قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 27
صفحة رقم : 5590
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> مذهب الروم الكاثوليك -> عقيدة الشعب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب السابع والعشرون: مذهب الروم الكاثوليك 1095 - 1294
الفصل الأول: عقيدة الشعب
يعد الدين من كثير من الوجوه أكثر أساليب الإنسان طرافة لأنه آخر ما تفسر به الحياة، وهو سبيله الوحيدة لاتقاء الموت. وليس في تاريخ العصور الوسطى كله ما هو أعظم أثراً في النفس من الدين، فإنك تراه في كل مكان، ويكاد يكون أعظم القوى في تلك العصور. وليس من السهل على من يعيشون الآن منعمين تتوافر لهم جميع حاجاتهم أن يدركوا حق الإدراك، ما كان في تلك العصور من فوضى وعوزهما اللذان شكلا عقائد الناس في خلالها. ولكن من واجبنا أن ننظر إلى ما كان عند المسيحيين واليهود من خرافات، وأسرار خفية، ووثنية، وسذاجة، وسلامة طوية، نقول إن من واجبنا أن ننظر إلى هذا كله بنفس العطف الذي يجب أن ننظر به إلى عنائهم، وفقرهم، وأحزانهم، وإن فرار الآلاف المؤلفة من الرجال والنساء من "الدنيا، واللحم، والشيطان" إلى أديرة الرجال والنساء ليوحي إلينا بما كان يسود ذلك الوقت من اضطراب، واختلال أمن، وعنف أوفت على الغاية أكثر مما يوحي بجبن أولئك الفارين وخور عزيمتهم. وبدا أن من البداءة أن لا سبيل إلى السيطرة على الدوافع البشرية الوحشية إلا بقانون أخلاقي تؤيده قوة تعلو على القوى البشرية. وكان أكبر ما يحتاجه العالم وقتئذ هو عقيدة توازن المحن بالآمال، وتخفف من وقع الحرمان بالسلوى والعزاء، وتزيل من ملل الكدح بخيال العقيدة، وتمحو قصر الأجل بعقيدة الخلود، وتضفي على المسرحية الكونية معنى ملهما يشرفها ويرفع من قدرها، لولاه لكانت موكباً لا معنى له ولا يمكن احتماله، موكباً من الأنفس، والأجناس، والنجوم، تهوى واحدة بعد واحدة إلى الفناء الذي ليس منه محيص.
وسعت المسيحية إلى الوفاء بهذه الحاجات بفكرة حماسية رائعة عن الخلق والخطيئة الآدمية، والأم العذراء، والإله المعذب، والنفس الخالدة التي قدر عليها أن تواجه يوم الحساب فيقضى عليها بالتردي في الجحيم إلى أبد الآبدين، أو أن تنجو وتنال النعيم السرمدي على يد كنيسة توفر لها بأسرارها المقدسة البركة الإلهية التي حلت على العالم بموت منقذه. وكانت حياة الكثرة الغالبة من المسيحيين تجول وتجد معناها في هذه النظرة الشاملة إلى العالم.
وكان أعظم ما أهدته العقيدة الدينية إلى العالم في العصور الوسطى هو ثقته بأن الحق سيعلو آخر الأمر، وأن كل نصر ظاهري للشر سيفنى آخر العهد حين يظفر الخير بالشر في العالم كله، وتلك ثقة تعلى من قدر البشرية وتدعم كيانها. وكانت عقيدة يوم الحساب أساس العقيدة المسيحية واليهودية والإسلامية. وبقى الاعتقاد بعودة المسيح إلى الأرض، ونهاية العالم لتكون هذه العودة وتلك النهاية تمهيداً ليوم الحساب الأخير، بقى هذا الاعتقاد بعد هبوط مسعى الرسل، ومرور العام المتمم للألف بعد المسيح، ومخاوف أربعين قرناً وآمالها. نعم إن هذا الاعتقاد أضحى أقل وضوحاً وأضيق انتشاراً مما كان قبل، ولكنه لم يمنح من النفوس، فقد قال روجر بيكن Roger Bacon في عام 1271 : إن "العقلاء من الناس" يرون أن نهاية العالم قد قربت(1)، وكان كل وباء شامل، وكل كارثة مدلهمة، وكل زلزال مروع، وكل مذنب يظهر في السماء، وكل حادثة غير عادية، كان كل شيء من هذا القبيل يعد نذيراً بنهاية العالم، وحتى إذا ظل العالم باقياً فإن الموتى وأجسامهم ستبعث من فورها بعد وفاتها لتحاسب على ما قدمت من خير وشر.
وكانت تجيش في صدور الناس آمال غامضة بدخول الجنة، ولكنهم كانوا يخافون النهار خوفاً واضحاً صريحاً لا غموض فيه، وكان في الدين المسيحي في العصور الوسطى كثير من الرقة والرأفة، ولكن رجال الدين والوعاظ الكاثوليك، والبروتستنت الأولين، كانوا يشعرون بأن من الواجب عليهم أن يروعوا الناس بأهوال الجحيم . ولم يكن المسيح في هذا العهد هو "عيسى الوديع الرقيق"، بل كان هو المنتقم الجبار لكل ما يرتكبه ويقال إن القديس البشر من آثام. وكان في الكنائس كلها تقريباً رمز من يمثل المسيح في صورة قاض، وكان في الكثير منها صور ليوم الحساب، تمثل ضروب التعذيب التي يلقاها الملعونون تمثيلاً أشد وضوحاً من النعيم الذي يتمتع به السعداء المقربون. مثوديوس استطاع أن يقنع بوريس Boris ملك بلغاريا باعتناق الدين المسيحي بأن رسم له صورة الجحيم على جدار القصر الشيطان مشدوداً إلى مشواة ملتهبة من الحديد بسلاسل حمراء من شدة الحرارة، لا ينقطع له الملكي(4). وكان كثيرون من المتصوفة يدعون أنهم رأوا في أحلامهم صوراً للنار، وقد وصفوها وصفاً جغرافياً، وصوروا ما فيها من عذاب(5)، ونقل إلينا الراهب تنديل Tundale من رهبان القرن الثاني عشر تفاصيل لها دقيقة: فقال إن في وسط الجحيم يرى صراخ من فرط الألم، ويداه طليقتان يمدهما ليقبض بهما على العصاة المذنبين، يحطمهم بأسنانه كما يحطم العنب، وأنفاسه النارية تجذبهم إلى حلقة الملتهب. ويقذف أعوانه من الشياطين أجسام المذنبين بخطاطيف من الحديد في النار مرة وفي الماء الزمهرير مرة أخرى، أو يعلقونهم من ألسنتهم، أو ينشرون أجسامهم بالمناشير أو يطرقونها بالمقاطع على سندان، أو يقلونها في النار، أو يعصرونها حتى تصفى من قطعة من النسيج. وكان الكبريت يمزج بالنار حتى تزيد رائحته الكريهة من عذاب الآثمين. وليس للنار ضوء، ولهذا فإن الظلمة المروعة تغشى هذه الآلام المختلفة التي لا يحصى لها عدد(6). أما الكنيسة نفسها فلم يصدر عنها رسمياً قول يحدد مكان النار أو يصفها، ولكنها كانت تعلن سخطها على أمثال أرجن Origen الذين يرتابون في حقيقة نيرانها المادية(7). ولو أن أهوال هذه العقيدة قد نالها بعض التخفيف لأخفقت تحقيق غرضها، ولهذا فإن القديس تومس أكويناس كان يؤمن بأن "النار التي ستعذب فيها أجسام المجرمين نار مادية" وحدد مكان الجحيم "في أسفل الأرض"(8).
ولم يكن الشيطان في خيال العامة من أهل العصور الوسطى، وفي خيال رجال من أمثال جريجوري الأكبر، رمزاً أو كتلة أو تشبيها، بل كان جسماً حقيقياً حياً من لحم ودم، يغشى كل مكان في العالم، يغوي الناس بضروب من المغريات ويخلق كل أنواع الشر. وكان من المستطاع عادة أن يطرد بقضه وقضيضه بقدر من الماء المقدس أو بعلامة الصليب، ولكنه في هذه الحال يخلف وراءه رائحة خبيثة هي رائحة الكبريت المحترق. والشيطان شديد الإعجاب بالنساء، ويتخذ بسماتهن ومفاتهن أدوات يغوى بها ضحاياه، وينال رضاءهن بعض الأحيان- إذا كان لنا أن نصدق النساء أنفسهم. فقد اعترفت امرأة من طلوشة (طولوز Toulouse) أنها كثيراً ما ضاجعت الشيطان، وأنها وهي في الثالثة والخمسين من عمرها ولدت منه هولة لها رأس ذئب، وذئب أفعى(9). وللشيطان في رأي أقوام العصور الوسطى عدد لا يحصى من أعوانه الأبالسة، يحومون حول كل نفس، ويعملون دائبين على جرها إلى ارتكاب الإثم. وهؤلاء أيضاً يحبون أن يضاجعوا النساء اللاتي يهملن أنفسهن، أو ينمن وحدهن، أو ينقطعن للدين والعبادة(10). وقد وصف الراهب ريكالم Richalm أولئك الأبالسة بأنهم "ويملاؤن العالم كله، وأن الهواء كله ليس إلا كتلة سميكة منهم يترصدوننا في كل زمان ومكان.... ومن أعجب العجائب أن يبقى واحد منا حيا يرزق، ولولا رحمة الله لما نجا أحد من شرهم"(11). وكان الناس كلهم تقريباً بما فيهم الفلاسفة أنفسهم يؤمنون بهذا العدد الجم من الأبالسة والشياطين، ولكن روح الفكاهة المنجية كانت تخفف من رهبة هذا الإيمان بهم، وكان كثير من الرجال ذوي العقول المتزنة ينظرون إلى أولئك الأبالسة الصغار على أنهم جماعة من الخبثاء أكثر منهم خلائق مروعين. وكان من العقائد الشائعة أو أولئك الأبالسة يتدخلون تدخلاً مسموعاً، ولكنه غير منظور، في أحاديث الناس، ويخرقون أثوابهم، ويلقون بالأقذار على عابري السبل. ويقال إن شيطاناً متعباً جلس مرة على خمسة فأكلتها راهبة وهي لا تدري ما تفعل(12). وأكثر رهبة من العقيدة السالفة الذكر الاعتقاد بأن "كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون" (الآية 14 من الإصحاح 22 من إنجيل متى). وكان المؤمنون المستمسكون بدينهم يعتقدون أن الكثرة الغالبة من الجنس البشري ستتردى في الجحيم(13)، وكان كثيرون من رجال الدين المسيحيين يؤمنون بحرفية القول المعزو إلى المسيح : "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن" (مرقس إصحاح 16 الآية 16). ووصل القديس أوغسطين على الرغم منه إلى النتيجة القائلة إن من مات من الأطفال قبل التعميد مآله النار(14)، وكان القديس آنسلم يظن أن ليس في عذاب الأطفال غير المعمدين (الآثمين لأن آدم وحواء قد ارتكبوا الإثم) من المخالفة للعقل والمنطق أكثر مما في فرض الرق على أبناء الأرقاء- وهو لا يرى أن في هذا بعداً ما عن المعقول(15). وقد خففت الكنيسة من هول هذه العقيدة بأن علمت الناس أن الأطفال غير المعمدين لا يلقون في الجحيم بل يلقون في يمبوس Infernus puerorum حيث لا يكون عذابهم إلا ما يشعرون به من ألم لأنهم حرموا من الجنة(16).
وكانت الكثرة الغالبة من المسيحيين تعتقد أن المسلمين جميعاً- كما كانت الكثرة الغالبة من المسلمين ما عدا النبي محمداً تعتقد أن المسيحيين جميعاً- سيلقون في النار، وكان الاعتقاد السائد أن "غير المؤمنين" سيعذبون(17). وذهب مجلس لاتران الرابع إلى أبعد من هذا فأعلن (1215) أن لا نجاة لأحد من النار إذا لم يكن من أتباع الكنيسة الجامعة(18). وقرر البابا جريجوري التاسع أن ما كان يأمله ريمند للي Raymond Lully من أن "الله يحب شعبه حباً يؤدي إلى نجاة الناس جميعاً تقريباً، لأنه لو كان المعذبون أكثر من الناجين لكانت رحمة المسيح خالية من كثير الحب"(19)، وليس ثمة رجل آخر من رجال الدين البارزين أجاز لنفسه أن يعتقد- أو أن يقول- إن الناجين سيزيدون على المعذبين(20). وقدر برثلد الرجنز برجي Bertshold of Regensburg، وهو من أشهر وعاظ القرن الثالث عشر وأحبهم إلى الناس، نسبة المعذبين إلى الناجين بمائة ألف إلى واحد(21). ويرى القديس تومس أكويناس أن "في هذا أيضاً رحمة الله أكثر مما تظهر في شيء سواه، لأنه يرفع القليلين إلى معارج النجاة، التي يعجز عن إدراكها الكثيرون"(22). وكان كثيرون من الناس يعتقدون أن البراكين هي أفواه جهنم، وأن قعقعتها ليست إلا صدى خافتاً لأنين المعذبين(23)، وكان جريجوري الأكبر يقول إن فوهة بركان إتنا تزيد أتساعاً في كل يوم لتبتلع العدد الذي لا يحصى من الأرواح التي كتب عليها العذاب(24). وكانت أحشاء الأرض المزدحمة تضم ثناياها الحارة الكثرة الغالبة من جميع من ولدوا من بني الإنسان، ولا يستطيع أحد أن يستريح أو يفر من النار إلى أبد الدهر، وفي ذلك يقول بوئلد : إحص رمال شواطئ البحار، أو الشعر الذي ينبت على أجسام البشر والحيوان من يوم أن خلق آدم، وقدر سنة من العذاب لكل حبة رمل أو شعرة، ثم اعلم أن هذه الحقبة من الزمن التي تصل إليها لا تكاد تمثل بداية آلام المعذبين(25). وكانت اللحظة الأخيرة في حياة الإنسان هي اللحظة في البداية كلها، وكان خوف الناس من أن يكون الإنسان في هذه اللحظة الأخيرة آثماً لم تغفر له ذنوب، كان هذا الخوف عبئاً ثقيلاً ترزح تحته النفوس البشرية.
وكانت عقيدة المطهر أو الأعراف تخفف من هذه الأهوال تخفيفاً غير قليل. وكانت الصلوات من أجل أرواح الموتى عادة قديمة قدم الكنيسة نفسها، وفي وسعنا أن نرجع طقوس التفكير عن الذنوب والصلاة على أرواح الموتى إلى عام 250م(26). وقد تحدث أوغسطين عن وجود موضع يتطهر فيه الموتى من ذنوب غفرت لهم ولكنها لم يكفر عنها تكفيراً كافياً بعد موتهم، وقبل جريجوري الأول هذه الفكرة، وقال إن ما تعانيه الأرواح في المطهر من آلام قد يخفف ويقصر مداه بفضل دعاء الأحياء من أصدقائهم وصلواتهم(27)، غير أن هذه النظرية لم تصبح من العقائد الواسعة الانتشار حتى نفخ فيها بطرس دميان Peter Damian حوالي عام 1070 من روحه الحماسية وأذاعها ببلاغته. وزاد انتشار هذه الفكرة في القرن الثاني عشر حين ذاعت قصة تقول إن القديس بتريك St. Patrick أراد أن يقنع بعض المتشككين فأجاز حفر حفرة في إيرلندة نزل إليها بعض الرهبان، ثم عاد بعضهم، كما تقول القصة، ووصفوا المطر والنار وصفاً واضحاً ثبط عزيمة من يريدون أن يحذوا حذوه، وأدعى أون Owen الفارسي الأيرلندي أنه نزل من هذه الحفرة إلى الجحيم في عام 1153، ووصف ما لاقاه في العالم السفلي وصفاً لاقى نجاحاً منقطع النظير(28). فقد أقبل الناس من بعيد لزيارة هذه الحفرة، ونشأت من ذلك شرور ومساوئ مالية اضطرت الباب إسكندر السادس أن يأمر في عام 1497 بردمها لأنها من الادعاءات الباطلة(29).
ترى كم من الناس في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى كانوا يصدقون العقائد المسيحية، إننا نسمع عن وجود ملحدين كثيرين، ولكن الكثرة الغالبة من أولئك الملحدين كانت تتمسك بالمبادئ الأساسية للعقائد المسيحية، وقد حدث بمدينة أورليان Orleans في عام 1017 أن "رجلين من أكرم الناس أباً وأوسعهم علماً" أنكروا عقائد خلق العالم، والتثليث، والجنة، والنار، وقالا إنها كلها مجرد هذيان"(30). ويقول جون السلزبري John of Salisbury في القرن الثاني عشر إنه سمع إنه كثيرين من الناس يتحدثون "أحاديث لا يقبلها الدين"(31)، ويقول فلاني Villani إنه كان بمدينة فلورنس في ذلك القرن نفسه جماعة من الأبيقوريين، يسخرون من الله والقديسين، ويطلقون العنان لشهواتهم الجسمية(32). ويحدثنا جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis (1146؟- 1220) عن قس، لا يذكر إسمه، لامه قس آخر على عدم عنايته بالاحتفال بالقداس، فكان رده أن سأل ناقده هل يؤمن هو حقاً باستحالة مادة القربان إلى لحم المسيح ودمه، وبعقيدة التجسد، وبمولد المسيح من مريم العذراء، وبالبعث ـ وزاد على ذلك أن قال : هذا كله قد اخترعه القدماء الماكرون ليرهبوا الناس ويسيطروا عليهم ، وإن طائفة من المنافقين يحذون الآن حذوهم(33). وينقل جرلد الويلزي نفسه قول العالم سيمون التورنائي Simon of Tournai (حوالي 1201) في حسرة وألم: "رباه ياذا الجلال!
إلى متى تبقى هذه الشيعة المخرفة من المسيحيين، وتدوم هذه البدعة التي لا أصل لها؟"(34). وتقول إحدى القصص المتداولة عن سيمون هذا إنه أثبت في محاضرة له عقيدة التثليث بالحجج القوية البارعة، فلما رأى إعجاب مستمعيه به تاه بنفسه عجباً فقال إن في وسعه أن يثبت عكس هذه العقيدة بحجج أخرى أقوى من حججه الأولى، فلما نطق بهذا- كما تقول القصة- أصيب من فوره بالشلل والعته(35). وفي عام 1200 كتب بطرس رئيس دير الثالوث المقدس Holy Jrinity في ألدجيت Aidgate بلندن يقول: "من الناس من لا يعتقدون بوجود الله، ويقولون إن العالم سيره الصدفة.. ومنهم كثيرون لا يؤمنون بالملائكة الأخيار أو الأشرار، ولا بالحياة بعد الموت أو بأي شيء روحي لا تراه العين"(36). وقد أثار شجن فنسنت من أهل بوفيه Vincent of Beauvais (1200 ؟- 1264) أن كثيرين يسخرون من الرؤى ومن القصص (قصص القديسين)" ويقولون "إنها من خرافات العوام أو إنها بدع كاذبة"، ويضيف إلى ذلك قوله : "وليس لنا أن نعجب من أن هذه القصص لا تقبلها عقول الذين لا يعتقدون بوجود النار"(37). وبقد كانت عقيدة الجحيم من العقائد التي لا يستسيغها الكثيرون. وكانت بعض النفوس الساذجة تتساءل: "لم خلق الله الشيطان إذا كان قد سبقت في علمه خطيئته وسقوطه؟"(38). وقال بعض المتشككين إن الله لا أن تصل قسوته إلى الحد الذي يجعله يعاقب على الذنب المحدد بالألم الغير المحدود ؛ ويجيب رجال الدين عن هذا الاعتراض بقولهم إن الذنب الذي يرتكبه الآدمي إجرام في حق الله، وإنه لهذا يعد إثماً لا نهاية له. ولم يقنع هذا القول ناسجاً كان يعيش في طولوز عام 1247 فقال : لو أنني استطعت أن أقبض على هذا الإله الذي لا ينجى من كل ألف من خلقه إلا واحداً ثم يعذب الباقين، لانتزعت أسنانه وأظافره كما يفعل بالخونة المارقين، ولبصقت في وجهه"(39). ولبعض المتشككين أقوال لا تبلغ من العنف هذا المبلغ كله، فيقولون مثلاً إن نار الجحيم لابد أن تكلس الروح والجسم حتى يصبحا عديمي الإحساس بها ويصير "من اعتاد الجحيم مستريحاً فيها راحته في أي مكان سواها"(40). وتبدو في نشيد أوكاسين ونيقولت Gueassin et Nieolette (حوالي عام 1230) الفكاهة القديمة القائلة بأن الإنسان يلقي في الجحيم صحاباً أظرف ممن يلقاهم في الجنة(41). ويشكو القسيسون من أن معظم الناس يؤجلون التفكير في النار إلى آخر لحظة في حياتهم لوثوقهم من أنهم مهما تكن آثامهم فإن "ثلاث كلمات" (ego-te absolvo) "تكفي لنجاتي"(42).
