قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 29

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 5696

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الرهبان والإخوان -> حياة الرهبنة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب التاسع والعشرون: الرهبان والإخوان 1095 - 1300

الفصل الأول: حياة الرهبنة

لعل الذي أنجى الكنيسة من محنتها لم يكن هو ما لجأت إليه محاكم التحقيق من تعذيب، بل كان نشأة طوائف جديدة من الرهبان انتزعت من أفواه الضالين دعوة التقشف الديني والفقر، وظلت قرن من الزمان تهب طوائف الرهبان، وغير الرهبان من رجال الدين، مثلا طيباً من الإخلاص المطهر للنفوس.

وكانت الأديرة قد تضاعف عددها في العصور المظلمة، وبلغت ذروتها في القرن العاشر المضرب الذي ساءت فيه الأحوال إلى أقصى حد، ثم أخذ عددها في النقصان حين أخذ النظام يسود الشئون الزمنية، وأخذ الرخاء في الازدياد: مثال ذلك أنه كان في فرنسا حوالي عام 1100 خمسمائة وثلاثة وأربعون ديراً، وفي عام 1250 كان فيها 287، وربما كان هذا النقص في عدد الأديرة قد عوضه ازدياد متوسط أعضائها، ولكن الأديرة التي كان رهبانها يبلغون المائة كان جد قليل وكان لا يزال من السنن المتبعة في القرن الثالث عشر عند الآباء الأتقياء أو ثقال الظهر أن يهبوا أطفالهم في سن السابعة أو ما بعدها إلى الأديرة "زلفى" إلى اللّه. وهكذا بدأ القديس تومس أكويناس حياته في الدير، وكانت طائفة الرهبان البندكتين ترى أن النذر الذي ينذره أبوا الطفل بأن يهباه إلى الدير لا يمكن الرجوع فيه(3). أما القديس برنار وطوائف الرهبان الجدد فكان من رأيهم أن لا ضير على الطفل الموهوب للدير إذا عاد إلى العالم متى بلغ سن الرشد(4)، وأصبح الراهب الراشد على مر الزمن في حاجة إلى إجازة بابوية إذا أراد أن يرجع في يمينه من غير لأن يرتكب ذلك إثما.

وكانت معظم الأديرة الغربية قبل عام 1098 تسير على نمط ما من أنماط طائفة الرهبان البندكتين بدرجات متفاوتة من الاستمساك بمبادئ هذه الطائفة فكانت تخصص للمبتدئ سنة يستطيع الطالب في أثنائها أن ينسحب من الدير بكامل حريته، وفي ذلك يقول الراهب قيصريوس الهيسترباخي Gaesarius of Heisterbach إن فارساً من الفرسان لنسحب من الدير "متذرعاً بتلك الحجة الدالة على الجبن وهي أنه يخشى الحشرات التي في ثياب (الرهبنة)، وذلك لأن ملابسنا الصوفية تأوي الكثير من الحشرات"(5). وكان الراهب يقضي من يومه أربع ساعات في الصلاة ، وكانت وجبات الطعام قصيرة الأجل، وتقتصر عادة على الخضر، أما بقية اليوم فكانت تقضي في العمل، والقراءة، والتعليم، وأعمال المستشفيات، والصدقات، والراحة. ويحدثنا قيصريوس بأن ديره وزع أثناء القحط الذي حدث في عام 1197 ألفاً وخمسمائة صدقة من الطعام في يوم واحد و "حافظ على حياة كل من جاءنا من الفقراء حتى حل موعد الحصاد"(6) وذبح دير للسترسيين في وستفاليا جميع ضأنه وماشيته، ورهن كتبه وآنيته المقدسة، ليطعم الفقراء(7) وشاد الرهبان بعملهم وعمل أرقاء أرضهم أديرة، وكنائس صغيرة وكبيرة، وفلحوا ضياعاً واسعة، وجففوا مستنقعات، واستصلحوا أرض الغابات، ومارسوا مائة من الصناعات اليدوية، وعصروا أحسن النبيذ والجعة. ولقد دربت الأديرة آلافاً من الرجال الصالحين القادرين على الآداب والأنظمة الخلقية والذهنية، وإن كانت في ظاهر الأمر قد انتزعت الكثيرين منهم من العالم لتدفنهم في غمار الصلاحية الأنانية، ثم أعادتهم إليه مرة أخرى ليكونوا مستشارين للأساقفة، والبابوات والملوك ومديرين لأعمالهم .

وفاض ثراء المجتمع المتزايد على مر الزمن على الأديرة، وكان سخاء الشعب مصدراً لما كان ينغمس فيه الرهبان أحياناً من ترف. ولنضرب لذلك مثلا دير القديس ركوبيه St. Riquier، ولم يكن من أغنى الأديرة ولكنه كان له 117 تابعاً يملكون 2500 بيت في البلدة التي كان قائماً فيها، ويحصل من مستأجريها على العشرة آلاف دجاجة وعشرة آلاف ديك مخصى مسمن، وخمسة وسبعين ألف بيضة، وعلى نقدي معتدل لكل فرد ولكنه في مجموعة كبيرة(8). وثمة أديرة من هذا الدير ثراءاً وهي أديرة مونتي كسينو Monte Cassino، وكلوني Cluny وفلدا Fulda، والقديس جول St. Gall، والقديس دنيس St. Denis. وكان رؤساء الأديرة أمثال سوجر Suger رئيس القديس دنيس، وبطرس المبجل رئيس دير كلوني، وحتى سامسون Samson رئيس دير القديس إدمند في بيوري، كان هؤلاء الرؤساء سادة أقوياء عظماء أصحاب ثروات مادية طائلة وسلطان سياسي واجتماعي عظيم، وهذا هو سوجر بعد أن أطعم رهبانه وشاد كنيسة(7) فخمة كبرى تبقى لديه من الموارد المالية ما يمكنه من أن يتكفل بنصف نفقات إحدى الحملات الصليبية(9)، ولعل القديس برنار كان يعني سوجر حين كتب يقول:"لو أنني قلت إني لم أر رئيس دير يركب على رأس موكب من ستين فارساً أو أكثر لكنت من الكاذبين"(10). ولكن سوجر كان رئيس وزراء لا بد له أن يحيط نفسه بمظاهر الأبهة والفخامة ليؤثر بذلك في نفوس الشعب! أما في حياته الخاصة فكان يعيش معيشة التقشف والبساطة؛ في خلوة متواضعة مراعياً جميع قواعد طائفته بقدر ما تمكنه من ذلك واجباته العامة. وكان بطرس من المبجل رجلاً صالحاً ولكنه عجز رغم جهوده المتكررة عن أن يحول دون ازدياد الثروة الجماعية في الأديرة التابعة لدير كلوني - وهي التي كانت من قبل تتزعم حركة الإصلاح - إلى حد أمكن الرهبان من أن يعيشوا عيشة البطالة الموهنة للقوى وإن كانوا أفراداً لا يملكون شيئاً.

إن الأخلاق تفسد كلما زاد الثراء، وفطرة الإنسان تظهر كلما أمكنتها موارده من الظهور، وفي كل جماعة كبيرة أيا كان نوعها يوجد أفراد هم أقوى من إيمانهم. ولقد ظلت كثرة الرهبان مستمسكة بالقواعد التي ارتبطت بها وفيه لها، ولكن أقلية منهم أخذت تنظر إلى العالم وإلى شئون الجسم نظرة أكثر ليناً. وكان رئيس الدير في كثير من الأحيان يعينه سيد إقطاعي أو ملك ويختاره من طبقة تعودت الراحة، ولم يكن هؤلاء الرهبان يتقيدون بقيود الأديرة، فكانوا يستمتعون بالصيد، والقنص، وألعاب الفروسية، وينغمسون في السياسة، وسرت عدواهم إلى الرهبان أنفسهم. وها هو ذا جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis يصور لنا حياة رئيس دير إفشام Evesham بصورة مروعة فيقول: "لم يكن أحد بمنجاة من فجوره"، وكان، جيرانه يخصون له ثمانية عشر ولداً، وكان لا بد من خلعه آخر الأمر(11). وأصبح رؤساء الأديرة المنكبون على مباهج الدنيا، السمان، الأغنياء، الأقوياء، هدفاً لسخرية الشعب وتشهير الأدباء، فكان أقسى ما كتب من الهجاء وأبعده عن المعقول وصفاً لرئيس دير بقلم ولتر ماب walter Map،(12). ومن الأديرة ما اشتهر بطعامه الشهي وخمرة. على أننا يجب ألا ننكر على الرهبان قليلا من الهناء، وفي وسعنا أن ندرك مقدار مللهم من الخضر، واشتياقهم إلى اللحوم، ولا يسعنا إلا أن نعطف على ثرثرتهم ، وشجارهم، ونومهم وقت الصلاة من حين إلى حين(13).

ولقد استخف الرهبان، وهم يقسمون بأن يبقوا عزاباً، بقوة الغريزة الجنسية التي يستثمرها مراراً وتكراراً ما يشاهدون من مناظر وأمثله من غير رجال الدين. ويروى قيصريوس الهيسترباخي قصة تتكرر كثيراً في العصور الوسطى، عن رئيس دير وراهب شاب خرجا راكبين معاً. ووقعت عينا الشاب على النساء للمرة الأولى فسأل رئيس الدير :"من هؤلاء؟" فأجابه "هؤلاء شياطين" فرد عليه الراهب بقوله :"لقد كنت أظنهم أجمل من رأيت في حياتي كلها"(14). ويقول الزاهد بطرس داميان في آخر أيام حياته الورعة المريرة:

في وسعي وأنا الآن رجل طاعن في السن أن أنظر وأنا آمن إلى وجه ذابل مجعد لإمرأة عجوز شمطاء عمشاء العينيين. أما من هن أجمل منها وجهاً وأكثر زينة فإني أغمض طرفي عنهن وأحذرهن كما يحذر الصبيان النار. ويلاه أيها القلب المفجوع!- الذي لا يستطيع الاحتفاظ بأسرار الكتاب المقدس التي قرأتها من أولها إلى آخرها مائة مرة، ثم لا تنمحي منه صورة لم أرها إلا مرة واحدة(15).

وكانت الفضيلة تبدو لبعض الرهبان كأنها صراع نفساني بين المرأة والمسيح ولم يكن تشهير بالنساء إلا جهود يبذلونها لإماتة شعورهن بمفاتنهن، كما كانت أحلامهم الصالحة النقية في بعض الأحيان يرطبها رضاب الشهوة، وكثيراً ما كانوا يعبرون عن رؤاهم القدسية الروحية بعبارات مستعارة من العشق الآدمي . وكانت قصائد أوفد من الأشعار المحبوبة في بعض الأديرة، ولم تكن مؤلفاته في فن الحب بأقل منها تداولاً بين الرهبان(17). وكانت التماثيل المقامة في بعض الكنائس الكبرى، والنقوش المحفورة في أثاثها، بل الرسوم المصورة في بعض الكتب المقدسة نفسها، تمثل عبث الرهبان والراهبات - تمثل خنازير في ثياب الرهبان، وأثواب الدير بارزة فوق أعضاء التذكير المنتصبة، والراهبات يعشن مع الشياطين(18). ويمثل نقش بارز فوق مدخل يوم الحشر في كنيسة ريمس شيطاناً يجر الرجال الآثمين إلى الجحيم، ومن بينهم أسقف على رأسه تاج الأسقفية. وقد سمح رجال الكنيسة في العصور الوسطى - ولعلهم كانوا من غير الرهبان الذين يحسدون هؤلاء على ما هم فيه من نعيم - سمحوا بأن تبقى هذه الرسوم الهزليه في أماكنها، ولكن رجال الدين. هذه الأيام رأوا من الخير إزالة الكثرة الغالبة منها. ولقد كانت الكنيسة نفسها أقسى من وجه النقد إلى آثام رجالها، وقامت طائفة متتابعة من المصلحين الدينيين تبذل ما وسعها من الجهد لكي تعيد الرهبان ورؤساء الأديرة إلى المثل العليا التي جاء بها المسيح.


الفصل الثاني: القديس برنار

عمت العالم المسيحي في أواخر القرن الحادي عشر، وفي نفس الوقت الذي تطهرت فيه البابوية، وامتلأت القلوب تحمساً للحرب الصليبية الأولى، حركة من الإصلاح الذاتي تحسنت بسببها أحوال رجال الدين غير الرهبان، وقامت في أثنائها من الرهبان جديدة أخذت نفسها بقواعد الأوغسطيين والبندكتيين الصارمة. فقد حدث في وقت غير معروف قبل عام 1039 أن أسس القديس يوحنا جلبيرتس St. John Galbertus(19) طائفة من الفلمبروزا Vallombrosa في " الوادي الظليل" المسمى الاسم في إيطاليا، وبدأ فيه نظام الإخوة العلمانيين الذي دعائمه فيما بعد طوائف الرهبان المتسولين. وأهاب المجمع المقدس الذي عقد في عام 1059 برجال الدين الذين يقتسمون أعمال الكنيسة ومواردها أن يعيشوا جماعة، وأن تكون أملاكهم مشاعة بيتهم كما كان شأن الرسل الأولين. ولم يستجب بعضهم إلى هذا النداء وبقوا "كهنة علمانيين" ، واستجاب له كثيرون منهم، واتبعوا قاعدة رهبانية يعزونها إلى القديس أوغسطين، وكونوا من أنفسهم جماعات شبه رهبانية تعرف. مجموعها باسم "الكهنة الأوغسطيين أو الأوسطيين Austins . وأنشأ القديس برونو St.Bruno الكرلوني في عام 1084 ، من بعد أن رفض أن يكون رئيس أساقفة ريمس، طائفة الكرثوزيين Corthusians، وذلك بأن أسس ديراً في بقعة منعزلة تدعى كارتريز Chartreuse في جبال الألب بالقرب من جرينوبل Grenoble، وأنشأ غيره من الأتقياء الصالحين وحدات كرثوزية في أماكن منعزلة بعد أن سئموا ما يسود العالم من نزاع وما ينصف به رجال الدين من تهاون. وكان كل راهب في هذه الأماكن يعمل، ويطعم، وينام، في خلوته الخاصة المنعزلة، ويعيش على الخبز واللبن، ويلبس ثياباً من شعر الخيل، ويكاد يلازم الصمت على الدوام. وكانوا يجتمعون معاً ثلاث مرات كل أسبوع للقيام بمراسيم القداس، وصلاة الغروب، وصلاة منتصف الليل، وفي أيام الآحاد، والأعياد ينطلقون في الحديث ويطعمون جماعة. وكانت هذه الطائفة أشد طوائف الرهبان صرامة، وظلت قرون كاملة تأخذ نفسها بقواعدها الأصلية وفيه لها أشد الوفاء.

وأنشأ ربروت المولسميسى Robert of Molesmes في عام 1098 بيت رهبنة جديد في مكان بري يدعى ستو Citeaux قريب من ديجون Djion، وذلك بعد أن أعيته الحيل لإصلاح أديرة البندكتين المتفرقة التي كان هو رئيساً عليها، واشتق من لفظ سيتو اسم الرهبان السترسيين كما اشتق من لفظ كارتريز اسم الرهبان الكرثوزيين. وأعاد ستيفن هاردنج من دورسسترشير Stephen Harding of Dorsestershire تنظيم هذا الدير ووسعه، وأنشأ له عدة فروع، ووضع عهد الحب Carta caritatis ليضمن به التعاون السلمي الموحد بين سيتو والبيوت السسترسية المختلفة وعادت مبادئ البندكيتين إلى كل ما كانت من صرامة، فكان الفقر التام أهم مستلزماتها، وامتنع الأعضاء عن أكل اللحم بكافة أنواعه، وحيل بينهم وبين التعليم، وحرم عليهم قرض الشعر، وأمروا أن يتجنبوا مظاهر الأبهة في الملابس الدينية، والآنية والأبنية. وحتم على كل راهب قوي الجسم أن يشترك في الأعمال اليدوية في الحدائق والمصانع التي تجعل الدير مستقلا عن العالم الخارجي، فلا يكون لراهب ما حجة في مغادرة ديره. وامتاز السسترسيون عن جميع الطوائف الأخرى، رهبانية كانت أو غير رهبانية، بنشاطهم وحذاقهم في الأعمال الزراعية، وأنشأوا مراكز جديدة لطائفتهم في الأصقاع غير المسكونة، وجففوا المستنقعات، وقطعوا أشجار الغياض والغابات ليفسحوا مكاناً للزراعة، وكان لهم فضل كبير في استعمار ألمانيا الشرقية وإصلاح الأضرار التي ألحقها وليم الفاتح بإنجلترا. وكان يساعد الرهبان السترسين في هذه الجهود التي يبذلونها في سبيل الحضارة إخوان علمانيون مهتدون نذروا أن يبقوا عزاباً، صامتين،أميين(20)، يعملون زراعاً أو خدماً نظير الطعام والملبس والمسكن(21).

وبعثت هذه الصرامة الخوف في قلوب من يريدون الانضمام إلى هذه الطائفة،ولهذا كان نمو هذه الجماعة القليلة بطيئاً، ولولا ما بعثه القديس برنار في الطائفة الجديدة من حماسة قوية لقضي عليها في مهدها.

