قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 25

صفحة رقم : 5420

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> أوروبا تفيق من رقدتها -> بيزنطة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الخامس والعشرون: أوربا تفيق من رقدتها 1095-1300

الفصل الأول: بيزنطة

اختتم ألكسيوس الأول كمنينوس Alexius I Comnenus حكمه الطويل (1108-1118) على أثر مؤامرة من طراز المؤامرات التي اختصت بها بيزنطية، وذلك بعد أن قاد سفينة الإمبراطورية بنجاح في حروب الترك والنورمان، وفي الحرب الصليبية الأولى. وكانت ابنته الكبرى أنا كمنينا Anna Comnena مضرب المثل في العلم، كما كانت ملمة بخلاصة الفلسفة، وكانت شاعرة موهوبة، وسياسية ذات بهاء، ومؤرخة مهذبة تميل في كتابتها إلى الكذب والاختلاق. ولما خطبت إلى ابن الإمبراطور ميخائيل السابع حسبت أنها بحكم مولدها وبفضل جمالها ومواهبها الذهنية قد اختارتها الأقدار للتربع على عرش الإمبراطورية؛ ولم تكن تغفر لأخيها جون John أنه ولد وارث للعرش، فدبرت مؤامرة لاغتياله، ولكن تدبيرها افتضح وعفي عنها، وآوت إلى أحد الأديرة، وكتبت سيرة أبيها في قصة نثرية تدعى ألكسياد Alexiad. وأدهش جون كمنينوس (1118-1143) أوربا بالتمسك بالفضائل الشخصية، وبكفايته الإدارية، وبانتصاره في حروبه ضد أعدائه من الوثنيين والمسيحيين والمسلمين، وخيل إلى الناس حيناً من الدهر أنه سيعيد الدولة إلى ما كانت عليه من مجد وسعة رقعة، ولكن خدشاً من سهم مسموم في كنانته قضي على حياته وأحلامه.

وكان ابنه مانويل الأول Manuel I (1143-1180) إله الحرب مجسماً، وهب نفسه للحرب ومتعتها؛ يسير على الدوام في طليعة جنوده؛ ويرحب بالمبارزة الفردية، وقد انتصر في كل واقعة خاض غمارها إلا الأخيرة من هذه المواقع. وكان في ميدان القتال رواقياً في مبادئه، أما في قصره فكان أبيقورياً، مترفاً في طعامه ولباسه، سعيداً في عشقه الحرام لابنة أخيه. وعادت الآداب والعلوم إلى سابق ازدهارها بفضل ترفه ومناصرته؛ وكانت سيدات البلاط يشجعن المؤلفين، وقد نزلن هن أيضاً من عليائهن ليقرضن الشعر؛ وجمع زناراس Zanaras في أيامه كتابه الضخم الذي أسماه موجز التاريخ. وشاد مانويل لنفسه قصراً جديداً هو قصر البلاشرني Blachernae على شاطئ البحر عند طرف القرن الذهبي؛ وكان أودم الدويلي Odom of Deuil يظنه "أجمل بناء في العالم، فقد كانت عمده وجدرانه مغطاة إلى نصفها بالذهب، ومرصعة بالجواهر التي كانت تتلألأ حتى في ظلام الليل"(1). لقد كانت القسطنطينية في القرن الثاني عشر صورة أخرى من النهضة الإيطالية.

وتطلبت فخامة العاصمة، والحروب الكثيرة التي شنتها الإمبراطورية العجوز لتصد عنها الموت، تطلبت هذه وتلك ضرائب فادحة ألقاها المترفون على المنتجين لضرورات الحياة. وكانت النتيجة إن زاد فقر الفلاحين، واستسلموا للاسترقاق الأراضي، وأن سكن عمال المدن اليدويون في مساكن قذرة كثيرة الضجيج، يُرتكب في ظلماتها وأفذارها ما لا يحصى من الجرائم. وكانت حركات ثورية شبه شيوعية تضطرم نارها في قلوب صعاليك المدن(2)، ولكن هذه الحركات قد عفا ذكرها لكثرة ما حدث من أمثالها على مر الأيام. وكان استيلاء الصليبيين على فلسطين قد فتح ثغور الشام لتجارة اللاتين، وخسرت القسطنطينية ثلث تجارتها البحرية التي استولت عليها المدن الناهضة في إيطاليا. وكان من أعظم الآمال التي تداعب قلوب المسيحيين والمسلمين على السواء أن يستولوا على ما فيها من الكنوز التي أنفقت في جمعها ألف عام؛ وحدث أن زار المدينة أحد المسلمين الصالحين في أيام مانويل الزاهرة فدعا الله أن يمن على المسلمين بفضله وكرمه فيجعل القسطنطينية عاصمة بلاد الإسلام(3). وحتى البندقية نفسها ربيبة بيزنطية دعت فرسان أوربا لأن ينضموا إليها في انتهاب ملكة البسفور.

ولم تعش المملكة اللاتينية التي أقامتها الحملة الصليبية الرابعة في القسطنطينية إلا سبعاً وخمسين سنة (1204-1261)، ذلك أن المملكة الجديدة لم تقو على البقاء إلا ريثما كانت بيزنطية المتحفزة للثأر منها تعوزها الوحدة وقوة السلاح. أما هي فلم تكن لها أصول تقوم عليها من عنصرية الشعب أو دينه أو عاداته، وكانت تكرهها الكنيسة اليونانية التي خضعت مكرهة لروما، ويضعضعها انقسامها إلى إمارات إقطاعية تدعى كل منها لنفسها السيادة الكاملة، وتعوزها جميعاً التجربة التي لا غنى عنها لتنظيم اقتصادياتها الصناعية والتجارية، وتهاجمها الجيوش البيزنطية من خارجها، وتحرقها المؤامرات في داخلها، ولا تستطيع أن تستمد من سكانها المعادين لها ما تحتاجه من المال للدفاع العسكري عن كيانها.

لكن الغزاة الفاتحين كان مصيرهم في بلاد اليونان خيراً من مصيرهم في القسطنطينية. ذلك أن الفرنجة، والبنادقة، وغيرهم من الأشراف الطليان عجلوا بتقسيم تذلك البلاد التاريخية إلى أقسام إقطاعية، وشادوا القصور الجميلة فوق التلال العالية تشرف على ما حولها من المواقع، وشرعوا وأظهروا في حكم السكان المتراخين المجدين حكماً حازماٍ جريئاً. وحل مطارنة الكنيسة اللاتينية محل أساقفة المذهب الأرثوذكسي الذين نفوا من اللابد، وأنشأ الرهبان القادمون من بلاد الغرب على التلال أديرة كانت من روائع الفن ومستودعاً لكنوزه. وقام رجل فخور من الفرنجة فلقب نفسه "دوق أثينا"، وجاء شكسبير في غير منطق سليم وأخطأ خطأ يغتفر له، ورجع به إلى الوراء ألفي عام، وسماه ثيسيوس، ولكن الروح الحربية التي أقامت هذه الممالك الصغيرة كانت هي بعينها القاضية عليها لكثرة ما ثار بينها من المنازعات والأحقاد القاتلة؛ فقد كانت الأحزاب المتنافسة يحارب بعضها بعضاً على تلال المورة وسهول بؤوتيا حرباً طاحنة قضت عليها جميعاً؛ ولما أن غزت اليونان "الشركة القطلونية Catalian Company" الكبرى المؤلفة من جماعة المغامرين القادمين من قطلونيا (1311) ذبحت زهرة فرسان الفرنجة في المعركة التي دارت قرب نهر سفسوس Cephisus، وأضحت المنهوكة القوى ألعوبة في أيدي القراصنة الأسبان.

وبعد عامين من سقوط القسطنطينية أقام لسكاريس Theodoae Lescaris حمو ألكسيوس الثالث حكومة بيزنطية في منفاه في نيقية. ورحبت بحكمه جميع الأناضول بما فيها مدائن بورصة، وفلدلفيا، وأزمير، وإفسوس الغنية؛ وأفاءت إدارته الحازمة القديرة العادلة على هذه الأقاليم رخاء جديداً، وبعثت في الآداب اليونانية حياة جديدة، وأحيت قلوب الوطنيين اليونان آمالاً جديدة. وأنشأ ألكسيوس كمنينوس ابن مانويل في شرق تلك البلاد وفي طربزون بالذات مملكة بيزنطية أخرى، ونشأت مملكة ثالثة في إبيروس برياسة ميخائيل أنجلوس؛ وضم جون فتاتزيس John Vatatzes زوج ابنه لسكاريس وخليفته (1222-1254) جزءاً من أبيروس إلى مملكة نيقية، واسترد سالونيك من الفرنجة (1246)، وكاد يستولي على القسطنطينية نفسها لولا أنه عاد إلى آسيا الصغرى لأنه عرف أن البابا إنوسنت قد دعا المغول الزاحفين غرباً إلى الإغارة على بلاده من جهة الشرق (1248). ورفض المغول مشروع البابا محتجين بتلك الحجة الساخرة وهي أنهم لا يريدون أن يعملوا على "إثارة الأحقاد بين المسيحيين بعضهم وبعض"(4). وكان حكم الملك جون الطويل الأمد من خير الأحكام في التاريخ وأعظمها تشريفاً لصاحبها، فقد استطاع أن يخفف الضرائب، ويشجع الزراعة، وينشئ المدارس، ودور الكتب، والكنائس، والأديرة، والمستشفيات وملاجئ لكبار السن والفقراء، على الرغم من الحروب الكثيرة النفقات التي خاض غمارها ليعيد بها وحدة الإمبراطورية البيزنطية(5). وازدهرت الآداب والفنون في عهده، وأصبحت نيقية في القرن الثالث عشر من أكثر مدن العالم ثروة وأعظمها جمالاً.

وكان ابنه ثيودور لسكاريس الثاني (1254-1258) شغوفاً بالعلم معتل الجسم، عالماً ومضطرب العقل؛ مات بعد حكم قصير، واغتصب العرش بعد موته ميخائيل بليولوجوس Michael Paleologus زعيم الأشراف المتذمرين (1259-1282). وإذا جاز لنا أن نصدق المؤرخين قلنا إن ميخائيل كان متصفاً بكل نقيصة- كان "أنانياً، منافقاً... كذوباً بغريزته، مغروراً، قاسياً، شرهاً"(6). ولكنه كان واسع الحلية شديد الدهاء، دبلوماسياً، معقود لواء النصر، استطاع بمعركة واحدة أن يثبت قدمه في ابيروس، كما استطاع بحلفه مع جنوى أن يفوز بمعونتها على البنادقة والفرنجة في القسطنطينية؛ وأمر قائده استراتيجوبولس Strategopulus أن يتظاهر بالهجوم على العاصمة من ناحية الغرب. وزحف استراتيجولس على المدينة ولم يكن معه أكثر من ألف رجل، فلما وجد حاميتها خفيفة دخلها واستولى عليها دون عناء، وفر الملك بلدوين الثاني هو وحاشيته، وتبعه رجال الدين اللاتين الذين كانوا في المدينة وقد استولى عليهم رعب كانوا خليقين به. وعبر ميخائيل البسفور وهو لا يكاد يصدق النبأ وتوج إمبراطور (1261)، وهكذا بعثت الإمبراطورية البيزنطية من رقادها، وكان الناس يظنونها قد قضت نحبها، واستعادت الكنيسة اليونانية استقلالها، وظلت الدولة البيزنطية الفاسدة قائمة تصرف شئونها قرنين آخرين احتفظت فيهما بالآداب القديمة ونقلتها إلى العالم الغربي، وصدت رغم ضعفها جيوش المسلمين في تلك الفترة من الزمان.


الفصل الثاني: الأرمن (1060-1300)

وحدث حوالي عام 1080 أن غادرت أسر أرمنية كثيرة بلادها لعدم رضائها عن سيطرة السلاجقة عليها، وعبرت جبال طوروس، وأنشأت مملكة أرمينية الصغرى في قليقية. وبينما كان الأتراك، والكرد، والمغول، يحكمون أرمينية الحقيقية، احتفظت الدولة باستقلالها مدى ثلاثة قرون. واستطاع ليو الثاني Leo II في حكمه الذي دام أربعة وثلاثين عاماً (1185-1219) أن يصد هجمات سلاطين حلب ودمشق، ويستولي على إسوريا Isauria وينشئ عاصمة مملكته في سيس Sis (وهي الآن في تركيا)، ويعقد حلفاً مع الصليبيين، ويدخل الشرائع الأوربية في بلاده، ويشجع الصناعة، والزراعة، ويمنح تجار البندقية وجنوى عدداً من الامتيازات، ويقيم الملاجئ للأيتام، والمستشفيات للمرضى، والمدارس لطلاب العلم. واستمتع رعاياه في أيامه برخاء منقطع النظير، وكسب بحق اسم ليو الأفخم، وكان من أعظم ملوك العصور الوسطى حكمة وأكثرهم خيراً وصلاحاً. ووجد صهره هثوم الأول Hethumi (1226-1270) المسيحيين غير أهل لأن يعتمد عليهم، فتحالف مع المغول، وسره أن يطردوا السلاجقة من أرمينية (1240). فلما أن اعتنق المغول الإسلام حاربوا أرمينية الصغرى ودمروها تدميراً (1303 وما بعدها). وفتح المماليك المصريون أرمينية في عام 1335، وقسمت البلاد بعد الفتح بين سادة الإقطاع. وظل الأرمن من خلال هذا الاضطراب يبدون ضروباً من المهارة الفنية في العمارة، وحذقاً عظيماَ في النقش الدقيق، يستمسكون بنوع من الكثلكة المستقلة عن سائر المذاهب، استطاعوا به أن يصدروا كل المحاولات التي بذلتها القسطنطينية أو روما للسيطرة على بلادهم.


الفصل الثالث: روسيا والمغول (1054-1315)

كانت قبائل نصف همجية تسيطر في القرن الحادي عشر على بلاد روسيا الجنوبية، وهذه القبائل هي الكومان Cumans، والبلغار، والخزر Khazars، والبلوفتسي، والبتزيناك Patzinaks... أما ما بقي من روسيا الأوربية فكان مقسماً إلى أربع وستين إمارة- أهمها كيف Kiev، وفلهينيا Volhynia، ونفجورود، وسزداليا Suzdalia، واسمولنسك Smolensk، وريازان Ryazan، وشرنيجوف Chernigov، وبرياسلافل Pereyaslavl. وكانت معظم هذه الإمارات تعترف بسيادة كيف عليها؛ ولما قربت منية يارسلاف Yaroslav أمير كيف الأكبر (1054) وزع هذه الولايات بترتيب أهميتها بين أبنائه حسب سنهم؛ فأعطى أكبرهم إمارة كيف، ثم وضع نظاماً دورياً فذاً يقضي بأنه إذا مات أمير ينتقل الباقون من الأمراء كل منهم إلى الولاية التي تلي ولايته في الأهمية. وانقسمت طائفة من هذه الإمارات في القرن الثالث عشر إلى عدد من الإقطاعيات وراثية على مر الزمن، فكانت أساساً للنظام الإقطاعي المعدل الذي تعاون فيما بعد هو وغارات المغول على إبقاء بلاد الروسيا بحالها التي كانت عليها في العصور الوسطى بعد أن خرجت أوربا الغربية من هذه العصور. على أن بلاد الروسيا كان لها في هذه الفترة صناعات يدوية نشيطة، وتجارة أغنى مما أصبح لها في كثير من القرون المتأخرة.

وكانت سلطة كل أمير وراثية في العادة، ولكنها كانت تحددها جمعية شعبية تسمى الفيشي Veche ومجلس من أعيان البلاد يدعى بويارسكايا دوما Boyarskaya duma. وتركت معظم الشئون الإدارية والقانونية في أيدي رجال الدين، وكادت معرفة القراءة والكتابة تقتصر على هؤلاء هم وعدد قليل من الأعيان، والتجار، والمرابين. وقد استعان هؤلاء بالنصوص أو النماذج البيزنطية، فأنشئوا للروسيا آدابها، وقوانينها، ودينها، وفنونها. وبفضل جهودهم هذبت وحددت الحقوق أو القوانين الروسية Russkaya Pravda التي وضعت أول مرة في أيان يارسلاف، وصيغت صياغة قانونية (حول 1160). وجعلت للكنيسة الروسية الولاية النامة على شئون الدين ورجاله، وشئون الزواج والأخلاق والوصايا، وكان لها سلطان مطلق على الأرقاء وغيرهم من الموظفين الذين يعملون في أملاكها الواسعة. وارتفعت بفضل جهودها منزلة العبيد في الروسيا من الوجهة القانونية إلى حد ما، ولكن تجارة الرقيق ظلت قائمة حتى بلغت ذروتها في القرن الثاني عشر(7).

وشهد هذا القرن نفسه اضمحلال مملكة كيف وسقوطها، فقد كان للفوضى الإقطاعية السائدة في غرب أوربا ما يماثلها من الفوضى السائدة بين القبائل والأمراء؛ وشبت بين عامي 1054،1224 ثلاث وثمانون حرباً أهلية في الرسيا، وأغير عليها ست وأربعون مرة، وشنت دول روسية ست عشرة حرباً على شعوب غير روسية، وتنازع 293 أميراً عرش أربع وستين إمارة(8). وحدثت في عام 1113 اضطرابات ثورية في كيف كان سببها ما حل بالأهلين من فقر من جراء الحروب، وارتفاع سعر الفائدة على الديون، والاستغلال، والتعطل. وهاجمت الجماهير الحانقة الثائرة بيوت رجال الأعمال والمرابين ونهبتها، واحتلت دواوين الحكومة وبسطت سيادتها عليها لحظة من الزمان. واستدعت الجمعية البلدية مونوماخ Monomakh أمير برياسلافل ليكون أمير كيف الأعظم؛ وجاء الأمير وهو كاره، وقام فيها بما قام به صولون في اثنينا عام 594ق.م، فخفض سعر الفائدة على القروض، وقيد بيع المدينين المفلسين أرقاء من تلقاء أنفسهم، كما قيد سلطة أرباب الأعمال على العمال والموظفين؛ فاستطاع بفضل هذه الوسائل وأمثالها- التي لم يرض عنها الأغنياء ووصفوها بأنها بمثابة مصادرة لأموالهم، وعابها الفقراء لأنها في نضرهم غير كافية- أن ينجي المدينة من الثورة ويعيد تنظيم السلام في ربوعها(9). وبذل جهوداً كبيرة للقضاء على نزاع الأمراء وحروبهم، وتوحيد بلاد الروسيا من الوجهة السياسية. ولكن هذا العمل كان أكبر من أن يقوم به في حكمه الذي لم يدم أكثر من اثني عشر عاماً.

وعاد النزاع بيم الأمراء وبين الطبقات بعد موته إلى ما كان عليه من قبل. وفي هذه الأثناء كانت سيطرة القبائل الأجنبية سيطرة مستمرة على المجاري الدنيا لأنهار الدنيستر، والدنيبر، والدن؛ وكان نمو التجارة الإيطالية في القسطنطينية، والبحر الأسود، وموانئ الشام، قد حولا إلى خلجان البحر المتوسط كثيراً من التجارة التي كانت تنتقل قبل ذلك الوقت من بلاد الإسلام وبيزنطية إلى دويلات البحر البلطي مارة بأنهار الروسيا. ونقصت من جراء ذلك ثروة كيف وضعفت وسائلها المادية وروحها المعنوية، وأخذ جيرانها الهمج منذ عام 1096 يغيرون على ما وراءها من الأصقاع وما حولها من الضواحي، ينهبون الأديرة ويبيعون من يأسرونهم من الفلاحين بيع الرقيق. وأضحت كيف مكاناً غير أمين، فنقص سكانها، وأدى هذا إلى نقص الأيدي العاملة فيها. وهاجم جيش أندرى بجوليوبسكي Andrey Bogolyubski كيف في عام 1169، ونهبها وخربها تخريباً كاملاً، واسترق آلافاً من أهلها حتى كادت "أم المدائن الروسية" يعفو ذكرها من التاريخ مدى ثلاثة قرون. وأتم هذه الخراب الذي حل بكيف استيلاء البنادقة والفرنجة على القسطنطينية في عام 1204، وغارات المغول التي امتدت من عام 1229 إلى عام 1240.

وانتقلت زعامة الروسيا في النصف الثاني من القرن الثاني عشر من "الروس الصغار" أهل أكرنيا إلى "الروس الكبار" الأكثر منهم غلظة وأقدر منهم على تحمل المشقة، وهم أهل الإقليم المحيط بموسكو والممتد على ضفتي الفلجا الأعلى. وكانت موسكو قد أنشئت في عام 1156، ولم تكن في ذلك الوقت إلا قرية صغيرة تستخدمها سوزداليا Suzdalia (التي كانت تمتد في الجهة الشمالية من موسكو) مركزاً أمامياً على حدودها على الطريق الذي يصل مدائن فلادمير Vladimir وسزدال Suzdal بكيف. وحارب أندري بجوليوبسكي (1157-1174) ليجعل إمارة سوزداليا الجالس هو على عرشها صاحبة السيادة على الروسيا بأجمعها. ولكنه اغتيل وهو يقاتل ليخضع نفجورود لسلطانه كما اخضع كيف من قبل.

وكانت مدينة نفجورود واقعة في الشمال الغربي من الروسيا على ضفتي نهر فلخوف Volkhav قرب مخرج هذه النهر من بحيرة إلمن Ilmen. وإذ كان نهر فلخوف يصب في بحيرة لدوجا Lagoga في الشمال، وكانت أنهار أخرى تخرج من بحيرة إلمن متجهة نحو الجنوب والغرب والى البحر البلطي عن طريق بحيرة لدوجا، فإن هذه المدينة لم تكن قريبة من الحدود قرباً يهدد أمنها، ولا هي بعيدة عنها بعداً يضر بتجارتها، ولهذا نشأن فيها تجارة داخلية وخارجية نشيطة، وأضحت هي المركز الشرقي لتجارة مدن العصبة الهانسية. فكانت تتجر عن طريق نهر الدنيبر مع كيف وبيزنطية، وعن طريق نهر الفلجا مع بلاد الإسلام. وكادت تحتكر تجارة الفراء الروسية لأن سلطانها كان يمتد من بسكوف PskoV في الغرب إلى المحيط الجامد الشمالي، ويكاد يصل إلى جبال أورال في الشرق. وسيطر تجار نفجورود الأقوياء الأشراف بعد عام 1196 على الجمعية التي كانت تحكم الإمارة عن طريق أميرها المنتخب. فقد كانت هذه المدينة- الدولة جمهورية حرة تطلق على نفسها اسم "سيدي نفجورود الأكبر". فإذا لم ينل أمير لها رضاء أهلها فإن "سكانها يقدمون له واجب الاحترام ويرشدونه إلى طريق الخروج" من المدينة؛ فإذا قاومهم زجّوه في السجن؛ ولما أراد اسفياتوبولك Sviatopolk أمير كيف الأكبر أن ينصب ابنه أميراً عليهم رغم أنوفهم (1015) قال له أهل نفجورود: "ابعثه إلى هنا إن كان له رأس ليس هو في حاجة إليه"(10). ولكن الجمهورية لم تكن ديمقراطية، لأن العمال وصغار التجار لم يكن لهم صوت في حكومتها، ولم تكن في وسعهم أن يؤثروا في سياستها إلا بالعصيان المتكرر. وبلغت نفجورود ذروة مجدها في عهد الأمير ألكسندر نفكي Alexander Nevsky (1238-1263) فقد أراد البابا جريجوري التاسع أن يخرج الروسيا من المذهب المسيحي اليوناني إلى المذهب اللاتيني، ودعا إلى حرب صليبية على نفجورود؛ وظهر جيش سويدي على نهر النيفا، فهزمه ألكسندر بالقرب من مدينة ليننغراد الحالية (1240) واشتق لقبه من اسم هذا النهر. وكان نصره هذا أعظم من أن يبقيه رئيساً لجمهورية، فنفي بسببه من المدينة، فلما أن تولي الألمان الحرب الصليبية، واستولوت على بسكوف وتقدموا حتى أصبحوا على بعد سبعة عشر ميلاً من نفجورود، توسلت الجمعية المرتاعة إلى ألكسندر أن يعود، فعاد، واسترد المدينة، وهزم فرسان ليفونيا Livonine على جليد بحيرة بيبوس (1242) وقضي سنيه الأخيرة ذليلاً مهيناً يتزعم أهل بلده تحت نير المغول.

ذلك أن المغول دخلوا الروسيا بقوات لا حصر لها. جاءوا من التركستان، واخترقوا جبال القفقاس، وأبادوا عندها جيشاً من الكرج، ونهبوا بلاد القزم. واستنجد القومان، الذين ظلوا عدة قرون يحاربون كيف، بالروس وقالوا لهم: "لقد امتلكوا اليوم ديارنا، وسيملكون دياركم غداً"(11) وعرف بعض المراء الروس صدق قولهم وقادوا عدة فرق يريدون أن ينضموا بها للدفاع عن القومان. وبعث المغول رسلاً منهم يعرضون على الروس أن يحالفوهم ضد القومان، فقتل الروس الرسل ودارت معركة على شاطئ نهر كلكا Kalak بالقرب من بحر آزاق Azov، هزم فيها المغول جيش الروس والقومان، وأسروا عدداً من قواد الروس بالخيانة، وكبلوهم بالأغلال، وأقاموا فوقهم طواراً جلس عليه كبار رجال المغول ليطعموا وليمة النصر، بينا كان الأسرى الأشراف يموتون اختناقاً (1223).

ثم ارتد المغول إلى منغوليا، وصرفوا جهودهم في فتح الصين، وعاد الأمراء الروس إلى الحرب فيما بينهم، ولكن المغول عادوا في عام 1237 بقيادة باتو Batu ابن ابن أخي جنكيز خان؛ وكانت عدتهم 500.000كلهم تقريباً من الفرسان؛ وكان الطريق الذي جاءوا منه حول الطرف الشمالي من بحر الخزر، وأعملوا السيف في رقاب الضاربين على ضفتي نهر الفجا، وخربوا مدينة بلغار Bolgar عاصمتهم. وبعث باتو برسالة إلى أمير ريازان يقول فيها: "إن كنت تبغي السلم فأعطنا عشر ما عندك"، فرد عليه بقوله: "إن في وسعك أن تأخذ كل ما عندنا بعد أن نموت"(12)، واستنجدت ريازان بالإمارات الروسية، فأبت أن تنجدها؛ فقاتلت وحدها قتال الأبطال، وخسرت جميع ما تملكه، فقد نهب المغول الذين لا يغلبون جميع مدن ريازان، وحاصروا فلدمير؛ واجتاحوا سورذاليا، وبددوا جيشها، وحرقوا مسكو، وحاصروا فلدمير؛ وقص النبلاء شعرهم واختبئوا في الكنائس ولبسوا مسوح الرهبان، فلما أحرقت الكنيسة والمدينة كلها قتلوا عن آخرهم؛ ودمرت النيران سوزال، ورستوف، وعدداً كبيراً من قرى الإمارة (1238). وزحف المغول على نفجورود، فلما وقفت في سبيلهم الغابات الكثيفة، والأنهار الغزيرة المياه، خربوا شرنجوف Chernigov وبريسلافن، وبلغوا في زحفهم مدينة كيف وبعثوا برسلهم يطلبون إلى المدينة الاستسلام؛ ولما قتل أهل كيف الرسل، عبر المغول نهر الدنيبر، وتغلبوا عليها بالقوة بعد مقاومة ضعيفة، وخربوا المدينة، وقتلوا آلافاً مؤلفة من أهلها؛ ولما أن رأى جيوفني ده بيانو كربيني هذه المدينة بعد ست سنين من ذلك الوقت، وصفها بأنها بلدة تحتوي على مائتي كوخ، وأن الأرض التي حولها كانت تتناثر فيها الجماجم. ولم تكن الطبقات الوسطى والعليا تجرؤ في يوم من الأيام على أن تسلح الفلاحين أو العامة من سكان المدينة، فلما أن جاء المغول كان الأهلون ضعافاً عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم. فأخذ الفاتحون يقتلون أو يسترقونهم كما يحلو لهم.