ويبدو أنه كان في القرى وقتئذ كما فيها الآن من لا يؤمنون بالله، ولكن الكافرين القرويين لا يتركون وراءهم ذكريات تحدث عنهم، يضاف إلى هذا أن معظم ما وصل إلينا من أدب العصور الوسطى قد كتبه رجال الدين أو أن رجال الدين قد أخفوا الجزء الأكبر منه ولم يبرزوا لنا إلا ما وقع عليه اختيارهم. وسنجد فيما بعد "علماء جوالين"يقولون شعراً يبدو فيه عدم الاحتشام، ولصوصاً غلاظاً ينطقون بأشد الأقوال تجديفاً، وأناساً ينامون ويغطون(43)، بل ويرقصون(44) ويفجرون(45) في الكنائس، كما نجد من يرتكبون "العهر، والنهم، والقتل، والسرقة في يوم الأحد" (كما يقول أحد الرهبان) "أكثر ممن يرتكبون هذه الذنوب في جميع أيام الأسبوع الذي قبله"(46). وفي وسعنا أن نذكر في هذه الصفحة ما لا يحصى من الأمثلة نجمعها من مائة بلد وبلد، ومن ألف عام وعام ؛ وكلها تدل على ما كان في العصور الوسطى من نقص في الإيمان الحق، وتحذرنا من التغالي في الاعتقاد بتقوى الناس في تلك العصور، ولكن العصور الوسطى لا تزال مع هذا تغمر الباحث في جو من العبادات والعقائد الدينية، فلقد كانت كل دولة أوروبية تأخذ المسيحية في كنفها وتحت حمايتها، وترغم الناس بقوة القانون على الخضوع للكنيسة، وكان كل ملك، إلا القليل النادر منهم، يثقل الكنيسة بالهبات، وكانت كل حادثة تقع في التاريخ، إلا ما ندر منها، تفسر على أساس من الدين، وكل واقعة في أسفار العهد القديم تسبق إلى تصوير شيء في أسفار العهد الجديد.
ومن أمثلة ذلك ما يقوله الأسقف العظيم من أن داود حين يراقب بتشبع وهو يستحم إنما يرمز إلى المسيح إذ يرى كنيسته تظهر نفسها من دنس هذه الدنيا(47). وكان كل شيء عادي طبيعي علامة على شيء خارق للمادة، كما كان لكل جزء من كنيسة، في رأي جيوم ديورانث Guiuame Durant (1237- 1296)، أسقف مندى mende، معنى ديني، فمدخل الكنيسة هو المسيح، الذي يوصلنا إلى الجنة، وعمدها تمثيل المطارنة وعلماء الدين، الذين يقيمون صرح الكنيسة، وغرفة المقدسات التي يلبس فيها القس ثيابه هي رحم مريم، الذي يتجسد فيه المسيح بجسد الآدميين(48)، ويقول أصحاب هذه النزعة إن لكل حيوان معنى في الدين، من ذلك ما جاء في كتاب عن الحيوان مؤلف في العصور الوسطى وهو نموذج لغيره من أمثاله : "إذا ولدت لبؤة شبلاً، فهي تلده ميتاً، وتظل تعني به ثلاثة أيام حتى يأتي أبوه في اليوم الثالث وينفخ في وجهه، ويبعث فيه الحياة. وبهذه الطريقة عينها أحيا الله جل وعلا ابنه سيدنا عيسى المسيح من بين الموتى(49).
وكان الناس يسرون بسماع مائة ألف من القصص عن الحوادث، والقوى، ووسائل الشفاء الخارقة، أو يخلقونها خلقاً من عند أنفسهم، كقولهم إن صبياً إنجليزياً حاول أن يسرق بعض زغاليل الحمام من عشها، فالتصقت يده بقوة سماوية بالحجر الذي اتكأ عليه، ولم تفك إلا بعد أن قضى أهله ثلاثة أيام في الصلاة الدعاء(50). وقدم طفل طعاماً لتمثال المسيح الطفل المنحوت في مزار صور فيه مولده، فما كان من الطفل المسيح إلا أن شكره ودعاه إلى دخول الجنة، ولم تمض على هذا الحادث ثلاثة أيام حتى توفى الطفل الذي قدم الخبز للمسيح(51).
وكلف قس فاسق بإحدى النساء، فلما عجز عن استمالتها إليه احتفظ بجسم المسيح الطاهر في فمه بعد القربان، لعله إذا قبلها والجسم في فمه استجابت إلى رغبته بقوة القربان المقدس... ولكنه لما أراد أن يخرج من الكنيسة خيل إليه أن جسمه قد تضخم حتى اصطدم رأسه بسقفها" فدفن الخبر المقدس في أحد أركان الكنيسة، واعترف بعدئذ بما حدث لقس آخر، فأخرجا الخبز من الأرض فوجداه قد استحال إلى صورة رجل مصلوب يقطر منه الدم(52). واحتفظت إحدى النساء بالخبز المقدس في فمها وهي في طريقها من الكنيسة إلى بيتها، ثم وضعته في قفير نحل لتقلل بذلك من عدد ما يموت من نحلها، فما كان من النحل "إلا أن بنى لضيفه العزيز من أحلى ما يخرجه من الشهد معبداً صغيراً بديع الصنع(53)" وملأ البابا جريجوري الأول مؤلفاته بقصص من هذا القبيل. ولعل الناس، أو المتعلمين منهم، كانوا يشكون في هذه القصص ويرون أنها أقاصيص مسلية طريفة وليست أسوأ من القصص العجيبة التي يطرد بها الملوك ورؤساء الجمهوريات في الوقت الحاضر الأم عن أنفسهم ويريحون بها عقولهم المجهدة، ولعل السذج في العصور الخالية لم يقبلوا أكثر من تبديل نوعها لا مداها، وإن في كثير من أقاصيص العصور الوسطى لشواهد على إيمان أهل تلك العصور إيماناً يحدث في النفس أعمق الأثر، وحسبنا أن نذكر منها أنه لما عاد البابا ليو التاسع المحبوب إلى إيطاليا بعد رحلة الإصلاح التي قام بها في فرنسا وألمانيا انشق له نهر أنين Aniene كما انشق البحر الأحمر لموسى ليستطيع أن يجتازه(54).
وترجع قوة الدين المسيحي إلى أنه يعرض على الناس الإيمان لا المعرفة، والفن لا العلم، والجمال لا الحقيقة، وقد فضله الناس في صورته هذه، وكانوا يرون أن ليس فيهم من يستطيع أن يجيب عن أسئلتهم، ولهذا كانوا يشعرون بأن من الحزم أن يؤمنوا بالأجوبة التي ينطق بها رجال الدين، ويؤكدوها توكيداً يزيل مخاوفهم. ولو أن الكنيسة قد اعترفت بأنها تخطيء تارة وتصيب تارة أخرى لفقدوا ثقتهم فيها، ولعلهم كانوا يرتابون المعرفة ويرون أنها الثمرة المرة للشجرة المحرمة تحريماً ينطق بالحكمة، أو السراب الذي يضل الناس ويغويهم ليخرجوا من جنة السذاجة والحياة الخالية من الشك. وهكذا استسلم العقل في العصور الوسطى للإيمان في أغلب الأوقات والحالات، وجعل كل اعتماده على الله وعلى الكنيسة، كما يثق رجل هذه الأيام بالعلم وبالدولة. أنظر إلى قول فليب أغسطس لملاحيه أثناء عاصفة ثارت في منتصف الليل : "إنكم تهلكوا لأن آلافا من الرهبان يقومون من فراشهم في هذه اللحظة، ولن يلبثوا أن يصلوا من أجلكم(55)". وكان الناس يعتقدون أنهم تسيطر عليهم قوة أعظم مما تستطيع المعرفة البشرية أن تهبهم، وكانوا في العالم المسيحي، كما كانوا في العالم الإسلامي، يسلمون أنفسهم إلى الله، كما كانوا حتى في دنسهم، وعفتهم، وفجورهم يبتهلون إليه أن ينجيهم. لقد كان هذا عصراً ثملاً بنشوة الإيمان بالله.
الفصل الثاني: الأسرار المقدسة
كانت القوة الثانية من قوى الكنيسة التي تلي تحديد الدين هي عملها في أداء الأسرار المقدسة- أي الشعائر التي ترمز إلى منح البركة الإلهية. ويقول القديس أوغسطين في هذا: "لا يستطيع الناس في دين من الأديان أن يرتبط بعضهم ببعض إلا إذا اجتمعوا في نوع من الزمالة عن طريق رموز أو شعائر يرونها رأي العين"(56). ويكاد اللفظ اللاتيني الذي يعبر عن هذه الأسرار المقدسة وهو لفظ Sacramentum ينطبق في القرن الرابع الميلادي على كل شيء مقدس- على التعميد، وعلى الصليب، والصلاة، وأطلقه أوغسطين في القرن الخامس على الاحتفال بعيد القيامة، ثم قصره إزدور الأشبيلي Isidore of Seville القرن السابع على التعميد وتثبيت العماد، والقربان المقدس. فلما كان الثاني عشر حددت الأسرار المقدسة بسبعة أسرار: التعميد، وتثبيت العماد، والكفارة، والقربان المقدس، والزواج، ورتبة الكهنوت، والمسح بالزيت قبيل الوفاة. أما الشعائر الصغرى التي تمنح البركة الإلهية كالرش بالماء المقدس أو علامة الصليب- فلم تكن من هذه الأسرار وسميت sacramentals أي المتعلقة بتلك الأسرار تمييزاً لها عن الأسرار الأصيلة. وكان التعميد أهم تلك الأسرار كلها، وكان يهدف إلى غرضين : محو الخطيئة الأولى، بحيث يولد الشخص مولداً جديداً يستقبل على أثره في حظيرة الدين المسيحي. وكان المفروض أن يطلق الأبوان على طفلهما في هذا الحفل اسم أحد القديسين، ليكون هذا القديس المستقبل شفيع الطفل، وأنموذجه، وحاميه، وهذا هو "اسمه المسيحي" أو الخاص. وقبل أن يحل القرن التاسع كانت طريقة التعميد المسيحية الأولى- طريقة غمر الطفل كله- قد استبدلت بها تدريجاً طريقة الرش لأنها أقل خطراً على الصحة من الطريقة الأولى في الأجواء الباردة الشمالية. وكان في وسع أي قسيس- أو أي مسيحي عند والضرورة- أن يقوم بعملية التعميد، وكانت الطريقة القديمة، طريقة تأجيل التعميد حتى يكبر الطفل، قد استبدلت بها طريقة التعميد في سن الرضاعة، وقد أنشأت بعض الجماعات وبخاصة في إيطاليا كنائس صغرى خاصة لأداء هذه الشعيرة.
وكانت مراسم تثبيت العماد والقربان المقدس تقام عند أتباع الكنيسة الشرقية بعد التعميد مباشرة. أما عند أتباع الكنيسة الغربية فقد أجلت سن تثبيت العماد شيئاً فشيئاً إلى السنة السابعة من حياة الطفل حتى يستطيع أن يتعلم المبادئ الأساسية للدين المسيحي. ولم يكن يقوم بهذه العملية إلا أحد الأساقفة، ويصحبها دعاء إلى الروح القدس أن يدخل في جسم التعميد، ومسح جبهته بالزيت المقدس ولطمه لطمة خفيفة على خده، وبهذه الطريقة الشبيهة بما كان متبعاً في مراسم الفروسية يثبت المسيحي الصغير في دينه، ويكون له تبعاً لذلك كل ما للمسيحي من حقوق وعليه كل ما على المسيحي من واجبات.
وأهم من هذا مراسم الكفارة. فإذا كانت عقائد الكنيسة تلقن الناس أنهم آثمون، فقد كانت تعرض عليهم وسائل تطهير أرواحهم حيناً بعد حين بأن يعترفوا بذنوبهم إلى قسيس، ويقوموا بمراسم للكفارات. فقد ورد في الإنجيل (متى الآية 19 من الإصحاح السادس عشر، والآية 18 من الإصحاح الثامن عشر) أن المسيح غفر الخطايا، وأنه منح الرسل هذه القدرة نفسها قدرة "الربط والحل". وتقول الكنيسة إن هذه القدرة قد انحدرت بالتوارث من الرسل إلى المطارنة الأولين، ومن بطرس إلى البابوات، ثم وهبها المطارنة إلى القسيسين في القرن الثامن. واستبدلت بطريقة الاعتراف العلني التي جرت بها العادة في أيام المسيحية الأولى طريقة الاعتراف السري الفردي حتى لا تمس كرامة بعض الكبار، ولكن الاعتراف العلني بقى عند بعض الطوائف الخارجة على مبادئ الكنيسة. وكانت الكفارة العلنية تفرض أحياناً عند ارتكاب بعض الجرائم الشنيعة كمذبحة سالونيك أو قتل بكت Becket. وقد قرر مجلس لاترن الرابع (1215) أن يتكرر الاعتراف والعشاء الرباني كل عام، وجعلهما من الواجبات الخطيرة، إذا أهملهما إنسان حرم من جميع صدمات الكنيسة ومن الدفن دفنة مسيحية. وأريد تشجيع من يريدون التوبة وحمايتهم فوضع "خاتم" على كل توبة بمفردها، ومعنى هذا الخاتم أنه لا يجوز لقس أن فشي ما أعترف له به. ونشرت منذ القرن الثامن قوائم تحدد الكفارة القانونية (التي قررتها الكنيسة) لكل مذنب ـ الصلوات، والصيام، والحج، وإخراج الصدقات، أو غيرها من أعمال التقى أو التصدق.
ولهذا "النظام العجيب" كما يصف ليبتيز مراسم الكفارة، كثير من النتائج الطيبة. فهو يربح التائب من آلام وخز الضمير الصامتة المنهكة للأعصاب، وهو يمكن القس من إصلاح أحوال أتباعه الخلقية والجسمية، وهو يريح بال المذنب بما يبعثه فيه من أمل في صلاح حاله، وهو كما يقول فلتير المتشكك، قيد يقلل من ارتكاب الجرائم(58). ويقول جيته Goethe "لقد كان من الواجب ألا يحرم بنو الإنسان من الاعتراف السمعي"(59). لكنه لم يخل من بعض النتائج السيئة: فقد كان هذا النظام يستخدم أحياناً لتحقيق أغراض سياسية، وذلك حين كان القساوسة مثلاً يأبون أن يغفروا للذين يناصرون الأباطرة على البابوات(60). وكان يستخدم أحياناً في محاكم التفتيش كما حدث حين أمر القديس شارل برميو St. Charles Perromeo (1538- 1583) رئيس أساقفة ميلان قساوسته أن يطلبوا إلى من يأتونهم للتوبة على أيديهم أن يخبروهم بأسماء كل من يعرفونهم من الملحدين أو ممن تحوم حولهم شبهة الإلحاد(61).
وأخطأ بعض السذج فظنوا أن الغفران يبيح لهم أن يعودوا إلى ارتكاب الذنوب. ولما ضعف التحمس الديني كانت الكفارات القاسية المفروضة على من يتقدمون للتوبة مما يغريهم بالكذب، وأجيز للقساوسة أن يفرضوا على التائبين عقوبات مخففة، كانت في العادة هي التصدق بالمال لغرض ترضية الكنيسة. ونشأت من هذا "التخفيف" صكوك الغفران.
ولم يكن صك الغفران رخصة بإرتكاب الإثم، بل كان إعفاءاً جزئياً أو كلياً من بعض العقاب الذي يستحقه الإنسان جزاءاً له على آثامه الدنيوية، أو من هذا العقاب كله، وهذا الإعفاء تمنحه إياه الكنيسة. وكان الغفران الذي يمنح عند الاعتراف بمحو الخطيئة التي لولاه لأدت بكاسبها إلى الجحيم، ولكنه لم يكن يعفيه من العقاب "الزمني" المترتب على إثمه. وكانت أقلية صغرى من المسيحيين هي التي تكفر عن ذنوبها في هذا العالم تكفيراً تاماً، أما ما بقى من هذا التكفير فيحدث في المطهر. وكانت الكنيسة تدعى لنفسها حق التجاوز عن هذا العقاب، وذلك بأن تنقل إلى أي تائب مسيحي يقوم بأعمال معينة من التقى أو التصدق قسما صغيراً عن كنوز البركة التي تجمعت من تعذيب المسيح وموته، ومن أعمال القديسين الأبرار الذين تزيد حسناتهم عن سيئاتهم. وقد منحت صكوك الغفران منذ القرن التاسع، وأعطى بعضها في القرن الحادي عشر للحجاج الذين يزورون الأضرحة المقدسة، وكان أول صك بالغفران الكلي هو الذي عرضه إريان الثاني في عام 1095 على من يشتركون في الحرب الصليبية الأولى. ونشأت من هذه العادات سنة منح صكوك الغفران لمن يتلون أدعية معينة أو يؤدون خدمات دينية خاصة، أو ينشئون القناطر، أو الطرق؛ أو الكنائس أو المستشفيات، أو يقطعون الغابات، أو يجففون المستنقعات، أو يتبرعون بالمال لحرب صليبية أو لهيئة كهنوتية أو لعيد كنسي، أو حرب مسيحية.
واستخدمت هذه السنة في كثير من الأغراض الصالحة، ولكنها فتحت الأبواب للمطامع البشرية، فقد بعثت الكنيسة ببعض رجال الدين، وكانوا في العادة من الرهبان ليجمعوا المال بأن يعوضوا على الراغبين صكوك الغفران نظير هبات يقدمها الطالبون، أو توبة من الذنوب، أو صلوات يؤدونها. وقد نشأ من هذه العروض التي يسميها الإنجليز "غافرات Pardoners" تنافس شديد جلل بالعار كثيراً من المسيحيين، فكانوا يتظاهرون بتعظيم بعض الآثار الدينية المزورة ليحملوا الناس على التبرع بالمال؛ وكانوا يحتفظون لأنفسهم من هذه الأموال بقسط قليل أو كثير. وبذلت الكنيسة عدة محاولات لتقليل هذه المساوئ، من ذلك أن مجلس لاتران الرابع أمر المطارنة أن ينهوا المؤمنين إلى ما هنالك من الآثار الدينية الكاذبة والشهادات المزورة، وحرمت رؤساء الأديرة من حق إصدار صكوك الغفران، وفرضت بعض القيود على حق المطارنة في إصدارها، وحث جميع رجال الدين على أن يراعوا جانب الاعتدال في تحمسهم لهذه الوسيلة الجديدة. وندد مجلس مينز الديني في عام 1261 بكثير من موزعي هذه الصكوك، ووصفهم بأنهم كاذبون أشرار يعرضون ما يعثرون عليه من عظام الناس أو الحيوان على أنها عظام أولياء صالحين، مرنوا على البكاء حين يشاءون، يساومون على التطهير من الذنوب بأكبر ما يستطيعون الحصول عليه من المال وبأقل ما يقدمونه من الأدعية والصلوات(62). وشهرت بها مجالس كنيسة أخرى مثل هذا التشهير كمجلس فين Vienne (1311) ومجلس رافنا (1317)(63)، لكن هذه المساوئ لم تنقطع.
