبل. وقد وجدت المرأة في العصور الوسطى بفضل مفاتنها، كما تجد عادة، رغم أوامر الدين والقانون، وسائل للتحرر من نتائج عجزها، ولهذا فإن آداب ذلك العصر ملآى بأخبار النساء اللاتي حكمن رجالهن(53). ولقد كانت المرأة من وجوه كثيرة متفوقة على الرجل معترفاً لها بهذا التعوق، فكانت في أسر الأشراف تتعلم شيئاً من الأدب، والفن، والتهذيب، بينما كان زوجها غير المتعلم يكدح ويحارب، وكان في وسعها أن تظهر بكل ما لصاحبات الندوات الأدبية في القرن الثامن عشر من رشاقة، وتتصنع الإغماء كما تتصنعه البطلة في الروايات رتشاردسنRichardson وكانت في الوقت نفسه تنافس الرجل في حريته البذيئة في القول والفعل، وتتبادل



 صفحة رقم : 5779   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> النساء


وإياه قصص المغامرات،وكثيراً ما كانت هي البادئة في الغرام دون حياة(53). وأيا كانت الطبقة التي تنتمي إليها فقد كانت تتنقل بكامل حريتها، وقلما كان معها محرم. وكانت تزحم الأسواق وتسيطر على الاحتفالات، وتصاحب الرجال في الحج، وتشترك في الحروب الصليبية، ولم يكن شأنها فيها للتسلية فحسب، بل كانت في بعض الأوقات جنديا في عدة حروب الكاملة. وكان الرهبان الخوار والعود يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأن منزلتها دون منزلة للرجال، ولكن الفرسان كانوا يقتتلون لنيل رضاها والشعراء يقرن بأنهم عبيد لها. وكان الرجال يتحدثون عنها وصفها خادماً مطيعاً، ويحملون بها على أنها إلهة معبودة. وكانوا يصلون لمريم العذراء ولكنهم يقنعون إذا حصلوا على إليانور الأكتانية Eleanor of Aquitine. ولم تكن إليانور هذه إلا واحدة من عشرات النساء العظيمات في العصور الوسطى- أمثال جلا بلاسيديا Galla Plaisedia، وثيودورا، وإيرينه Irene، وأناكميناAnna Commena، وما تلده كونتة تسكانيا، وماتلده ملكة إنجلترا، وبلانش النفبرية Blanch of Navarre، وبلانش القشتالية، وهلواز Heloise. وكان جد إليانور وليم العاشر الأكتاني، أميراً وشاعراً ونصيراً للشعراء الغزليين وزعيما لهم. وكان يفد إلى بلاطه في بوردو أحسن الفكهين والظرفاء وذوو الشهامة في جنوبي فرنسا الغربي، وقد تربت إليانور في هذا البلاط لتكون ملكة الحياة والآداب جميعاً. واتصف بكل ما كان في هذا الجو المشمس الحر من ثقافة وأخلاق: قوة في الجسم، ورشاقة في الحركة، وقوة في العاطفة الخلقية والجسمية، وحرية في العقل والآداب والحديث، وخيال شعري، وروح مشرقة، وهيام لا حد له بالحب، والحرب، والملذات كلها، يكاد يصل إلى الموت. ولما بلغت الخامسة عشرة من عمرها(1137) عرض عليها ملك فرنسا أن يتزوجها، لأنه كان يتوق إلى ضم دوقيتها أكتين،



 صفحة رقم : 5780   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> النساء


وثغرها العظيم بوردو إلى تاجه وموارده المالية. ولم تكن تعرف أن لويس السابع بليد ورع، منهمك أشد الانهماك في شئون الدولة. فانتقلت إليه بمرحها، وجمالها، وتحررها من مقتضيات الضمير، فلم يعجبه إسرافها، ولم يهتم بالشعراء الذين تبعوها إلى باريس ليجزوها على رعايتها إياهم بالمدائح والقوافي. وكانت شديد الشوق إلى المغامرات، فاعتزمت أن تصحب زوجها إلى فلسطين في الحملة الصليبية الثانية (1147)، وليست هي ووصيفاتها ملابس الرجال والحلل العسكرية، وبعثن بمغازلهن في ازدراء إلى الفرسان القاعدين في أوطانهم، وركبن في مقدمة الجيش يلوحن بالأعلام الزاهية ومن ورائهن الشعراء الغزلون(55). وأهملها الملك أو لامها فسمحت لنفسها في إنطاكية وغيرها من الأماكن ببعض مغامرات الحب، فأشيع مرة أنها تحب عمها رايمند البنتييري Raymond of pontiers، ومرة أخرى أنها تحب عبداً مسلماً جميلا، وقال النمامون الجهلاء مرة إنها تحب صلاح الدين التقي الورع نفسه(56). وصبر لويس على هذا العبث، وعلى لسانها السليط، ولكن القديس برنار شهر بها في العالم. وظنت أن الملك سيطلقها، فقاضته في عام 1152 تطلب الطلاق منه بحجة أن نسبهما متصل في الدرجة السادسة. وابتسمت الكنيسة ساخرة من هذه الحجة، ولكنها منحت الطلاق، وعادت إليانور إلى بوردو، واستعادت حقها في الملك أكتين، وفيها التفت حولها طائفة كبيرة من الخاطبين، اختارت منهم هنري بلانتاجنت Henry Plantagenet ولي عهد إنجلترا، وبعد سنتين من ذلك الوقت أصبح هنري الثاني، وعادت إليانور ملكة مرة أخرى (1154) - "ملكة إنجلترا بغضب اللّه" على حد قولها. وجاءت إلى إنجلترا بأذواق الجنوب، وظللت فيها، كما كانت في فرنسا، المشترعة العليا للشعراء القصاصين والغزلين، ونصيرتهم، ومعبودتهم. وكانت وقتئذ قد بلغت السن التي تمكنها من أن تكون وفية، ولم يجد هنري ما يشينها.



 صفحة رقم : 5781   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> النساء


ولكن الآية انعكست، فقد كان هنري أصغر منها بإحدى عشرة سنة ولم يكن ينقص عنها في حدة المزاج وقوة العاطفة، وسرعان ما أخذ يشيع حبه بين نساء البلاط. واستشاطت إليانور غضباً واكتوى قلبها بنار الغيرة، وهي التي من قبل تحتقر الرجل الغيور. ولما أنزلها هنري عن عرشها هربت من إنجلترا، نريد أن تحمي بأكتين، فأمر بتعقبها، وقبض عليها، وزجت في السجن، وظلت ستة عشر عاماً يذبل غصنها فيه وإن لم يفل ذلك من قوة إرادتها. وأثار الشعراء الغزلون عواطف أوربا على الملك، وائتمر به أبناءه، بإيعاز منها، لخلعه، ولكنه ظل يقاومهم ويحاربهم إلى يوم مماته (1189). وخلف رتشارد قلب الأسد أباه، وأخرج أمه من السجن، وعينها نائبة لملك إنجلترا حين خرج لقتال صلاح الدين في الحرب الصليبية، ولما أصبح ابنها جون ملكاً، آوت إلى دير فرنسا، حيث ماتت "من الحزن، وضعف العقل" في الثانية والسبعين من عمرها. لقد كانت إليانور "زوجة فاسدة، وأما فاسدة وملكة فاسدة"(57)، ولكن منذا الذي يفكر فيها على أنها من جنس خاضع ذليل.



 صفحة رقم : 5782   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق العامة


الفصُل الخامِس



الأخلاق العامة


ما فتئت الشرائع والحكم الأخلاقية في كل عصر من العصور تقاوم ما درج عليه الآدميون من غش وخيانة. ولم يكن الناس في العصور الوسطى الطيب منهم والخبيث أكثر أو أقل من غيرهم في هذه الناحية، فكانوا يكذبون على أبنائهم وأزواجهما وطوائفهم، وأعدائهم، وأصدقائهم، وحكوماتهم، وريّهم، كان الرجل في العصور الوسطى مولعاً أشد الولع بتزوير الوثائق، يزور الأناجيل غير الصحيحة، ولعله لم يقصد في يوم من الأيام أن تؤخذ على أنها أكثر من قصص طريفة، ويزور الأوامر البابوية ليتخذها سلاحاً في السياسة الدينية، وكان الرهبان الأوفياء يزورون العهود ليكسبوا بها منحاً لأديرتهم من الملوك(58). ولقد زور لافرانك رئيس أساقفة كانتربري، كما تقول المحكمة البابوية، عهداً يثبت به قدم كرسيه الديني(59)، وزور المدرسون عهوداً يخلعون بها بعض الكليات في كيمبردج أقدمية زائفة، وكثيراً ما أفسدت "الأكاذيب التقية" النصوص، واخترعت ألف معجزة تعظم بها أصحابها. وكانت الرشوة منشرة في التعليم، والتجارة، والحرب، والدين، والحكومة، والقانون(60) وكان تلاميذ المدارس يرسلون الفطائر لممتحنيهم(61)، ورجال الحكم يقدمون الرشا ليعينوا في المناصب العامة، ويجمعون من أصدقائهم ما يلزمهم من المال(62). وكان من المستطاع تقديم الرشا للشهود لكي يقسموا أي قسم يراد منهم، كما كان المتقاضون يقدمون الهدايا إلى المحلفين والقضاة(63)، وقد اضطر إدوارد ملك إنجلترا أن يفصل معظم قضاته ووزرائه في عام 1289 لأنهم مرتشون(64).