وتقدم المغول إلى وسط أوربا يغلبون ويُغلبون، ثم عادوا أدراجهم مخترقين الروسيا يعيثون فيها فساداً، فأقاموا على أحد روافد الفلجا مدينة سراي Sarai واتخذوها عاصمة لعشائر مستقلة تعرف باسم الحشد الذهبي. وظل باتو وخلفاؤه يسيطرون على الجزء الأكبر من الروسيا مدة مائتي عام وأربعين عاماً من ذلك الوقت؛ وسمح للأمراء الروس بأن يحتفظوا بأرضهم على شرط أن يؤدوا عنها جزية سنوية لخان الحشد الذهبي، أو للخان الأعظم لقرقورم المغولية، وأن يقدموا من حين إلى حين بزيارة لهذا أو ذاك يقدمون لهما فروض الولاء، ويقطعون فيها مسافات طويلة. وكان المراء يجمعون هذا الخراج ويفرضونه على الأهلين بالمساواة القاسية، يدفع الغني منه بقدر ما يدفع الفقر، ومن عجز عن الدفع بِيْع بَيْع الرقيق. واستسلم الأمراء وخضعوا لسيادة المغول لأنها حمتهم من الثورات الاجتماعية، وانضموا إلى المغول في هجومهم على الشعوب الأخرى ومن بينها الإمارات الروسية نفسها. وتزوج كثيرون من الروس مغوليات، ولربما دخلت بعض ملامح الوجوه، والأخلاق المغولية، في السلالات الروسية(13). وأخذ بعض الروس عن المغول أساليبهم في التحدث والملبس. ولما أصبحت الروسيا تابعة لدولة أسيوية انفصلت إلى حد كبير عن الحضارة الأوربية، وتعاون استبداد الخان مع استبداد أباطرة بيزنطية على إيجاد "حاكم جميع الروس المطلق" في الدولة المسكوفية المتأخرة. وعرف زعماء المغول أنهم لا يستطيعون إخضاع الروسيا بالقوة وحدها، فاصطلحوا مع الكنيسة الروسية، وحموا لها ممتلكاتها ورجالها، وأعفوا هذه الممتلكات وأولئك الرجال من الضرائب، وجعلوا الإعدام عقاباً لمن ينتهك حرماتها. وقابلت الكنيسة هذا الجميل بمثله- أو لعلها أرغمت على رده إرغاماً- فأوصت الروس بالخضوع للسادة المغول، ودعت الله جهرة أن يهبهم السلامة(14). وأراد آلاف من الروس أن يضمنوا لأنفسهم الأمن والسلام وسط عواصف الرعب فترهبوا؛ وتوالت الهبات على المؤسسات الدينية، حتى أثرت الكنيسة الروسية ثراء فاحشاً وسط الفقر السائد في جميع البلاد. ونمت في الشعوب روح الخضوع والاستسلام، ومهدت السبيل إلى الاستبداد الذي سلط عليها قروناً طوالاً. لكن الروسيا ظلت مع ذلك هي الروسيا وإن حنت رأسها لعاصفة المغول الهوجاء، ووقفت سداً منيعاً تصد عن أوربا سيل الغزاة الأسيويين، فقد تحطمت قوة التيار البشري الجارف على صخرة الأجناس الصقلبية- الروس، والبوهيميين، والمورافيين، والبولنديين- والمجرية؛ وقضت أوربا الغربية فترة من الزمن ترتجف من الهول ولكنها لم تكد يمسها أذى. ولعل بقية أوربا استطاعت أن تسير في طريقها نحو الحرية والسياسة والعقلية، ونحو الثروة، والنعيم، والفن، لأن الروسيا ظلت مائتي عام مغلوبة، ذليلة، راكدة، فقيرة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: بحر البلقان المضطرب

يرى الناظر إلى بلاد البلقان عن بعد أنها خليط مضطرب من العواصف السياسية والدسائس، ومن الخداع الجذاب والمهارة التجارية، والحروب والاغتيال، والمذابح المدمرة. أما البلغاري، والروماني، والمجري، واليوغسلافي فيرى كل منهم أن أمته هي ثمرة ألف عام من الكفاح للظفر باستقلالها من الإمبراطوريات المحيطة بها، والاحتفاظ بثقافة فذة باهرة، والتعبير عن خصائصها القومية في البناء، واللباس، والشعر، والموسيقى والغناء دون أن يعوقها عن ذلك عائق.

وظلت بلغاريا، التي كانت من قبل دولة قوية في عهد كروم Krum وسيمون Simeon، ثمانية عاماً ومائة عام خاضعة لبيزنطية، ووجد تذمر البلغار والفلاخ Vlach أهل ولاشيا Wallachia من يعبر عنه في شخص أخوين هما يوحنا وبطرس آسن Asen كان لهما الأخوان أهل ترنوفا Trnova إلى كنيسة القديس كمتريوس وأقنعاهم بأن هذا القديس غادر مدينة سلانيك اليونانية ليتخذ ترنوفا موطناً له، وأن في وسع بلغاريا إذا انضوت تحت لوائه أن تستعيد حريتها. وأفلحا في بلوغ هدفهما، وقسما الدولة الجديدة تقسيماً ودياً بينهما، فاتخذ يوحنا ترنوفا مقراً لحكمة واتخذ بطرس برسلاف Preslav. وكان أعظم ملك من نسلهما، وفي تاريخ بلغاريا كله، هو يوحنا آسن الثاني (1218-1241)؛ ذلك أن هذا الملك لم يضم إلى ملكه تراقيا، ومقدونية، وإبيروس، وألبانيا فحسب، بل حكم هذه البلاد حكماً عادلاً أحبه من اجله رعاياه من اليونان أنفسهم. وكسب رضاء البابوات بإظهار الولاء لهم، وبإغداق الأموال على الأديرة؛ وشجع التجارة، والآداب والفنون بمناصرتها وبما سنه لها من القوانين المستنيرة، وجعل ترنوفا من أكثر مدائن أوربا جمالاً، ورفع منزلة بلغاريا في الثقافة والحضارة إلى مصاف معظم الأمم الراقية في تلك الأيام. لكن خلفاءه على العرش لم يرثوا منه حكمته؛ وأشاعت غزوات المغول الاضطراب في الدولة وأضعفتها (1292-1295)، وأدى ذلك إلى خضوعها في القرن الرابع عشر إلى الصرب أولاً ثم إلى الأتراك فيما بعد.

وأفلح الژوپان Zhupan (الزعيم) استيفن نمانيا Stephen Nemanga في عام 1159 في إخضاع العشائر والأقاليم الصربية المختلفة لحكمه، فكان هو المؤسس الحقيقي لمملكة الصرب، التي ظلت خاضعة لحكم أسرته مائتي عام. وكان ابنه سافا Sava يؤدي للأمة أعمال كبير الأساقفة والحاكم السياسي في وقت واحد، فأصبح فيما بعد أعظم قديسيها منزلة في نفوس الأهلين.وكانت البلاد لا تزال فقيرة، حتى كانت القصور الملكية نفسها تقام من الخشب. وكانت لها فرصة بحرية مزدهرة هي مدينة راجوسا Ragusa (دبرفنيك Dubrovnik الحالية)، ولكن هذه المدينة كانت دولة مستقلة مفردة. أصبحت في عام 1221 خاضعة لحماية البندقية. واتخذ الفن الصربي في خلال هذين القرنين طرازاً خاصاً به وبلغ درجة عظيمة من الإتقان في هذا الطراز الخاص، نتبينهما في الصور والنقوش المرسومة على جدران كنيسة القديس بنتيليمون Panteleimon ذات الدير في نريز Nerez (حوالي عام 1164)، فهي تكشف عن واقعية مسرحية لم نعتدها في التصوير البيزنطي، وتسبق بقرن من الزمان بعض أساليب التصوير التي كانت في ظن الناس من ابتكار دشيو Duccio وجيتو Giotto. وتظهر في هذه الصور الجدارية وغيرها مما رسم في القرنين الثاني عشر والثالث عشر صور للملوك تنم عن فردية لا تضارعها فيها أية صورة بيزنطية قبل ذلك العهد(15).

وبينما كانت بلاد الصرب في العصور الوسطى تسير نحو حضارة راقية، حطمت الاضطهادات والمروق من الدين وحدة الأمة، ولربما كان في وسعها لولا هذا أن توقف زحف الأتراك. كذلك أضعفت المنازعات الدينية البوسنة Bosnia بعد أن بلغت ذروة مجدها في العصور الوسطى تحت حكم البان Ban (أي الملك) كولين Kulin (1180-1204)، وما زالت كذلك حتى خضعت إلى المجر عام 1254.

وعم الاضطراب المجر بعد موت استيفن الأول (1038) من جراء الفتن التي أثارها المجر الوثنيون على الملوك الكاثوليك، وما بذله هنري الثالث من محاولات لضم المجر إلى ألمانيا. وهزم أندرو الأول Andrew I هنري، ولما جدد الإمبراطور هنري الرابع هذه المحاولة فوت الملك جيزا الأول Giza I عليه غرضه بأن أعطى هنغاريا إلى جريجوري السابع، ثم استردها منه إقطاعية بابوية (1076). وأدى التنافس على العرش في القرن الثاني عشر إلى تقوية الإقطاع في البلاد، فقد منح المتنافسون النبلاء إقطاعيات واسعة نظير تأييدهم لهم، حتى بلغ هؤلاء النبلاء من القوة في عام 1222 ما مكنهم من انتزع "مرسوم ذهبي Golden Bull" شبيه شبهاً عجيباً بالعهد الأعظم (ماجنا كارتا) الذي وقعه جون ملك إنجلترا في عام 1215. وقد أنكر هذا المرسوم وراثة الإقطاعيات، ولكنه وعد أن يدعى مجلس كل عام، وألا يسجن أي نبيل إلا بعد أن يحاكم أمام كونت من القصر الإمبراطوري، وألا تفرض ضريبة ما على ضياع الأشراف أو رجال الدين. وظل هذا المرسوم الملكي المعروف باسم المرسوم الذهبي نسبة إلى غلافه أو خاتمه صك الحرية لأشراف المجر، وأضعف سلطة الملكية المجرية وقت أن كان المغول يستعدون لإيقاع أوربا في أزمة من أشد الأزمات في تاريخها كله.

وفي وسعنا أن ندرك ما بلغه المغول من سعة الملك وقوة السلطان إذا ذكرنا أن اوگداي Ogadi الخان الأعظم سير في عام 1235 ثلاثة جيوش للزحف على كوريا والصين وأوربا. وعبر الجيش الثالث بقيادة باتو نهر الفلجا في عام 1237، وكانت عدته ثلاثمائة ألف مقاتل. ولم يكن هذا الجيش حشداً غير نظامي، بل كان قوة جيدة التدريب، حسنة القيادة مجهزة بآلات قوية للحصار وبأسلحة نارية جديدة عرف المغول طريقة استعمالها من الصينيين. وخرب هؤلاء المحاربون في مدى ثلاث سنين الروسيا الجنوبية كلها تقريباً. وكأنما كان باتو غير قادر على أن يفكر في الهزيمة فقسم هذا الجيش قسمين، زحف أحدهما على بولندة، واستولى على كركوفيا Cracow ولبلين Lubiln وعبر نهر الأودر وهزم الألمان في ليجنتز Leignitz (1241)؛ وتسلق الجيش الثاني بقيادة باتو نفسه جبال الكربات، وهاجم المجر، والتقى بقوات هنغاريا والنمسا المتحدة عند موهي Mohi وأوقع بها هزيمة الاعتدال فيما يذكرون من الأرقام- عدد القتلى من المسيحيين بمائة ألف، وقدر الإمبراطور فردريك الثاني خسائر المجريين بما "لا يكاد يقل عن جميع القوة الحربية للملكة"(16). ومن سخريات التاريخ أن الغالبين والمغلوبين في هذه البلاد كانوا من دم واحد، فقد كان للقتلى من أشراف المجر أبناء المجر المغول الذين اجتاحوا البلاد قبل ثلاثة قرون من ذلك الوقت. واستولى باتو على پست Pesth وإزترجوم Eztergom (1241)؛ وعبرت قوة من المغول نهر الدانوب، وأخذت تطارد الملك المجري بيلا الرابع Bela IV حتى وصلت إلى شاطئ البحر الأدرياوي، وكانت أينما حلت تنزل الخراب والدمار. وأخذ فردريك الثاني يهيب بأوربا أن تتحد لتستطيع الوقوف في وجه تيار الغزو الأسيوي الجارف، ولكن نداءه كان صرخة في واد. وحاول إنوسنت الثالث أن يدعو المغول إلى المسيحية والى السلام، ولكن دعوته هو الآخر ذهبت أدراج الرياح؛ وكان الذي أنجى المسيحية وأوربا هو موت أوجداي وعودة باتو إلى قرةقورم للاشتراك في انتخاب خان جديد. ولم يحدث في التاريخ كله تخريب أشمل من هذا التخريب أو أوسع فقد امتد من المحيط الهادي إلى البحرين الأدرياوي والبلطي.

وعاد بيلا الرابع إلى پست المخربة وعمرها بالألمان، ونقل عاصمة ملكه إلى بودا Buda على الضفة الأخرى من الدانوب (1247)؛ وأعاد على مهل اقتصاديات بلاده المحطمة. وقامت طبقة جديدة من الأشراف فأعادت تنظيم المراعي والضياع الكبرى التي كان الرعاة الفلاحون الأذلاء ينتجون منها الطعام للأمة. وهبط عمال المناجم الألمان من أرزجيرج واستخرجوا المعادن الخام الغنية من ترنسلفانيا Transylvania. وكانت حياة الأهلين وعاداتهم لا تزال خشنة غليظة، وأدوات العمل بدائية، والبيوت أكواخاً من الأغصان والطين. وقام الرجال في هذه البيئة التي تضطرب فيها الأجناس واللغات، وينقسم فيها الأهلون إلى طبقات ومذاهب دينية متنابذة متعادية، قام الرجال في هذه البيئة يعملون لتحصيل أرزاقهم ومكاسبهم، ووصل أسباب الاقتصاد الذي هو منبت الحضارة.

الفصل الخامس: دول التخوم

كما أن كل نقطة في الكون اللانهائي يمكن أن تعد مركزاً له، كذلك نرى كل أمة وكل نفس في موكب الحضارات والدول تفسر مسرحية التاريخ والحياة تفسيراً يدور حول صفاتها هي والدور الذي قامت به فيه. وكان في شمال جبال البلقان خليط آخر من الشعوب- من البوهيميين، والبولنديين، واللتوانيين، والليفونيين، والفنلنديين، كل واحد منها يجعل تاريخه القومي المحور الذي حوله العالم كله مستمسكاً في ذلك بالعزة القومية التي تبعث الحياة في نفوس الشعوب.

وكان الفنلنديون الذين تربطهم بالمجر والصرب صلات دم بعيدة، يعيشون في بداية العصور الوسطى على ضفتي نهر الفلجا الأعلى والأوكا Oka. وقبل أن يستهل القرن الثامن هاجر أولئك الأقوام إلى الأراضي الجدباء المسرحية المناظر المعروفة عند غيرهم باسم فنلندة وعندهم هم باسم السؤمي Suomi أو أرض المناقع، ولما أخذوا يغيرون على سواحل اسكنديناوة اضطر إرك التاسع Eric Ix ملك السويد إلى فتح بلادهم في عام 1157. وترك إرك أسقفاً عندهم في أبسالا لينشر بينهم الحضارة، فقتل الفنلنديون الأسقف هنري ثم اتخذوه بعد قتله قديسهم الشفيع، وأخذوا في بسالة هادئة يزيلون ويجففون المناقع، ويصرفون مياه "العشرة آلاف بحيرة"(17) ويجمعون الفراء، ويجاهدون ضد الثلوج.

وأخذت قبائل قريبة في أصولها من الفنلنديين تعمل بالفأس والمجرف جنوب خليج فنلندة، وهي قبائل البروسيين Borussians أو Prussians، والإسث Esths (الإستونيين)، واللف، Livs (اللفونيين)، واللتفا Litva (اللثوانيين) واللت Letts واللتفيين. فكانوا يصيدون الحيوان من الغابات، والسمك من مياه البحار والأنهار، ويربون النحل، ويفلحون الأرض، ويتركون وراءهم تراثاً من الآداب والفنون لمن هم أقل منهم قوة من خلفائهم الذين كانوا هم يكدحون من أجلهم. وظلت هذه القبائل كلها ما عدا الأستونيين وثنية حتى القرن الثاني عشر حين نشر الألمان بينهم المسيحية والحضارة بالنار والسيف. ولما وجد اللفونيون أن الألمان يتخذون الدين المسيحي وسيلة للتسلل إلى بلادهم والسيطرة عليهم قتلوا المبشرين، ونزلوا إلى نهر الدفينا Dvina ليتطهروا فيه من دنس التعمد، وعادوا إلى آلهتهم القدامى. ودعا إنوسنت الثالث إلى شن حرب صليبية عليهم، ودخل الأسقف ألبرت Albert نهر الدفينا لحكم الألمان 1201. وأتمت طائفتان من الفرسان الدينيين- العسكريين طائفتا الفرسان اللفونيين، والفرسان التيوتون إخضاع دول البحر البلطي لألمانيا، وامتلكوا فيها أرضين واسعة، ونشروا الدين المسيحي بين أهلها، واتخذوهم رقيق أرض(18). وقويت قلوب الفرسان التيوتون بهذا النجاح، فتقدموا نحو الروسيا يرجون أن يخضعوا في القليل ولاياتها الغربية لألمانيا وللمسيحية اللاتينية، ولكنهم هزموا عند بحيرة بيبوس (1242) في واقعة من مواقع التاريخ الحاسمة التي لا يحصى لها عدد.

وكان بحر آخر من الصقالية يموج حول هذه الدول البلطية. وكان منهم طائفة تسمى البولانيين أي "شعب الحقول"- وكانت تفلح أودية أنهار الوارث Warthe والأودر Oder، وطائفة أخرى تسمى المازور Mazurs، تسكن على ضفتي نهر الفستيولا Vistula، وطائفة ثالثة تدعى البومرزاني Pomerzani (أي "بجانب البحر") هي التي اشتق منها اسم بمرانيا Pomerania. وأراد الأمير البولندي ميسزكو الأول Mieszko I أن يجنب بلاده فتح الألمان، فوضع بولندة تحت حماية البابابوات، وأدارت بولندة من ذلك الحين ظهرها نحو صقالبة الشرق نصف البيزنطيين، وألقت بنفسها في أحضان أوربا الغربية والمسيحية الرومانية. وفتح بلسلاف الأول Boleslav I، (992-1025) ابن ميسزكو بومرانيا، وضم إلى بلاده برسلو Breslau وكركوفيا Cracow ونصب نفسه أو ل ملك على بولندة. وقسم بلسلاف الثالث Boleslav III (1102-1139) المملكة بين أبنائه الأربعة؛ وضعفت الملكية بعد هذا التقسيم، وقسم الأشراف الأرض إمارات إقطاعية، وأخذت بولندة تنقلب بين الحرية تارة والخضوع لألمانيا وبوهيميا تارة أخرى. واندفع عليها تيار المغول الجارف في عام 1241، واستولوا على كركوفيا عاصمة البلاد، ودكوها دكاً. ولما انحسر تيار الأسيويين طغت في أثره موجة من المهاجرين الألمان على بولندة الغربية، وخلقت فيها مزيجاً قوياً من لغة الألمان وشرائعهم، ودمائهم، ورحب بلسلاف الخامس في هذا الوقت عينه (1246) باليهود الفارين من المذابح في ألمانيا، وشجعهم على تنمية الأعمال التجارية والمالية، واختير ونسسلاس الثاني Wenceslas II ملك بوهيميا ملكاً على بولندة في عام 1310، وضم الأمتين تحت تاج واحد.

واستقر الصقالبة في بوهيميا ومورافيا في القرنين الخامس والسادس؛ وقام زعيم صلقبي يدعى سامو في عام 623 وحرر بوهيميا من حكم الآفار وأسس فيها دزلة ملكية مطلقة ماتت بموته في عام 658. وغزا شارلمان أرضها في عام 805، وظلت بوهيميا ومورافيا جزأين من الدولة الكارولنجية زمناً لا نعرف مداه. حتى إذا كان عام 894 أخضعت أسرة بريميزل Premysl كلا الإقليميين لسلطانها الدائم، ولكن المجر حكموا مورافيا نصف قرن من الزمان (907-957). وفي عام 928 أخضع هنري الأول بوهيميا للألمان. وعم الرخاء بوهيميا في عهد الدوق ونسسلاس الأول Wencaslas I، (928-935) على الرغم من خضوعها للألمان هذا الخضوع المتقطع. وكانت أم هذا الدوق القديسة لدملا St. Ludmilla قد ربته تربية مسيحية خالصة، وظل بعد أن تولى الحكم مسيحياً مخلصاً يطعم الفقراء ويكسوهم، ويحمي الأرامل والأيتام، ويستضيف الغرباء، ويحرر الأرقاء من ماله. وحاول أخوه أن يغتاله لأنه تعوزه الرذائل التي لابد من وجودها في الملوك، فضربه ونسسلاس بيده وعفا عنه، ولكن غيره من المتآمرين اغتالوا الملك وهو في طريقه لحضور القداس في اليوم الخامس والعشرين من شهر سبتمبر عام 935؛ ولا تزال أهل بوهيميا يحتفلون بهذا اليوم ويسمونه عيد ونسسلال قديس بوهيميا وحارسها.

وخلفه أدواق ذوو نزعة حربية، وزحف بلسلاف الأول Boleslav I (939-967) والثاني (967-999)، وبراتسلاف الأول Bratislav I (1037-1055) من عاصمتهم ذات الموقع الحربي المنيع وفتحوا مورافيا، وسيليزيا، وبولندة؛ ولكن هنري الثالث أرغم براتسلاف على الجلاء عن بولندة والعودة إلى أداء الجزية لألمانيا. ثم حرر أتوكار الأول Attokar I 1197-1230 بوهيميا وصار أول ملوكها، وأخضع أتوكار الثاني النمسا، واستيريا Styria وكارنثيا؛ وكان أرتوكا هذا شديد الرغبة في تنمية الصناعة وإيجاد طبقة وسطى في البلاد يقاوم بها النبلاء المتمردين، فشجع الألمان على أن يهاجروا إلى بلاده حتى أصبح العنصر الألماني هو الكثرة الغالبية من سكان مدن بوهيميا ومورافيا كلها تقريباً(19)، وأصبحت مناجم الفضة في كتناهورا Kutna Hora أساس رخاء بوهيميا ومطمع غزاتها الكثيرين. وأعلن الألمان الحرب على أتوكار في عام 1274، وأبى أشراف بلاده أن يساعدوه على الغزاة، فتخلى لهم عن فتوحه، واحتفظ بعرشه بوصفه أميراً إقطاعياً خاضعاً لألمانيا. ولما أن تدخل الإمبراطور ردولف هبسبرج Rudolf of Hapsburg في شئون بوهيميا الداخلية عبأ أتوكار جيشاً جديداً حارب به الألمان عند درنكروت Durnkrut؛ وتخلى عنه النبلاء للمرة الثانية، فألقى بنفسه في وطيس المعمعة بين صفوف الأعداء المتراصة، ومات وهو يقاتل قتال المستيئس.

وصالح ونسسلاس الثاني (1287-1305) الألمان على أن يعود أميراً إقطاعياً خاضعاً لهم، وبذل جهوداً جبارة في إعادة النظام والرخاء إلى البلاد. وانتهى بموته عهد الأسرة البريمسلية بعد أن حكمت البلاد خمسمائة عام. كان البوهيميون، والمورافيون، والبولنديون هم كل من بقي من المهاجرين الصقالبة الذين كانوا يملئون من قبل ألمانيا الشرقية إلى حدود نهر الإلب، كانوا في الوقت الذي نتحدث عنه خاضعين لسلطان الألمان.

الفصل السادس: ألمانيا

كان الذين كسبوا المعركة في النزاع التاريخي القائم حول تولي غير رجال الدين المناصب الكهنوتية هم أشراف ألمانيا- الأدواق واللوردة، والأساقفة، ورؤساء الأديرة. وقد سيطر هؤلاء على الملكية الضعيفة بعد هزيمة هنري الرابع؛ وأقاموا في البلاد نظاماً إقطاعياً يعمل على تفكيكها وإضعاف سلطان حكومتها المركزية، وأدى هذا النظام إلى حرمان ألمانيا في القرن الثالث عشر من زعامة أوربا. وخلع هنري الخامس (1106-1126) أباه عن العرش، وواصل كفاح أبيه ضد البارونات والبابوات. ولما رفض بسكال الثاني Paschael II أن يتوجه إمبراطوراً إلا إذا نزل عن حقه في تولية غير رجال الدين المناصب الكهنوتية، زج بالبابا والكرادلة في السجن. ولما مات ألغي الأشراف نظام الملكية الوراثية، وقضوا على الأسرة الفرنكونية Franconian، وولوا لوثير الثالث Lothair III السكسوني ملكاً على البلاد، وبعد ثلاثة عشر عاماً من ذلك الوقت أسس كنراد الثالث Conrad III أسرة هوهنستاوفن Hohenstaufen السوابية أقوى أسرة ملكية في تاريخ ألمانيا كله.

ولم يوافق الدوق هنري البافاري على من وقع عليه اختيار الناخبين، وأيده في هذا الرفض عمه ولف Welf أو جلف Guelf؛ وشب النزاع من هذا الوقت بين جلف وغبلين Ghibelline وهو النزاع الذي اتخذ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر صوراً كثيرة، وكانت له نتائج متعددة.

وحاصر جيش آل هوهنستاوفن العصاة البافاريين في بلده ويزبرج Weisberg وقلعتها. وتقول إحدى الروايات القديمة إن المدينتين المتنازعتين "هي ولف!" ز"هي ويبلنجّ" سجلتا اسم الطائفتين المقتتلتين، وتقول القصص الظريفة إنه لما قبل السوابيون المنتصرون استسلام المدينة على أن يؤمن النساء وحدهن من القتل، وان يسمح لهن بمغادرتها ومعهن كل ما يستطعن حمله، خرجت من القتل، وأن يسمح لهن بمغادرتها وهن يحملن أزواجهن على ظهورهن(20). وعقدت هدنة في عام 1142 حين خرج كنراد للحرب الصليبية، ولكن كنراد أخفق في غرضه وعاد يجلله العار. وخيل إلى الناس أن بيت هوهنستاوفن قد تلطخ اسمه بالعار حين جلس على العرش أعظم رجل من رجاله.

وكان فريدريخ friedrich (سيد السلام) أو فردريك الأول (1152-1190) في سن الثلاثين حين اختير ملكاً. ولم يكن رجلاً مهيب الطلعة- فقد كان قصير القامة، أبيض البشرة، أصفر الشعر، ذا لحية حمراء أكسبته في إيطاليا اسم بربروسه Barbarossa، ولكنه كان ذا عقل صاف وعزيمة ماضية؛ قضي حياته في العمل لخير الدولة، وأعاد ألمانيا إلى زعامة العالم المسيحي وإن كان قد مني بكثير من الهزائم. وإذ كان يجري في عروقه دم آل هوهنستاوفن وآل ولف جميعاً، فقد نادى بسلم في البلاد Landfried، وصالح أعداءه، وهدأ أصدقاءه، وقضى بشدة على المنازعات، والاضطرابات، والجرائم. ويصفه معاصروه بدماثة الخلق، وباستعداده الدائم ابتسامة رقيقة جذابة، وإن كان "شديد الوطأة على الأشرار" حتى كانت قسوة قوانينه الجنائية، وهمجيتها عاملاً في تقدم الحضارة في ألمانيا. وكان الناس يثنون بحق على حياته الخاصة لما عرف عنه من تمسكه بأهداب العفة والفضيلة، وإن كان قد طلق زوجته الأولى لقربها إليه من ناحية العصب، وتزوج بوريثة كونت برغندية فنال بهذا الزواج مع عروسة مملكة.