ولد القديس برنار بالقرب من ديجون (1091) من أسرة عريقة تنتمي إلى طبقة الفرسان، وكان في صباه شاباً حيياً تقياً، يؤثر العزلة. ولم يجد راحة في العالم الدنيوي، فأعتزم أن يدخل الدير، وكأنما أراد الرفقة في الوحدة، فأخذ ينشر دعاوة قوية موفقة بين أهله وأصدقائه ليدخلوا معه دير سيتو. ويحدثنا المؤرخون أن الأمهات والفتيات الصالحات للزواج كانت ترتعد فرائضهن حين يقترب منهن، خشية أن يغري أبناءهن أو عشاقهن بالتزام العفة، ولكنه نجح على الرغم من دموعهن. ولما أن قبل في دير سيتو (1113) جاء معه بتسعة وعشرين ممن يريدون دخول الدير، ومنهم إخوة له، وأحد اعمامه، وطائفة من اصدقائه، وأفلح فيما بعد بإقناع أمه وأخته بأن تترهبا، وأقنع أباه أيضاً بأن يترهب بعد أن توعده بأنه "إن لم يكفر عن ذنوبه فسيحترق إلى أبد الدهر ... وينبعث منه الدخان والرائحة الكريهة"(22). وأجبت استيفن هاردنج من فوره يتقوى برنار ونشاطه إعجاباً حمله على أن يرسله (1115) على رأس ثلاثة عشر راهباً لينشئ بيتاً سترسيا جديداً يكون هو رئيسه. واختار برنار لبيته الجديد بقعة شجرة على بعد تسعين ميلا من سيتو تعرف بإسم الوادي اللامع Claivaux أو Clara vallis، ولم يكن في هذا المكان مسكن ولم يكن فيه قط إنسان. وكان أول عمل قامت به الفئة المتآخية أن بنت بأدبها "ديرها" الأول- وهو بناء خشبي يحوي تحت سقف واحد مصلى، ومطعماً، وفي أعلاهما مكان للنوم يصلون إليه بسلم خشبي. وكانوا ينامون في صناديق نثرت عليها أوراق الأشجار، ولم تكن النوافذ أكبر من رأس الرجل ولم يكن على الأرض شيء. وكان طعامهم مقصوراً على الخضر إلا سمكة يطعمونها من حين إلى حين، ولم يكونوا يطعمون خبزاً أبيض، أو توابل، وقلما يشربون نبيذاً، فكان هؤلاء الرهبان الحريصون على دخول الجنة يأكلون كما يأكل الفلاسفة الراغبون في طول العمر. وكانوا يعدون الطعام بأيديهم، فيتناوبون طهوه. وكان من القواعد التي وضعها برنار ألا يبتاع الدير أملاكاً، وألا له إلا ما يوهب، وكان يرجو ألا يكون له من الأرض أكثر مما يستطيع الرهبان العمل فيه بأيديهم وبأدواتهم البسيطة. وأخذ برنار وإخوانه المتزايد عددهم يعملون في هذا الوادي الهادي في صمت وقناعة بعيدين عن " زوبعة العالم " يقطعون أشجار الغابة، ويزرعون، ويحصدون، ويصنعون أثاثهم بأيديهم، ويجتمعون في أوقات الصلاة ليرتلوا الأناشيد بغير أرغن، ويتلو مزامير اليوم وترانيمه. ويصفهم وليم السانت تيري William of St. Thierry بقوله: "كلما أمعنت النظر فيهم زاد يقيني أنهم أعظم أتباع المسيح كمالا ... لا ينقصون إلا قليلا عن الملائكة، ولكنهم أرقى كثيراً من الآدميين"(23). وانتشرت أنباء هذا السلام المسيحي وهذا الاستقلال الذاتي حتى كان في كليرفو قبل موت برنار سبعمائة من الرهبان. وما من شك في أنهم كانوا سعداء في ذلك المكان، لأن الذين بعثوا من هذه البيئة الشيوعية ليكونوا رؤساء أديرة، أو أساقفة، أو مستشارين، كانوا كلهم تقريباً يتوقون للعودة إليها، وكان برنار نفسه - وقد عرضت عليه الكنيسة أرقى مناصبها، وذهب إلى أراضي كثيرة بناء على طلبها - يحن دائماً للعودة إلى صومعته في كليرفو ويقول سأبقى بكليرفو "حتى تسيل عيني، وحتى يواري جسدي في كليرفو بجوار أجساد الفقراء".

وكان رجلا متوسط الذكاء، ثابت اليقين، ماضي العزيمة، متناسق الصفات الخلقية، ولم يكن يعني بالعلم ولا بالفلسفة لأنه يحس أن عقل الإنسان وهو جزء من الكون متناه في الصغر عاجز عن الحكم على الكون، لا يستطيع الإدعاء بأنه يفهمه، وكان يدهش من كبرياء الفلاسفة السخيف وهم ينطقون بهذرهم عن طبيعة الكون،وأصله، ومصيره. وقد هاله ما يراه أبلار من تحكيم العقل في الدين، وقاوم هذه النزعة العقلية لأنها تجديف وقحة. وكان يفضل أن يمشي في ضياء معجزات الوحي غير سائل أو متشكك، مفضلاً هذا عن محاولة فهم العالم. وكان من رأيه أن الكتاب المقدس هو كلام الله، وإلا كانت هذه الحياة في رأيه بيداء من الشك الحالك الظلام، وكلما أوغل الدعوة إلى هذا اليمان الشبيه بإيمان الأطفال، ازداد يقينه بأن هذا هو الطرق السوي. ولم أن ما جاءه أحد رهبانه واعترف له في رهبة وفزع أنه لا يستطيع الإيمان بقدرة القس على أن يحول خبز القربان إلى جسم المسيح ودمه، لم يلمه برنار على ما قال، وأمره مع ذلك أن يشترك في العشاء الرباني، وقال له :" اذهب واشترك فيه بإيماني أنا"، ويؤكد لنا الرواة أن إيمان برنار فاض على المتشكك وأنجى روحه(25) وكان في وسع برنار أن يكره ويطارد حتى الموت، أو ما يقرب من الموت، الضالين أمثال أبلار أو آرنلد البريشيائي لأنهم أضعفوا كنيسة تبدو له رغم أخطائها وعيوبها مطية المسيح نفسها، وكما كان في وسعه أن يحب برقة لا تكاد تقل عن رقة العذراء التي كان يعبدها بغيرة منقطعة النظير. ورأى يوماً لصاً يساق إلى المشنقة فشفع له عند كونت شمبانيا ووعده أن يوقع عليه عقاباً أقسى من الموت الذي لا يقاسيه إلا لحظة وجيزة(26). وكان يعظ الملوك والباباوات، ولكنه يكون أكثر رضاً عن نفسه حين يعظ الفلاحين والرعاة في واديه وكان يتسامح في أخطائهم، ويهدهم بما يضربه لهم بنفسه من مثل صالح، وينال حبهم الصامت ويبادلهم حباً بحب.ووصل في تقواه إلى حد الزهد المنهك للقوة، وقد أكثر من الصوم حتى اضطر رئيسه في سيتو أن يأمره بتناول الطعام. وظل ثمانية وثلاثين عاماً يعيش في صومعة واحدة ضيقة في كليرفو، على فراش من ورق الشجر، وليس فيها مقعد إلا حفرة في الجدار (27) وكانت طيبات العالم جميعها وما فيه من أسباب الراحة، تبدو له وكأنها لاشيء إذا قيست إلى التفكير في المسيح ووعده. وكتب وهو في هذه النشوة عدة ترانيم غاية في البساطة والرقة الأخاذة بمجامع القلوب:


أيها المسيح يا صاحب الذكرى الحلوة،



هب القلب البهجة الحقة،



إن أحلى من الشهد ومن الأشياء جميعها



مشهده الحلو،



وليس في كل ما يغنى شيء أجمل من ذكر عيسى أبن الله



ولا فيما يسمع شيء أحسن وقعاً على الأذن منه



ولا فيما يفكر فيه العقل أحلى منه.



أي عيسى يأمل التائبين



مارق قلبك على المتسولين!



وما أقربك لطالبيك!



ترى ماذا تكون لمن يلقوك؟


وقلما كان يعني بغير الجمال الروحي رغم إدراكه جمال اللفظ، فكان يغطي عينيه خشية أن تسرفا في الاستمتاع الحسي بجمال بحيرات سويسرا(29). وكان ديره عارياً من جميع الزينة عدا صورة المسيح مصلوباً، وكان يلوم دير كلوني لكثرة ما ينفقه من المال في بناء الأديرة التابعة له وزينها، ويقول في هذا: "إن الكنيسة تتلألأ جدرانها وتغل يدها عن فقرائها، وتطلى حجارتها بالذهب وتترك أبناءها عراة، وتفتن عيون الأغنياء بالفضة التي تأخذها من البائسين"(30) وكان يشكو من أن دير القديس دنيس العظيم غاص بالفرسان المتكبرين المدرعين بدل العباد السذج، ويسميه:" حامية عسكرية، ومدرسة الشيطان، ومعشش اللصوص"(31) وتأثر سوجر بهذا اللوم، فأصلح عادات كنيسته ورهبانه، وعاش حتى استحق ثناء برنار.

ولم يكن إصلاح الأديرة الذي سطح ضياؤه من كليرفو، ورفع مستوى رجال الدين بترقية رهبان برنار إلى مراتب الأساقفة ورؤساء الأساقفة، لم يكن هذا إلا بعض ما أحدثه ذلك الرجل، الذي لم يكن يطلب شيئاً غير الخبز، من الأثر في جميع الطبقات وفي خلال نصف القرن الذي عاشه. وجاء لزيارته الأمير هنري الفرنسي أخو الملك وتحدث إليه برنار، وقبل أن ينقضي اليوم كان هنري راهباً يغسل الصحاف في كليرفو(32). وقد استطاع بعظاته - وقد أوشكت لفصاحتها وجزالة لفظها أن تكون شعراً - أن يؤثر في نفوس كل من سمعه، كما استطاع برسائله - وهي آيات خالدة في الدعوة الحماسة الحارة - أن يؤثر في المجالس، والأساقفة، والبابوات، والملوك، وأمكنه باتصاله الشخصي أن يشكل سياستي الكنيسة والدولة. وأبى أن يكون أكثر من رئيس دير، ولكنه رفع البابوات إلى عروشهم وأنزلهم عنها، ولم يكن الناس يستمعون إلى خبر من الأخبار بإجلال وخشوع أكثر مما يستمعون بهما إليه.

وقد خرج من صومعته ليقوم بنحو اثنتي عشرة مهمة دبلوماسية عالية، كانت في العادة بناء على طلب الكنيسة ولما أن اختارت طائفتان متنازعتان أنكليتس الثاني وإنوسنت الثاني للجلوس على كرسي البابوية (1130) أيد برنار إنوسنت، ولما استولى أنكليتس على روما دخل برنار إيطاليا وأثار بقوة شخصيته وخطبه الحماسية مدن لمبارديا لتأييد إنوسنت، وسكرت الجموع بخطبه وتقاه فانكبت عليه تقبل قدميه ومزقت مئزره إرباً اتخذتها مخلفات مقدسة تورثها من بعدها. وأقبل عليه المرضى في ميلان، وأعلن المؤمنون المصابون بالصرع والشلل وغيرهما من الأمراض أنهم شفوا من أمراضهم بلمسه. ولما عاد إلى كليرفو بعد انتصاراته الدبلوماسية جاءته جموع الفلاحين من الحقول والرعاة من أعالي التلال،يطلبون إليه أن يباركهم، فلما تلقوا منه هذه البركة عادوا إلى كدحهم مرفوعي الرأس راضين.

وقبل أن يتوفى برنار في عام 1153 كان عدد أديرة السسترسيين قد زاد من ثلاثين ديراً في عام 1134 (وهي السنة التي مات فيها استيفن هاردنج) إلى 343 ديراً وانضم إلى هذه الطائفة عدد كبير من الناس متأثرين بتقواه وقوته، فلم يحل عام 1300 حتى كان عدد أفرادها ستين ألفا يقيمون في 693 ديراً. ونشأت طوائف أخرى من الأديرة في القرن الثاني عشر، فأنشأ روبرت الأبرسولي Robert of Abrissol حوالي عام 1100 طائفة الفنتفرول Fontevroult في أنجو، وفي عام 1120 تخلى القديس نربير Norbert عن ثروة عظيمة آلت إليه وأنشأ طائفة "رهبان المرعى الموعود" النظامية في بريمنتريه Premontre بالقرب من ليون Leon . وفي عام 1131 أنشأ القديس جلبرت طائفة السمبرنجهام Sempringham الجلبرتيين الإنجليز على غرار طائفة فنترفول. وفي عام 1150 سار بعض الزهاد الفلسطينيين على سنة القديس باسيلي وانتشروا في جميع أنحاء فلسطين. ولما استولى المسلمون على فلسطين هاجر هؤلاء الرهبان "رهبان الكرمل" إلى قبرص، وصقلية، وفرنسا وإنجلترا. وفي عام 1198 صدق إنوسنت الثالث على قانون طائفة الرهبان "الثالوثيين Trinitarians"، وحضهم على افتداء المسيحيين الذين وقعوا أسرى في أيدي المسلمين. وكانت هذه الطوائف الجديدة مشعلا أضاء ظلمات الكنيسة المسيحية.

وأخذت حركة الإصلاح في الأديرة التي بلغت ذروتها على يد القديس برنار تضعف خلال القرن الثاني. فقد كانت الطوائف الحديثة النشأة تحافظ على مبادئها الصارمة بإخلاص معقول، غير أنه لم يكن من المستطاع أن يوجد الكثيرون من الناس الذين يستطيعون الصبر على هذا النظام الصارم في ذلك العهد السريع الخطى، فأثرى السسترسيون- ومنهم أتباع برنار نفسه في كليرفو- على مر الزمن بما انهال عليهم من هدايا ذوي الآمال، واستطاع الرهبان بفضل الأعيان الموقوفة من (التائبين) أن يضيفوا إلى طعامهم اللحم وكثيراً من النبيذ(33)، وعهدوا بجميع الأعمال اليدوية إلى أخوانهم العلمانيين، ولما مضت أربع سنين على موت برنار ابتاعوا عدداً من الأرقاء المسلمين(34) وكانت لهم تجارة واسعة تدر عليهم أرباحاً طائلة في منتجات صناعاتهم المشاعة، وأثاروا حقد نقابات أرباب الحرف لأنهم كانوا معفين من العوائد المفروضة على نقل البضائع(35). ولما ضعف إيمان الناس على أثر إخفاق الحملات الصليبية قل عدد الطلاب الجدد وانحطت بسبب هذا الضعف أخلاق جميع طوائف الرهبان، ولكن المثل الأعلى القديم القاضي بأن يحيا الرهبان كما كان يحيا الرسل حياة شيوعية خالية من الملك الفردي لم يمت، بل بقي في نفوس الآلاف من الناس الاعتقاد الراسخ أن من واجب المسيحي الصادق أن يبتعد عن الثروة والسلطان. وأن يحافظ أشد المحافظة على السلام. ثم ظهر في تلال أمبريا Umbria بإيطاليا في أوائل القرن الثالث عشر رجل أعاد تلك المثل العليا القديمة إلى سابق قوتها وذلك ببساطته، وطهارته، وتقواه، وحبه وأدهش الناس بهذه الصفات حتى ظنوا أن المسيح قد ولد من جديد.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: القديس فرانسس

ولد جوفيني ده برنادون Giovanni de Bernadone في أسيسي Assisi عام 1182. وكان أبوه سربيترو ده برنادون Ser Pietro de Bernadone من أثرياء التجار، ذا تجارة واسعة مع برو فانس، وفيها أحب فتاة فرنسية تدعى بيكا pica وتزوجها وجاء بها إلى أسيسي. ولما عاد من رحلة أخرى ووجد أنها أنجبت له ولداً بدل اسم الطفل وجعله فرانسسكو Francesco أي فرانس، ويبدو أن ذلك كان تحية لبيكا. وشب الطفل وترعرع في أجمل صقاع في إيطاليا، ولم يفقد قط حبه لمناظر أمبريا الجميلة وسمائها الصافية. وتعلم من والديه اللغتين الفرنسية والإيطالية، وأخذ لغة اللاتينية عن قس الأبرشية، ولم يكن له بعدئذ نصيب من التعليم المنظم، ولكنه سرعان ما انتظم في عمل أبيه، وأغضب سربيترو بما أظهره من قدرة على صرف المال تفوق قدرته على كسبه، فقد كان أغنى شباب البلدة وأسخاهم يداً، يجتمع حوله أصدقاؤه يطعمون معه ويشربون ويغنون أغاني الشعراء الغزلين. وكان فرانس بين الفينة والفينة يرتدي حلة المنشدين الجاثلين المتعددة الألوان(36). وكان شاباً وسيما، أسود العينين، فاحم لون الشعر، صبوح، جميل الصوت. ويقول المترجمون الأولون له إنه لم تكن له قط صلة بالنساء، وإنه لم يعرف إلا امرأتين معرفة لا تتجاوز النظر إليهما(27)، ولكن هذا بلا ريب يظلم فرانس بعض الظلم.ولعله سمع من أبيه في تلك السنين التي يتشكل فيها خلقه شيئا عن الضالين الإلبجنسيين والولدنسيين في جنوبي فرنسا، وعن إنجيلهم الجديد إنجيل الدعوة إلى الفقر.

وحارب في عام 1202 في جيش أسيسي بروجيا Perugia، وأسر، وقضى في الأسرة سنة شغلها كلها بالتأمل العميق. وفي عام 1204 تطوع في جيش البابا إنوسنت الثالث. وبينما هو طريح الفراش في إسبوليتو ينتفض جسده من الحمى إذا خيل إليه أن صوتاً يناديه"لم تهجر الإله إلى الخادم، والأمير إلى تابعه؟ فسأل هو ذلك الصوت:"رباه ماذا تريدوني أن أفعل؟" فأجابه الصوت: "عد إلى موطنك، وهناك سيقال لك ماذا تفعل"(28). فما كان منه إلا ترك الجيش وعاد إلى أسيسي، ومن ذلك الوقت أخذ اهتمامه بتجارة أبيه يقل واهتمامه بالدين يزيد. وكان بالقرب من أسيسي مصلى صغيرة للقديس دميان. وبيتاً كان فرانسس يصلي فيها ذات يوم من أيام شهر فبراير عام 1207 إذ خيل إليه أنه يسمع المسيح يتحدث إليه من المذبح، ويتقبل حياته وروحه قرباناً له. وأحس من تلك اللحظة أنه موهوب إلى حياة جديدة، فأعطى قس المصلى كل ما معه من المال وعاد إلى منزله. والتقى ذات يوم بشخص مصاب بالجذام ففر منه مشمئزاً، ثم لام نفسه لعدم إخلاصه للمسيح، وعاد أدراجه وأفرغ ما كان كيسه من النقود في يد المجذوم وقبل يده، ويقول لنا هو أن هذا العمل كان بداية عهد جديد في حياته الروحية(29). وأخذ من ذلك الحين يزور مساكن المجذومين ويتصدق عليهم.