 صفحة رقم : 5783   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق العامة


وكانت القوانين تتطلب أن يقسم الناس الأيمان في كل صغيرة وكبيرة، فكانوا يقسمون على الكتب أو المخلفات المقدسة، وكان يطلب إليهم في بعض الأحيان أن يقسموا بألا ينقضوا القسم الذي يوشكون أن يقسموه(65)، ومع هذا فإن الحنث بالأيمان قد كثر إلى حد جعل الناس يلجئون إلى تحكيم القتال رجاء أن يظهر اللّه أي الجانبين أكثر كذباً من الجانب الأخر(66). وكثيراً ما كان أرباب الحرف في العصور الوسطى يخدعون المشترين ببيعهم بضائع قديمة بالية، أو منقوصة الطول، أو يحتالون عليهم ببيعهم سلعاً غير المرغوب فيها. وكان بعض الخبازين يسرقون أجزاء صغيرة من العجين أمام أعين ملاكهم، ويستخدمون لذلك الغرض باباً سرياً في وعاء العجين، وكانت أقمشة رخيصة توضع سراً في مكان أقمشة غالية دفع ثمنها وتعهد البائعون بتوريدها، وكان الجلد الرخيص "يزين" لكي يبدو شبيهاً بأحسن أنواع الجلود(67)، وكانت الحجارة تخبأ في أكياس الدريس والصوف التي تباع بالوزن(68)، واتهم الذين يعبئون اللحوم في نورتش Norwich بأنهم "يشترون الخنازير المصابة بالحصبة، ويصنعون منها وزما وفطائر مضرة بالصحة"(69). ويصف برنلد الرجنسيرجي Berthold of Regenesburg (حوالي 1220) مختلف أنواع الغش التي تستخدم في الحرف المتباينة، والحيل التي يحتال بها التجار في الأسواق على أهل الريف(70). وكان الكتاب والوعاظ ينددون بالجري وراء الثروة، لكن حكمة ألمانية من حكم العصور الوسطى تقول: "إن كل الأشياء تطيع المال"؛ وكان بعض الأخلاقيين في تلك العصور يرون أن حب الكسب أقوى من الغريزة الجنسية(71). ولسنا ننكر أن شرف الفروسية كثيراً ما كان من الحقائق الواقعة في نظام الإقطاع، ولكن يبدو أن القرن الثالث عشر لم يكن يقل ولعاً بالمادة عن أي عهد آخر من عهود التاريخ. تلك كلها أمثلة من الاحتيال والخداع جمعناها من أزمنة طويلة ومساحات واسعة؛ وهي بلا ريب من الوقائع



 صفحة رقم : 5784   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق العامة


الشاذة رغم كثرة عددها، وليس من حقنا أن نستخلص منها نتيجة أكثر من أن الناس في عصر الإيمان لم يكونوا خيراً منهم في عصرنا هذا عصر الشك، ومن أن القانون والأخلاق قلما أفلحا في الاحتفاظ بالنظام العام ضد ما ركب من نزعة فردية في طبيعة الناس الذين لم يقصد بهم بفطرتهم أن يكونوا مواطنين، خاضعين للقانون. وكانت معظم الدول تعاقب على جريمة السرقة الخطيرة بالإعدام، كما كانت الكنيسة تحكم على مرتكبي السطو بالحرمان من الدين، ومع هذا فإن السرقة بأنواعها - من النشل في الطرق إلى الأشراف النهابين على ضفاف الرين - كانت من الجرائم الواسعة الانتشار. وكان مرتزقة الجنود الجياع، والمجرمون الفارون والفرسان المفلسون، يجعلون الطرق غير آمنة، وكانت شوارع المدن تشهد في ظلام الليل كثيراً من الشجار، والسرقة، والاغتصاب، والاغتيال(72). وتدل سجلات أسباب الوفاة في "إنجلترا الطروب" في القرن الثالث عشر على "نسبة في الاغتيال إذا حدثت في هذه الأيام عدت من الفضائح"(73). ويكاد الاغتيال يبلغ ضعفي عدد حالات الموت بسبب الحوادث المفاجئة، وقلما كان يقبض على المجرمين. وكانت الكنيسة تجاهد وهي صابرة للقضاء على حروب الإقطاع، ولكن ما نالته من نصر متواضع في هذه الناحية كان سببه أنها حولت الناس وخصامهم إلى الحروب الصليبية، التي كانت من إحدى النواحي حروباً استعمارية تبغي الفتح والمكاسب التجارية، فلما اشتبك المسيحيون في الحرب لم يكونوا أكثر رضا بالهزائم أو أكثر وفاء بالعهود والمعاهدات من المحاربين المنتمين إلى الأديان والعهود الأخرى. ويبدو أن القسوة والوحشية كانتا في العصور الوسطى أكثر منهما في أية حضارة قبل حضارتنا نحن. ذلك أن المتبربرين لم يتخلوا عن بربريتهم بمجرد أن صاروا مسيحيين. وكان رجال الأشراف ونساؤهم يصفعون خدمهم ويصفع



 صفحة رقم : 5785   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق العامة


بعضهم بعضاً، كما كان القانون الجنائي قاسياً قسوة وحشية، ولكنه عجز مع ذلك عن قمع الوحشية والجريمة. فكثيراً ما كان التعذيب بالعذراء، وبجفنة الزيت الملتهب، وبعمود الإحراق، وحرق الأحياء، وسلخ جلودهم، وتمزيق أطرافهم بشدها إلى الحيوانات، كثيراً ما كانت هذه الوسائل الوحشية تستخدم في العقاب. وكان للقانون الأنجليسكوسوني يعاقب الجارية السارقة بإرغام ثمانين جارية على أن تؤدى كل واحدة منهن غرامة، وأن تأتي بثلاث حزم من الوقود وأن تحرق السارقة حية(75). ويقول سلمبيني Salimbene الراهب الإيطالي في تاريخه الإخباري، وكان معاصراً للحروب التي شبت نارها في إيطاليا الوسطى في القرن الثالث عشر، إن المسجونين كانوا يعاملون بوحشية لو أننا سمعنا بها في شبابنا لما صدقناها: فقد كانوا يربطون رؤوس بعض الرجال بحبل ومخلة، ويشدون الحبل بقوة تخرج عيونهم من أوقابها، وتسقطها على خدودهم، ومنهم من كانوا يربطونهم بإبهام يدهم اليمنى أو اليسرى وحدها، تحمل ثقلهم كله بعد أن يرفعوا عن الأرض، ومنهم من كانوا يعذبون بصنوف من العذاب أشنع من هذه وأشد منها رهبة أخجل من ذكرها، وآخرون... كانوا يجلسون وأيديهم مشدودة خلف ظهورهم، ويضعون تحت أقدامهم أوعية مملوءة بالفحم الملتهب... أو يربطون أيديهم بأرجلهم حول حفرة (كما يربط الحمل وهو ينقل إلى القصاب) ويبقونهم معلقين على هذا النحو طول النهار من غير طعام ولا شراب، أو كانوا يحكون قصبات أرجلهم بقطعة خشنة من الخشب حتى يظهر عظم الساق عارياً من اللحم؛ وهو عمل تكفي رؤيته وحدها لأن تبعث الأسى والألم في النفوس(76). وكان رجل العصور الوسطى يتحمل الألم بشجاعة، ولعله كان أقل إحساساً به مما يبدو على رجال أوربا الغربية في هذه الأيام. وكان الرجال والنساء من جميع الطبقات شهوانيين إلى حد بعيد، وكانت أعيادهم ولائم شراب، وميسر،



 صفحة رقم : 5786   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق العامة


ورقص، وانطلاق في العلاقات الجنسية؛ وكانت فكاهاتهم صريحة في بذاءتها صراحة لا تكاد تماثلها فيها فكاهات هذه الأيام(77)، وكانت أحاديثهم أكثر من أحاديث هذه الأيام حرية وأوسع منها مجالا(78)، وقلما كان رجل فرنسا يفتح فاه من غير أن يذكر الشيطان، على حد قول جواتفيل(79). وكان الناس في العصور الوسطى أقدر على سماع الفحش منا، ولم يكونوا يبرمون من الإصغاء إلى أفحش الأقوال التي وردت في مقالات رابليه Rabelais، وحسبنا أن نذكر أن الراهبات في كتب تشوسر كن يستمعن دون حياء إلى الأقذار الواردة في قصة ملر Millers، وفي أخبار سلمبيني الصالح أجزاء تبلغ من البذاءة والفحش درجة تعز على الترجمة(80) وكانت الحانات كثيرة العدد، وكان منها ما يقدم "فطائر" بالجعة على طراز هذه الأيام(81). ولقد حاولت الكنيسة أن تغلق الحانات في أيام الآحاد، ولكنها لم تلق إلا قدراً ضئيلا من النجاح. وكان من حق جميع الطبقات أن تسكر في بعض الأوقات، وقد وجد زائر لمدينة لوبك Lubeck نساءاً من طبقة الأشراف في حجرة الخمور يد من الشرب من تحت أقنعتهن(83). وكان في كولوني جمعية يلتقي أعضاؤها لشرب النبيذ مجتمعين وقد اتخذت شعاراً لها: "اشرب وأنت مرح" ولكنها كانت تفرض على أعضائها قواعد من الاعتدال في السلوك والآداب في الحديث. وكان رجل العصور الوسطى كغيره من الرجال مزيجا بشرياً كاملا من الشهوانية والغرام، والذلة، والأنانية، والقسوة، والرقة، والصلاح، والشره، فقد كان أولئك الرجال والنساء، الذين يشربون ويسبون بكل ما فيهم من قوة، رحماء رحمة تمس شغاف القلوب، يخرجون آلاف الصدقات. وكانت القطط والكلاب وقتئذ كما هي الآن حيوانات مدللة، وكانت الكلاب تدرب على قيادة المكفوفين(85)، وقد نمت في قلوب الفرسان عاطفة الحب لخيلهم، وصقور صيدهم، وكلابهم، وبلغ تنظيم الصدقات مستوى رفيعاً



 صفحة رقم : 5787   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق العامة


جديداً في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فكان الأفراد، وكانت النقابات الطائفية، والحكومات، والكنيسة تشترك كلها في تخفيف آلام المنكوبين. وكان خراج الصدقات واجبا عاما يؤديه الجميع، فالذين يرجون دخول الجنة يوصون بالأموال للصدقات، والرجال الأغنياء يتبرعون بمهور البنات الفقيرات، ويطعمون العشرات من الفقراء في كل يوم، والمئات منهم في الأعياد الكبرى، وكان الطعام يوزع عند كثير من أبواب بيوت الأشراف ثلاث مرات في الأسبوع على كل من يعطيه(86). وكانت كل سيدة عظيمة، إلا القليل النادر منهن، تحسن أن واجبها الاجتماعي، إن لم يكن واجبها الأخلاقي، أن تشترك في تدبير شئون الصدقات، ولقد دعا روجر بيكن في القرن الثالث عشر إلى أن تنشى الدولة رصيداً للإنفاق منه على الفقراء، والمرضى، والطاعنين في السن(87)، ولكن القسط الأكبر من هذا العمل ترك تدبيره إلى الكنيسة، فقد كانت الكنيسة من إحدى نواحيها منظمة للصدقات تشمل القارة بأسرها، وكان جريجوري الأكبر، وشارلمان، وغيرهم يحتمون أن يخصص ربع العشور التي تجنيها كل أبرشية لمعونة الفقراء والعجزة(88)، وقد نفذ هذا إلى حين، ولكن استيلاء الرؤساء من رجال الدين والعلمانيين على إيرادات الأبرشيات، أخل بإدارتها لمواردها في القرن الثاني عشر، وتحمل عب هذه الصدقات أكثر من ذي قبل الأساقفة، والرهبان، والراهبات والبابوات. وكانت الراهبات كلهن، إلا عددا قليلا من الخاطئات، يهبن أنفسهن للتعليم، والتمريض، وأعمال البر، وإن أعمالهن المطردة الاتساع في هذه النواحي لتعد من أنصع الأعمال وأعظمها تقوية للعزائم في تاريخ العصور الوسطى وتاريخ هذه الأيام. وكانت الأديرة التي تستمد مواردها من الهبات والصدقات، وإيراد الأملاك الكنيسة، تطعم الفقراء، وتعنى بالمرضى، وتفتدى الأسرى، وكان آلاف من الرهبان يعلمون الشبان، ويعنون بالأيتام، ويعملون في المستشفيات، وكان دير كلوني العظيم يكفر عما له من ثراء واسع بالتصديق بالكثير من أمواله،