وإذ كان يتوق لأن يتوجه البابا إمبراطوراً، فقد وعد يوجنيوس الثالث Eugenius III أن يساعده على الرومان المتمردين، والنورمان المشاكسين، إذا حقق البابا رغبته، وقدم الملك الشاب الفخور إلى نيبي Nepi القريبة من روما حيث التقى بهدريان الرابع البابا الجديد، وأغفل الشعيرة المعتادة القاضية بأن يمسك الحاكم الزمني زمام جواد البابا وركابه ويساعده على النزول. وبذلك نزل هدريان إلى الأرض من غير معونة، وأبى على فردريك "قبلة السلام" وتاج الإمبراطورية إلا إذا أدى فردريك هذه الشعيرة. وظل أعوان البابا والملك يومين كاملين يتناقشون في هذه المسألة ويجعلون تاج الإمبراطورية معلقاً على أداء المراسم الشكلية، حتى خضع فردريك آخر الأمر، فانسحب البابا وعاد إلى المدينة ممتطياً صهوة جواده، وأمسك فردريك بزمام فرس البابا وركابه، وظل من ذلك الحين يتحدث عن الإمبراطورية المقدسة، يرجو من وراء هذا أن يعترف العالم بأن الإمبراطور هو البابا النائبان عن الله في الأرض.

وجعله لقبه الإمبراطوري ملكاً على لمبارديا أيضاً؛ ولم يكن حاكم ألماني بعد هنري الرابع يستمسك بحرفية هذا اللقب، ولكن فردريك سرعان ما بعث إلى كل بلد من بلدان إيطاليا الشمالية حاكماً يصرف أمورها باسمه. وقبلت بعض المدن أولئك السادة الأجانب ولم يقبلهم بعضها. وإذ كان فردريك يحب النظام أكثر من الحرية، ولعله أيضاً كان يرغب في السيطرة على المنافذ الإيطالية لتجارة ألمانيا مع بلاد الشرق، فقد خرج في عام 1158 ليخضع البلاد الثائرة التي تعشق الحرية أكثر من النظام. واستدعى إلى بلاطه في رنكاجليا Roncaglia فقهاء القانون الذين كانوا يحيون الشريعة الرومانية في بولونيا؛ وسره أن يعرف منهم أن هذه الشريعة تجعل الإمبراطور صاحب السلطة المطلقة على جميع أجزاء الإمبراطورية والمالك لكل ما فيها، وتخوله حق تعديل الحقوق الشخصية أو إلغائها إذا رأى في تعديلها أو إلغائها مصلحة للدولة. ورفض البابا اسكندر الثالث هذه الادعاءات لخوفه منها على حقوق البابوية الزمنية، وأيد هذه الرفض بإعلانه أن هذه الحقوق هبات من بيبين وشارلمان؛ ولما أصر فردريك على الاستمساك بمطالبه حرمه البابا من الكنيسة (1160). وانتقلت وقتئذ صيحات مدينتي جلف وغبلين لتمثل أولاهما مؤيدي البابا والثانية مؤيدي الإمبراطور. وحاصر فردريك مدينة ميلان العنيدة عامين كاملين، حتى إذا استولى عليها آخر الأمر حرقها عن آخرها (1162). وأغضبت هذه القسوة مدائن فيرونا، وفيسنزا، وبدوا، وترفيزو، وفرارا، ومانتوا، وبرشيا، وبرجامو، وكرمونا، وبياسنزا، وبارما، ومودينا، وبولونيا، وميلان، فعقدت فيما بينهما حلف جامعة المدن اللمباردية (1167) وهزمت جيوش تلك الجامعة جيش فردريك الألماني عند لنيانو في عام 1176، وأرغمته على أن يعقد هدنة تدوم ست سنين. واصطلح الإمبراطور والبابا بعد عام من ذلك الوقت، ووقع فردريك معاهدة صلح في كنستانس (1183) أعاد بها الحكم الذاتي إلى المدن الإيطالية. وأقرت هذه المدن في نظير هذا بالسيادة الاسمية للإمبراطورية عليها، ووافقت كرماً منها وشهامة على أن تمد فردريك وحاشيته بما يلزمه من الزاد في زيارته للمبارديا. وهكذا هزم فردريك في إيطاليا ولكنه انتصر في جميع البلاد الأخرى، وأفلح في تثبيت دعائم السلطة الإمبراطورية على بولندة، وبوهيميا، وهنغاريا. وفرض من جديد على رجال الدين الألمان، بالفعل إن لم يكن بالقول، جميع حقوق تولي المناصب التي كان يطالب بها هنري الرابع، وكسب معونة هؤلاء الرجال حتى على البابوات أنفسهم(21). ونعمت ألمانيا بما ناله من مجد، وسرها أن تستدعيه من إيطاليا، واغتبطت بمواكب الفرسان التي كانت تسير في حفلات تتويجه، وزيجاته، وأعياده. وخرج الإمبراطور الشيخ في عام 1189 على رأس مائة ألف من الرجال إلى الحرب الصليبية الثالثة، ولعله كان يرغب في أن يؤلف من الشرق والغرب إمبراطورية رومانية تعود إلى رقعتها القديمة. ومات الإمبراطور غريقاً في قليقية بعد عام من ذلك الوقت.

وكان فردريك كما كان شارلمان مشبعاً إلى أقصى حد بالتقاليد الرومانية، وقد أنهك قواه بما بذله من الجهد لإحياء ماضيها الميت. وحزن أنصار الملكية المطلقة المعجبون بها لما مني به من الهزائم، وعدوها انتصاراً للفوضى، أما عشاق الديمقراطية فيسرون بها ويرونها مراحل في طريق الحرية. وإذا ما نظرنا إلى أعماله بعينه هو رأيناه على حق فيما فعل؛ فقد كانت ألمانيا وإيطاليا تسيران مسرعتين في طريق الفساد واختلال النظام، ولم تكن سلطة غير سلطة الإمبراطورية القوية تستطيع القضاء على المنازعات والاضطرابات الإقطاعية والحروب القاتمة بين المدن المختلفة، وكان لابد أن يستتب النظام ليمهد السبيل إلى نشأة الحرية القومية. ونسجت حول فردريك الأول في عهود الضعف الألمانية المقبلة أقاصيص دالة على حب الشعب له، وخلع على بربروسه بعد حين من الصفات ما كان القرن الثالث عشر يتصور وجوده في حفيده: فقيل إنه لم يمت بحق بل كل ما في الأمر أنه كان نائماً في جبال كيفهوزر Kyffhauser بثورنجيا Thuringia، وكان في مقدور الناس أن يروا لحيته الطويلة تنمو مخترقة ما يغطيه من الرخام؛ وسوف يستيقظ من نومه في يوم من الأيام، وينفض الثرى عن كتفيه، ويعيد إلى ألمانيا النظام والقوة. ولما أنشأ بسمارك دولة ألمانيا الموحدة قال هذا الشعب الفخور إنه هو بربروسه نهض ظافراً من قبره(22). وكاد هنري السادس (1190-1197) يحقق حلم أبيه، فقد انتزع في عام 1194 جنوبي إيطاليا وصقلية من النورمان بمعونة جنوى وبيزا، وخضعت له إيطاليا كلها عدا الولايات البابوية. وضمت بروفانس، ودوفينيه Cauphine، وبرغندية؛ وألساس، ولورين، وسويسرا، وهولندة، وألمانيا، والنمسا، وبوهيميا، ومورافيا، وبولندة ضمت هذه كلها إلى أملاك هنري، واعترفت إنجلترا بسيادته عليها، وأدى له المسلمون الموحدون الجزية، وطلبت إنطاكية، وقليقية، وقبرص أن تضم إلى الإمبراطورية، وكان هنري ينظر بنهم إلى فرنسا وأسبانيا، وقد وضع الخطط للاستيلاء على بيزنطية، وكانت الفرق الأولى من جيشه قد أبحرت إلى بلاد الشرق حين أصيب بزحار البطن وقضي نحبه في صقلية وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.

ولم يكن هنري قد حسب حساب مناخ هذه البلاد التي فتحها وأعد العدة لاتقاء ثأرها منه. ولم يكن له إلا ولد واحد هو طفل في الثالثة من عمره، وأعقبت موته فترة من الفوضى دامت نحو عشر سنين أخذ المطالبون بالعرش فيها يقتتلون فيما بينهم. ولما أن بلغ فردريك الثاني سن الرشد تجددت الحرب بين الإمبراطورية والبابوية، تجددت في إيطاليا على يد ملك ألماني- نورماني أصبح إيطاليا، سنتحدث عنه فيما بعد حين نتكلم على إيطاليا. وأعقبت موت فردريك الثاني (1250) نحو ثلاثين عاماً أخرى من الفوضى يسميها شلر: "العهد المرعب الذي لا سادة فيه"، باع فيه الأمراء الناخبون عرش ألمانيا لكل مستضعف يتركهم أحراراً في أن يوطدوا أركان سلطانهم المستقبل. وتكشف عهد الفوضى عن نهاية أسرة هوهنستاوفن، وأنشأ رودلف الهبسبرجي في عام 1273 أسرة جديدة واتخذ فينا عاصمة له. وأراد رودلف أن يكسب تاج الإمبراطورية، فوقع في عام 1279 إعلاناً يعترف فيه بخضوع السلطة الملكية البابوية خضوعاً تاماً؛ ويتخلى فيه عن جميع مطالبه في إيطاليا الجنوبية وصقلية. ولم يصبح رودلف إمبراطوراً قط، ولكنه استطاع بشجاعته، وإخلاصه، ونشاطه أن يعيد النظام والرخاء إلى ألمانيا، وأن ينشئ أسرة قوية ظلت تحكم النمسا والمجر حتى عام 1918.

وبذل هنري السابع (1308-1313) آخر الجهود لتوحيد ـألمانيا وإيطاليا فعبر جبال الألب (1310) بمعونة ضئيلة من الأشراف الألمان وقوة صغيرة من فرسان الوالون Walloon ، ورحبت به كثير من مدن لمبارديا، وكانت قد سئمت حرب الطبقات ونزاع المدن بعضها مع بعض، وتاقت نفسها إلى التحرر من سلطان الكنيسة عليها. ورحب دانتي بالغزاة برسالة عن الملكية، أعلن فيها بشجاعة تحرر السلطة الزمنية من السلطة الروحية، وطلب فيها إلى هنري أن ينقذ إيطاليا من سيطرة البابوية، ولكن الجلف من أهل فلورنس أصبحت لهم الغلبة في البلاد، وسحبت المدن المشاكسة تأييدها، ومات هنري، وهو محوط بالأعداء، بحمى الملاريا وهي الداء الذي تجزي به إيطاليا بلين الفنية والفنية عاشقيها المملقين.

وصدت ألمانيا في الجنوب حواجز من طبيعة الأرض، واختلاف العنصر، واللعنة، فوجدت لها مخرجاً وتعويضاً في جهة الشرق، فاستردت الهجرات والفتوح والاستعمار الألماني والهولندي ثلاثة أخماس ألمانيا من الصقالبة؛ وانتشر الألمان الكثير والنسل على ضفتي الدانوب ووصلوا هنغاريا ورومانيا؛ وأقام التجار الألمان أسواقاً وثغوراً في فرانكفورت على الأودر، وفي برسلاو، وبراج، ودانترج وريجا ودوربات Dorpt وريفال Reval، ومراكز تجارية في كل مكان في الرقعة الممتدة من بحر الشمال والبحر البلطي إلى جبال الألب والبحر الأسود. لقد كانت فتوحهم وحشية، ولكن النتائج أدت إلى رقي لا يستطاع تقديره في حياة سكان الحدود الاقتصادية والثقافية.

وكان انهماك الأباطرة في هذه الفترة السالفة الذكر في شئون إيطاليا، وحاجتهم المتكررة إلى ضمان تأييد الأشراف والفرسان، أو مكافأتهم على هذا التأييد بهبات الأرض أو السلطان، وما طرأ على سلطة الملوك الألمان من الضعف بسبب مقاومة البابا لهم وخروج اللمبارد عليهم، كان هذا كله قد ترك الأشراف أحراراً يتملكون الأرض في الريف، وينزلون الفلاحين منزلة الرقيق؛ فعلاً بذلك شأن الإقطاع في القرن الثالث عشر في ألمانيا بينما كان سلطان الملوك يقضي عليه في فرنسا. وأصبح الأساقفة الذين قربهم الأباطرة الأولون ليكونوا في ظهر الأشراف، أصبح هؤلاء طبقة ثانية من النبلاء، لا يقلون ثروة وقوة واستقلالاً عن الأشراف الدنيويين. ولم يحل عام 1263 حتى عهد الإقطاعيون إلى سبعة من الأشراف- هم كبراء أساقفة مينز وتريير، وكولوني، ودوقا سكسونيا وبارفيا، وكونت بلاتين ومارجريف برندنبرج حق اختيار الملك. وحد هؤلاء الناخبون من سلطان الحاكم، واغتصبوا الامتيازات الملكية، واستولوا على أراضي التاج. ولقد كان يسعهم أن يعملوا عمل الحكومة المركزية ويهيئوا للأمة وحدتها، ولكنهم لم يفعلوا، بل كانوا فيما بين الانتخابين يسيرون كما يحلو لهم، ولم تكن أمة ألمانية قد وجدت بعد، وكل ما كان موجوداً هم السكسون والسوابين، والبافاريون، والفرنجة... وكذلك لم يكن هناك برلمان قومي، بل كانت في البلاد المختلفة مجالس إقليمية تسمى لاندتاج Landtage. ولما قام مجلس ريشستاغ Reichstag أو مجلس لمجموعة البلاد الألمانية في عام 1247، اضمحل فيما بين عهدي الانتخاب، ولم يعل شأنه إلا في عام 1338، وكانت طائفة من الموظفين- من رقيق الأرض أو الأحرار المعينين من قبل الملوك. يؤلفون بيروقراطية مفككة ويكسبون نظام الحكم نوعاً من الاستمرار غير المترابط. ولم يكن للبلاد عاصمة موحدة يتركز فيها ولاء الشعب واهتمامه؛ ولم تكن هناك مجموعة موحدة من القوانين تحكم بها البلاد كلها، فقد احتفظ كل إقليم بعاداته وقوانينه رغم ما بذله بربروسه من الجهد لفرض القانون الروماني على ألمانيا كلها. وحدث في عام 1225 أن صيغت قوانين سكسونيا في كتاب واحد سمي المرآة السكسونية Sachsenspiegel، وفي عام 1275 صيغت قوانين سوابيا وعاداتها في "المرآة السوابية" Schwabenspiegel؛ وأيد هذان القانونان ما كان للشعب من حق قديم في اختيار ملوكه، وما كان للفلاحين من حق الاحتفاظ بحريتهم وأرضهم، وقالت المرآة السكسونية في هذا الصدد إن رق الأرض والاستعباد يتعارضان مع الطبيعة البشرية ومع إرادة الله، وأن أصلهما يرجع إلى القوة أو الغش(23)، لكن رق الأرض أخذ مع ذلك ينمو ويزداد.

وكان عهد آل هوهنستاوفن (1183-1254) أعظم العهود الألمانية قبل بسمارك. نعم إن عادات الشعب وآدابه كانت لا تزال خشنة غليظة، وكانت قوانينه مضطربة هي والفوضى سواء، وأخلاقه خليطاً من الأخلاق المسيحية والوثنية، ومسيحيته نصف ستار لانتهاب الأراضي واغتصابها من أصحابها. كذلك لم تكن ثروة الشعب أو وسائل نعيمه تضارع ثروة شعب إيطاليا أو فلاندرز إذا وازنا مدينة في ألمانيا بمدينة مثلها في ذينك البلدين الأخيرين. ولكن الفلاحين الألمان كانوا مجدين كثيري النسل، وكان التجار الألمان مغامرين ذوي إقدام، والأشراف أكثر سكان أوربا ثقافة وقوة، والملوك هم الرؤساء الزمنيين للعالم الغربي يحكمون بلاداً تمتد من نهر الرين إلى نهر الفستيولا، ومن نهر الرون إلى جبال البلقان، ومن البحر البلطي إلى الدانوب، ومن بحر الشمال إلى صقلية. ونشأت وترعرعت مائة مدينة ومدينة بفضل حياتها الاقتصادية الناشطة، وكان لكثير منها صكوك ومواثيق تؤيد حكمها الذاتي؛ وأخذت على مر السنين تزداد ثروتها وتزدهر فنونها حتى كانت في عصر النهضة فخر ألمانيا وشاهداً على عظمتها ومجدها، وإنا ليعترينا الآن الأسى والحزن على ما كان لها من جمال زال ولم يبق له وجود.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع: اسكنديناوة

عادت الدنمرقة إلى الظهور في التاريخ مرة أخرى في عهد ولدمار الأول Waldemar I (1157-1182) بعد أن ظلت مائة عام تنعم بالاختفاء عنه، فقد استعان هذا الملك بوزيره أبسالون Absalon كبير أساقفة لند Lund على إقامة حكومة قوية، طهرت البحار من القراصنة. واعتنت الدنمرقة بحماية التجارة وتشجيعها، وأسس أبسالون في عام 1167 مدينة كوبنهاجن Copenhagen أي "مرفأ السوق"- Kjoebenhaven. وردّ ولدمار الثاني (1202-1241) على الاعتداءات الألمانية بالاستيلاء على هولستين Holstein، وهمبرج، وعلى البلاد الألمانية الواقعة في الشمال الشرقي من نهر الإلب. ثم قام بثلاث حروب "صليبية" ضد صقالبة البحر البطلطي "تكريماً للعذراء المباركة" واستولى على إستونيا الشمالية، وأسس مدينة ريفال Reval. وهوجم في إحدى هذه الحروب وهو في معسكره؛ ويقول الرواة إنه نجا من الموت بسببين أولهما شجاعته وثانيهما أنه نزلت من السماء في وقت الهجوم عليه راية حمراء عليها صليب أبيض. وأصبحت هذه الراية المعروفة باسم الدنبرج Dannebrog أي القماش الدنمرقي علم القتال الدنمرقي؛ وأسره الكونت هنري الشويريني Count Henry of Schwerin في عام 1223، ولم يطلق سراحه بعد أن قضي في الأسر عامين ونصف عام إلا بعد أن نزل للألمان على جميع فتوحه الألمانية والصقلبية ما عدا روجن Rügen. وقضي هذا الملك بقية حياته العجيبة النافعة في الإصلاحات الداخلية وتقنين جميع شرائع الدنمرقة. وكانت مساحة الدنمرقة حين وفاته ضعفي مساحتها في هذه الأيام، وكانت تشمل الجزء الجنوبي من بلاد السويد، وكان عدد سكانها مساوياً لعدد سكان السويد (300.000) والنرويج (200.000) مجتمعين. ثم ضعفت سلطة الملوك بعد وفاة ولدمار الثاني، حتى إذا كان عام 1282 حصل الأشراف من إرك جلبنج Eric Glipping على عهد يعترف فيه بأن جمعيتهم "الدنهف Danehof" برلمان قومي.

وليس في مقدور كائن من كان أن يجعلنا نتصور أعمال أهل اسكنديناوة في هذه الأيام الأولى اللهم إلا إن كان قصاصاً واسع الخيال، وحسبنا أن نقول عنها إنها جهود جبارة تبذل في سبيل الاستيلاء على هذه الشبه الجزيرة الوعرة الخطرة يوماً بعد يوم وقدماً بعد قدم. لقد كانت الحياة لا تزال فيها بدائية؛ وكانت موارد الغذاء الأولية فيها هي صيد الحيوان والسمك والزراعة. وكان لابد من تقطيع أشجار الغابات المترامية الأطراف، وتأنيس الحيوان البري، وجر الماء إلى مجار تمكن الأهلين من الإنتاج، وإنشاء المرافئ البحرية؛ وكان لابد من أن يعتاد الرجال الجلد وتحمل المشاق لمغالبة الطبيعة التي بدت وكأنها تغضب من تطفل الإنسان عليها وتدخله في شئونها. وكان للرهبان السسترسيين Cistercian شأن عظيم في هذا الكفاح الذي قضوا فيه حياتهم جيلاً بعد جيل، فكانوا يقطعون الأشجار، ويفلحون الأرض، ويعلمون الفلاحين أساليب الزرع الراقية. وكان من أبطال هذا الكفاح إيرل برجر Earl Birger رئيس وزراء السويد من 1248 إلى 1266. فهو الذي ألغي رق الأرض، وأقام حكم القانون، وأسس مدينة استكهولم Stokholm (حوالي عام 1255)، وأنشأ أسرة فولكنج Folkung (1250-1363) بأن أجلس ابنه ولدمار على العرش. وأثرت مدينة برجن لأنها كانت منفذ تجارة النرويج، وأضحت مدينة فزبي Visby القائمة على جزيرة جتلند Gotland مركز الاتصال بين بلاد السويد والعصبة الهانسية. وشيدت كنائس فخمة ممتازة، وتضاعف عدد الكنائس الكبرى والمدارس، وأخذ الشعراء يغنون قصائدهم؛ وفي القرن الثالث عشر أضحت جزيرة أيسلندة Iceland القائمة بعيداً عن البلاد في ضباب المحيط الجامد الشمالي أكثر المراكز الاسكندويناوية في العالم نشاطاً في الأدب.

الفصل الثامن: إنجلترا

1- وليم الفاتح

حكيم وليم الفاتح إنجلترا حكماً جمع فيه بمهارة عظيمة بين الشدة، والقانون، والتقوى، والدهاء، والخداع. فلما أن رفعه إلى العرش الويتان Witan تحت تأثير الخوف والإرهاب، أقسم أن يطيع القوانين الإنجليزية المعمول بها وقتئذ. وانتهز بعض الأعيان في غربي إنجلترا وشماليها فرصة غيابه في نورمندي وحاولوا إيقاد نار الثورة في البلاد (1067)، فعاد إليهم واندفع في البلاد ينتقم من أهلها أشد الانتقام، فأطلق لنفسه فيه العنان يقتل الأهلين، ويهلك الحرث والنسل، ويدمر البيوت بأساليب منظمة محكمة لم تنج إنجلترا من آثارها كلها حتى القرن التاسع عشر(24). وقسم أخصب أراضي المملكة إلى ضياع واسعة وزعها على أعوانه النورمان، وشجعهم على بناء قصور حصينة يتخذونها قلاعاً يدافعون بها عن أنفسهم ضد السكان المعادين . واحتفظ هو بمساحات من الأرض واسعة لتكون ملكاً للتاج، واتخذ قطعة من هذه الأرض طولها ثلاثون ميلاً، مسارح للملك يصيد فيها الوحوش. ودمر كل ما في هذه البقعة من منازل، وكنائس، ومدارس ليفسح الطريق للخيل والكلاب، وكان يعاقب كل من يقتل أيلاً أو أيلة في الغابة الجديدة بفقء عينه(25).


وهكذا نشأت في إنجلترا طبقة الأشراف الجدد الذين لا يزال أبناؤهم من حين إلى حين يسمون بأسماء فرنسية، وانتشر الإقطاع الذي كان من قبل ضعيفاً نسبياً في طول البلاد وعرضها، وحول الشعب أرقاء الأرض. وجعلت الأرض كلها ملكاً للملك، ولكنه سمح للإنجليز الذين استطاعوا أن يبرهنوا على أنهم لم يقفوا في وجه الفاتحين بأن يعودوا إلى شراء أرضيهم من الدولة. وأراد وليم أن يسجل مغانمه ويعرفها، فأرسل عماله في عام 1083 ليسجلوا اسم مالك كل قطعة من الأرض في إنجلترا، وحالها، ومحتوياتها؛ وقد ورد في هذا السجل أن الملك "شدد عليهم في أوامره تشديداً لم تبق معه ياردة واحدة من الأرض، لا... بل ولا ثور أو بقرة، أو خنزير، لم يكتب في سجله"(26). وكانت نتيجة هذا العمل هو كتاب الأحكام وهو اسم ينذر بما سيكون له من شأن خطير إذ أصبح هو "الحكم" الأخير في جميع المنازعات العقارية. وأراد وليم أن يضمن لنفسه معونة البلاد الحربية، ويحد من سلطان أتباعه العظام، فاستقدم إليه جميع كبار الملاك في إنجلترا- وكان عددهم ستين ألفاً- إلى اجتماع عقد في سلزبري Salisbury (1086)، وجعل كل واحد منهم يقسم يمين الإخلاص التام للملك. وكان عمله هذا احتياطاً حكيماً ضد الإقطاعية الفردية التي كانت وقتئذ تقطع أوصال فرنسا. وبعد فلابد للإنسان أن يتوقع قيام حكومة قوية بعد الفتح. وهذا ما حدث في إنجلترا وقتئذ، فقد أقام وليم أو خلع فرساناً ونبلاء، وأساقفة ورؤساء أساقفة وأديرة؛ ولم يتردد لحظة في أن يزج في السجن لوردة عظماء. وأن يتمسك بما له من حق تعيين رجال الدين في مناصبهم. ويقاربه في هذه الناحية جريجوري السابع الذي كان مثله ذا حول وطول، والذي كان في هذا الوقت عينه يستقدم الإمبراطور هنري الرابع إلى كنوسا Canossa . وأراد الملك أن يمنع الحرائق فأمر سكان إنجلترا بإطفاء نار المدافئ أو تغطيتها قبل الساعة الثامنة مساء، ومعنى هذا أن يأوي الأهلون إلى فراشهم في فصل الشتاء في هذا الوقت(27). واشتدت حاجته إلى المال للإنفاق منه على حكومته الآخذة في الاتساع، وعلى فتوحه المترامية الأطراف، ففرض ضرائب باهظة على جميع البيوع، والواردات، والصادرات، واستخدام القناطر، والطرق. وأعاد جميع الضرائب التي ألغاها من قبل إدوارد المعترف. ولما علم أن بعض الإنجليز أودعوا أموالهم في سراديب الأديرة ليخففوها عنه، أمر بتفتيش جميع الأديرة وبنقل كل ما هو مخبأ فيها إلى بيت ماله، ولم يكن بلاطه الملكي يتورع عن قبول الرشا، وتسجيلها بأمانة في السجل العام(28). لقد كانت حكومته في صراحة تامة حكومة فاتحين يعتزمون أن يجعلوا مكاسب مغامرتهم تتناسب مع ما تعرضوا له من الأخطار.

