قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 28
صفحة رقم : 5664
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> محاكم التفتيش في بداية عهدها -> الإلحاد الألبجنسي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثامن والعشرون: محاكم التفتيش في بداية عهدها 1000-1300
الفصل الأول: الإلحاد الألبجنسي
وصارت الحملة على رجال الدين سيلاً جارفاً في آخر القرن الثاني عشر فقد كان في عصر الإيمان مخابئ منعزل من التصوف الديني والعاطفة الدينية، بمنجاة من المسيحية الكهنوتية المنظمة، غير راضية عن أعمالها. وأقبلت على بلاد الغرب موجات جديدة من التصوف الشرقي لعلها سارت في ركاب الصليبيين العائدين إلى بلادهم. وجاءت من بلاد فارس عن طريق آسيا الصغرى وبلاد البلقان أصداء الأثينية المانوية والشيوعية المزدكية. وجاءت من بلاد الإسلام كراهية الصور والاشمئزاز من القساوسة، وأعقب الحروب الصليبية واخفاقها شك خفي فيما يعزي إلى الكنيسة المسيحية من أصل قدسي ومعونة إلهية. وجاء البوليسيون paulicians إلى إيطاليا وبروفانس عن طريق بلاد البلقان فارين نحو الغرب من وجه الاضطهاد البيزنطي، يحملون معهم سخريتهم من الصور المقدسة والعشاء الرباني، ورجال الدين، وقسّموا إلى عالم روحي من خلق الله وعالم مادي من خلق الشيطان، وقالوا إن الشيطان هو يهوه الوارد ذكره في العهد القديم. وتكونت طائفة البجوميل bogomiles (أي أصدقاء الله) في بلغارية، وتسّموا فيها بهذا الاسم، وانتشروا في البوسنة بنوع خاص، وهو حموا بالسيف والنار في أوقات مختلفة في القرن الثالث عشر، واستماتوا في الدفاع عن أنفسهم، ثم استسلموا آخر الأمر (1463) للإسلام لا للمسيحية.
وظهرت في عام 1000 شيعة في طولوز (طلوشة) وأورليان، تنكر المعجزات وقدرة التعميد على غسل الذنوب ووجود المسيح في القربان المقدس، وتأثير الصلوات للقديسين. وأغفل أمرهم على إلى حين، ثم حوربوا، وأحرق ثلاثة عشر منهم أحياء في عام 1023. ونشأت شيع ملحدة أخرى شبيهة بهم، وأعقبت نشأتهم اضطرابات في كمبريه، ولينج (1025)، وجسلارGoslar (1052) وسواسون Soissons (1114)، وكولوني (1146)، وغيرها من المدن، أحصى منها برثلد الرجنزبرجي Bcrthold of regensburg مائة وخمسين شيعة في القرن الثالث عشر(1)، منها جماعات عديمة الضرر تلتقي ليقرأ بعضها إلى بعض الكتاب المقدس بلغتها القومية دون الاستعانة بقسيس، وليفسروا بأنفسهم ما فيه من عبارات اختلف الناس في تفسيرها، ومنها جماعات عدة كالهيوملياتي Humiliati في ايطاليا، والبنجوين Beguines والبلغارد Beghards في البلاد الوطيئة، تتمسك بالدين في كل شيء إلا في إصرارها المحير على ان يعيش القساوسة فقراء. وكان الفرنسيسكان شيعة من هذا الصنف، وكانت تعد من الشيع الملحدة ولم تنج من هذا إلا بشق الأنفس.
لكن الولدنزيين Waldenses لم ينجو من هذا المصير، فقد استأجر تاجر ثري يدعى بطرس والدوWaldo Pater في عام 1170 جماعة من العلماء ليترجموا الكتاب المقدس إلى اللانج دكLangue doc لغة جنوبي فرنسا. وأقبل على درس الترجمة بشغف، وخرج من هذا الدرس معتقداً أن من واجب المسيحيين أن يعيشوا كما كان يعيش الرسل - ليس للواحد منهم ملك خاص. ثم نزل عن جزء من ثروته لزوجته، ووزع الباقي منها للفقراء، وقام يدعوا الناس إلى أن يعيشوا فقراء. وجمع حوله طائفة قليلة العدد هي (رجال ليون الفقراء) لبسوا مسوح الرهبان، وعاشوا عيشة العفة والطهارة، ومشوا حفاة أو منتعلين الصنادل، وكانوا ينفقون من مكاسبهم مشاعة (2). وصبر عليهم رجال الدين بعض الوقت فلم يعارضوهم في شيء، وسمحوا لهم بان يقرءوا أو ينشدوا في الكنائس (3).ولكن بطرس ضرب بمنجله محصول رجل غيره، منفذاً بذلك أوامر الإنجيل بحرفيتها؛ فأذكره رئيس أساقفة ليون بعبارة قوية أن الأساقفة وحدهم هم الذين يجوز لهم أن يعضوا الناس. وسافر بطرس إلى روما (1189)؛ وطلب إلى الإسكندر الثالث أن يمنحه إذناً بالوعظ، فأجابه البابا إلى طلبه على شريطة أن يوافق على ذلك رجال الدين المحليون، وأن يكون خاضعاً لإشرافهم. وواصل بطرس عظاته، دون أن يحصل على موافقة رجال الدين المحليين، وأصبح أتباعه من أشهر رجال الدين تمسكاً بالكتاب المقدس، وحفظوا فقرات طويلة منه عن ظهر قلب. واصطبغت هذه الحركة تدريجياً صبغة معادية لرجال الدين، ونبذتهم جميعاً، وأنكرت صحة العشاء الرباني الذي يقدمه قس آثم، وعزت إلى كل مؤمن طاهر القدرة على العفو عن الذنوب. وعارض بعض الأعضاء صكوك الغفران، وعقيدة المطهر، وتحول القربان المقدس إلى جسم المسيح ودمه، والصلاة للقديسين. وقامت طائفة منهم تنادي بأن "الأشياء جميعها يجب أن تكون ملكاً مشاعاً" (4). ونادت طائفة أخرى بأن الكنيسة هي المرأة الحمراء المذكورة في سفر الرؤيا (5). وصدر في عام 1148 قرار بحل هذه الجماعة، وقبل إنوسنت الثالث في الكنيسة عام 1206 فئة منها هي فئة "الكاثوليك الفقراء"، أما كثرتها الغالبة فقد أصرت على آرائها الخارجة على الدين، وانتشرت من فرنسا إلى أسبانيا وألمانيا. وأصدر مجلس عقد في طولوز عام 1229، ليقاوم في أغلب الظن انتشار هذه الشيعة، قراراً يقضي بألا يمتلك شخص من غير رجال الدين كتباً مقدسة عدا كتب التراتيل والأدعية (ومعظمها مزامير )، وحرم عليهم أن يقرءوا هذه الكتب بغير اللغة اللاتينية، لأن الكنيسة لم تكن حتى ذلك الوقت قد بحثت أية ترجمة إلى اللغات القومية وأيدت صحتها (6). ولما قاومت حركة القضاء على الألبجنسيين حرق آلاف من أتباع ولدو؛ ومات بطرس نفسه في بوهيميا في عام 1217، ويبدو أنه مات ميتة طبيعية.
وقبل أن ينتصف القرن الثاني عشر كانت بلدان أوربا الغربية معششاً للشيع الملحدة، حتى قال أحد الأساقفة في عام 1190 إن "المدن ملآى بأولئك الأنبياء الكاذبين"(7)، وكان في ميلان وحدها سبعة عشر ديناً جديداً، وكان أهم الشيع الملحدة فيها شيعة البتريائيين Pararines - ويبدو أن اسمهم مشتق من بتاريا Pataria أحد الأحياء الفقيرة في البلدة. ويلوح أن هذه الحركة بدأت احتجاجاً على الأغنياء، ثم استحالت حركة ضد رجال الدين، وأخذت تندد بالرشا وبيع المناصب الكهنوتية، وثراء رجال الدين وزواجهم، وانتشار التسري بينهم، واقترحت كما قال أحد زعمائها "أن تصادر أموال رجال الدين، وأتباع أملاكهم بالمزاد، فإذا قاوموا فلتبح بيوتهم للنهب، "وليطردوا هم وأبناؤهم غير الشرعيين من المدينة"(8). ونشأت شيع مثلها ضد رجال الدين في فيتربو Viterbo، وأرفيتوOrvieto وفيرونا Verona ، وفرارا Ferrara وبارما parma وبياسنزا Piacenza، وريميني Rimini ...(9)، وكانت هذه الشيع في بعض الأوقات هي المسيطرة على الجمعيات الشعبية، والمستولية على زمام الحكم ، وبلغ من سلطانها أن فرضت الضرائب على رجال الدين لتمويل المشروعات المدنية(10). وأمر إنوسنت الثالث مندوبه في لميارديا أن يستقسم جميع موظفي البلديات ألا يعينوا أحداً من الملاحدة في أية وظيفة أو أن يوافقوا على أي تعيين من هذا القبيل. وثار الغوغاء في مدينة ميلان عام 1273 وأخذوا "يجهرون بأقوال التجديف والسباب"، ودنسوا عدة كنائس "بالأقذار التي نستنكف عن ذكرها"(11).