 صفحة رقم : 5788   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق العامة


وكان البابوات يبذلون كل ما وسعهم لمساعدة فقراء روما، وواصلوا بطريقتهم الخاصة النظام الإمبراطوري القديم نظام توزيع الطعام على الأهلين. ولكن التسول كان كثيراً بالرغم من هذا البر كله، فقد كانت المستشفيات وبيوت الإحسان تحاول إطعام من يقصدها وإيواءهم، وسرعان ما أحاط أبوابها الُرج، والمقعدون، والمقطوعوا السيقان، والمكفوفون، والأفاقون ذوو الثياب البالية الذين يتنقلون من "مستشفى إلى مستشفى ويجوسون خلالها يتصيدون لقيمات الخبز وقطع اللحم"(89). وقد اتسع نطاق التسول في العالم المسيحي في العصور الوسطى وزاد المتسولون إصراراً على مهنتم، وبلغ هذا الاتساع والإصرار حداً لا نظير له في أفقر الأراضي في الشرق الأقصى.



 صفحة رقم : 5789   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> ملابس العصور الوسطى


الفصل السادس



ملابس العصور الوسطى


ترى أي صنف من الناس كان سكان أوربا في العصور الوسطى؟ ليس في وسعنا أن نقسمهم عناصر، فقد كانوا جميعاً من "العنصر الأبيض" إذا استثنينا منهم العبيد الزنوج، ولكنهم كانوا مع هذا خليطاً متنوعاً من الخلق لا يستطيع أحد تصنيفهم. وكان منهم يونان بيزنطة وهلاس، والإيطاليون أنصاف اليونان سكان إيطاليا الجنوبية، وسكان صقلية اليونان - المغاربة - اليهود، وكان منهم أهل إيطاليا الرومان، والأميريون، والتسكان، واللمبارد، والجنوبيون، والبنادقة، وقد بلغ من تباين هؤلاء أن كانت كل طائفة منهم تنم عن أصلها بثيابها، وشعر رأسها، ولسانها، وكان منهم البربر، والعرب، واليهود، ومسيحيوا أسبانيا، وكان منهم الفرنسيون الغسقونيون، والبرغنديون، والباريسيون، والنورمان، ومنهم أهل الأراضي الوطيئة الفلمنكيون، والوالون Walloons، والهولنديون، ومنهم أهل إنجلترا الكلت، والإنجليز، والسكسون، والدنمرقيون والسلالات النورمانية، وكلت ويلز، وأيرلندة، وإسكتلندة، والنرويجيون، والسويديون، ومنهم مئات القبائل الألمانية، والفلنديون، والمجر والبلغار، وصقالبة بولندة، وبوهيميا، والدول البطية، والبلقان، والروسيا. وقصارى القول أن أوربا قد تجتمع فيها خليط من الدماء والأجناس، والانوف، واللحى، والثياب، لا ينطبق على تباينه العظيم أي وصف من الأوصاف. وكان الجنس الألماني قد أصبحت له الغلبة في الطبقات العليا في جميع بلاد أوربا الغربية ما عدا جنوبي إيطاليا وأسبانيا، وذلك بسبب الهجرات والفتوح



 صفحة رقم : 5790   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> ملابس العصور الوسطى


التي لا يحصى عديدها. وقد بلغ الإعجاب بشعر الجنس الأشقر وعيونه مبلغاً اضطر القديس برنار أن يجاهد طوال موعظة كاملة يوفق بين هذا الإعجاب بشعر الجنس الأشقر وعيونه مبلغاً اضطر القديس برنار أن يجاهد طوال موعظة كاملة لكي يوفق بين هذا الإعجاب وبين العبارة الواردة في نشيد الإنشاد القائلة: إني أسود ولكن جميل، وكان الفارس المثالي طويلاً، أشقر، ملتحياً، كما كانت المرأة المثالية في الملاحم والروايات نحيلة ممشوقة القوام، رشيقة، زرقاء العينين، ذات شعر طويل أشقر أو ذهبي. وقد حل محل شعر الفرنجة الطويل عند الطبقات العليا في القرن التاسع رؤوس مقصوصة الشعر من الخلف، وليس عليها من الشعر إلا غطاء في اعلاها، واختفت اللحى بين الطبقات العليا من الأوربيين في القرن الثاني عشر، غير أن الذكور من الزراع ظلوا يطيلون لحاهم القذرة وشعر رأسهم إلى حد اضطروا معه أحياناً إلى جمعه في جدائل(90). وكان أهل إنجلترا على اختلاف طبقاتهم يطيلون شعر رأسهم، وكان المتأنقون الفناجرة في القرن الثالث عشر يصبغون شعرهم ويلوونه بمكاو من الحديد، ويربطونه بالأشرطة(91). وكانت النساء المتزوجات في هذا القرن وذاك البلد يربطن شعرهن بشبكة من الخيوط الذهبية، بينما كان الغلمان من الطبقات العليا يرسلونه على ظهورهم، وكانت لهم في بعض الأحيان بالإضافة إلى هذا، جديلتان تنوسان على صدروهم منحدرتان فوق أكتافهم (92). وكان أهل أوربا الغربية في العصور الوسطى أكثر جمالاً وأجمل ثياباً مما كانوا عليه قبل ذلك الوقت أو بعده، وكثيراً ما كان الرجال يفوقون النساء في زينة الثياب وبهجة ألوانها. وكانت الجبة والعباءة الرومانيتان الفضفاضتان في القرن الخامس عشر تحاربان حرباً خاسرة مع السراويل القصيرة والمناطق التي كان الغاليون يلبسونها ويتمنطقون بها، فقد كان جو الشمال البارد وأعماله الحربية يتطلبان ثياباً أضيق وأسمك مما أوحى به دفء الجنوب وما فيه من راحة، ولما انتقل مركز القوة إلى شمال جبال الألب أعقب ذلك الانتقال ثورة في الثياب. فكان الرجل العادي يلبس سروالاٌ طويلا ضيقاً يعلوه قباء، أو قميص نصفي، مصنوعان من



 صفحة رقم : 5791   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> ملابس العصور الوسطى


الجلد أو القماش المتين، ويعلق في منطقته سكيناً، وكيساً، ومفاتيح، وعدد الصانع إن كان من الصناع، وكان يرسل فوق كتفيه لفاعة أو حرملة، ويضع على رأسه قلنسوة أو قبعة من الصوف، او اللباد أو الجلد، ويغطي رجليه بجوربين طويلين، وينتعل حذائين عاليين من الجلد إلى أعلى أصابع القدمين، كيلا يتمزقا من الاصطدام. وازداد طول الجورب قرب أواخر العصور الوسطى حتى بلغ أعلى الفخذ، وتطور معه السروال غير المريح الذي استبدله الرجل الحديث بقميص الشعر ثوب القديسين في العصور الوسطى، كان هذا السروال كفارة غير منقطعة عن ذنوبه الماضية. وكانت أجزاء الثياب كلها تقريباً من الصوف إلا القليل منه المصنوع من الجلد المدبوغ وغير المدبوغ الذي كان يلبسه الفلاحون أو الصائدون، وكانت كلها تقريباً تغزل وتنسج وتفصل وتخاط في البيت، ولمن الأغنياء كان لهم خياطون خاصون يسمون في إنجلترا " المقصات "، واستغنى قبل القرن التاسع عشر عن الأزرار التي كانت تستعمل من حين إلى حين في العهد القديم، ثم عادت إلى الظهور لتكون زينة لا ينتفع بها في شيء، ومن هنا جاءت عبارة " لا يساوي زراً Not worth a botton الإنجليزية(93). ونشأت في ألمانيا في القرن الثاني عشر بين الرجال والنساء على حد السواء عادة لبس جلباب ذي حزام فوق الحلة الألمانية الضيقة. وكان الأغنياء يزينون هذه الأثواب الأساسية بمائة من الوسائل التي تفتق عنها خيالهم. فكانت حواشيها وأطرافها اللاصقة للعنق تسوى بالفراء، وحلل الحرير، أو الأطلس، أو المخمل محل التيل أو الصوف حيث يسمح بذلك الجو، وغطى الرأس بقلنسوة من المخمل، وانتعلت أحذية من القماش الملون تنطبق كل الانطباق على شكل القدمين. وكانت أجمل الفراء تستورد من الروسيا، وأحسنها كلها الفراء الثمينة المتخذة من جلد القاقم الأبيض، وكان يحدث أن يرهن الأشراف أرضهم ليبتاعوا جلد قاقم لزوجاتهم. وكان الأغنياء يلبسون سراويل



 صفحة رقم : 5792   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> ملابس العصور الوسطى


تحتية من التيل الأبيض الرفيع، وجورباً طويلاً ملوناً في اغلب الأحيان، ومصنوعاً عادة من الصوف، وفي بعض الأحيان من الحرير، وقميصاً من التيل الأبيض، ذا ذوق فاخر وردن جميل، وكان يلبس فوق هذا كله مئزراً، ومن فوقها كلها في الجو البارد أو المطير عباءة، أو حرملة، يمكن أن تمد حتى تغطي الرأس. وكانت بعض القلانس ذات قمة مستوية مربعة، وقد اصطنع هذه القلانس المعروفة باسم " ألواح الملاط mortiers" المحامون والأطباء في أواخر العصور الوسطى، وبقيت الآن في أثواب كبار رجال الكليات الجامعية. وكان المتأنقون في الثياب يلبسون قفازين في كل الأجواء و "يكنسون الأرض التربة بأذيال مآزرهم وجلابيبهم الطويلة " كما يقول الراهب أردركس Ardericuse Vitalis شاكياً متحسراً (94). ولم يكن الرجال يزينون بالحلي أجسامهم وحدها، بل كانوا يزينون بها أيضاً ثيابهم - قلانسهم، ومآزرهم ، وأحذيتهم. وكانت بعض الأردية تطرز عليها باللؤلؤ نصوص مقدسة أو عبارات بذيئة(95)، وأخرى تزين أطرافها بمخرمات منسوجة من خيوط الذهب أو الفضة، ومنهم من كان يلبس ثياباً من خيوط الذهب. وكان على الملوك أن يميزوا أنفسهم بزينة أكثر من هذه كلها، فكان إدوارد المعترف يلبس مئزراً مزكرشاً بالذهب من صنع زوجته المهذبة إدجيثا Edgitha، وكان شارل الجسور Chatles the Bold صاحب برغندية يلبس مئزراً فخماً مطعماً بالحجارة الكريمة ومثقلا بها يقدر ثمنه بمائتي ألف دوقة (نحو 000و280و1 دولار). وكان للناس كلهم عدا الفقراء منهم يختتمون، وكان لكل إنسان ذي شأن ولو ضئيل خاتم منقوش عليه رمزه الخاص، وكانت أية علامة بهذا الخاتم تقبل على أنها توقيعه هو نفسه. وكانت الملابس تعد دليلاً على منزلة الإنسان أو ثرائه، وكانت كل طبقة تحتج إذا قلدت أثوابها الطبقة التي دونها، وقد سنت القوانين المالية - كما حدث