وقضى بعد قليل من ذلك الحادث عدة أيام في المصلى أو بالقرب منها، ويبدو أنه لم يكن يأكل في تلك الأيام إلا القليل الذي لا يغني عن الجوع، فلما ظهر مرة أخرى في أسيسي كان جسمه قد ضعف واهزل، ولونه قد امتقع، وثيابه قد تمزقت، وعقله قد تحير، حتى أخذ الأطفال في الميدان العام يصيحون "بزو، بزو! pazzo!pazzo المجنون، المجنون!" وهناك عثر عليه أبوه، وسماه بالشاب الذي ذهب نصف عقله؛ وجره إلى منزله، وأغلق عليه حجرة ضيقة. ولما أطلقته أمه من حبسه عاد مسرعاً إلى المصلى، فحلق به أبوه الغاضب، وأنبه لتعرضه أسرته للسخرية، ولامه لأنه لم يفد قيها من المال الذي أنفقه على تربيته، وأمره أن يخرج من البلدة التي هو فيها. وكان فراسيس قد باع كل ممتلكاته الشخصية لينفق من ثمنها على المصلى، فلما سمع هذا القول من أبيه أعطاه ما كان معه من ثمنها، وقبله منه أبوه، ولكنه لم يعترف لوالده بحقه في أن يأمر شخصاً هو وقتئذ ملك للمسيح. ولما استدعى للمثول بين يدي محكمة الأسقف في ميدان القديسة مارياما جوري، مثل أمامها في خشوع وحوله جمع حاشد ينظر إليه. وقد خلد جيوتو هذا المنظر في صورة له ذات روعة. ووثق الأسقف بما قطعه على نفسه من وعد وأمره أن يتخلى عن جميع أملاكه. وآوى فرانسيس إلى حجرة في قصر الأسقفية، وما لبث أن عاد عارياً كما ولدته أمه، وألقى أمام الأسقف بثيابه المحزومة وما كان باقيا معه من نقود قليلة وقال :" لقد ظللت حتى هذه الساعة أدعو بيترو برنادون أبي، أما الآن فأحب أن أكون خادماً للّه، لأني من هذه الساعة لن أنطق بغير "أبانا الذي في السموات"(40). وأخذ برنادون الثياب وغطى الأسقف فرنسس المرتجف بمئزره، وعاد فرانسس إلى مصلى القديس داميان، ونسج لنفسه ثوباً من أثواب النساك، وأخذ يسأل الناس طعامه من باب إلى باب، وشرع يبني بيديه المصلى المتصدعة ، وجاء بعض أهل القرية يساعدونه، وكانوا يغنون جميعاً وهم يعملون.

وبينما كان يستمع إلى القداس في شهر فبراير من عام 1209 أثرت في نفسه العبارات التي كان القس يتلوها من تعاليم المسيح إلى الرسل : وفيما" أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين إنه قد اقترب ملكوت السموات، أشفوا مرضى، طهروا برصاً أقيموا موتاً، أخرجوا شياطين، مجانا أخذتم مجاناً أعطوا، لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً في الطريق ولا ثوبين، ولا أحذية ولا عصا"(متى 10:7 - 10). وخيل إلى فرانسس أن المسيح نفسه هو الذي يتكلم وأنه يتكلم إليه مباشرة، وصمم على أن يطيع هذه الألفاظ وينفذها بنصها - أن يدعو إلى ملكوت السموات، وألا يفتني شيئاً، وأن يرجع إلى الوراء خلال المائتين والألف من الأعوام التي اختفت عن الناس صورة المسيح، وأن يعيد تشكيل حياته على غرار هذا المثل القدسي.

وهكذا وقف في ربيع ذك العام في ميدان أسيسي متحدياً سخرية الساخرين جميعها يدعو إلى إنجيل الفقر وإلى المسيح. واشمأزت نفسه مما كان سائداً في هذا العصر من سعي لكسب المال بالحق أو بالباطل، وروعة ما رآه من ترف بعض رجال الدين وأبهتهم، فأخذ يندد بالمال نفسه ويقول إنه هو الشيطان وهو اللعنة، وأمر أتباعه أن يجتنبوه كما الرجس(41). وأهاب بالرجال والنساء أن يبيعوا كل ما يملكون وأن يهبوا يجتنبوا ثمنه للفقراء. واستمعت إليه جماعات قليلة في دهشة وإعجاب، ولكن الكثرة مرت به وحسبته أبلها مفتوحاً بالمسيح، ولما قال له أسقف أسيسي الصالح:" يبدو لي أن طريقتك في الحياة من غير أن تملك شيئاً قاسية صعبة على النفس" أجابه فرانسس بقوله :"مولاي، إننا إذا كان لنا ملك احتجنا إلى الأسلحة للدفاع عنه"(42). وتأثرت به بعض النفوس، وعرض عليه اثنا عشر ممن تأثروا به أن يتبعوا تعاليمه ويسيروا على سننه، فرحب بهم، ولقنهم الفقرة السالفة الذكر من أقوال المسيح ليتخذوها رسالة وقاعدة يسيرون عليها، ونسجوا لأنفسهم ثياباً سمراء، وأقاموا لهم أكواخاً من أغصان الأشجار، ونبذوا هم وفرانسس عزلة الرهبان القديمة، فكانوا يخرجون كل يوم حفاة، ليس معهم من المال، يعظون الناس. وكانوا في بعض الأحيان يغيبون عدة أيام، وينامون في مخازن الدريس، أو مستشفيات المجذومين، أو تحت أبواب الكنائس، فإذا عادوا غسل فرانسس أقدامهم وقدم لهم الطعام.

وكانوا يحيون بعضهم البعض، ويحيون كل من يلتقون بهم في الطريق، التحية الشرقية القديمة: "سلام الله عليكم" ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد أطلق عليهم اسم "فرانسسكان"، فقد كانوا يسمون أنفسهم "الإخوان الصغار Minorities Fratres أو المينوريين Minores". ذلك أنهم كانوا إخواناً لا قساوسة، ومعنى كونهم صغاراً أنهم أصغر خدام المسيح شأناً، وأنهم لا يمارسون قط سلطاناً، بل يخضعون على الدوام لسلطان من هم أرقى منهم؛ فهم يخضعون لأقل القساوسة درجة، ويقبلون يد أي قسيس يلقونه، ولم يرسم إلا عدد قليل منهم في الجيل الأول من نشأتهم قساوسة، ولم يرق فرانسس نفسه إلى أكبر من مرتبة شماس، وكانوا في جماعتهم الصغيرة يخدم بعضهم بعضاً، ويشتغلون بالأعمال اليدوية، ولم يكونوا يسمحون بوجود متعطل منهم، أو يشجعون الدراسة العقلية بينهم، لأن فرانسس لم يكن يرى في المعلومات الزمنية أية فائدة غير تكديس الثروة أو الجري وراء السلطان: "وسيجد إخواني الذين تغويهم الرغب الرغبة في العلم أنهم صفر الأيادي في يوم المحنة"(43). وكان يسخر من المؤرخين الذين لا يقومون هم أنفسهم بعمل عظيم، ولكنهم يشرفون لأنهم يسجلون ما يقوم به غيرهم من جليل الأعمال(44). وقد سبق فرانسس قول جيتة إن العلم الذي يستخدمه في العمل"(45) ولم يكن واحد من الإخوان يمتلك كتاباً بما في ذلك كتاب الترتيل نفسه؛ وكانوا في عظاتهم يلجأون إلى الغناء كما يلجأون إلى الخطابة، بل كانوا يحذون حذو الشعراء المغنين الجائلين فيكونون مطربي الله(46). وكان الإخوان أحياناً يُسخر منهم ويُضربون، وتُسرق منهم أثوابهم حتى الثوب الأخير. وقد أمر فرانسس ألا يبدو أية مقاومة. وكان المعتدون في كثير من الأحيان يدهشون من احتقار الإخوان للمجد والملك، وهو احتقار كان يبدو لهم فوق الطاقة البشرية، ولهذا كانوا يتقدمون إليهم يطلبون الصفح ويعيدون إليهم ما سرقوه(47). ولسنا نعرف هل هذا المثل الآتي المأخوذ من زهيرات القديس فرانسس تاريخ حق أو خيال، ولكنه في كلتا الحالتين يصور نشوة التقوى التي تسري في كل ما نسمعه عن القديس:

قال فرانسس في يوم من أيام الشتاء وهو سائر في طريقه من بروجيا يعاني الأمرين من برد الشتاء القارس: "أيها الأخ ليو، إن الإخوان الصغار يضربون أحسن الأمثلة في الصلاح والتهذيب، ومع هذا فاكتب إليهم، ولا تتوان عن تعليمهم، أن البهجة الكاملة ليست في هذا". وبعد أن واصل فرانسس السير في طريقه بعض الشيء قال: "أيها الأخ ليو، إن الإخوان الصغار قد ردوا البصر إلى المكفوفين، وقوموا المعوجين، وأخرجوا الشياطين، وأعادوا السمع إلى الصم، ومكنوا العرج من المشي المستقيم... وأحيوا من قضوا في القبر أربعة أيام، ومع هذا فاكتب: إن السرور الكامل ليس في ذاك". ثم سار في طريقه قليلاً ثم صاح بأعلى صوته: "أيها الأخ ليو، لو أن الأخ الصغير عرف كل اللغات والعلوم، وجميع الكتب المقدسة حتى استطاع أن يكشف عن الأمور المستقبلة ويتنبأ بها، بل استطاع أكثر من هذا أن يكشف عن مخبآت الضمائر والنفوس- فاكتب: إن السرور الكامل ليس في ذاك"... ومع هذا فقد سار بعدئذ قليلاً وصاح قائلاً: "أيها الأخ ليو، إن الأخ الصغير يحذق الوعظ إلى حد يستطيع معه أن يهدي الكفرة إلى دين المسيح- فاكتب: "ليس السرور في ذاك". ولما استمر هذا الطراز من الحديث ميلين كاملين سأله الأخ ليو:... "أبي، بالله قل لي أين يوجد السرور الكامل؟" فأجابه فرانسس بقوله: "حين نصل إلى كنيسة مارية الملائكة" (وكانت وقتئذ مصلى الفرانسسكان في أسيسي) يبللنا المطر، متجمدين من شدة البرد، ملطخين بالوحل، معذبين من شدة الجوع، وحين تدق الباب ويقبل البواب ثائراً ويقول: "من أنتما؟" فتقول له: "نحن اثنان من إخوانك" فيرد علينا قائلاً: "إنكما كاذبان، بل أنتما وغدان تسيران في الطرق تخدعان العالم، وتختلسان صدقات الفقراء. اذهبا!" ثم يفتح لنا الباب، ويتركنا في خارجه نعاني آلام الجوع والبرد طوال الليل في المطر والثلج ، فإذا ما تحملنا هذه القسوة صابرين... من غير أن نشكر أو نحزن، ونعتقد في ذلة وشفقة أن اللّه هو الذي أنطق البواب بالسخرية منا - ألا أيها الأخ ليو، أكتب، هناك السرور الكامل! وإذا ما واصلنا دق الباب، وخرج هو وطردنا وهو غاضب، وسبنا ولطم خدودنا وقال لنا: "أبعد أيها اللصان السافلان! - فإذا ما تحملنا هذا صابرين يملأ فلبينا الحب والفرح فاكتب أيها الأخ ليو: هذا هو السرور الكامل! وإذا ما عضنا الجوع وآلمنا البرد فدفعنا الباب مرة اخرى ودعوناه بحب اللّه أن يفتح لنا... فخرج بعصا كبيرة معقدة وقبض علينا من قلنسوتينا، وألقانا على الأرض، ودحرجنا على الثلج، ورض كل عظم من عظامنا بتلك العصا الثقيلة، فإذا ما فكرنا في آلام المسيح الرحيم، وتحملنا هذه الآلام كلها في صبر وسرور مدفوعين إليه بحب اللّه - فأكتب أيها الأخ ليو أن هنا لك وفي هذا يوجد السرور الكامل"(48). وكانت ذكرى حياته المترفة الباكرة تبعث في نفوس شعوراً بالخطيئة يؤرقه ويقض مضجعة، وإذا كان لنا أن نصدق ما جاء في الزهيرات فأنه كان في بعض الأحيان يسائل نفسه في حيرة هل يغفر له اللّه ذنوبه؟ وثمة قصة مؤثرة تقول إنه الأيام الأولى من نشأة الطائفة حين لم يكن في وسعهم أن يجدوا كتاب صلوات يتلون منه أدعيتهم المقدسة، ارتحل فرانسس ورداً للتوبة، وأمر الأخ ليو أن يعيد بعده عبارات تتهم فرانسس بالخطيئة. وحاول ليون أن يعيد التهمة في كل جملة، ولكنه وجد أنه لم يكن يكرر التهمة، بل كان يقول بدلا منها إن "رحمة اللّه وسعت كل شيء"(49). وحدث في مرة أخرى، وكان فرانسس قد نقه تواً من الحمي، أن طلب أن يجر وهو عار من الثياب أمام الناس في سوق أسيسي وأن يلقى أحد الإخوان على وجهه صفحة من الرماد، ثم قال هو للحاضرين: "إنكم تعتقدون أني ولي صالح، ولكن أعترف للّه ولكم أنني في ضعفي هذا أكلت لحماً وشربت مرق لحم"(50). وزاد ذلك القول يقين الناس بطهره وقداسته، ورووا أن أخا شاباً أبصر المسيح والعذراء يحدثانه، وكانوا يعزون له عدة معجزات، ويأتون إليه بمرضاهم ومن بهم "مس " ليشفيهم. وأصبحت صدقاته مضرب المثل وموضوع القصص، فلم يطيق أن يرى أحداً أفقر منه، وكثيراً ما كان يتصدق على من يمر به من الفقراء بالثوب الذي يلبسه حتى كان مريدوه يجدون من أصعب الصعاب أن يبقوه مكتسياً. وتقول مرآة الكمال التي هي في أكبر الظن من نسج الخيال(51):

وبينما هو عائد من سينا Siena إذ التقى في طريقه برجل فقير، فقال لزميل من الرهبان: "يجب أن نعيد هذا المئزر إلى صاحبه، لأنا لم نأخذه إلا عارية حتى نعثر على من هو أفقر منا... وإنا إذا لم نعطه من هو أشد حاجة إليه منا عُدّ هذا منا سرقة".

وفاض حبه من الآدميين على الحيوان والنبات، وعلى الجماد نفسه. وتعزو إليه مرآة الكمال التي لم تثبت صحتها تسبيحاً للشمس يقول فيه: حين تشرق الشمس في الصباح، يجب على كل إنسان أن يحمد اللّه الذي خلقها لننتفع بها.. وإذا جن الليل وجب على كل إنسان أن يسبح بحمد اللّه الذي أمدنا بأختنا النار التي تبصر بها أعيننا، لأننا جميعاً أشبه بالمكفوفين، وقد أضاء اللّه أعيننا بهذين الأخوين. وكان يعجب بالنار إعجاباً يحمله على التردد في إطفاء شمعة، لأن النار قد تعارض في أن تطفأ. وكان قوى الإيمان بما بينه وبين كل كائن حي من أواشج القربى. وأراد أن "يتوسل إلى الإمبراطور" (فردريك الثاني الذي كان مولعاً بصيد الطير) "لكي يخبره بحق حبه للّه ولي لأن يضع قانوناً خاصاً يحرم على أي إنسان أن يقبض على أخوتنا القبرات أو يقتلها، أو يلحق بها أذى ما، وأن يطلب رؤساء البلديات وعمد البلاد، وملاك القصور والقرى، إلى كل رجل أن ينثر الحب في خارج المدن والقصور في يوم عيد الميلاد من كل عام حتى تجد أخواتنا القبرات وغيرها من الطير ما تأكله"(52). والتقى مرة بشاب اقتنص بضع قمريات وسار بها إلى السوق. وأقتنع فرانس الشاب أن يعطيه إياها، وبنى القديسون عشوشاً لها "حتى تثمر وتتضاعف"، وأطاعت القمريات فأثمرت وتضاعفت أضعافاً مضاعفة، وعاشت بجوار الدير سعيدة بصداقة الرهبان، وكانت أحياناً تخطف الطعام من المائدة التي يطعم عليها أولئك الرهبان(53). ونسجت حول هذا الموضوع عشرات من الأقاصيص لتزينه وتجمله، منها واحدة تقول إن فرانس خطب في " أخواتي الصغار من الطير" وهو في طريقه من كانورا Cannora إلى بيفانا Bevagna، فنزلت إليه الطيور التي عاشت على الأشجار لتستمع إليه، وظلت ساكنة بينما كان فرانس يختم عظته:

أخواتي الصغر من الطير! ما أكثر ما أنتن مدينات به إلى اللّه خالقكن، ومن واجبكن أينما كنتن وأنى كنتن أن تحمدنه لأنه وهبكن حلة ثنائية هذا إنكن لا تزرعن، ولا تحصدن، واللّه يطعمكن ويهبكن الأنهار والعيون لتشربن مائها، ويهبكن الجبال والوديان لتأوين إليها، والأشجار الباسقة التي تبنين فيها أعشاشكن، وإذ كنتن لا تستطعن أن تغزلن أو تخطن فإن اللّه يكسوكن أنتن وأبناءكن... فاحذرن إذن يا أخوتي الصغار أن ترتكبن ذنب الكفران بالنعمة، ولا تغفلن أبداً عن حمد اللّه(54).