وكان العشاء الرباني أهم الأسرار المقدسة بعد التعميد. ذلك أن الكنيسة تمسكت بحرفية العبارة المعزوة إلى المسيح وقت تناول العشاء الأخير، والقائلة أن الخبز هو جسمه وإن النبيذ دمه. وأهم ما تقوم عليه شعيرة العشاء الرباني هو تحول رغيف الخبز وكأس النبيذ إلى جسم المسيح ودمه بقدرة القسيس المعجزة، وكان الغرض الأول من القداس هو أن يسمح للمؤمنين أن يشتركوا في "جسم" الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي "دمه، وروحه، وألوهيته"، وذلك بأكل القربان المقدس، وشرب النبيذ المقدس. وإذا كان شرب هذا النبيذ يعرض دم المسيح للانسكاب على الأرض فقد نشأت في القرن الثاني عشر عادة الاكتفاء بتناول العشاء الرباني بالخبز وحده، ولما أن طالب بعض المحافظين (الذين أخذ عنهم الهوسيون البوهيميون (Hussistes of Bohemia) أراءهم فيما بعد أن يتناولوا القربان بصور نيه ليتأكدوا من أنهم حصلوا على دم المسيح وجسمه، قال لهم علماء الدين إن دم المسيح "ملازم" لجسمه في الخبز، وإن جسمه "ملازم" لدمه في النبيذ(64). وانتشرت ألف قصة وقصة عن مقدرة الخبز المقدس على إخراج الشياطين، ومداواة الأمراض، وإطفاء النيران، والكشف عن الكذب باختناق الكاذبين(65). وكان يطلب إلى كل مسيحي أن يتناول العشاء الرباني مرة في العام على الأقل، وكان تناول الشاب المسيحي لأول مرة فرصة لإقامة المهرجانات الفخمة والحفلات السارة.
ونشأت عقيدة حضور المسيح في أثناء العشاء الرباني نشأة بطيئة. وكانت الصياغة الرسمية الأولى لهذه العقيدة هي التي أذاعها مجلس نيقية في عام 787. ثم قام راهب بندكتي فرنسي يدعى رتراموس Ratramus عام 855 وقال إن الخبز والخمر المقدسين لم يكونا جسم المسيح ودمه إلا بطريقة روحية لا جسدية. وقام برنجار Berenegar رئيس شمامسة تور حوالي عام 1054 وجهر بارتيابه في تحول الخبز والخمر إلى جسم المسيح ودمه، فكان جزاؤه الحرمان من الدين، وكذب لافرانك Lafrance رئيس دير بك Bec رداً عليه (1063) يقرر فيه العقيدة الدينية الصحيحة قال فيه:
إنا لنعتقد أن المادة الأرضية.... تستحيل بتأثير القوة السماوية التي لا يستطيع أحد وصفها.... أو إدراك كنهها إلى جوهر جسم المسيح، على حين أن مظهره، وبعض صفاته الأخرى المتصلة بهذه الحقائق نفسها، تبقى خافية حتى ينجو الناس من هول رؤية الأشياء النيئة المخضبة بالدماء، وحتى ينال المؤمنون الجزاءالكامل لإيمانهم. ومع هذا كله فإن جسم المسيح ذاته يبقى في الوقت عينه في السماء... مصونا كاملاً، لا يمسه أذى أو دنس(66).
وأعلن مجلس لاتران في عام 1215 أن هذه العقيدة من المبادئ الأساسية في الدين المسيحي، وأضاف مجلس ترنت Trent إلى هذا القول في عام 1260 أن كل جزيء من الخبز المقدس مهما كسر يحتوي جسم عيسى المسيح كله، ودمه، وروحه، وبهذه الطريقة تعظم الحضارة الأوروبية والأمريكية اليوم شعيرة من أقدم الشعائر في الأديان البدائية ـ وهي أكل الإله.
وقد رفعت الكنيسة من شأن عقدة الزواج إلى أكبر حد، وجعلتها عقدة دائمة، حين جعلت الزواج من الأسرار المقدسة. وحين يحتفل بضم إنسان إلى رجال الدين يهب المطران القس الجديد بعض القوى الروحية التي ورثها عن الرسل والتي يفترضون أن الله نفسه قد وهبها إياهم عن طريق المسيح. وفي آخر الأسرار المقدسة وهو المسح الأخير، يستمع القس إلى اعترافات المسيحي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويمنحه المغفرة التي تنجيه من النار، ويمسح أعضاءه حتى تتطهر من الخطيئة وتصبح بدل أن يحرقوا جسده كما يفعل الوثنيون، لأن الكنيسة كانت تقول إن الجسم أيضاً يبعث حيا بعد الموت، وهم يلفونه في كفنه، ويضعون قطعة من النقود في تابوته كما كان يفعل الأقدمون إذ يعتقدون أنهم يؤجرون كارون Charon لنقله إلى الدار الآخرة(66)، ثم يحملونه إلى قبره باحتفال مهيب ينفق فيه الكثير من المال. وقد يستأجر النائحون أو النائحات ليبكوه وينوحوا عليه ويرتدي أهله عليه سود الثياب مدة عام؛ حتى لا يستطيع أحد أن يعرف لطول مدة الحزن أن قلباً تائباً، وقساً خادماً، قد ضمنا لهذا الرجل جنة النعيم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: الصلاة
الشعائر الدينية في كل دين عظيم لازمة لزوم العقيدة نفسها، فهي تعلم الايمان، وتغذيه، وتوجده في كثير من الأحيان، وهي تربط المؤمن بربه برباط يريحه ويطمئنه، وتفتن الحواس والروح بمظاهرها الروائية وشعرها، وفنها، وتربط الأفراد برباط الزمالة، وتخلق منهم جماعة مؤتلفة حين تقنعهم بالاشتراك في شعائر واحدة، وترانيم واحدة، وأدعية وصلوات واحدة، ثم يفكرون آخر الأمر تفكيراً واحداً.
وأقدم الصلوات المسيحية هي الصلاة التي مطلعها "أبانا الذي في السموات" والتي مطلعها "نؤمن بإله واحد"، وقبل أن ينتهي القرن الثاني عشر بدأت الصلاة الرقيقة المحببة التي مطلعها "السلام لك يامريم" تتخذ صيغتها المعروفة. وكانت هناك غير هذه الصلوات أوراد شعرية من الثناء والتضرع. ومن الصلوات في العصور الوسطى ما يكاد يكون رقى تمكن من يتلوها من الإتيان بالمعجزات، ومنها ما هو إلحاح متكرر لا يتفق مع تحريم المسيح "للتكرار العديم النفع"(67). ونشأت عند الرهبان والراهبات تدريجياً، وعند غير رجال الدين فيما بعد، عادة استعمال المسبحة، وهي عادة شرقية جاء بها الصليبيون(68). ونشر الرهبان الدمنيك هذه العادة. كما نشر الفرنسكان عادة "طريق الصليب" أو "مواضعه" وهي التي تقضي بأن يتلو المتعبد صلوات أمام صورة أو لوحة من لوحات أو صور أربع عشرة تمثل كل منها مرحلة من مراحل آلام المسيح، فكان القساوسة، والرهبان، والراهبات، وبعض العلمانيين ينشدون أو يتلون أدعية الساعات القانونية - وهي أعية، وقراءات، ومزامير، وترانيم صاغها البندكتيون وغيرهم وجمعها ألكوين Alcuin وجريجوري السابع في كتاب موجز. وكانت هذه الأدعية تطرق أبواب السماء من مليون كنيسة وبيت متفرقة في جميع أنحاء الأرض كل يوم وليلة في فترات بين كل واحدة والتي تليها ثلاث ساعات. وما من شك في أن نغماتها الموسيقية كان لها أحسن الوقع على آذان أصحاب البيوت التي تستمع إليها كما يقول أوردركس فيتالس Ordericus Vitalis "ما أحلى أناشيد العبادة الإلهية التي تطمئن بها قلوب المؤمنين، وتدخل عليهم السرور"(69).
وكثيراً ما كانت الصلوات الرسمية التي تتلى في الكنائس توجه إلى الله الأب، وكان عدد قليل منها يوجه إلى الروح القدس، ولكن صلوات الشعب كانت توجه في الأغلب الأعم إلى عيسى ومريم، والقديسين. وكان الناس يخافون الله سبحانه وتعالى، فقد كان لا يزال يتصف في عقول العامة بكثير من القسوة التي كانت ليهوه، وكيف يجرؤ الشخص المذنب الساذج أن يوجه صلاته إلى ذلك العرش الرهيب البعيد؟ إن عيسى لأقرب إليه من ذلك العرش، ولكنه هو أيضاً اله، ومن أصعب الأشياء أن يجرؤ الإنسان على مخاطبته وجهاً لوجه بع أن أنكر نعمه هذا النكران التام. ومن أجل هذا بدا للناس أن من الحكمة أن توجه الأدعية والصلوات إلى أحد القديسين (أو إحدى القديسات) تشهد قوانين الكنيسة بمقامه في الجنة، وأن يتوسل إليه بأن يكون وسيلته عند المسيح. وبهذه الطريقة بعثت في عقول العامة من الماضي الذي لا يبيد أبداً جميع مظاهر الشرك الشعرية الخيالية، وملأت العبادات المسيحية بطائفة كبيرة من الأرواح، ترافق الناس، وتشد عزائمهم، وتكون لهم إخوة على الأرض تقربهم إلى السماء. وتخلص الدين من عناصره الأكثر قتاماً، فكان لكل أمة، ومدينة، ودير، وكنيسة، وحرفة ونفس؛ وأزمة من أزمات الحياة، وليها الشفيع النصير، كما كان لكل منها إلها في روما القديمة. كان لإنجلترا القديس جورج، ولفرنسا القديس دنيس، وكان القديس بارثو لميو حامي الدابغين لأن جلده سلخ وهو حي، كان صانعوا الشموع يضرعون إلى القديس يوحنا لأنه غمر في قدر مليئة بالزيت المشتعل، وكان القديس كرستفر St. Christopher نصير الحمالين لأنه حمل المسيح على كتفيه، وكانت مريم المجدلية تتلقى توسلات بائعي العطور لأنها صبت زيوتاً عطرة على قدمي المسيح المنقذ. وكان لكل من يحدث له حادث طارئ، أو يصاب بمرض، صديق في السموات، فكان القديس سبستيان والقديس رتش Roch ذوي قوة وبأس في أيام الوباء. وكان القديس أبو لينيا St. Appolinia الذي كسر الجلاد فكه يشفي ألم الأسنان، وبليز St. Blalse يشفي آلام الحلق، والقديس كورئيل St. Corneille يحمي الثيران، والقديس جول Gall يحمي الدجاج والقديس أنطون يحمي الخنازير، وكان القديس ميدار Medord هو الذي تتضرع إليه فرنسا أكثر من سائر القديسين لينزل إليها المطر، فإذا لم ينزله ألقى عباده الذين ينفذ صبرهم تمثالاً له الماء من حين إلى حين، ولعل هذا كان بمثابة رقية سحرية(70).
ووضعت الكنيسة تقويماً كنسياً جعلت كل يوم فيه عيداً لأحد القديسين، ولكن التقويم لم يتسع للخمسة والعشرين ألفاً من القديسين الذين اعترفت بهم قوانين الكنيسة قبل أن يحل القرن العاشر الميلادي. وقد بلغ من معرفة الشعب بتقويم القديسين أن التقويم العادي قسم السنة الزراعية أقساماً أطلق على كل منها اسم أحد القديسين، ففي فرنسا مثلا كان عيد القديس جورج يوم البذر، وفي إنجلترا كان عيد القديس فالنتين St. Valentine يحدد آخر فصل الشتاء؛ فإذا حل ذلك اليوم، على حد قولهم، تزاوجت الطيور بحماسة في الغابات، ووضع الشباب الأزهار على أعتاب النوافذ في بيوت البنات اللاتي يحبونهن. ومن القديسين عدد كبير اعترفت بهم الكنيسة لأن العامة داوموا على عبادتهم وإحياء ذكراهم، أو لأن مكاناً ما قد أصر على هذه العبادة على الرغم من معارضة رجال الدين. وعلقت صور ووضعت تماثيل للقديسين في الكنائس، والميادين العامة، وفي الطرق؛ وفوق المباني، وتلقت من أنواع العبادة التلقائية ما جلل بالعار بعض الفلاسفة ومحطمي العصور المقدسة. واضطر كلوديوس أسقف تورين إلى الشكوى من أن كثيرين من الناس "يعبدون صور القديسين،... فهم لم يقلعوا عن عبادة الأصنام، بل كل ما في الأمر أنهم غيروا أسماءها" فهم(71). وبهذه الطريقة، على الأقل، أوجدت إرادة الشعب وحاجته شكل العبادة التي يتعبدها.
وما دام القديسون قد كثر عددهم إلى هذا الحد، فقد كثرت تبعاً لذلك مخلفاتهم - عظامهم، وشعورهم، وأثوابهم، وأي شيء استعملوه في حياتهم. وكان المفروض أن كل مذبح يشمل واحدا أو أكثر من واحد من هذه المخلفات، فكانت باسلكا القديس بطرس تباهي بأنها تحتوي جسدي القديسين بطرس وبولس اللذين أصبحت روما بفضلهما كعبة الحجاج من جميع أنحاء أوروبا. وكانت كنيسة في سانت أومر St. Omer. تدعى أن فيها قطعاً من الصليب الحقيقي ومن الحرية التي اخترقت جسم المسيح، ومن مهده، وقبره، ومن المن الذي نزل من السماء، ومن عصا هارون، ومن المذبح الذي تلا عليه القديس بطرس القداس، ومن شعر تومس أبكت وقلنسوته، وقميصه المنسوج من الشعر، والشعر الذي جزء من مقدم رأسه، ومن الألواح الحجرية الأصلية التي سجلت عليها الوصايا العشر أصبح الله نفسه(72)، وتحتوي كنيسة أمين Amiens رأس يوحنا المعمدان في كأس فضية(73)، وتحتوي دير القديس دنيس جسم ديونيسيوس الأريويجي Dionysius the Areopagite وتاجه الشوكي. وتدعى واحدة من ثلاث كنائس متفرقة في فرنسا أن فيها جسد مريم المجدلية كاملاً(74)، كما تؤكد خمس كنائس في فرنسا أن في كل منها الأثر الحقيقي الوحيد الباقي من ختان المسيح(75)، وتعرض كنيسة إكستر Exter أجزاء من الشمعة التي استعملها ملاك الله لإضاءة قبر عيسى، وأجزاء من العشب الذي تحدث منه الله إلى موسى(76). وفي دير وستمنستر بعض دم المسيح وقطعة من الرخام عليها طابع قدمه(77). ويعرض أحد أديرة در هام مفصلا من مفاصل القديس لورنس، والفحم الذي أحرقه، والصفحة التي قام عليها رأس يوحنا المعمدان إلى هيرود، وقميص العذراء، وقطعة من الصخر عليها علامات نقط من لبنها(78)، وكانت كنائس القسطنطينية قبل عام 1204 غنية أكثر من غيرها بالمخلفات المقدسة، فكان فيها الحرية التي نفذت في جسم المسيح، والتي لا تزال حمراء من دمه، والعصا التي ضرب بها، وقطع كثيرة من الصليب الحقيقي مغلفة بالذهب، وثريد الخبز الذي قدم ليهوذا في العشاء الأخير، وشعرات من لحية المسيح، وذراع يوحنا المعمدان اليمنى....(79). وسرقت كثير من هذه المخلفات حين نهبت القسطنطينية، ثم أشترى بعضها، وأخذت تنتقل من كنيسة إلى كنيسة في بلاد الغرب إلى أيدي من يؤدي فيها أكثر الأثمان. وكانت تعزى إلى جميع المخلفات قوى معجزة، وتروي مئات الآلاف من القصص عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول على أقل أثر، أو أقل أثر من أثر ليتخذوه طلسماً - كخيط من ثوب قديس، أو قليل من تراب علبة مخلفات، أو نقطة زيت من مصباح مقدس في ضريح. وكانت الأديرة تتنافس وتتنازع في جمع المخلفات وعرضها على العباد الأسخياء، لأن امتلاك المخلفات الشهيرة كان يدر على الدير أو الكنيسة ثروة طائلة.
وحسبنا مثلا لهذا أن نذكر أن "نقل" عظام تومس أبكت إلى ضريح جديد في كنيسة كنتر بري الكبرى (1220) جمع من الذين شاهدوا هذا العمل ما يقدر بنحو 000ر300 ريال أمريكي بنقود هذه الأيام(80). واجتذب هذا العمل الرابح كثيراً من ممارسيه، فكانت مخلفات زائفة كثيرة تباع للكنائس والأفراد، وكانت بعض الأديرة يغريها الكسب بـ "كشف" مخلفات جديدة حين تحتاج إلى المال. وكان شر هذه المساوئ هو تقطيع الأولياء الأموات ليتيسر لعدد من الأماكن أن يحظى برعاية القديس وقوته(81).
ومما يذكر بالحمد لبعض رجال الدين من غير رجال الأديرة، وللكثرة الغالبة من الأديرة نفسها أنها لم تكن ترضي وأنها كثيراً ما كانت تندد، بهذه الدكاكيرية (الفيتنشية) المسرفة الواسعة الانتشار. ومن الرهبان الذين يسعون إلى العزلة في عباداتهم من لم يكونوا يرضون عن المعجزات التي تفعلها مخلفات أديرتهم. من ذلك أن رئيس جرامونت Grammont توسل إلى مخلفات القديس استيفن أن تمتنع عن الإتيان بخوارق العادات، لأنها تغري الجموع الصاخبة بالتجمع، ثم هدد القديس بقوله: "وإلا ألقينا عظامك في النهر"(82). ولم تكن الكنيسة هي التي تزعمت حركة خلق الأقاصيص الغرامية عن معجزات المخلفات أو مضاعفة عددها، بل الشعوب هي التي فعلت هذا، وكثيراً ما كانت للكنيسة تحذر الجماهير من تصديق ما يذاع من تلك الأقاصيص(83). مثال ذلك أن مرسوماً إمبراطورياً لعله صدر بناء على طلب الكنيسة حرم على الناس "حمل" مخلفات القديسين "أو بيعها" وأن القديس أوغسطين شكا من المنافقين الذين يلبسون مسوح الرهبان والذين "يتجرون في أجسام الشهداء، إذا كانوا شهداء يحق"، وقد أعاد جستنيان نشر هذا المرسوم(84). وكتب الأب جبيرت النوجنتي Guibert of Nogent حوالي عام (1119) رسالة في مخلفات للقديسيين ينادي فيها بوضع حد لجنون المخلفات، ويقول إن الكثير من هذه الآثار "لأولياء اشتهروا في سجلات لا قيمة لها"، وإن بعض "رؤساء الأديرة أغوتهم كثرة ما يحمل إليهم من الهدايا، فقبلوا اصطناع المعجزات "الكاذبة"، "وثمة نساء عجائز ونساء ساقطات كثيرات يتغنين بالأقاصيص الكاذبة عن القديسين الشفعاء وهن يعملن على أنوالهن.... فإذا ما فند إنسان أقوالهن هاجمته.... بلقاطاتهن". ويقول إنه قلما أوتي أحد من رجال الدين الجرأة أو الشجاعة على الاحتجاج، ويعترف بأنه هو نفسه قد سكت رأى تجار المخلفات يعرضون على المؤمنين المصدقين "بعض ذلك الخبز عينه الذي مضغه السيد المسيح بأسنانه نفسها"، ذلك "أني لو جادلت المجانين لحق علي القول بأني مجنون"(85). ويضيف إلى ذلك أن في عدد من الكنائس رؤوساً كاملة ليوحنا المعمدان، ويعجب مما كان لهذا القديس من رؤوس كثيرة لا يمكن أن يقطعها قاطع(86). وحرم البابا إسكندر الثالث (1179) على الأديرة أن تطوف بما عندها من المختلفات لجمع التبرعات، كما حرم مجلس لاتران المنعقد في عام 1215 عرض المخلفات في خارج الأضرحة(87)، وندد مجلس ليون الثاني (1274) بـ "الحط من قدر" المخلفات والصور(88).