وكان لرجال الدين النورمان نصيبهم من النصر، فقد جئ بلافرانك Lafranc القدير المرن من كائن Caen ونصب كبيراً لأساقفة كنتربري وكبيراً لوزراء الملك. فلما جاء وجد رجال الدين الأنجليسكسون مولعين بالصيد، ولعب النرد، والزواج(29)، فاستبدل بهم قساوسة وأساقفة، ورؤساء أديرة من النورمان؛ ووضع دستوراً جديداً للأديرة هو المعروف بعادات كنتربري، ورفع مستوى رجال الدين الإنجليز من الناحيتين العقلية والخلقية. وأصدر وليم- بإيحاء منه في أغلب الظن- قراراً بفصل المحاكم الكنسية عن المحاكم المدنية، وأمر بأن ينظر في جميع المسائل الروحية بمقتضى قانون الكنيسة، وتعهد بأن تنفذ الدولة كل ما تحكم به المحاكم الكنسية من عقوبات. وأمر بأن تجبى العشور من الشعب لمعونة الكنيسة، ولكنه طلب ألا يذاع أو ينفذ قرار بابوي أو رسالة بابوية في إنجلترا بغير موافقته، وألا يدخل إنجلترا مبعوث من قبل البابا إلا بإذن ملكي. وفصلت من ذلك الحين جمعية الأساقفة الوطنية عن الويتان وكانت من قبل جزءاً منه، وأصبحت هيئة مستقلة، لا تنفذ قراراتها إلا إذا صادق عليها الملك(30). ووجد وليم أن حكم مملكته أيسر عليه من حكم أسرته، شأنه في هذا شأن الكثرة الغالبة من عظماء الرجال. فقد كانت الإحدى عشرة السنة الأخيرة من حياته مليئة بالنزاع بينه وبين زوجته الملكة ماتلدا Matilda، وطلب ابنه روبرت أن يكون له السلطان الكامل على نورماندي، فلما رفض طلبه هذا خرج على أبيه، وحاربه وليم حرباً غير حاسمة، ثم صالحه على أن يوصي له بهذه الدوقية بعد وفاته. وزاد جسم الملك زيادة صعب عليه معها أن يركب الخيل؛ وحارب فليب الأول ملك فرنسا لخلاف على الحدود؛ ولما طال مكثه في رون، وكاد يعجز عن الحركة لبدانته، سخر منه فليب- على حد قول بعضهم- بأن قال إن ملك إنجلترا "ملازم الفراش للنفاس"، وأن الشموع ستوقد في الاحتفال العظيم الذي سيقام في الكنيسة بعد أن يلد. وأمر وليم جيشه أن يحرق مانت Mantes عن آخرها هي وما جاورها، وأن تتلف كل المحصولات والفاكهة، ونفذ أمره بحذافيره. وبينما كان وليم يسير فوق جواده وسط مظاهر التخريب والتدمير وهو ثمل بخمرة النصر إذ عثر به الجواد فسقط فوق قربوس السرج الحديدي، فحمل إلى صومعة القديس جوفاس Gervase القريبة من رون، حيث اعترف بذنوبه اعترافاً كاملاً، وأدلى بوصيته، وكفر عن هذه الذنوب بأن وزع ثروته على الفقراء والكنيسة، ووهب المال لإعادة بناء مانت. وترك أبناؤه جميعاً، عدا، هنري، فراش موته ليقتتلوا من أجل وراثة العرش، وفر ضباطه وخدمه بما استطاعوا أن يستولوا عليه من المغانم؛ وحمل جثته قروي من أتباعه إلى "دير الرجال" Abbay aux Hommes في كائن (1087). ووجد أن التابوت الذي صنع له لا يتسع لجثته؛ فلما أراد الخدم أن يحشروا جسمه الضخم في هذا التابوت الضيق، انفجر الجسم؛ وملأ الكنيسة كلها برائحة الملك الكريهة(31).

وكانت نتائج الفتح النورماني كثيرة يخطئها الحصر، فقد فرض شعب جديد وفرضت طبقة جديدة على الدنمرقيين الذين حلوا محل الإنجليز والسكسون، الذين غلبوا البريطانيين الرومان، الذين فرضوا سيادتهم على الكلت ؛ وكان لابد أن تمر عدة قرون قبل أن يثبت الأنجليسكسون والكلت وجودهم في الدم البريطاني واللغة البريطانية؛ وكان بين النورمان والدنمرقيين أواشج قربى، ولكنهم في المائة السنين التي جاءت بعد رولو Rollo أصبحوا فرنسيين، فلما نزلوا بإنجلترا أصبحت عاداتها الرسمية ولغتها الرسمية عادات ولغة فرنسية، وظلت كذلك ثلاثة قرون. وجاء مع الفاتحين من فرنسا إلى إنجلترا نظام الإقطاع بكل ما فيه من زينة الخيول، وفروسية، وعلامات الدروع ونقوشها، والمفردات التي تعبر عنها. وفرض رق الأرض على إنجلترا فرضاً كاملاً قاسياً إلى حد لم تعرفه من قبل في تاريخها(32)، وكان المرابون اليهود الذين جاءوا مع وليم حافزاً جديداً للتجارة والصناعة؛ ونشاـ من الاتصال الوثيق بين إنجلترا والقارة الأوربية أفكار جديدة في الأدب والفن، وبلغ فن العمارة النورماني ذروة مجده في بريطانيا؛ وجاء الأشراف الجدد بعادات جديدة وأخلاق جديدة، وحيوية جديدة، وبنظام زراعي خير مما كان في البلاد من قبل. وحسن الأشراف والأساقفة النورمان النظام الإداري للدولة تحسيناً كبيراً فقد أصبح الحكم مركزياً، ووحدت الدولة وإن لم يكن هذا التوحيد قد تم عن طريق الحكم المطلق، وأصبحت الحياة والأموال أكثر أمناً من ذي قبل، وأقبلت إنجلترا على عهد طويل من السلام الداخلي لم تغز بعده أبداً غزواً ناجحاً.

2- تومس بكت

من الأقوال المأثورة في إنجلترا أن يتوسط ملك ضعيف بين كل ملكين قويين، ولكن الحقيقة أن الملوك الضعاف الذين يتوسطون ملكين قويين لا حد لعددهم. ومصداقاً لهذا نقول إنه لما مات وليم الفاتح استولى ابنه روبرت على نورمندي وجعلها مملكة مستقلة، وتوج ابنه الأصغر منه وليم روفس (الأحمر 1087-1100) ملكاً على إنجلترا بعد أن قطع على نفسه عهداً بأن يسلك مسلكاً حسناً مع لانفكرانك متوجه ووزيره. وحكم هذا الملك حكماً استبدادياً حتى عام 1093، ثم مرض ووعد بأن يكون حسن السلوك، فلما شفي من مرضه، عاد إلى استبداده وظل كذلك حتى اغتالته يد مجهولة في أثناء صيده. وظل الرجل التقي أنسلم الذي أصبح بعد لانفرانك كبير أساقفة كنتربري يقاوم مقاومة طويلة، أعيد بسببها إلى فرنسا.

ودعا ابن ثالث من أبناء وليم الفاتح يدعى هنري (1100-1135) أنسلم إلى العودة، فطلب المطران- الفيلسوف أن يمتنع الملك عن اختيار الأساقفة، فلما رفض الملك هذا الطلب نشب بينهما نزاع طويل اتفق بعده على أن تختار جمعيات رجال الكنائس والرهبان بحضور الملك نفسه الأساقفة الإنجليز ورؤساء الأديرة، وأن يقدموا له مراسم الولاء بوصفه مصدر أملاكهم وسلطاتهم الإقطاعية وكان هنري يحب المال ويكره التبذير؛ ولهذا فرض الضرائب الفادحة ولكنه راعى جانب الاقتصاد والعدالة في حكمه؛ وحافظ على السلم والنظام في إنجلترا، عدا معركة واحدة- في تنشبريه عام 1106- استرد فيها نورمندي إلى التاج البريطاني. وأمر النبلاء أن "يضبطوا أنفسهم في معاملاتهم لزوجاتهم وأبنائهم وبنات رجالهم"(33). وكان له هو أبناء غير شرعيين وبنات غير شرعيات من عشيقاته المتعددات(34)، ولكنه أوتى من الكياسة والحكمة ما جعله يتزوج مود Maud سليلة الملوك الاسكتلنديين والإنجليز السابقين على عهد النورمان، فطعم بذلك الأسرة المالكة الجديدة بالدم الإنجليزي القديم.

وأرغم هنري الأشراف والقساوسة على أن يقسموا يمين الولاء لابنته ماتلدا وابنها الشاب الذي أصبح فيما بعد هنري الثاني. فلما مات الملك اغتصب العرش ستيفن بلوا Blois وحفيد وليام، وظلت إنجلترا أربعة عشر عاماً تعاني كوارث الموت والضرائب الفادحة في حرب داخلية امتازت بأشد ضروبات القسوة والإرهاب(35). وكبر هنري الثاني في هذه الأثناء، وتزوج اليانور الأكتانية Eleanor of Aquitaine واستولى على دوقيتها، وغزا إنجلترا، وأرغم ستيفن على الاعتراف به وارثاً للعرش. ولما توفي استيفن صار ملكاً على إنجلترا (1154)؛ وبذلك انتهى عهد أسرة النورمان وبدأ عهد أسرة البلانتجنت. وكان هنري رجلاً حاد الطبع، كثير المطامع، قوي الذهن، يميل بعض الميل إلى الكفر بالله(36). وكانت له السيادة الاسمية على مملكة تمتد من أسكتلندة إلى جبال البرانس، وتشمل نصف فرنسا، ولكنه ألفى نفسه بادي العجز في مجتمع إقطاعي، مزق فيه كبار الأشراف بجنودهم المرتزقة وحصونهم المنيعة الدولة إلى إقطاعيات يحكمونها بأنفسهم، ولهذا شرع الملك بنشاط رهيب يجمع المال والرجال، ويحارب الأشراف ويخضعهم سيداً بعد سيد، ويدمر القصور الإقطاعية الحصينة، ويوطد أركان النظام والأمن والعدالة والسلم. وأخضع لحكم إنجلترا أيرلندة التي غلبها ونهبها قراصنة ويلز؛ وكان في إخضاعها حكيماً مقتصداً في ماله وفي جنده. ولكن هذا الرجل القوي، الذي يعد من أعظم الرجال في تاريخ إنجلترا كله، قد ذل وتحطم حين التقي بتومس بكت Thomas Becket، وهو رجل ذو إرادة لا تقل مضاء عن إرادته ودين أعظم قوة من أية دولة قائمة في ذلك الوقت.

ولد تومس في لندن عام 1118 من أبوين نورمانيين من أبناء الطبقة الوسطى. واسترعى الغلام انتباه ثيوبولد Theobald كبير أساقفة كنتربري بذكائه الناضج قبل الأوان، فأرسله إلى بولونيا Bologna وأكسير Auxerre ليدرس الشرائع المدنية والكنسية. ولما عاد إلى إنجلترا انتظم في سلك رجال الدين، وما لبث أن ارتقى في المناصب الدينية حتى صار كبير شمامسة كنتربري. ولكنه كان مثل كثيرين غيره من رجال الدين في تلك القرون الماضية، رجل عمل أكثر مما كان رجل دين؛ فكانت الشئون الإدارية والدبلوماسية أكثر ما تظهر فيها مهارته؛ وأظهر في هذين الميدانين مقدرة فائقة رفعته إلى مقام الوزارة ولم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره. وساد الوئام بينه وبين هنري إلى حين، فكان المستشار الوسيم موضع ثقة الملك في أخص شئونه، يشاركه ألعاب الفروسية، ويكاد يشاركه في ثروته وسلطانه. وكانت مائدته أفخم الموائد في إنجلترا كلها، وكانت صدقاته للفقراء تضارع كرم ضيافته لأصدقائه. وكان في الحرب يقود بنفسه سبعمائة من الفرسان، ويبارز الأعداء فرداً لفرد، ويضع الخطط الحربية؛ ولما أرسل في بعثة إلى باريس ارتاع الفرنسيون حين رأوا حاشيته الفخمة المؤلفة من ثمان مركبات، وأربعين جواداً، ومائتين من الأتباع؛ وقالوا في أنفسهم ترى ماذا يكون الملك الذي له مثل هذا الوزير!

وعين كبيراً لأساقفة كنتربري في عام 1162، فلم يكد يتولى منصبه حتى تبدلت أساليبه تبدلاً فجائياً كاملاً كأنما حدث ذلك بسحر ساحر، فتخلى عن قصره الفخم، وثيابه الملكية، وأصدقائه من الأشراف، وبعث إلى الملك باستقالته من الوزارة وارتدى الثياب الخشنة، فلبس شعاراً من الصوف، وعاش على الخضر، والحبوب، والماء، وكان كل ليلة يغسل قدمي ثلاثة عشر متسولاً وأضحى من ذلك الوقت مدافعاً عن جميع حقوق الكنيسة، وامتيازاتها، ومصادر إيرادها. وكان من بين هذه الامتيازات عدم محاكمة رجال الدين أمام المحاكم المدنية. وثارت ثائرة هنري، وهو الذي كان يطمع في أن يبسط سلطانه على كافة الطبقات، حين وجد أن المحاكم الكنسية كثيراً ما تترك رجال الدين دون أن تعاقبهم على ما يرتكبونه من الجرائم. ولهذا دعا فرسان إنجلترا وأساقفتها إلى اجتماع عقده في كلارندن Clarendon (1164)، وحملهم على أن يوقعوا دستور كلارندن الذي قضي على كثير من الحصانات التي كان يتمتع بها رجال الدين. ولكن بكت رفض أن يختتم الوثائق بخاتم أسقفيته الكبرى، فما كان من هنري إلا أن أذاع القوانين الجديدة غير عابئ بهذا الرفض، وقدم الرئيس الديني المريض للمحاكمة أمام المحكمة الملكية. وجاء بكت، وعارض في هدوء أساقفته الذين أعلنوا مع الملك أنه مذنب لخروجه على قوانين سيده الإقطاعي ملك البلاد. ولما أمرت المحكمة بالقبض عليه أعلن أنه سيستأنف القضية أمام البابا، ثم خرج سالماً من القاعة بثيابه الأسقفية التي لم يجرؤ أحد على لمسها. وأطعم في ذلك المساء عدداً كبيراً من الفقراء في بيته بلندن، ثم فر في أثناء الليل متخفياً سالكاً طرقاً ملتوية إلى القناة الإنجليزية، وعبر المضيق المضطرب الماء قارب ضعيف، ووجد ملجأ له في دير قائم في سانت أومرOmer St. في بلاد ملك فرنسا، ثم قدم استقالته من منصب كبير الأساقفة إلى البابا اسكندر الثالث. وأيده البابا في موقفه، وأعاد تعيينه في كرسيه، ولكنه أرسله ليعيش مؤقتاً معيشة راهب سسترسي في دير بنتني Pontigny.

ونفي هنري من إنجلترا جميع أقارب بكت ذكوراً وإناثاً، صغاراً كانوا أو كباراً. ولما جاء هنري إلى نورمندي خرج تومس من صومعته وصعد منبراً في فيزلاي Vezelay، وأعلن حرمان جميع رجال الدين الإنجليز الذين أيدوا دستور كلارندن (1166). وكان جواب هنري أن هدد بمصادرة أملاك جميع الأديرة والصوامع القائمة في إنجلترا، ونومندي، وأنجو، وأكتين، والمنتسبة إلى دير بنتني إذا استمر هذا الدير على إيواء بكت. وتوسل الرئيس المرتاع إلى بكت أن يغادر الدير، وعاش الرجل المتمرد المريض من الصدقات في نزل قذر ببلدة سان Sens. وأغرى لويس السابع ملك فرنسا البابا اسكندر الثالث، فأمر هنري أن يعيد كبير الأساقفة إلى كرسيه، وأنذره إذا رفض بأنه سيحرم إقامة جميع الصلوات والخدمات الدينية. والأقاليم الخاضعة لحكم إنجلترا (1169). فاضطر هنري إلى الخضوع، وجاء إلى أفرانش Avranches، والتقى ببكت، ووعده بأن يصلح كل ما يشكو منه، وأمسك بركاب كبير الأساقفة المنتصر وهو يهم بالركوب عائداً إلى إنجلترا (1169). فلما عاد تومس إلى كنتربري كرر قرار الحرمان على الأساقفة الذين قاوموه. فذهب بعضهم إلى هنري في نومندي وأثاروا غضبه، ولعلهم بالغوا في وصف مسلك بكن. فصاح هنري قائلاً: "عجباً!... أيجرؤ رجل يُطعم خبزي... على أن يهين الملك والمملكة جميعها، ولا يأخذ بحقي واحد من أولئك الخدم الكسالى الذين يُطعمون على مائدتي فيغسل تلك الإهانة؟". وذهب إلى إنجلترا أربعة من الفرسان الذين سمعوه، من غير علم الملك على ما يظهر؛ ووجدوا كبير الأساقفة عند مذبح كنيسة كنتربري في يوم 30 من ديسمبر سنة 1170، فقطعوا جسمه بسيوفهم وهو واقف في مكانه.

وروعت المسيحية كلها وثار ثائرها على هنري ودمغته من تلقاء نفسها بطابع الحرمان العام. فاعتزل الملك العالم في حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام؛ أصدر بعدها أمره بالقبض على القتلة، وبعث بالرسل إلى البابا يعلنون براءته من الجريمة، ووعد بأن يكفر عن ذنبه بالطريقة التي يرتضيها الإسكندر. ثم ألغي دستور كلارندن، ورد إلى الكنيسة جميع مالها في بلاده من حقوق وأملاك. وقام الناس في هذه الأثناء يقدسون بكت ويعلنون أن معجزات كثيرة حدثت عند قبره، وأعلنت الكنيسة قداسته رسمياً (1172)، وسرعان ما أخذت الآلاف المؤلفة. تحج إلى ضريحه. وجاء هنري أخيراً إلى كنتربري حاجاً نادماً؛ ومشى الثلاثة الأميال الأخيرة من الطريق على الحجارة الصوان حافي القدمين ينزف الدم منهما؛ ثم استلقى على الأرض أمام قبره عدوه الميت، وطلب إلى الرهبان أن يضربوه بالسياط، وتقبل ضرباتهم؛ وهكذا تحطمت إرادته القوية أمام السخط العام عليه والمتاعب المتزايدة في بلاده. وأخذت زوجته إليانور، التي طردها الملك الزاني وسجنها، تأتمر به مع أبنائه لتخلعه عن العرش؛ وتزعم هنري أكبر أبنائه فتنتين إقطاعيتين قامتا عليه في عامي 1173و1183، ومات وهو خارج على أبيه. ثم تحالف ولداه رتشرد وجون، بعد أن طال انتظارهما موته، مع فليب أغسطس ملك فرنسا وانضما إليه في حرب ضد أبيهما، ولما طرد من لمان Le Mans جهر بالطعن على الإله الذي حرمه من البلدة التي ولد فيها وأحبها، ومات في شينون Chinon (1189)؛ وكان آخر ما نطق به أن سب أولاده الذين غادروا به، والحياة التي وهبته المجد والسلطان، والغنى، والعاشقات، والأعداء، والعار، والغدر، والهزيمة.

لكنه لم يخفق الإخفاق كله. نعم إنه قد سلم لبكت الميت بما لم يسلم به لبكت الحي، لكن حجة هنري هي التي كسبت المعركة على توالي الأيام: ذلك أن المحاكم المدنية هي التي وسعت اختصاصها وبسطت سلطانها في عهد كل ملك جاء بعده على رعايا الملك سواء كانوا من رجال الدين أو رجال الدنيا(37). ولقد حرر القانون الإنجليزي من القيود الكنسية والإقطاعية، ومهد السبيل لنمائه ذلك النماء الذي جعله من أجل الأعمال التشريعية التي ظهرت منذ عهد روما الإمبراطورية. ولقد حذا حذو جده العظيم وليم الفاتح فقوى حكومة إنجلترا ووحدها بإخضاع الأشراف المتمردين الذين أشاعوا الفوضى في البلاد إلى القانون والنظام. وكان نجاحه في هذه الناحية أكثر مما يجب أن يكون: ذلك أن الحكومة المركزية قويت حتى كادت تصبح حكومة مطلقة غير مسئولة إلى أقصى حد، وحتى كانت الجولة الثانية في المعركة التاريخية بين النظام والحرية هي التي قام بها الأشراف المناضلون عن الحرية.

3- العهد الأعظم أو مجنا كارتا

لقد ورث ريتشارد الأول الملقب بقلب الأسد عرش أبيه دون أن ينازعه منازع، وكان ريتشارد ابن إليانور المغامرة المتهورة التي لا تغلب، ولقد تتبع خطاها ولم يتبع خطا هنري القدير النكد. وولد رتشرد في أكسفورد 1157 وانتدبته أمه ليصرف شئون أملاكها في أكتين، وفيها أشربت نفسه بثقافة بروفانس المتشككة، و"بعلوم" الشعراء الغزليين "المرحة" ولم يعد قط رجلاً إنجليزياً. وكان حبه للمغامرات والغناء أكثر من حبه للسياسة والإدارة، وامتلأت الاثنتان والأربعون سنة التي عاشها بحوادث روائية تكفي لأن تملأ مائة عام، وكان لشعراء زمانه مثالاً يحتذونه ونصيراً يلقون منه التشجيع. وقد قضي الخمسة الشهور الأولى من حكمه في جمع المال اللازم لحرب صليبية؛ فخص بهذا الغرض جميع الأموال التي خلفها وراءه هنري الثاني، وأقصى آلافاً من الموظفين ثم أعاد تعيينهم نظير جعل يتقاضاه منهم، وباع صكوكاً بالحرية للمدن التي تستطيع أداء ثمنها، واعترف باستقلال اسكتلندة نظير 15.000 مارك، ولم يقبل هذا الثمن القليل لأنه يزهد في المال بل لأنه شديد الحب للمغامرات. ولم يمض على اعتلائه العرش نصف عام حتى أبحر إلى فلسطين، ولم يكن حرصه على سلامته أكثر من حرصه على حقوق غيره؛ وقد أثقل كاهل البلاد بالضرائب إلى أقصى طاقتها، وبدد ما جمعه من المال في الترف، والولائم، والمظاهر الكاذبة، واندفع في العمل خلال العقد الأخير من القرن الثاني عشر بجرأة وتهور جعلا زملاءه الشعراء يضعونه في صف الإسكندر، وآرثر، وشارلمان.

وحارب صلاح الدين وأحبه، وعجز عن هزيمته وأقسم أن يهزمه، وقفل راجعاً إلى بلاده وأسره في طريق عودته (1192) ليوبولد دوق النمسا، وكان قد أساء إليه في آسيا، وأسلمه ليوبولد في بدء عام 1193 إلى الإمبراطور هنري السادس. وكان لهنري هذا ثأر قديم عند هنري الثاني ورتشرد، واحتفظ هنري السادس بملك إنجلترا سجيناً في حصن ببلدة درنشتين Dürnstein على نهر الدانوب على الرغم من القانون الذي كان معترفاً به في أوربا بوجه عام والذي يحرم اعتقال رجال الحروب الصليبية؛ وطلب إلى إنجلترا فدية قدرها 150.000 مارك (15.000.000 دولار أمريكي) أي نصف الإيراد السنوي لأملاك التاج البريطاني. وكان جون أخو رتشرد وقتئذ يحاول اغتصاب العرش، فلما لقي مقاومة فر إلى فرنسا وانضم إلى فليب أغسطس في هجومه على إنجلترا. ونكث فليب بعهد قطعه على نفسه بالمحافظة على السلم، فهاجم الأملاك الإنجليزية في فرنسا واستولى عليها، وعرض رشا كبيرة على هنري السادس ليبقى رتشرد أسيراً. وضاقت نفس رتشرد بسجنه المريح، وكتب قصيدة من الشعر الممتاز(38)، يطلب فيها إلى بلاده أن تفتديه من الأسر. وكانت إليانور في أثناء هذه الأحداث المضطربة تحكم البلاد حكماً ناجحاً بوصفها نائبة عن الملك معتمدة على النصائح الحكيمة التي يقدمها لها القاضي الأكبر هيوبرت ولتر Hubert Walter كبير أساقفة كنتربري، ولكنهما وجدا من العسير عليهما جمع الفدية المطلوبة. ولما أطلق سراح رتشرد آخر الأمر (1194) أسرع إلى إنجلترا، وجبى الضرائب وجمع الجند وقاد بنفسه جيشاً عبر به القناة الإنجليزية ليثأر لنفسه ولإنجلترا من فليب. وتقول الرواية المأثورة إنه ظل عدة سنين يرفض القداس لئلا يطلب إليه أن يصفح عن عدوه الغادر. فلما تم له استعادة جميع الأملاك التي استولى عليها فليب ركن إلى السلم التي أمكنت فليب من أن يعيش. وتنازع في هذه الأثناء مع أحد أتباعه الإقطاعيين وهو أدهمار Adhemar فيكونت مدينة ليموج Limoges، وكان قد وجد كنزاً من الذهب مخبوءاً في أرضه، وعرض على رتشرد جزءاً منه، لكن رتشرد أبى إلا أن يأخذه كله، وحاصر أدهمار. وأصاب رتشرد سهم منطلق من قصر أدهمار الحصين فمات رتشرد "قلب الأسد" في الثالثة والأربعين من عمره إثر نزاع قام على كومة من الذهب.

وخلفه على العرش أخوه جون (1199-1216) بعد أن لقي بعض المقاومة وعدم الثقة، وبعد أن اضطره ولتر كبير الأساقفة أن يقسم حين تتويجه أنه قد نال عرشه منتخباً من الأمة (أي الأعيان والمطارنة) وبنعمة الله. ولكن جون الذي خان أباه، وأخاه، وزوجه، لم تكن تقف في وجهه يمين أخرى بعد أيمانه الماضية أو يهتم كثيراً بهذه اليمين، ولم يكن يبدو عليه شيء من التمسك بالعقائد الدينية شأنه في هذا شأن هنري الثاني ورتشرد الأول، حتى ليقال إنه لم يتناول قط القربان المقدس بعد أن بلغ سن الرشد، بل لم يتناوله أيضاً في يوم تتويجه(39). واتهمه الرهبان بالكفر وقالوا إنه اقتنص مرة وعلاً سميناً وقال: "ما أسمن هذا الحيوان وما أحسن طعامه! ولكني أقسم أنه لم يسمع قط بالقداس" وغضب الرهبان من قوله هذا لأنه رأوا فيه سخرية ببدانتهم(40). وكان جون رجلاً حاد الذهن مجرداً من الضمير، وكان إدارياً حازماً ممتازاً "ولم يكن صديقاً حميماً لرجال الدين"، ولهذا افتري عليه بعض الافتراء المؤرخون الإخباريون من رجال الأديرة كما يقول هولنشد Holinshed(41)؛ ولم يكن مخطئاً على الدوام، ولكنه كثيراً ما أغضب الناس بمزاجه الحاد، وملحه، وفكاهاته البذيئة الشائنة، واستبداده وغطرسته، وما فرضه من الضرائب الفادحة التي يحس أنه مضطر إليها للدفاع عن الأملاك الإنجليزية في القارة ضد فليب أغسطس.

ونال جون في عام 1199 على إذن من البابا إنوسنت الثالث بتطليق إزابل Isabel أميرة جلوسستر Gloucester بحجة أنها تمت إليه بصلة القرابة، ولم يلبث بعد طلاقها أن يتزوج بإزبلا أميرة أنجوليم Isabella of Anguleme رغم أنها كانت مخطوبة لكونت لوزنيان Lusignan. وغضب الأشراف في كلا البلدين لهذا العمل واستنجد الكونت بفليب ليأخذ له بحقه. واحتج في الوقت نفسه بارونات أنجو، وتورين، وبواتو Poitou، ومين لدى فيليب قائلين إن جون يستبد بأقاليمهم. وكانت فروض الطاعة الإقطاعية التي ترجع إلى عهد تسليم نورمندية إلى رولو تقضي بأن يعترف الأعيان الإقطاعيون في فرنسا، حتى في المقاطعات التي تملكها إنجلترا، بملك فرنسا سيداً إقطاعياً عليهم؛ وكان جون حسب قانون الإقطاع، بوصفه دوق نورمندية، تابعاً لملك فرنسا، وأمر فليب تابعة الملكي بالقدوم إلى باريس، ليبرئ نفسه من عدة تهم وادعاءات، وأبى جون أن يطيع الأمر، فقضت محكمة الإقطاع الفرنسية بمصادرة أملاكه في فرنسا، ومنحت نورمندية، وأنجو، وبواتو لآرثر كونت بريطاني Briltany وحفيد هنري الثاني. وطالب آرثر بعرش إنجلترا، وحشد لذلك جيشاً، وحاصر الملكة إليانور في ميرابو Mirabeau، فقادت الملكة بنفسها، وهي في الثمانين من عمرها، قوة للدفاع عن ولدها المشاكس. وأنقذها جون من عدوها، وقبض على آرثر، ويبدو أنه أمر بقتله، فما كان من فليب إلا أن غزا نورمندية، وكان جون وقتئذ يقضي شهر العسل في رون وفي شغل شاغل عن قيادة جنده، فمنوا بالهزيمة. وفرّ جون إلى إنجلترا، وانتقلت نورمندية، ومين، وأنجو، وتورين إلى التاج الفرنسي.