 صفحة رقم : 5793   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> ملابس العصور الوسطى


في فرنسا سنتي 1149و1306 - لتنظم ما ينفقه الناس على ملابسهم حسب ثرواتهم وطبقاتهم. وكانت حاشية السيد العظيم، أو جماعة الفرسان التابعين له، تلبس في المناسبات والأعمال الرسمية أثواباً يهديها هو إلى أفرادها مصبوغة باللون المحبب له أو الذي يميزه عن غيره، وكانت هذه الحلل الخاصة تسمى بالفرنسية Iivéé (وبالإنجليزية Iivery) ومعناها الموزعة لأن السيد كان يوزعها (deliver) مرتين في العام. على أن الأثواب الجيدة في العصور الوسطى كانت تعمل لتبقى مدى الحياة، ومنها ما كان يعني أصحابه بالنص إلى من تؤول إليه في وصيته. وكانت نساء الطبقات العليا يلبسن قميصاً طويلاً من التيل، ومن فوقه جلباب أو مئزر ذو حواش من الفراء يصل إلى حد القدمين ويعلوه قميص نصفي يبقى منفرج الطرفين إذا لم يكن في الدار غرباء، ولكنه يربط طرفاه إذا جاء البيت زوار، وذلك لأن جميع النساء المتأنقات يتقن إلى أن يظهرن نحيلات القوام، وقد يتمنطقن بمناطق مرصعة بالجواهر، ويمسكن بكيس من الحرير، ويلبسن بأيديهن قفازاً من جلد الشموا. وكثيراً ما كن يضعن الأزهار في شعرهن، أو يخطنه بخيوط من الحرير ذات الجواهر. وكانت بعض السيدات يثرن غضب رجال الدين، وغضب أزواجهن بلا ريب، بأن يلبسن قبعات طويلة مخروطية مزدانة بقرنين، وقد جاء على النساء حين من الدهر كانت فيه المرأة غير ذات القرنين هدفاً لسخرية الساخرين(96). وأصبحت الكعاب العالية في أواخر العصور الوسطى هي الطراز المحبب، وكان الناقدون الأخلاقيون يشكون من أن النساء كثيراً ما يرفعن أطراف أثوابهن بوصة أو بوصتين ليظهرن أرساغهن وأحذيتهن الظريفة، أما سيقان النساء فلم يكن يبصرها إلا الأخصاء، وكانت رؤيتها غالية الثمن. وقد ندد دانتي بنساء فلورنس لظهورهن علناً في ثياب "تكشف عن صدورهن وأثدائهن"(97). وكانت ثياب النساء في حفلات



 صفحة رقم : 5794   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> ملابس العصور الوسطى


البرجاس موضعاً للتعليقات المثيرة من رجال الدين، وقد وضع الكرادلة قوانين يحددون بها طول أثواب النساء، ولما أمر رجال الدين أن تلبس النساء النقاب حرصاً على أخلاقهن "جعلن هذا النقاب يصنع من الموصلين الرقيق والحرير المشغول بالذهب، فظهرن فيه أجمل عشرات المرات مما كن بغيره وأتلفتن عيون النظارة وأغرينهم بالفساد أكثر من ذي قبل"(98). وكان جوي البروفنسي Guyot of Provins يشكو من أن النساء يستخدمن المساحيق على وجوههن بكثرة لم يبق معها من هذه المساحيق شيء تلون به الصور والتماثيل في الكنائس، وأنذرهن بقوله إنهن حين يلبسن الشعر المستعار أو يضعن الكمادات أو مسحوق الفول لأبن الخيل على وجوههن لتجميلها، إنما يضفن بذلك مئات السنين لمقامهن في الأعراف(99). وقد عنف برثلد الرجنسبرجي Berthold of Regenesburg حوالي 1220 النساء بفصاحة ما كان أضيعها: أيتها النساء، إنكن ذوات حنان عظيم، وإنكن لأسرع في الذهاب إلى الكنيسة من الرجال... ومنكن من سينجون لولا شرك واحد تقعن فيه... ذلك أنكن تردن أن تنلن إعجاب الرجال فتصرفن جهودكن كلها في زينة ثيابكن... والكثيرات منكن يؤدين للخياطة أجراً لا يقل عن ثمن الثوب نفسه، فالثوب يجب أن يكون له وقايتان على الكتفين، ويجب أن يثنى وتكون له أهداب حول أطرافه كلها، وأنتن لا تكتفين بإظهار فخركن في عُرَى أزراركن نفسها، بل إنكن فوق هذا ترسلن أقدامكن إلى الجحيم بما تحملنها من أنواع العذاب الخاصة بها... وأنتن تشغلن أنفسكن ببراقعكن! وتحولنها تارة إلى هذه الناحية وتارة أخرى إلى تلك، وتطرزنها مختلفة بخيوط الذهب، وتصرفن فيها كل جهودكن، فتقضي إحداكن ستة أشهر كاملة في صنع نقاب واحد، وهو عمل آثم لا تبتغي به أكثر من أن يثني الرجال على ثيابها فيقولون: "رباه! ما أجمله! هل وجد من قبل ثوب يضارعه في الجمال؟". أما هن



 صفحة رقم : 5795   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> ملابس العصور الوسطى


فيقلن: "أيها الأخ برثلد، إنا لا نفعل هذا إلا إكراماً للرجل الصالح، حتى تقل نظراته إلى غيرنا من النساء". لا، يا سيدتي، صدقيني، لو أن رجلك الصالح صالح بحق، لفضل أن يستمع إلى حديثك الطاهر عن النظر إلى زينتك الخارجية... إن في وسعكم أيها الرجال أن تقضوا على هذا، وتكافحوه بقوة، بالقول الحسن أولا، فإذا أصررن على عنادهن، فأقدموا بشجاعة... وانتزعوه من فوق رؤوسهن، ولو اقتلعت معه أربع شعرات أو عشر، وألقوه في النار ولا تفعلوا هذا مرتين أو أربع مرات فحسب، وسترون أنهن سرعان ما يرجعن عن غيهن(100). وكانت النساء في بعض الأحيان يتأثرن بهذا الوعظ، وحدث قبل أيام سفنرولا Savonarola بمائتي عام أن ألقين ببراقهن وحليهن في النار(101). ولكن أمثال هذه التوبة كانت لحسن الحظ نادرة وقصيرة الأجل.



 صفحة رقم : 5796   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


الفصُل السّابع



في المنزل


لم يكن منزل العصور الوسطى مريحاً كثيراً، فقد كانت نوافذه قليلة، وقلما كان بها ألواح زجاجية، وكانت، المصاريع الخشبية تغلفها لتمنع البرد ووهج الشمس وكان موقد يدفئ المنزل أو أكثر من موقد، وكانت التيارات الهوائية تدخله من مئات الثقوب التي في الجدران، وتجعل المقاعد ذات الظهور العالية نعمة كبرى. وكان من عادة سكانها أن يلبسوا في الشتاء قبعات وفراء مدفئة في داخل المنزل نفسه. وكان الأثاث قليلاً ولكنه جيد الصنع، والكراسي أيضاً قليلة، وكانت في العادة غير ذات ظهور، ولكنها كانت في بعض الأحيان محفورة حفراً جميلاً، ومنقوشاً عليها شارات أصحابها المميزة، ومطعمة بالحجارة الكريمة. وكانت معظم المقاعد تحفر في أبنية الجدران أو تبنى فوق صناديق في مظلات البساتين. وكانت الطنافس نادرة الاستعمال قبل القرن الثالث عشر، ولكن إيطاليا وأسبانيا كانتا تستعملانها، ولما إنتقلت إليانور القشتالية إلى إنجلترا في عام 1254 للزواج من أدوارد الأول غطى خدمها أرض جناحها في وستمنستر بطنافس كما يفعل أهل أسبانيا ومن ثم انتشرت هذه العادة في إنجلترا. أما أرض البيوت العادية فكانت تنثر عليها الأعشاب أو القش، فكانت بعض البيوت لهذا السبب كريهة الرائحة إلى حد يأبى معه قس الأبرشية أن يزورها. وكانت أنسجة مزركشة تغطى بعض الجدران، لتزينها وتمنع عنها تيارات الهواء، ولتقسم بهو المنزل الكبير إلى حجرات صغيرة. وظلت بيوت إيطاليا وبروفانس تحتفظ بذكريات الترف الروماني، فكانت لذلك أوفر راحة وأكثر مراعاة



 صفحة رقم : 5797   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


لشروط الصحة من بيوت شمال أوربا. وكانت بيوت الطبقات الوسطى في ألمانيا تحصل على ما يلزمها من الماء من مضخات مركبة على آبار توصل الماء إلى المطبخ(102). ولم تكن النظافة في العصور الوسطى من الإيمان، وكانت المسيحية الأولى قد نددت بالحمامات وقالت إنها بؤر للفساد والفسق، وكان تحقيرها للجسم بوجه عام مما جعلها تهمل العناية بقواعد الصحة. ولم يكن استعمال المنديل على الطريقة الحديثة معروفاً في ذلك الوقت(103)، وكانت النظافة تتبع الثروة وتختلف باختلاف دخل الأفراد، فكان السيد الإقطاعي، ورجل الطبقة الوسطى المثري، يستحمان مرات معقولة في أحواض خشبية كبيرة، ولما انتشر الثراء في القرن الثاني عشر انتشرت معه نظافة الجسم، كانت مدن كثيرة في ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا في القرن الثالث عشر تحتوي حمامات، ويقول أحد الكتاب إن أهل باريس كانوا يستحمون في عام 1292 أكثر مما يستحمون في القرن العشرين(104)، وكان من نتائج الحروب الصليبية إدخال حمامات البخار العامة من بلاد الإسلام إلى أوربا(105). وكانت الكنيسة تعارض وجود الحمامات العامة بحجة أنها تفسد الأخلاق، وكان لهذه المخاوف ما يبررها في كثير من تلك الحمامات، وكان في بعض البلدان حمامات معدنية عامة. وكان بالأديرة، وقصور سادة الإقطاع، وبيوت الأغنياء مراحيض تفرغ محتوياتها في بالوعات، ولكن معظم سكان البيوت كانوا يقضون حاجتهم في مراحيض خارج البيت، وكان المرحاض الخارجي الواحد في كثير من الحالات يفي بحاجة أثنى عشر منزلا(106). وكانت الأنابيب التي تنقل الفضلات من ضروب الإصلاح التي دخلت إلى إنجلترا في عهد إدوارد الأول (1271-1307) وكانت أوعية حجرات النوم في بيوت باريس في القرن الثالث عشر تفرغ من النوافذ في شوارع المدينة، ولا يصحب هذا العمل إلا تحذير للمارة:



 صفحة رقم : 5798   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


إحذروا الماء! Carieau وظلت هذه الحوادث المفاجئة السيئة يتكرر ذكرها في المسالي إلى أيام موليير. وكانت المراحيض العامة ترفاً نادر الوجود، وقد وجد في سان جمينانو San Gimignano عام 1255، ولكن فلورنس لم يكن فيها وقتئذ شيء منها(107)، فكان الناس يقضون حاجتهم في فناء المنزل، وعلى درج السلم، وفي الشرفات، وكان ذلك يحدث في قصر اللوفر نفسه. وقد صدر مرسوم بعد وباء 1531 يحتم على أصحاب البيوت في باريس أن ينشئوا مرحاضاً في كل بيت، ولكن هذا الأمر كثيراً ما يخالف(108). وكان أفراد الطبقات العليا والوسطى يغسلون أيديهم قبل الطعام وبعده، لأنهم كانوا يتناولون معظم الطعام بأصابعهم، ولم تكن هناك إلا وجبتان منتظمتان في اليوم، إحداهما في الساعة العاشرة، صباحا، والأخرى في الرابعة مساء، غير أن كلتا الوجبتين قد تدوم عدة ساعات. وكان موعد الوجبة في البيوت الكبيرة يعلن بالنفخ في بوق الصيد. وقد تكون مائدة الطعام ألواحاً خشنة تقام على قوائم من الخشب، وقد تكون أحيانا خوانا عظيما متين من الخشب الثمين المحفور حفراً يدعو إلى الإعجاب، وكان من حولها مقاعد أو دكك، والدكة تسمى بالفرنسية banc ومنها اشتق لفظ banquet للوليمة. وكانت في بعض البيوت الفرنسية آلات عجيبة ترفع مائدة كاملة الإعداد من طبقة سفلى أو تنزلها من طبقة عليا، ثم تزيلها من فورها حين يفرغ الجالسون من تناول الطعام(109)، وكان الخدم يحملون أباريق الماء لكل طاعم يغسل فيها يديه ويجففهما في قطائل يأخذها أولئك الخدم، ولم تكن هذه القطائل تستخدم في القرن الثالث عشر، ولكن الطاعمين كانوا يجففون أيديهم في غطاء المائدة(110). وكان الطاعمون يجلسون أزواجا، كل زوج مكون من رجل وامرأة، وكان كل اثنين يأكلان عادة من صحفة واحدة، ويشربان من كوب واحد(111). وكان كل فرد يعطي ملعقة، وكانت الشوك معروفة في القرن الثالث عشر، ولكنها قلما كانت تقدم



 صفحة رقم : 5799   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


للطاعمين، وكان الآكل يستخدم سكينه الخاصة. وكانت الأكواب، وأطباقها والصحاف تصنع عادة من الخشب(112)، ولكن سادة الإقطاع والأغنياء من الطبقة الوسطى كانت لهم صحاف من الخزف أو من مزيج القصدير والرصاص ومنهم من كان يضع على المائدة أدوات من الفضة، بل إنها كانت تتخللها آنية من الذهب في بعض الأحيان(113). وقد تضاف إلى هذه الآنية صحاف من الزجاج، وصحفة أخرى كبيرة من الفضة في صورة سفينة، تحتوي أنواعا من التوابل، وسكين صاحب الدار وملعقته. وكان كل اثنين من الآكلين يعطيان قطعة كبيرة من الخبز، مستوية، ومستديرة، وسميكة، يضع عليها كل واحد اللحم والخبز يأخذهما بأصابعه من الصحفة العامة التي يدار بها عليه. وكان الطاعم يأكل هذه القطعة بعد نهاية الطعام أو تعطى إلى الكلاب والقطط التي يغص بها المكان، أو ترسل إلى الفقراء من الجيران. وكانت الوجبة العظيمة تختم بالتوابل والحلوى، ثم النبيذ. وكان الطعام موفوراً، أو متنوعاً، وحسن الإعداد، ألا أن انعدام وسائل التبريد سرعان ما كان يفسد اللحم، ويملى من شأن التوابل التي يستطاع بها حفظه أو إخفاء تلفه. وكانت بعض هذه التوابل تستورد من بلاد الشرق ولكن غلو ثمنها كان يجعل الناس يزرعون غيرها في حدائق البيوت - ومن هذه البقدونس، والخردل، والقصعين، واليانسون، والثوم، والشبت... وكانت كتب الطهو كثيرة ومعقدة، وكان الطاهي في المنزل العظيم رجلا عظيم الشأن يحمل على كتفيه كرامة البيت وسمعته، وكانت لديه طائفة كبيرة من الأوعية النحاسية، وآنية الغلي، والقدور، وكان يفخر بما يقدمه من الأصناف التي تسر العين وتلذ الفم. وكان اللحم، والدجاج، والبيض رخيصا(114)، وإن كان ثمنها مع ذلك يضطر الفقراء إلى الاقتصاد على الحضر وهم كارهون(115). وكان الفلاحون يطعمون الخبز الأسمر الخشن المصنوع من دقيق الشعير، والشوفان،



 صفحة رقم : 5800   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


أو الشيلم كاملا، يخبز في البيت، أما سكان المدن فكانوا يفضلون الخبز الأبيض -يصنعه الخبازون- يظهرون بذلك علوهم عن أهل الريف. ولم تكن هناك بطاطس، أو بن، أو شاي، ولكن اللحوم والخضر التي تؤكل الآن في أوربا - ومنها ثعابين الماء، والضفادع، وحيوانات القواقع أن يحل عهد شارلمان كان الأوربيون قد أتموا، أو كادوا يتمون، أقلمة الفواكه وأنواع النقل الأسيوية، غير أن البرتقال كان لا يزال نادراً في القرن الثالث عشر في شمال جبال اللب والبرانس. وكان أكثر اللحوم انتشاراً هو لحم الخنزير، فقد كانت الخنازير تقتات بالفضلات التي تلقى في الشوارع، ثم يأكل الناس الخنازير. وكان من الاعتقادات الشائعة أن لحم الخنزير يسبب الإصابة بالجذام، ولكن هذا الاعتقاد لم يقلل من رغبة الناس فيه، وكان الوزم والفصيد من الأطعمة المحببة في العصور الوسطى، وكان المضيف من العظماء يضع على المائدة في بعض الأحيان خنزيراً كاملا، ويقطعه أمام ضيوفه، وكان هذا يعد من الأطعمة الشهية التي لا تقل في ذلك عن لحوم الحجل، والسمان، والدج، والطاووس، والكركي.وكان السمك من الأطعمة الأساسية، والرنكة من الأطعمة التي يعمد إليها الجنود، والحارة، والفقراء، أما منتجات الألبان فكان استعمالها أقل منه في هذه الأيام، ولكن جبُن بري Brie اشتهر منذ ذلك الوقت البعيد(117). ولم تكن أنواع السلطة قد عرفت، وكانت الحلوى نادرة. وكان السكر لا يزال يستورد من الخارج، ولم يكن قد حل بعد محل عسل النحل في التحلية؛ وكانت الحلوى بعد الطعام هي الفاكهة والنقل، وكانت الفطائر لا حصر لها لأنواعها، يشكلها الخبازون هي والكعك بألطف ما يتصوره الخيال من أشكال ولا يلومهم على هذا أحد رجلا كان أو امرأة(118). وقد يبدو من الأمور الغريبة التي



 صفحة رقم : 5801   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


لا يصدقها العقل أنهم لم يكونوا يدخنون بعد الطعام، وكان الرجال والنساء يستبدلون بهذا شرب الخمر. وإذ كان الماء غير المغلي مما لا تؤمن عاقبته فقد كانت جميع الطبقات تجد في الجعة والنبيذ بديلا منه، ولهذا كان من الأسماء النادرة اسما Drinkwater Boileu, "اشرب الماء" وفي هذا دليل على عدم الميل إلى شربه. وكان من أنواع الخمور خمر التفاح والكمثرى، وكانا من المسكرات الرخيصة التي يتناولها الفلاحون. وكان السكر من الرذائل المحببة للرجال والنساء في العصور الوسطى، وكانت الحانات يخطئها الحصر، والجعة رخيصة الثمن، فكانت هي شراب الفقراء المعتاد يتناولونه في جميع الأوقات حتى في الفطور. وكان يسمح للأديرة والمستشفيات القائمة شمال جبال الألب بجالون من الجعة لكل شخص في اليوم(119). وكان لكثير من الأديرة، والقصور، وبيوت الأغنياء، معاصرها الخاصة، لأن الجعة في البلاد الشمالية كانت من ضرورات الحياة لا تزيد عليها في ذلك إلا الخبز. وكان الأغنياء في كل الأمم، وجميع الطبقات في أوربا اللاتينية، يفضلون عليها النبيذ، وكانت فرنسا تعصر أشهر أنواعه، وتتغنى بمديحه في مئات الأغاني الشعبية. وكان الفلاحون في وقت قطف الكروم يعملون أكثر مما يعملون في سائر أيام العام، وكان رؤساء الأديرة الصالحون يجزونهم على جدهم بإجازة من القواعد الأخلاقية، وتحتوى اغنية كان يتغنى بها نزلاء دير القديس بطرس في الغابة السوداء بعض عبارات رقيقة: فإذا وضع الفلاحون العنب، جئ بهم إلى الدير وقدم لهم اللحم والشراب بكثرة، ووضعت هناك خابية كبيرة، ملئت بالنبيذ... ليشر منها كل واحد منهم... فإذا لعب الشراب برؤوسهم وضربوا الخازن أو الطاهي، لم يؤدوا غرامة من أجل هذا العمل، وظلوا يشربون حتى لا يستطيع كل اثنين منهم أن يحملا الثالث إلى العربة(120).