ويمكن القول بوجه عام إن ما قامت به الكنيسة لم يكن هو تشجيع الخرافات بل كان أكبر نصيب لها في هذه الناحية هو أنها ورثتها من خيال الناس أو من تقاليد عالم البحر المتوسط. وكان الإيمان بما لبعض المخلفات، والطلاسم، والتمائم، والرقي، من قدرة على الإتيان بالمعجزات عزيزاً على المسيحيين والمسلمين على السواء، وقد ورثوا هذه العقائد من الأديان الوثنية القديمة. وبقيت أشكال قديمة من عبادة عضو التذكير زمناً طويلاً في العصور الوسطى، ولكن الكنيسة ألغتها شيئاً فشيئاً(89) وورثت عبادة الله بوصفه رب الجيوش، وملك الملوك، بعض أساليب التقرب إليه وتعظيمه، ومخاطبته، من الساميين والرومان، وتذكرنا عادة حرق البخور أمام المذبح أو رجال الدين بعادة تقريب القرابين المحروقة، أما عادة الرش بالماء المقدس فكانت صورة قديمة من التعاويذ، وأما المواكب ومراسم التطهير فهي امتداد لشعائر موغلة في القدم، وملابس القساوسة، وتلقيب البابا بالحبر الأعظم Pontifex Maximus تراث من روما الوثنية. ووجدت الكنيسة أن معتنقي المسيحية من أهل الريف لا يزالون يعظمون بعض العيون، والآبار، والأشجار، والحجارة، فرأت أن من الحكمة أن تخلع البركة على هذه الأشياء، وأن يستخدمها المسيحيون بدل أن تقضي قضاء مفاجئاً سريعاً على عادات شديدة الارتباط بعواطف الخلق. واتباعاً لهذا دشنت مجموعة من الحجارة في صورة مائدة في بلواريه plouaret على أنها مصلي القديسين السبعة، وحللت عبادة شجرة البلوط بأن علقت على الأشجار صور القديسين المسيحيين(90): وعادت الاحتفالات الوثنية العزيزة على الشعوب أو التي لابد منها لكي تبيح للناس الخروج على قواعد الأخلاق وأضحت أعياداً مسيحية، واستحالت الطقوس الوثنية النباتية طقوساً كنسية مسيحية وظل الناس كما كانوا من قبل يوقدون النيران في منتصف الصيف عشية عيد القديس يوحنا ، وسمي عيد قيام المسيح (عيد القيامة) بالاسم الوثني القديم Eostre وهو اسم إلهة الربيع التبوتونية القديمة ؛ وحل تقويم القديسين المسيحي محل التقويم الروماني، وأجازت الكنيسة أن تبقى الأرباب القديمة العزيزة على الناس وأن تحمل أسماء قديسين مسيحين، فأضحت إلهة النصر Dea Victovria إلهة إقليم الألب الأدنى هي القديسة فكتوار St. Victoire، كما ولد كاستر وبلكس Castor and Pollux من جديد وأصبحا هما القديسين كزماس Cosmas ودميان Damian.
وكان أعظم ما ظفرت به هذه الروح، روح التكيف المتسامحة، من نصر هو السمو بعبادة الإلهة الأم الوثنية واستحالتها إلى عبادة مريم أم المسيح وهنا أيضاً كان الشعب هو البادئ بهذا التسامي. ذلك أن سيريل Cyril كبير أساقفة الإسكندرية وصف، في موعظة له شهيرة ألقاها في إفسس Ephesus عام 431، مريم بكثير من العبارات التي كان الوثنيون من أهل تلك المدينة يصفون بها "إلهتهم الكبرى" أرتميس - ديانا Artimis Diana دلالة على حبهم إياها واعتزازهم بها، ووافق مجلس إفسس في تلك السنة على أن تلقب مريم "أم الإله" وعلى الرغم من احتجاج نسطوريوس Nestorius وما لبثت أرق صفات عشتروت، وسيبيل، وأرتميس، وديانا، وإيزيس أن جمعت كلها في عبادة مريم ثم قررت الكنيسة في القرن السادس إقامة الاحتفال بعيد صعود العذراء إلى السماء، وحددته باليوم الثالث عشر من شهر أغسطس، وهو تاريخ عيدين لإيزيس وأرتميس(91). وأضحت مريم القديسة الشفيعة للقسطنطينية وللأسرة الإمبراطورية، وكانت صورتها تحمل في مقدمة كل موكب عظيم، وكانت (ولا تزال) تعلق في كل كنيسة وبيت في العالم المسيحي اليوناني. وأكبر الظن أن الصليبيين هم الذين جاءوا من الشرق إلى الغرب بعبادة العذراء عبادة قوية بمظاهرات ذات جمال وروعة(92). ولم تشع الكنيسة نفسها عبادة مريم، نعم إن آباء الكنيسة كانوا قد كرموا مريم وفضلوها عن حواء، ولكن عداءهم للمرأة بوجه عام، ووصفهم إياها بأنها "الوعاء الضعيف"، ومصدر كل غواية بارتكاب الإثم، وخوف الرهبان من النساء وفرارهم منهن، وحملة الوعاظ على مفاتن النساء ونقائصهن- هذا كله لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى عبادة مريم هذه العبادة القوية الشاملة. وكان الشعب وحده هو الذي ابتدع أجمل زهرة في العالم الروحي أثناء العصور الوسطى وجعل مريم أقرب الأشخاص إلى القلوب في التاريخ كله. ذلك أن سكان أوروبا المستفيقة من رقدتها لم يعودوا يقبلون تلك الصورة الصارمة لإله يعاقب الكثرة الغالبة من خلقه بإلقائهم في نار جهنم، فخففوا من تلقاء أنفسهم الأهوال التي يحدثهم عنها علماء الدين بما خلعوه على أم المسيح من صفات الرحمة والحنان، وكانوا يرون أن في وسعهم أن يقتربوا من عيسى - وهو لا يزال عندهم أسمى وأعدل من أن يتصلوا به مباشرة- عن طريق أمه التي لا ترد سائلاً، والتي لا يستطيع ابنها أن يرد لها شفاعة. وحسبنا دليلاً على رأي الناس في مريم القصة التي يرويها قيصريوس الهسترباخي Caesarius of Heisterbach، (1230) وهي أن شاباً أغواه الشيطان بإنكار المسيح نظير ثروة طائلة وعدها إياه، ولكنه لم يفلح في أن يغريه بإنكار مريم، فلما تاب الشاب استطاعت مريم أن تقنع المسيح بالعفو عنه. ويحدثنا الراهب نفسه عن أخ له سترسي من غير رجال الدين سمعه يناجي المسيح بقوله: "رباه! إن لم تنقذني من هذه الغواية فسأشكوك إلى أمك"(93). وقد بلغت صلوات الناس لها من الكثرة حداً جعل خيال العامة يصور عيسى في صورة من يغار منها، فيقولون إن شخصاً ملأ السموات بصلاة العذراء "السلام لك يامريم" فظهر له المسيح، كما تقول القصة الطريفة، وأنبه أشد التأنيب وقال له : "إن أمي لتشكر لك كثيراً ما قدمت لها من أدعية وصلوات، ولكن عليك مع ذلك ألا تغفل إلى رحمة مريم لتخفيفها، كما كانت صرامة يهوه في حاجة إلى المسيح. والحق أن أم المسيح أصبحت كما وصفها القرآن، ثالثة الثالوث الجديد، يشترك كل إنسان في حبها والثناء عليها، فالعصاة أمثال أبلار ينحنون لها إجلالاً وتكريماً، والهجاءون أمثال روتبوف Rutrbeuf، والمتشككون الصخابون أمثال المدرسين الجوالين لم يكونوا يجرءون على النطق بكلمة نابية عنها، وكان الفرسان ينذرون أنفسهم لخدمتها، والمدن تقدم لها مفاتيحها، والطبقات الوسطى الرأسمالية الناشئة ترى فيها الرمز الطاهر للأمومة والأسرة، والجفاة للغلاظ من رجال النقابات الطائفية - وحتى أبطال الثكنات وميادين القتال الذين لا يتورعون عن النطق بأقبح الألفاظ فيما هو مقدس - يتبارون مع الفتيات القرويات والأمهات الثاكلات في توجيه صلواتهم إليها ووضع هداياهم تحت قدميها(95). وكان أقوى أسفار العصور الوسطى عاطفة هو ذلك الورد الذي يعلن في حماسة متأججة متزايدة مجدها ويطلب معونتها. ولم يكن مكان ما يخلو من صورة لها، بل لم تخل منها منحنيات الشوارع وملتقيات الطرق والحقول. ولما أن تمخض القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن أنبل مولد للشعور الديني في التاريخ أقبل الفقراء والأغنياء، والأذلاء والعظماء، ورجال الدنيا ورجال الدين، والفنانون، والصناع، اقبل هؤلاء جميعاً يجودون بما ادخروه من مال وبما لديهم من حدق ومهارة لتكريمها في ألف كنيسة وكنيسة سميت كلها إلا القليل منها باسمها أو كان أبهى ما فيها حرماً خاصاً هو ضريحها.
وعلى هذا النحو نشأ دين جديد، ولعل السبب في بقاء الكثلكة إلى هذا اليوم هو أنها استوعبت هذا الدين. وصيغ إنجيل لمريم، لا تعترف به الكنيسة، ولا يصدقه العقل، ولكنه يفتتن به افتتاناً يجل عن الوصف، وضع الشعب ما فيه من القصص وسطرها الرهبان، نذكر منها القصة الذهبية التي تقول إن أرملة قدمت ولدها الوحيد استجابة لنداء وطنها، فلما أسره العدو أخذت الأرملة تصلي إلى العذراء في كل يوم أن تنقذ ولدها وترده إليها، ومرت على ذلك أسابيع طوال لم تستجب العذراء لدعائها، فما كان منها إلا أن سرقت تمثال الطفل عيسى من بين ذراعي أمه وأخفته ببيتها، وحينئذ فتحت العذراء السجن، وأطلقت سراح الشاب، وأمرته أن "بلغ أمك، يا بني أن ترد إلي ولدي بعد أن رددت إليها ولدها"(96). وجمع رئيس دير فرنسي يدعى جولتييه ده كوانسي Gaultier de Coincy أقاصيص مريم في قصيدة طويلة مؤلفة من ثلاثين ألف بيت، نجد فيها العذراء تشفي راهباً مريضاً بأن تجعله يمتص اللبن من ثديها العذب. وقبض على لص كان على الدوام يصلي لها قبل أن يقدم على السرقة، وعلق اللص ليشنق، ولكن يديها ظلتا ترفعانه دون أن يراهما أحد فلما تبين الناس أنها تحميه، أطلق سراحه، وخرجت راهبة من ديرها لتحيا حياة الإثم، فلما عادت إلى الدير بعد عدة سنين تائبة محطمة الروح، وجدت العذراء- التي لم تغفل هي عن الصلاة إليها في كل يوم- قد شغلت مكانها على الدوام، وأن إنساناً ما لم يلاحظ غيابها(97). ولك يكن في مقدور الكنيسة أن ترتضي هذه القصص كلها، ولكنها كانت تقيم احتفالات عظيمة في ذكرى الحوادث البارزة في حياة مريم- كالبشارة، والزيارة ، والتطهير (عيد تطهير العذراء ودخول المسيح إلى الهيكل)، والصعود، ثم خضعت الكنيسة آخر الأمر إلى إلحاح أجيال من غير رجال الدين ومن الرهبان الفرنسسكان فأجازت للمؤمنين أن يعتقدوا، ثم أمرتهم في عام 1854 أن يعتقدوا، بالحمل بلا دنس- أي أن مريم قد حملت مبرأة من أثر الخطيئة الأولى التي تلطخ، حسب قول الكنيسة، كل طفل يولد من رجل وامرأة من عهد آدم وحواء.
واستحالت الكثلكة بفضل عبادة مريم من دين رهبة- لعلها كانت ضرورية في العصور الوسطى- إلى دين رحمة وحب، وإن نصف ما في العبادات الكاثوليكية من جمال، وكثيرا مما في الفن الكاثوليكي والغناء الكاثوليكي من روعة وجلال، لمن خلق هذا الإيمان السامي الذي يتجلى في وفاء امرأة ورقتها، بل وفي جمال جسمها ورشاقتها. لقد دخلت بنات حواء الهيكل وبدلت روحه، وكانـت هــذه الكثلكة الجــديدة من الأسباب التي طهـرت الإقـطاع فـاستحال فـروسية، ورفعت من شأن المرأة إلى حد ما في عالم من صنع الرجال، وبفضله وهب النحت والتصوير في العصور الوسطى فن تلك العصور عمقاً ورقة قلما كان اليونان يعرفونهما في عهدهم. وفي وسع الإنسان أن يعفو عن كثير مما في دينٍ وفي عصرٍ أوجدا مريم وكنائسها الكبرى.
الفصل الرابع: الطقوس
لقد كانت الكنيسة حكيمة إذ أفسحت في فنها، وترانيمها، وصلواتها، مكاناً لعبادة العذراء، ولكنها أصرت في العناصر القديمة من عباداتها وطقوسها على النواحي الصارمة الجدية من الدين. من ذلك أنها جرت على السنة التي كان يجري عليها الأقدمون، ولعلها رأت في هذه للسنة فائدة للمصلحة، فشرعت الصيام في أوقات معينة، نهت فيها عن أكل اللحم في جميع أيام الجمعة، كما حرمت أكل اللحم، والبيض، والجبن، طوال أيام الصوم الكبير الأربعين، وأمرت أن يدوم ذلك الصوم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، وأمرت كذلك ألا يكون في هذه الفترة زواج، أو طرب، أو صيد، أو محاكمات في دور القضاء، أو صلات جنسية بين الرجال والنساء(98). وكانت هذه نصائح لمن أراد أن يكون مسيحياً كاملاً، وقلما كان أحد يتمسك بها، أو يرغم على أتباعها، ولكنها أفادت في تقوية الإرادة وكبح الشهوات عند خلائق نهمين شهوانيين.
وكانت الصلوات أيضاً مما ورثته الكنيسة عن الأقدمين، ثم عدلت فصارت أشكالاً من التمثيل الديني، والموسيقى الدينية والفن الديني، رفيعة، سامية، مؤثرة في النفس. وكانت أقدم العناصر في الصلاة المسيحية هي مزامير العهد القديم وأدعية هيكل أورشليم وعظامه، وقراءات من العهد الجديد، وتناول القربان المقدس. وأدى انقسام الكنيسة شرقية وغربية إلى اختلاف في الشعائر الدينية، كما أدى عجز البابوات الأولين عن أن يفرضوا إراداتهم كاملة خارج حدود إيطاليا الوسطى إلى وجود خلاف في الحفلات الدينية حتى داخل الكنيسة اللاتينية نفسها. من ذلك أن أحد الطقوس الذي استقر في ميلان انتشر إلى أسبانيا، وغالة، وأيرلندة، وشمالي بريطانيا، ولم تتغلب عليه الطقوس الرومانية إلا في عام 664، وأصلح البابا هدريان الأول طقوس الكنيسة في منشور خاص بعث به شرلمان حوالي آخر القرن الثامن، ولعل عمله هذا كان إتماماً لجهود بذلها جريجوري الأول في هذه السبيل، ودون جوليوم دوران Cuillaume Durand أهم طقوس الكنيسة الرومانية في كتابه "عرض للوظائف الدينية قائم على العقل Rationale divinorum officiornm (1286). وفي وسعنا أن ندرك ما لقيه هذا المؤلف من قبول إذا عرفنا أنه أول ما طبع من الكتب بعد الكتاب المقدس. وكان المحور الذي تدور عليه العبادات المسيحية وأهم شعائرها هو القداس. وكان هذا الاحتفال يعرف في القرون الأربعة الأولى باسم "الحمد Eucharist" ؛ وقد بقيت هذه الذكرى القدسية للعشاء الأخير جوهر الصلوات وعمادها الأساسي، ثم اجتمعت حولها في خلال إثنا عشر قرناً من الزمان مراسيم متتابعة معقدة من الأدعية والترانيم تختلف باختلاف أيام السنة، وفصولها، والغرض الذي يقام من أجله هذا القداس أو ذاك، ودونت هذه المراسم في كتاب القداس ليسهل على القس الرجوع إليها. وكانت الكنيسة اليونانية تفصل بين الرجال والنساء في وقت الاجتماع لإقامة القداس كما كانت الكنيسة اللاتينية تفعل ذلك في بعض الأحيان. ولم تكن هناك كراسي يجلس عليها المصلون، بل كانوا يؤدون الصلاة وهو وقوف، وكانوا في بعض اللحظات الرهيبة يؤدونها راكعين، ويعفى من الوقوف والركوع الشيوخ والضعفاء، وأقيمت للرهبان والقساوسة الذين يضطرون إلى الوقوف خلال الصلاة الطويلة أفاريز صغيرة في أمكنة الترتيل لتسند الجزء الأسفل من العمود الفقري، وأضحت هذه الرجمات miserieovoliae موضع عناية ناحت الخشب وحذقه. وكان القس الذي يقيم القداس يدخل وعليه (توغا ogat) كالتي يرتديها اليونان والرومان الأقدمون، يغطيها قميص أبيض طويل all وحلة القداس Cbasuble وبطرشيل stole وكلها أثواب زاهية عليها زخارف رمزية، أكثرها ظهور الأحرف JHS وهي أوائل الكلمات Jesos Huiss Soterأي عيسى ابن (الله) المنقذ. وكان القداس نفسه يبدأ عند أسفل المذبح بهذا النشيد المتواضع : سأدخل في مذبح الله، ويضيف إليه السادن ؛ "إلى الله الذي يضفي البهجة على شبابي". ثم يصعد القس المذبح ويقبله لأنه المكان المقدس الذي أودعت فيه مخلفات القديس. ويترنم بالدعاء الذي مطلعه كيري اليسون kyrie eleison ("ارحمنا يا الله") وهو بقية يونانية في القداس اللاتيني. ويتلو بعدئذ دعاء المجد ("المجد لله في العلا") والدعاء الأساسي الذي مطلعه "نؤمن بإله واحد" ثم يدشن قطعاً صغيرة من الخبز وقدحاً من الخمر لتكون جسم المسيح ودمه بأن يتلو عليها تلك الكلمات : هذا جسدي وهذا دمي.
Hic est sanguinis meus و Hoc est corqus meum ثم يعرض هذه العناصر المتحولة- أي ابن الله- لتكون قرباناً يتقرب به إلى الله وإحياءاً لذكرى التضحية على الصليب، وبديلاً من التضحية القديمة بالأحياء. ثم يلتفت القس إلى المصلين ويأمرهم بأن يسموا بقلوبهم إلى الله، فيرد عليه السادن بوصفه نائباً عن المصلين بقوله : "إنا نرفعها إلى الرب". ويتلو القديس بعدئذ القداس المثلث Triplc Sanctus وحمل الله Ognus Dei، وأبانا الذي، ويشترك هو نفسه في تناول الخبز والخمر المقدسين، ويقدم العشاء الرباني إلى الحاضرين، وبعد أن يؤدي عدة صلوات إضافية ينطق بالصيغة الأخيرة وهي : تفرقوا، حان الفراق Ite-missa est، ولعل لفظ القداس الإنجليزية mass مشتق من لفظ missa هذا(99). ويبقى بعد هذا القداس في أشكاله المتأخرة أن يبارك القس المصلين، وأن تتلى بعض فقرات أخرى من الإنجيل- وهي عادة الديباجة الأفلاطونية الجديدة من إنجيل يوحنا. ولا يقام القداس عادة إلا على يد مطران، وبعد القرن الثاني عشر لم يكن يقام إلا إذا ألقى فيه راهب موعظة.