وبذل البابا إنوسنت الثالث، ولم يكن على وئام مع فليب، كل ما في وسعه لمساعدة جون، ثم دب النزاع بينه وبين جون. وكان سبب هذا النزع أنه على أثر وفاة هيوبرت ولتر (1205) حمل الملك كبار الرهبان في كنتربري على أن يختاروا جون ده جراي John de Gray، أسقف نوروك Norwich للمنصب الشاغر، ولكن طائفة من الرهبان الشبان اختارت رجنلد Reginald نائب رئيس ديرهم ليكون كبيراً للأساقفة. وأسرع المرشحان المتنافسان إلى رومة يطلب كل منهما تأييد البابا؛ ولكن إنوسنت رفض أن يؤيدهما جميعاً، وعين في المنصب الشاغر استيفن لانجتن Stephen Langton، وهو مطران إنجليزي قضى الخمس والعشرين سنة الأخيرة مقيماً في باريس، وكان وقت اختياره أستاذاً للاهوت في جامعتها. واحتج جون على هذا الاختيار وقال إن لانجتن لم يكن لديه ما يؤهله لأن يشغل أكبر منصب ديني في إنجلترا، وهو منصب يجمع بين الوظائف السياسية والدينية. وتجاهل إنوسنت احتجاج جون، ودشن استيفن كبيراً لأساقفة كنتربري (1207) في فيتربو Viterpo من أعمال إيطاليا. وتحدى جون لانجتن بأن يطأ بقدمه أرض إنجلترا، وأنذر رهبان كنتربري العصاة بحرق الأديرة فوق رؤوسهم، وأقسم "بأسنان الله" بأن ينفي كل قس كاثوليكي من إنجلترا إذا أصدر البابا قراراً بحرمانها، ويسمل أعين بعضهم ويجدع أنوفهم جزاء وفاقاً لهم على فعل رئيسهم. وأصدر البابا قرار الحرمان (1208)، وامتنعت كل الخدمات الدينية في إنجلترا ما عدا التعميد والمسح وقت الوفاة. وأغلق القساوسة الكنائس، وسكنت الأجراس، ودفن الموتى في أرض لم تدشن. ورد جون على هذه الأعمال بمصادرة جميع أملاك الكنائس والأديرة وأعطاها لغير رجال الدين؛ وحرم إنوسنت الملك من حظيرة المسيحية، ولكن جون لم يعبأ بقرار الحرمان، وانتصر في عدة وقائع حربية أيرلندة، واسكتلندة، وويلز. ووجفت قلوب الشعب هلعاً من قرار الحرمان، ولكن الأشراف رضوا بانتهاب أملاك الكنيسة لأن ذلك الانتهاب يحول نهم الملك إلى حين عن أملاكهم هم.

واختال جون عجباً بانتصاره المؤقت، وأساء إلى الكثيرين بتطرفه وعنته؛ فقد هجر زوجته الثانية ليلد أطفالاً غير شرعيين من عشيقات مستهترات، وزج اليهود في السجن لينتزع منهم أموالهم، وترك بعض المطارنة السجناء يموتون من فرط المشقة، وأغضب الأشراف بأن أضاف الإهانات إلى الضرائب الفادحة، وتشدد في تنفيذ قانون الغابات البغيض. ولجأ إنوسنت في عام 1213 إلى آخر ملجأ له، فأصدر مرسوماً بخلع الملك الإنجليزي عن العرش، وأعفي رعايا جون من بين الطاعة التي أقسموها له، وأعلن أن أملاك الملك أضحت غنيمة مشروعة لكل من يستطيع انتزاعها من يديه النجستين. وقبل فليب أغسطس الدعوة، وحشد جيشاً رهيباً، وزحف به على شاطئ القناة الإنجليزية. واستعد جون لصد الغزو، ولكنه تبين وقتئذ أن أعيان البلاد لن يساعدوه في حرب ضد بابا مسلح بقوة مادية ودينية معاً. واستشاط الملك غضباً من فعلتهم، ورأى في الوقت نفسه خطر الهزيمة محدقاً به. فعقد اتفاقاً مع بندلف Pandulf، مبعوث البابا مضمونه أنه إذا ألغى إنوسنت قرار الحرمان الصادر على الملك وعلى إنجلترا، وقرار الخلع، واستحال من عدو إلى صديق، فإن جون يتعهد بأن يرد إلى الكنيسة كل ما صادره من أملاكها، وأن يضع تاجه ومملكته تحت سيادة البابا الإقطاعية. واتفق الطرفان على هذا، وأسلم جون إنجلترا كلها للبابا، ثم استعادها منه بعد خمسة أيام بوصفها إقطاعية بابوية تدين للبابا بالولاء وتؤتى الجزية عن يد وهي صاغرة (1213).

وأقلع جون إلى بواتو ليهاجم فليب، وأمر بارونات إنجلترا أن يتبعوه بالسلاح والرجال، ولكنهم لم يطيعوا أمره. وأدت هزيمة جون عند بوفين Bouvines إلى حرمانه من الألمان وغيرهم من أحلافه الذين كان يتطلع إلى معونتهم ضد توسع فرنسا، فعاد إلى إنجلترا ليواجه الأشراف الحانقين. واستاء النبلاء من فدح الضرائب المفروضة عليهم لتمويل حروبه المخربة، ومن خروجه على السوابق القديمة والقوانين المرعية، وتسليمه إنجلترا ليشتري به عفو البابا وتأييده. وأراد جون أن يحسم الأمر فيما بينه وبينهم فطلب إليهم أن يؤدوا له قدراً من المال بدل الخدمة العسكرية، ولكنهم بعثوا إليه بدلاً من هذا المال بوفد يطلب إليه العودة إلى قوانين هنري الأول، التي حمت حقوق الأشراف وحددت سلطات الملك. فلما لم يتلق الأشراف جواباً مرضياً حشدوا قواتهم المسلحة عند استامفورد Stamford، وبينما كان جون يتلكأ في أكسفورد من جون ملك إنجلترا بعناية الله تعالى.... إلى كبار أساقفته، وأساقفته، ورؤساء أديرته، وحملة ألقاب إيرل وبارون... وجميع رعاياه الأوفياء. تحية. اعلموا أننا بهذا العهد الحاضر نؤكد عنا وعن ورثتنا إلى أبد الدهر:

1- أن ستكون كنيسة إنجلترا حرة لا يعتدي على شيء من حقوقها وحرياتها... 2- أننا نمنح جميع الأحرار في مملكتنا، عنا وعن ورثتنا إلى أبد الدهر، جميع الحريات المدونة فيما بعد... 12- ألا يفرض بدل خدمة أو معونة.. إي المجلس العام لمملكتنا. 14- لكي يجتمع المجلس العام المختص بتقدير المعونات وبدل الخدمات.. سنأمر باستدعاء كبار الأساقفة، والأساقفة، ورؤساء الأديرة، وحملة ألقاب إيرل، وكبار البارونات في البلاد ... وغيرهم ممن هم تحت رياستنا... 15- لن نجيز في المستقبل لكائن من كان أن يأخذ معونة من مستأجريه الأحرار (غير الأرقاء)، إلا إذا كان ذلك لافتدائه، أو تنصيب ابنه الأكبر فارساً، أو مرة واحدة لزواج ابنته الكبرى؛ ولن تكون المعونة في هذه الحالة إلا معونة معقولة...

17- لن تعرض الشكاوي العادية على محكمتنا، بل ينظر فيها في مكان محدد. 36- لن يعطى أو يؤخذ بعد الآن شيء نظير أمر يطلبه شخص ببحث حاله... بل يجب أن يعطى هذا الأمر بغير مقابل (أي أنه يجب ألا يطول حبس إنسان من غير محاكمة). 39- لا يقبض على رجل حر، أو يسجن، أو ينزع ملكه، أو يخرج من حماية القانون، أو ينفى، أو يؤذي بأي نوع من الإيذاء... إلا بناء على محاكمة قانونية أمام أقرانيه (أي المساوين له في المدينة) أو بمقتضى قانون البلاد. 40- لن نبيع العدالة أو حقاً من الحقوق لإنسان ما ولن نحرم منها إنساناً ما. 41- يتمتع جميع التجار بحق الدخول في إنجلترا والإقامة فيها والمرور بها براً أو بحراً سالمين مؤمنين للشراء والبيع... دون أن تفرض عليهم ضرائب غير عادلة. 60- كل العادات والحريات السالفة الذكر... يجب أن يراعيها أهل مملكتنا كلهم، سواء منهم رجال الدين وغير رجال الدين، كل فيما يخصه، نحو أتباعهم. وقعناه بيدنا بحضور الشهود، في المرج المعروف باسم ريمنيد في اليوم الخامس عشر من شهر يونيه من السنة السابعة عشرة من حكمنا(42).

والعهد الأعظم أساس الحريات التي يتمتع بها العالم الناطق باللغة الإنجليزية في هذه الأيام، والحق أنه خليق بهذه الشهرة. نعم إنه مقيد ببعض القيود، فهو ينص على حقوق النبلاء ورجال الدين أكثر مما ينص على حقوق الشعب كله، ولم تبين فيه الوسائل الكفيلة بتنفيذ الإشارة الدالة على التقي والصلاح الواردة في المادة رقم 60 من العهد؛ ولقد كان العهد انتصاراً للإقطاع لا للديمقراطية.

كل هذا صحيح ولكنه نص على الحقوق الأساسية وحماها، وقرر عدم إطاعة حبس إنسان بلا محاكمة، كما أقر نظام المحلفين، وأعطى البرلمان الناشئ سلطة على المال اتخذتها الأمة فيما بعد سلاحاً لمقاومة الاستبداد، وبدل الملكية المطلقة ملكية دستورية مقيدة. بيد أن جون لم يفكر قط في أنه قد خلد اسمه بالنزول عن سلطاته ومطالبه الاستبدادية، فقد وقع العهد وهو مرغم، وأخذ غداة توقيعه يأتمر لإلغائه. فقد لجأ إلى البابا، وكانت سياسة إنوسنت الثالث وقتئذ تهدف إلى استعانة إنجلترا على فرنسا، فخف لمعونة تابعه الذليل المهان بأن أعلن أن العهد باطل لا قيمة له، وأمر جون ألا يخضع لشروطه، كما أمر الأشراف ألا ينفذوها، فلما رفض البارونات إطاعة أمره، أصدر قراراً بحرمانهم هم وأهل لندن والثغور الخمسة؛ غير أن استيفن لانجتن الذي كانت له اليد الطولى في صياغة العهد أبى أن ينشر قرار الحرمان؛ وقرر مبعوثو البابا في إنجلترا وقف لانجتن عن العمل، وأذاعوا قرار البابا، وجندوا جيشاً من المرتزقة في فلاندزر وفرنسا، وهاجموا النبلاء الإنجليز، وأعملوا فيهم النار والسيف، والسلب والقتل والفسق. ويبدو أن الأشراف لم يلقوا من الشعب معونة خليقة بأن يعتمدوا عليها؛ ولهذا فإنهم بدل أن يقاوموا الغزاة بقواهم الإقطاعية، دعوا لويس ابن ملك فرنسا ليغزو إنجلترا، ويدافع عنهم، ويستولي على عرش البلاد جزاء له على عمله؛ ولو نجحت هذه الخطة لأصبحت إنجلترا جزءاً من فرنسا. وحذر مبعوثو البابا لويس من عبور القناة، فلما خالف أمرهم حرموه هو وجميع أتباعه من حظيرة الدين. ووصل لويس إلى لندن، وتقبل ولاء البارونات وخضوعهم، ولكن جون انتصر في كل مكان وخارج عن مدينة لندن التجارية، وكان حين ينتصر قاسياً مجرداً من الرحمة، ولكنه وهو في عنفوان نشاطه ونصره أصيب بزحار البطن، واتخذ طريقه وهو في شدة الألم إلى أحد الأديرة، ومات في نيوارك Newark في التاسعة والأربعين من عمره.

وتوج قاصد رسولي ابناً لجون لا يتجاوز السادسة من عمره ملكاً على إنجلترا باسم هنري الثالث (1216-1272)؛ وعين له مجلس وصاية برياسة إيرل بمبروك Pembroke. وشجع الأشراف ارتقاء واحد منهم إلى هذا المنصب، فانحازوا إلى هنري وأرجعوا لويس إلى فرنسا. وشب هنري وكان ملكاً فناناً، خبيراً بالجمال، وكان هو الموحي ببناء دير وستمنستر وواهب المال لهذا البناء. وحسب العهد قوة تعمل على التفكك وحاول إلغاءه ولكنه عجز. وفرض الضرائب على النبلاء وأرهقهم إرهاقاً أوشكوا من أجله أن يثوروا عليه، وكان كلما فرض ضريبة أقسم أنها ستكون آخر الضرائب. وكان البابوات أيضاً في حاجة إلى المال، وأخذوا يجبون العشور من الأبرشيات الإنجليزية برضاء الملك ليمدوا البابوية بالمال في حربها مع فردريك الثاني. وكانت ذكرى هذا الابتزاز هي التي مهدت السبيل لثورة ويكلف Wycliffe وهنري الثاني.

وكان إدوارد الأول (1272-1307) أقل شغفاً بالعلم وأكثر عناية بشئون الملك من أبيه. كان رجلاً طموحاً، قوي الإرادة، صبوراً في الحرب. داهية في السياسة، خبيراً بالفنون العسكرية وجر المغانم، ولكنه يستطيع إذا شاء أن يكون معتدلاً حذراً، بعيد النظر في أهدافه؛ ولهذا كان حكمه من أكثر الأحكام نجاحاً في التاريخ الإنجليزي كله. فقد أعاد تنظيم الجيش، ودرب قوة كبيرة من الرماة على استخدام القوس السمحة، وأنشأ قوة من الجيش المرابط بأن أمر كل إنجليزي قادر على حمل السلاح أن يكون لديه سلاح وأن يتعلم طريقة استخدامه. ولقد وضع بهذا العمل على غير علم منه أساساً عسكرياً للديمقراطية. ولما تمت له هذه القوة فتح بها بلاد ويلز، وكسب اسكتلندة ثم فقدها، ورفض أداء الجزية التي تعهد جون بأدائها للبابوات، وألغى سيادة البابا على إنجلترا، ولكن أهم ما حدث في حكمه هو نمو البرلمان، ولعل إدوارد قد صار بغير رضاه أهم شخصية في أعظم ما حدث في إنجلترا من أعمال جليلة- وهو التوفيق، في الحكم وفي الأخلاق، بين الحرية والقانون.

4- نشأة القانون

وهذه الفترة- من فتح النورمان إلى إدوارد الثاني- هي التي اتخذ فيها قانون إنجلترا واتخذت فيها حكومتها الصورتين اللتين احتفظتا بهما حتى القرن التاسع. فقد أصبح القانون الإنجليزي قومياً للمرة الأولى بعد أن بسط القانون الإقطاعي النورماني سلطانه على القانون الإنجليسكسوني المحلي. فلم يعد القانون الإنجليزي بعدئذ هو قانون إسكس Essex أو مرسيا Mercia أو القانون الدنمرقي بل أصبح "قانون البلاد وعاداتها"، وإن من العسير علينا أن ندرك الآن ما تنطوي عليه هذه العبارة السالفة الذكر حين نطق بهما رانلف ده جلانفيل Ranulf de Glanville (المتوفى عام 1190)(43). ولقد اشتهر القانون الإنجليزي والمحاكم الإنجليزية بفضل الدفعة القوية التي دفع بها هنري الثاني وبفضل قيادة جلانفيل كبير القضاة، اشتهرا بالإنصاف وسرعة الفصل في المنازعات (مع شيء من الفساد والرشوة) شهرة حملت ملوك أسبانيا المتخاصمين على أن يعرضوا منازعاتهم على محاكم إنجلترا(44). ولربما كان جلانفيل هو مؤلف "رسالة في القانون" Tractatus de Legibus التي تعزوها إليه الرواية المأثورة، وسواء كان ذلك أو لم يكن فإن هذه الرسالة هي أقدم ما لدينا من الكتب في القانون الإنجليزي. وبعد نصف قرن من ذلك الوقت (1250-1256) أخرج هنري ده براكتن Henry de bracton أول خلاصة منظمة للقانون الإنجليزي في كتابه "في قوانين إنجلترا وعاداتها" Delegibus et Consuetudinibus Anglise وهو كتاب في خمسة مجلدات ومرجع من أهم المراجع في القانون الإنجليزي.


وكانت حاجة الملك المتزايدة إلى المال والجند هي التي أدت إلى اتساع وتنجموت Witengemot الأنجلوسكسوني حتى أصبح هو البرلمان الإنجليزي. ذلك أن هنري الثالث أراد أن يحصل على المال أكثر مما يرغب في أن يمدوه به، وألا يصبر حتى يوافقوا على طلباته، فاستدعى فارسين من كل مقاطعة لينضموا إلى البارونات والمطارنة في المجلس العظيم الذي عقد في عام 1254. ولما تزعم سيمون ده مونتفورت Simon de Montfort، وهو ابن محارب صليبي من الأسرة الألبجنسية، ثورة قام بها النبلاء على هنري الثالث في عام 1264، أراد أن يضم الطبقات الوسطى إلى قضيته، فلم يكتف بدعوة فارسين من كل مقاطعة بل دعا أيضاً اثنين من المواطنين البارزين من كل قصبة مقاطعة أو كل بلدة لينضموا إلى البارونات في جمعية وطنية. وكان خليقاً بهؤلاء الرجال أن يستشاروا هل يؤدون المال أو يكتنفون بالكلام، وذلك لأن البلدان كانت آخذة في النماء، وكان التجار ذوي مال. وأفاد إدوارد الأول من المثل الذي ضربه له سيمون، فلما أن تورط في الحرب مع اسكتلندة، وويلز، وفرنسا في وقت واحد، اضطر أن يطلب المال من جميع طبقات الأمة، فدعا لهذا الغرض "البرلمان النموذجي" في عام 1295 وهو أول برلمان كامل في تاريخ إنجلترا. وقال في مرسوم الدعوة إن "ما يمس الناس جميعاً يجب أن يوافقوا جميعاً عليه، وإن الأخطار العامة يجب أن تقابل بوسائل يتفقون عليها جميعاً"(45). ولهذا دعا إدوارد اثنين من أهل "كل مدينة، وقصبة مقاطعة، وبلدة كبيرة" للحضور في المجلس الأكبر الذي سيعقد في وستمنستر، ونص على أن يختار أولئك الرجال ذوو المكانة من المواطنين في كل منطقة، ذلك أنه لم يكن أحد يحلم وقتئذ بحق الانتخاب العام في مجتمع لا تعرف القراءة فيه إلا أقلية صغيرة، بل إن "العامة" في "البرلمان النموذجي" نفسه لم يكن لهم من السلطان ما للأشراف. ولم يكن قد وجد بعد برلمان سنوي يجتمع بمحض إرادته ويكون هو المصدر الوحيد للتشريع. ولكن اتفق في عام 1195 على المبدأ القائل بأن القانون الذي يقره البرلمان لا يمكن أن يلغيه إلا البرلمان، ثم اتفق في عام 1297 على ألا تجبى الضرائب إلا بعد موافقة البرلمان؛ هذه هي المبادئ البسيطة التي قامت عليها أكثر الحكومات ديمقراطية في تاريخ العالم.

ولم يحضر رجال هذا البرلمان الواسع إلا وهو كارهون. وكانوا يجلسون فيه منفصلين عن سائر الطبقات، ويأبون أن يقترعوا على الأموال المطلوبة إلا في جمعياتهم الإقليمية، وظلت المحاكم الكنسية تنظر في جميع القضايا التي للقانون الكنسي شأن فيها، وفي معظم القضايا التي يكون أحد رجال الدين طرفاً فيها. وكان في الاستطاعة محاكمة رجال الدين إذا ارتكبوا جناية كبرى أمام السلطات الزمنية؛ أما من يحكم عليهم في جرائم أقل من جريمة الخيانة العظمى فكانوا حسب "ميزات رجال الدين" يسلمون إلى محكمة كنسية من حقها وحدها أن تعاقبهم على جرائمهم. يضاف إلى هذا الكثرة الغالبة من القضاة كانت من رجال الكنيسة، لأن دراسة القانون كانت مقصورة في الغالب على رجال الدين. ثم أصبحت المحاكم الدينية في عهد إدوارد الأول أكثر مدنية مما كانت قبله، ولما امتنع رجال الدين عن أن ينضموا إلى غيرهم من الطبقات في الاقتراع على الأموال المطلوبة، قال إدورد الأول إن على الذين يتمتعون بحماية الدولة أن يتحملوا نصيبهم من أعبائها، ثم أمر محاكمه ألا تنظر في القضايا التي يكون المدعي فيها أحد رجال الكنيسة، وأن تنظر في كل قضية يكون أحد رجال الكنيسة هو المدعي عليه فيها(46). وزاد مجلس إدوارد المنعقد في سنة 1279 على هذا بأن حرم بمقتضى قانون مورتمين Mortmain أن تمنح الهيئات الكنسية أرضاً بغير موافقة الملك.

ونما القانون الإنجليزي نمواً سريعاً في أيام وليام الأول، وهنري الثاني، وجون، وإدوارد الأول على الرغم من تعدد جهات الاختصاص على النحو السالف الذكر. وكان هذا القانون إقطاعياً محضاً شديد الوطأة على رقيق الأرض، فقد كانت الجرائم التي يرتكبها الأحرار على أرقاء الأرض يعاقب عليها بالغرامة؛ وكان القانون يجيز للنساء أن يمتلكن المال ويورثنه ويتصرفن فيه بالوصية، كما أجاز لهن أن يتعاقدن، ويقاضين غيرهن ويُقاضين، وجعل من حق المرأة أن ترث ثلث أملاك زوجها العقارية بعد وفاته، ولكن جميع المنقولات التي جاءت بها إلى البيت وقت زواجها، أو حصلت عليها في أثناء الزواج، تصبح ملكاً للزوج(47). وكانت الأرض كلها من الناحية القانونية ملكاً للملك ينالها أصحابها منه إقطاعياً. وكانت ضيعة السيد الإقطاعي كلها في العادة يوصي بها لأبنه الأكبر، ولم يكن يقصد بهذا أن تبقى الأملاك غير مجزأة، بل يقصد به فوق ذلك حماية السيد الإقطاعي الأعلى من تجزئة التبعة الإقطاعية في جباية المكوس وأداء التزامات الحرب. أما الفلاحون الأحرار فلم يكن ثمة قانون يلزمهم بأن يورثوا أملاكهم أكبر أبنائهم.

وظل قانون التعاقد غير ناضج في هذا التشريع الإقطاعي. وكانت محكمة للمقاييس والموازين تحدد مستوى الموازين، والمقاييس، والنقود؛ وتفرض رقابة الدولة على استعمالها. وبدأ التشريع التجاري المستنير في إنجلترا "بقانون التجار" (1283) و"عهد التجار" Carta Mercatoria (1203)- وهما عملان جليلان آخران من الأعمال التي تمت في عهد إدوارد الأول.

وتحسنت طرق الإجراءات القانونية تحسناً بطيئاً، واتبعت لتنفيذ القوانين عدة وسائل، فجعل لكل حي "رقيب" ولكل حاضرة إقليم شرطي (كنستبل Constable) ولكل إقليم حاكم. وكان القانون يفرض على جميع الرجال أن يرفعوا عقيرتهم "بصرخة وزعقة" إذا شهدوا اعتداء على القانون، وأن يشتركوا في مطاردة المعتدي، وأجيزت الكفالة. ومن فضائل القانون الإنجليزي أن التعذيب لم يكن يلجأ إليه في مناقشة المتهمين أو الشهود. من ذلك أنه لما أغرى فليب الرابع ملك فرنسا إدوارد الثاني بأن يقبض على فرسان المعبد الإنجليز، ولم يجد هذا الملك دليلاً يأخذهم به، كتب البابا كلمنت الخامس، بتحريض فليب بلا ريب، إلى إدوارد يقول: "ترامى إلينا أنك تحرم التعذيب لأنه مخالف لقانون بلدك، ولكن ما من قانون للدولة يمكن أن يسمو على القانون الكنسي، قانوننا. ولهذا آمرك أن تعذب هؤلاء الرجال"(48). وخضع إدوارد لأمر البابا، ولكن التعذيب لم يلجأ إليه مرة أخرى في الإجراءات القانونية الإنجليزية إلا في عهد ميري "اللعينة" (1553-1558).

وأدخل النورمان إلى إنجلترا نظام الفرنجة القديم، نظام التحقيق القضائي أمام المحلفين، وهم طائفة من المواطنين المحليين، وذلك في شئون الأقاليم المالية والقانونية. وارتقت محكمة كلارندن (حوالي عام 1166) بنظام "المحلفين" بـأن أجازت للمتقاضين ألا يقرروا صدقهم أو كذبهم عن طريق القتال، بل أمام لجنة محكمين مؤلفة من اثني عشر فارساً يختارهم من بين المواطنين في الإقليم أمام المحكمة نفسها أربعة من الفرسان يعينهم حاكم الإقليم. وكانت هذه هي الدورة القضائية الكبرى، أما في الدورة الصغرى التي كانت تعقد للنظر في القضايا العادية فكان حاكم الإقليم نفسه يختار اثني عشر من أحرار الإقليم المجاور للمحكمة. وكان الناس وقتئذ يعارضون في نظام المحلفين كما يعارضونه الآن، ولم يكن يدور بخلدهم قط أن هذا النظام سيصبح أساساً من أسس الديمقراطية. ولم ينته القرن الثالث عشر حتى كان حكم المحلفين قد حل في إنجلترا كلها تقريباً محل أنظمة التحقيق القديمة التي كانت تجري حسب الشريعة الهمجية.

5- البلاد الإنجليزية

كانت تسعة أعشار إنجلترا في عام 1300 ريفاً، وكان بها مائة بلدة تعد في نظر المدائن التي خلفتها في هذه الأيام قرى صغيرة، وكان بها مدينة واحدة هي لندن تزهو على غيرها بسكانها البالغين أربعين ألفاً(49)- أي أربعة أضعاف أية مدينة أخرى في ذلك الوقت، ولكنها أقل كثيراً في ثروتها وجمالها من باريس، أو بروج، أو البندقية، أو ميلان، دع عنك القسطنطينية أو بالرم، أو روما. وكانت بيوتها من الخشب، تعلو طبقتين أو ثلاث طبقات، ذات سقف هرمية، وكثيراً ما كانت الطبقات العليا تبرز عن الطبقات التي تحتها. وكانت قوانين المدن تحرم إلقاء فضلات المطابخ، أو حجر النوم، أو الحمامات من النوافذ، ولكن سكان الطبقات العليا كثيراً ما كانوا يلجئون إلى هذه الوسيلة الهينة للتخلص من فضلاتهم. وكانت مياه المنازل القذرة تتخذ طريقها إلى مياه المطر التي تجري عند حافة الإفريز، وكان إلقاء البراز في هذه المياه الجارية محرماً أما البول فكان إلقاؤه فيه مسموحاً به (50). وكانت المجالس البلدية تبذل جهدها لتحسين وسائل الصحة العامة- فكانت تأمر أهل المدن بتنظيف الشوارع أمام بيوتهم، وتفرض الغرامات على من يهملون منهم أمرها هذا، وتستأجر عمالاً يجمعون الفضلات والأقذار ويحملونها في عربات إلى قوارب الفضلات في نهر التاميز. وكان كثيرون من السكان يربون الخيل، والماشية، والخنازير، والدجاج، ولكن هذا العمل لم يكن كثير الضرر، لأن الأماكن الخالية كانت كثيرة، ولأن كل بيت تقريباً كانت له حديقة. وكانت تقوم في أماكن متفرقة أبنية من الحجارة، مثل كنيسة المعبد Temple Church، ودير وستمنستر، وبرج لندن الذي بناه وليم الفاتح ليحمي عاصمته ويضع فيه المسجونين الممتازين. وكان أهل لندن من ذلك الوقت البعيد يفخرون بمدينتهم، وسرعان ما قال عنهم فرواسار Froissart "إنهم أعظم خطراً من جميع سكان بقية إنجلترا، لأنهم أقوى أهل البلاد مالاً ورجالاً"، ووصفهم الراهب تومس الولسنجهامي Thomas of Walsingham بأنهم "يكادون يكونون أكثر الناس كبرياء، وغطرسة، وشرهاً، وأقلهم استمساكاً بالعادات القديمة وإيماناً بالله"(51).