وكانت أسماء مختلفة تطلق على الشيع الملحدة كلها، فكانت تسمى شيعة الكاثارى، وهذا اللفظ مشتق من كلمة يونانية معناها "الطاهر". أو البلغاري نسبة إلى أصلهم (ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة "بجر Bugger" للسباب)، والألبجنستين نسبة إلى بلدة ألبي Albi التي كانوا يكثرون فيها بنوع خاص. وكانت مدائن منبليه، ونربونه ومرسيليا المراكز الفرنسية للشيع الملحدة، ولعل منشأ هذا هو اتصالها بالمسلمين واليهود، وتردد التجار من مراكز الإلحاد في البوسنة، وبلغاريا، وإيطاليا. ونشر التجار حركة الإلحاد في طولوز، وأرليان، وسواسون، وأراس، وريمس، ولكن لانجويدك Languedoc وبروفانس بقيتا حصتها الحصين. وكانت حضارة العصور الوسطى الفرنسية قد بلغت ذروتها في هاتين المقاطعتين، فكان أتباع الأديان الكبرى يختلفون فيهما متحابين كما يتحاب أهل الحضر المهذبون.
وكانت حساناً مزهوات، والأخلاق طليقة من القيود، وكان الشعراء الغزليون ينشرون الأفكار المرحة، وكان عصر النهضة وشيك البدء فيهما كما كان وشيك البدء في إيطاليا أيام فردريك. وكانت فرنسا الجنوبية تتألف وقتئذ (1200) من إمارات تكاد تستقل كل منها بشئونها لا يربطها بالولاء إلى ملك فرنسا إلا رباطٍ واه. وكان نبلاء طولوز هم أعظم السادة في ذلك الإقليم، فقد كانوا يملكون من الأراضي أكثر من أملاك الملك الخاصة. وكانت عقائد الكاثارى وشعائرهم من ناحية عودة إلى العقائد والأساليب المسيحية الأولى، وكانت ناحية أخرى ذكرى غامضة للإلحاد الأريوسي الذي انتشر في فرنسا الجنوبية في عهد القوط الغربيين، ومن ناحية ثالثة نتيجة للآراء المانوية وغيرها من الآراء الشرقية. وكان من بينهم رجال دين يرتدون ثياباً سوداء، ومطارنة يسمون الكمل perfecti، يقسمون وقت ترقيتهم لهذه المناصب أن يتخلوا عن آبائهم أزواجهم، أبنائهم، أن يهبوا أنفسهم "للّه والإنجيل... ألا يقربوا امرأة قط، ولا يقتلوا حيواناً، ولا يأكل اللحم أو البيض أو منتجات الألبان، وألا يطمعوا إلا السمك والخضر. وكان أتباعهم "المؤمنون (Gredentes)" يتعهدون بأن يقسموا فيما بعد الأيمان على هذا، وكان يسمح لهم قبل أن يقسموها أن يأكلوا اللحم، ويتزوجوا ولكنهم كان يطلب إليهم أن يخرجوا من الكنيسة الكاثوليكية، وأن يسيروا نحو الحياة "الكاملة" ، وأن يحيوا كل واحد من الكمل بثلاث ركعات علامة على التعظيم.
ويتقسم فلسفة الكاثارى الدينية الكون كما يقسمه المانوية إلى الخير: اللّه والروح، والسماء، والشر، الشيطان،والمادة ، والعالم المادي. وتقول إن الشيطان لا اللّه هو الذي خلق العالم المرئي. وهي تعد المادة كلها شرا بما فيها الصليب الذي مات عليه المسيح والقربان المقدس، وتقول إن المسيح لم يكن يتحدث إلا مجازاً حين قال عن الخبز : "هذا جسمي"(13). وإذا كانت الأجسام كلها من المادة فإن كل اتصال بها يدنس المتصل، وكل الاتصال الجنسي إثم،وكان الجماع هو خطيئة آدم وحواء(14). ويصف أعداء الألبجنسيين أولئك القوم بأنهم يرفضون العشاء الربا،والقداس، وتعظيم الصور المقدسة، والتثليث، ولا يؤمنون بأن المسيح ولد من عذراء، وعندهم أن المسيح من الملائكة، ولكنه ليس هو اللّه. ويقال عنهم إنهم ينكرون الملكية الخاصة، ويأملون أن تقسم الطيبات بين الناس بالتساوي (15). وقد اتخذوا "عظة الجيل" أساساً لمبادئهم الأخلاقية ؛ وكانوا يعملون أن يحبوا اعداءهم، وأن يعنوا بالمرضى والفقراء، وألا يقسموا قط، وأن يستمسكوا على الدوام بالسلم ؛ وكان يقال لهم إن العنف يتنافى مع الخلق الكريم،ولو كان موجهاً للكفار، وإن عقوبة الإعدام من أكبر الجرائم، وإن على الإنسان أن يوقن وهو مطمئن أن اللّه سينتصر آخر الأمر على الشر من غير أن يستخدم وسائل شريرة(16). ولم يكن في هذه الفلسفة الدينية نار ولا مطهر، بل إن كل نفس ستنجو بعد أن تتقلب في عدة أدوار من التناسخ تطهرها من آثامها. ولا بد للإنسان أن يموت وهو طاهر لكي يصل إلى السماء؛ ولهذا كان عليه أن يتلقى من قس مسيحي القداس الأخير الذي يتم تطهير الروح من آثامها. وكان الكثاريون المؤمنون يؤجلون هذا القداس (كما كان بعض المسيحيين الأولين يؤجلون التعميد) إلى مرضهم الأخير في ظنهم ، وكان الذين يشفون من هذا المرض يتعرضون لخطو الدنس من جديد، وللموت دون أن يقوموا بمراسيم القداس الأخير، ولهذا كان من أكبر البلايا أن يشفى الشخص من مرضه بعد أن يقوم بمراسيمه. وكان القساوسة الألبجنسيون يتهمون بأنهم يعملون لمنع هذه الكارثة بإقناع الكثيرين من المرضى الذين يشفون بأن يميتوا أنفسهم جوعاً ليرقوا إلى السماء. ويؤكد لنا أعداؤهم أنهم كانوا في بعض الأحيان يميتون المريض خنقاً برضاه حتى لا يكون ثمة مجال لاحتمال شفائه من مرضه الأخير(17).
ولقد كان يسع الكنيسة أن تترك شيعة الكاثارى تقضى بنفسها على نفسها، لولا أن هذه الطائفة أخذت توجه سهام النقد إلى الكنيسة. فقد أنكرت أن الكنيسة كنيسة المسيح. وقالت إن القديس بطرس لم يأت قط إلى رومة، ولم يؤسس البابوية، وإن البابوات خلفاء الأباطرة لا خلفاء الرسل، وإن المسيح لم يجد له مكاناً يضع فيه رأسه، أما البابا فيسكن قصراً منفياً، وإن المسيح لم يكن له ملك ولا مال ولكن كبار رجال الدين المسيحيين من ذوي الثراء العريض، وما من شك - كما يقول الكاثارى - في أن رؤساء الأساقفة، والأساقفة، ذوي الأملاك الواسعة، والقساوسة الدنيويين، والرهبان قسمان؛ هم الفريسيون Pharisees (الزنادقة)الأقدمون عادوا إلى الحياة من جديد ! ولم يكونوا يشكون في أن الكنيسة الرومانية هي "زانية بابل"، وأن رجال الدين هم زمرة الشيطان، وأن البابا هو المسيح الدجال(18). وكانوا ينددون بالداعين إلى الحروب الصليبية ويصفونهم بأنهم قتله(19)، وكان الكثيرين منهم يستهزئون بصكوك الغفران والمخلفات المقدسة. ويقال إن جماعة منهم صوروا العذراء في صورة قبيحة، عوراء، مشوهة الجسم، وادعوا أنهم يفعلون بهذه الصورة المعجزات ، وإن كثيرين من الناس آمنوا بقوة هذه الصور ة الزائفة، ثم كشفوا هم أنفسهم آخر الأمر عن سخريتهم(20). ونشرت كثير من آراء الكاثارى عن طريق الأغاني التي يذيعها شعراء الفروسية الغزلون، ولم يكن هؤلاء ممن تعجبهم تعاليم المسيح الأخلاقية وإن لم يعتنقوا آراء الشيعة الجديدة . غير أن جميع زعماء هذه الطائفة من الشعراء كانوا يعدون من أنصار الألبجنسيين، فقد كانوا يسخرون من الحج، والاعتراف، والماء المقدس، والصليب، وكانوا يسمون الكنائس "معششات اللصوص"، كما القساوسة الكاثوليك في رأيهم "خونة، كاذبين، منافقين"(21).