وكان القداس ينشد على الدوام أول الأمر، وكان المصلون يشتركون في إنشاده، ثم قل اشتراكهم فيه أثناء القرن الرابع وما بعده، وأخذ مرتلون مختصون يردون على المنشد . وتعد الترانيم التي يتغنى بها في الصلوات المختلفة بالكنائس من أعظم ما أنتجته العاطفة والفن في العصور الوسطى روعة وأقوالها في النفس أثراً. ويبدأ التاريخ المعروف للترانيم اللاتينية بهلاري Hilary أسقف بواتييه (المتوفى عام 367). ذلك أنه لما عاد إلى غالة من منفاه في بلاد الشام جاء معه ببعض الترانيم اليونانية- الشرقية وترجمها هذه كلها. ووضع أمبروز Amdrose بداية أخرى في ميلان، ولدينا من ترانيمه الطنانة ثمان عشرة ترنيمة كان لحرارتها المكبوتة أعظم الأثر في نفس أوغسطين. وأكبر الظن أن ترنيمة الشكر والإيمان النبيلة التي مطلعها "الشكر لك يا الله" والتي كانت تعزى قبل إلى أمبروز قد كتبها نيقيتاس مطران رمسيانا Remisiana في أواخر القرن الرابع. وربما كانت الترانيم اللاتينية قد أصبحت أرق من الترانيم السابقة إحساساً وأجمل صورة لتأثرها بالشعر العربي الإسلامي والبروفنسالي(100). ومن الترانيم ما يكاد يكون عبارات ركيكة لا تزيد على ألفاظ رنانة، مقفاة، غير أن ترانيم عهد العصور الوسطى الزاهر- في القرنين الثاني عشر والثالث عشر- أضحت من جوامع الكلم، محكمة العبارات، تتخللها القوافي الرخمية، وتعبر عن أفكار طيبة رقيقة، ترفعها إلى مستوى أعظم الشعر الوجداني الذي أنتجه الأدب العالمي.
وجاء إلى دير القديس فكتور الشهير القائم في خارج باريس حوالي عام 1130 شاب من بريطاني بفرنسا، لا تعرف من اسمه أكثر من آدم نزيل دير القديس فكتور. وقضى الشاب ذلك الدير الستين عاماً الباقية من عمره هادئاً راضياً، وتشرب بروح هوجو Hugo ورتشرد الصوفيين الذائعي الصيت، وعبر عن هذه النزعة الصوفية تعبيراً متواضعاً، حلواً، دوياً، ترانيم يقصد بمعظمها أن تتلى بعد مراسم القداس. وبعد مائة عام من ذلك الوقت ألف راهب فرنسسكاني يدعى جكوبون ده تودي Jacopone de Todi (1228 ؟- 1306) أعظم ترنيمة في العصور الوسطى وهي المعروفة باسم "وقفت الأم Sebat mather". وكان جكوبون هذا محامياً ناجحاً في تودي القريبة من بروجيا Perugia، واشتهرت زوجته بصلاحها وجمالها، وماتت هذه الزوجة إثر حادث سقوط طوار عليها في أحد الأعياد، فذهب الحزن بعقل جكوبان، وأخذ يجول على غير هدى في طرق أمبريا Umbria مردداً بأعلى صوته ذنوبه وأحزانه، وطلى نفسه بالقار والريش، وأخذ يمشي على أربع ؛ وانضم إلى جماعة الفرنسسكان وأنشأ القصيدة التي تحتوي في إيجاز ما كان في هذا الوقت من تُقى وحنان:
وقفت الأم كسيرة القلب،
تزرف الدمع أمام الصليب
وابنها معلق يحتضر،
وقد نفذ في روحها المثقلة بالأحزان،
وهي تندبه وتتألم من أجله،
سيف الأسى البتار.
ألا ما أشد حزنها
تلك الأم التي أنعم الله عليها بابنها الوحيد،
والتي رماها الزمان بسهامه !
وأخذت وقتئذ تنتحب وتندب سوء حظها،
وترتجف حين أبصرت عذاب ابنها النبيل.
ومنذا الذي لا يحزن
إذا شاهد أم منقذنا
وقد شجتها الغصة ؟
منذا الذي يستطيع أن يحاجز نفسه عن أن يشاركها أحزانها حين يرى هذه الأم الحنون
تندب مصير ولدها ؟.....
أقبلي ياأماه، يا منبع الحب،
وأشعريني آلامك بأكملها
دعيني أشاركك أحزانك،
واشعلي في قلبي نار الشوق
وحب المسيح إلهنا ومنقذنا،
دعيني أفعم قلبه بالسرور !
أيتها الأم المقدسة، افعلي هذا رحمة بي !
اغرسي ضريات من مات شهيداً
عميقة في قلبي
دعيني أقاسي آلام
ابنك الذي أصيب بجرح أليم
وتحمل الهوان من أجلي !
دعيني أبكِ بحق إلى جانبك،
وأقضي سني حياتي كلها
أشاركك الحزن على ابنك المصلوب.
ألا ليتني أستطيع أن أكون معك،
وأقف بجوار الصليب في صحبتك،
راضياً، مغتبطاً، مرتبطاً في الحزن بك
فليحيني الصليب،
ولتنجني آلام المسيح المنقذة للبشر :
وليرعني بلطفه،
وإذا ما بلي جسمي
فلتنظر روحي في أمجاد السماء
إليه وجهاً لوجه.
وليس في الشعر ما يضارع هذه الترانيم المسيحية التي قيلت في العصور الوسطى إلا قصيدتان إحداهما هي قصيدة عيد القربان Pange Lingue، والأخرى قصيدة "يوم الغضب" الرهيبة التي كتبها تومس السلوني Thomas of Celono حوالي 1250، والتي تنشد في القداس الذي يقام للموتى، وهنا توحي رهبة يوم الحساب بقصيدة لا تقل كآبة وكمالاً عن أي حلم من أحلام دانتي المعذبة(101).
وأضافت الكنيسة إلى طقوسها ذات الأثر الشديد في النفس والمشتملة على الأدعية والترانيم والقداس- أضافت إلى هذه الطقوس ما يحدث في الأعياد الدينية من حفلات ومواكب، وأخذ عيد الميلاد في البلدان الشمالية المراسم المفرحة للطبقة التي كان التيوتون الوثنيون يقيمونها احتفالاً بانتصار الشمس وقت الانقلاب الشتائي على الظلمة المقبلة، ومن هذا نشأت كتل عيد الميلاد التي تحرق في بيوت الألمان، وأهل فرنسا الشمالية، والإنجليز، وأهل إسكنديناوة، كما نشأت شجرة عيد الميلاد التي تثقل بالهدايا، والولائم المرحة التي تتخم البطون القوية حتى الليلة الثانية عشرة بعد هذا العيد، وكان ثمة أعياد واحتفالات أخرى يخطئها الحصر- عيد الغطاس، وعيد الختان، وحد السعف، وعيد القيامة، وعيد الصعود، وعيد العنصرة... وكانت هذه لأعياد وأيام الآحاد كلها إلى درجة أقل منها قليلاً، أحداثاً مثيرة في حياة رجل يتذكره من ذنوبه، ويستحم، ويحلق لحيته أو يقص شعره، ويلبس خير ملابسه وأكثرها مضايقة له، ويطعم الله في العشاء الرباني، ويحس أعمق الإحساس بالمسرحية المسيحية الخطيرة الشأن التي قدر عليه أن يكون جزءاً منها. وكانت حوادث آلام المسيح تمثل في كثير من المدن في الثلاثة الأيام الأخيرة من أسبوع الآلام، تتضمنها مسرحية دينية ذات حوار وأغان بسيطة، كذلك كانت عدة أوقات أخرى من السنة الكنيسة تمتاز بأمثال هذه "الطقوس الخفية". وحدث في عام 1240 أن أبلغت يوليانا Juliana رئيسة دير قريب من لييج Liege قس القرية التي تقيم فيها أو رؤيا سماوية قد نبهتها إلى أنه لابد من تكريم جسم المسيح حين يستحيل القربان إلى لحمه ودمه في العشاء الرباني وذلك بإقامة عيد فخم رهيب، وأقر البابا إربان الرابع هذا الاحتفال في عام 1262 وعهد إلى تومس أكوناس أن يضع له "صلاة مؤلفة من ترانيم وأدعية تناسبه". وقام الفيلسوف بهذه المهمة على خير وجه وفي عام 1311 ثبت أخيراً عيد القربان واحتفل به في أول يوم خميس بعد عيد العنصرة بأفخم موكب من مواكب السنة المسيحية بأجمعها. وكانت هذه الحفلات تجتذب إليها جموعاً لا يحصى عددها، وتبعث البهجة والمرح في قلوب الكثيرين ممن يشتركون فيها، وهي التي مهدت السبيل للمسرحية غير الدينية في العصور الوسطى، وساعدت على قيام مواكب النقابات الطائفية واحتفالاتها، وألعاب البرجاس والاحتفال بتنصيب الفرسان، وتتويج الملوك، وشغل ما هنالك من فراغ في حياة الأهلين الذين لا يميلون بفطرتهم إلى السلم والنظام بالحركات المنبعثة عن التقى، والصلاح، والمناظر التي تسمو بأرواحهم إلى أعلى الدرجات. ولم تكن الكنيسة تقيم تعاليمها الأخلاقية، التي تصل إليها عن طريق العقائد الدينية على الجدل المؤدي إلى الإقناع، بل كانت تلجأ في الوصول إلى هذا الغرض إلى الحواس عن طريق التمثيل، والموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، والقصص، والشعر ولا يسعنا إلا أن نعترف أن الالتجاء إلى العواطف على هذا النحو أكثر نجاحاً وأهدى إلى الغرض- شراً كان أو خيراً- من الالتجاء إلى العقل المتقلب ذي النزعة الفردية. ولقد أوجدت الكنيسة بالتجائها إلى هذا فن العصور الوسطى.
وكانت أعظم المهرجانات ما يقام منها عند أماكن الحج. فقد كان الرجال والنساء يحجون ليكفروا عن ذنب أو يوفوا بنذر، ويطلبوا شفاءاً من داء بإحدى المعجزات، أو ينالوا غفراناً، وما من شك في أنهم كانوا يسعون، كما يسعى السياح في هذه الأيام، ليشاهدوا بلدانا جديدة ومناظر جديدة، وليقوموا في طريقهم بمغامرات تطرد ما يلقونه في حياتهم الضيقة للرتيبة من ملل وسآمة. وكان هناك عشرة آلاف مكان معترف بجواز الحج إليها في أواخر القرن الثالث عشر. وكان أكثر الحجاج شجاعة يؤمون فلسطين النائية، ومنهم الحفاة ومنهم من لا يلبسون إلا قميصاً واحداً، وكانوا يحملون في الصلاة، صليباً، وعكازاً، وكيساً من النقود تناولوها كلها من يد قيسي. وحدث في عام 1054 أن سار ليدبيرت Leidbert أسقف كمبريه على رأس ثلاثة آلاف حاج إلى بيت المقدس، وفي عام 1064 سار كبير أساقفة كولوني، ومينز، وأساقفة اسباير، وبامبرج، وأوترخت إلى بيت المقدس أيضاً، ومن ورائهم عشرة آلاف مسيحي هلك منهم ثلاثة آلاف في الطريق، ولم يعد منهم إلى أوطانهم سالمين إلا ألفان، وعبر حجاج آخرون جبال البرانس، أو جازفوا بحياتهم في المحيط الأطلنطي ليزوروا الأماكن التي يقال إن بها عظام الرسول يعقوب بقمبستيلا Compostela من أعمال أسبانيا، وفي إنجلترا كان الإنجليز يحجون إلى قبر القديس كثيرت Cuthpret في درهام، وإلى قبر القديس إدوارد المعترف Edward the Confessor في وستمنستر، وإلى قبر القديس إدمند St. Edmund في بيوري Bury، أو إلى الكنيسة التي أنشأها كما يقولون يوسف الأرمائي Joseph of Aremathnea في جلاستنبري Glastonbury وكان أهم من هذه الأماكن كلها في نظر الإنجليز ضريح تومس أبكت في كنتر بري. وكانت فرنسا تجتذب الحجاج إلى قبر القديس مارتن في ثور وإلى نتردام في تشارتر، ونتردام في له- بوي- أن- فلاي Lebuyen Velay وفي إيطاليا كنيسة القديس فوانسس وعظامه في أسسي Assisi، وفيها أيضاً سانتا، كاسا Santa Casa أو البيت المقدس في لوريتو Loreto ويعتقد المتقون أنه هو البيت الذي سكنت فيه مريم مع عيسى في الناصرة، وأن الملائكة حملت هذا الكوخ من فلسطين حين طرد الأتراك آخر الصليبيين منها، وطارت به في الهواء ثم أنزلته في دلماشيا (1291)، ثم طارت فوق البحر الأدرياوي إلى غابات أنكونا (اللورتوم Louretum) التي اشتق منها اسم هذه القرية المكرمة.
وآخر ما نذكره في هذا المقام أن كل طرق العالم المسيحي كله كانت تؤدي بالحجاج إلى رومة، ليشاهدوا قبري بطرس وبولس، ولينالوا الغفران بزيارة المنازل المقدسة، أو الكنائس القائمة في تلك المدينة ؛ أو للاحتفال بعيد من الأعياد، أو ذكرى سارة في التاريخ المسيحي. وحدث في عام 1299 أن أعلن البابا بنيفاس الثامن أن سيقام عيد كبير في عام 1300، وعرض أن يغفر جميع ذنوب من يأتون للتعبد في كنيسة القديس بطرس في ذلك العام. ويقال إن عدد من دخل أبواب روما من الغرباء في كل يوم من أيام هذه الشهور الإثنى عشر لم يكن يقل عن مائتي ألف، وإن مليوني زائر مع كل منهم نذر يناسبه وضعوا ما معهم من الكنوز أمام قبر القديس بطرس، وقد بلغت هذه الكنوز من الكثرة حداً شغل قسيسين ظلا يعملان بالمجارف ليلاً ونهاراً لجمع النقود(102). وكانت دلائل السياح ترشد الحجاج إلى الطرق التي يسلكونها، والأماكن التي لابد لهم أن يزوروها في طريقهم أو حين يحطون رحالهم. ووسعنا أن نرسم لأنفسنا صورة حقيقية من فرحة الحجاج المتعبين، وقد كساهم العثير، وحين تقع أبصارهم آخر الأمر على المدينة الخالدة، وحين ترتفع عقيرتهم بأغنية الفرحة والحمد التي يتلوها الحجاج : "أي روما النبيلة، يا ملكة هذا العالم كله، ويا خير المدائن كلها، ي ذات اللون الأحمر الياقوتي الذي كستك به دماء الشهداء الوردية، ولكنك كالسوسن النقي بمن فيك من العذارى. إليك نهدي تحياتنا خلال السنين وندعو لك بالخير، ونحييك من خلال القرون!". وقد أضافت الكنيسة إلى الخدمات الدينية المختلفة خدمات أخرى أجتماعية، فقد أشعرت الناس بما للعمل من كرامة ؛ ومارس رهبانها العمل في الزراعة والصناعة. ووافقت على أن ينتظم العمال في نقابات طائفية، ونظمت نقابات طائفية دينية للإشراف على أعمال الصدقات(103). وكانت كل كنيسة حرماً مقدساً من حق كل من يطارد أن يلجأ إليها ليجد فيها مقاماً له حتى تهدأ سورة من يطارده ويخضع للإجراءات القانونية، وكان إخراج هؤلاء الرجال من هذا الحرم الأمين تدنيساً له يعاقب من يرتكبه بالطرد من حظيرة الدين. وكانت الكنيسة الصغيرة والكبيرة المركز الاجتماعي في القرية أو المدينة. وكان حرمها المقدس في بعض الأحيان أو الكنيسة نفسها يستخدمان برضاء القساوسة لخزن الحبوب أو الدريس أو النبيذ، كما كانا يستخدمان أيضاً في طحن الحبوب أو عصر الجعة(104). وفي الكنيسة عمد معظم أهل القرية، وعندها سوف تدفن كثرتهم. أو فيها يجتمع الكبار في أيام الأحد ليتجاذبوا أطراف الحديث أو يتناقشوا في شؤون القرية، ويجتمع الشبان والشابات ليرى بعضهم بعضاً.
وعندها يجتمع المتسولون وتوزع الكنيسة صدقاتها، وفيها يجتمع كل ما تعرفه القرية من فن إلا القليل منه ليجمل بيت الله، ويبتهج ألف فقير بما يشهد من مجد المعبد المقدس الذي شاده الناس بأموالهم وأيديهم، والذي يعدونه ملكاً لهم، وموطنهم الجماعي والروحي. وكانت الأجراس المعلقة في برج الكنيسة تدق ساعات اليوم، أو تدعو المؤمنين إلى الصلاة والدعاء، وكانت موسيقى هذه الأجراس أحلى من كل ما عداها إذا استثنينا الترانيم التي تؤلف الإيمان الفاتر بتسابيح القداس. وقد ارتفعت أبراج الكنائس، المستدق منها وغير المستدق، في أقطار الأرض من نفجورود إلى فارس، ومن بيت المقدس إلى هبريدة تشق الفضاء لأن الناس لا يستطيعون الحياة بلا أمل ولا يرضون بالموت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الخامس: القانون الكنسي
نمت إلى جانب الطقوس الدينية المعقدة الرائعة طائفة من الشرائع الكهنوتية أكثر منها تعقيداً، تنظيم أعمال الكنيسة وقراراتها. وكانت الكنيسة في ذلك الوقت تسيطر على دولة أعظم رقعة وأكثر تبايناً من أية إمبراطورية.
وقد نشأ القانون الكنسي شيئاً فشيئاً من العادات الدينية القديمة، ومن فقرات في الكتاب المقدس، وآراء آباء الكنيسة، وقوانين روما أو القبائل المتبربرة، وقرارات مجالس الكنيسة، وقرارات البابوات وآرائهم. وعدلت أجزاء من قانون جستنيان لكي تشرف على سلوك رجال الدين، وأعيدت صياغة بعضها الآخر لكي يتفق مع آراء الكنيسة في الزواج، والطلاق، والوصايا. وأعيدت مجموعات من الشرائع الدينية في البلاد الغربية في القرنين السادس والثامن، كما أعد أباطرة بيزنطية من حين إلى حين مجموعات مثلها في بلاد الشرق. وصيغت قوانين الكنيسة الرومانية في صيغتها التي كانت عليها في العصور الوسطى على يد جراتيان Gratian حوالي عام 1148.
وكان جراتيان هذا من رهبان بولونيا، ولذلك لا يبعد أن يكون قد درس على إرنيريوس Irnerius في جامعة تلك المدينة. وسواء كان هذا أو لم يكن فإن الذي لاشك فيه أن الموجز الذي أصدره يدل على علم غزير بالقانون الروماني وفلسفة العصور الوسطى. وقد سمي كتابه التوفيق بين القواعد المتعارضة Concordia discordantium Canonum، ثم أطلقت عليه الأجيال المتأخرة أسم القرارات. وقد جمعت فيه ما أصدرته الكنيسة من قوانين، وما كان لها من عادات، وما أصدرته المجالس الدينية والبابوات حتى عام 1139 من قرارات خاصة بالعقائد الدينية، والطقوس، والأنظمة، والقواعد الإدارية، والمحافظة على أملاك الكنيسة وإجراءات المحاكم الكنسية، وما لها من سوابق، وتنظيم حياة الرهبنة، وعقود الزواج وقواعد الوصية. وربما كانت طريقة العرض قد أخذت عن كتاب أبلار Sic et non "هكذا وإلا فلا".