ويؤكد لتا الأخوان جيمس وماسيو أن الطيور كانت تنحني احتراماً لفرانس، وأنها لم تكن تبرح أماكنها حتى يباركها. والزهريات Fioretta التي نقلنا منها هذه القصة هي تبسيط باللغة الإيطالية لكتاب Actus Beati Francisci المكتوب باللغة اللاتينية (1323)، وهي اقرب إلى الأدب منها إلى التاريخ الحق، ولكنها تعد في مستوى أجمل مؤلفات عصر الإيمان وأعظمها متعة.

ولما قيل له إن إنشاء طائفة دينية جديدة يتطلب الحصول على إذن من البابا، سافر فرانسس ومريده الاثنا عشر إلى روما في عام 1210، وعرضوا طلبهم ومبادئهم على إنوسنت الثالث. فنصحهم البابا العضيم بلطف أن يؤجلوا مسألة الإنشاء الرسمي للطائفة الجديدة حتى يحين الوقت لاختبار مبادئهم اختباراً عمليا، وقال لهم:"أبنائي الأعزاء، إن حياتكم لتبدو لي أقسى مما تطيقون، نعم إني أرى أنكم شديدوا التحمس لمبادئكم...ولكن من واجبي أن أفكر فيمن سيأتون بعدكم خشية أن يكون أسلوب حياتكم فوق ما يطيقون"(55). وأصر فرانسس على طلبه، وخضع له البابا آخر الأمر- خضعت القوة المتمثلة في شخص البابا إلى الإيمان الممثل في شخص فرانس-، وقص الإخوان شعورهم، وخضعوا لرجال السلطة الدينية،وحصلوا من البندكتين في مونت سياسيو Mt. Subasio القريب من أسيسي على مصلى القديسة ماري الملائكية St. Mary of the Angeles، وهي مصلى لا يزيد طولها عن عشرة أقدام، وقد بلغ من صغر مساحتها لأن أطلق عليها اسم بورتي نيكولا portiuncula- "أي الجزء الصغير".وبنى الإخوان لهم أكواخا حول المصلى، وكانت هذه الأكواخ أولى أديرة طائفة القديس فرانسس الأولى.

وانضم إلى الطائفة أعضاء جدد، ولم يقتصر الأمر على هذا، ولكن فتاة ثرية في الثامنة عشرة من عمرها هي كلارا ديي اسكفي Clara dei Sciffi طلبت إليه أن يأذن لها بإنشاء طائفة ثانية من طوائف القديس فرانسس خاصة بالنساء (1212). وابتهج القديس لهذا الطلب ابتهاج - فقد غادرت الفتاة بيتها ونذرت نفسها للفقر، والطهر، وأصبحت رئيسة دير فرنسيسى أقيم حول مصلى القديس دميان. ثم أنشئت طائفة ثالثة من طوائف القديس فرانسس- وهي الطائفة الثلاثية- من بين العلمانيين الذين لم يكونوا يرتبطون بقواعد القديس فرانسس كاملة، ولكنهم أرادوا أن يتبعوا هذه القواعد قدر المستطاع، وأن يعيشوا في "الدنيا"، ويساعدوا الطائفة الأولى والثانية بعملهم وصدقاتهم. وحملت الطوائف الفرنسيسية المطردة الزيادة إنجيلها إلى بلدان أمبريا (1211)، ثم حملته فيما بعد إلى غيرها من مقاطعات إيطاليا. ولم يكن هؤلاء الرهبان ينطقون بشىء عن الضلالة بل كانوا يعظون الناس عظات بسيطة في شئون الدين، ولم يكونوا يطلبون إلى المستمعين أن يأخذوا أنفسهم بالعفة، والفقر، والطاعة التي وهبوا هم أنفسهم لها، بل كانوا ينادونهم " خافوا اللّه وعظموه؛ وأثنوا عليه وسبحوه... وتوبوا إليه واستغفروه... فإنكم تعلمون أنا عما قليل ميتون... تجنبوا الشر، وثابروا على الخير".

لقد طالما سمعت إيطاليا هذه الألفاظ من قبل، ولكنها قلما سمعتها من رجال أوتوا من الإخلاص البين مثل ما أوتي هؤلاء الرجال. وأقبل الناس زرافات ليستمعوا إلى مواعظهم، وعرفت قرية في أمبريا أن القديس فرانسس مقبل عليها، فخرجت على بكرة أبيها لتحييه بالأزهار، والأعلام،والأناشيد(56). ولما أقبل على سينا Siena وجد المدينة في حرب أهلية، فلما استمع الحزبان المتحاربان إلى مواعظه أقبلوا عليه خاضعين، وأنهوا نزاعهم طوعاً لأمر إلى حين(57). وكانت هذه الرحلات التبشيرية التي قام بها في إيطاليا هي التي أصيب فيها بالملاريا التي قضت على حياته في سن مبكرة.

بيد أن ما لقيه من النجاح في إيطاليا وجهله بالإسلام قد شجعاه على مواصلة العمل، فاعتزم أن يذهب إلى بلاد الشام ويدعو المسلمين والسلطان نفسه إلى اعتناق الدين المسيحي. ولهذا أبحر في عام 1212 من إحدى الثغور الإيطالية ولكن عاصفة بحرية قذفت بسفينته إلى شاطئ دلماشيا واضطرته أن يرجع إلى إيطاليا، غير أن إحدى الأقاصيص تقول إن "القديس فرانسس أدخل في دينة سلطان بابل"(58). وتقول قصة أخرى أكبر الظن أنها غير صادقة كسابقتها إنه سافر في ذلك العام نفسه إلى أسبانيا ليدخل المسلمين في دين المسيح، ولكنه حين وصل إليها أصيب بمرض شديد اضطر مريديه أن يعودوا به إلى أسيسي. وتروى قصة أخرى مشكوك في صحتها أنه جاء إلى مصر، وأنه مر بسلام في صفوف المسلمين الذي كان يقاوم الصليبيين عند دمياط، وعرض أن يخوض النار إذا وعده السلطان أن يعتنق هو وجنوده الدين المسيحي إن خرج من النار سالما، ورفض السلطان هذا العرض ولكنه أمر بأن يعد للقديس حرس بصحبه إلى معسكر المسيحيين. وروع فرانسس حين رأى ما أظهره جنود المسيح من وحشية وهم يذبحون السكان المسلمين حين تولى الصليبيون على دمياط(59)، فعاد إلى إيطاليا مريضاً محزونا، وأصيب وهو في مصر، فضلاً عن مرض الملاريا، برمد أوشك في مستقبل حياته أن يفقد بصره.

وأزداد أتباع للقديس في أثناء غيابه زيادة أسرع مما يستطيع معها السيطرة عليهم. ذلك أن شهرته جعلت الأتباع ينضمون إليه دون أن يفكروا في الأمر التفكير الواجب، فأخذ بعضهم يندمون على تسرعهم، وشكا البعض الآخر من صرامة مبادئ الطائفة ، فنزل فرانسس عن بعض القواعد وهو كاره وما من شك كذلك في أن انتشار الطائفة التي انقسمت إلى عدة بيوت منتشرة في أنحاء أمبريا قد تطلب مهارة إدارية وكياسة لا قبل له بهما لشدة انهماكه في مبادئه الصوفية. من ذلك ما يروى أن راهبا اغتاب زميلا له فأمره فرانسس أن يأكل قطعة من روث حمار حتى لا يحلو الخبث في لسانه من بعد. وصدع الراهب بالأمر ولكن زملاءه هالهم العقاب أكثر مما هالتهم الجريمة(60). وتخلى فرانسس في عام 1220 عن زعامة الطائفة، وأمر أتباعه لأن يختاروا لها غيره مرشداً عاماً؛ وارتضى فيما بعد أن يكون راهباً بسيطاً. لكنه أزعجه بعد عام من ذلك الوقت ما رآه من استمرار التراخي في إطاعة المبادئ الأولى (1210) فوضع للطائفة قواعد جديدة - هي "الهد" الذائع الصيت - أراد بها أن يتقيد أتباعه تقيداً تاماً بمراعاة يمين الفقر التي أقسموا أن يراعوها ؛ ونهى الرهبان عن الانتقال من أكواخهم عند البورتي أنكولا إلى الأحياء الطيبة الهواء التي أنشأها لهم أهل المدينة، وعرض هذه القواعد على هونوريوس الثالث فأحالها إلى لجنة من المطاردة لمراجعتها، فلما خرجت من أيديهم كانت قد أخذت بنحو اثنتي عشرة قاعدة من قواعد فرانسس ويمثلها من التعديلات المحففة، وهكذا تحققت نبوءة إنوسنت الثالث.

وعمد فرانسس في ذلك الوقت على كره منه، وإطاعة لما أخذه به نفسه من خشوع، عمد إلى حياة قضى معظمها في التفكير، والعزلة،، والزهد، والصلاة. وجاءته شدة خشوعه وقوة خياله من حين إلى حين برؤى المسيح، أو مريم، أو الرسل. وفي عام 1224 غادر أسيسي مع ثلاثة من مريديه وخرج يقطع الجبال والسهول حتى وصل صومعة على جبل فرنا M.Verna بالقرب من شوزي chiusi، وأقام منفرداً في كوخ منعزل وراء أخدود عميق لا يسمع لأحد ليو أن يزوره، وأمره ألا يأتي مرتين كل يوم، وألا يجئ إذا لم يتلق رداً على ندائه بأنه قريب منه. وفي اليوم الرابع عشر من سبتمبر عام 1224 يوم عيد تمجيد الصليب المقدس، وبعد صوم طويل وليلة قضاها ساهراً مصلياً - في هذا اليوم خيل إلى فرانسس أنه رأى ملكاُ ينزل من السماء معه صورة للمسيح المصلوب، ولما توارى الشبح أحس بآلام غريبة وتبين زوائد لحمية في كفيه وظهرت يديه، وفي أسفل قدميه وأعلاهما، وفي جسمه كله شبيهة في أماكنها وفي لونها بالجروح التي أحدثتها في ظن الناس المسامير التي يعتقدون أنها دقت أطراف المسيح في الصليب والحربة التي نفذت في جنبه.

وعاد فرانسس إلى صومعته وإلى أسيسي، وشرع بعد عام من الظهور تلك القروح يفقد بصره، إلى أن كان يوماً في زيارة لدير القديسة كلارا ففقد بصره فقداناً تاما. ومرضته كلارا حتى عاد إليه نور عينيه واستبقته في دير القديس دميان شهراً من الزمان، وفيه ألف في يوم من أيام 1224 "تسبيحه الشمس" بالنثر الإيطالي الموزون، ولعله ألفها وهو في نشوة الفرح أيام النقاهة من مرض عينيه(62):


رباه يا ذا الخير والجلال والسلطان الأعظم،



إليك الحمد.والمجد، والتكريم، وكل البركات،



انك أنت وحدك يا ذا الجلال خليق بها



وما من أحد يليق به أن يذكرك.



إليك الحمد يا رب أنت وجميع مخلوقاتك.



وأكثر ما يكون ذلك الحمد لأخينا الشمس



الذي يهبنا النهار ويضيؤنا به



والشمس جميلة ساطعة ذات روعة،



بينها وبينك يا ذا الجلال بعض الشبه،



تسبح بحمدك يارب قمر السماء ونجومها،



فقد خلقتها في السماء صافية، ثمينة، جميلة

تسبح بحمدك يا رب الرياح، والهواء، والسحب، والأجواء كلها،



الطيب منها وغير الطيب، وهي التي تهب بها القوت لمخلوقاتك.



تسبح بحمدك يا رب أختنا المياه



ذات النفع العظيم والتواضع الجم، الثمينة النقية.



تسبح بحمدك يا رب أختنا النار



التي أضاءت بها دجى الليل،



وهي جميلة؛ ومبتهجة، وشديدة وقوية:



تسبح بحمدك يا رب أختنا وأمنا الأرض،



التي تمدنا بالغذاء وتسيطر علينا،



وتخرج لنا الفاكهة المختلفة الأشكال والأزهار



والأعشاب ذات الألوان.



يسبح بحمدك من يعفون عن الناس حبا فيك،



ويحتملون آلام المرض والمحن،



طوبى لمن يحتملونها في هدوء،



لأنك أنت يا العظمة ستضع على رؤوسهم التيجان.


ورأى بعض الأطباء في ريتي أن يمروا بقضيب من الحديد المتوهج على جبهته ليعالجوا بذلك مرض عينيه بعد أن مسحوهما "ببول غلام لم يباشر قط النساء" ويقال إن فرانسس نادى: "الأخ النار: إنك جميل فوق كل المخلوقات، فمن على في هذه الساعة، وانك لتعلم مقدار حبي العظيم الدائم لك"، وقال فيما بعد أنه لم يحس قط بألم. واسترد من قوة البصر ما يكفيه لأن يبدأ رحلة أخرى يعظ فيها الناس، ولكن متاعب السفر لم تلبث أن أنهكت قواه، وأقعده داء الملاريا ومرض الاستسقاء، فعادوا به إلى أسيسي.

واضطر رغم احتجاجه إلى، الرقاد في قصر الأسقفية، وسأل الطبيب أن يصدقه الخبر، فقيل له: انه لا يكاد يبقى حيا بعد الخريف، وأدهش جميع الحاضرين إذ بدأ يغني، ثم أضاف، على حد قولهم، مقطوعة أخرى إلى تسبيحة الشمس:


تسبح بحمدك يا رب يا من مننت علينا بأختنا ميْتَة الجسد التي لا ينجو منها بشر.



فوا أسفي على من يموتون وهم آثمون



وطوبى لمن هم طوع إرادتك المقدسة،



لأن الميتة الثانية لن ينالهم منها أذى.


ويقال؛ انه ندم في تلك الأيام الأخير على زهده لأنه "أساء به إلى أخيه الجسم"(64). ولما خرج الأسقف من عنده أقنع فرانسس الرهبان - أن ينقلوه إلى بورتي أنكولا، وفيها أملى وصيته، وهي وصية تجمع بين التواضع والقوة، فقد أمر أتباعه أن يقنعوا "بالكنائس الفقيرة المهجورة"، وإلا يقيموا في بيوت لا تتفق مع الأيمان التي أقسموها بأن يظلوا فقراء، وأن يسلموا للأسقف كل ضال أو ناكث للعهد من رهبان الطائفة وألا يغيروا قط مبادئهم(65).

وأدركته في اليوم الثالث من اشهر أكتوبر من عام 1226 ولم يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره، وكان في اللحظة الأخيرة ينشد أحد المزامير. وبعد سنتين من وفاته سمته الكنيسة قديسا. وكان زعيمان آخران يسيطران على هذا العصر القوي الحركة هما إنوسنت الثالث وفردريك الثاني. فأما إنوسنت فقد رفع مقام الكنيسة إلى أعلى ذروة مجدها، ومن هذه الذروة هوت بعد عقد واحد. ولسنا ننكر أن فرانسس قد بالغ في فضائل الفقر والجهل، ولكنه بعث القوة في الدين المسيحي بأن أعاد إليه روح المسيح. وأولو العلم وحدهم هم الذين يعرفون اليوم البابا والإمبراطور، أما القديس الساذج فيتغلغل حبه في قلوب الملايين من بني الإنسان.

وبلغ عدد أعضاء الطائفة التي أنشأها خمسة آلاف عضو عند وفاته وانتشرت في بلاد المجر، وألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا، وأسبانيا. وكانت هي الدعامة التي تعتمد عليها الكنيسة في عودة شمالي إيطاليا من الضلالة إلى الكثلكة. ولم تقبل إنجيل الفقر والأمية الذي كانت تنادي به إلا أقلية صغيرة، لأن أوربا أصرت على التخبط في نية الثروة، والعلم، والفلسفة، والشك المثير للنفوس. وفي هذه الأثناء (1230) تحلل رهبان الطائفة مرة أخرى من القواعد أن يبقوا زمناً طويلا، وأن يبقوا بالعدد المطلوب، محتفظين بذلك المستوى العالي من الزهد الذي لا يكاد يقبله عاقل، والذي عجل منية فرانسس. فلما خفت وطأة قواعد الطائفة بعض الشيء زاد عدد الإخوان الصغار حتى بلغ قبل عام 1280 نحو مائتي ألف راهب يقيمون في ثمانية آلاف دير، وحتى أصبحوا من كبار الواعظين، وحتى حملوا رجال الدين بما ضربوه لهم من الأمثلة على أن يقوموا بالوعظ والإرشاد، وكانت هذه العادة حتى ذلك الوقت مقصورة على الأساقفة دون غيرهم. وخرج من بينهم قديسون أمثال القديس برنردينو السينائي Bernardino of Siena والقديس أنطوني البدوائي Antony of Padua، كما قام من بينهم علماء مثل روجر بيكن، وفلاسفة مثل دن اسكوتس Dun Scotus ومعلمون مثل أسكندر الهاليس Alexander of Hales، وأضحى بعضهم عمالاً لمحاكم التحقيق، وارتقى بعضهم إلى كراسي الأساقفة، ورؤساء الأساقفة، والبابوية، وقام كثيرون منهم بمغامرات تبشيرية في بلاد أجنبية بعيدة. وتوالت عليهم الهبات من الأنقياء الصالحين، وتعلم بعض زعمائهم ، مثل الأخ إلياس، حب الترف، وأقام لذكرى فرانسس تلك الباسلكا الرائعة التي لا تزال تتوج تل أسيسي وإن كان مؤسس الطائفة قد حرم إقامة الكنائس الكبرى. ولقد كانت رسوم سيمابيو Cimabue وجيتو Giotto في هذه الباسلكا أول نتاج ذلك الأثر العظيم الخالد الذي كان للقديس فرانسس ولتاريخه وقصصه في الفن الإيطالي.