وأنتج امتزاج سلالات النورمان، والأنجليسكسون، والدنمرقيين، والكلت، ولغاتهم، وأساليبهم في الحياة، أنتج هذا الامتزاج الأمة الإنجليزية، واللغة الإنجليزية، والأخلاق الإنجليزية. ولما انفصلت نورمندية عن إنجلترا، نسيت أسر النورمان المقيمة في إنجلترا بلاد نورمندية، وتعلمت حب بلادها الجديدة. وظلت صفات الكلت الصوفية الشعرية باقية، وبخاصة عند الطبقات الوسطى، ولكنها قد خفف منها بأس النورمان ودينونتهم، وظل في مقدور البريطاني الناشئ من هذا المزيج، وسط نزاع الأمم، والطبقات، وكوارث القحط والوباء، ظل في مقدور البريطاني أن يجعل من "إنجلترا المرحة"، كما يسميها هنري الهنتنجدوني Henry Huntingdon (1084-1155) أمة جمة النشاط، والفكاهة النابية، والألعاب الصاخبة، والرفقة الطيبة، والمحبة للرقص والأغاني الشعرية، والجعة. ومن هذه الأصلاب والأجيال القوية نشأت شهوانية حجاج تشوسر Chaucer العارمة، والعبارات الطنانة المزوقّة التي كان ينطق بها رجال العصر الإلزبيثي المتفاخرون.


الفصل التاسع: إنجلترا - إسكتلندة - ويلز (1066-1318)

جلس هنري الثاني على عرش إنجلترا في عام 1154 وتولى البابوية في العام نفسه إنجليزي يدعى نقولاس بريكسبير Nicholas Breakspear وسمي باسم هدريان الرابع. وبعد عام من ذلك الوقت بعث هنري جون السلزبري إلى روما برسالة تنم عن كثير من الدهاء قال فيها إن أيرلندة في حال يرثى لها من الفوضى السياسية، والاضمحلال الأدبي، والانحطاط الخلقي، وعدم الاستقلال الديني والانحلال. وسأل البابا هل يسمح له بالاستيلاء على هذه الجزيرة التي تسودها النزعة الفردية، ويعيد إليها النظام الاجتماعي، ويرغمها على طاعة البابا هنري إلى طلبه، إذا جاز لنا أن نصدق جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis وأصدر مرسوماً بابوياً منح فيه هنري أيرلندة، مشترطاً عليه أن يعيد إليها الحكومة النظامية، وأن يجعل رجال الدين الأيرلنديين اكثر تعاوناً مع روما، وأن يُفرض بنس واحد، أي ما يعادل الآن (83slash100 من الدولار الأمريكي) في كل عام على كل بيت في أيرلندة يؤدي إلى كرسي القديس بطرس(52). ولم تكن مشاغل هنري وقتئذ تمكنه من أن يفيد من حالة الفوضى السائدة في أيرلندة، ولكنه ظل متحفزاً للإفادة منها.

وحدث في عام 1166 أن هزم تيرنان أورورك Tiernan o'Rourke، ملك بوفني Benfni درموت ماك مرو Dermot Mac Murrough ملك لينستر في حرب قامت بين الملكين لأن ثانيهما أغوى زوجة الأول. ولما طرد رعايا درموت مليكهم من البلاد فر هو وابنته الحسناء إيفا Eva إلى إنجلترا وفرنسا، وحصل على خطاب من هنري الثاني يؤكد فيه عطفه على فرد من رعاياه يساعد درموت على استرداد عرش لينستر. وكانت نتيجة هذا التأكيد أن تلقي درموت من رتشرد فتز جلبرت Richdrd Fitz Gilbert إيرل بمبروك بويلز الملقب "بالقوس السمحة" وعداً بالمساعدة العسكرية إذا تعهد له بأن يزوجه بإيفا وأن يخلفه على عرش مملكة درموت. وزحف رتشرد في عام 1169 على رأس قوة صغيرة من أهل ويلز إلى أيرلندة، وأعاد درموت إلى عرشه بمساعدة قساوسة لينستر، ولما توفي درموت (1171) ورث مملكته. فما كان من روري أكنور Rory o' Connor ملك أيرلندة الأعلى وقتئذ إلا أن سار على رأس جيش لقتال الغزاة من أهل ويلز، وحاصرهم في دبلن وسد عليهم جميع المسالك. وهجم المحاصرون هجمة صادقة على الأيرلنديين وفكوا الحصار، وفر الإيرلنديون السيئو التدريب الناقصو العتاد. واستدعى هنري الثاني رتشرد فعبر البحر إلى ويلز، وقابل الملك، ووافق على أن يسلمه دبلن وغيرها من الثغور الأيرلندية، وأن يتولى ما بقي من لينستر إقطاعية من التاج البريطاني. ونزل هنري إلى البر قرب ووترفورد Waterford (1171) على رأس قوة تبلغ أربعة آلاف رجل، وتلقي معونة رجال الدين الأيرلنديين، وقدمت له أيرلندة كلها عدا كونوت Connought وألسستر Ulster فروض الولاء، وتبدل فتح ويلز لأيرلندة فتحاً نورمانياً- إنجليزياً دون إراقة دماء. وعقد المطارنة الأيرلنديون مجلساً دينياً أعلنوا فيه خضوعهم للبابا خضوعاً تاماً، وقرروا أن تكون شعائر الكنيسة الأيرلندية من ذلك الحين متفقة مع شعائر كنيستي إنجلترا وروما. وسمح للكثرة الغالبة من ملوك أيرلندة أن يحتفظوا بعروشهم، على شريطة أن يعلنوا ولاءهم الإقطاعي لملك إنجلترا، وأن يؤدوا إليه جزية سنوية.

ونال هنري بغيته بمهارة فائقة واقتصاد في المال والأرواح، ولكنه أخطأ إذ ظن أن القوة التي تركها وراءه تستطيع المحافظة على السلم والنظام. يضاف إلى هذا أن عماله أخذوا يقتتلون لاقتسام الغنائم، كما شرع أعوانهم وجنودهم ينهبون البلاد دون أن تفرض عليهم إلا أقل رقابة، وسخر الفاتحون جهودهم لتحويل أهل أيرلندة إلى أرقاء أرض. وعمد الأيرلنديون إلى حرب العصابات يقاومون بها الفاتحين، وكانت نتيجة هذا أن هوت البلاد في وهدة الفوضى والدمار، وظلت ذلك قرناً من الزمان، حتى عرض بعض الزعماء الأيرلنديين بلادهم على اسكتلندة في عام 1315. وكان ربرت بروس Robert Bruce الاسكتلندي قد هزم الإنجليز توا عند بنكبيرن Bannockbnrn قبل ذلك. ونزل إدوارد أخو روبرت في أيرلندة ومعه ستة آلاف رجل؛ وأصدر البابا يوحنا الثاني عشر قراراً بحرمان كل من يساعد الأسكتلنديين، ولكن لأيرلنديين جميعهم تقريباً ثاروا إجابة لنداء إدوارد، وتوجوه ملكاً على البلاد في عام 1316. ولكنه هزم وقتل بعد عامين من ذلك الوقت، وأخفقت الثورة وسط مظاهر الفقر واليأس.

ويقول رانلف هجدن Ranulf Higden، وهو رجل بريطاني عاش في القرن الرابع عشر، إن الاسكتلنديين شعب "مرح"، رجاله أقوياء، غلاظ إلى حد كبير، ولكنهم إذا امتزجوا بالإنجليز صلحت حالهم كثيراً. وهم قساة على أعدائهم، يكرهون القيود أكثر من كراهيتهم كل شيء آخر، ويرون أن العار كل العار أن يموت منهم رجل في فراشه، والفخر كل الفخر أن يموت في ميدان القتال(53).

وبقيت أيرلندة أيرلندية ولكنها فقدت حريتها، وأصبحت اسكتلندة بريطانية ولكنها بقيت حرة؛ وتضاعف عدد الإنجليز، والسكسون، والنورمان في الأراضي المنخفضة، وأعادوا تنظيم الحياة الزراعية حسب الأساليب الإقطاعية. وكان ملكولم الثالث Malcolm III (1058-1093) رجلاً محارباً غزا إنجلترا عدة مرات، ولكن زوجته الملكة مرجريت كانت أميرة أنجليسكسونية نشرت اللغة الإنجليزية في البلاط الاسكتلندي، وجاءت إلى البلاد برجال الدين الذين يتكلمون اللغة الإنجليزية، وربت أبناءها على أسس التربية الإنجليزية واتخذ دافد الأول David I، (1126-1153) آخر هؤلاء الأبناء وأقواهم الكنيسة أداته المختارة لحكم البلاد، وأنشأ في كلسو Kelso، ودراي بيرج Dryburgh، وملروز Melrose، وهولي رود Holyrood أديرة يتكلم رهبانها اللغة الإنجليزية، وجبى العشور (للمرة الأولى في اسكتلندة) لمعونة الكنيسة، وأغدق المال على الأساقفة ورؤساء الأديرة إغداقاً جعل الناس يحسبونه من القديسين وإن لم يكن منهم؛ وأضحت اسكتلندة في عهد دافد الأول كلها عدا مرتفعاتها ولاية إنجليزية(54).

لكنها لم تكن أقل استقلالاً مما كانت قبل، فقد استحال المهاجرون الإنجليز اسكتلنديين محبين لوطنهم الجديد، وخرج من بينهم آل استيورت Stuart وآل بروس Bruce. وغزا دافد الأول نورثمبرلند وافتتحها، ثم فقدها ملكولم الرابع (1153-1165)؛ وحاول وليم الأسد William the Lion (1165-1214) أن يستردها، فـأسره هنري الثاني ولم يطلقه إلا بعد أن تعهد بإخضاع التاج الاسكتلندي لملك إنجلترا (1174). وبعد خمسة عشر عاماً من ذلك الوقت استطاع أن يتحلل من هذا العهد بأن ساعد رتشرد الأول بالمال في الحرب الصليبية الثالثة، ولكن الملوك الإنجليز ظلوا يطالبون بسيادتهم الإقطاعية على اسكتلندة. واسترد اسكندر الثالث (1249-1268) جزائر هبريدة Hebrides من النرويج، واحتفظ بصلات الود والصداقة مع إنجلترا، ووهب اسكتلندة عصراً ذهبياً يسوده السلم والرخاء.

وتنازع ربرت بروس، وجون بليول John Balliol ولدا دافد الأول على العرش بعد وفاة اسكندر. وانتهز إدوارد الأول ملك إنجلترا هذه الفرصة وتدخل في النزاع وأصبح بليول ملكاً على اسكلندة بفضل تأييده له، واعترف بسيادة إنجلترا العليا على بلاده (1292). فلما أمر إدوارد بليول أن يجهز جيشاً ليقاتل مع إنجلترا في فرنسا، تمرد النبلاء والأساقفة الاسكتلنديون، وأمروا بليول أن يعقد حلفاً مع فرنسا على إنجلترا (1295)، وهزم إدوارد الاسكتلنديين عند ودنبار (1296)، وتقبل خضوع أشراف البلاد، وخلع بليول عن العرش، وعين ثلاثة من الإنجليز ليحكموا اسكتلندة بالنيابة عنه، وعاد بعد ذلك إلى إنجلترا.

وكان كثيرون من النبلاء الاسكتلنديين يملكون أرضاً في إنجلترا، فكان عليهم لهذا السبب واجب الطاعة لمليكها. ولكن قدماء الغاليين الاسكتلنديين ساءهم هذا الاستسلام أشد الاستياء، فأعد واحد منهم يدعى وليم ولاس Willaim Wallace جيشاً من عامة الاسكتلنديين"، وبدد شمل الحامية الإنجليزية، وظل عاماً كاملاً يحكم إنجلترا نائباً عن بليول. ثم عاد إدوارد وهزم ولاس في فولكيرك Falkirk (1298)، وقبض عليه في 1305، وأمر به فبقرت بطنه وقطعت أطرافه عملاً بقانون الخيانة الإنجليزي.

وأرغم مدافع آخر عن استقلال أيرلندة على الخروج إلى الميدان بعد عام من ذلك الوقت. ذلك أن روبرت بروس حفيد بروس الذي كان يطالب بالعرش في عام 1286 تنازع مع جون كومين John Comn، من كبار ممثلي إدوارد الأول في اسكتلندة، وقتله. ولم يكن أمام بروس بعد هذا العمل إلا العصيان، فتوج نفسه ملكاً على اسكتلندة، وإن لم يؤيده إلا نفر من أعيان البلاد، وإن كان البابا قد حرمه جزاء له على جريمته. وزحف إدوارد مرة أخرى صوب الشمال ولكنه مات في الطريق (1307). وكان عجز إدوارد الثاني نعمة على بروس وبركة، فقد انضوي رجال اسكتلندة ورجال الدين فيها تحت لواء طريد القانون، واستولت جيوشه يقودها أخوه إدوارد وسير جيمس دجلاس Sri James Douglas ببسالة عظيمة على إدنبرة، وغزت نورثمبرلند، وانتزعت درهام من الاسكتلندين. وزحف إدوارد الثاني في عام 1304 على اسكتلندة بأكبر جيش شهدته البلاد في تاريخها الماضي كله، والتقى بالاسكتلنديين عند بنكبيرن Bannockburn. وكان بروس قد أمر رجاله بأن يحفروا أمام موقعه حفراً يخفونها عن الأعين، فلما هجم عليه الإنجليز سقط الكثيرون منهم في هذه الحفر، وهلك الجيش الإنجليزي حتى لم يكد يبقى منه أحد. واشتبك الأوصياء على إدوارد الثالث في حرب مع فرنسا في عام 1328، ووقعوا معاهدة نورثمبتون Northampton، وتحررت اسكتلندة مرة أخرى.

وقام في هذه الأثناء نزاع آخر في ويلز أسفر عن نتيجة تختلف عن النتيجة السابقة. ذلك أن وليام الأول طالب بالسيادة عليها بوصف كونها جزءاً من مملكة هرولد Harold المنهزم. ولم يتسع له الوقت لضمها إلى فتوحه، ولكنه أقام على حدودها الشرقية ثلاث مقاطعات على رأس كل منها إيرل Earl، وشجع رؤساء هذه المقاطعات على أن يوسعوا حدودها في ويلز. وكان القراصنة النورمان يجتاحون وقتئذ ويلز الجنوبية، وهم الذين تركوا فتز Fitz (أي ابن) في بعض أسماء أهل تلك البلاد. ثم أخضع كدرجان آب بلدين Cadwgan ap Blepyn أولئك النورمان في عام 1094؛ وهزم أهل ويلزا الإنجليز عند كروين Corwen في عام 1165؛ وشغل هنري الثاني بالنزاع مع بكت، فاعترف باستقلال ويلز الجنوبية تحت حكم مليكها المستنير رايس آب جرفيد Rhys ap Graffyn، (1171)، وبسط لويلين الأكبر Llywelyn the Great حكمه على جميع البلاد بفضل مقدرته العظيمة في الحرب والسياسة؛ ثم تنازع أبناؤه فيما بينهم وأشاعوا الاضطراب في أنحاء البلاد، ولكن حفيده لويلين آب جرفيد (المتوفى عام 1282) رد إلى البلاد وحدتها، وعقد الصلح مع هنري الثالث، وأنشأ لنفسه لقب أمير ويلز. وعقد إدوارد الأول عزمه على أن يضم ويلز واسكتلندة إلى إنجلترا، فغزا ويلز بجيش ضخم وعمارة بحرية قوية (1282)؛ وقُتِل لويلين حين التقى مصادفة بقوة صغيرة على الحدود، وقبض إدوارد على أخيه دافد، وعلق رأسه بعد أن فصل عن جسمه هو ورأس لويلين من برج لندن، وتركهما حتى نحلت شعرهما الشمس والرياح والأمطار. وأضحت ويلز جزءاً من إنجلترا (1284)، وخلع إدوارد في عام 1301 لقب أمير ويلز على ولي عهد إنجلترا.

واحتفظ أهل ويلز في أثناء هذا الارتفاع والهبوط بلغتهم وعاداتهم، وظلوا يفلحون أرضهم الصلبة بشجاعة وجلد، ويسلون أنفسهم في الليل والنهار بالأقاصيص، والشعر، والموسيقى، والغناء. وصاغ شعراؤهم في ذلك الوقت قصص مابينوجيون Mabinogion، ومزجوا الأدب مزجاً فذاً مقطوع النظير بالحنان الصوفي ذي النغم الجميل. وكان الشعراء والمغنون الجائلون يجتمعون في كل عام في مجلس وطني نستطيع أن نرجع بتاريخه إلى عام 1176، تعقد فيه المباريات في الخطابة، والشعر، والغناء، والعزف على الآلات الموسيقية؛ وكان أهل ويلز مقاتلين بواسل، ولكنهم لم يكونوا يصبرون على الحرب الطويلة الأمد، وكانوا يتوقون إلى العودة إلى أوطانهم يحمون بأنفسهم نساءهم وأطفالهم وبيوتهم، وكان من أمثالهم مثل يتمنون فيه أن يكون "كل شعاع من أشعة الشمس خنجراً يطعن صدور المحبين للحرب"(55).

الفصل العاشر: بلاد نهر الرين (1066-1315)

كانت الأقاليم المحتشدة حول حوض الرين الأدنى ومصابه الكثيرة من أغنى أقاليم العالم في العصور الوسطى. فقد كان في جنوب الرين إقليم فلاندرز الممتد من كاليه Calais مخترقاً بلجيكا الحالية إلى نهر الشلد Sheldt. وكان هذا الإقليم من الوجهة الرسمية إقطاعية من ملك فرنسا، ولكنه كان من الوجهة الفعلية تحت حكم أسرة مالكة من النبلاء المستنيرين لا يحد من سلطتهم إلا ما كان للمدن من استقلال ذاتي تفخر به. وكان الأهلون القريبون من الرين ينتمون إلى العنصر الفلمنكي، وأصلهم من عنصر ألماني يسكن البلاد المنخفضة ويتكلمون لهجة ألمانية؛ أما من كانوا يقطنون في غرب نهر ليس Lys فكانوا من الولون Walloons- وهم خليط من الألمان والفرنسيين امتزجوا بأصل كلتي- ويتكلمون لهجة فرنسية. وأثرت غنث وأودنارد Audenaarde، وكورتربه، وإيبرس، وكاسل Kassel في الإقليم الشمالي الشرقي الفلمنكي؛ وبروج، وليل، ودويه في الإقليم الجنوبي الغربي الولوني، أثرت هذه البلدان من تجارتها وصناعتها وإن كانتا قد سببتا لها الاضطراب. وكانت كثافة السكان في هذه المدن أكثر منها في سائر المدن الأوربية القائمة في شمال جبال الألب، وكانت هذه المدن تسيطر على حكامها الأشراف في عام 1300؛ فقد كان قضاة المقاطعات الكبرى يؤلفون من بينهم محكمة عليا للبلاد ويتفاوضون مستقلين مع المدن والحكومات الأجنبية(56). وكان أولئك الحكام الأشراف في العدة يتعاونون مع المدن، ويشجعون التجارة والصناعة، وكانت لهم عملة مستقرة، ووضعوا منذ عام 1100- أي قبل إنجلترا بمائتي عام- نظاماً عاماً للمقاييس والموازين يعمل به في جميع المدن.

لكن حرب الطبقات قضت في آخر الأمر على حرية المدن وحرية حكامها الأشراف. والسبب في ذلك أن صعاليك المدن زاد عديدهم، واشتد غضبهم وسلطانهم، وأن الحكام الأشراف انضموا إليهم ليناهضوا بهم الطبقة الوسطى الغنية المغترة بنفسها؛ فلجأ التجار إلى فليب أغسطس يطلبون إليه المعونة، فوعدهم بها يرجو بذلك أن يخضع فلاندرز إلى التاج الفرنسي خضوعاً أتم من ذي قبل. وكانت إنجلترا تحرص على أن تبقى أهم سوق تصرف فيها صوفها بعيدة عن سيطرة ملك فرنسا، فعقدت حلفاً مع حكام فلاندرز، مع هينولت Hainault دوق برابانت Brabant وأتو الرابع Otto IV إمبراطور ألمانيا. وهزم فليب جيوش هذا الحلف عند بوفين (1214)، وأخضع حكام فلاندرز، وحمى النظام الألجركي للتجار. ولم ينقطع نزاع السلطات والطبقات بعد هذه الهزيمة؛ حتى إذا كان عام 1297 تحالف الكونت جي ده دمبيير Guy de Dampierre مرة أخرى مع فلاندرز وإنجلترا؛ فما كان من فليب الجميل إلا أن غزا فلاندرز، وزج جي في السجن، وأرغمه على تسليم البلاد إلى فرنسا. فلما أن زحف الجيش الفرنسي لاحتلال بروج، ثار العامة عليه، وهزموا الجنود، وذبحوا أغنياء التجار، واستولوا على المدينة. وبعث فليب بجيش قوي ليغسل هذه الإهانة التي لحقته؛ وألف عمال المدن من أنفسهم جيشاً مرتجلاً عاجلاً هزموا به الفرسان والجنود المرتزقة التي بعثت بها فرنسا في معركة كورتريه (1302)؛ واخرج جي ده دمبيير الشيخ من سجنه وأعيد إلى منصبه، واستمتع الحلف العجيب بين الحكام الأشراف والصعاليك الثوار بالنصر عشر سنين.

وظلت البلاد المعروفة لنا الآن باسم هولندة جزءاً من مملكة الفرنجة من القرن الثالث حتى التاسع؛ ثم أصبحت في عام 843 هي الطرف الشمالي لدولة لورين الحاجزة التي أنشأتها معاهدة فردون Verdun. وقسمت تلك البلاد في القرنين التاسع والعاشر إقطاعيات كي تستطيع صد غارات الشماليين. وقطع الألمان الأشجار من الإقليم الكثيف الغابات الواقع في شمال نهر الرين، واستقروا فيه، وأطلقوا عليه اسم هولندة، أي أرض الغابات. وكان معظم أهله أرقاء أرض، منهمكين في كدحهم لانتزاع القوت من أرضين لابد لهم أن يقيموا الحواجز حولها لوقايتها من ماء البحر أو لتجفيفها بعد أن تطغى المياه عليها. غير أنها كانت تضم أيضاً مدناً ليست كالمدن الفلمنكية ثروة أو اضطراباً، بل تعتمد اعتماداً سليماً على الصناعة المستقرة والتجارة المنتظمة. وكانت دوردرخت Dordrecht أكثر هذه المدن رخاء؛ كما كانت أوترخت Utrecht مركزاً للعلوم، وهارلم مقر كونت هولندة؛ وأضحت دلفت Delft عاصمة البلاد إلى حين، ثم انتقلت العاصمة حوالي عام 1250 إلى لاهاي The Hague . وكان أول ظهور أمستردام في عام 1204 حين شاد أحد الأعيان الإقطاعيين قصراً حصيناً عند مصب نهر أمستل Amstel؛ واجتذب هذا الموقع الأمين على الزيدرزي Zuider Zee والقنوات الكثيرة التي تخترقه في كل مكان- اجتذب هذا الموقع التجارة، ثم جعلت المدينة في عام 1297 ثغراً حراً تفرغ فيه المتاجر ويعاد شحنها دون أن تؤدي ضرائب جمركية؛ وأضحى لهولندة الصغيرة من ذلك الحين شأن عظيم في شئون العالم الاقتصادية، وفيها غذت التجارة الثقافة كما يحدث في غيرها من البلدان، فنحن نسمع في القرن الثالث عشر عن شاعر هولندي مارلانت Maerlant، يهجو حياة رجال الدين المترفين هجاء لاذعاً. وبدأ الفن الهولندي حياته الفذة العجيبة في الأديرة، وكان يشمل النحت، وصناعة الخزف، والتصوير، وتزيين الكتب.

وكانت دوقية برابانت تقوم إلى جنوب هولندة، وكانت تشمل وقتئذ مدائن أنفرس Antwerp، وبركسل ولوفن Louvain. أما لييج فكان يحكمها أساقفتها حكماً مستقلاً، وكانوا يتركون لها قسطاً كبيراً من الحكم الذاتي؛ وكان إلى جنوب برابانت مقاطعات هينولت، ونامور Namur، ولمبرج Limburg، ولكسمبرج؛ ثم دوقية لورين ومدائنها تريير Trier، ونانسي Nancy، ومتز؛ ثم عدة إمارات أخرى خاضعة خضوعاً اسمياً لإمبراطور ألمانيا، ولكنها كانت متروكة في الأغلب الأعم لأشرافها الحكام. وكان لكل من هذه الأقاليم تاريخه الحافل بأحداث السياسة، والحب، والحرب؛ فلنودعها ولننتقل إلى غيرها. وكان في جنوبها وغربها إقليم برغندية التي تكون الآن الجزء الشرقي من وسط فرنسا؛ وكانت حدودها تتبدل على الدوام تبدلاً لا يشجعنا على تعيينها، أما أحداثها السياسية فإنها تتبدل على الدوام تبدلاً لا يشجعنا على تعيينها، أما أحداثها السياسية فإنها كفيلة بأن تملأ مجلدات ضخمة عديمة الفائدة. وحسبنا أن نقول عنها إن رودلف الأول جعلها مملكة مستقلة في عام 888؛ وإن رودلف الثالث أوصى في عام 1032 بضمها إلى ألمانيا. ولكن جزءاً منها ضم فرنسا في هذا العالم نفسه وأصبح دوقية تابعة لها. وكان أدواق برغندية، كما كان ملوكها السابقون يحكمونها، حكماً يدل على الحكمة والذكاء، وكانت الكثرة الغالبة منهم تحرص على السلم. ويقع أزهى عصورهم في القرن الخامس عشر.

وكانت سويسرا في العصور القديمة موطن عدد من القبائل المختلفة- الهلفيتي Helvetii، والرئيتي Raeti، والليبنتي Lepouti- وهم خليط من الأصول الكلتية، والتيوتونية، والإيطالية. واحتلت قبائل الألماني Alemani الهضبة الشمالية وصبغتها بالصبغة الألمانية؛ ثم قسمت البلاد بعد انهيار الدولة الكارولنجية إلى إقطاعيات خضعت للدولة الرومانية المقدسة. غير أن استعباد سكان الجبال من أشق الأعمال، ولذلك فإن أهل سويسرا سرعان ما حرروا أنفسهم من الاسترقاق الإقطاعي وإن ظلوا يؤدون بعض الالتزامات الإقطاعية. وكان أهل القرى المجتمعون في جمعيات ديمقراطية يختارون موظفيهم، ويحكمون أنفسهم بمقتضى الشرائع الألمانية القديمة شرائع الألماني Alemanni والبرغنديين. وألف الفلاحون المجاورون لبحيرة لوسرن Lucerne "مقاطعات غابية" (Waldst?lte) للدفاع المتبادل- وهذه المدن هي: أوري Uri، وندولدن Nidewalden، وشويز Schwyz. ومن هذه المدينة الأخيرة اشتق اسم دولة سويسرا. وكان الأهلون الأشداء سكان المدن التي نشأت عند ممرات الألب- جنيف، وكنستانس، وفريبورج، وبيرن، وبازل- ينتخبون موظفيهم، وينفذون قوانينهم الخاصة بهم، ولم يكن سادتهم الإقطاعيون يعترضون على هذا الأسلوب من الحكم، ما دامت الضرائب الإقطاعية الأساسية تؤدي لهم.