وما من شك في أنها كان لها بعض الأثر في الطريقة المدرسية بعد جرايتان Gratian، فهي تبدأ بقضية مقررة ثم تنقل أقوالاً أو سوابق تعارضها، وتحاول أن تزيل هذه الاعتراضات وتضيف بعض الشروح والتعليقات. ولم تتخذ الكنيسة في العصور الوسطى هذا الكتاب مرجعاً نهائياً، ولكنه أصبح في الفترة التي كان قائماً فيها نصاً لا غنى عنه، ويوشك أن يكون نصاً مقدساً. وأضاف إليه جريجوري التاسع (1234) وننيفاس الثامن (1294) وكلمنت الخامس (1313) ملاحق من عندهم، وقد نشرت هذه الملاحق وبعض إضافات أقل منها شأناً مع كتاب جراتيان في عام 1582 باسم "مجموعة من القوانين الكنسية مقابلة لمجموعة قوانين جستنيان المدنية . والحق أن الميدان الذي يشغله القانون الكنسي كان أوسع من الميدان الذي يشغله أي قانون مدني معاصر له، فهو لا يقتصر على البحث في تكوين الكنيسة، وعقائدها، وأعمالها، بل يبحث فوق ذلك في القواعد التي تعامل بمقتضاها غير المسيحيين المقيمين في البلاد المسيحية، والطرق التي تستخدمها عند النظر في أمر الإلحاد، وفي القضاء على الملحدين، وفي تنظيم الحروب الصليبية، وفي قوانين الزواج وشرعية البناء، والمهور، والزنى، والطلاق، والوصايا، والدفن وأحوال الأرامل، واليتامى، وفي قوانين الإيمان، ونقضها، وانتهاك حرمة المعابد، والتجديف والمتاجرة بالدين والرتب الكهنوتية، والسب، والربا، والأثمان العادلة، وفي قواعد لتنظيم المدارس والجامعات، وهدنة الله وغيرها من الوسائل المقيدة للحرب والمنظمة للسلم ؛ وما يجب أن تكون عليه المحاكم الكنسية والبابوية، وحق استخدام الطرد من الدين واللعنة والحرمان، وتوقيع العقوبات الكنسية، والعلاقة القائمة بين المحاكم المدنية والمحاكم الدينية، وبين الدولة والكنيسة. وكانت الكنيسة ترى أن الواجب المفروض على المسيحيين جميعاً أن يخضعوا لهذه المجموعة الضخمة من القوانين، وأن من حقها هي أن توقع على كل من يخرج على أي شيء منها مختلف العقوبات البدنية أو الروحية، لا يستثنى من ذلك إلا شيء واحد وهو أنه لا يجوز لأية محكمة كنسية أن تنطق بـ "حكم الدم" - أي أن تحكم بالإعدام على شخص ما.
وكانت الكنيسة قبل عهد محاكم التفتيش تعتمد على وسائل الإرهاب الروحي، فكان الحرمان الأصغر Minor excommunication يمنع المسيحي من الاشتراك في العشاء الرباني وفي طقوس الكنيسة، وكان من حق كل رجل من رجال الدين أن يصدر هذه العقوبة، وكان معناها عند المؤمنين العذاب الدائم في نار الجحيم إذا مات الآثم قبل العفو عنه. أما الحرمان الأكبر Maior excommunication (وهو الحرمان الوحيد الذي تستخدمه الكنيسة في هذه الأيام) فلا يصدره إلا مجلس ديني أو مطارنة أعلى مرتبة من القساوسة كما أنه لا يصدر إلا على أشخاص داخل دائرة هذه المجالس أو أولئك المطارنة. فإذا صدر أبعد المحروم من كل اتصال قانوني أو روحي بالمجتمع المسيحي: فلا يستطيع أن يقاضي، أو يرث، أو يعقد عقداً صحيحاً من الوجهة القانونية، ولكنه يجوز لغيره أن يقاضيه، ويحرم على أي مسيحي أن يؤاكله أو يكلمه وإلا حق عليه الحرمان الأصغر. ولما أن صدر قرار الحرمان على ربرت ملك فرنسا (998) لزواجه من ابنة عمه، تركه جميع رجال حاشيته وجميع خدمه تقريباً، وكان الخادمان اللذان بقيا عنده يلقيان في النار ما يتبقى من طعامه بعد كل وجبة من وجباته، حتى لا تدنسهما هذه البقايا. وكانت الكنيسة في الحالات القصوى تضيف إلى الحرمان عقوبة اللعنة Anathema ، وهي عقوبة ذكر فيها بعناية وبأقوى عبارة. وبكل ما تحتويه العبارات القانونية من لغو، كل ما يتصل بهذه العقوبة. وكان آخر ملجأ للكنيسة هو حق البابا في أن يصدر قرار تحريم (Interdict) على أية بقعة من العالم المسيحي- أي أن يمنع إلى أجل جميع الخدمات الدينية أو الكثرة الغالبة منها. وإذا كان الناس في تلك الأيام يشعرون بحاجتهم إلى العشاء الرباني، ويخشون أن توافيهم المنية قبل أن يعفى عن خطاياهم، فقد كان المحروم يضطر عاجلاً أو آجلاً إلى مصالحة الكنيسة. وقد صدرت قرارات بالحرمان من هذا النوع على فرنسا في عام 998، وعلى ألمانيا في عام 1102، وعلى إنجلترا في عام 1208، وعلى روما نفسها في عام 1155.
وكانت كثرة ما صدر من قرارات الحرمان والتحريم سبباً في ضعف أثرهما في القرن الحادي عشر(105). فقد كان البابوات يصدرون بين الفنية والفنية قرارات لأغراض سياسية، كما حدث حين هدد إنوسنت الثاني مدينة بيزا بإصدار قرار التحريم عليها إذا لم تنضم إلى الجامعة التسكانية(106). وبلغت قرارات الحرمان بالجملة- للغش في أموال الزكاة التي كانت الكنيسة تتقاضاها من الأهلين- من الكثرة أن أضحت أقسام كثيرة من المجتمع المسيحي محرومة كلها في وقت واحد، ومنها ما لم تكن تعرف أنها محرومة، كما أن منها ما أغفل قرار الحرمان أو سخر منه(107) ولم يعبأ به. من ذلك أن قرار الحرمان بالجملة صدر على ميلان وبولونيا وفلورنس ثلاث مرات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وظلت ميلان اثنين وعشرين عاماً تتجاهل القرار الثالث. ويحدثنا الأسقف جوليوم له مير Guillaume le Maire في عام 1391 عن هذه القرارات فيقول : "لقد رأيت بعيني في بعض الأحيان أربعمائة محروم في أسقفية واحدة بل رأيت سبعمائة منهم... يزدرون سلطة المفاتيح ويوجهون ألفاظ التجديف والسباب للكنيسة ورجالها(108) ولم يعبأ فليب أغسطس وفليب الجميل بقرارات الحرمان التي صدرت عليهما.
وكان ما يحدث آنا بعد آن من تجاهل لهذه القرارات بدياة اضمحلال سلطان القانون الكنسي على غير رجال الدين في أوروبا. وكانت الكنيسة قد أخضعت لسلطانها طائفة كبيرة من شؤون الحياة البشرية حين تضعضعت السلطات الدينية في الألف السنة الأولى من التاريخ المسيحي، فلما أن قويت الحكومة المدنية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر استرد القانون المدني من القانون الكنسي طائفة بعد طائفة من الشؤون البشرية. نعم إن الكنيسة قد نالت مكاسب جديدة في التعيين في الوظائف الدينية، أما في الميادين الأخرى فقد أخذ سلطانها يضمحل في شؤون التعليم، والزواج، والأخلاق، والاقتصاد، والحرب فقد أعلنت الدول التي نمت وترعرعت في ظل النظام الاجتماعي. الذي أوجدته هي والذي أجاز لها أن تنمو وتترعرع، أعلنت هذه الدول أنها شبت عن الطوق وبدأت تلك العملية الطويلة- عملية التحرر من السلطة الدينية- التي بلغت غايتها في هذه الأيام. ولكن جهود واضعي القانون الكنسي لم تذهب هباء، كما لا تذهب هباء معظم الجهود المبدعة الخلاقة في هذا العالم، فهي التي أعدت ودربت أعظم من أخرجتهم من الحكام، وأسهمت في نقل القانون الروماني إلى العالم الحديث، وأيدت الحقوق القانونية للأرامل والأطفال، ووضعت في القانون المدني المعمول به في أوروبا الغربية المبدأ الذي يجعل للزوجة في حياتها نصيباً من مال زوجها(109) ؛ وكان له نصيب في صياغة الفلسفة المدرسية ووضع مصطلحاتها. وملاك القول أن الشريعة الكنسية كانت من أعظم الأعمال التي تمخض عنها العقل البشري العصور الوسطى.
الفصل السادس: رجال الدين
كان الناس في حديثهم العادي في العصور الوسطى يقسمون الخلق طبقتين : طبقة رجال الدين وطبقة "رجال الدنيا" وكان الراهب من رجال الدين وكانت الراهبة من نسائه، ومن الرهبان من كانوا أيضاً قسيسين وهؤلاء يكونون "رجال الدين النظاميين" أي رجال الدين الذين يتبعون قانون الأديرة (regula)، أما غيرهم من رجال الدين فكانوا يسمون "دنيويين" أي يعيشون في الدنيا (saeculum)، وكانت طبقات رجال الدين جميعها تمتاز من غيرها بحلق قمة الرأس وبأن يلبس أفرادها مئزراً طويلاً ذا لون واحد أي كان. ما عدا اللوتين الأحمر والأخضر، تضمه أزرار بطوله كله من الرأس إلى القدمين. ولم يكن لفظ رجال الدين يطلق على من كان منهم في "الدرجات الصغرى" فحسب ـ أي بوابي الكنائس، وقارئي الصلوات،، وقارئي الرقى، والسدنة- بل كان يطلق كذلك على جميع طلبة الدين ومدرسيه في الجامعات، وعلى كل من حلقوا قمة رؤوسهم- أي دخلوا في زمرة رجال الدين - وهم طلاب ثم أصبحوا فيما بعد أطباء أو محامين، أو فنانين، أو مؤلفين، أو استغلوا محاسبين أو مساعدين لرجال الأدب. وهذا هو السبب الذي من أجله ضاق معنى لفظي Clerical، Clerk فصارا "كتابياً" و "كاتباً". وكان يسمح لرجال الدين من غير الطبقات العليا أن يتزوجوا وأن يشتغلوا بأية مهنة محترمة، ولم يكونوا يلزمون بأن يظلوا مستمسكين بعادة حلق قمم رؤوسهم.
أما الطبقات الثلاث "الكبرى" أو "الطبقات المقدسة" - أتباع الشمامسة - والشمامسة- والقساوسة- فلم يكن يجوز لمن انضم إليها أن يخرج منها، وقد أغلق أمام أفرادها بوجه عام باب الزواج بعد القرن الحادي عشر، ولكن لدينا شواهد تدل على أن بعض القساوسة اللاتين بعد أيام جريجوري السابع كانوا يتخذون لهم أزواجاً أو خليلات(110)، غير أن هذه الحالات أخذت تقل شيئاً فشيئاً حتى كانت من الحالات الشاذة النادرة ، وكان على قس الأسقفية أن يقنع بالمتع الروحية. وإذا كانت حدود الأسقفية تتفق في العادة مع حدود الضيعة أو القرية، فإن مالك الضيعة كان في أغلب الأحوال هو الذي يعين القس(111) بالاشتراك مع الأسقف. وقلما كان هذا القس ممن نالوا قسطاً موفوراً من التعليم، وسبب ذلك أن التعليم الجامعي كان وقتئذ كبير النفقة، وأن الكتب كانت نادرة، ولهذا كان يكفيه أن يعرف كيف يقرأ الصلوات والقداس، ويقوم بتقديم العشاء الرباني وتنظيم شؤون العبادة والصدقات في الأسقفية. ولم يكن في كثير من الحالات أكثر من مساعد أو نائب يستأجره قس أكبر منه ليؤدي الخدمات الدينية في الأسقفية نظير ربع دخله من معاشه. وكان في مقدور القس الكبير بهذه الطريقة أن يكون له معاش من أربع أبرشيات أو خمسٍ،أما قس الأبرشية فكان يحيا حياة الفقر والمذلة(112)، يعتصر دله من "رسوم المذبح" أو التعميد أو عقود الزواج، أو الدفن، أو قراءة القداس للموتى. وكان في بعض الأحيان ينحاز إلى جانب الفقراء في حرب الطبقات، كما فعل جون بول John Ball(113)، ولم يكن مستواه الخلقي يضارع مستوى قس هذه الأيام الذي سما إلى ما سما إليه بفضل المنافسة الدينية، ولكنه كان وجه عام يقوم بعمله صابراً حريصاً على إطاعة نداء الضمير وواجب الشفقة والرحمة. فكان يعود المرضى، ويواسي المحرومين، ويعلم الشباب، ويلوك صلواته، ويبث في الأهلين الغلاظ الشداد شيئاً من التحضر والخلق الطيب. ويقول أقسى ناقدي هذه الطائفة إن كثيرين من قساوسة الأبرشيات "كانوا ممن لا غنى عنهم في هذا العالم"(114)، وقال عنهم لكي Lecky المتحرر من قيود الدين : "ليس ثمة طائفة غيرهم أظهرت ما أظهروه هم من غيرة جامعة مجردة من الانهماك في متاع الدنيا، لا يثنيها عن هدفها مصالحها الشخصية، يضحي أفرادها في سبيل الواجب المفروض عليهم أعز ما في العالم من متاع، ويواجهون جميع الصعاب أياً كان نوعها وألوان العذاب والموت ببسالة لا تتزعزع ولا تلين"(115).
وكان للقساوسة والأساقفة يؤلفون فيما بينهم طبقة رجال الكهنوت. فأما الأسقف فكان قساً اختير ليؤلف من عدة أبرشيات وعدد من القساوسة أسقفية واحدة وكان الذين يختارونه لهذا المنصب من الوجهة النظرية وفي بداية الأمر هم القساوسة والشعب، ولكن الذي يرشحه لمنصبه عادة قبل أيام جريجوري السابع هو البارون أو الملك، وكان يختاره بعد عام 1215 كهنة الكنيسة الكبرى بالاشتراك مع البابا نفسه. وكان يعهد إليه بكثير من الشؤون الدنيوية والكنيسة، كما كانت محكمته الأسقفية تنظر في بعض القضايا المدنية وفي جميع القضايا التي تمس رجال الدين على اختلاف طبقاتهم. وكان من حقه أن يعين القساوسة ويفصلهم، ولكن سلطته على الأديرة ورؤسائها في أسقفيته نقصت في الوقت الذي نتحدث عنه لان البابوات أخضعوا طبقات الرهبان لسلطانهم المباشر لخوفهم من سلطان الأساقفة. وكان إيراد الأسقف يأتي بعضه من الأبرشيات التابعة له، ولكن معظمه كان يأتيه من الضياع التابعة لكرسيه، وكان في بعض الأحيان يعطي إحدى الأبرشيات من المال أكثر مما يأخذ منها. وكان المتقدمون لشغل مناصب الأساقفة يتعهدون عادة بأن يؤدوا - للملك أولاً ثم للبابا فيما بعد- قدراً من المال نظير ترشيحهم، وكانوا بوصفهم حكاماً دنيويين يطرأ عليهم ما يطرأ على غيرهم من ميل لتعيين أقاربهم في المناصب ذات الإيراد المجزي- وكان مما يشكو منه البابا إسكندر الثالث أنه "لما حرم الله الأساقفة من الأبناء وهبهم الشيطان أبناء الإخوة والأخوات"(116). وكان كثيرون من الأساقفة يحيون الحياة المترفة، التي تليق بالسادة الإقطاعيين. ولكن كثيرين منهم كانوا يهبون أنفسهم لواجباتهم الروحية والإدارية. ولقد كان أساقفة أوروبا، بعد أن اصلح ليو التاسع نظام الأسقفيات، خير الطوائف كلها في العصور الوسطى من الناحيتين العقلية والخلقية.
وكان يرأس أساقفة كل إقليم كبير الأساقفة أو المطران، وكان له هو وحدة حق دعوة مجلس الكنيسة الإقليمي ورياسته. وكان بعض كبار الأساقفة، بما أوتوا من قوة في الخلق أو سعة في الثراء، يسيطرون على حياة أقاليمهم من نواحيها كلها تقريباً وكان كبار أساقفة مدن همبرج، وبرمن، وكولوني، وتريير، ومينز، ومجد برج، وسلزبرج الألمانية من السادة الإقطاعيين الأقوياء، يختارهم الأباطرة في كثير من الأحيان لتصريف شؤون الإمبراطورية أو ليكونوا لهم سفراء أو مستشارين. وكذلك أضطلع كبار أساقفة ريمس، ورون، وكنتربري، يمثل هذا الواجب الخطير في فرنسا، وتورمندية، وإنجلترا. ومن كبار الأساقفة- في طليطلة، وليوان، ونربوته، وريمس، وكولوني، وكنتربري - من أصبحوا "رؤساء" كباراً ذوي سلطان غير منازع على جميع رجال الدين في أقاليمهم، وكان كبار الأساقفة يجتمعون في مجلس تتألف منه من حين إلى حين حكومة نيابية للكنيسة. وكانت هذه المجالس في العهود المتأخرة تدعى لنفسها سلطات تعلو على سلطات البابا، أما في العصر الذي نتحدث عنه، عصر أعظم البابوات، فلم يكن أحد في أوروبا الغربية ينازع سلطان أسقف روما سلطاته العليا الدينية والروحية. وكانت فضائل ليو التاسع وهلد براند قد كفرت عن فضائح القرن العاشر، كما أخذ سلطان البابوية ينمو بين صروف القرن الثاني عشر المتقلبة وكفاحه نمواً مكن إنوسنت الثالث من أن يدعي أن هذا السلطان يمتد إلى جميع بقاع الأرض. فقد كان الملوك والأباطرة يمسكون بركاب خادم خدم الله، ذي الثياب البيض، ويقبلون قدميه. وأضحى منصب البابوية في ذلك الوقت أسمى ما يطمع فيه إنسان على ظهر الأرض، فكانت أذكى العقول وقتئذ تتهيأ في أشد مدارس اللاهوت والقانون صرامة لتشغل فيما بعد مكاناً بين رجال الكنيسة. وكان الذين يرقون منهم إلى الذروة رجالاً من ذوي العقول الجبارة والقلوب الباسلة لا يخشون أن يحكموا قارة بأجمعها، وقلما كان موت الواحد منهم يثني غيره عن مواصلة السياسة التي وضعها هؤلاء الرجال هم ومجالسهم، فلقد أتم إنوسنت الثالث ما لم يتمه جريجوري السابع، وفاز إنوسنت الرابع والإسكندر الرابع بالنصر في الكفاح الذي قام به إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع ضد الأباطرة الذين أرادوا تضييق سلطان البابوية.
وكان سلطان البابا يؤول إليه من الوجهة النظرية من الحقوق التي منحها المسيح الحواريين. وكانت حكومة الكنيسة بهذا المعنى حكومة دينية - أي حكومة الشعب، عن طريق الدين، على أيدي خلفاء الله في الأرض. لكن الكنيسة كانت بمعنى آخر حكومة ديمقراطية : فقد كان في وسع أي إنسان في العالم المسيحي، عدا المصابين في عقولهم أو أجسامهم، والمحكوم عليهم في جرائم ارتكبوها، والمطرودين من حظيرة الدين ؛ والأرقاء - كان في وسع أي إنسان عدا هؤلاء أن يختار قساً أو بابا. وكان الأغنياء في هذا المجال، كالأغنياء في كل مجال سواه، تتاح لهم فرص أكثر من غيرهم لأن يعدوا أنفسهم لتسلم درجات هذا السلم الديني الكثيرة، غير أن الباب كان مفتوحاً لجميع الناس على السواء، وكانت المواهب العقلية، لا الآباء والجدود، هي التي يعتمد عليها النجاح في أكثر الأحيان. وقد خرج مئات من الأساقفة وعدد كبير من البابوات من بين صفوف الطبقة الفقيرة(117) وكان سريان هذا الدم الجديد من جميع الطبقات في طوائف رجال الدين بمثابة غذاء مستمر لعقولهم، وقد "ظل عصوراً طوالاً الاعتراف العملي الوحيد بمساواة الناس بعضهم بعضاً" . ولقد مر بنا أن حق اختيار البابا قد اقتصر على "الأساقفة الكرادلة" المقيمين في روما، ثم زيد عدد هؤلاء الكرادلة السبعة تدريجاً بمن ضمهم البابوات إليهم من أمم مختلفة، حتى أضحوا كلية مقدسة مؤلفة من سبعين عضواً يمتازون من غيرهم بقلانسهم الحمراء ومآزرهم الأرجوانية، وأضحوا طبقة جديدة في سلم الدرجات الدينية لا يعلو عليهم إلا البابا نفسه.