وظل رجال الدين والسلطة الزمنية في فرنسا الجنوبية حيناً من الدهر يبدون الكثير من التسامح مع طائفة الكاثارى، ويلوح أنهم أجازوا الجمهرة الشعب أن تختار بملء حريتها بين الدينين القديم والجديد(22). وعقدت مجالس عامة تتنافس فيها فقهاء الكاثارى والكاثوليك ، منها واحد عقد في كاركسون Carcassonne حضرة مندوب من قبل البابا وآخر من قبل بجر والثاني ملك أرغونة (1204). وكذلك عقدت عدة فروع مختلفة من الكاثارى مجلساً من رجال دينها في عام 1176، وحضرة ممثلون لهذه الفروع من بلاد مختلفة.
وتباحث المجتمعون في عقائد هذه الشيعة ؛ ونظمها؛ وشئونها الإدارية، ووضعت قواعد تسير بمقتضاها، وانفض المجتمعون دون أن يتعرض لهم أحد(23). وفوق هذا فإن الأشراف رأوا أن من الخير لهم أن يضعفوا سلطات الكنيسة في لانجويدك، ذلك أن هذه الكنيسة كانت واسعة الثراء تمتلك الكثير من الأرض، على حين الأشراف كانوا إذا قيسوا إليها فقراء، ولهذا شرعوا ينتزعون بعض أراضيها. وحدث في عام 1171 أن هاجم فيكونت بيزيير Beziers ديراً من الأديرة، وزج أسقف ألبى Albi في السجن ، وعين أحد الخارجين على الدين لحراسته. ولما أن اختار رهبان آلية Allet رئيساً عليهم ممن لا يرضى عنهم الفيكونت أحرق الدير وزج بالرئيس في السجن. فلما مات السجين نصب الفيكونت المرح جثته في المنبر، وأرغم الرهبان على أن يختاروا في مكانه رئيساً يرتضيه. كذلك طرد ريمند روجر Raymond Roger كونت فوا foix رئيس دير باميير Pamiers ورهبانه من ديرهم ، وأطعم خيله الشوفان من فوق من فوق المذبح، وأستخدم جنوده أذرع الصلبان التي عليها صورة المسيح مصلوباً وأرجلها مدقات لطحن الحبوب، واتخذوا صورة المسيح هدفاً للتدريب على الرماية. وهدم ريمند كونت طولوز عدداً من الكنائس، واضطهد رهبان مواساك Moissac، وطرد من حظيرة الدين (1196)، ولكن الحرمان الديني كان وقتئذ أمراً لا قيمة له في نظر الأشراف المقيمين في فرنسا الجنوبية، واعتنق الكثيرون منهم آراء الكاثارى الإلحادية، أو بسطوا على معتنقيها حمايتهم(24).
ولما جلس إنوسنت الثالث على كرسي البابوية في عام 1198 رأى في هذه التطورات خطراً محدقاً بالكنيسة والدولة جميعاً. لقد كان يرى بعض العذر فيما يوجه إلى الكنيسة من نقد، ولكنه كان يحس بأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين ، يرى هذا الصرح الديني العظيم الذي وضع له أكبر الخطط، وعقد عليه أنبل الآمال، والذي بدا له أقوى عاصم من العنف البشرى، والفوضى الاجتماعية، ومن ظلم الملوك-، يرى هذا الصرح يهاجم منأساسه، وتغتصب ممتلكاته، وتهان كرامته، ويتعرض لضرب السخرية والتجديف. لقد ارتكبت الدولة هي أيضا كثيراً من الذنوب، واحتضنت الفساد والموظفين الفاسدين، ولكن البلهاء وحدهم هم الذين يرغبون في القضاء عليها. وهل يستطاع إقامة نظام اجتماعي دائم على المبادئ التي تنهى عن الأبوة، وتدعو إلى الانتحار وهل يفلح نظام اقتصادي يمجد الفقر ويخلو من كل ما في الملكية من حافز إلى السعي والعمل؟ وهل يستطاع إنقاذ العلاقات الجنسية بين النساء والرجال. وتنشئة الأطفال، من الفوضى الوحشية إلا بنظام كنظام الزواج. وقد بدأت عقائد الكاثارى لإنوسنت كأنها خليط من السخف، نفشت فيها سذاجة الجماهير سما زعافاً؟ وما فائدة حرب صليبية توجه إلى المسلمين في فلسطين إذا ظل هؤلاء الألبجنسيون يتضاعفون في قلب العالم المسيحي نفسه؟
وكتب إنوسنت بعد شهرين من توليته إلى رئيس أساقفة أوتش Auch في غسقونية يقول : إن قارب القديس بطرس الصغير تتلقفه العواصف وتتقاذفه أمواج البحر، ولكن أشد ما يحزنني ويقض مضجعي... أن قامت في هذه الأيام فئة لم نر لها فيما مضى مثيلا في تحررها من جميع القيود وفي شدة أذاها، قد ارتكبت أخطاء لا يرتكبها إلا الشياطين ، وأخذت توقع نفوس السذج من الناس في حبائلها، وتفسد بخرافاتها وبدعها الكاذبة معاني الكتاب المقدس ، وتحاول أن تهدم وحدة الكنيسة الكاثوليكية. وإذ كان... هذا الوباء قد أخذ ينتشر في غسقونية والأقاليم المجاورة لها، فإنا ندعوكم أنتم والأساقفة زملاءكم إلى مقاومته بكل ما أوتيتم من قوة... وقد أصدرنا إليكم هذا الأمر القوي النافذ أن تقضوا على هذه الفئات الملحدة بكل ما تستطيعون من الوسائل، وأن تخرجوا من أسقفيتكم كل من أصابهم دنسها... وفي وسعكم إذا اضطررتم أن تجعلوا الأمراء والشعب يقضون عليهم بحد السيف.(25)
ويبدو أن رئيس أساقفة أوتش - وهو رجل متسامح مع غيره كما هو متسامح مع نفسه - لم يقم بالعمل الذي تدعوه هذه الرسالة إلى القيام به، أما رئيس أساقفة تربونة وأسقف بيزيير فقد قاوما المندوبين اللذين عينهما إنوسنت لينفذا أوامرهم وحدث حوالي ذلك الوقت أن اعتنقت ست سيدات تتزعمهن أخت كونت فواه مبادئ الكاثارييين، وكان ذلك في احتفال عام شهده كثير من النبلاء، فما كان من إنوسنت إلا أن استبدل بمندوبيه المحققين مندوباً آخر أشد منهم بطشاً وأمضى عزيمة ، وكان هذا المندوب هو أرنود Arnaud رئيس الرهبان السسترسيين (1204) ومنحه قوات غير عادية تجيز له أن يفحص ويحقق في جميع أنحاء فرنسا. وأمره أن يعرض على ملك فرنسا وأشرافها عفواً شاملا لكي يساعدوه في القضاء على شيعة الكاثارى الملحدة، ثم عرض البابا على فليب أغسطس فضلا عن هذا أن يمنحه نظير هذه المساعدة جميع الأراضي التي يمتلكها من يأبون الانضمام إلى حملة صليبية ضد الألبجنسين(26). لكن فليب تردد في قبول هذا العرض لأنه كان قد أتم قبيل ذلك الوقت فتح نور مندية، وكان في حاجة إلى متسع من الوقت يهضم فيه هذا الكسب الجديد. ووافق ريمند السادس صاحب طولوز أن يستخدم طريقة الإقناع مع الملحدين، ولكنه أبى أن يشترك في تشن عليهم، فما كان من إنوسنت إلا أن أصدر عليه قرار الحرمان، فلما وعد ريمند بأن يجيب البابا، عاد إلى التباطؤ والإهمال، وقال أحد الفرسان الذين أمرهم مندوب الباب بطرد الكاثارى من أرضه، "كيف نفعل هذا وقد نشأنا مع هؤلاء القوم ومنهم بعض أهلينا، ونراهم يعيشون بيننا معيشة الصالحين؟"(27). وأقبل على القوم القديس دمينك من أسبانيا، وأخذ يخطب داعياً إلى مسالمة الزنادقة، وعاد بعضهم إلى الدين القويم متأثرين بتقواه وصلاحه(28). ولعل المشكلة كانت بهذه الطريقة يصاحبها إصلاح شأن رجال الدين لو لم يقتل بيير ده كاستلنو Pierre de Castelnau أحد مندوبي البابا بيد فارس بسط عليه ريمند بعدئذ حمايته(29). وكان إنوسنت قد رأى جهوده التي بذلها نحو عشر سنين طوال ضد هذه الطائفة الملحدة تبوء بالخيبة، فلجأ إلى أساليب العنف الشديد، وحرم ريمند ومحرضيه من الكنيسة، وأصدر قرار التحريم ضد الأراضي الخاضعة لهم ، وعرض هذه الأراضي على كل مسيحي يستطيع القبض عليهم، ودعا المسيحيين في جميع أقطار العالم إلى حرب صليبية ضد الألبجنسيين ومن يحمونهم. وأجاز فليب أغسطس لكثيرين من بارونات مملكته أن يتطوعوا في هذه الحرب، وجاءت فصائل من ألمانيا وإيطاليا. ووعدت جميع من يشتركون في هذه الحرب بالغفران الشامل الذي وعد به من يحملون الصليب للقتال في فلسطين. وطلب ريمند المغفرة، وكفر عن ذنبه علنا (ضرب بالسوط وهو نصف عار في كنيسة القديس جيل St. Gills) ونال المغفرة للمرة الثانية واشترك في الحرب المقدسة (1209).