واحتج كثيرون من أبناء الطائفة على التحلل من بعض قواعد فرانسس وآووا إلى صوامع أو أديرة صغيرة في جبال الأبنين يعيشون فيها زهاداً "روحيين" أو"متحمسين"، أما بقية الفرنسيسيين فقد آثروا لأديرة الرحبة. وكان الروحيون يقولون إن المسيح والحواريين لم يكن لهم متاع، ووافقهم على هذا القديس بونا فنتوراBonaventura ، وصدق البابا نقولاس الثالث على ذلك الرأي في عام 1279، غير أن البابا يوحنا الثاني والعشرين أعلن في عام 1323 أنه رأى خاطئ، ومن ذلك الحين عد الروحيون الذين أصروا على الدعوة إلى هذا المبدأ من الضالين، وقمعت حركتهم. وبعد مائة عام من وفاة فرانسس حرقت محاكم التحقيق اتباعه عند أعمدة التحريق.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: القديس دمنيك

يظلم الناس دمنيك حين يقولون إن اسمه يوحي بمحاكم التحقيق، ذلك أن دمنيك لم يكن هو الذي أنشأ تلك المحاكم، ولم يكن هو الذي تلقى عليه تبعة ما لجأت إليه من إرهاب؛ فقد كان نشاطه مقصوراً على هداية الناس بالقدوة والموعظة الحسنة. وكان أقوى من فرانسس شكيمة، ولكنه كان يجله ويراه أعظم منه قداسة، وحباه فرانسس بحبه جزاء له على هذه الصفات الطيبة. وكان عمل الرجلين في جوهره واحداً: فكلاهما نظم طائفة عظيمة من الرجال لا يعملون إلى نجاة أنفسهم بطريق العزلة، بل بالتبشير بين المسيحيين وغير المسيحيين. وأخذ كلاهما من الضالين أعظم أسلحتهم إقناعا - وهو مدح الفقر والقيام بالوعظ، وكان لهما معاً فضل إنقاذ الكنيسة.

ولد ومنجو دي جزمان Domingo de Guzman في قلعة رويجا من أعماله قشتالة (1170) ونشأ رعاية عم له من القساوسة، فكان رجلاً من آلاف الرجال الذين تمكنت المسيحية من نفوسهم، وعمرت بها قلوبهم. ويقال إنه لما نزل القحط بمدينة بلنسية، باع جميع متاعه، وفيه كتبه الثمينة ليطعم يثمنها فقراء المدينة. وأصبح قساً أغسطينياً نظامياً في كنيسة أسما Osma، وصحب أسقفها في عام 1201 في بعثة تبشيرية إلى طولوز، وكانت وقتئذ مركز الفئة الألبجنسية الضالة. وكان مضيفهما نفسه ألبجنسيا، وقد يكون من الأقاصيص الموضوعة أن دمينك هداه إلى الدين القويم في أثناء الليل. وأوحى إليه نصح الأسقف، والمثل الذي له بعض الضالين، فعمد إلى حياة الفقر الاختياري.

ومشى حافي القدمين، وبذل ما يستطيع من الجهد ليعيد الناس بطريق السلم إلى حظيرة الدين القويم. والتقى في منبلييه بثلاثة من مندوبي البابا - أرنلد Arnold وراؤلRaoul وبطرس الكاسلنوي Pictro of Castelnaw. وروع حين شهد ثيابهم الغالية وترفهم، وعزا هذا إلى ما أقرا به من عجز عن كفاح الضلالة ، وأخذ عن كفاح الضلالة، وأخذ يؤنبهم بجرأة لا تقل عن جرأة أنبياء العبرانيين: "إن الضالين لا يردون الناس عن دينهم ويضمونهم إليهم بما يظهرون من القوة والأبهة، ولا بموكب الخدم والحشم؛ وإنما يردونهم بالوعظ الحماسي، وبالخشوع المماثل لخشوع الحواريين، وبالتقشف، والاستمساك بالدين"(66) ويقال إن المندوبين استحوا من عملهم، فصرفوا حاشيتهم وخلعوا نعالهم. وأقام دمنيك في لانجويدك عشر سنين (1205 - 1216)، يعظ الناس بكل ما أوتي من غيرة وحماسة. ولم يذكر اسمه في حاث ذي صلة بالاضطهاد البدني إلا ما قيل من أنه أنجى أحد الضالين من اللهب عند عمود الإحراق(67). ويطلق عليه أتبتعه تفاخراً به اسم - persecutor Haere ticorum - وليس معنى هذا حتما أنه مضطهد الضالين بل قد يكون معناه أنه مطاردهم فحسب. وجمع حوله طائفة من الوعاظ، بلغ من تأثيرهم أن اعترف البابا هونوريوس الثالث (1216) بأن "الإخوان الوعاظ" طائفة جديدة، وصدق على دستورهم الذي وضعه لهم دمنيك، واتخذ الرجل مركزه الرئيسي في روما، وأخذ يجمع الأنصار ويعلمهم ، ويبث فيهم الحماسة التي كادت تبلغ حد التعصب، ثم بعثهم يجوسون خلال أوربا حتى كيف Kiev من جهة الشرق، والبلاد الأجنبية، ليهدوا المسيحيين والكفار إلى دين المسيح. ولما عقد أول اجتماع للدمنيكيين في بولونيا عام 1220؛ أقنع دمنيك أتباعه بأن يوافقوا بأجماع الآراء على دستور الفقر المطلق.. ومات في هذه البلدة بعد عام من ذلك الاجتماع. وانتشر الدمنيكيون، كما انتشر الفرنسيسيون، كل مكان فكانوا إخواناً، متسولين، جوالين. ويصف مايثوياريس في عام 1240 طائفتهم في إنجلترا بقوله: إنهم قوم شديدو الاقتصاد في طعامهم ولباسهم، لا يقتنون ذهباً ولا فضة ولا شيئاً ما لأنفسهم، يطوفون بالمدن، والبلدان، والقرى، يدعون إلى الإنجيل... ويعيشون جماعات من عشرة أو سبعة... لا يفكرون في الغد، ولا يحتفظون بشي ما للصباح التالي... يعطون الفقراء من فورهم كل ما بقى لديهم من الطعام الذي يتصدق بها الناس عليهم. يسيرون حفاة، ولا يحتفظون إلا بالإنجيل، وينامون بثيابهم على الحصر ويتخذون الحجارة وسائد يضعونها تحت رؤوسهم(68).

واضطلعوا في أعمال محاكم التحقيق بدور نشيط لم يكن على الدوام مشوباً برقة القلب، وعينهم البابوات في مناصب رفيعة وأرسلوهم في بعثات دبلوماسية خطيرة، والتحقوا بالجامعات، ونبغ منهم رجلان جباران في الفلسفة المدرسية هما ألبرتس ماجنس وتومس أكويناس، وكانوا هم الذين أنقذوا الكنيسة من أرسطو بأن بدلوه رجلا مسيحياً. ولقد أحدثوا هم والفرنسيسيون، وإخوان الكرمل وأوستن ثورة في حياة الرهبنة، وذلك باختلاطهم بعامة الشعب كل يوم في أثناء الخدمات الدينية، وسموا الرهبنة في القرن الثالث عشر فوهبوها من القوة والجمال ما لم تستمتع بمثله قبل.

وإن النظرة الشاملة إلى تاريخ الرهبنة لا تؤيد إسراف علماء الأخلاق في مدحها ولا سخرية شانئها. وفي وسعنا أن بذكر أمثلة جمة من سوء السيرة بين الرهبان وهذه الأمثلة إنما تلفت أنظارنا لأنها الشواذ وليست القاعدة، وهل منا من بلغ من الطهر والصلاح درجة يحق له معها أن يتطلب من أية طائفة من الناس حياة تقية لا تشوبها أدنى شائبة؟ ولقد نجا الرهبان الذين بقوا مخلصين لأيمانهم- أي الذين عاشوا مغمورين في فقرهم، وعفتهم وتقواهم - نجا هؤلاء من الغيبة، ومن التاريخ، ذلك أن الفضيلة لا تنقل أخبارها، وأن القراء والمؤرخين يملون تكرارها. فنحن نسمع "صروح شامخة يملكها الرهبان الفرنسيسيون منذ عام 1249 ، وفي عام 1271 أبلغ روجر بيكن - الذي طالما تفرق سامعوه من حوله لشدة مغالاته - أبلغ هذا الراهب البابا أن " الطوائف الحديثة قد سقطت سقوطاً مروعاً من علياء كرامتها الأولى "(69). ولكن هذه ليست هي الصورة التي يصورها لنا الأخ سلمبين Salimbene في أخباره الصريحة الدقيقة (1288؟) فها هو ذا راهب فرنسيسي بتنقل بنا إلى ما وراء السجف إلى الحياة اليومية للطائفة التي ينتمي إليها. ولسنا ننكر أن في حياة أفرادها هفوات متفرقة، وأن فيها شيئاً من التنازع والتحاسد، ولكن جو من التواضع، والبساطة، والأخوة، والسلام يغمر هذه الحياة الشاقة المكبوتة(70). وإذا ما دخلت بين الفينة والفينة امرأة في هذه القصة، فكل ما لها فيها من أثر أنها تضفي مسحة من الرشاقة والحنان على حياة العزلة والضيق التي يحياها أولئك الرهبان. وها هو ذا مثل من ثرثرة الأخ سلمبين الصريحة.

كان في دير بولونيا شاب يسمى الأخ جويدو Guido اعتاد أن يغط في نومه غطيطاً عاليا لا يستطيع معه إنسان يبقى معه في نفس البيت ولهذا أمر أن ينام في سقيفة من الخشب والقش. ولكن هذا أيضا لم ينج منه الإخوان، لأن هزيم هذا الرعد الملعون كان يتردد صداه في جميع اتجاه الدير. ولهذا اجتمع القساوسة وذوو الرأي من الإخوان على بكرة أبيهم... وأصدروا رسمياً أن يردوه إلى أمه التي خدعت الطائفة، لأنها كانت تعرف هذا كله عن ولدها فبل أن تضمه إلينا. ولكنه مع ذلك لم يرسل إلى أمه، وكان عدم إرسال بفعل الله ... ذلك أن الأخ نقولاس قال في نفسه: إن الغلام سيطرد لعيب طبيعي فيه، دون أن يرتكب هو نفسه ذنباً، فكان يدعو الصبي في كل يوم عند مطلع الفجر أن يأتي إليه ويخدمه في ساعة القداس، حتى إذا فرغ منه أمر الغلام أن يركع وراء المذبح يرجو أن ينال منه بعض البركة. وفي هذه الساعة يلمس الأخ نقولاس بيديه وجه الغلام وأنفه، ويدعو اللّه أن يمن عليه بنعمة الصحة. وجملة القول أن الغلام شفى فجأة من مرضه شفاء تاماً، ولم يسبب للإخوان بعدئذ متاعب أخرى. وأصبح من هذه الساعة ينام نوماً هادئاً سالما كما تنام الرغبة .


الفصل الخامس: الراهبات

كانت العادات المسيحية المألوفة في المجتمعات المسيحية منذ أيام القديس بولس أن تهب بعض الأرامل وغيرهن من النساء الصالحات، أو اللاتي يعشن وحدهن، بعض أيامهن وثروتهن أو كل هذه الأيام والثروة إلى أعمال البر. ثم أخذت بعض النساء في القرن الرابع ينافسن الرهبان، فتركن شئون الدنيا وعشن عيشة دينية منفردات أو مجتمعات، ونذرن أنفسهن للفقر، والطهر، والطاعة، حتى إذا كان عام 530 أنشات أسكولاستيكا Scholastica توأمة القديس بندكت ديراً للنساء بالقرب من جبل كسينو Monte Cassino يسير على دستوره وتحت إشرافه، وأخذت أديرة النساء البندكتية من ذلك الحين تنتشر في أوربا، حتى كان عدد الراهبات البندكيات يضارع عدد الرهبان البندكتين. وافتتحت طائفة الرهبان السترسين أول دير للنساء في عام 1125، ثم افتتحت أشهر أديرتها وهودير بورت رويال Port Royal في عام 1204، ولم يحل عام 1300 حتى كان في أوربا 400 دير سترسي للنساء(72). وكانت معظم الراهبات اللاتي دخلن أديرة هذه الطوائف القديمة من الطبقات العليا(73)، وكثيراً ما كانت الأديرة ملاجئ للنساء اللاتي تضيق بهن بيوت أهلهن او اللاتي لم يكن يوائمهن أذواق هؤلاء الأهلين. ومن اجل هذا اضطر الإمبراطور مجوريان Majorian أن يحرم على الآباء التخلص من بناتهم الزائدات عن حاجتهم بإرغامهن على دخول الأديرة(74). وكان دخول أديرة النساء البندكتية يتطلب عادة بائنة، وان كانت الكنيسة قد حرمت جميع الهبات إلا الاختيارية منها(75). ولهذا كان في وسع رئيسة الدير أن تكون، كما كنت الرئيسة الوارد ذكرها في أشعار سر Chaucer، امرأة من أسرة عريقة، ذات تبعات كثيرة، تدير أملاكاً واسعة هي مصدر إيراد ديرها. وكانت الراهبات في تلك الأيام تسمى "السيدة" لا "الأخت".

وأحدث القديس فرانسس انقلاباً كبيراً في نظم أديرة النساء كما احدث انقلاباً في نظم أديرة الرجال، ولما أن أقبلت عليه القديسة كلارا Clara في عام 1212 وأبدت إليه رغبتها في أن تنشا للنساء طائفة من الراهبات كالتي أنساها هو للرجال، تغاضى عن النظم الكنيسة، وتلقى منها إيمانها، وإن لم يكن وقتئذ أكثر من شماس، وضمها إلى طائفة الرهبان الفرنسيسين وإذن لها أن تنشئ طائفة الكلاريات الفقيرات The poor Clares، وأيد إنوسنت الثالث، بما اعتاده من قدرة على خرق حرفية القوانين في سبيل روحها، هذا الإذن (1216). وجمعت القديسة كلارا حولها بعض النساء الصالحات اللاتي عشن معها عيشة فقيرة مشتركة، يغزلن وينسجن، ويعنين بالمرضى، ويوزعن الصدقات. ونسجت حولها القصص الخرافية التي لا تكاد تقل في تمجيدها عما نسج حول فرانسس نفسه، منها، على حد قولهم أحد الباباوات:

جاء إلى ديرها ليستمع إلى حديثها عن الأمور القدسية والسماوية ... وأمرت القديسة كلارا بأن تعد المائدة ، ووضعت عليها أرغفة الخبز لكي يباركها الأب المقدس ... وركعت القديسة كلارا في خشوح عظيم، وسألته ان يتفضل فيبارك الخبز ... فأجابها الأب المقدس بقوله:" أيتها الأخت ياكلير Clare، يا أعظم النساء وفاءاً وإخلاصاً، إني أحب أن تباركي أنت هذا الخبز، وأن ترسمي فوقه علامة الصليب المقدس، صليب المسيح، الذي وهبت نفسك كاملة إليه". فأجابته القديسة كلارا بقولها: "مغفرة أيها الأب المقدس، لو أنني، وأنا المرأة الفقيرة الحقيرة، بلغت بي الجرأة أن أنطق بهذه البركة في حضرة خليفة المسيح لحق علي أشد اللوم". ورد عليها البابا قائلاً: "ولكيلا يعزى هذا العمل إلى غطرستك وجرأتك بل يعزى إلى فضيلة الطاعة منك، فإني آمرك، بحق ما يجب عليك من الطاعة المقدسة، أن تباركي .. أنت باسم الله هذا الخبز"، فلم تجد القديسة كلارا وقتئذ مناصاً من أن تبارك الخبز في الخشوع بعلامة الصليب الأقدس عملاً بواجب الطاعة المفروضة عليها. ومن أعجب الأشياء أن علامة الصليب ظهرت على جميع تلك الأرغفة مرسومة أجمل رسم. فلما رأى الأب المقدس هذه المعجزة، طعم من الخبز وغادر المكان وهو يحمد الله ويودع بركته مع القديسة كلارا(76).

وماتت كلارا في عام 1253، وما لبثت أن ضمت إلى القديسين والقديسات. ونظم الرهبان الفرنسيسيون في عدة أماكن مختلفة مثل هذه الطوائف الكلارسية، أو طوائف كلارا الفقيرة. وكذلك أنشأت طوائف الرهبان المتسولين - الدمنيكية، والأوغسطينية، والكرملية - طائفة ثانية من الراهبات، ولم يحل عام 1300 حتى كان عدد الراهبات في أوربا لا يقل عن عدد الرهبان. ونزعت أديرة الراهبات في ألمانيا نزعة صوفية شديدة، وفي فرنسا وإنجلترا كثيراً ما كانت ملاجئ لنساء الأسر الشريفة اللاتي "هدين" لترك شئون الدنيا، أو اللاتي أصابهن الهجر، أو الخيبة، أو الثكل. ويكشف دستور الناكسات Nacren Rwle ما كان يطلب إلى الراهبات الإنجليزيات أن يتصفن به في القرن الثالث عشر. ولربما كان عدد الأسقف بور Poor هو الذي وضع هذا الدستور لدير نسائي في ترانت Tarrant من أعمال دورستشير Dorsetshire. ويخيم هذا الدستور جوا قاتم من الحديث الطويل عن الخطيئة والنار، وبعض الذم التجديفي لجسم المرأة(77). ولكن نغمة من الإخلاص الجميل تخفف من وقع هذا القتام، وهو من اقدم نماذج النثر الإنجليزية وأنبلها(78).