 صفحة رقم : 5802   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


وكان رب البيت عادة يسلي المدعوين بعد الوليمة بضروب من الشعوذة، والشقلبة، والغناء، والتهريج. وكان لبعض سادة الإقطاع طائفة خاصة بهم من هؤلاء المسلين وكان لبعض الأغنياء مازحون في وسعهم أن يوجهوا وقاحتهم المرحة وفكاهاتهم البذيئة دون أن يخشوا عقاباً أو تأنيباً. وإذا أراد المدعوون أن يقوموا هم بتسلية أنفسهم كان في وسعهم أن يرووا القصص، أو يستمعوا إلى الموسيقى أو يعزفونها، أو يرقصوا، أو يتغازلوا، أو يلعبوا النرد والشطرنج، والألعاب الداخلية الأخرى، وحتى الأشراف أصحاب الألقاب من الرجال والنساء كانوا يتراهنون ويلعبون الغميضاء. ولم تكن ألعاب الورق قد عرفت بعد، وقد حرمت القوانين الفرنسية الصادرة في عام 1256 و 1291 صنع النرد أو لعبه، ولكن لعب الميسر بالنرد كان واسع الانتشار رغم هذا التحريم، وكان رجال الأخلاق يتحدثون عن ثروات فقدت ونفوس ضلت نتيجة للعب الميسر. ولم يكن هذا اللعب محرماً على الدوام بمقتضى القانون، وكانت سيينا Saiena تهيئ له أمكنة في الميدان العام(121)، وقد حرم بأمر من مجلس عقد في باريس (1213) وبمرسوم أصدره لويس التاسع (1254)، ولكن أحداً لم يهتم بهذا التحريم: وأضحت هذه اللعبة من ضروب التسلية التي ينهمك فيها الأشراف ويقضون فيها أوقاتاً طويلا، وهي التي اشتق منها اسم خازن بيت مال الملك exchequer من المنضدة أو لوحة الشطرنج المختلفة الألوان Chequered table أو Chessboard التي كان إيراد الدولة يعد عليها(122). وقد ذهل أهل فلورنس في أيام دانتي من لاعب مسلم كان يلعب على ثلاث لوحات مختلفة في وقت واحد مع أمهر لاعبي المدينة، فقد كان ينظر بعينيه إلى إحدى اللوحات، ويحتفظ بوضع اللوحتين الأخريين في عقله، وقد كسب لعبتين وتعادل مع اللاعب الثالث(123). وكانت لعبة الداما معروفة في فرنسا وإنجلترا، وتسمى في الأولى dames وفي الثانية draughts.



 صفحة رقم : 5803   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


وكان الواعظون من رجال الدين يحرمون الرقص، ولكن الناس كلهم تقريباً يمارسونه إلا من وهبوا أنفسهم للدين. وكان تومس أكويناس ذو النزعة المعتدلة يبيح الرقص في حفلات العرس، أو في الاحتفال بقدوم صديق من خارج البلاد أو بنصر قومي، وقد بلغ من أمر هذا القديس الطيب القلب أن قال: إن الرقص إذا كنت في حدود الأدب رياضة بدنية مفيدة للصحة(124)، وأظهر ألبرتس مجنس مثل هذا التسامح، ولكن رجال الأخلاق في العصور الوسطى كانوا يعترضون على الرقص ويعدونه من اختراع الشيطان(125)، ولم تكن الكنيسة ترضى عنه، لأنها تراه مغرياً بالفساد(126)، ولقد بذل شباب العصور الوسطى الجرئ كل ما في وسعه لتبرير مخاوفها (127). وكان الفرنسيون وألمان بنوع خاص مولعين بالرقص، وابتدعوا كثيراً من ضروبه الشعبية، يمارسونها في مواسم السنة الزراعية، أو الاحتفال بالنصر، أو لتقوية روح الشعب المعنوية إذا ألمت به كارثة أو انتشر بينه وباء. ويصف أحد الكتاب أن رقص البنات في الحقول بقوله: إنه أبهج ملذات الربيع، وإذا ما احتفل بمنح لقب فارس لأحد الشبان اجتمع كل الفرسان المجاورون له بعدتهم الحربية كاملة، وقاموا بضروب من الألعاب على ظهور الخيل أو راجلين، والعامة من حولهم يرقصون على نغمات الموسيقى العسكرية. وكان الناس أحياناً يسرفون في الرقص حتى يصبح وباءاً: فقد حدث في عام 1237 أن فرقة من الأطفال الألمان ظلت ترقص على طول الطريق من إرفورت Erfurt إلى أرنسادت Arnsadt، حتى مات كثيرون منهم في الطريق، وظل بعض من نجا منهم ويعانون من مرض الرقاص St Yttus' Dance أو غيره من الاضطرابات العصبية الأخرى طول حياتهم(128). وكان معظم الرقص يدور أثناء النهار وفي الهواء الطلق، ذلك بأن بيوت لم تكن جيدة الإضاءة بالليل - فقد كانت تنار بمصابيح مرتكزة أو معلقة ذات



 صفحة رقم : 5804   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> في المنزل


فتائل وبها زيت، أو بمشعل من شحم الضأن، وإذ كان الشحم والزيت كلاهما غاليا فقد كان العمل والقراءة قليلين بعد غروب الشمس. ولهذا كان الضيوف يتفرقون بعد الظلام بزمن قليل، ويأوي أصحاب البيت إلى حجراتهم الخاصة. وقلما كانت حجرة النوم كافية، وكان يحدث أحياناً أن يجد الإنسان فراش نوم إضافي في بهو المسكن أو في حجرة الاستقبال. وكان الفقراء ينامون مستريحين على فراش من القش، والأغنياء ينامون متعبين على وسائد معطرة، وحشيات من الريش. وكانت فرش العظماء تغطى بكلة تقيهم البعوض ويستعان على تعليقها بكراسي. ولم تكن ثمة ما يمنع نوم عدد من الأفراد ذكورا كانوا أو إناثاً صغاراً أو كباراً في حجرة واحدة. وكان الناس مع جميع الطبقات في إنجلترا أو فرنسا ينامون عشرة(129).



 صفحة رقم : 5805   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


الفصل الثامن



المجتمع والألعاب


لقد كانت الغلطة التي تتصف بها آداب العصور الوسطى بوجه عام يخففها بعض ما في التأديب والمجلات الإقطاعية من ظرف. فقد كان الرجال إذا التقوا يسلم بعضهم على بعض باليد، كأن هذا عهد منهم بالمسالمة وعدم الاستعداد لاستلام السيف. وكان ألقاب الشرف لا حصر لها وكانت متفاوتة المنزلة تبلغ المائة عدا، وكان من العادات الظريفة أن يخاطب كل كبير بلقبه واسمه الأول أو اسم ضيعته. وقد سن قانون للآداب يتبعه أفراد المجتمع الراقي في الظروف المختلفة- في البيت، وفي أثناء الرقص، وفي الشوارع، وفي ألعاب البرجاس، وفي بلاط الملك، وكان على السيدات أن يتعلمن كيف يمشين، ويحيين، ويركبن الخيل، ويلعبن، ويحملن الصقور برشاقة على معاصمهن...، وكانت هذه الآداب كلها وأخرى مثلها للرجال تؤلف ما يعرف باسم آداب البلاط Courtoisie. وقد نشرت القرن الثالث عشر إرشادات كثيرة الآداب اللياقة(130). وكان المسافر ينتظر المجاملات والضيافة من أبناء طبقته. فكان المسافرون يستضافون أثناء سفرهم في أديرة الرجال إن كانوا ذكوراً والمسافرات يستضفن في أديرة النساء، على سبيل الصدقة إن كانوا فقراء أو نظير أجور أو هبات إن كانوا أغنياء. وقد أنشأ الرهبان منذ القرن الثامن مضايف عند ممرات جبال الألب، وكان لبعض الأديرة بيوت كبرى للضيوف تتسع لثلاثمائة من المسافرين وبها إسطبلات لخيولهم(131). على أن معظم المسافرين كانوا ينزلون في "نزل" أنشئت على الطريق، وكانت رخيصة الأجور، وفي استطاعته الرجل أن يجد فيها مومساً بأجر



 صفحة رقم : 5806   




قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


معتدل إذا حافظ على كيس نقوده من السرقة، وكان الكثيرون يتحدون أخطار السفر - لما يجدونه في الطريق من أسباب الراحة السالفة الذكر - ومن هؤلاء التجار، وأصحاب المصارف، والقساوسة، والدبلوماسيون، والحجاج، وطلاب العلم، والرهبان، والسائحون، والأفاقون. وكانت طرق العصور الوسطى، على ما فيها من متاعب وأخطار غير مشجعة على الأسفار، غاصة بالكثيرين من الناس ذوى التشوق والآمال الذين يظنون أنهم سيكون أسعد حالا إذا بدلوا أماكنهم. وكانت الفروق بين الطبقات شديدة في الأسفار كما هي في التسلية والألعاب. ولكن الخاصة والسوقة كانوا يختلطون من حين إلى حين: إذا عقد الملك جمعية عامة من أتباعه الإقطاعيين، ووزع الطعام على المجتمعين، وإذا قام الفرسان الأشراف بحركات عسكرية، وإذا دخل أمير أو أميرة، أو ملك أو ملكة إحدى المدن كامل العدة في موكب فخم واصطف الناس على جانبي الطريق العام ليمتعوا أنظارهم بموكبه، وإذا أقيم برجاس أو عقدت محاكمة بالاقتتال وسمح للجمهور بحضورهما. وكانت المشاهد المنظمة جزءاً أساسياً من الحياة في العصور الوسطى، فقد كانت المواكب الدينية، والاستعراضات العسكرية، والاحتفالات التي تقيمها نقابات الحرف؛ تملأ الشوارع بالأعلام، والمشاعل، وصور القديسين من الشمع، والتجار السمان، والفرسان المتبخترين، والفرق الموسيقية العسكرية، وكان الماجنون المتنقلون يمثلون مسرحيات قصيرة في القرية أو ميدان المدينة، والمغنون الجائلون يغنون ويلعبون، ويقصون قصص الغرام، والمشعوذون والقفازون يعرضون ألعابهم، والرجال والنساء يمشون أو يرقصون على حبال مشدودة فوق هاويات سحيقة خطرة، وكنت ترى أحياناً رجلين معصوبي العيون يمارس كلاهما بعض الحيل على زميله، أو كان يؤتى بطائفة من الوحوش إلى البلدة حيث تعرض حيوانات غريبة ورجال عجيبون، وحيث يقتتل حيوان مع حيوان حتى يقتل أحدهما.