وقاوم معظم سكان لانجويدك، خاصتهم وعامتهم على السواء، أولئك الصليبيين، لأنهم رأوا في هجوم أشراف الشمال وجنوده المغامرين محاولة تبغي الاستيلاء على أرضهم تحت ستار الغيرة الدينية، بل إن المسيحيين الصادقين من أهل الجنوب قاوموا غارات أهل الشمال(30). ولما اقترب الصليبيون من بيزيير عرضوا عليها أن يجنبوها ويلات الحرب إذا ما سلمت إليهم جميع الملحدين الذين دون أسقفها أسماءهم، ولكن زعماء المدينة رفضوا هذا العرض وقالوا إنهم يفضلون أن يضرب عليهم الحصار حتى يضطروا إلى أكل أطفالهم فما كان من الصليبيين إلا أن تسلقوا أسوار المدينة، واستولوا عليها، وقتلوا من أهلها عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال بلا تمييز بينهم، وحتى الذين احتموا منهم بالكنيسة لم ينجو من القتل(31). ومن القصص التي شاعت وقتئذ قصة لا نجد لها سنداً إلا فيما كتبه قيصر يوس هيسترباخ Caesarius Heisterbach بعد عشرين عاماً من ذلك الوقت، وهي تقول إن أرنود Arnaud مندوب البابا سئل هل يؤمن الكاثوليك على حياتهم فلا يقتلون، فأجاب: " اقتلوهم جميعاً فاللّه يعلم من هم أنصار"(32) ولعله كان يخشى أن يجهر جميع المغلوبين وقتئذ باعتناق الدين القويم، ثم يعودون بعد إلى ضلالهم. ولما حرقت بيزيير عن آخرها تقدم الصليبيون بقيادة ريمند ليهاجموا حصن كاركسون حيث وقف روجر كونت بيزيير وابن أخي ريمند وقفته الأخيرة يدافع عن الحصن، لكن الحصن سقط في أيدي الماجمين ومات روجر بزحار البطن.
وكان أكثر القواد شجاعة في هذا الحصار هو سيمون ده مونت فورت Simon de Montfort . وقدولد سيمون هذا في فرنسا حوالي عام 1170 وكان أكبر أبناء سيدمونت فورت القريبة من باريس. وأصبح سيمون بعدئذ إيرل ليست Earl of Leicester، وهو لقب ورثه عن أمه الإنجليزية. وقد استطاع سيمون أن يجمع بين التقي العظيم والحروب العوان، كما استطاع ذلك كثيرون من رجال وقته المتغطرسين. فكان يستمع إلى الصلوات في كل يوم، واشتهر بطهره وعفافه ونال شهرة عظيمة في حروب فلسطين. وأخذ في هذه الحرب الألبجنسية يهاجم بجيشه الصغير المؤلف من 4500 رجل بلدة في إثر بلدة يستحثه مندوب البابا، ويسحق كل ما يعترضه من مقاومة، ويعرض على الأهلين أن يختاروا بين يمين الولاء للكنيسة الرومانية أو القتل لأنهم مارقون، واختار آلاف منهم أن يقسموا يمين الولاء، وفضل مئات أن يقتلوا(33). وواصل سيمون حملاته أربعة أعوام خرب فيها أملاك كونت ريمند كلها تقريباً ما عدا طولوز، حتى استسلمت له طولوز نفسها في عام 1215، واجتمع مجلس من مندوبي البابا في منبلييه وقرر خلع كونت ريمند، وورث سيمون لقبه والجزء الأكبر من أملاكه.
ولم يكن إنوسنت الثالث راضياً كل الرضا عن هذه الاعمال، فقد هاله أن يجد أن الصليبيين استولوا على أملاك رجال لم يخرجوا قط على الدين وأن هؤلاء الرجال نهبوا وقتلوا كما يقتل القراصنة المتوحشون وينهبون(34). وأشفق البابا على ريمند فوظف له معاشاً سنوياً، ووضع جزءاً من أملاكه تحت وصاية الكنيسة تحتفظ بها لابنه ولما بلغ ريمند السابع سن الرشد فتح طولوز واستردها من سيمون، ومات سيمون نفسه وهو يحاصر المدينة مرة ثانية (1218).ووقفت الحرب الصليبية وقتئذ لما مات إنوسنت، وخرج من بقى حيا من الألبجنسيين المستمسكين بعقيدتهم يمارسون شعائر دينهم ويدعون له تحت حكم كونت طولوز الجديد اللين الرحيم.
وعرض لويس الثامن ملك فرنسا في عام 1223 أن يخلع ريمند، وأن يقضي على كل الخوارج في أملاكه، إذا سمح له هونوريوس الثالث بأن يضم هذا الإقليم إلى أملاكه الخاصة. ولسنا نعرف بم أجاب البابا، وكل ما نعرفه أن حرباً صليبية بدأت، وأن لويس أوشك أن ينتصر فيها حين لفته المنية في منبلييه (1226). وانتهز ريمند هذه الفرصة ليعقد الصلح ومع بلانش صاحبة قشتالة فيها عن لويس التاسع، فعرض أملاك ابنته جين Jeanne على الفونس أخي لويس، وعودة أملاك ريمند بعد وفاته إلى جين وزوجها. وكانت بلانش يؤرقها ويقض مضجعها الأشراف الثائرون عليها، فقبلت هذا العرض، ووافق عليه البابا جريجوري التاسع بعد أن تعهد ريمند بالقضاء على حركة الإلحاد بقضها وقضيضها. وعقدت معاهدة الصلح في باريس عام 1229 ووضعت الحروب الإلبجنسية أوزارها بعد ثلاثين عاماً من التقتيل والتخريب، وخرج الدين القويم ظافراً من هذه الحروب، وانتهى بانتصار عهد التسامح، وحرم مجلس نربونه (1229) أن يمتلك أحد من غير رجال الدين أي جزء من الكتاب المقدس (25) وأخذ الإقطاع ينتشر، وأخذت حرية المدن وحكوماتها البلدية في الاضمحلال، وانقضى عصر شعراء الفروسية الغزلين في جنوبي فرنسا. وماتت في عام 1271 جبن هي وألفونس اللذان ورثا أملاك ريمند دون أن يكون لهما أبناء. آلت ولاية طولوز الواسعة إلى لويس التاسع والتاج الفرنسي، وأصبحت لفرنسا الوسطى وقتئذ منافذ تجارية حرة على البحر المتوسط، وخطت فرنسا خطوة واسعة نحو وحدتها، وكانت هذه الوحدة هي ومحكمة التفتيش أعظم ما أسفرت عنه الحروب الصليبية الألبجنسية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثاني: منشأ محكمة التفتيش أو التحقيق
لقد سن كتاب العهد القديم قانوناً بسيطا لمعاملة المارقين من الدين ، يقضى بأن يفحص عنهم فحصاً دقيقاً، فإذا شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم: "ذهبوا وراء آلهة أخرى" أخرج المارقون من المدينة و "رجموا بالحجارة حتى يموتوا" (تثينة التشريع 13: 10) .
إذا قام في وسطك نبي أو حالم وأعطاك آية أو أعجوبة ، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها ، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم ، لأن الرب إلهكم يمتحنهم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم... وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل لأنه يتكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم... فتنزعون الشر من بينكم. وإذا أغواك سراً أخوك بن أمك , أو أبنك أو أبنتك، امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك... فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا تستره بل قتلاً تقتله. (تثينة التشريع 13: 1-9). لا تدع ساحرة تعيش (الخروج 22 : 18).
وقد ورد إنجيل يوحنا (15: 6) أن عيسى عليه السلام ارتضى هذا القول: "إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن فيجف ، ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق" وحافظت الجماعات اليهودية في العصور الوسطى من الوجهة النظرية على الشريعة الكتاب المقدس الخاصة بالمروق من الدين، ولكنها قلما عملت بها. واستمسك بها ابن ميمون بلا تحفظ(36).