وكان البابا يحكم دولة روحية بلغت في القرن الثالث عشر ذروة مجدها ويساعده في حكمها أولئك الرجال وطائفة كبيرة من رجال الكنيسة وغيرهم من الموظفين يؤلفون جميعاً "الكوريا" Curia أو المحكمة التنفيذية والقضائية. وكان من حقه وحده أن يدعو للانعقاد مجلساً عاماً من الأساقفة، ولم يكن لما يصدرونه من الشرائع أية قوة إلا إذا صدق عليه البابا بمرسوم من قبله وكان له الحرية المطلقة في تفسير قانون الكنيسة ؛ وإعادة النظر فيه، وتوسيعه، وإعفاء من يرى إعفاءه من قواعده. وكان هو المحكمة العليا التي تستأنف إليها أحكام محاكم الأسقفيات، وكان هو وحده الذي يستطيع أن يغفر بعض الذنوب الخطيرة أو يصدر صكوك الغفران الكبرى، أو يسلك شخصاً في زمرة القديسين. وكان على جميع القساوسة بعد عام 1059 أن يقسموا يمين الطاعة له، وأن يقبلوا رقابة مندوبي البابا على شؤونهم. وكانت جزائر مثل سردينيا وصقلية، وأمم كالإنجليز، والمجر، وأسبان تعترف بأنه سيدها الإقطاعي وترسل إليه الجزية، وكان في وسعه أن يرقب بعينية ويحرك بيديه كل جزء من أجزاء مملكته عن طريق الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، المنبثين في كل مكان، فقد كان هؤلاء يكونون هيئة للمخابرات والإدارة لا نظير لها في أية دولة من الدول. وهكذا عاد إلى روما شيئاً فشيئاً، بدهاء بابواتها، ما كان لها من سلطان على أوروبا معتمدة على ما كان لكلمة الدين من قوة عجيبة.
الفصل السابع: البابوية في أوجها 1085 - 1294
ولم يقض على النزاع الذي قام به الكنيسة والدولة حول المناصب الكنسية بعد عهد جريجوري السابع وانتصار الإمبراطورية في الظاهر، بل ظل هذا النزاع قائماً جيلاً من الزمان، تولى فيه عدة أحبار، وانتهى بتراض بين الطرفين في اتفاق ورمز Worms (1222) الذي عقد بين البابا كلكستس الثاني Calixtus II والإمبراطورية هنري الخامس. وقد سلم هنري بمقتضى هذا الاتفاق بحق الكنيسة في "تعيين كل من يتمتعون بالخاتم والعصا، ورضي أن يجري انتخاب الأساقفة ورؤساء الأدير حسب القوانين الكنسية"، اي أن يقوم به رجال الدين أو الرهبان ذو الشأن" وأن يكون بمأمن من كل تدخل" واستخدام للمال. ووافق كلكستس على أن يجري انتخاب الأساقفة ورؤساء الأديرة الذين يمتلكون أرضاً من التاج في حضور الملك، وأنه إذا قام النزاع حول الانتخابات كان من حق الملك أن يفصل بين المتنازعين بعد استشارة أساقفة الإقليم، وأن على الأسقف أو رئيس الدير الذي يمتلك أرضاً من الملك أن يؤدي له جميع الالتزامات الإقطاعية التي يجب على التابع أن يؤديها للمتبوع(118) وكانت اتفاقات مماثلة لهذا الاتفاق قد عقدت قبل ذلك الوقت مع إنجلترا وفرنسا. وأدعى كل من الطرفين أنه هو المنتصر، والحق أن الكنيسة تقدمت بهذه الاتفاقيات خطوة كبيرة نحو استقلالها بشؤونها، ولكن الروابط الإقطاعية ظلت تعطي الملك الكلمة المسموعة في اختيار الأساقفة في جميع أنحاء أوروبا(119).
وحدث في عام 1130 أن انقسمت هيئة الكرادلة شيعتين، اختارت إحداهما لكرسي البابوية إنوسنت الثاني واختارت الثانية أنكليتس الثاني Anacletus II. وكان أتكليتس ينتمي إلى أسرة بييرليوني Pierleoni الشريفة، ولكنه كان له جد يهودي اعتنق الدين المسيحي، وكان معارضوه يسمونه (الجد اليهودي)، وبعث القديس برنار، وهو رجل كان في غير هذا الظرف الخاص صديقاً لليهود، برسالة إلى الإمبراطور لوثير الثاني Lothaire II يقول إن "مما يجلل المسيح بالعار أن يجلس رجل من أصل يهودي على كرسي القديس بطرس" - وقد نسي قوله هذا أصل بطرس نفسه. وأيدت كثرة رجال الدين، وأيد ملوك أوروبا كلهم إلا واحداً منهم، إنوسنت الثاني، وأخذت الجماهير في أوروبا تسلي نفسها بتوجيه المثالب لأنكليتس، واتهامه بأنه يضاجع المحرمات عليه، وينهب الكنائس المسيحية ليغنى بأموالها أصدقاءه اليهود، ولكن أهل روما ظلوا يؤيدونه إلى يوم وفاته (1138). وأكبر الظن أن قصة أنكليتس هي مصدر خرافة أندريس Andreais التي ذاعت في القرن الرابع عشر عن (البابا اليهودي)(119).
وكان هدريان الرابع (1154-1159) مثلاً آخر لما يستطيع أن يرقى إليه من الدرجات الرفيعة ذوو المواهب السامية. فقد ولد من أسرة وضيعة في إنجلترا، وجاء إلى أحد الأديرة يطلب الصدقات. وارتفع نقولاس بريكسبير Nicholas Breakspear بجدارته وحدها إلى منصب رئيس الدير وإلى كردينال ثم إلى بابا. ووهب إيرلندة إلى هنري الثاني ملك إنجلترا، وأرغم بربروسه أن يستعيد السلطة التي كانت للأباطرة الألمان على البابوية، فدعا كلا الرجلين لأن يعرضا عليه مطالبهما. فأما الإسكندر فرفض الطلب، وأما فكتور فقبله، وأيد بربروسه في مجمع بافيا المقدس (1160) اختيار فكتور لكرسي البابوية، فما كان من الإسكندر إلا أن أصدر قراراً بحرمان فرديك، وأعفى رعايا الإمبراطور من طاعته في الشؤون المدنية، وساعد الثورة القائمة عليه في لمباردية. وأذل انتصار الجامعة المباردية في ليانو (1176) فرديك، فعقد الصلح مع الإسكندر في مدينة البندقية، وقبل قدمي البابا مرة أخرى. وأرغم هذا البابا نفسه هنري الثاني ملك إنجلترا على أن يسير حافي القدمين إلى قبر بكت Becket، وأن يتلقى هناك درساً في الطاعة من قساوسة كنتربري. وكان كفاح الإسكندر زمناً طويلاً ونصره المؤزر في هذا الكفاح هما اللذين مهدا السبيل لبابا من أعظم البابوات على بكرة أبيهم.
ولد إنوسنت الثالث في أنياني القريبة من روما في 1161. وكان وهو لا يزال يسمى أوتاربودي كنتي Lotariodi conti، ابن كونت سيني Segni يتصف بجميع المزايا التي يمتاز بها أبناء الأشراف ممن نالوا قسطاً كبيراً من الثقافة. ثم درس الفلسفة واللاهوت في باريس، والشريعة الكنسية والمدنية في بولونيا Bologna، ولما عاد إلى روما استطاع بمهارته الدبلوماسية، وعلمه الواسع بالعقائد الدينية، وصلاته بأصحاب النفوذ، أن يرقى رقياً سريعاً في المناصب الدينية، فكان وهو في الثلاثين من عمره شماساً أكبر، ولما بلغ السابعة والثلاثين اختير بابا بإجماع الآراء وإن لم يكن قد اصبح قسيساً (1198)، وجلس على كرسي البابوية في اليوم التالي ليوم اختياره، وكان من حسن حظه أن الإمبراطور هنري السادس الذي تمت له السيادة على إيطاليا وصقلية قد مات في عام 1197 وترك عرش الإمبراطورية لفرديك الثاني، وهو طفل في الثالثة من عمره. وانتهز إنوسنت هذه الفرصة السانحة، وكان في استخدامها جد عنيف : فقد طرد رئيس بلدية روما الألماني من منصبه، وأخرج الملتزمين الألمان من اسيوليتو Spoleto وبروجيا Perugia، وتقبل خضوع تسكانيا، وأعاد حكم البابا في الولايات البابوية، واعترفت به أرملة هنري سيداً أعلى للصقليتين، وقبل هو أن يكون وصياً عل ابنها، ولم تمض عشرة شهور حتى كان إنوسنت سيد إيطاليا بلا منازع.
ويدل ما لدينا من الشواهد على أنه كان أعظم أهل زمانه عقلاً، فقد ألف وهو في بداية العقد الرابع من عمره أربعة كتب في علوم الدين، تمتاز بغزارة المادة وبلاغة الأسلوب، ولكن هذه الكتب قد طغى عليها سناً شهرته السياسية. وكانت عباراته التي ينطق بها في الشؤون البابوية تمتاز بالوضوح والتفكير المنطقي السليم، وقوة العبارة، ولولا منصبه الديني لبلغ في الفلسفة ما بلغه أكويناس، وبلغ في الأدب مبلغ أبلار وإن امتاز عنه بصدق العقيدة. وقد أكسبته عيناه الثاقبتان، وأكسبه وجهه السمر، مهابة لم ينقص منها قصر قامته. ولم تكن تعوزه الفكاهة، وكان يجيد الغناء، ويقرض الشعر، وكان رقيق الحاشية، وفي وسعه إذا شاء أن يكون رحيماً، صبوراً، ومتسامحاً فيما يمس شؤونه الخاصة. أما فيما يختص بعقيدته وأخلاقه، فلم يكن يقبل اي أنحراف عن أحكام الكنيسة أو مبادئها الخلفية، وإذا كان عالم الإيمان والأمل المسيحيين هو الدولة التي دعي لحمايتها فقد كان يسعه للدفاع عنها. وكان وهو الذي ولد في مهد الثراء يعيش عيشة البساطة الفلسفية، طول حياته، طاهر اليد في عصر فشت فيه الرشوة في كل مكان(120). وما كاد يتولى منصبه حتى حرم على موظفي هيئة الكرادلة أن يتقاضوا أجراً على ما يقومون به من أعمال. وكان يجب أن يرى كرسي الرسول بطرس يثري من مال العالم كله، ولكنه كان يصرف أموال البابوية بنزاهة معقولة. وكان دبلوماسياً بارعاً، وكان له نصيب معتدل من النقائض الخلقية التي تلازم هذه الحرفة الممتازة(121). وكأن الزمن قد عاد به أحد عشر قرناً إلى الوراء، فجعله إمبراطوراً رومانياً رواقياً أكثر منه مسيحياً، لا يشك قط في أن من حقه أن يحكم العالم.
وكان من الطبيعي، وذكرى هؤلاء البابوات الأقوياء لا تزال مائلة في أذهان أهل روما، أن يقيم إنوسنت سياسته على الاعتقاد بقداسة منصبه ورسالته. ولهذا كان شديد الحرص على أبهة الاحتفالات البابوية وفخامتها، ولم ينزل قط أمام الجماهير عن قلامة ظفر من جلال منصبه وعظمته. وكان صادق الإيمان بأنه هو وارث السلطات التي يعتقد الناس عامة أن المسيح وهبها للحواريين وللكنيسة، فلم يكن في مقدوره أن يعترف بأن لأحد ما له هو من السلطان. ومن أقواله في هذا المعنى : "إن المسيح لم يترك لبطرس حكم الكنيسة كلها فحسب بل ترك له حكم العالم بأجمعه"(122) ولم يكن يدعي لنفسه السلطة العليا في الشؤون الأرضية أو الزمنية الخالصة، اللهم إلا في الولايات البابوية(123)، ولكنه كان يصر على أنه إذا ما تعارضت السلطة الروحية مع السلطة الزمنية وجب أن تسمو السلطة الروحية على السلطة الزمنية كما تسمو الشمس على القمر. وكان يستمسك بالمثل الأعلى الذي يستمسك به جريجوري السابع - وهو أن على الحكومات أن ترضي بأن يكون لها مكان في دولة عالمية يتولى البابا رياستها، على أن تكون له الكلمة العليا في جميع الشؤون القضائية، والأخلاقية، والعقائد الدينية، وأوشك في وقت ما أن يحقق هذا الحلم، فقد نفذ جزءاً من خطته على أثر استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في عام 1204، إذ خضعت الكنيسة اليونانية إلى أسقف روما، واستطاع أن يتحدث وهو مغتبط عن ثوب المسيح غير المخيط، وأخضع بلاد العرب وأرمينية البعيدة نفسها السيطرة الكرسي البابوي في روما، واستطاع أن يكون هو صاحب الحق في تعيين رجال الدين في مناصبهم، واندفع في سلسلة من المغامرات والنزاع الخطيرة انتهت بإرغام رؤساء الحكومات الأوروبية على الاعتراف بسيادته عليهم سيادة لم يسبق لها من قبل مثيل.
هذا في خارج إيطاليا، أما في إيطاليا نفسها فكانت سياسته أقل من هذا نجاحاً : فقد عجز فيما بذله من جهود متعددة للقضاء على الحروب القائمة بين دول المدن الإيطالية، ونغص عليه أعداؤه السياسيون في روما حياته وجعلوها غير آمنة حتى في وقت من الأوقات يخشى المقام في عاصمته. كذلك أفلح الملك شفير Severre النرويجي (1184-1202) في مقاومته بالرغم من صدور قرار الحرمان عليه(124) هو وبلاده، وتجاهل فيليب الثاني ملك فرنسا أمره حين عقد الصلح مع إنجلترا، وإن كان قد خضع لما أصر عليه البابا من أن يعيد زوجته التي هجرها، واقتنع ألفنسو التاسع صاحب ليون Leon أن يفارق برنجاريا Berengaria التي تزوجها لأنها من قريباته المحرمات عليه. واعترفت البرتغال، وأرغونة، وبلاد المجر، وبلغاريا، بأنها إقطاعيات بابوية، وأعطت البابا جزية سنوية، ولما رفض الملك جون أمر البابا بتعيين لانجتن Langton كبيراً أساقفة منتربري اضطره البابا بقرار التحريم الذي أصدره على إنجلترا وبدهائه السياسي أن يضم إنجلترا إلى الأقطاعات البابوية. ووسع إنوسنت سلطانه في ألمانيا بأن أعان أتو الرابع على فيليب صاحب سوابيا Swabia ثم أعان فيليب على أتو، وحصل في كلتا الحالتين على منح وامتيازات للبابوية نظير انتصاره لكلا الطرفين المتنازعين، فضلاً عن تحرير الولايات البابوية مما كان يتهددها من التطويق، وأذكر الإمبراطور أن بابا من البابوات هو الذي "نقل" السلطة الإمبراطورية من اليونان إلى الفرنجة، وأن شارلمان لم يصبح إمبراطوراً إلا بعد أن مسحه البابا وتوجه، وأن في مقدور البابوات أن يستردوا ما منحوا. وحسبنا دليلاً على سلطان إنوسنت ما وصفه به زائر بيزنطي إلى رومة إذ قال أن إنوسنت "ليس خليفة بطرس بل خليفة قسطنطين"(125).
وقد أحبط ما بذله الحكام الزمنيون من جهود لفرض الضرائب على رجال الدين دون رضاء البابا، ورصد المال في الكرسي البابوي لمعونة القساوسة المحتاجين، وبذل ما في وسعه لتحسين تربية رجال الدين وتعليمهم، وقد رفع من منزلتهم الاجتماعية حين عرف الكنيسة بأنها ليست جميع المؤمنين المسيحيين بل هي جميع رجال الدين المسيحيين، وقاوم عادة استيلاء الأساقفة أو رؤساء الأديرة على العشور التي تجمع من الأبرشيات وحرمان قساوسة الأبرشية منها(126). وعمل على إصلاح ما كان في أديرة الرجال والنساء من تراخ وإهمال بأن نظم زيارات متتابعة لهذه الأديرة لمعرفة أحوالها والتفتيش عليها. واستطاع بفضل ما وضعه من التشريعات أن يحدد العلاقة بين رجال الدين وغير رجال الدين، وبين القساوسة والأساقفة، والأساقفة والبابوات. ورفع من شأن المجلس البابوي فجعله محكمة قديرة للمشورة، والإدارة، والقضاء، حتى أضحت وقتئذ أقدر هيئة حاكمة في زمانها، وقد ساعدت إجراءاتها ومصطلحاتها على تشكيل فن الدبلوماسية وطرائقها. وأكبر الظن أن إنوسنت نفسه كان أعظم أهل زمانه تبحراً في القانون، وأنه كان قادراً على أن يجد في المنطق والسوابق سنداً قانونياً لكل قرار يصدره. وكان العلماء والمشترعون يهرعون إلى "مجمع الكرادلة" حيث كان يرأس هذه الهيئة بوصفها المحكمة الكنسية العليا، ليفيدوا من نقاشها وأحكامها في المسائل القانونية المدنية والدينية، وقد اسماه بعضهم "أبا القانون Pater Iuris(127)، وأسماه آخرون حباً وتفكهاً سليمان الثالث (128).
وكان آخر ما ناله من نصر بوصفه مشترعاً وبابا أن رأس في عام 1215 مجلس لاتران الرابع الذي عقد في كنيسة القديس يوحنا بروما. وأقبل على هذا المجلس العام الثاني عشر ألف وخمسمائة من رؤساء الأديرة، والأساقفة، ورؤساء الأساقفة، وغيرهم من علية رجال الدين والمندوبين فوق العادة من جميع الأمم ذات الشأن في العالم المسيحي المتحد. وكانت خطبة الافتتاح التي ألقاها البابا اعترافاً وتحدياً غاية في الجرأة إذ قال "إن أكبر سبب في فساد الخلق هو فساد رجال الدين أنفسهم، وهذا هو مصدر كل ما في العالم المسيحي من شرور : فقد انمحى الإيمان، وطمست معالم الدين.... ووطئت العدالة بالأقدام، وكثر الخارجون على الدين، وجرؤ الناس على الانشقاق، وازداد غير المؤمنين قوة، وانتصر المسلمون(129)". ورضيت سلطات الكنيسة وعقولها المجتمعة في هذا المجلس أن يسيطر عليها رجل واحد سيطرة تامة، فكانت أحكامه هي قرارات المجلس، وقبلت هذه السلطات أن يعيد هو تعريف عقائد الكنيسة الأساسية، وأن يحدد معناها، وعرفت لأول مرة تعريفاً رسمياً عقيدة استحالة العشاء الرباني إلى لحم المسيح ودمه. وقبل المجلس قرارات البابا التي تطلب إلى غير المسيحيين في البلاد المسيحية أن يلبسوا شارة خاصة تميزهم من غيرهم، واستجاب بحماسة إلى دعوته بشن حرب على الملاحدة الألبجنسيين، ولكنه أيضاً أيده في الاعتراف بنقائض الكنيسة وعيوبها، وشهر ببيع المخلفات الزائفة، وانتقد انتقاداً شديداً صكوك الغفران التي "لا تتورع بعض رجال الدين.... عن منحها ويسرفون في ذلك إسرافاً بعيداً عن الحكمة، والتي أضحت مفاتيح الكنيسة بفضلها محتقرة، وفقدت التوبة ما كان لها من قوة"(130). وحاول المجلس أن يصلح حياة الرهبنة إصلاحاً شاملاً، وندد بإدمان رجال الدين الخمر وما انحدروا إليه من فساد في الأخلاق، وزواج في الخفاء، واتخذ بإزائهم إجراءات شديدة، ولكنه رفض ما ادعاه الألبجنسيون من أن كل اتصال بين الرجال والنساء إثم. وملاك القول أن مجلس لاتران الرابع كان في كثرة من حضره، وفي اتساع مداه وآثاره، أهم مجمع عقدته الكنيسة بعد مجلس نيقيه.