وبعد فإن من السهل على الإنسان أن يجمع من عشرة قرون أمثلة رائعة من الفساد الخلقي المألوف. فقد دخلت الراهبات الأديرة على الرغم منهن(79) ووجد أن متاعب حياة التقى والصلاح، ولقد رأى ثيودور رئيس أساقفة كنتربي وإجبرت أسقف يورك من الواجب عليهما أن يحرما على رؤساء الأديرة، والقساوسة، والأساقفة غواية الراهبات(80). وكتب إيفيو Ivo أسقف تشارتر (1035-1115) يقول إن بعض راهبات دير القديسة فارا Fara يحترفن الدعارة، ويرسم أبلارا (1079-1142) صورة شبيهة بهذه الصورة لبعض الأديرة الفرنسية القائمة في أيامه، ووصف إنوسنت الثالث دير أجاثا Agatha بأنه ماخور انتشرت عدوى فساد الحياة فيه وسوء سمعته في جميع أنحاء الإقليم المجاور له(81). ويرسم ريجو Rigaud أسقف رون (1249) صورة طيبة بوجه عام للطوائف الدينية المنتشرة في أسقفيته، ولكنه يتحدث عن دير من أديرة النساء فيه ثلاث وثلاثون راهبة وثلاث أخوات من غير الراهبات وجدت منهن ثمان يحترفن الفسق أو يشتبه في إنهن يحترفنه، "ولا تكاد رئيسة الدير تبتعد عن الخمر ليلة واحدة"(82). وحاول بنيفاس الثامن (1300) أن يرقى بقواعد الآداب التقليدية في الأديرة فأمر بالتشديد في عزلة الراهبات عن العالم، ولمن أمره هذا لم يكن في الإمكان تنفيذه(83)، ولما جاء الأسقف ليودع هذا القرار في أحد أديرة النساء في أسقفية لنكلن Lincolin قذفت الراهبات به رأسه، وأقسمن أنهن لن يطعنه قط(84)، أكبر الظن ان هذه العزلة لم تكن مما نص عليه في قسمهن، ولم يكن لرئيسة الدير الواردة في أقاصيص تشوسر عمل تقوم به لأن الكنيسة حرمت على الراهبات أن يخرجن حتى للحج(85).

ولو أن التاريخ كان يعنى بذكر أمثلة الطاعة للقواعد المألوفة عنايته بذكر الأمثلة التي تخرق فيها هذه القواعد، لاستطعنا في اغلب الظن أن نذكر في مقابل كل زلة آثمة ألف مثل من الإخلاص والأمانة. ولقد كانت دساتير الأديرة في كثير من الحالات قاسية قسوة تخرجها عن طاقة البشر، وكانت خليقة بالخروج عليها. من ذلك أنه يتطلب إلى الراهبات الكرثوزيات، والسترسيات إن يلتزمن الصمت فلا يتكلمن إلا إذا لم يكن من الكلام بد - وذلك قيد شديد على الجنس اللطيف. وكانت الراهبات في العادة يقمن بجميع ما يحتجنه من أعمال التنظيف، والطبخ، والغسل، والخياطة، ويصنعن الملابس للراهبات، والفقراء، والأغطية التيلية للمذبح، وأثواب القسس، وكن ينسجن السجف، والأقمشة التي تزين بها الجدران، وينقشن عليها بأصابعهن الرقيقة، ونفوسهن الصابرة، نصف تاريخ العالم. وكن ينسجن المخطوطات ويزينها بالرسوم والحروف الكبيرة ويقبلن الأطفال للإقامة في الدير، ويعلمنهم الأدب، وقانون الصحة، والفنون المنزلية، وكانت كثيرات منهن يعملن ممرضات في المستشفيات، وكن يقمن في منتصف الليل لصلين ثم مرة أخرى قبل الفجر، ويتلون الصلوات الأخرى في ساعاتها المحددة. وكانت أيام كثيرة أيام صوم، لا يذقن فيها الطعام حتى تحين وجبة المساء.

وإنا لنأمل أن تكون هذه القواعد الشديدة قد خرقت أحياناً. نحن إذا ما رجعنا بعقولنا إلى القرون التسعة عشر التي عاشتها المسيحية، وإلى من فيها من الأبطال، والملوك، والقديسين، صعب علينا أن نحصي كثيرين من الرجال الذين اقتربوا من الكمال المسيحي كما اقتربت منه الراهبات، وما أكثر الأجيال التي سعدت بفضل حياتهن التي تفيض بالخشوع الهادئ والعمل في ابتهاج لخدمة بني الإنسان. ولو أن آثام التاريخ جميعها وزنت أمام فضائل أولئك النساء لرجحتها هذه الفضائل ولكفرت عن كل ما اقترفه الجنس البشري من ذنوب.


الفصل السادس: المتصوفة

واستطاعت كثيرات من أولئك النساء أن تكن قديسات لأنهن أحسسن بالألوهية أقرب إليهن من أيديهن وأرجلهن. وقد تأثرت أخيلة الناس في العصور الوسطى بكل ما كان للألفاظ، والصور، والتماثيل، والحفلات، من قوة، بل تأثرت فوق هذا بلون الضوء ومقداره تأثراً جعل الرؤى غير الحسية تتوارد سراعاً على هذه الأخيلة، فكانت النفوس المؤمنة تحس أنها تخترق حدود الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة. وكان العقل البشري نفسه بكل ما له من سلطان غامض خفي يبدو كأنه شئ خارق للطبيعة، وللأشياء الأرضية، وقريب بلا ريب من العقل الكلي الذي يسير مادة العالم ويكمن فيها - أو أنه صورة من هذا العقل الكلي غير واضحة المعالم. وعلى هذا فأن في مقدور ذروة العقل أن تمس أسفل عرش اللّه. وكان الصوفي الخاشع المتذلل الطموح يتحرق أملا في أن تسمو روحه غير المثقلة بالذنوب، والتي علت بالصلوات، بفضل اللّه ونعمته إلى الرؤى الطوباوية والصحبة الالهية، ولم يكن من المستطاع بلوغ هذه الرؤى عن طريق الحس، أو العقل، أو العلم، أو الفلسفة المقيدة بالزمان، وبالكثرة، وبالأرض، ولا يستطيع أن تصل إلى لب الكون وقوته، ووحدته. وكانت المشكلة التي يواجهها الصوفي هي أن يطهر النفس التي هي عضو داخلي للإدراك الروحي، وإن يوسع أفقها وحبها حتى تشمل أقصى ما يمكن أن تشمله، فإذا تم لها ذلك رأت بقوة البصر الواضحة المجردة من الجسم معالم الكونية، والخلد، والألوهية، ثم عادت، وكأنها عادت من نفي طويل المدى، إلى الوحدة مع اللّه الذي افترقت منه حين ولدت عقاباً لها. ألم يعد المسيح ذوي القلوب الطاهرة أن يروا اللّه؟

ولهذا ظهر الصوفيون في كل عصر، وفي كل دين، وفي كل أرض، وامتلأت بهم المسيحية اليونانية رغم ما خلفته اليونان من تراث عقلي، وكان القديس أوغسطين ينبوع التصوف الذي نهل منه الغرب، وكانت اعترافاته بمثابة عودة الروح من الكائنات المخلوقة إلى اللّه. وقلما استطاع إنسان أن يطول تحدثه إلى الذات العلية كما طال تحدث أوغسطين إليها. وقد ناصر القديس أنسلم السياسي والقديس برنار المنظم، ذلك الاتصال الصوفي ليقاوم به النزعة العقلية التي كان يقول بها روسلن Roscelin وأبلار. ولما أخرج وليم الشمووي Wiliam of Champeaux من باريس بقوة منطق أبلار أنشأ في إحدى ضواحيها (1108) دير القديس فكتور St.Victor الأوغسطيني ليكون مدرسة للاهوات؛ وتجاهل خليفتاه هيو Hugh ورتشرد Richard خطر الفلسفة الناشئة الداهم، فلم يقيما قواعد الدين على الحجة والبرهان، بل أقاماها على الإحساس الصوفي بالحضرة الإلهية. فقد كان هيو (المتوفى عام 1141) يرى في كل صورة من صور الخلق رمزاً قدسياً، وكان رتشرد (المتوفى عام 1173). يرفض المنطق والعلم، ويؤثر "القلب" على "الرأس" على طريقة بسكال، ويصف بمنطق العالم القدير السمو الصوفي للروح إلى مقام الذات العلية. وأحالت عواطف إيطاليا القوية هذه النزعة الصوفية ثورة متأججة.وحدث أن تاقت نفس يواقيم الفلورائي Joachim of Flora - أو جيوفني دي يواقيمي دي فيوري Giovanni dei Joacchimi di Fiori - أحد نبلاء كلابريا Calabria إلى رؤية فلسطين، وتأثرت بما شاهده في طريقه من بؤس الناس، فصرف حاشيته، وواصل سيره كما يسير الحاج الذليل. وتقول إحدى القصص إنه قضى في سنة من السنين الصوم الكبير كله على جبل طابور، وأن هالة عظيمة تبدت له في يوم عيد القيامة، وملأته نوراً إليها فهم به لساعته كل ما جاء في الكتاب المقدس، وكل ما في المستقبل والماضي. فلما عاد إلى كلابريا أصبح راهبا وقسا سسترسيا.

وتاقت نفسه إلى الزهد والتقشف، وآوى إلى صومعة. التــّف حوله عدد من الأتباع والمريدين، وألف منهم طائفة جديدة من رهبان فلورا. وصدق سلستين الثالثCalesstine، 111 على ما وضعه لهم من دستور للفقر والصلاة. وبعث إلى إنوسنت في عام 1200 بطائفة من مؤلفاته قال إنه كتبها بوحي من اللّه، ولكنه رغم هذا يضعها بين البابا ليبحثها ويبدي رأيه فيها. ثم مات بعد سنتين من ذلك الوقت. وكان أساس كتابه هو النظرية الأوغسطينية - التي كانت تلقى قبولا عظيما لدى جميع المتمسكين بالدين القويم - بأن هناك توافقاً رمزياً بين الحوادث الواردة في العهد القديم وفي تاريخ العالم المسيحي من مولد المسيح إلى قيام مملكة السماء على الأرض. وقسم يواقيم تاريخ البشر ثلاث مراحل: كانت أولاها حكم اللّه الأب وانتهت بمولد المسيح، والثانية يحكمها الابن وتستمر وفقاً للحساب السري 1260 سنة، والثالثة تحت حكم الروح القدس، ويسبقها عهد من الاضطراب، والحرب، والفقر، ولساد الكنيسة، ويؤذن بحلولها قيام طائفة جديدة من الرهبان تطهر الكنيسة وتحقق طوبى عالمية من السلام والعدالة والسعادة(86).

وصدق آلاف من المسيحيين، ومنهم رجال ذوو مناصب عالية في الكنيسة، ما قاله يواقيم عن الوحي الذي أوحى إليه، وأخذوا يتطلعون والأمل يعمر قلوبهم إلى الميلاد الثاني في عام 1260 . وبعثت تعاليم يواقيم الشجاعة في قلوب الفرنسيسين الروحيين الذين كانوا يوقنون بأنهم هم الطائفة الجديدة؛ ولما أن أعلنت الكنيسة أنهم خارجون على القانون واصلوا دعوتهم بما أذاعوه من الكتابات التي تحمل اسمه. وظهرت في عام 1254 مجموعة من أهم مؤلفات يواقيم بعنوان الإنجيل الخالد وعليه تعليق يقول: إن بابا من البابوات ملوثا ببيع المناصب الكهنوتية سيكون خاتم العهد الثاني، وإن الحاجة إلى العشاء الرباني وإلى القساوسة تنتهي في العهد الثالث حين يسود الحب العالمي. وحرمت الكنيسة قراءة هذا الكتاب ، وحكم على راهب فرانسيسي يدعى جراردو دا بورجا Gherardo da Borga ظن أنه هو مؤلفه بالسجن مدى الحياة، ولكن الكتاب ظل يتداول سرا، وكان له أثر بالغ في التفكير الصوفي وفي تفكير الطوائف الضالة في إيطاليا وفرنسا من أيام فرانسس إلى أيام دانتي - الذي جعل ليواقيم مكاناً في الجنة.

تأججت حول بروصة في عام 1259 سورة جنونية من الندم والتوبة من الذنوب واكتسحت شمالي إيطاليا، ولعل الباعث عليها كان هو التحمس للشديد في ترقب حلول مملكة السماء. وأخذ آلاف من القادمين من مختلف الطبقات والأعمار يسيرون في مواكب غير منتظمة وليس عليهم من الثياب إلا ما يستر حقويهم، يبكون ويرجون اللّه الرحمة، ويضربون أنفسهم بسياط من الجلد. وانضم إلى هذه المواكب اللصوص والمرابون وردوا ما كسبوا من المال الحرام، متأثرين بعدوى الندم، فكانوا يركعون أمام أقارب ضحاياهم ويطلبون إليهم أن يقتلوهم، وأطلق سراح المسجونين، وطلب إلى المنفيين أن يعودوا إلى أوطانهم، وزالت العداوات بين الناس وصفت القلوب. وسرت هذه الحركة من ألمانيا إلى بوهيميا، ودخيل إلى الناس وقتاً ما أن إيماناً جديداً صوفياً سيغمر أوربا بأجمعها متجاهلا الكنيسة ولكن فطرة الإنسان ما لبثت أن استعادت قوتها، فتأججت نار العداوة بين الناس مرة أخرى، وخبت نار تلك الثورة الجنونية، ثورة الجلد بالسياط واختفت في الأعماق النفسية التي خرجت منها(87).

وفي فلاندرز سارت حركة التصوف سيراً هادئاً متصلا. ذلك أن قساً من ليبج يدعى لامبير لي بيج Lambert le Beuge (أي المتهتة) أنشأ على ضفاف نهر الموز Meuse في عام 1184 بيتاً للنساء اللاتي يردن أن يعشن معاً في جماعة صغيرة نصف شيوعية، دون أن يقسمن أيمان الرهبة، ويعلن أنفسهن بنسج الصوف وعمل المحزمات. وأنشئت للرجال طائفة أخرى من بيوت اللّه مماثلة لهذا البيت، وأطلق الرجال على أنفسهم اسم "البيجارد" (Beghard) أي الرجال المتهتهين وعلى النساء اسم البجوين (أي المتهتهات). وكانت هذه الجماعات تندد بالكنيسة، كما يندد بها الولدنيون، لاقتنائها الأملاك، وسلكوا هم أنفسهم سبيل الفقر الاختياري. وظهرت في أجزبرج عام 2262 شيعة أخرى هي شيعة إخوان الروح الحر وثبتت أصولها في المدن القائمة على ضفاف نهر الراين. وكانت كلتا الحركتين تدعى أنها تتلقى الوحي الصوفي الذي يعفيها من سيطرة الكهنوت، بل يعفيها فوق ذلك من سيطرة الدولة والقانون الأخلاقي(88). وتضافرت الدولة والكنيسة على قمع الحركتين، فاندفعتا إلى العمل في الخفاء، وكانتا تظهران للعمل جهرة عدة مرات بأسماء جديدة، وكانتا من أسباب نشأة شيعة المنكرين للتعميد وغيرها من الشبع المتطرقة التي ظهرت في أيام الإصلاح الديني وممن بعثوا روح الحماسة في هذه الشيع. وصارت ألمانيا أرض التصوف المحبوبة في بلاد الغرب، ففيها عاشت هلدجارد البنجنبه Hildegarde of Bingen (1099-1179) "سيبيلة الرين" The Sibyle of the Rhine كل حياتها البالغة اثنين وثمانين عاما، عدا عامين اثنين، راهبة بندكتية، واختتمتها رئيسة دير للنساء على روبرتسبرج Rupertsburg. وكانت مزيجاً غير مألوفة من حسن الإدارة والرؤى الخيالية، تقية ومتطرقة، شاعرة وعالمة، طبيبة وقديسة، وكانت تراسل البابوات والملوك، تكتب إليهم دائماً بنغمة صاحبة السلطان الملهم، في لغة لاتينية رصينة قوية قوة لغة الرجال. وقد نشرت عدة كتب في الرؤى الدينية (Scivias) ادعت فيها معاونة الذات العلية، وكان رجال الدين يغضبون حين يستمعون إليها لأن حديثها الملهم كان نقداً لاذعا لثراء الكنيسة وفسادها. قالت هلدجارد بعبارات تفيض بالآمال الخالدة.

إن للعدالة الإلهية ساعتها المحدودة... وإن أحكام اللّه لتوشك أن تنفذ؛ وستنهار الإمبراطورية والبابوية معاً بعد أن تترديا في هوة الإلحاد... ولكن أمة جديدة ستقوم على أنقاضهما.. وستضم الوثنيين، واليهود، وعباد الدنيا؛ والكفرة جميعاً، وسيسود العالم ربيع الدهر والسلام بعد مولده الجديد، ويعود الملائكة وهم واثقون إلى السكنى بين الآدميين(89).