وكانت قوانين اليونان ترى المروق من الدين - أي الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام، وهذا هو القانون الذي حكم به على سقراط بالموت، وفي روما القديمة، حيث كان الآلهة حلفاء الدولة وأصدقاءها الاوفياء، كان الخروج عليهم أو التجديف في حقهم من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالإعدام. فإذا لم يوجد من يتقدم باتهام المذنب، استدعى القاضي الروماني نفسه هذا المتهم وقام بتحقيق القضية (inquisition)، ومن هذا الإجراء أخذت محكمة التفتيش أو التحقيق العصور الوسطى شكلها وأسمها. وطبق أباطرة الروم القوانين الرومانية في العالم البيزنطي فحكموا بالإعدام على المانويين وغيرهم من المارقين. ثم كثر التسامح في البلاد الغربية خلال العصور المظلمة وهي التي قلما كان أبناؤها يتحدون الكنيسة، وقال ليو التاسع أن الحرمان من الدين يجب أن يكون هو العقاب الوحيد الذي يوقع على المارقين(37). ولما انتشر الإلحاد في القرن الثاني عشر قال بعض رجال الكنيسة إن حرمان الملحدين يجب أن يعقبه نفي الدولة إياهم أو سجنهم(38). ولما عادت بولونيا في القرن الثاني عشر إلى اتباع القوانين الرومانية جاءت في قانونها نصوص وأساليب، ودوافع، لإنشاء محكمة تحقيق، ونقل قانون الإلحاد الكنسي كلمة من القانون الخامس المعنون Dehereticls (الضلال) في كتاب جستنيان(39). وكان آخر ما فعلته الكنيسة أن أخذت في القرن الثالث عشر قانون ألد أعدائها، فردريك الثاني، وهو أن يكون الإعدام عقوبة الضلال.
ولقد كان من المبادئ العامة لدى المسيحيين - ولدى كثيرين من الضالين أنفسهم - أن الكنيسة قد أقامها ابن الله، وتبعا لهذا المبدأ كان كل هجوم على المذهب الكاثوليكي جريمة موجهة إلى اللّه نفسه، وكانت النظرة التي ينظر بها إلى الضال العاصي هي أنه أداة للشيطان أرسل للقضاء على عمل المسيح، وكل رجل من رجال الحكم بغض النظر عن الضلال إنما يخدم الشيطان بعمله هذا. وإذ كانت الكنيسة نشعر بأنها جزء لا يتجزأ من حكومة أوربا الأخلاقية والسياسية، فقد كانت تنظر إلى الضلال كما تنظر الدولة إلى الخيانة: أي أنه عمل يراد به تقويض أسس النظام الاجتماعي. وفي ذلك يقول إنوسنت الثالث: "إن القانون المدني يعاقب الخونة بمصادرة أملاكهم وإعدامهم ... وهذا يؤكد حقنا في أن يحرم من الدين من يخونون دين المسيح، وأن تصادر أملاكهم، ذلك بأن الإساءة إلى الذات العلية المقدسة جريمة أشنع من الإساءة إلى جلالة الملك"(40). وكان الضال يبدو في أعين الحكام الدينيين أمثال إنوسنت شراً من المسلم أو اليهودي، ذلك أن هذين يعيشان إما في خارج العالم المسيحي أو يخضعان لقانون نظامي - صارم - إذا كانا في داخله؛ يضاف إلى هذا أن العدو الأجنبي جندي في حرب صريحة، أما الضال فهو خائن في داخل البلاد يقوض أسس المسيحية وهي مشتبكة في حرب طاحنة مع الإسلام، يضاف إلى هذا في رأي رجال الدين، أنه إذا أجيز لكل إنسان أن يفسر الكتاب المقدس حسب ما يراه عقله (مهما يكن قاصراً)، وينشئ لنفسه الصورة التي يرتضيها من صور المسيحية، فإن الدين الذي حفظ لأوربا قانونها الأخلاقي الضعيف لن يلبث أن ينهار ويتفرق إلى مائة عقيدة، ويفقد ما له من أثر بوصفه قوة اجتماعية تربط الآدميين المتوحشين بفطرتهم، تخلق منهم مجتمعاً وحضارة.
وكان الشعب نفسه، إلا في جنوبي فرنسا وإيطاليا، أشد الناس حماسة في اضطهاد المخالفين، وقد يكون هذا لأن الشعب نفسه يعتنق آراء رجال الدين السالفة الذكر دون أن تكون دون لها في ذهنه صورة واضحة لها، أو لأن النفوس الساذجة تخشى بفطرتها كل مخالف وغريب، أو لأن الناس يسرهم أن يطلقوا في غمار الجماهير المجتمعة المجهولة العنان لغرائزهم المكبوتة بسبب ما عليهم من التبعات بوصفهم أفراداً. وأيا كان السبب فإن "الغوغاء أنفسهم قد عاقبوا الضالين قبل أن تشرع الكنيسة في اضطهادهم بزمن طويل"(41) بل لقد كان الأهلون المتدينون يشكون لين الكنيسة المفرط مع الضالين(42)، وكانوا في بعض الأحيان "يختطفون المنشقين من أيدي القساوسة الذين يحمونهم"(43)، وشاهد ذلك ما كتبه قس من فرنسا الشمالية إلى إنوسنت الثالث يقول: "لقد بلغ من تقوى الناس هذه البلاد أنك لا تراهم على استعداد لأن يبعثوا إلى موضع الحرق بمن ثبت ضلالتهم فحسب، إنهم ليبعثون إليه فوق ذلك بكل من يظنونه ضالا"(44)، وحدث في عام 1114 أن زج أسقف سواسون ببعض الضالين في سجن، لكن العامة انتهزوا فرصة غيابهم "خافوا أن يصطنع رجال الدين معهم "فهجموا على السجن وجردوا الضالين منه وحرقوهم أحياء(45). وأصر العامة في ليبج عام 1144 على أن يحرق بعض الضالين الذين كان الأسقف أدلبرو Adlbero لا يزال يأمل في هدايتهم(46). ولما قال بيير ده بروي Birre de Bruys "إن القساوسة يكذبون حين يدعون أنهم يصنعون جسم المسيح" (وهم يصنعون القربان المقدس) وأحرق كومة من الصلبان في يوم الجمعة الحزينة، قتله العامة في مكانه وأحرقوه لساعته(48).
واشتركت الدولة على كره منها في اضطهاد الضالين لأنها كانت تخشى ألا تستطيع الحكم بغير مساعدة الكنيسة التي تغرس في قلوب الناس عقيدة دينية موحدة. يضاف إلى هذا خوفها أن يكون الضلال الديني ستاراً يخفي وراءه التطرف السياسي، ولم تكن في ظنها هذا مخطئة على الدوام(49). وقد يكون للاعتبارات المادية أثر في هذا الشأن لأن الضلال الديني أو السياسي كان يعرض للخطر أملاك الكنيسة والدولة، ولهذا، كان الرأي العام بين الطبقات العليا - مع استثناء لانجو يدك مرة أخرى - يطلب إلى الدولة أن تقضي على الضلال مهما كفها ذلك(50). ولهذا أمر هنري السادس إمبراطور ألمانيا (1194) أن ينزل بالضالين أشد أنواع العقاب، وأن تصادر جميع أملاكهم، وأصدر أتو الرابع (1210)، ولويس الثامن ملك فرنسا (1226)، وأصدرت مدينتا فورنس (1227) وميلان (1228)، مراسيم شبيه بمرسوم هنري. وكان أشد قوانين والاضطهاد هو القانون الذي سنه فردريك الثاني فيما بين عامي 1220 و 1239 وقضى بأن يسلم الضالون الذين تحكم عليهم الكنيسة إلى " اليد الزمنية - أي إلى ولاة الأمور المحليين - وأن يحرقوا أحياء، فإذا ما رجعوا عن ضلالهم نجوا من الموت وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، ثم صودرت جميع أملاكهم، وحرم ورثتهم من ميراثهم، وظل أبناؤهم محرومين من حق الاختبار إلى أي منصب ذي دخل أو كرامة، إلا إذا كفروا عن ذنب آبائهم بالتبليغ عن غيرهم من الضالين . وقضى القانون بأن تحرق بيوت الضالين ولا يعاد بناؤها قط(51). وأضاف لويس التاسع الرقيق الظريف أحكاماً شبيهة بهذه الأحكام إلى قوانين فرنسا والحق أن الملوك هم الذين كانوا ينازعون الشعب فضل البداية في اضطهاد الضالين. وحسبنا أن نذكر غير ما سبق أن روبرت ملك فرنسا أمر بإحراق ثلاثة عشر ضالاً في أورليان عام 1022؛ وكان هذا أول حادث معروف من حوادث إعدام الضالين بعد إعدام برسليان priscilian بأيدي السلطات الزمنية في عام 385. وبعد ذلك شنق هنري الثالث إمبراطور ألمانيا عدداً من المانويين أو الكاثاريين في جسلار غير عابئ باحتجاج وازو Wazo أسقف ليبج وقوله إن في الحرمان من الدين عقاباً كافياً للضالين(52). وفي عام 1183 "بعث الكونت فليب صاحب فلاندرز هو ورئيس أساقفة ريمس "عدداً كبيراً من النبلاء، ورجال الدين، والفرسان ، والفلاحين، والفتيات، والنساء المتزوجات، والأرامل إلى حيث أحرقوا وهم أحياء بعد أن صادرا أملاكهم واقتسماها بينهما".