وبعد أن بلغ إنوسنت ذروة المجد في حياته أخذ ينهار مسرعاً نحو منيته العاجلة. ذلك أنه قد انهمك في توسيع سلطانه وإدارة أعماله انهماكاً دائماً لم يخلد فيه قط إلى شيء من الراحة، وأنهك قواه وهو لا يزال في الخامسة والخمسين من عمره. ومن أقواله وهو يتحسر : "ليس لدي متسع من الوقت أفكر فيه في الشؤون السماوية، بل إني قلما أجد وقتاً للتنفس، ولقد كرست حياتي لغيري حتى كدت أصبح غريباً عن نفسي(131)" ولعله كان يسعه في آخر سنة من حياته أن يرجع بذاكرته إلى أعماله، وأن يحكم عليها حكماً موضوعياً أصدق من حكمه عليها في غمرة النزاع الذي كان وقت أن قام بها. لقد أخفقت الحملات الصليبية التي نظمها لاسترداد فلسطين، وكانت الحملة التي نجحت بعد وفاته هي التي أبيد فيها الألبجنسيون في جنوبي فرنسا بوحشية مجردة من كل رحمة. نعم إنه نال إعجاب مواطنيه، ولكنه لم ينل حبهم كما نال جريجوري الأول أو ليو التاسع، وقد شكا بعض رجال الدين من أنه كان ملكاً أكثر منه رجل دين، وظن القديس لتجاردس Lutgardia أنه لن يستطيع الفرار من النار إلا بشق الأنفس(132)، وحتى الكنيسة نفسها امتنعت عن أن تسلكه في عداد القديسين وفيهم من هم أقل وأكثر منه إطاعة لصوت الضمير، وإن كانت تفخر بعبقريته وتشكر له صادق جهوده.
ولكننا لا ينبغي لنا أن نضن عليه بأنه رفع الكنيسة إلى ذروة مجدها، وأوشك أن يحقق ما كانت تحلم به من أن تصبح دولة عالمية مسيطرة على شؤون الناس الأخلاقية. وكان هو أقدر حكام زمانه، يعمل لتحقيق أغراضه ببعد نظر، وإخلاص، ومزيج من الإصرار والمرونة، وجهود لا يكاد يصدقها الإنسان، فلما مات في عام 1216 كانت الكنيسة قد بلغت من دقة التنظيم، وعظيم الأبهة، وبعد الصيت، وقوة السلطان، ما لم تعرف له نظيراً قبل، وما لم تستمع بعد إلا في فترات جداً نادرة وقصيرة.
وليست لهونوريوس الثالث (1216-1227) منزلة عالية في سجلات التاريخ القاسية، لأنه كان لرقة حاشيته عاجزاً عن أن يخوض بقوة الحرب الناشبة بين الإمبراطورية والبابوية، أما جريجوري التاسع (1227-1241) فقد خاض غمار هذه الحرب بعزيمة تكاد تصل إلى درجة التعصب، وأن كان قد بلغ الثمانين من العمر حين جلس على كرسي البابوية وقد حارب فرديك الثاني وانتصر عليه انتصاراً كان من أثره أن تأخر عصر النهضة مائة عام، وهو الذي نظم محكمة التفتيش، ولكنه كان إلى ذلك مخلصاً إخلاصاً لا يرقي إليه الشك، تقيا إلى حد البطولة، قوياً في دفاعه عما حسبه أثمن ما يملكه بنو الإنسان وهو الدين الذي جاء به المسيح.
وهل كان هذا الرجل قاسياً غليظ القلب، وهو الذي حمى كردينال فرانسس وهداه بحكمته، ولولا هذا لكان من الجائز أن يصبح من الملحدين المارقين. وقضى إنوسنت الرابع (1243-1254) على فردريك الثاني، وأقر استخدام محكمة التفتيش للتعذيب(133). وكان نصيراً صادقاً للفلسفة، مساعداً للجامعات، مؤسساً لمدارس القانون. وكان اسكندر الرابع (1254-1261) محباً للسلم، رحيماً، شفيقاً عادلاً "أدهش العالم بعده على الاستبداد"(134) ومعارضته لصفات أسلافه العسكرية"(135)، بفضل التقى عن السياسة، وقد مات "كسير القلب" كما يقول مؤرخ فرنسسكاني "ولم ينقطع يوماً عن التفكير فيما بين المسيحيين من نزاع متزايد رهيب"(136)، وعاد كلمنت الرابع (1265-1268) إلى امتشاق الحسام، ودبر هزيمة مانفرد Manfred، وقضى على أسرة هوهنشتاوفن وعلى ألمانيا الإمبراطورية. ولما استعاد اليونان مدينة القسطنطينية تعرض الاتفاق القائم بين الكنيسة اليونانية والرومانية لخطر الزوال، ولكن جريجوري العاشر (1271-1276) استحق حمد ميخائيل بلايالوجوس Miehael Palealogus بمقاومته مطامع شارل دوق أنجو في الاستيلاء على القسطنطينية، فلما عاد إمبراطور الروم إلى ملكه أخضع الكنيسة اليونانية إلى روما، وعادت البابوية إلى ما كانت عليه من تفوق.
الفصل الثامن: مالية الكنيسة
لقد كانت الكنيسة في واقع الأمر دولة أوروبية فوق الدول جميعها، تضطلع بشؤون العبادات، والأخلاق، والتعليم، والزواج، والحروب العامة، والحروب الصليبية، والموت، والوصايا، لنصف سكان قارة من القارات، وتشترك اشتراكاً فعلياً في تصريف الشؤون الزمنية، وتقيم أكثر الصروح نفقة في تاريخ العصور الوسطى، ولهذا كله لم تكن تستطيع أن تقوم بهذه الوظائف كلها إلا باستغلال مائة مصدر من مصادر الإيراد. وكانت العشور أكبر مصادر هذا الإيراد : ذلك أن قانون الدولة فرض بعد شارلمان على جميع الأراضي التي يمتلكها غير رجال الدين أن تؤدي عشر مجموع غلتها أو ريعها عيناً أو نقداً إلى الكنيسة المحلية ؛ كذلك فرض على كل أبرشية بعد القرن العاشر أن تبعث بجزء من عشورها إلى مطران الأسقفية. وأجازت مبادئ الإقطاع أن تقطع عشور الأبرشية للغير، وترهن، ويوصي بها، وتباع، شأنها في هذا الشأن جميع الأملاك أو الإيراد، فلم يكد يحل القرن الثاني عشر حتى نشأت شبكة مالية معقدة كانت الكنيسة المحلية وقسيسها هما القائمين على جمع عشورها ولم يكونا من مستهلكيها، وكان ينتظر من القس أن "يصب اللعنات من أجل عشوره" على حد قول الإنجليز - أي أن يخرج من الدين من يحاولون التملص من أدائها أو يزورون في إيرادهم ؛ لأن الناس في تلك الأيام كانوا يكرهون أداء العشور للكنيسة التي يرون أن أعمالها لازمة لنجاتهم، كما يكرهون في هذه الأيام أداء الضرائب للدولة. فنحن نسمع عن ثورات يقوم بها دافعوا العشور من آن إلى آن، فقد حدث في رجيو إميليا Reggio Emilia عام 1280، كما يقول الراهب سلمبين Salimbene، أن تحدي الناس قرارات الحرمان والتحريم، وتعاهدوا على "ألا يؤدي أحد منهم أي عشور إلى رجال الدين.... وألا يجلسوا معهم على مائدة الطعام.... وألا يقدموا لهم طعاماً أو شراباً - وهو حرمان معكوس، اضطر معه الأسقف إلى أن يترضاهم(137).
وكان مصدر إيراد الكنيسة الأساسي هو أراضيها التي حصلت عليها بالهبة أو الوصية، وبالبيع أو إغلاق الرهن، أو بإصلاح الأراضي البور بأيدي جماعات الرهبان أو غيرها من الجماعات الدينية. وكان ينتظر من كل مالك حسب السنن الإقطاعية أن يوصي حين مماته بجزء من ماله للكنيسة ؛ وكان الذين لا يفعلون هذا يرتاب في صدق إيمانهم، ويتعرضون لعدم الدفن في الأراضي المخصصة للموتى الصالحين(138). وإذا كان الذين يعرفون الكتابة من غير رجال الدين نسبة ضئيلة من الأهلين، فإن القس كان هو الذي يدعى في العادة إلى كتابة الوصايا. وقد اصدر البابا إسكندر الثالث في عام 1170 قراراً يحرم على أي إنسان عمل وصية صحيحة من الوجهة القانونية إلا في حضرة قسيس، وينص على أن كل موثق من غير رجال الدين يجرؤ على كتابة وصية بغير هذا الشرط يطرد من حظيرة الدين(139)، وكانت الكنيسة وحدها هي المختصة بإثبات صحة الوصايا. وكانت الهبات أو الوصايا لكنيسة ما في نظر الناس هي أول الطرق الموثوق بها للنجاة من آلام المطهر. وكان عدد كبير من الوصايا للكنيسة، وبخاصة قبل عام 1000 م يبدأ بهذه العبارة: Adventante mudi vespero، ومعناها أنه "لما كانت أمسية العالم قريبة"(140). ولقد سبق القول إن بعض الملاك كانوا ينزلون عن أموالهم إلى الكنيسة بوصف ذلك تأميناً لهم من العجز: فكانت الكنيسة تؤدي للراهب راتباً سنوياً وترعاه في حالتي المرضى والشيخوخة، على أن تتسلم تركته خالية من جميع الحقوق العينية حين وفاته(141). وكانت بعض الأديرة "تؤاخي" المحسنين إليها فتمنحهم نصيباً من تخفيف عذاب المطهر، وهو التخفيف الذي ناله الرهبان بفضل صلواتهم وصالح أعمالهم(142). ولم يكتف الصليبيون ببيع أراضيهم إلى الكنيسة بأثمان بخسة ليحصلوا ببيعها على ما يحتاجونه من المال، بل إنهم استدانوا الأموال من الهيئات الكنسية بضمان ممتلكاتهم أو برهانها لها ؛ وكثيراً ما كانت هذه الممتلكات تؤول إلى تلك الهيئات لعجز أصحابها عن أداء ما عليها من الديون. ومن الناس من كانوا يموتون وليس لهم ورثة طبيعيون فيتركون أملاكهم كلها للكنيسة، من ذلك أن ما تلدا دوقة تسكانيا Gountess Matilda of Tuscany حاولت أن توصي للكنيسة بما يكاد يبلغ ربع مساحة إيطاليا كلها.
وإذا كانت أملاك الكنيسة مما لا يجوز انتقاله إلى غيرها، وكانت قبل عام 1200 معفاة في الأحوال العادية من الضرائب الزمنية(143)، فقد أخذت هذه الأملاك تنمو على مر القرون، فلم يكن من الأمور غير العادية أن تمتلك كنيسة كبرى، أو يمتلك دير للرجال أو النساء، عدة آلاف من الضياع تشمل فيما تشمله نحو أثنتى عشرة بلدة، بل تشمل أحياناً مدينة كبرى أو مدينتين(144). فقد كان أسقف لانجر Langres مثلاً يمتلك المقاطعة كلها. وكان دير القديس مارتن في تور يحكم عشرين ألفاً من أرقاء الأرض، وكان أسقف بولونيا يمتلك ألفي ضيعة، وكان لدير لورسش Lorsch مثل هذا القدر من الضياع ؛ وكان لدير لاس هولجاس Las Huelgas في أسبانيا أربع وستون بلدة(145)، وكانت الكنيسة في قشتالة تمتلك حوالي عام 1200 م ربع الأراضي الزراعية، وكانت في إنجلترا تمتلك خمسها، وفي ألمانيا ثلثها، وفي ليفونيا Livonia نصفها(146). على أنه يجدر بنا أن ننبه القارئ إلى أن هذه التقديرات تقريبية، وليست كلها مما يوثق بصحته. وأضحت هذه الثروة المكدسة موضع حسد الدولة ومطمعها. فقد صادر شارل مارتل أملاك الكنيسة ليمول بها حروبه، وأصدر لويس التقي القوانين التي تحرم على من كان له أبناء أن يوصي بأملاكه إلى الكنيسة(147).
وجرد هنري الثاني إمبراطور ألمانيا كثيراً من الأديرة من أراضيها، وقال في تبرير هذا العمل إن الرهبان قد نذروا أن يعيشوا فقراء، ووضعت بعض القوانين الإنجليزية الخاصة بالأموال المرصودة قيوداً على انتقال الأملاك إلى "الهيئات" أي الجماعات الكنسية. واستولى إدوارد الأول من الكنيسة الإنجليزية في عام 1291 على عشر أملاكها، كما استولى منها في عام 1294 على نصف دخلها السنوي. وبدأ فيليب الثاني سنة فرض الضرائب على أملاك الكنيسة في فرنسا، وجرى القديس لويس على هذه السنة وجعلها فيليب الرابع شريعة مقررة. ولما تقدمت الصناعة والتجارة، وكثرت النقود، ارتفعت الأثمان، أصبح دخل الأديرة والأسقفيات الآتي معظمه من الرسوم الإقطاعية التي كانت مقدرة من قبل على أساس مستوى الأثمان المنخفضة، والتي لم يكن يستطاع رفعها في هذه الأيام، نقول أصبح دخل الأديرة والأسقفيات لا يفي بمعيشة من فيها، دع عنك ترفهم(148)، فلم يحل عام 1270 حتى كانت كثرة الكنائس والأديرة في فرنسا مستغرقة في الدين، ذلك أنها كانت قد استدانت من أصحاب المصارف بفوائد مرتفعة لتفي بمطالب الملوك، وكان هذا من أسباب ضعف نشاط البناء في فرنسا في آخر القرن الثالث عشر.
وزاد البابوات في فقر الأسقفيات بما فرضوه من الضرائب على أملاكها وإيرادها ليمولوا الحروب الصليبية في بادئ الأمر وليوفوا بنفقات الكرسي البابوي المطردة الزيادة فيما بعد ؛ وكان لابد من وجود مصادر للدخل المركزي كلما وسعت البابوية مجال أعمالها وزادتها تعقيداً. وتحقيقاً لهذه الغاية أمر البابا إنوسنت الثالث (1199) جميع الأساقفة أن يرسلوا إلى كرسي للقديس بطرس جزءاً من أربعين جزء من إيرادهم في كل عام، وفرضت ضرائب على جميع أديرة الرجال والنساء، وعلى الكنائس الداخلة في دائرة الحماية البابوية مباشرة. وفرض البابوات على كل أسقف في أول اختياره لمنصبه ضريبة تعادل من الوجهة النظرية جميع إيراده في السنة الأولى، ولكنها كانت من الوجهة العملية تصف هذا الإيراد ؟ وذلك نظير تثبيته في منصبه. وكذلك كانت مبالغ كبيرة تنتظر ممن يعينون رؤساء أساقفة، وكان يطلب إلى كل بيت من البيوت المسيحية أن يرسل إلى الكرسي بنساً سنوياً (90slash100 من الريال الأمريكي) يعرف باسم "بنسات بطرس". وقد جرت العادة على أن تفرض رسوم على القضايا التي تعرض على المحكمة البابوية. وكان البابوات يدعون لأنفسهم حتى لخروج على القانون الكنسي في بعض الحالات، كالإذن بزواج من يحرم زواجهم من ذوي القربى إذا بدا لهم أن ثمة غاية سياسية طيبة تبرر هذا الخروج، وفرضت أجور على الإجراءات القضائية التي يتطلبها هذا العمل. كذلك جاءت إلى البابوات أموال طائلة ممن ينالون صكوك الغفران البابوية، ومن الحجاج القادمين إلى روما. وقد حسب دخل الكرسي البابوي في عام 1250 فكان أكثر من دخل رؤساء الدول الأوروبية الزمنين مجتمعين(149). ولقد تلقى البابا من إنجلترا في عام 1252 ثلاثة أمثال إيراد التاج(150). ومهما تكن ثروة الكنيسة متناسبة مع اتساع وظائفها، فقد كانت هذه الثروة أهم أسباب الإلحاد في هذا العصر. فقد أعلن آرنلد البرشيائي Arnold of Brescia أن كل قس أو راهب يموت وله ملك مآله النار لا محالة(151). وزاد البجوميل Bogoniles والولدنس Waldenses والباترين Paterines والكاثاري Cathari على ذلك فشنوا حملة شعواء على ثروة أتباع المسيح. وكان من قصائد الهجاء المتداولة في القرن الثالث عشر قصيدة عنوانها "الإنجيل حسب الماركات الفضية" مطلعها: "وقال البابوات للرومان في تلك الأيام: إذا جاء ابن الإنسان إلى مقعد جلالتنا فيكن أول ما تقولون: أيها الصديق لم جئت إلى هذا المكان؟ فإذا لم يعطكم شيئاً فألقوا به في الظلمات الخارجية"(152). وإنا لنجد في جميع آداب ذلك الوقت - في الأقاصيص الخرافية ؛ وفي الأغاني، وفي قصة الوردة Roman de La Rose وفي قصائد الشعراء الجاهلين، وأشعار شعراء الفروسية الغزليين، وفي قصائد دانتي، وفي أقوال مؤرخي الأديرة الإخباريين أنفسهم شكاوي من بخل رجال الدين أو ثرائهم(153). وقد ندد ماثيو باريس Mathew Paris أحد الرهبان الإنجليز بجشع رجال الدين الإنجليز والرومان الذين يعيشون منعمين من أملاك المسيح(154). وكتب هيوبرت ده رومان Hubert de Romans رئيس طائفة الرهبان الدمنيك عن "بائعي صكوك الغفران البابوية الذين يفسدون المحاكم الدينية بما يقدمونه من الرشا"(155). ويتحدث بترس كانتور Petrus Cantor وهو نفسه قسيس، عن القساوسة الذين يبيعون القداس أو أدعية الغروب(156)، وشنع بكت Beckte رئيس أساقفة كنتر بري بمجلس القضاء البابوي الذي يباع ويشتري، وينقل عن هنري الثاني قولا له يفخر فيه بأن جميع أعضاء مجلس الكرادلة يتقاضون منه أجوراً(157). والحق أن تهم الرشوة والفساد قد وجهت إلى كل حكومة ظهرت في التاريخ، وإن في هذه التهم لشيئاً من الحقيقة في جميع الأحوال، غير أن فيها كذلك بعض المبالغة في حوادث منشؤها أمثلة صاخبة حدثت في بعض الأوقات، ولكن هذه التهم تثير أحياناً غضباً يكاد يبلغ حد الثورة ـ،ولقد كان يسع الأهلين الذين أقاموا بدريهماتهم الكنائس لمريم العذراء أن يحتجوا وهم غضاب على جشع الكنيسة مجتمعة، وكم من مرة قتلوا قساً عنيداً(158).
واشتركت الكنيسة نفسها في نقد جشع رجال الدين، وبذلت كثيراً من الجهود للقضاء على شره رجالها وترفهم. فلقد حاول مئات من رجال الدين من القديس بطرس داميان St. Peter Damian والقديس برنار St. Bernard والقديس فرانسس، والكاردينال فترى Cardinal de Vitry إلى صغار الرهبان تقليل هذه المساوئ(159)، وإن ما كتبه هؤلاء المصلحون من رجال الكنيسة لهو أهم المصادر التي عرفنا منها ما نعرفه عن هذه المساوئ. وقام عدد من طوائف الرهبان ينادون بضرورة إصلاحها، ويضربون بأنفسهم المثل لما يجب أن يكون عليه هذا الإصلاح، وندد البابا إسكندر الثالث ومجلس لاتران الذي عقد في عام 1179 بفرض الأجور على أداء مراسم التعميد، أو مسح المشرفين على الموت، أو القيام بمراسم الزواج، ودعا جريجوري العاشر مجلس ليون الجامع سنة 1274 خاصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإصلاح الكنيسة. ولم يكن البابوات أنفسهم في ذلك العصر ممن يبدو عليهم ميل إلى الترف، وقد كسبوا مالهم بالانهماك في أداء واجباتهم المنهكة. وإن من المآسي التي تتعرض لها الروحانيات أنها تضمحل ويضعف شأنها إذا لم يعن بتنظيمها، وأنها تفسدها ما يتطلبه تنظيمها من ضرورات مادية.