غير أن كونتات آل هبسبرج الذين كانوا يسيطرون على الأقاليم الشمالية منذ عام 1173 لم يكونوا يسيرون على هذه القاعدة، ولما أن حاولوا فرض الالتزامات الإقطاعية بأشد ضروب القسوة، أغضبوا أهل شويز، فألفت الثلاث المقاطعات الغابية في عام 1291 "حلفاً أبدياً" وأقسم أهلها أن يتعاونوا على صد الغارات الأجنبية، والقضاء على الفتن الداخلية، وأن يفضوا كل منازعاتهم بالتحكيم، وألا يعترفوا بقاض يُنصب عليهم إذا كان من غير أهل واديهم، أو كان قد ابتاع منصبه. وسرعان ما انضمت مدائن لوسرن، وزيورخ، وكنستانس إلى هذه الجامعة. وسير أدواق هبسبرج في عام 1315 جيشين على سويسرا ليرغموا أهلها على أداء جميع الالتزامات الإقطاعية، ولكن مشاة شويز وأوري المسلحين بالرماح ذات البلط في رؤوسها هزموا الفرسان النمساويين في "مراثون سويسرا"، هزيمة انسحبت على أثرها القوات النمساوية، وجددت المقاطعات الثلاث يمين المساعدة المتبادلة (9 ديسمبر سنة 1315)، وأنشأت الاتحاد السويسري. ولم تكن سويسرا قد أصبحت بعد دولة مستقلة، فقد كان المواطنون الأحرار يعترفون ببعض الالتزامات الإقطاعية، وبسيادة إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. ولكن السادة الإقطاعيين والأباطرة المقدسين عرفوا كيف يحترمون أسلحة المقاطعات والمدن السويسرية وحرياتها، ومهد انتصار مورجارتن السبيل لقيام أكثر الديمقراطيات استقراراً وأعظمها تمسكاً بالعقل والاتزان في التاريخ كله .

الفصل الحادي عشر: فرنسا (1060-1328)

1- فيليب أغسطس

كانت فرنسا حينما جلس على عرشها فليب الثاني أغسطس (1180) دولة صغرى تكتنفها الصعاب، ولا يكاد أحد يرجو لها عظمة في مستقبل الأيام. فكانت إنجلترا تمتلك نورمندية، وبريطاني، وأنجو، وتورين، وأكتين- وهي أملاك تعادل مساحتها ثلاثة أضعاف الممتلكات التي يسيطر عليها ملك فرنسا سيطرة مباشرة. وكان الشطر الأكبر من برغندية في حوزة ألمانيا، وكانت مقاطعة فلاندرز المزدهرة إمارة مستقلة في واقع الأمر، شأنها في هذا شأن مقاطعات ليون Lyons، وسافوي Savoy، وشامبيري Cnambery. وكانت هذه أيضاً حال بروفانس- الجنوب الشرقي من فرنسا- الغنية بالخمر والزيت، والفاكهة، والشعراء؛ ومدائن أرل Arles، وأفنيون، وإيكس، ومارسيليا. وكان إقليم الدوفنيه المحيط بفينا قد ترك لألمانيا بوصف كونه جزءاً من برغندية، وكان في هذا الوقت إقليماً مستقلاً يحكمه دوفن dauphin اشتق لقبه من الدلفين dolphin (الدَّخس) الذي كان شعار أسرته.

وكانت فرنسا الأصلية مقسمة إلى مقاطعات تحمل أسماء مختلفة- دوقيات، وكنتيات، وسنيوريات، وسنسكلتيات sensechalties، وبيلياجات (مأموريات) Bailliages يحكمها بترتيب أهميتها أدواق، وكونتون counts، وسنيورون (سادة) وسنسكالون sensechal (رؤساء خدم الملوك). ومأمورون bailiffs وكان هذا الحشد المفكك، الذي كان يسمى فرنسيا Francia منذ القرن التاسع، خاضعاً لملك فرنسا خضوعاً متفاوت الدرجات، مقيداً بقيود كثيرة. وكانت باريس عاصمة الملك في عام 1180 مدينة ذات مبان من الخشب، وشوارع كثيرة الأوحال، وكان معنى لوتيتيا Lutetia اسمها الروماني "بلدة الوحل"، واشمأزت نفس فليب أغسطس من الروائح الكريهة المنبعثة من الشوارع المارة بجوار نهر السين، فأمر أن ترصف شوارع باريس كلها بالحجارة الصلدة(59).

وكان فليب أول ملوك ثلاثة رفعوا فرنسا في ذلك الوقت إلى مكان الزعامة الذهنية، والأدبية، والسياسية في أوربا، ولكن ملوكاً أقوياء قد سبقوه في فرنسا، منهم فليب الأول (1060-1108) الذي خلد اسمه في التاريخ بأنه طلق امرأته وهو في سن الأربعين وأرغم فولك Fulk كونت أنجو بأن يسلم له الكونتة برتراد Bertrade. ووجد القس الذي يبارك هذا الزنى ويعده زواجاً، ولكن إربان الثاني حين جاء إلى فرنسا داعياً إلى الحرب الصليبية الأولى حرم الملك. وأصر فليب على إثمه اثنتي عشرة سنة، ثم طرد بعدها برتراد ورفع عنه الحرمان، ولكنه لم يلبث أن تاب من توبته، واسترد ملكته، وسافرت معه إلى أنجو، وعلمت زوجيها أن يتصافيا، ويخيل إلينا أنها متعت كل منهما بكل ما فيها من مفاتن(60). وتضخم جسم فليب وهو في سن الأربعين، فترك شئون الدولة الخطيرة لابنه لويس السادس (1108-1137)، المعروف باسم لويس البدين. لكنه كان خليقاً بخير من هذا الاسم، فقد ظل يحارب أربعاً وعشرين سنة، يحارب البارونات الذين كانوا يسلبون المسافرين وانتصر عليهم آخر الأمر؛ وقوى الملكية بأن نظم لها جيشاً قوياً، وبذل كل ما في وسعه لحماية الفلاحين، والصناع، والحكومات المحلية للمدن، وأوتي من الحكمة ما جعله يتخذ سوجر Suger رئيس الدير وزيراً له وصديقاً. وكان سوجر رئيس دير القديس دنيس Denis (1081-1150) ريشليو القرن الثاني عشر، دبر شئون فرنسا بحكمة وعدالة وبعد نظر؛ وشجع التجارة وأصلح أحوالها، وخطط وشاد إحدى روائع المباني القوطية التي تعد أجمل مباني ذلك الطراز وأقدمها عهداً. وكتب وصفاً ممتعاً للسنين التي قضاها في الوزارة ولأعماله فيها. وكان في الواقع خير ما أورثه لويس البدين ولده الذي ظل سوجر يخدمه إلى وقت مماته.

وكان لويس السابع (1137-1180) هو الرجل الذي قالت عنه إليانور الأكتانية إنها تزوجت ملكاً فلم تجده إلا راهباً. لقد كان يعمل جاداً في أداء واجباته الملكية، ولكن فضائله قضت عليه، فقد بدا لإليانور أن انهماكه في شئون الحكم إهمال منه للواجبات الزوجية، وأضاف بصبره على علاقتها بعشاقها الإهانة إلى هذا الإهمال، فما كان منها إلا أن طلقته، وأسلمت يدها ودقية أكتين التي تمتلكها إلى هنري الثاني ملك إنجلترا. وخابت آمال لويس في الحياة فوجه همه إلى الدين والى الصلاح، وترك العمل لبناء فرنسا القوية إلى ولده.

وكان فليب الثاني أغسطس شبيهاً بفليب الآخر الذي كان سميذعاً من الطبقة الوسطى: كان رجلاً ذكياً يلطف ذكاءه نبل عواطفه، كان يناصر العلوم ولا يتذوقها، يجمع بلين الحذر والدهاء وبين الشجاعة والحزم، حاد الطبع سريع المغفرة، لا يتردد في أن يسلك أي سبيل تؤدي به إلى التملك، ولكنه لم يكن شرها في هذه الناحية، وكان معتدلاً في تقواه يستطيع أن يكون سخياً للكنيسة دون أن يسمح لسلطان الدين أن يطغي على شئون السياسية، ذا صبر ومثابرة نال بهما ما لم يكن يستطيع أن يناله بالمغامرة الجريئة. وكان هذا الرجل عادياً وعظيماً (أوجست August) معاً، عنيداً في لطف، قاسياً في حكمة؛ وبهذا كان هو الرجل الذي تحتاجه بلاده في وقت أحاطت بها إنجلترا أيام هنري الثاني وألمانيا في عهد بربروسه، ولعل الأقدار قد ساقته إلى فرنسا في هذا الوقت العصيب، ولولاه لكان من الجائز ألا يبقى لها وجود.

وارتاعت أوربا لزيجاته؛ فقد ماتت إزبلا زوجه الأولى في عام 1189، وبعد أربع سنين من وفاتها تزوج انجبورج Ingeborg الأميرة الدنمرقية. وكان زواجه هذا وذاك زواجاً سياسياً، فيه من التملك أكثر مما فيه من الغرام. ولم ترق إنجبورج في عين فليب، فهجرها بعد يوم واحد، ولم يمض على زواجه بها أكثر من عام حتى أقنع مجلساً من الأساقفة الفرنسيين أن يجيز له طلاقها، ولكن البابا سلستين الثلث Celestine III أبى أن يوافق على هذا القرار. غير أن فليب تحدى البابا وتزوج في عام 1169 بأني الميزانية Agnes of Meran؛ فحرمه سلستين، ولكن فليب ظل على عناده وقال في ساعة من ساعات حنانه: "خير لي أن أفقد نصف أملاكي من أن أفارق أني". وأمره إنوسنت الثالث أن يرجع إنجبورج، فلما عصي فليب الأمر حرم البابا الصلب العنيد جميع الخدمات الدينية في أملاك فليب. وثارت ثائرة فليب فخلع جميع الأساقفة الذين أطاعوا أمر الحرمان، وقال في حسرة: "ما أسعد صلاح الدين الذي ليس له من فوقه البابا"، وهدد بأن يعتنق الإسلام(61). وواصل حربه الدينية أربع سنين بدأ الشعب بعدها يتذمر خوفاً من عذاب النار، فطرد فليب محبوبته أني (1202) ولكنه أبقى إنجبورج محبوسة في إيتامب Etampes حتى عام 1213 حين ردها إلى عصمته.

وبين هذه الأفراح والاضطرابات فتح فليب نورمندية واستردها من إنجلترا (1204)، وضم في السنتين التاليتين بريطاني، وأنجو، ومين، وتورين، وبواتو، إلى أملاكه التي تحت تسلطانه المباشر؛ وأصبح له وقتئذ من القوة ما يستطيع به أن يسيطر على الأدواق، والكونتة، والسادة في جميع أنحاء مملكته. وكان مأموروه وعماله يشرفون على الحكومات المحلية، وصارت مملكته قوة دولية كبرى، ولم تعد رقعة من الأرض ممتدة على ضفتي نهر السين. ولم يسكت جون ملك إنجلترا على ما أصابه من ضياع ملكه، فأقنع أتو الرابع إمبراطور ألمانيا، وكونتي بولوني وفلاندرز أن ينضما إليه في الوقوف في وجه هذا التوسع الفرنسي، واتفقوا على أن يهاجم جون فرنسا من أكتين (وكانت لا تزال ملكاً لإنجلترا) وأن يهاجما حلفاؤه من الشمال الشرقي. ولم يوزع فليب قوته لملاقاة هذه الهجمات المتفرقة، بل سار رأس جيشه الرئيسي لقتال حلفاء جون، وهزمه عند بوفين، بالقرب من ليل Lille (1214). وأسفرت هذه المعركة عن كثير من النتائج الهامة، أسفرت عن خلع أوتو، وتولى فردريك الثاني عرش ألمانيا، وقضت زعامة ألمانيا للقارة الأوربية، وعجلت اضمحلال الدولة الرومانية الشرقية، وأخضعت كونت فلاندرز وخلفاؤه لطاعة ملوك فرنسا، وضمت أمين، ودويه، وليل، وسان كنتن إلى أملاك التاج الفرنسي، ووسعت رقعة فرنسا الشمالية الشرقية بالفعل حتى وصلت إلى نهر الرين، وتركت جون عديم الحول والطول أمام باروناته، وأرغمته على توقيع العهد الأعظم، وأضعفت الملكية وقوت الإقطاع في إنجلترا وألمانيا، على حين أنها قوت الملكية وأضعفت الإقطاع في فرنسا، ويسرت قيام حكومات المدن المحلية والطبقات الوسطى التي عاونت فليب أعظم معاونة في السلم والحرب. ولما أن ضاعف فليب أملاكه ثلاثة أضعاف ما كانت عليه من قل شرع يحكمها طابعه المهارة والإخلاص. وقضي الرجل نصف وقته في نزاع مع الكنيسة واستبدل برجال الدين في مجلسه وفي الوظائف الإدارية رجالاً من طبقة المحامين الناشئة. ومنح كثيراً من المدن عهوداً بالحكم الذاتي، وشجع التجارة بما مح من التجار من امتيازات، وحمى اليهود تارة، ونهبهم تارة أخرى، وملأ خزائنه بالمال بأن استبدل بالخدمات الإقطاعية إتاوت نقدية، وزاد إيراد الملك من 600 جنيه فرنسي إلى 1200 (نحو 240.000 ريال أمريكي) في اليوم وتمت في أيامه واجهة كنيسة نوتردام Noter Dame، وبنى اللوفر ليكون حصناً يحرس نهر السين(62). ولم يمت فليب حتى كانت فرنسا هذه الأيام قد ولدت.

2- القديس لويس

ولم يتمكن ابنه لويس الثامن (1223-1226) في حكمه القصير من أن يفعل الشيء الكثير. وأهم ما يذكره به التاريخ أنه تزوج بلانش القشتالية Blanche of Castille، وأنه أنجب منها الرجل الوحيد في العصور الوسطى الذي أفلح كما أفلح أشوكا في الهند القديمة في أن يكون في واقع الأمر قديساً وملكاً جميعاً. وكان لويس التاسع في الثانية عشرة من عمره، وكانت والدته في الثانية والثلاثين حين توفي لويس الثامن. وحافظت بلانش على ما يجري في عروقها من دم ملكي؛ فقد كانت ابنة ألفنسو التاسع Alfonso IX ملك قشتالة، وحفيدة هنري الثاني وإليانور الأكتانية، وكانت ذات جمال، وفتنة، ونشاط، وأخلاق قويمة، ومهارة فائقة. وكانت في الوقت عينه ذات أثر كبير في عصرها لما اتصفت به من الفضائل بوصفها زوجة وأرملة، وإخلاص لبنيها الأحد عشر. ولم تكن فرنسا تكرمها لأنها بلانش الملكة الصالحة Blanche la bonne reine فحسب، بل كانت تكرمها أيضاً لأنها بلانش الأم الصالحة Blanche la bonne mere. وقد أعتقت في حياتها كثيرين من أرقاء الأرض الذين يعملون في الضياع الملكية، وتصدقت بالأموال الكثيرة، وأدت من مالها البائنات لكثير من البنات التي يحول فقرهن دون تشجيع الشبان على حبهن. وأعانت بالمال بناء كنيسة شارتر Chartres الكبيرة. وبفضل نفوذها أظهر زجاج الكنيسة الملون العذراء مريم في صورة الملكة لا في صورة العذراء(63). وكانت مفرطة في حب ابنها لويس، ولم تكن كريمة في معاملتها زوجته. وقد عكفت على تربيته على الفضائل المسيحية، وكانت تقول له إنها تفضل أن تراه ميتاً عن أن تراه يرتكب أحد الذنوب البشرية(64). على أن أعمالها هذه لم تكن هي التي جعلت لويس رجلاً متديناً مخلصاً لدينه؛ وذلك أنها هي نفسها قلما كانت تضحي بالسياسة في سبيل العاطفة؛ فقد انضمت إلى الحرب الألبجنسية الدينية، لكي تبسط سلطان التاج على فرنسا الجنوبية. وظلت تحكم المملكة تسع سنين (1226-1235) كبر في أثنائها لويس، وقلما استمتعت فرنسا بحكم خير من حكمها. وثار البارونات في بداية حكمها نائبة عن ولدها، ظناً منهم أن في مقدورهم أن يستعيدوا من امرأة ما انتزعه فليب الثاني منهم من سلطات؛ ولكنها تغلبت عليهم بحكمتها وسياستها وطول أناتها؛ وقاومت إنجلترا مقاومة شديدة؛ ثم وقعت معها هدنة بشروط عادلة. ولما بلغ لويس التاسع سن الرشد، وتولى شئون الحكم، ورث مملكة قوية، مستمتعة بالسلم والرخاء. وكان لويس شاباً وسيماً، أطول من معظم الفرسان بمقدار طول رأسه، حسن الملامح دقيقها، أبيض لون البشرة، ذا شعر أشقر غزير، وكان ذا ذوق راق، مغرماً بالأثاث الفخم المترف، والثياب الملونة؛ ولم يكن مكباً على مطالعة الكتب، بل كان يميل إلى اقتناص الحيوان وصيد الطير، وضروب التسلية والألعاب الرياضية؛ ولم يكن قد أصبح بعد قديساً، وشاهد ذلك أن راهباً شكا بلانش من مغازلة ولدها للفتيات، فبحثت له عن زوجة، وعاش معها عيشة الهدوؤ والاستقرار، وأصبح مضرب المثل في وفاء الأزواج ونشاط الآباء. وكان له أحد عشر ولداً كان له هو نصيب موفور في تربيتهم؛ فتخلى على الترف شيئاً فشيئاً، واعتاد بالتدريج عيشة البساطة المتزايدة، وصرف همه في شئون الحكم، والصدقات، والتقوى. وكان يرى أن الملكية أداة للوحدة القومية واتصالها، وحماية الفقراء والضعفاء من الأقلية العليا المحظوظة.

وكان يحرم حقوق النبلاء، ويشجعهم على الوفاء بالتزاماتهم لأرقاء الأرض، والأتباع، والسادة؛ ولكنه لا يطيق الاعتداء على سلطة الملك الحديثة العهد؛ ويمنع بعزيمته الماضية أن يقع ظلم من سيد على تابع. وكثيراً ما أنزل أشد العقاب بالبارونات الذين قتلوا أتباعهم من غير محاكمة. ولما أن شنق إنجران ده كوسي Enguerrand de Coucy ثلاثة طلاب فلمنكيين لقتلهم بضعة أرانب برية في ضيعته، أمر لويس بسجنه في برج اللوفر، وهدده بالشنق، ولم يطلقه إلا بعد أن اشترط عليه أن يبني ثلاث كنائس صغيرة تتلى فيها الصلوات كل يوم لأرواح ضحاياه، وأن يهب الغابة التي صاد فيها الطلبة الشبان الأرانب لدير القديس نقولاس، وأن يفقد في مزرعته حق الصيد والحقوق القضائية، وأن يخدم ثلاث سنين في فلسطين، ويؤدي إلى الملك غرامة قدرها 12.500 جنيه(65). وحرم لويس الثأر الإقطاعي والحروب الإقطاعية بين الأمراء، ونهي عن المبارزة بوصفها وسيلة من الوسائل القضائية... ولما حلت المحاكمة عن طريق الأدلة والبراهين محل القتال، تخلت محاكم البارونات عن مكانها شيئاً فشيئاً للمحاكم الملكية التي نظمها في كل مقاطعة مأمور الملك، وتقرر حق استئناف أحكام القضاة البارونات إلى محكمة الملك المركزية؛ وشهد القرن الثالث عشر في فرنسا، كما شهد في إنجلترا استبدال قانون الدولة العام بالقانون الإقطاعي. وقصارى القول أن فرنسا لم تنعم منذ أيام الرومان بما نعمت به في عهد لويس التاسع من أمن ورخاء؛ وحسبنا دليلاً على هذا أن ثروة فرنسا في أيامه بلغت من الوفرة درجة ارتفعت بها العمارة القوطية إلى أقصى حدود الكثرة والكمال.

وكان يعتقد أن في مقدور الحكومة أن تكون عادلة كريمة في علاقاتها الخارجية دون أن تفقد بذلك هيبتها وقوتها. وكان يتجنب الحرب أطول أكد مستطاع؛ فإذا لاح خطر الاعتداء عليه نظم جيوشه أحسن تنظيم، ووضع خططه الحربية، وقادها- في أوربا- بجد ومهارة نال بهما سلماً كريمة لم تترك في نفوس أعدائه رغبة في الانتقام. وما كادت فرنسا تتأكد من سلامتها، حتى عمد الملك إلى سياسة المصالحة التي قبل بمقتضاها التوفيق بين الحقوق المتعارضة ورفض التهدئة الناشئة من إجابة المطالب غير العادلة. وقد رد إلى إنجلترا وأسبانيا أقاليم اغتصبها منهما أسلافه، وأسف لذلك مستشاروه، ولكنه ضمن بعمله هذا استتباب السلام، ونجت فرنسا من الهجوم حتى في أثناء غياب لويس في الحروب الصليبية. ويقول عنه وليم الشارتريسي William of Chartres إن "الناس كانوا يخشونه لأنهم موقنون بعدله"(66). ولم تشتبك فرنسا من 1243 إلى 1270 في حرب مع عدو لها مسيحي؛ ولما أن أخذ جيرانها يحارب بعضهم بعضاً بذل لويس ما يستطيع من جهد للتوفيق بينهم، وسخر من قول مجلسه إن من الواجب إثارة هذا النزاع لكي تضعف بذلك قوة من قد يصبحون أعداءه في مستقبل الأيام(66). وكان الملوك الأجانب يحكمونه فيما يشجر بينهم من نزاع، وكان الناس يعجبون كيف يستطيع هذا الرجل الصالح أن يكون ملكاً صالحاً.

ولم يكن لويس "ذلك الوحش الكامل الذي لم يعرفه العالم قط"- أي الرجل المبرأ من جميع العيوب. فقد كان يغضب أحياناً، ولعل سوء صحته هو سبب غضبه. وكانت سذاجته تصل في بعض الأحيان إلى حد الجهالة أة السذاجة اللتين يستحق عليهما أشد اللوم، ودليلنا على ذلك ما ارتكبه من خطأ شنيع إذ تورط في الحروب الصليبية والمعارك الخاسرة في مصر وتونس، حيث ضاعت أرواح كثيرة فضلاً عن روحه هو؛ ومع أنه راعى واجب الشرف والأمانة في معاملته أعداءه المسلمين، فإنه لم تطاوعه نفسه على أن يطبق في معاملته إياهم روح التفاهم الكريم الذي نجح به أيما نجاح مع أعدائه المسيحيين. وقد دفعه إيمانه الديني القوي الشبيه بإيمان الأطفال إلى درجة من عدم التسامح الديني ساعدت على إنشاء محكمة التفتيش في فرنسا، وهدأت ما تنطوي عليه نفسه من رحمة نحو ضحايا الحرب الصليبية الألبجنسية. وقد امتلأت خزائنه بالبضائع والأموال التي صادرها من المارقين الذين حكم بإدانتهم(68)، وقد خانته روحه المرحة وفكاهته في معاملته اليهود الفرنسيين.

فإذا أسقطنا من صحيفته هذه العيوب رأينا أنه قد اقترب قرباً يشرفه من المثل المسيحي الأعلى، انظر إلى ما يقوله عند جرانفيل Joinville "لم أسمعه قط في يوم من أيام حياتي يقول قالة السوء عن أي إنسان"(69). ولما أن قبل آسروه المسلمون خطأ منهم عشرة آلاف جنيه فرنسي (أي نحو 2.800.000 ريال أمريكي) أقل من الفدية المتفق عليها، أرسل لويس بعد أن أطلق سراحه جميع القدر الناقص من مال الفداء، وأغضب بذلك مستشاريه(70). وقبل أن يغادر البلاد للقتال في حربه الصليبية الأولى، أمر موظفيه في جميع أنحاء مملكته "أن يتلقوا كتابة، وأن يحققوا، كل ما عساه أن يقدم فينا أو في أسلافنا من الشكاوي. وكذلك جميع ما يقام على مأمورينا أو محافظينا أو حراس غاباتنا، أو رؤساء جنودنا أو مرءوسيهم من دعاوى خاصة بمظالم ارتكبوها أو اغتصاب للأموال"(71). ويقول جوانفيل "وكثيراً ما كان يخرج بعد الصلاة، ويجلس مستنداً إلى شجرة في غابة فنسن Vincenne ويأمرنا بالجلوس حوله. ويقبل عليه كل من له مظلمة ويتحدث إليه دون أن يحول بينه حائل أو يقدمه حاجب". ثم يفصل في بعض القضايا بنفسه، ويحيل بعضها إلى مستشاريه الجالسين حوله، ولكنه كان يعطى كل شاك حق استئناف الحكم للملك نفسه(72). وقد أنشأ المستشفيات والملاجئ، والأديرة، والمضايف للغرباء، وبيتاً للمكفوفين، وآخر للعاهرات التائبات "بنات الله"؛ وأمر عماله في كل مقاطعة أن يبحثوا عن العجزة والفقراء، وينفقوا عليهم من الأموال العامة. وكان أينما سار يجعل من مبادئه المقررة أن يطعم مائة وعشرين فقيراً في كل يوم. وكان يأمر بأن يجلس معه على مائدته ثلاثة منهم، يتولى هو تقديم الطعام لهم ويغسل بنفسه أقدامهم(73). وكان يفعل ما يفعله هنري الثالث ملك إنجلترا فيقف على المائدة في خدمة المجذومين، ويطعمهم بيديه. ولما حل القحط بنورمندية، أنفق الأموال الطائلة في توفير الطعام للمحتاجين من أهلها. وكان يقدم الصدقات كل يوم للمرضى، والفقراء، والأرامل، والنساء اللاتي في حالات النفاس، والعاهرات، والعاجزين من العمال "حتى ليتعذر علينا أن نحصى صدقاته"(74). ولم يكن ليفسد هذه الصدقات بإذاعتها بين الناس. وكان الفقراء الذين يغسل أقدامهم يختارون من بين المكفوفين، وكان يعمل عمله هذا خفية، ويقال لهؤلاء إن الملك هو الذي يخدمهم. ولم يكن أحد من الناس يعرف زهده وتعذيبه نفسه حتى شوهدت آثارهما على جسمه بعد وفاته(75).

وأصيب أثناء حروبه في عام 1242 بالملاريا في مناقع سانتوج Saintonge؛ وأسفر هذا المرض عن إصابته بفقر دم خبيث، وأوشك على الموت في عام 1244. ولعل هذه المصائب قد زادت روحه الدينية تدريجاً، فإنه ما كاد يشفي من مرضه حتى أقسم أن يشن الحرب الصليبية، وأضعف صحته بانهماكه في زهده وتعذيب نفسه. ولما عاد من حربه الصليبية الأولى ولما يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره كان قد انحنى جسمه وأصابه الصلع، ولم يبق من نضرة شبابه وجماله إلا ما يخلعه عليه إيمانه الساذج من خلق جميل وإرادة طيبة. وكلن يرتدي قميصاً من الشعر، تحت مئزر الرهبان الرمادي، ويأمر بأن يضرب بسلاسل صغيرة من الحديد، ويحب طائفتي الرهبان الجديدتين- الفرنسسكان والدمنيكان، ويهبهم المال بلا حساب، ولم يمتنع عن أن يكون هو راهباً فرنسسكانيا إلا بعد جهد جهيد. وكان يحضر الصلوات مرتين كل يوم، ويتلو الأدعية المقررة أدعية الساعات الثالثة والسادسة والتاسعة ودعاء المساء، ويتلو صلاة العذراء خمسين مرة قبل أن يأوي إلى فراشه، ويصحو في منتصف الليل لينضم إلى قساوسته في صلاة السحر في كنيسة قصره(76). وكان يمتنع من مباشرة زوجه في صيام الميلاد والصوم الكبير. وبلغ من تمسكه بشعائر الدين أن كان معظم رعاياه يبتسمون من تقواه ويلقبونه "الأخ لويس". وقالت له امرأة جريئة: "إن من الخير أن يكون في مكانك ملك غيرك، فلست أنت إلا ملك الفرنسسكان والدمنيكان... إن من العار أن تكون أنت ملك فرنسا، ومن أعجب العجائب ألا يخلعوك". فأجابها لويس بقوله: "لقد قلت حقاً... فلست خليقاً بأن أكون ملكاً.. ولو أراد منقذنا لوضع في مكاني رجلاً غيري يعرف خيراً مني كيف يحكم المملكة"(77).