وكان البحث عن الضالين قبل القرن الثالث عشر يترك في الأحوال العادية للأساقفة. وإنا ليصعب علينا أن نسمي هؤلاء الأساقفة باحثين، لأنهم كانوا ينتظرون الشائعات العامة أو الضجيج الذي يدلهم على الضالين، فيستدعونهم ولكنهم يصعب عليهم أن يحملوهم بطريق التحقيق على الاعتراف بذنوبهم. ولم يكونوا يرتضون أن يلجئوا إلى التعذيب، فكانوا لذلك يعمدون إلى طريق التحكيم الإلهي، وهم مخلصون في ظاهر الأمر في اعتقادهم أن اللّه سيرسل المعجزات لحماية البريئين. وأيد القديس برنار هذه الوسيلة ووصفها مجلس من الأساقفة عقد في ريمس (1257) بأنها إجراء عادي في محاكمة الضالين، ولكن إنوسنت الثالث حرمها. وساء البابا لوسيوس الثالث إهمال الأساقفة في محاربة الضلال، بأن يزوروا أسقفياتهم مرة في كل عام على الأقل، وأن يقبضوا على كل من تحوم حولهم الشبهات وأن يسلكوا كل من لا يقسم يمين الولاء التام للكنيسة في زمرة الضالين (وقد رفض الكاثاري أن يقسموا هذا القسم)، ثم عليهم بعد ذلك أن يسلموا هؤلاء العصاة إلى ولاة الأمور المحليين. وخول مندوبو البابا حق خلع الأساقفة الذين يتوانون في القضاء على الضلال(54). وطلب إنوسنت الثالث في عام 1215 إلى جميع ولاة الأمور المدنيين أن يقسموا علماً بأن "يبيدوا من الأراضي الخاضعة لطاعتهم جميع الضالين الذين عينتهم الكنيسة ليلقوا ما يستحقون من العقاب" فإذا لم يفعلوا هذا كانوا هم أنفسهم ضالين. وكل أمير يهمل في أداء هذا الواجب يخلع ويعفي البابا رعاياه من طاعته(55) ولم يكن " العقاب الذي يستحقونه" حتى ذلك الوقت يزيد على النفي ومصادرة الأملاك(56).
ولما ارتقى جريجوري التاسع عرش البابوية (1227) وجد أن الضلال آخذ في الازدياد رغم المحاكمات الشعبية، والحكومية، والأسقفية. فقد كانت جميع بلاد البلقان، وكان الجزء الأكبر من إيطاليا، وغير قليل من فرنسا، كانت هذه البلاد مرتعاً للزيغ والضلال، حتى لقد أضحت الكنيسة، ولما يمض على سلطات إنوسنت الرائع إلا زمن وجيز، يتهددها خطر الانقسام والتفكك. وكانت المسألة، كما يراها الحبر الطاعن في السن، أن الكنيسة وهي تقاتل فردريك والضلال في وقت واحد، إنما تقاتل في سبيل المحافظة على حياتها، وأنها يحق لها من أجل المبادئ الأخلاقية والأساليب التي تحتمها حالة الحرب. وروع جريجوري أن عرف أن الأسقف فلبو باترنون Fillippo Paterrenon الذي تمتد أسقفيته من بيزا إلى أرزو قد اعتنق مذهب الكاثاري، فعين لجنة للتحقيق يرأسها راهب من الدمنيك تعقد جلساتها في فلورنس وتقدم الضالين إلى المحاكمة (1227). وكانت هذه اللجنة في واقع الأمر بداية محكمة التحقيق البابوية، وإن كان المحققون فيها خاضعين من الوجهة الرسمية لسلطات الأسقف المحلى . فلما كان عام 1231 أدخل جريجوري في قانون الكنيسة الشرائع التي سنها فرردريك في عام 1224، وبذلك اتفقت الكنيسة والدولة من ذلك الوقت على أن الضالين الذين لا يتوبون عن ضلالهم خونة يجب أن يعاقبوا بالإعدام، وبهذا أنشئت محكمة (التفتيش) رسميا تحت سلطات البابوات.
الفصل الثالث: المحققون (المفتشون)
أرسل جريجوري وخلفاؤه بعد عام 1227 عدداً متزايداً من المحققين أو المفتشين الخصوصيين لمطاردة الضلال، وكان يفضل أن يختار لهذا العمل أعضاء طوائف الرهبان المتسولين الجدد لأن حياتهم البسيطة وإخلاصهم يختلفان عن ترف رجال الدين من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى لا يستطيع الاعتماد على الأساقفة. على أنه لم يبح لأي محقق أن يقضي بحكم شديد على أي ضال من غير موافقة الأسقف، ولهذا اختير كثير من الرهبان الدمنيك لهذا الغرض، حتى لقد سموا من قبيل السخرية Domini Canes أي "كلاب الله" (الصيادين)(57). وكان كثيرون منهم رجالا متزمتين في أخلاقهم ولكن قل منهم من كان يتصف بالرحمة، ولم يكونوا يعتقدون في أنفسهم أنهم قضاة يزنون الأدلة بعدل ونزاهة، بل كانوا يظنون أنهم محاربون يطاردون أعداء المسيح. وكان منهم رجال ذو عناية وضمائر حية أمثال برنار جوي Bernard Gui، ومنهم من كانوا مرضى ساديين مثل روبرت الدمنيكي Robert the Dominican وهو رجل ضال تائب أرسل في يوم واحد من أيام 1239 مائة وثمانين شخصاً ليحرقوا أحياء، من بينهم أسقف منح الضالين حسب رأيه حرية أكثر مما يستحقون. وقد أعفى روبرت هذا من منصبه وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (58).
وكان اختصاص محكمة التحقيق مقصوراً على المسيحيين دون سواهم، أما اليهود والمسلمون فلم يكونوا يدعون أمامها للتحقيق معهم إلا إن كانوا مسيحيين مرتدين (59). ولقد بذل الدمنيك جهوداً خاصة لتحويل اليهود إلى المسيحية، ولكنهم لم يكونوا يلجئون في هذا العمل لغير الوسائل السلمية، وبلغ من حرصهم على هذا أنه لما اتهم بعض في عام 1256 بقتل بعض أطفال المسيحيين في بعض طقوسهم، عرض الرهبان الدمنيك والفرنسسكان حياتهم للخطر لإنقاذهم من الغوغاء (60). وخير ما يوضح لنا الغرض من إنشاء محكمة التحقيق ودائرة اختصاصها مرسوم بابوي أصدره نقولاس الثالث (1280).
نعلن بهذا حرمان جميع الضالين ونصب عليهم اللعنة - الكاثارى، والبتارين، ورجال ليون الفقراء. ..وكل من عداهم أياً كان الاسم الذي يسمون به. فإذا أدانتهم الكنيسة وجب إسلامهم إلى القاضي الزمني لمعاقبتهم.... وإذا ما ندم واحد منهم بعد اعتقاله وأراد أن يكفر عن ذنبه، وجب سجنه مدى الحياة... وكل من يأوي الضالين، أو يحميهم، أو يساعدهم، يحرم من الدين، وإذا لم يستطع المتهمون بالضلال أن يثبتوا براءتهم، طردوا من حظيرة الدين، فإذا بقوا محرومين عاماً كاملا حكم عليهم بما يحكم على الضالين. وليس لهؤلاء حق استئناف الحكم... وكل من يمنحهم دفنة مسيحية يحكم عليه بالحرمان ويظل كذلك حتى يعمل ما يستوجب الرضا عنه.. فلا يغفر له ذنبه حتى يخرج بيده جثث المحرومين ويطرحها في العراء. ونحن نحرم على غير رجال الدين جميعهم أن يناقشوا في مسائل الدين الكاثوليكي، ومن يفعل هذا يحرم من الدين، وعلى كل من يعرف أحداً من الضالين، أو ممن يعقدون اجتماعات سرية، أو ممن لا يؤمنون بعقائد الدين القويم أياً كانت، أن يبلغ ذلك إلى من يفضي إليه باعترافه، أو إلى شخص آخر يبلغه إلى الأسقف أو المحقق، فإذا لم يفعل هذا حرم من الدين. والضالون، وكل من يأوونهم، أو يؤيدونهم، أو يساعدونهم، وكذلك أبناؤهم حتى الجيل الثاني - هؤلاء لا يسمح لهم بتولي المناصب الكنسية.. وهانحن أولاء نحرمهم جميعاً وأمثالهم من دخلهم إلى أبد الدهر(61).