 صفحة رقم : 5807   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


وكان الصيد رياضة ملكية يعمد إليها الأشراف ولا تقل شاناً عندهم عن المثاقفة. وكانت قوانين الصيد تحدد مواسمه بفترات قليلة من العام، وكانت للأشراف أملاك يصيدون فيها ويُعَد الاعتداء عليها سرقة بحكم القانون. وكانت غابات أوربا لا تزال مسكناً لوحوش لم تعترف بعد بفوز الإنسان في حربه من أجل الاستيلاء على الكواكب الذي تعيش فيه؛ وحسبنا أن نذكر أن مدينة باريس مثلا قد هاجمتها الذئاب عدة مرات في العصور الوسطى. وكان الصائد من ناحية ما يعمل للاحتفاظ بسيادة الآدمي المزعزعة على هذه الأرض، كما كان يعمل من ناحية أخرى لزيادة موارد الطعام، ولم يكن أقل من هذين العملين شأناً أنه كان يعد نفسه للحرب التي لا مفر منها بتقوية جسمه وروحه وتعويدهما ملاقاة الأخطار، والقتال، وسفك الدماء. وكان في الوقت عينه يجعل من عمله هذا مهرجاناً. فكانت القرون العظمية المصنوعة من العاج والمطعمة أحياناً بالذهب تدعو النساء، والرجال، والكلاب: النساء يجلسن في رشاقة على الجياد المتبخترة وأرجلهن على جانب واحد من السروج، والرجال في حلل زاهية وعدة حربية متباينة - القوس والسهم، والبلطة الصغيرة، والحربه، والسكين، وكلاب الصيد على اختلاف أنواعها تجذب مقودها. وإذ ما أدى الطراد إلى عبور حقول الفلاحين، كان من حق السيد وأتباعه، وضيوفه أن يعبروا هذه الحقول مهما يكن التلف الذي يصيب البذور والمحاصيل، ولم يكن يشكو من الفلاحين إلا المتهورون الذين لا يحسبون للعواقب حساباً(132). وقد نظم الفلاحون الفرنسيون الصيد فجعلوا له قواعد، وسمه الطراد، ووضعوا له مراسم وآداباً معقدة. وكانت السيدات يشتركن بنوع خاص في أكثر ضروب الصيد أرستقراطية - وهو الصيد بالبزاة، فقد كان في جميع الضياع الأكرى أقفاص تحوي أنواعاً كثيرة من الطيور، أغلاها ثمناً هي البزاة. وكان البازي يعلم الجلوس على معصم السيد أو السيدة في أي وقت، وكانت بعض السيدات المتأنقات يحتفظن بها وهن



 صفحة رقم : 5808   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


يستمعن إلى الصلاة في الكنائس. وقد ألف الإمبراطور فردريك الثاني كتاباً ممتازاً في الصيد بالبزاة بلغت عدد صفحاته 589 صفحة، وكان هو الذي جاء إلى أوربا من بلاد الإسلام بعادة السيطرة على أعصاب البازي وتشوقه بتغطية رأسه بغطاء من الجلد. وكانت أنواع مختلفة من البزاة تدرب على الطيران العالي، ومهاجمة أنواع مختلفة من الطيور، وقتلها أو جرحها، ثم العودة إلى معصم الصائد، حيث يقربها ويقدم لها قطعه من اللحم جزاء لها على صنعها فتسمح له بأن يضع رجليها في شرك حتى يبصر فريسة أخرى. ويكاد يكون البازي الحسن التدريب أحسن ما يهدى للشريف أو الملك، وقد أفتدى أحد أدواق برغندية ولداً له بأن أرسل أثنى عشر صقراً أبيض لأسرة السلطان بايزيد. وكان منصب حافظ البزاة الأكبر في فرنسا من أعلى المناصب وأكبرها مرتباً في المملكة. وكانت كثيراً من الألعاب الأخرى تخفف عن الناس حر الشمس وبرد الشتاء، وتحول عواطف الشباب ونشاطه إلى ضروب من المهارة الحيوية. فقد كان كل صبي تقريباً يتعلم السباحة، وكان الناس كلهم في شمال أوربا يتعلمون الانزلاق على الثلج، وكان سباق الخيال من الألعاب المحبوبة الواسعة الانتشار وبخاصة في إيطاليا، وكانت كل الطبقات تمارس الرمي بالقوس والسهام، ولكن طبقات العمال وحدها هي التي كانت تجد فسحة من الوقت لصيد السمك، وكانت في العصور الوسطى ضروب مختلفة من ألعاب الكرة، ولعبة الكرة والصولجان hockey، ورمي القرص quoits، والمصارعة والملاكمة، والتنس Tennis، وكرة القدم... وقد نشأت لعبة التنس في فرنسا، ولعل منشأها هناك من أصل إسلامي، ويلوح أن اسمها مشتق من لفظ Tenezi الفرنسي أي "العب"- وهو اللفظ الذي كان اللاعب يعلن به بداية لعبه(133). وقد انتشرت هذه اللعبة في فرنسا وإنجلترا انتشاراً بلغ منه أن كانت تلعب أحيانا أمام جماهير كبيرة في دور التمثيل أو الهواء الطلق(134). وكان الأيرلنديون يلعبون لعبة الكرة والصولجان



 صفحة رقم : 5809   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


منذ القرن الثاني الميلادي، ويصف مؤرخ بيزنطي من رجال القرن الثاني عشر وصفاً حياً مباراة في الجحفة (البولو) استخدمت فيها مضارب ذات أوتار من الحبال شبيهة بلعبة لاكرس Lacrosse الكندية(135). ويقول أحد مؤرخي العصور الوسطى الإخباريين وهو مروع وجل إن كرة القدم "لعبة بغيضة يدفع فيها الشبان كرة ضخمة، لا يقذفها في الهواء، بل يضربها بالقدم"(136). ويبدو أن هذه اللعبة جاءت من بلاد الصين إلى إيطاليا(137) وإنجلترا حيث انتشرت في القرن الثالث عشر انتشاراً واسعاً، وقد بلغ من عنفها أن حرمها إدوارد الثاني لأنها تؤدى إلى تعكير السلم (1314). وكان الناس وقتئذ أكثر ميلاً إلى التآلف والاشتراك في الحياة مما هم الآن وكانت أنواع النشاط الجماعية تهز المشاعر في أديرة الرجال والنساء، وفي الجامعات، والقرى، ومراكز نقابات الحرف. وكانت الحياة بهجة مرحة في أيام الآحاد والأعياد بنوع خاص، ففي تلك الأيام كان الفلاحون، والتجار وكبار الملاك يلبسون أحسن ما عندهم من الثياب، ويطيلون الصلاة أكثر من المعتاد، ويشربون أكثر ما يستطيعون(138). وكان الإنجليز إذا حل أول يوم من شهر مايو يقيمون عمود هذا العام، ويضيئون المشاعل، ويرقصون حولها، وكأنهم يعيدون وهم نصف واعين ذكريات أعياد الخصب الوثنية. وكانت كثير من البلدان والقصور في أيام عيد الميلاد تعين "سيداً لسوء الحكم" ينظر للجماهير ضروب التسلية والمناظر. وكان المهرجون يلبسون الأقنعة، واللحى المستعارة، و ينشدون أغاني عيد الميلاد، وكانت البيوت والكنائس تزدان بشرابة الراعي واللبلاب "وبكل ما هو أخضر في هذا الفصل من السنة(139)". وكانت هناك



 صفحة رقم : 5810   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


أعياد للفصول الزراعية، وللانتصارات القومية أو المحلية، وللقديسين، ولنقابات الحرف، وقلما كان يوجد في تلك الأيام رجل لا يملأ معدته بالشراب. وكان لإنجلترا المرحة أسواق تنساب فيها الأموال وتجرى فيها الجعة جرياناً سريعاً ولكنه ليس بالمجان، وكانت الكنيسة في القرن الثالث عشر تندد بهذه الاحتفالات، ولكنها هي نفسها اتخذتها أعياداً لها في القرن الخامس عشر(140). وقد كيفت بعض الأعياد حفلات الكنيسة فجعلتها جدية في قالب هزلي، صخابة تختلف من الفكاهة الساذجة إلى الهجاء الشائن المقذع، وكانت مدينتا بوفيه Beauvais، وسان Sans، وغيرهما من البلدان الفرنسية تحتفل في اليوم الرابع عشر من شهر يناير بعيد "الحمار" fete a I ane. فتركب فتاة جميلة حماراً، ويخيل ألينا أنها تمثل بهذه الطريقة مريم أم المسيح أثناء فرارها إلى مصر، ثم يقاد الحمار إلى كنيسة، وينحني ويثني ركبته اليمنى احتراماً وعبادة، ويوضع بجانب المذبح، ويستمع إلى قداس وترانيم يتغنى فيها بمديحه، فإذا انتهت الصلاة نهق القس والمصلون ثلاث مرات تكريماً لهذا الحيوان الذي أنجى أم المسيح من هيرودس وحمل عيسى إلى أورشليم(141). وكانت أكثر من عشر مدائن في فرنسا تحتفل في كل عام - ويكون ذلك عادة في يوم عيد الختان - بعيد البلهاء fete de fous. وكان يسمح في هذا اليوم للطبقة الدنيا من القساوسة أن تثأر لخضوعها إلى كبار القسيسين والأساقفة طول العام بالسيطرة على الكنيسة والقيام بالشعائر الدينية، وكانو يلبسون في ذلك اليوم ملابس النساء أو ملابس الكهنوتية مقلوبة، ويختارون واحد منهم ليكون أسقف البلهاءepiscopus fatuorum، ثم ينشدون أناشيد بذيئة، ويأكلون الوزم على المذبح، ويلعبون النرد عند أسفله، ويحرقون أحذية قديمة في المبخرة، ويلقون مواعظ مرحة(142). وكانت



 صفحة رقم : 5811   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


كثير من البلدان في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تختار من أهلها أسقف صبيان episcopus puerorum، ليرأس زملاءه في تقليد فكه للحفلات الكهنوتية(143). وكان رجال الدين المحليون يبسمون لهذه المهازل الشعبية ويتسامحون فيها، وظلت الكنائس وقتاً طويلا تغض النظر عنها، ولكنها حين رأتها تنزع إلى الإسراف في التحقير والبذاءة اضطرت إلى مقاومتها حتى اختفت آخر الأمر في القرن السادس عشر . وكانت الكنيسة بوجه عام متسامحة لينة الجانب إزاء فكاهات عصر الإيمان الوقحة، وذلك لعلمها أن الناس لا بد لهم أن يتحللوا بين الفينة والفينة من القواعد الأخلاقية، وان تفك القيود التي تعد في الأوقات العادية ضرورية للمجتمع المتمدين. ولقد يغضب بعض أشداء المتزمتين أمثال القديس يوحنا كريسستوم St.Johan Chrysostom وينادون: "أتضحكون وقد صلب المسيح؟" ولكن "الفطائر، والجعة لم تنقطع، والنبيذ ظل يجري ساخناً في الأفواه، وكان القديس برنار يرتاب في المرح والجمال، ولكن معظم رجال الدين كانوا في القرن الثالث عشر أكولين، يستمتعون باللحم والشراب، ولا يرون في هذا ما يؤنبهم عليه ضميرهم، ولا يغضبون إذا سمعوا فكاهة حلوة أو رأوا ساقاً جميلة، ذلك أن عصر الإيمان لم يكن عصر جد وكآبة، بل كان عصراً مليئاً بالحيوية والمرح الشديد، والعاطفة الرقيقة، والسرور الساذج من نعم الأرض. ولقد كتب طالب مفكر على ظهر كتاب المفردات اللغوية أمنية له يتمناها لنا جميعاً:



 صفحة رقم : 5812   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> المجتمع والألعاب


وإني لأرغب أن تكون الأيام كلها إبريل ومايو، وأن يجدد كل شهر جميع الفواكه مرة بعد مرة، وان تنبت في كل يوم أزهار الزنبق، والمنثور، والبنفسج، والورد في كل مكان يطرقه الإنسان، وأن تظل أشجار الغابات مورقة، والمروج خضراء، وأن ينال كل محب محبوبته، وأن يحب كلاهما الآخر حباً صادقاً أكيداً يمتلئ به قلبه، وأن يستمتع كل إنسان بما يحب من اللذة وأن يمتلئ القلب مرحاً وغبطة(145).



 صفحة رقم : 5813   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق والدين


الفصل التاسع



الأخلاق والدين


ترى هل تؤيد الصورة العامة لأوربا في العصور الوسطى الاعتقاد بأن الدين يبعث على مكارم الأخلاق؟. إن الصورة التي تنطبع في أذهاننا بوجه عام لتوحي بأن الثغرة الفاصلة بين نظرية الخلق الطيب وحقيقته في العصور الوسطى أوسع منها في أي عصر آخر من عصور الحضارة. ذلك أن العالم المسيحي في تلك العصور لم يكن يقل عنه في عصرنا اللاديني الحاضر امتلاءاً بالشهوات الجنسية، والعنف، وإدمان الخمر، والقسوة، والفظاظة، والدنس، والشره، والسطو، والخيانة، والتزوير. ويلوح أنه يفوق عصرنا الحاضر في استعباد الأفراد. ولكنه لم يكن يضارعه في الاستعباد الاقتصادي للأقاليم المستعمرة أو الدول المغلوبة. وقد فاقنا في إذلال النساء، ولكنه لا يكاد يضارعنا في عدم الاحتشام، وفي الفسق، والزنا، وفي الحروب الضروس، وفي كثرة من يقتلون فيها. وإذا وازنا بين مسيحية العصور الوسطى والإمبراطورية الرومانية من نيفرا إلى أوليوس، حكمنا أن هذه المسيحية قد رجعت بالناس إلى الوراء من الناحية الأخلاقية، غير أن كثيراً من أجزاء الإمبراطورية كانت في عهد نيرفا قد استمتعت بقرون كثيرة من الحضارة على حين أن العصور الوسطى تمثل في معظم مداها كفاحاً بين المبادئ الأخلاقية المسيحية والهمجية القوية التي كانت تحمل إلى حد كبير المبادئ الأخلاقية لدين لم تهتم هي بتلقي تعاليمه. ولقد كان يسع البرابرة أن يسموا بعض رذائلهم فضائل تستلزمها أحوال زمانهم، فعنفهم تطرف في الشجاعة،



 صفحة رقم : 5814   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق والدين


وشهوانيتهم زيادة في الصحة الحيوانية، وخشونتهم وصراحتهم في الحديث، وعدم حيائهم إذا تحدثوا عن الأشياء الفطرية ليست شراً من الخلق المصطنع الذي ينطوي عليه شبابنا. ولقد يكون من الأمور المهمة السهلة أن ندين مسيحية العصور الوسطى بالاعتماد على أقوال من كتبوا في الأخلاق من أبنائها. فقد كان القديس فرانسس يندب سوء أحوال القرن الثالث عشر ويصفه بأنه "زمان الخبث والظلم اللذين لا حد لهما(146)، وكان إنوسنت الثالث والقديس بونافتوراً، وفنسنت البوفينري، ودانتي يرون أن أخلاق ذلك "القرن العجيب" هي الفظاظة التي لا أمل إصلاحها، وقال الأسقف جروستستي Grosseteste، وهومن اكثر أحبار ذلك العصر حصافة، للبابا "إن الكاثوليك في جملتهم أحلاف الشيطان"(147). وحكم روجر بيكن (1214-1249) على العصر الذي يعيش فيه حكماً كعادته فقال. لم يوجد قط، ما يمثله في الجهل... لأن فيه من الرذائل، ما لا مثيل له في أي عصر سابق... فيه الفساد الذي لا حد له... والعهر... والنهم... ومع هذا فإن لدينا التعميد ولدينا وحي المسيح... اللذين لا يستطيع الناس أن يؤمنوا بهما حق الإيمان أو يجلوهما حق الإجلال... وإلا لما سمحوا لأنفسهم بان يقعوا في هذا الفساد كله... ولهذا فإن كثيرين من العقلاء يعتقدون أن أوان المسيح الدجال قد آن، وأن نهاية العالم قد اقتربت(149). ولا حاجة إلى القول بأن هذه العبارات وأمثالها إنما هي مغالاة ضرورية يعمد إليها المصلحون، وأن في وسع الإنسان أن يجد أمثالها في كل عصر من العصور. ويبدو أن أثر خوف الجحيم في رفع مستوى الخلقي كان أقل من أثر الرأي العام أو القانون في أيامنا هذه أو في ذلك الوقت، ولكن جديراً بنا أن نذكر أن



 صفحة رقم : 5815   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق والدين


المسيحية هي التي خلقت الرأي العام في تلك الأيام، وأنها هي التي أوجدت القانون إلى حد ما، وأكبر الظن أنه لولا القانون الأخلاقي الذي خلقته المسيحية، وما كان له من أثر ملطف، لكانت الفوضى التي أوجدتها خمسة قرون من الغزو، والحروب، والتدمير والتخريب أشد مما كانت. ولقد يكون الباعث الذي حملنا على اختيار الأمثلة التي ذكرناها في هذا الفصل هو التحيز غير المقصود، فإن لم يكن فإن أحسن ما توصف به أنها جزئية غير وافية، ذلك أن الإحصاءات معدومة وإن وجدت فهي غير موثوق بها، ومن شأن التاريخ أن يسقط من حسابه على الدوام الرجل العادي.وما من شك في أنه كان العالم المسيحي في العصور الوسطى آلاف من السذج الأخيار أمثال أم الأخ سلمبين Salimbene التي يصفها بأنها:"سيدة متواضعة تقية مخلصة، تكثر الصوم، ويسرها أن توزع الصدقات على الفقراء"(140)، ولكن كم مرة نعثر في صفحات التاريخ على مثيلات هذه السيدة؟. ولقد كانت للمسيحية في الأخلاق آثار رجعية وآثار تقدمية معاً. فلقد كان من الطبيعي أن تضمحل الفضائل الذهنية في عصر الإيمان، وحلت الغيرة والحماسة، والإعجاب بالصلاح والطهارة، والتقوى غير المستندة إلى الضمير، في بعض الأحيان؛ حلت هذه محل الذمة العقلية (النزاهة في النظر إلى الحقائق) والبحث عن الحقيقة. وبدا للناس أن "الأكاذيب التقية" الممثلة في تبديل النصوص، وتزوير الوثائق آثام عرضية بسيطة يتجاوز عنها. وتأثرت الفضائل المدنية بقصر الاهتمام على الحياة الآخرة، وتأثرت أكثر من هذا بانحلال الدولة، ولكن الذي لا شك فيه أن حب الوطن، مهما يكن حبا محليا، لم ينعدم في قلوب الرجال والنساء الذين شادوا هذه الكنائس الكبرى الكثيرة، وبعض الأبهاء العظيمة في المدن. ولعل النفاق، الذي هو من مستلزمات الحضارة، قد زاد في العصور الوسطى، إذ نظرنا إليه في ضوء نزعة القدماء الدنيوية الصريحة،



 صفحة رقم : 5816   



قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الأخلاق والآداب في العالم المسيحي -> الأخلاق والدين


أو الوحشية الجماعية السافرة التي نشاهدها في هذه الأيام. على أن هذه الرذائل وغيرها تقابلها كثير من الفضائل. فلقد كافحت المسيحية ببسالة وإصرار سيل الهمجية القوي الجارف، وبذلت جهوداً جبارة لتقليل الحروب والمنازعات، والالتجاء إلى القتال والتحكيم الإلهي في المحاكمات، وأطالت فترات الهدنة والسلام، وسمت بعض السمو بعنف الإقطاع ومنازعاته فجعلتهما وفاءاً وفروسية، وقاومت القتال في المجادلات، ومنعت استرقاق المسجونين، وحرمت اتخاذ المسيحيين عبيداً، وافتدت عدداً لا حصر لهم من الأسرى، وعملت على تحرير أرقاء الأرض أكثر مما عملت على استخدامهم في أراضيها، وغرست في النفوس احتراما جديداً للحياة والأعمال البشرية، وحرمت وأد الأطفال، وقللت من الإجهاض، وخففت أنواع العقاب التي كان يفرضها القانون الروماني، قانون القبائل المتبربرة، ولم تقبل مطلقاً أن يكون مستوى الأخلاق عند النساء مختلفاً عنه عند الرجال، ووسعت مجال الصدقات وأعمالها، ووهبت الناس طمأنينة عقلية وسط ألغاز العالم المحيرة للعقول، وإن كانت بعملها هذا قد ثبطت البحوث العلمية والفلسفية.وآخر ما نذكره لها أنها علمت الناس أن الوطنية إذا لم يقاومها ولاء أسمى منها تصبح أداة للشره والنهم الجماعيين. وقد فرضت على جميع المدن والدول الصغرى الأوربية المتنافسة قانوناً أخلاقياً واحداً، وحافظت عليه، واستطاعت أوربا بهديها، وبشيء من التضحية التي لابد منها ببعض حريتها، أن تستمتع مدى قرن من الزمان بالمبادئ الأخلاقية الدولية التي نتمناها ونكافح من أجلها في هذه الأيام - نعني بها أن يكون لها قانون يخرج الدول من قانون الغابة، ويوفر على الناس جهودهم لينفقوها في معارك السلام وانتصاراته.