وبعد مائة عام من ذلك الوقت أثارت إليصابات النورنجائية (1208-1231) بلاد المجر بحياتها القصيرة التي قضتها زاهدة متبتلة. وإليصابات هذه ابنة الملك اندرو Andrew وقد تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها بأمير ألماني، وكانت أُماً في الرابعة عشرة، أرملة في سن العشرين. ونهب أخو زوجها مالها وطردها في فقر مدقع، فلجأت إلى حياة الورع والتجوال، ووهبت حياتها للفقراء، وكانت تؤوي النساء المصابات بالجذام، وتغسل جروحهن. وكانت وهي الأخرى تتراءى لها رؤى سماوية، ولكنها لم تكن تذيعها، ولم تدع لنفسها أية قوة خارقة ولما التقت بكنراد الماربرجى Canrad of Marburge عضو محاكم التحقيق الشرس افتتنت افتتاناً وبيلاً بقسوته في إخلاصه للدين، فأضحت جاريته المطيعة، يضربها إذا حادت قيد شعرة عما يعتقد انه الصلاح التقي، فكانت تخضع له خضوع الأذلاء، وتفرض على نفسها ضروباً شديدة من التقشف عجلت منيتها ولما تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها(90). وبلغ من اشتهارها بالتقوى أن من كانوا يسيرون في جنازتها من اتباعها المخلصين الذين كادت تذهب النشوة بعقولهم قصوا شعر رأسها، وقطعوا أذنيها، وحلمتي ثديها ليتخذوها مخلفات مقدسة(91). ودخلت إليصابات أخرى الدير النسائي البندكتي في شنو Schnou القريبة من بنجن وهي في الثانية عشر من عمرها(1141)، وعاشت فيه حتى توفيت في عام 1163. وكان ضعفها الجسمي، وإسرافها في زهدها يسببان لها نوبات من الإغماء،تتلقى فيها إلهاماً من مختلف الأولياء المتوفين، كلها تقريباً من المعادين للكنيسة. ومما قاله لها ملكها الحارس "إن كرامة الله قد ذبلت، وإن رئيس الكنيسة لمريض، وإن أعضائها لأموات... أي ملوك الأرض ! إن ظلمكم الصارخ قد ارتفع دويه حتى وصل إلى أنا نفسي"(92).

وعلت موجة التصوف أواخر ذلك العهد في ألمانيا، وكان من متصوفيها ميستر إكهارت Meister Eckhart الذي وُلد حوالي علم 1260، والذي نضجت آراؤه الصوفية 1326، والذي حوكم وتوفي عام 1327.وواصل تلميذاه سوسو Suso وتولر Tauler دعوته إلى وحدة الوجود الصوفية، وكانت هذه التقاليد، تقاليد التقوى غير الكنيسة، أحد الينابيع التي فاضت منها حركة الإصلاح الديني.

وكانت الكنيسة في العادة تحمل هؤلاء المتصوفين وتقبلهم في كنفها. نعم إنها لم تكن تسمح بان يخرج أحد خروجاً خطيراً عن قواعدها الرسمية، أو تجيز الفردية الفوضوية التي تدعو إليها بعض الشيع الدينية، ولكنها كانت ترضى عن قول الصوفية إنهم يتصلون اتصالاً مباشراً بالله عز وجل وتستمع في غير غضب إلى تنديد الأولياء بأخطائها الآدمية. وكان كثيرون من رجال الدين، ومنهم ذوو المناصب العالية في الكنيسة، يعطفون على ناقديهم، ويعترفون بما في الكنيسة من عيوب، ويتمنون أن لو استطاعوا هم أيضاً أن يتخلوا عن الأدوات والأعمال التي يضطلعون بها في الشؤون السياسية الدنيوية وما فيها من أدران تلوثهم، ويستمتعوا بما في الأديرة من طمأنينة وسلام، يطمعون من تقوى الشعب، ويحميهم سلطان الكنيسة. ولعل الصابرين من رجال الكنيسة هم الذين ثبتوا قواعد الدين المسيحي بين زعازع الإلهام الجنوني التي كانت تهدد العقول في العصور الوسطى بأشد الأخطار من حين إلى حين. وكلما أمعنا في دراسة أقوال متصوفة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، لاح لنا أن الاستمساك بأصول الدين القويم كثيراً ما كان هو الواقي من انتشار الخرافات المعدية وأن الكنيسة من إحدى النواحي عقيدة - كما كانت الدولة قوة - أخرجت من الفوضى نظاماً ليحافظ على سلامة عقول الناس.


الفصل السابع: البابا المنكود

لما ارتقى جريجوري الثاني عرش البابوية في عام 1271 كانت الكنيسة مرة أخرى في عنفوان قوتها. ولم يكن جريجوري بابا فحسب، بل كان إلى هذا مسيحياً متمسكاً بآداب المسيحية. كان رجل سلام ومحبة، ينشد العدالة لا النصر. وكان يأمل أن يسترد فلسطين بجهد واحد جامح، فأقنع البندقية، وجنوى، وبولونيا بأن تضع حداً للحروب القائمة بينها، وعمل على أن يختار رودلف هيسبرج Rudolf of Hapsburg إمبراطوراً، ولكنه خفف بلطفه ورقته غضب المهزومين من المطالبين بالعرش، ووفق بين طائفتي الجلف Guelf والجبلينGhibeline في فلورنس وسيينا المنقسمتين على نفسيهما، وقال لمؤيدين من الجلف "إن أعدائكم جبلينيون ولكنهم مع ذلك رجال، ومواطنون، ومسيحيون"(93). ودعا أحبار الكنيسة إلى مجلس يعقد في ليون (1274)، وجاءه في عام 1570 زعماء الكنيسة وأرسلت كل دولة عظمى ممثلاً لها، وبعث إمبراطور الروم برؤساء الكنيسة اليونانية ليؤكد من جديد خضوعها للكرسي البابوي في روما وأنشد رجال الدين اللاتين واليونان معاً نشيد الفرح والغبطة. ودعا الأساقفة أن يتقدموا بما في الكنيسة من عيوب تحتاج إلى الإصلاح، فلبوا الدعوة في صراحة منقطعة النظير(94)، وسنت القوانين التي أريد بها تخفيف حدة هذه الشرور واتحدت أوربا كلها اتحاداً رائعاً لتقوم بمجهود ضد المسلمين. ولكن جريجوري مات وهو عائد إلى روما (1276) وشغلت السياسة الإيطالية خلفاءه فلم يستطيعوا تنفيذ ما وضعه من خطط.

ومه هذا فإنه لما أختير بنيفاس الثامن بابا في عام 1294 كانت البابوية لا تزال أقوى الحكومات الأوربية، وأحسنها تنظيماً، وخيرها إدارة، وأنماها موارد. وكان من سوء حظ الكنيسة، في هذا الوقت العصيب الذي أوشك أن يختم به قرن من القوة والتقدم، أن جلس على أقوى العروش في العالم المسيحي رجل كان له من فساد الخلق، والغطرسة الشخصية والحرص على السلطان حرصاُ خالياً من الكياسة، بقدر ما كان له من حب الكنيسة، وإخلاص في المقصد. ولم يكن هذا الرجل خلوا من الفضائل الفاتنة: فقد كان محباً للعلوم، يضارع إنوسنت الثالث في تجاربه القانونية، وثقافته الواسعة، أنشأ جامعة روما، وأعاد مكتبة الفاتيكان ووسع نطاقها، وعين جيتو Giotto وأرنلفودي كمبيو Arnolfo di Cambio في مناصب عالية، وساعد بما له على إنشاء واجهة كنيسة أرفيتو Orviieto الرائعة المدهشة.

وكان قد مهد السبيل لتسلمه عرش البابوية بأن أقنع سلسلتين الخامس Celestine الورع العاجز أن ينزل عن العرش بعد أن جلس عليه خمسة أشهر - وكان هذا عملاً لم يسبق له مثيل من قبل. وأحاط بنيفاس من بادئ الأمر بالبغض منذ البداية. وأراد أن يحبط كل ماعساه أن يدبر من خطط لإعادة سلستين، فأمر بأن يحتجز هذا الشيخ البالغ من السن ثمانين عاماً في روما، ولما فر سلستين، قبض عليه، ثم فر مرة ثانية، وقضى عدة أسابيع يجول في أنحاء أبوليا، حتى وصل إلى البحر الأدرياوي، وحاول أن يعبره إلى دمياط، ولمن القارب الذي كان يركبه تحطم به، وقذفه البحر إلى إيطاليا وجيء به أمام بنيفاس، وحكم عليه البابا بالسجن في حجرة ضيقة في فرنتينو Frintinoe ، ومات بها بعد عشرة شهور من بداية سجنه (1296)(95).

وكان مما زاد طبع البابا الجديد حدة أصيب بسلسلة متتابعة الحلقات من الهزائم الدبلوماسية والانتصارات الكثيرة الأكلاف. فقد حاول أن يثني فردريك صاحب أرغونة عن قبول عرش صقلية، ولما أصر فردريك على قبوله حرمة بنيفاس، وأصدر قرار التحريم على الجزيرة(1296). ولم يبال الملك ولا الشعب بهذا العقاب(96) واضطر بنيفاس في آخر الأمر أن يعترف بفردريك. وأعد العدة لحرب صليبية بان أمر البندقية وجنوى بعقد هدنة، ولكنهما رفضتا توسطه في الصلح وواصلتا الحرب ثلاث سنين أخرى، ولما عجز عن أن يقيم في فلورنس نظاماً يوافق مصالحه أصدر قراراً بحرمان المدينة، ودعا شارل صاحب فالوا أن يدخل إيطاليا ويهدئها (1100). ولم يفلح شارل إلا في كسب حقد الفلورنسيين عليه وعلى البابا. وأراد بنيفاس أن يبسط رأيه السلم في ولاياته البابوية فحاول أن يفض النزاع القائم بين أعضاء أسرة كولنا Colonna القوية، ولكن بيتر Pietro وجاكوبو Jacobo، وكلاهما كردينال، رفضاً عروضه ففصلهما، وحرمهما من الدين(1297)، فما كان من الكردينالين المتمردين إلا أن علقا على أبواب الكنائس الرومانية، ووضعا على مذبح القديس بطرس، منشوراً يطلبان فيه إلى البابا أن يدعو مجلساً كنسياً عاماً. وكرر بنيفاس قرار الحرمان؛ وضم فيه إليهما خمسة آخرين من الخارجين عليه، وأمر بمصادرة أملاكهما، وغزا أملاك أسره كولنا بالجيوش البابوية، واستولى على حصونها، ودك أبنية بالستينا Palestina، وأمر بنثر الملح فوق خرباتها. واستسلم العصاة، وعفا عنهم، ثم ثاروا مرة أخرى وهزمتهم جيوش البابا للمرة الثانية، وفروا من الولايات البابوية، وأخذوا يدبرون خطط الانتقام.

وبينما كان بنيفاس يلاقي هذه المحن في إيطاليا إذ واجهته على حين غفلة أزمة شديدة في فرنسا. فقد اعتزم فليب الرابع أن يوحد مملكته، فاستولى على ولاية غسقونية الإنجليزية، وأعلن إدوارد الأول عليه الحرب (1294)، وأراد كلا الملكين أن يجمع المال الذي يستعين به على قتال عدوه، فقررا أن يفرضا الضرائب على أملاك الكنيسة ورجالها. وكان البابوات قد أذنوا بفرض هذه الضرائب للاستعانة بها في الحروب الصليبية، ولكنهم لم يأذنوا قط لإنفاقها في حرب زمنية خالصة. كذلك كان رجال الدين الفرنسيون قد اعترفوا بأن من واجبهم أن يشتركوا بالمال في الدفاع عن الدولة التي تحمي أملاكهم، ولكنهم كانوا يخشون أنه أطلق حق الدواة في فرض الضرائب من كل قيد، أصبح ذلك قوة في يدها تستخدمه للهدم. وكان فليب قد أضعف مكانة من قبل رجال الدين في فرنسا، فقد أخرجهم من المحاكم الإقطاعية والملكية، ومن مناصبهم القديمة في الإدارة الحكومية وفي مجلس الملك. وأزعج هذا الاتجاه الرهبان السسترسيين فمنعوا عن فليب خمس إيرادهم الذي طلبه ليستعين به في حرب إنجلترا، وبعث رئيس الجماعة يستنجد بالبابا. وكان لا بد لبنيفاس أن يسير بحذر لأن فرنسا كانت من زمن بعيد أقوى عماد للبابوية في كفاحها مع ألمانيا والإمبراطورية، ولكنه أحس بأن الأساس الاقتصادي لسلطان الكنيسة وحريتها لن يلبث أن ينهار إذ ما انتزع منها إيرادها بفرض ضرائب من قبل الدولة على أملاك الكنيسة دون موافقة البابا. ولهذا أصدر في شهر فبراير من عام 1296 مرسوماً بابويا يعد من أشهر ما أصدره البابوات من مراسيم في التاريخ الكنسي كله، وسمى هذا المرسوم بالكلمتين الأولين منه Clericis laicos ، وكانت جملته الأولى إترافاً غير حكيم، وكانت نغمته تذكر قارئه بصواعق جريجوري السابع:

يقول الأقدمون إن العلمانيين شديدو العداء لرجال الدين، وتجاربنا لا تترك مجالا للشك في صدق هذا القول في الوقت الحاضر... وإنا لنقرر بعد استشارة إخواننا، وبمقتضى سلطتنا الرسولية أنه إذا أدى من رجال الدين ... بغير إذن من البابا، عرض نفسه للحرمان من الدين...ونقرر أيضاً أن كل إنسان أياً كانت سلطته أو مرتبته يطلب هذه الضرائب أو يتسلمها، أو يغتصب أملاك الكنائس أو رجال الدين، أو يتسبب في اغتصابها... يتعرض بذلك للحرمان(97).

أما فيليب فكان قوى الاعتقاد بأن ما للكنيسة في فرنسا من ثروة عظيمة يجب أن تتحمل نصيبها في نفقات الدولة، ولهذا عارض مرسوم البابا بأن حرم تصدير الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والطعام، وبأن حرم التجار أو المبعوثين الأجانب البقاء في فرنسا. وحالت هذه الإجراءات دون وصول المال إلى البابوية من أهم مصادر إيرادها، وأخرجت من فرنسا عمال البابا الذين كانوا يجمعون المال لحرب صليبية في الشرق. ولهذا نكص بنيفاس في مرسومه Ineffabirlis Amor (سبتمبر عام 1296)، ووافق على تبرع رجال الدين بالمال مختارين سبيل الدفاع الضروري عن الدولة، واعترف بحق الملك في أن يقرر هو هذه الضرورة. وألغى فيليب أوامره الانتقامية، وارتضى هو وإدوارد أن يكون بنيفاس - لا بوصفه بابا، بل بوصفه شخصاً عادياً - حكما في النزاع القائم بينهما. وحكم بنيفاس لصالح فيليب في معظم أوجه النزاع، وخضعت إنجلترا لحكمه إلى حين، واستمتع المحاربون الثلاثة بفترة قصيرة من السلم.

وقرر بنيفاس أن تكون سنة 1300 سنة عيد، ولعله أراد بذلك أن يملأ الخزانة البابوية، بعد أن نقضت إيراداتها من إنجلترا وفرنسا، أو لعله أراد أن يجمع المال اللازم لحرب يستعيد بها صقالبة بوصفها إقطاعية بابوية، ولحرب أخرى يوسع بها الولايات البابوية حتى تشمل تسكانيا(98). ونجح في هذه الخطة نجاحاً تاماً، فلم تشهد روما من قبل جموعاً كالتي شهدتها في ذلك الوقت. وفرضت حينئذ، ولعلها فرضت للمرة الأولى، قواعد المرور للإشراف على حركات الناس(99). وأحسن بنيفاس ومساعدوه إدارة شئون المدينة فجلبوا إليها الطعام موفورا وبيع فيها بأثمان معتدلة تحت إشراف البابا ورجاله. وكان من المزايا التي استمتع بها البابا أن الأموال الكثيرة التي جمعت بهذه الطريقة لم تكن مخصصة لغرض بالذات، بل كان وسعه أن يستخدمها كما يشاء. وبلغ بنيفاس وقتئذ ذروة مجده رغم ما ناله من أنصاف الانتصارات وما أحاق به من الهزائم المنكرة.

لكن المنفيين من آل كولنا كانوا في هذا الوقت عينه يسلون فليب بقصص عن شره البابا وظلمه، وضلالاته الشخصية الخفية. ثم حدث نزاع بين أعوام فليب وبرنارد سيسر Birnard Saissir المندوب البابوي. وقبض على المندوب لاتهامه بأنه يحرض على الفتنة، وقدم للمحكمة الملكية، وأدين، ووضع نحت حراسة رئيس أساقفة نربونة (1301). وارتاع بنيفاس للسرعة التي حوكم بها مندوبه، فطلب أن يطلق سراح سيسر على الفور، وأمر رجال الدين الفرنسيين أن يمتنعوا عن تسليم الإيرادات الكنسية للدولة، ثم طلب إلى فيلب في مرسومه المسمى "استمع يا ولدي" Ausculta fili (ديسمبر سنة 1301) أن يستمع في خشوع إلى خليفة المسيح يوصفه الملك الروحي على جميع ملوك الأرض، واحتج على محاكمة رجل من رجال الدين أمام محكمة مدنية، وعلى الاستمرار في استخدام أموال الكنيسة في الأغراض غير الدينية، وأعلن أنه سيدعو أساقفة ورؤساء الأديرة في فرنسا ليتخذوا الإجراءات "الكفيلة بالمحافظة على حريات الكنيسة وبإصلاح المملكة وتقويم الملك"(100). وحينما عرض المرسوم على فليب، اختطفه كونت أرتوا Artois من يدي رسول البابا وألقاه في النار، وصودرت نسخة منه كانت معدة لأن ينشرها رجال الدين الفرنسيون. وثارت ثائرة الطرفين حين نشرت وثيقتان زائفتان قيل إن إحداهما صادرة من بنيفاس إلى فليب تطلب إليه أن يطيعه في كل الشئون حتى الزمنية منها، والأخرى من فليب إلى بنيفاس تبلغ "حماقتك العظيمة أننا لا نخضع لإنسان ما في الشئون الزمنية" وسرعان ما ساد الاعتقاد بأن هاتين الوثيقتين المزورتين صحيحتان(101).