ويجوز أن تبدأ إجراءات محاكم التحقيق بالقبض العاجل على جميع الضالين، وعلى جميع المشتبه في ضلالهم أحياناً وقد تبدأ بأن يستدعى المحققون الزائدون على جميع السكان البالغين في مكان ما للبحث المبدئي. والذين يقرون بضلالهم في خلال "المهلة القانونية" الأولى، ومدتها ثلاثون يوما، ثم يتوبون، يطلق سراحهم بعد حبسهم زمناً وجيزاً، أو بعد أن يقوموا بعمل من أعمال التقى، أو يتصدقون بالمال (62) أما الضالون الذين لا يعترفون في أثناء هذه المهلة، ثم يكشف عن أسرهم في هذا التحقيق المبدئي، أو تدل عليهم عيون محكمة التحقيق(63)، أو يكشف عنهم بأية طريقة أخرى، أما هؤلاء جميعاً فيدعون إلى المثول أمام محكمة التحقيق، وكانت هذه المحكمة تؤلف الأحوال العادية من أثنى عشر رجلا يختارهم الحاكم الزمني في الإقليم من ثبت يحتوي أسماء المرشحين، يعرضه عليه الأسقف وهيئة المحققين، ويضم إليه اثنان من المسجلين وعدد من الحجاب فإذا ما انتهز المتهمون هذه الفرصة الثانية، وأقروا بذنبهم، عوقبوا عقاباً يختلف باختلاف ذنبهم، وإذا أنكروا جرمهم زجوا في السجن وكان من المستطاع محاكمة المهتمين وهم غائبون أو بعد مماتهم. وكانت المحاكمة تحتاج إلى شاهدين من شهود الإثبات، وتقبل من يعترفون بذنبهم من الضالين شهود إثبات على غيرهم، وكان يسمح للزوجات أن يشهدن على أزواجهن وللأبناء على آبائهم، ولا يسمح لهؤلاء أو أولئك أن يشهدن أو يشهدوا لهم (64) ويسمح لجميع المتهمين في مكان ما بناء على طلبهم أن يطلعوا على ثبت شامل يحوى جميع أسماء من يتهمونهم، ولكن هذا الثبت لا يدل أي متهم على من اتهمه، فقد كان يخشى أنه إذا واجه أي متهم من اتهمه فقد يعمد أصدقاء المتهم إلى قتل من يتهمه. وفي ذلك يقول لي Lea: "والحق أن عدداً من الشهود قد قتلوا لريبة بسيطة حامت حولهم"(65). وكان يطلب إلى المتهم عادة أن يذكر أسماء أعدائه، وكانت المحكمة ترفض أي دليل يقدمه أولئك الأعداء(66)، وكان المبلغون الكاذبون يعاقبون أشد العقاب(67)، ولم يكن يسمح للمتهمين قبل عام 1300 بأن يستعينوا بأية معونة قانونية(68)، أما بعد عام 1354 فقد صدر مرسوم بابوي يحتم على المحققين ألا يعرضوا أدلة الإثبات على الأسقف وحده بل أن يعرضوها عليه وعلى رجال من ذوي السمعة الطيبة في الإقليم ، وأن يصدروا حكمهم بما يتفق مع آرائهم(69). وكانت هيئة من الخبراء (perite) تدعى في بعض الأحيان لتبدي رأيها في الأدلة. وقصارى القول أن الأوامر الصادرة إلى المحققين كانت تنبههم إلى النجاة المذنب من العقاب خير من إدانة البريء، وأن من واجبهم أن يحصلوا إما على دليل واضح أو اعتراف صريح.
وكان القانون الروماني القديم يجيز الالتجاء إلى التعذيب للحصول على الاعتراف، ولم تكن هذه الطريفة تتبع في المحاكم الأسقفية، أو في السنين العشرين الأولى من سني محاكم التحقيق، غير أن إنوسنت الرابع (1252) أجازها حيث يكون القضاة واثقين من جرم المتهم، ثم أجازها من جاء بعده من الأحبار(70). ولكن البابوات كانوا ينصحون بأن يكون التعذيب آخر ما يلجأ إليه مع المتهمين، وألا يلجأ إليه إلا مرة واحدة، "وألا يصل إلى ما يؤدي إلى فقد عضو من الأعضاء أو إلى خطر الموت". وفسر المحققون عبارة "مرة واحدة" بأنها تعني مرة واحدة في كل محاكمة، فكانوا لذلك يقطعون التعذيب في بعض الأحيان ليواصلوا المحاكمة، ويرون بعدئذ أن من حقهم تعذيب المتهم. وكان التعذيب يستخدم في كثير من الأحيان لإغرام الشهود على أداء الشهادة، أو لإجبار الضال المعترف على الإدلال بأسماء غيره من الضالين (71). وكان من أنواعه الجلد، والكي بالنار، والتعذيب بالعذراء، والسجن الانفرادي في جب مظلم ضيق، وكانت قدما المتهم توضعان أحيانا على الفحم المتقد، أو كان يشد إلى إطار على شكل مثلث ثم تجذب يداه وساقاه بالحبال الملفوفة حول آلة لاوية. وكان طعام السجين يقلل أحياناً حتى يضعف بذلك جسمه وإرادته فيؤثر فيه التعذيب النفساني، كالوعد بالرأفة أو التهديد بالقتل(72). وقلما كانت محكمة التحقيق ترى قيمة للاعتراف الذي يأتي من طريق التعذيب، ولكن هذه المشكلة كان يتغلب عليها بإرغام المتهم على أن يؤكد، بعد ثلاث ساعات من اعترافه، ما قرره أثناء التعذيب، فإذا أبى أمكن تعذيبه من جديد، وحدث في عام 1286 أن بعث موظفو كركسون Garcassonne برسالة إلى فيليب الرابع ملك فرنسا والى البابا نقولاس الرابع يشكون فيها من صعوبة التعذيب الذي يلجأ إليه المحقق جان جالان Jean Galand. فقد كان بعض المسجونين جان هذا يتركون زمناً طويلاً في السجن الانفرادي الحالك الظلام، وكانت قيود بعضهم تبلغ من الضيق جداً يضطرون معه إلى الجلوس في برازهم، أو لا يستطيعون ألا النوم على ظهورهم فوق الأرض الباردة(73). وقد شد بعضهم إلى العذراء شداً عنيفاً فقدوا معه استخدام أيديهم وأرجلهم، ومنهم من مات في أثناء التعذيب(74) وشنع فيليب على هذه الوحشية وحاول البابا كلمنت الخامس (1312) أن يحد من إلتجاء المحققين إلى التعذيب، ولكن سرعان ما أهملت أوامره (75).
وكان المسجونون الذين يأبون أن يفيدوا من الفرصتين اللتين تتاح لهم للاعتراف ثم يدانوا بعدئذ، والذين يرتدون إلى ضلالهم بعد توبتهم كان هؤلاء وأولئك يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة أو الإعدام، وكان السجن مدى الحياة يخفف بمنح السجين شيئاً من الحرية في التنقل، والزيارة، والألعاب، أو يشدد بحرمانه من الطعام أو بتقييده بالأغلال(76). وكان الذين يدانون بعد أن يقاوموا يحكم عليهم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى بمصادرة أملاكهم. وكان بعض هذه الأملاك المصادرة يعطى عادة لحاكم الإقليم الزمني، ويعطي بعضها للكنيسة، وكان ثلث هذه الأملاك يعطي في إيطاليا للذي يبلغ عن الضال، أما في فرنسا فكانت الأملاك المصادرة تذهب كلها للتاج. وكانت هذه الاعتبارات كلها تغري الدولة والأفراد بالإشتراك في تعقب الضالين، وفي محاكمة الموتى، وكان من المستطاع في أي وقت من الأوقات الاستيلاء على أملاك البريثين من الناس بحجة أن من أورثوهم إياها قد ماتوا وهم ضالون. وكان هذا من الشرور الكثيرة التي حاول البابوات أن يقضوا عليها، ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح(77). وكان مما يفتخر به أسقف رودس أنه جمع مائة ألف "صول " في حملة واحدة على الضالين في أسقفيته(78).
وكان المحققون يعلنون في حفل رهيب يقام من آن إلى آن إدانة المذنبين وما يحكم به عليهم من عقاب. فأما التائبون فكانوا يوضعون على منصة في وسط الكنيسة، ثم يقرأ اعترافاتهم، ويطلب إليهم أن يؤكدوا هذا الاعتراف، وأن ينطقوا بصيغة خاصة يعلنون فيها إقلاعهم عن الضلال، ثم يقوم المحقق الذي يرأس الاحتفال فيعفي التائب من الحرمان، ويعلن سائر الإحكام المختلفة. فأما الذين "سيطلقون" أي يتركون إلى السلطات الزمنية فكان يسمح لهم بيوم آخر يرجعون فيه عن ضلالهم، وأما الذين يعترفون ويتوبون، ولو كانوا عند عمود الحرق، فكان يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، وأما اللذين يبقون على عنادهم فكانوا يحرقون وهم أحياء في ميدان العام.. وكان هذا الإجراء كله، من حكم، وتنفيذ يطلق عليه في أسبانيا اسم "عمل الإيمان aeto da fe" لأنه كان يقصد به أن يقوى عقائد الشعب الصحيحة، ويؤيد الإيمان بالكنيسة.ولم تنطق الكنيسة قط بحكم الإعدام، فقد كان شعارها القديم هو: إن الكنيسة تحجم عن إراقة الدماء (ecclesia aphorret a sanguine)، ولهذا كان القسيسون يؤمرون بألا يسفكوا دماء، ومن أجل ذلك فإن الكنيسة حين تبعث إلى السلطات الزمنية باللذين تدينهم لم تكن تطلب إلى ولاة رجال الدولة أكثر من أن يوقعوا عليهم (العقاب الذي يستحقونه) وتنبههم إلى أن يتجنبوا (كل ما من شأنه سفك الدماء أو التعريض لخطر الموت). ثم اتفقت الكنيسة والدولة بعد جريجوري التاسع على ألا يؤخذ هذا التحذير بمعناه الحرفي، بل أن يقتل المذنبون دون أن تسفك دماؤهم أي أن يحرقوا عند عمود الإحراق(79).
وكان عدد من حكمت عليهم محكمة التحقيق الرسمية بالموت أقل مما كان يعتقده المؤرخون في وقت من الأوقات(80). ومن الشواهد الدالة على ذلك أن برنار ده كو Bernard de Gaux وهو من المحققين المتحمسين، قد خلف سجلا طويلا بالقضايا التي نظر فيها؛ وليس في هذا السجل قضية واحدة حكم فيها بإرسال المذنب إلى السلطات المدنية(81). وحكم محقق يدعى برنارد جوى Bernard Gui في مدى سبعة عشر عاماً على تسعمائة وثلاثين ضالاً، فلم يتجاوز من حكم عليهم بالموت من بين هذا العدد خمسة وأربعين(82). وكانت الأحكام الصادرة في حفل عام بطولوز (طلوشة) عام 1310 وهي أن أمر عشرون شخصاً بأن يخرجوا للحج، وحكم على ستة وخمسين بالسجن، وعلى ثمانية عشر بالإعدام. وفي عمل الإيمان الذي حدث في عام 1312 أرسل واحد وخمسون إلى الحج، وحكم على ثمانية وستين بالسجن مدداً مختلفة، وأرسل خمسة إلى السلطات الزمنية (83). وقصارة القول أن شر مآسي محاكم التحقيق قد أخفتها السجون ولم تر الضوء عند أعمدة الإحراق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابـع: النتائج
لقد حققت محاكم التحقيق في العصور الوسطى أغراضها العاجلة، فقد قضت على الكثارية. فرنسا، ولم تبق من الولدنسيين إلا عدداً قليلا من المتحمسين المتفرقين في أماكن مختلفة، وأعادت جنوبي إيطاليا إلى الدين القويم، وأجلت تمزق المسيحية الغربية مدى ثلاثة قرون. وبها انتقلت زعامة أوربا الثقافية من فرنسا إلى إيطاليا، ولكن الملكية الفرنسية المطلقة، بعد أن قويت باستيلائها على لانجويدك، بلغت من السلطان مبلغاً استطاعت به أن تخضع البابوية لأمرها في أيام بنيفاس الثامن، وأن تزجها في السجن في عهد كلمنت الخامس. ولم يكن لمحاكم التحقيق في أسبانيا قبل عام 1300 إلا شأن صغير، وترجع نشأتها فيها إلى عام 1232 حين استطاع ريمند البنيافورتي Raymond of panafort الراهب الدمنيكي عند جيمس الأول ملك أرغونة، ان يقنع هذا الملك بإدخال محاكم التحقيق في بلده. ولعل هذا الملك أراد أن يقلل من شطط محاكم التحقيق فسن في عام 1233 قانوناً يجعل الدولة هي التي تؤول إليها أملاك الضالين المصادرة، وإن أصبح هذا العمل نفسه في القرون التالية حافزاً قوياً للملوك وجدوا أن التحقيق والاستيلاء عملان شديدا الاتصال أحدهما بالآخر.
وفي شمال إيطاليا ضل الضالون كثيري العدد فلم يكن أتباع الدين القويم يعنون كثيراً بالاشتراك في اصطياد الضالين، وكان الطغاة المستقلون أمثال إزلينو Ezzelino في فيشنزا Vicenza وبلافيشينو Pallaviclno في كرمونا وميلان يحمون الضالين سراً أو جهراً. وفي فلورنس أنشأ الراهب روجيري Ruggieri جماعة عسكرية من النبلاء المتمسكين بالدين لتأييد محكمة التحقيق، واشتبك معهم البارتيون في معارك دموية في الشوارع ولكنهم هزموا فيها (1245)، ثم أخفت الضلالة في فلورنس رأسها فيما بعد، وحدث في عام 1252 أن اغتال بعض الضالين الراهب بيرودافرونا Piero da Verona في ميلان، فلما قتل سلكته الكنيسة في عداد القديسين الشهداء وأسمته الشهيد بطرس، وكان لعملها هذا الأثر في مقاومة الضلالة في شمالي إيطاليا أكثر مما كان لجميع فظائع المحققين. وشنت البابوية حروباً صليبية على إزلينو وبلافنسينو، وقضى على أولها في عام 1259 وعلى الثاني في عام 1268، وبهذا كان انتصار الكنيسة في إيطاليا نصراً حاسماً في ظاهر الأمر.
ولم تثبت محكمة التحقيق قدمها في إنجلترا. نعم إن هنري الثاني حرص على إثبات تمسكه بدينه في أثناء نزاعه مع بكت بأن جلد واحداً وعشرين من الضالين وكواهم بالنار في أكسفورد عام 1266 (84). ولكننا لا نكاد نسمع عن ضلالة في إنجلترا قبل أيام ويكلف Wycalf. وفي ألمانيا ترعرعت محكمة التحقيق وأقدمت على أعمال جنونية زمناً قصيراً، ثم ماتت. فقد حدث في عام 1212 أن أحرق هنري أسقف أسترسبرج ثمانين ضالاً في يوم واحد، وكان معظمهم ولديين،وأعلن زعيمهم القس يوحنا عدم إيمانه بالغفران، وبالمطهر، وببقاء رجال الدين بلا زواج، وقال إن رجال الدين يجب إلا تكون لهم أملاك. وفي عام 1227 عين جريجوري التاسع كنراد Gonard قس ماربرج Marburg رئيساً لمحاكم التحقيق في ألمانيا وأمره ألا يكتفي بالقضاء على الضلال ، بل أن يصلح أحوال رجال الدين بعد أن وصمهم البابا بالفساد، وقال إن فسادهم هو أهم أسباب ضعف الإيمان بين الناس. واضطلع كنراد بكلا الواجبين بمنتهى القسوة، وخير كل من اتهموا بالضلال بين واحدة من اثنتين: إما الاعتراف فالعقاب، أو الإنكار فالموت حرقاً. ولما أن سار في إصلاح رجال الدين على هذا النحو من الجد، انضم المتمسكون بدينهم والضالون بعضهم إلى بعض في مقاومته، وانتهى الأمر بأن قتله أصدقاء ضحاياه (1233)، وتولى الأساقفة الألمان أعمال محاكم التحقيق، وخففوا من غلوائها، وجعلوا إجراءاتها أقرب إلى العدالة من ذي قبل. وبقيت بعض الشيع الدينية، بعضها شيع ضالة وبعضها صوفية، بوهيميا وألمانيا، ومهدت السبيل إلى هوس Huss ولوثرLuther.
وبعد فإنا حين نصدر حكماً على محاكم التحقيق يجب أن ننظر إليها على ضوء عصر اعتاد الوحشية، ولعل عصرنا الحاضر الذي قتل في الحروب وأزهق من الأرواح البريئة دون أية محاكمة، أكثر من أمثالهم بين أيام قيصر ونابليون، أقدر من غيره على فهم هذه المحاكم. إن التعصب يلازم الإيمان القوي على الدوام، والتسامح لا ينشأ إلا حين يفقد الإيمان يقينه، أما اليقين فسيف بتار. ولقد أقر أفلاطون التعصب في "قوانينه"، وأقره المصلحون في القرن السادس عشر، وإن بعض من ينتقدون محكمة التحقيق ليدافعون عن أساليبها إذا جرت عليها الدول الحديثة. ولقد تضمنت قوانين كثير من الحكومات الأساليب التي سارت عليها محاكم التحقيق، ولعل ما يحدث من تعذيب المشتبه فيهم سراً في هذه الأيام يسير على نمط محاكم التحقيق أكثر مما يسير على نمط القانون الروماني. وإذا وازنا بين اضطهاد المسيحيين للضالين في أوربا من 1227 إلى 1492، وبين اضطهاد الرومان للمسيحيين في الثلاثة القرون الأولى بعد المسيح، حكمنا من فورنا بأن هذا أخف وطأة وأكثر رحمة من ذاك. وإذا ما أسقطنا من حسابنا كل ما يطلب إلى المؤرخ من اعتدال في حكمه، وما يسمح به للمسيحي من تمسك بدينه. إذا أسقطنا من حسابنا هذا وذاك، فلا بد لنا أن نضع محاكم التحقيق في مستوى حروب هذه الأيام واضطهاداتها، ونحكم عليها جميعاً بأنها أشنع الوصمات في سجل البشرية كله، وبأنها تكشف عن وحشية لا نعرف لها نضيراً عند أي وحش من الوحوش.