وفي اليوم الحادي عشر من فبراير سنة 1302 حرق مرسوم "استمع يا ولدي" رسميا في باريس في حضرة الملك وجمهور كبير. وأراد فليب أن يستبق المجلس الكنسي الذي يريد بنيفاس عقده فدعا الطبقات الثلاث في مملكته إلى الاجتماع في باريس في شهر إبريل. وكتبت طل طبقة بمفردها من طبقات الأمة الثلاث - الأشراف، ورجال الدين، والعامة - في هذا المجلس، مجلس الطبقات، الأول من نوعه في تاريخ فرنسا، كتبت كل طبقة إلى روما تدافع عن الملك وعن سلطته الزمنية، وحضر نحو أربعة وخمسين من المطارنة الفرنسيين مجلس روما الذي عقد في شهر أكتوبر من المجلس القرار المسمى Uuamsanctum الذي حدد فيه مطالب البابوية تحديداً صريحاً تلفت الأنظار. وجاء في هذا المرسوم أنه لا توجد إلا كنيسة واحدة لا نجاة لأحد في خارجها، وأن ليس للمسيح إلا جسد واحد له رأس واحد لا رأسان، وأن هذا الرأس هو المسيح وممثلة البابا الروماني، وأن هناك سيفين أي قوتين القوة الروحية والقوة الزمنية، الأول تحمله الكنيسة، والثاني يحمله الملك نائباً عن الكنيسة، ولكنه يحمله تبعاً لإرادة القس وبإذن منه. والسلطة الروحية فوق السلطة الزمنية، ومن حقها أن ترشدها إلى أسمى غاياتها، وأن تحاكمها إذا ارتكبت إثماً. واختتم المرسوم بالعبارة الآتية: "ونعلن،ونحدد، وننطق بأن من الضروري للنجاة أن يخضع الناس جميعاً للرئيس الديني الروماني"(102).

وكان رد فيليب أن دعا جمعيتين إلى الانعقاد(في شهري مارس ويونية من عام 1303) وأن أصدرت الجمعيتان وثيقة اتهم فيها بنيفاس رسميا بأنه ظالم، وساحر، وكافر(103)، وطلبت أن يخلعه مجلس عام بالكنيسة. وبعث الملك وليم نوجارت William Nogarot كبير رجال القانون عنده إلى روما ليبلغ البابا ما يطلبه الملك من دعوة مجلس عام. وكان البابا وقتئذ في القصر البابوي بأنانيAnagni فأعلن البابا وحده هو الذي يحق له أن يدعو مجلساً عاماً، وأعد مرسوماً يحرم فليب ويصب اللعنة على فرنسا. وقبل أن يصدره سار وليم نوجارت وسيارا كولنا Siarra Colonna على رأس ألفين من الجنود المرتزقة واقتحما القصر، وقدما إلى البابا رسالة فيليب، وطلبا إليه أن يوقعها (7 سبتمبر سنة 1303)، فرفض بنيفاس هذا الطلب. وتقول رواية "موثوق بصحتها أعظم الثقة"(104) إن سياراً لطم الحبر الأعظم على وجهه وإنه كاد يقتله لولا تدخل نوجات. وكان بنيفاس وقتئذ الخامسة والسبعين من عمره، ضعيف الجسم،ولكنه ظل يتحدى خصومه. وبقي ثلاثة أياماً سجيناً في قصره والجنود المرتزقة ينهبونه. ولكن أهل أناني يؤيدهم أربعمائة فارس من عشيرة أورسيني Orsini فرقوا الجنود المرتزقين وأعادوا إلى البابا حريته. ويلوح أن سجانيه لم يقدموا له طعاماً مدى الثلاثة الأيام السابقة على تحريره، لأنه وهو واقف في السوق سأل: إن كانت هناك امرأة صالحة ترضى أن تقدم لي صدقة من النبيذ والخبز، فإني أمنحها بركة اللّه وبركتي". وقاده فرسان الأورسيني إلى روما وإلى الفاتيكان، وهناك انتابته حمى، شديدة مات منها بعد أيام قليلة (في الحادي عشر من شهر أكتوبر سنة 1303) وحرم خليفته بندكت الحادي عشر (1303-1304) نوجارت، وسياراكولنا، وثلاثة عشر غيرهما من الرجال رآهم يقتحمون القصر في أناني. ومات بندكت بعد شهر من ذلك الوقت في بروجيا، وربما كان أحد الجبلين الإيطاليين قد دس له السم(105). ووافق فليب على أن يؤيد برتراند دي جو Bertrand de Got رئيس أساقفة بوردو للجلوس على كرسي البابوية إذا نهج سياسة المصالحة، وعفا عمن حرموا من الدين لهجومهم على بنيفاس، وسمح بأن تجبى من رجال الدين الفرنسيين ضريبة دخل سنوية مقدارها عشرة في المائة مدة خمس سنين، وأن يعيد أفراد أسرة كولنا إلى مناصبهم ويرد إليهم أملاكهم، وأن يشهر بذكرى بنيفاس(106). ولسنا نعرف إلى أي حد وافق برتراند على هذه المطالب، وكل ما نعلمه أنه اختير بابا، وتسمى باسم كلمنت الخامس(1305). وأنذره الكرادلة بأنه لن يكون آمناً على حياته في روما، فنقل كلمنت كرسي البابوية إلى أفينون القائمة على الضفة الشرقية لنهر الرون، في خارج الحد الشرق لفرنسا وعلى بعد قليل منه(1309) وانتقل إليها بعد تردد قليل، وربما كان ذلك أيضاً بعد أن وصله اقتراح مريح من فليب. وهكذا بدأ "الأسر البابلي" للبابوات الذي دام ثمانية وستين عاماً واستسلام البابوية لفرنسا، بعد أن حررت نفسها من ألمانيا.

وأصبح كلمنت، رغم إرادته الضعيفة، أداة ذليلة في يد فليب الذي لا حد لمطالعة، فغفر للملك ذنوبه، وأعاد رجال كولنا إلى مناصبهم، وسحب موسوم Clercis laicoa وأجاز نهب أموال فرسان المعبد، ووافق أخيراً(1310) على محاكمة بنيفاس بعد موته على أيدي مجمع كنسي عقد في جروسو Croseau القريبة من أفينون. وشهد ستة من رجال الدين في التحقيق المبدئي الذي أجرى أمام البابا ومأموريه أنهم سمعوا بنيفاس يشير قبل سنة من توليه منصبه الديني إلى أن كل القوانين التي يفترض الناس أنها من عند اللّه قد اخترعها بعضهم لكي يلزموا العامة بأن يسلكوا مسلكا حسناً لخوفهم من الجحيم، وإلى أن من "البلاهة" أن نعتقد أن اللّه واحد وثلاثة في آن واحد، أو أن عذراء قد ولدت طفلا، أو أن اللّه قد صار إنسانا، أو أن الخبز يمكن أن يصبح جسم المسيح، أو أن هناك حياة أخرى مستقبلة. "هذا ما أومن به وما أعتقده، كما يؤمن به ويعتقده كل إنسان متعلم. أما السوقة فيعتقدون غير هذا، وعلينا أن نتكلم كما يتكلم السوقة، وأن نفكر ونعتقد كما تعتقد القلة وتفكر". ونقل هؤلاء الستة عن بنيفاس هذه الأقوال، وأعاد هذه الشهادة ثلاثة منهم بعد أن سئلوا فيما بعد. ونقل رئيس دير القديس جيل St. Giles القائم في سان جمينو San Gemino عن بنيفاس حين كان الكردينال جايتاني Gaetani أنه أنكر بعث الجسم والروح، وأيد هذه الشهادة عدد أخر من رجال الدين. ونقل أحد رجال الدين عن بنيفاس أنه قال عن القربان المقدس "إنه ليس إلا فطيرة". وأتهم بنيفاس رجال كانوا قبل ذلك من أفراد بيته بأنه كانت له كثير من الصلات الجنسية الآثمة، الطبيعية منها وغير الطبيعية، واتهم غيرهم هذا المتشكك المزعوم بأنه حاول الاتصال السحري بـ "قوى الظلام"(107).

وأقنع كلمنت فليب قبل بدء المحاكمة الفعلية أن يترك مسألة إجرام بنيفاس إلى مجلس فينا العام الذي سيعقد فيما بعد. فلما عقد هذا المجلس(1311) مثل إمامه كرادلة وشهدوا بأن البابا المتوفى كان مستمسكاً بالدين القويم وبمكارم الأخلاق، وألقى فارسان بقفازيهما متحدين ومؤيدين براءته عن طريق الاقتتال. لكن أحداً لم يقبل هذا التحدي وأعلن المجلس انتهاء المحاكمة.


الفصل الثامن: عودة على بدء

الحروب الصليبية قد أضعفتا من قوتهما، في الوقت الذي زاد فيه انهيار الإمبراطورية من قوة إنجلترا وفرنسا، كما أثرت فرنسا باستيلائها على لانجويدك بمساعدة الكنيسة ولربما تكشف الأدلة التي قدمت ضد بنيفاس، صادقة كانت أو كاذبة، عن تيار التشكك الذي كان يجري في الخفاء على عصر الإيمان. وكذلك تدل الصفعة - المادية أو السياسية - التي وجهت إلى بنيفاس في أناني بمعنى من معانيها على بداية "العصر الحديث": فقد كانت انتصاراً للقومية على ما فوق القومية، وللدولة على الكنيسة، ولقوة السيف على سحر الكلام. ذلك أن كفاح الكنيسة ضد آل أهوهنستوفن وإخفاق كانت مناصرة الشعب لفليب الرابع على بنيفاس الثامن دليلا على غضب هذا الشعب من غلو محاكم التحقيق والحملة الصليبية الألبجنسية، فقد قيل إن محاكم التحقيق حرقت بعض آباء نوجارت(108)، ولم يكن بنيفاس يدرك، وهو يتورد في هذه المنازعات الكثيرة، أن أسلحة البابوية قد تثلمت من الإفراط في استخدامها، ثم إن الصناعة والتجارة قد أنشأتا طبقة من الناس أقل تقوى من طبقة الزراع، وأن الحياة والتفكير قد نزعا نزعة غير دينية،وأخذت الطبقات العلمانية تدرك أهميتها، وقبل أن تمضي سبعون سنة كانت الدولة قد طوت الكنيسة تحت جناحيها.

وإذا ما ألقينا نظرة شاملة على المسيحية اللاتينية، كان أهم ما ينطبع في ذهننا منها هو ما بين شعوبها المختلفة من وحدة نسبية في العقيدة الدينية، وانتشار سلطان الكنيسة الرومانية الواسع ورجالها في كل مكان انتشاراً أكسب أوربا الغربية - أوربا غير الصقلية، وغير البيزنطية - وحدة في فعل العقل والأخلاق لم ير لها مثيل بعد ذلك الوقت. ولسنا نعرف في التاريخ كله نظاماً في غير هذه الرقعة من الأرض كان له هذا الأثر العظيم في مثل هذا العدد من الناس ولمثل هذا الزمن الطويل. فقد دام سلطان الجمهورية الرومانية والإمبراطورية الرومانية على أملاكهما الواسعة من أيام بمبي ألى أيام ألريك Alaric أربعمائة وثمانين عاما، ودامت إمبراطورية المغول والإمبراطورية البريطانية نحو مائة عام، أما الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فقد ظلت صاحبة السلطة العليا في أوربا من موت شارلمان (814) إلى موت بنيفاس الثامن(1303) أي 489 عاماً. ويبدو أن تنظيمها وإدارتها لم يبلغا من الكفاية ما بلغاه في الإمبراطورية الرومانية، كذلك لم يؤت رجالها من القدرة والثقافة مثل ما أوتي الرجال الذين حكموا الولايات والمدن للقياصرة، ولكن الكنيسة ورثت خليطاً من الهمج المسلوبي العقول، وكان عليها أن تبذل الجهود المضنية لتشق لها طريقاً تعود به إلى بسط النظام ونشر التعاليم. ولقد كان رجالها، رغم هذه الظروف، خير الرجال تعلماً في ذلك العصر، وكانوا هم الذين قدموا للناس في أوربا الغربية التعليم الوحيد المستطاع في خلال القرون الخمسة التي كان لها فيها السيادة والسلطان. وكانت محاكمها تقدم للناس أعدل ضروب العدالة في أيامها. فكانت المحكمة البابوية، المرتشية تارة والنزيهة تارة أخرى، إلى حد ما، محكمة عالمية تحكم في فض المنازعات الدولية، وتضييق نطاق الحروب. ولسنا ننكر أن هذه المحكمة كانت على الدوام مسرفة في نزعتها الإيطالية، ولكن عقول الإيطاليين كانت في تلك القرون أحسن العقول تدريباً، وكان في وسع أي إنسان أن يرقى إلى عضوية تلك المحكمة من أية طبقة، ومن أية أمة في العالم المسيحي اللاتيني.

ولقد كان من الخير أن يكون فوق دول أوربا وملوكها، رغم أساليب الخداع التي تلجأ إليها عادة السلطة البشرية الجماعية، سلطة عليا تستطيع محاسبة هذه الدول وأولئك الملوك، وتخفف من حدة منازعاتها ومنازعاتهم. وإذا كان لا بد من قيام دولة عالمية ، فهل ثمة مقر لها يبدو أليق من عرش القديس بطرس، يستطيع الناس مهما يكن من ضيقه أن يتطلعوا منه بعين قارية، ومن ورائها أحقاب طوال؟ وهل ثمة قرارات أكثر قبولا عند الناس في سلام، وأيسر تنفيذاً، من قرارات حبر من الأحبار يجله جميع سكان أوربا الغربية ويرون أنه خليفة اللّه في أرضه؟ وحسبنا دليلا على ما كان لقرارات هذه السلطة من قوة أنه لما خرج لويس التاسع إلى الحرب الصليبية في عام 1248 : اشتد هنري الثالث ملك انجلترا في مطالبه من فرنسا واستعد لغزوها. فأنذر البابا إنوسنت الرابع إنجلترا بالحرمان إذا أصر هنري على مطالبة، ونكص هنري على عقبيه. ويقول هيوم المتشكك إن سلطان الكنيسة كان ملجأ حصيناً من عسف الملوك وظلهم (109) ولو أن الكنيسة اقتصرت في استخدام سلطاتها على الأغراض الروحية والخلقية، ولم تستخدمه قط لتحقيق الأغراض المادية، لحققت المثل الأعلى الذي كان يرتجيه حريجوري السابع- ولجعلت سلطانها الأخلاقي يعلو على قوى الدول المادية وكاد حلم جريجوري هذا بتحقق حين ضم إربان الثاني شتات العالم المسيحي لقتال الأتراك، فلما أطلق إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع، وإسكندر الرابع، وبنيفاس الثامن اسم الحروب الصليبية المقدسة على حروبهم ضد الألبحنسيين، وفردريك العاني وآل كولنا، فلما فعلوا هذا تحطم المثل الأعلى العظيم في أيدي البابوات الملطخة بدماء المسيحيين. وكانت الكنيسة إذا لم يتهددها خطر تصطنع التسامح الكثير مع أصحاب الآراء المخالفة، بل وآراء الضالين، وسوف نجد ما لم تكن نتوقعه من الحرية الفكرية بين فلاسفة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بل سوف نجد هذه الحرية بين أساتذة الجامعات المرخصة من قبل الكنيسة، والخاضعة لإسرافها، وكل ما كانت تطلبه أن يكون نقاشهم مقصوراً على المتعلمين، ومفهوما منهم وحدهم، وألا يتخذ صورة الدعوة الثورية للناس بأن ينبذوا عقيدتهم وكنيستهم(110). ويقول كاتب هو أكثر نقاد الكنيسة المحدثين نشاطا إن ، في الكنيسة إذ تضم السكان أجمعين، تضم كذلك كل صنف من أصناف العقول، من أكثر العقول تخريفاً إلى أكثرها لا أدرية، وإن كثيراً من العناصر التي تكن مستمسكة بالدين الرسمي، كانت تعمل تحت ستار الامتثال الرسمي بحرية أوسع مما يظن الناس عادة(111).

وجملة القول أن الصورة التي نرسمها في أذهاننا للكنيسة اللاتينية في العصور الوسطى هي أنها منظمة معقدة التركيب، تبذل كل ما في وسعها رغم ما يتصف به أبناؤها وزعماؤها من عيوب كامنة في فطرة الآدميين، لإرساء قواعد النظام الأخلاقي والاجتماعي، ونشر العقيدة الدينية التي تسمو بالناس وتواسيهم وسط حطام حضارة قديمة، وعواطف ثائرة، لمجتمع يجتاز دور التفاهة.

لقد كانت أوربا حين وحدتها كنيسة القرن السادس أشبه ببضاعة متناثرة بعد غرق سفينة بضاعة من الهمج المتنقلين، وكانت خليطاً من الألسنة والعقائد، وفوضى من الشرائع غير المسطرة التي لا يحصيها العد. ولكن الكنيسة وهبتها قانوناً أخلاقيا تؤيده سلطة فوق سلطة البشر، تبلغ من القوة ما يكفي لقمع الغرائز غير الاجتماعية الكامنة في نفوس ذوي العنف من الناس، ووهبتها كذلك أديرة يلجأ إليها الرجال، والنساء، وتأوى المخطوطات القديمة، وحكمتها بمحاكم كنسية، وربتها في المدارس والجامعات، وذللت قيادة ملوك الأرض لتحميل التبعات الأخلاقية وواجبات السلام، وخلعت على حياة أبنائها بهجة الشعر، والتمثيل، والغناء، وأوحت إليهم أن يقيموا أجل ما في التاريخ كله من أعمال فنية ولما عجزت عن إقامة مدينة فاضلة تسودها المساواة بين رجال مختلفي الكفايات نظمت الصدقات والضيافات، وحمت الضعفاء إلى حد ما من الأقوياء. وكانت بلا ريب أعظم قوة تعمل لنشر لواء الحضارة في تاريخ أوربا خلال العصور الوسطى.