وكان شديد التحمس لخرافات أهل زمانه ويشاركهم فيها. من ذلك أن دير القديس دنيس كان يدعي أن لديه مسماراً من الصليب الحق، وحدث أن وضع المسمار في غير موضعه بعد احتفال عرض فيه على الشعب؛ فثارت لهذا الحادث ضجة كبيرة، ثم وجد المسمار وارتاح الملك كثيراً لوجوده، حتى قال: "لقد كان خيراً لي من هذا أن تبتلع الأرض أحسن مدينة في ملكي"(78). وفي عام 1236 احتاج بولدون الثاني إمبراطور القسطنطينية إلى المال لينقذ دولته المتداعية، فباع للويس تاج الأشواك الذي لبسه المسيح في آلامه بأحد عشر ألف جنيه فرنسي (2.200.000 ريال أمريكي). واشترى لويس من الدلال نفسه بعد خمس سنين من ذلك الوقت قطعة من الصليب الحقيقي، ولربما كان المقصود بهذا الشراء وذاك أن يكون المال هبة من لويس لدولة مسيحية تفرج به أزمتها. وأمر لويس بطرس المنتربلي Peter of Montreuil ليبنى سينت شابل Sainte Chapelle ليُودع فيها هذان الأثران.

ولم يكن لويس رغم صلاحه هذا أداة طيعة في أيدي رجال الدين، فقد كان يدرك ما في طبيعتهم البشرية من عيوب، ويعاقبهم عليها بالقدوة الطيبة والتقريع العلني(79). وقد قيد سلطات المحاكم الكنسية، وبسط سلطة القانون على جميع المواطنين، سواء كانوا من رجال الدنيا أو من رجال الدين، وأصدر في عام 1268 أول الأوامر العالية التي قيد بها حق البابا في تعيين أصحاب المناصب الدينية وجباية الضرائب في فرنسا: "تقرر أنه لا يجوز لأحد أن يفرض أو يجبى بأية طريقة كانت فروضاً أو ضرائب مالية فرضتها محكمة روما... إلا إذا كانت القضية معقولة، متفقة مع أصول الدين، وعاجلة جداً... ونالت موافقتنا الصريحة من تلقاء أنفسنا، وموافقة كنيسة مملكتنا" .

وقد بقي لويس الملك على الدوام رغم زهده وميوله الدينية؛ ولقد حافظ على جلال الملك حتى ساعة أن ظهر واقفاً على قدميه، ومرتدياً ثياب الحاج، وبيده عصا الحاج ليبدأ حربه الصليبية الأولى (1248). وهو صاحب "الجسم الرفيع" النحيل، والوجه الشبيه بوجوه الملائكة الأطهار، والمحيا المليء بشراً وسماحة"(81) كما يصفه فراسلمبين Fra Salimbene. وقد بكت الملكة بلانش وهو يفارقها بعد أن أنابها عنه في البلاد وإن كانت في سن الستين وقالت: "يا أحب الأبناء وأجملهم، يا أجمل الأبناء وأرقهم قلباً، إني لن أراك بعد اليوم"(82). وأسر لويس في مصر، وظل في الأسر حتى افتدي بمبلغ من المال جمعته بلانش بعد عناء كبير، ولكنه لما عاد إلى فرنسا مهزوماً ذليلاً وجد أن أمه قد توفيت. ثم أقدم في عام 1270 رغم ضعفه ومرضه على حرب صليبية أخرى ونزل هذه المرة في تونس. ولم تكن هذه مغامرة جنونية سخيفة كما بدت للناس بسبب خيبتها. ذلك أن لويس قد سمح لأخيه شارل دوق أنجو أن يقود جيشاً فرنسياً إلى إيطاليا، وكان يبغي من وراء هذا أن يضعف سيطرة الألمان عليها، ويرجو أن يتخذ صقلية قاعدة تغزو بها فرنسا بلاد تونس، وبعد أن وصل المحارب العظيم المحطم الجسم الصغير السن إلى أرض تونس، مات بزحار البطن. وسلكته الكنيسة بعد سبع وعشرين سنة من موته في عداد القديسين. وظل الناس بعد وفاته أجيالاً وقروناً يرون أن حكمه هو العصر الذهبي في تاريخ فرنسا، ويعجبون كيف لا تتيح الأقدار التي لا يفقهون تصريفها لأمور البشر ملكاً آخر لفرنسا يماثله. ذلك أنه كان ملكاً مسيحياً بحق.


3- فيليب الجميل

زادت الحروب الصليبية من قوة فرنسا، وكان لها شأن كبير. وأكسبها طول حكم فليب أغسطس ولويس التاسع استقراراً واتصالاً في الحكم في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا تعاني الأمرين من إهمال رتشرد الأول، واستهتار جون، وعجز هنري الثالث، وكانت في ألمانيا مفككة الأوصال من أثر الحروب الناشبة بين الأباطرة والبابوات، فلم يحل عام 1300 حتى كانت فرنسا أقوى دول أوربا كلها.

وكان فليب الرابع يلقب بالجميل Ie Bel لجمال جسمه ووجهه، لا لدهائه السياسي وجرأته وقسوة قلبه. وكان ذا آمال واسعة: كان يأمل أن يخضع كل الطبقات- الأشراف، ورجال الدين، وأهل المدن، وأرقاء الأرض- لحكم القانون وسيطرة الملك مباشرة، وأن يقيم نماء فرنسا وتقدمها على أساس التجارة والصناعة لا الزراعة، وأن يمد حدودها إلى المحيط الأطلنطي، وجبال البرانس، والبحر المتوسط، وجبال الألب، ونهر الرين. ولم يختر أعوانه ومستشاريه من كبار رجال الدين والأشراف الذين ظلوا يخدمون ملوك فرنسا طوال الأربعة القرون الماضية، بل اختارهم من طبقة المحامين الذين أقبلوا عليه وعقولهم مفعمة بالأفكار الاستعمارية التي أوحى إليهم بها القانون الروماني. فكان بيير فلت Pierre Flotte وجيوم ده نورجاريه Guilluame de Nogaret من ذوي العقول النابهة الذين لا يبالون بالمبادئ الأخلاقية أو السوابق؛ وشاد فليب بفضل توجيههم صرح القانون الفرنسي، وأحل الشريعة الملكية محل الشريعة الإقطاعية، وانتصر على أعدائه بسياسته الحصيفة، وحطم في نهاية الأمر سلطان البابوية، وجعل البابا في الواقع سجيناً في فرنسا. وحاول أن يفصل جوين Guienne عن إنجلترا، ولكنه وجد إدوارد الأول قوياً لا يُغلب، وحصل على شمبانيا Champagne، وبري Brie، وتبرة بطريق الزواج، وابتاع بالمال شارتر، وفرانش كمتيه Franch- Comte، وإقليم ليون وجزءاً من اللورين.

وكان دائم الحاجة إلى المال، ولهذا وجه نصف ذكائه ونصف وقته إلى اختراع الضرائب وجمع الأموال، واستبدل المال بالقروض الإقطاعية الواجب أداؤها للتاج؛ وكم من مرة خفض قيمة النقد، وأصر على أن تؤدي الضرائب سبائك أو بالنقد الصحيح القيمة، ونفي اليهود واللمبارد وقضي على فرسان المعبد ليصادر أملاكهم، وحرم إصدار المعادن النفيسة من بلاده، وفرض رسوماً باهظة على الصادرات والواردات، والمبيعات، وضريبة حربية مقدارها بنس على كل جنيه فرنسي في ثروة الأفراد في فرنسا. ثم فرض أخيراً ضريبة على الكنيسة دون أن يستشير البابا، وكانت الكنيسة وقتئذ تمتلك ربع أرض فرنسا. وسنروي قصة هذا الصراع عند الكلام على بنيفاس الثامن. ولما مات البابا الطاعن في السن بعد أن حطمه الكفاح، استخدم فيليب ماله وأعوانه في اختيار رجل فرنسي لقب كلمنت الخامس في مكانه، كما استطاع أن ينقل مقر إلى أفنيون، وهكذا انتصر فيليب على البابوية انتصاراً لم يظفر به من قبل على الكنيسة رجل من غير أهلها، وأصبح رجال القانون في فرنسا من هذا الوقت هم الذين يحكمون رجال الدين.

وتنبأ الرئيس الأكبر لفرسان المعبد وهو سائر إلى الخشبة التي يشد عليها من يراد إحراقهم بأن فليب سيتبعه في خلال عام واحد. وقد صدقت النبوءة، ولم يمت فليب وحده في عام 1314 بل مات فيها كلمنت أيضاً- ولم يكن الملك المنتصر قد تجاوز وقتئذ السادسة والأربعين من عمره. وكان الشعب الفرنسي يعجب بشجاعته وصلابة رأيه. وأيده في صراعه مع بنيفاس، ولكنه يصب اللعنات على ذكراه ويراه أشد الملوك استبداداً في تاريخه كله. وكادت انتصاراته تحطم كيان فرنسا. وقد كان تخفيضه قيمة النقد سبباً في اضطراب الاقتصاد القومي. وكانت الأجور العالية للأراضي الزراعية والأثمان المرتفعة سبباً في فقر الشعب، وأضرت الضرائب الفادحة بالصناعة، كما كان نفي اليهود واللمبارد سبباً في شل حركة التجارة وفي خراب الأسواق وتعطيل المواسم التجارية. وجملة القول أن الرخاء الذي ازداد في عهد القديس لويس قد نقص واضمحل في عهد فليب الذي يتقن جميع ما في القانون والسياسة من ألاعيب(83).

وجلس على العرش ثلاثة أبناء لفليب وواراهم الثرى في خلال الأربعة عشر عاماً التي أعقبت وفاته، ولم ينجب واحد منهم أبناء يرثون ملكه، بل ترك شارل الرابع (المتوفى عام 1328) بنات، اتخذ القانون السالي القديم ذريعة لحرمانهم من التاج. وكان أقرب وريث من الذكور للأسرة المالكة هو فليب الفالوازي Philip of Valois ابن أخي فليب الجميل، فلما تولى الملك انتهت بموته الأسرة التي تناسلت من الملوك الكابيتيين مباشرة وبدأ عهد أسرة فالوا.

وإذا ألقينا نظرة عامة عاجلة على أحوال فرنسا في ذلك الوقت رأينا أنها تقدمت تقدماً عجيباً في النواحي الاقتصادية، والتشريعية، والتعليمية، والأدبية، والفنية. فقد كان نظام رقيق الأرض يختفي من البلاد بخطى سريعة، لأن نمو الصناعات في المدن كان يغري الناس بالنزوع إليها من المزارع، حتى بلغ سكان باريس مائتي ألف في عام 1314، وبلغ سكان فرنسا 22.000.000(84). ولما قدم برونتو لاتيني إلى فرنسا فاراً من الاضطهاد السياسي في فلورنس دهش مما كان يسود شوارع باريس في عهد لويس التاسع من أمن وطمأنينة، وما كان في المدن من تجارة وصناعة، وما كان في الريف الجميل المحيط بالعاصمة من حقول وكروم مثمرة(85).

وأوشكت الطبقتان الناشئتان، طبقتا الموظفين ورجال الأعمال، أن تضارعا في الثراء طبقة رجال الأعمال، فاضطرت الدولة إلى تمثيل هاتين الطبقتين في مجلس الطبقات Etats Generaux الذي دعاه فليب الرابع إلى الانعقاد في باريس عام 1302 ليقد له المعونة الأدبية والمالية في نزاعه مع بنيفاس. ولم تكن هذه المجالس العامة التي تمثل فيها الطبقات- الأعيان، ورجال الدين، والعامة- لم تكن هذه المجالس تدعى إلى الانعقاد إلا في الضرورات القصوى (1302، 1308، 1314...) وكان المحامون الذين يخدمون الملك بوصفهم مجلساً للدولة Conseil d'etat يوجهونها توجيهاً ماهراً نحو الهدف الذي يريدونه. أما برلمان باريس الذي اتخذ شكله المعروف به في عهد لويس التاسع فلم يكن جمعية نيابية، بل كان هيئة مؤلفة من أربعة وتسعين من المحامين ورجال الدين يعينهم الملك ويجتمع مرة أو مرتين في العام ليكون محكمة عليا. وقد نشأت من أحكامه مجموعة من التشريعات القومية تعتمد على القانون الروماني لا على شرائع الفرنجة، وتهب الملكية المعونة الكاملة المستمدة من التقاليد القانونية القديمة.

وقد بقيت الفورة العقلية التي سادت عهد فليب الرابع محفوظة لأهل هذا الجيل في الرسائل السياسية التي كتبها أحد أنصاره- بييردوبوا Pierre Dubois (1255-1312)، وهو محام مثل كوتانس Coutances في مجلس الطبقات الذي عقد في عام 1302. فقد عرض دوبوا في رسالتين من رسائله "ملتمس مقدم من شعب فرنسا إلى الملك ضد البابا بنيفاس Supplication de peuple de France Contre Ie pape Boniface (1394)، وفي نبذة عن "استرداد الأرض المقدسة" (1306) آراء تكشف لنا عن الثغرة الواسعة التي كانت تفصل في ذلك الوقت عقلية رجال القانون عن عقلية رجال الكنيسة في فرنسا. من ذلك ما قاله دوبوا من أن الكنيسة يجب ألا تحبس عليها الأموال، وأن تجري عليها من الآن معونة مالية من الدولة؛ ويجب أن تفصل الكنيسة الفرنسية عن روما؛ وأن تجرد البابوية من جميع السلطات الزمنية، وأن تكون الدولة صاحبة السلطة العليا. وقال أيضاً إن فليب يجب أن يعين إمبراطورياً لدولة أوربا الموحدة، وأن تكون القسطنطينية عاصمته؛ وأن تؤلف محكمة دولية لتفصل فيما يشجر بين الأمم من نزاع، وأن تعلن المقاطعة الاقتصادية على أية أمة مسيحية تحارب أمة مسيحية أخرى؛ وأن تنشأ في روما مدرسة للدراسات الشرقية؛ وأن يتاح للنساء جميع ما يتاح للرجال من فرص تعليمية، وأن يتساوين مع الرجال في جميع الحقوق السياسية(86).

وكان هذا العصر عصر شعراء الفروسية الذين يتغنون بالحب العذري في بروفانس؛ وعصر قصاصي الملاحم في شمالي فرنسا، وعصر أغنية رولان Chanson de Roland، وغيرها من الأغاني الرمزية، وأغنية أوكسان ونيقولت Aucassin et Nicolette، وقصة الوردة Roman de la Rose، والعصر الذي ظهر فيه المؤرخان اللذان يعدان طليعتي المؤرخين الفرنسيين البارزين وهما فلاردوين Villardhouin وجوانفيل. ونظمت في هذا العهد الجامعات الكبرى في باريس وأورليان، وأنجير Angers، وطولوز (طلوشة)، ومنبلييه. بدأ هذا العصر بروسلن Roscelin وأبلار Abelare وانتهى بأعلى ما وصلت إليه الفلسفة المدرسية Scholastic Philosophy. وكان عصر النشوة القوطية- التي ظهرت في الكنائس الفخمة الكبرى في سان دنيس، وتشارتر، ونوتردام، وأمين، وريمس، وفي النحت القوطي في أكمل مظاهره الروحية. وكان الفرنسيون وقتئذ يفخرون فخراً لا نلومهم عليه بوطنهم، وعاصمتهم، وثقافتهم؛ وكانت وطنية قومية تعمل لوحدة البلاد تحل تدريجاً محل النعرة الإقليمية التي كانت تسود عصر الإقطاع؛ وأخذ الناس ذلك الحين يتحدثون حديث الحب والإعزاز عن "فرنسا الحلوة"، كما نرى ذلك في أغنية رولان. وملاك القول أن الحضارة المسيحية قد بلغت عظمتها في فرنسا وإيطاليا.

الفصل الثاني عشر: أسبانيا 1096-1285

سار المسيحيون في فتح أسبانيا بالسرعة التي أمكنتهم منها الفوضى الناشئة من تطاحن الملوك الأسبان، ومنح البابوات من عانوا على إخراج المسلمين من أسبانيا لقب المحاربين الصليبيين وامتيازاتهم؛ وأقبل بعض فرسان المعبد من فرنسا للانضمام إلى أهل البلاد المسيحيين؛ وتكونت في القرن الثاني عشر ثلاث جماعات دينية حربية- فرسان كلاترافا Calarrava، وفرسان سنتياجو، وفرسان القنطرة؛ واستولى ألفنسو الأول (الأذفنش) في عام 1118 ملك أرغونة على مدينة سرقسطة؛ وفي عام 1195 هزم المسيحيون، ولكنهم كادوا يبيدون جيش الموحدين الأكبر في واقعة العقاب Las Navkas de Tolosa في عام 1212. وكان نصرهم في هذه الواقعة نصراً حاسماً، تحطمت على أثره مقاومة المسلمين وسقطت قلاعهم واحدة بعد واحدة في أيدي المسيحيين: قرطبة (1236)، وبلنسية (1238)، وإشبيلية (1248)، وقادس (1250)، ثم وقف فتح المسيحيين نحو قرنين ليفسح الوقت إلى حروب الملوك.

ولما هزم ألفنسو (الأذفنش) الثامن ملك قشتالة هجم على مملكته ملكاً ليون ونبرة وكانا قد وعداه من قبل بأن يخفا لمساعدته، واضطر ألفنسو إلى عقد الصلح مع المسلمين ليحمي نفسه من غدر المسيحيين(87). وأعاد فرنندو الثالث Fernando III (1217-1252) توحيد ليون Leon وقشتالة، ووسع حدود المملكة الكاثوليكية إلى غرناطة، واتخذ إشبيلية عاصمة لملكه، وحول مسجدها العظيم إلى كنيسة، واتخذ القصر Alcazar مسكناً له، وكانت الكنيسة تعده وقت مولده ابناً غير شرعي، ولكنه عدته قديساً بعد وفاته. وكان ابنه ألفنسو (الأذفنش) العاشر (1252-1284) عالماً ممتازاً، ضعيف العزيمة؛ وأعجب الأذفنش الحكيم (el Sabio) بما وجده في إشبيلية من علوم المسلمين، فتحدى المتعصبين من أهل ملته باستخدام العلماء من العرب واليهود والمسيحيين على السواء لترجمة كتب المسلمين إلى اللغة اللاتينية كي تستطيع أوربا أن تفيد من هذه العلوم. وقد أنشأ هذا الملك مدرسة لعلم الهيئة هي صاحبة "الأزياج الأذفنشية" الخاصة بالأجرام السماوية وحركاتها التي أضحت المرجع الذي يعتمد عليه علماء الهيئة المسيحيون. ونظم هذا الملك هيئة من المؤرخين، وضعت كتاباً سمته باسمه جمعت فيه تاريخ أسبانيا، وتاريخاً عاماً واسعاً للعالم كله، ونظم نحو 450 قصيدة، بعضها بلغة قشتالة، وبعضها باللغة الجليقية- البرتغالية؛ ولُحن الكثير منها، ولا تزال هذه القصائد باقية حتى اليوم، أثراً خالداً لأغلبية العصور الوسطى. وفاضت حماسته الأدبية في عدة كتب ألفها هو أو أمر بتأليفها، في ألعاب الدراما، والشطرنج، والنرد، والموسيقى، والملاحة، والكيمياء، والفلسفة. ولعله أيضاً قد أمر بترجمة الكتاب المقدس من اللغة العبرية إلى القشتالية مباشرة. وقد رفع اللغة القشتالية إلى المرتبة العليا التي أمكنتها من أن تسيطر من ذلك الوقت إلى يومنا هذا على الحياة الأدبية في أسبانيا؛ ولقد كان هو في واقع المر منشئ الأدب الأسباني والبرتغالي، وعلم التاريخ الأسباني، والمصطلحات العلمية الأسبانية. ولكنه لوث تاريخه الوضاء بما حاكه من الدسائس للاستيلاء على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأنفق في هذه المحاولة كثيراً من أموال أسبانيا، وعمل على ملء خزائنه بزيادة الضرائب وتخفيض قيمة النقد، ثم خلع ورفع ابنه إلى العرش، وعاش بعد سقوطه عامين، ثم مات محطماً كسير القلب.

وارتفع شأن أرغونة بزواج ملكتها بيرونلا Petronella من الكونت رامون برنجر Ramon Barenger صاحب برشلونة (1137)؛ وحصلت أرغونة بفضل هذا الزواج على قطلونية المشتملة على أعظم الثغور الأسبانية. وعم الرخاء هذه المملكة الجديدة على يد بدرو الثاني Pedri II (1196-1213)، بتأمين المواني، والأسواق، والطرق، وبصرامته في تنفيذ القانون على من يعبث بهذه المرافق، وجعل بلاطه في برشلونة مركز الفروسية والأسبانية والشعراء الغزليين، وزاد من بهجته أن كان ملتقى المحبين، ثم تقرب إلى الله- وضمن لنفسه لقبه- بأن قدم أرغونة إلى إنوسنت الثالث على أن يأخذها منه إقطاعية. وكان ابنه جيم Jaime أوجيمس James الأول (1213-1276) في الخامسة من عمره حين قتلى بدرو في ميدان القتال؛ واغتنم أشراف أرغونة هذه الفرصة السانحة ليستعيدوا استقلالهم الإقطاعي؛ ولكن جيمس تولى زمام الأمور وهو في العاشرة، وسرعان ما أخضع الأشراف لسلطان الملك. وكان لا يزال شاباً في سن العشرين حين استولى على جزائر البليار ذات الموقع الحربي المنيع من المسلمين (1229-1235)، واسترد منهم بلنسية وأليقانط. وقام في عام 1265 بحركة من محركات الفروسية التي هيأتها له الوحدة الأسبانية، فاستولى على مرسيه من المسلمين وأهداها إلى ملك قشتالة. وكان أكثر حكمة من الفنسو الحكيم، حتى أصبح بفضل هذه الحكمة أقوى ملوك أسبانيا في ذلك القرن، لا يقل في ذلك عن فردريك الثاني ولويس التاسع، فقد كان يشبه أولهما في ذكائه ودهائه، وبسالته المجردة من الضمير. لكن تحلله من قيود الأخلاق. وكثرة طلاقه نساءه، وحروبه العوان، وما كان يلجأ إليه من الأعمال الوحشية في بعض الأحيان تجعل الفرق بينه وبين القديس لويس كبيراً من هذه الناحية.

وقد دبر المؤامرات للاستيلاء على الجزء الجنوبي الغربي من فرنسا، ولكن لويس استطاع أن يتغلب عليه بقوة صبره وإن كان قد نزل له عن منبلييه. ودبر في أخريات أيامه مؤامرة أخرى للاستيلاء على صقلية ليتخذها قاعدة حربية، ومركزاً تجارياً، وليجعل البحر المتوسط الغربي بحيرة أسبانية. ولكن هذا الحلم لم يتحقق إلا في عهد ولده. ذلك أن بدرو الثالث (1276-1285)، تزوج ابنة مانفرد ملك صقلية ابن فردريك، وظن أن هذه الجزيرة من حقه هو حين استولى عليها شارل كونت أنجو؛ وبارك البابا استيلاءه عليها، فما كان من بدرو إلا أن ألغي سيادة البابا على أرغونة، وارتضى الحرمان البابوي، وركب البحر إلى صقلية.

وشهدت هذه الفترة في أسبانيا ما شهدته في إنجلترا وفرنسا من قيام الإقطاع واضمحلاله. بدأه الأشراف بأن تجاهلوا أو كادوا يتجاهلون السلطة المركزية، فقد كانوا هم ورجال الدين معفين من الضرائب التي كان عبؤها الباهظ واقعاً على عاتق المدن والتجارة، ثم انتهوا بأن خضعوا للملوك المسلحين بجيوشهم هم، تؤيدهم موارد المدن وحاجياتهم، ويعلى من مكانتهم إحياؤهم القانوني الروماني، الذي كان يفترض أن الحكم الملكي المطلق من بدائه نظام الحكم. ولم يكن ثمة قانون أسباني في بداية تلك الفترة، بل كانت هناك قوانين متفرقة لكل دولة من دول أسبانيا، ولكل طبقة من طبقات كل دولة. ثم شرع فردريك الثالث يضع نظاماً جديداً لقانون قشتالة، وأتم ألفنسو العاشر هذا النظام الذي عرف باسم قانون السبعة الأقسام (Siete Partidas) لأنه كان مقسماً سبعة أقسام (1260-1265)، وهو من أتم القوانين وأعظمها شأناً في تاريخ التشريع. وقد أسس قانون السبعة الأقسام على قوانين القوط الغربيين الأسبان ولكنه عدل لكي يتفق مع قوانين جستنيان، وكان أرقى من العصر الذي وضع فيه، ولهذا ظل مهملاً إلى حد كبير؛ ولكنه أصبح في عام 1338 قانون قشتالة النافذ، ثم صار في عام 1492 قانون أسبانيا كلها. ثم أدخل جيمس الأول قانوناً مثله في أرغونة، فقد نشرت أرغونة في عام 1283 قانوناً تجارياً وبحرياً نافذاً، وأقامت في بلنسية ثم في برشلونة وميورقة بعدئذ محاكم تدعى محاكم "قنصلية البحر".

وتزعمت أسبانيا بلاد العالم في العصور الوسطى في إقامة المدن الحرة والأنظمة النيابية. ذلك أن الملوك أرادوا أن يحصلوا على تأييد المدن في صراعهم مع الأشراف، فمنحوا كثيراً من البلدان عهوداً بالحكم الذاتي. وأصبح استقلال المدن بشئونها شهوة جامحة في أسبانيا كلها، فأخذت البلدان الصغرى تطالب بتحررها من البلدان الكبرى أو من الأشراف أو الكنيسة، أو الملك؛ فلما أفلحت في نيل هذه الحرية أقامت مشانقها في السوق العامة رمزاً لحريتها. وكان يحكم برشلونة في عام 1258 مجلس مؤلف من مائتي عضو، تمثل كثرتهم الغالبة شئون الصناعة والتجارة(88). وبلغت سيادة المدن زمناً ما حد الاستقلال، وأخذت تشن الحرب على المسلمين أو بعضها على بعض، ولكنها بالإضافة إلى هذا الاستقلال ألفت من نفسها أخوة hermandades للتعاون على العمل أو للمحافظة إلى هذا أمنها وسلامتها. ولما أن حاول الأشراف في عام 1295 أن يخضعوا حكومات المدن المحلية ألفت ثلاث وأربعون مدينة "أخوة قشتالة"، وتعهدت كلها بالاشتراك في الدفاع عن استقلالها، وأنشأت لها جيشاً مشتركاً. ولما أن هزمت هذه "الأخوة" الأشراف، فرضت رقابتها على موظفي الملك وكبحت جماحهم، وسنت قوانين تراعيها المدن المنضمة إلى هذا الحلف التي بلغ عددها مائة مدينة في بعض الأحيان.

ولقد جرت عادة الملوك الأسبان من زمن بعيد أن يعقدوا من حين إلى حين جمعية من الأشراف ورجال الدين؛ وأطلق اسم كورتز Cortes أي المحاكم لأول مرة على إحدى هذه الجمعيات التي عقدت في عام 1137. وضم كورتز ليون الذي اجتمع في عام 1188 بعض رجال الأعمال يمثلون المدن. وأكبر الظن أن هذا هو أقدم مثل من أمثلة النظم النيابية السياسية في أوربا المسيحية. ووعد الملك في هذا المجلس التاريخي ألا يعلن الحرب أو يعقد الصلح، أو يصدر قراراً إلا بعد موافقة الكورتز(89). واجتمع في قشتالة أول مجلس من هذا النوع مؤلف من الأعيان، ورجال الدين، ورجال المال من الطبقة الوسطى في عام 1250 أي قبل اجتماع "برلمان" إدورد الأول "النموذجي" بخمس وأربعين سنة. ولم يكن الكورتز هو الذي يضع القوانين بنفسه، ولكنه كان يصوغ "المستمسكات" ويعرضها على الملك، وكثيراً ما كان لهذا المجلس سلطان على المال يحمل الملك على أن يوافق على هذه "المستمسكات". وأصدر كورتز قطلونية في عام 1283 قراراً صادق عليه ملك أرغونة بألا يصدر بعد ذلك الوقت أي تشريع قومي بغير رضاء المواطنين (cives)، ثم صدر قرار آخر يطلب إلى الملك أن يدعو الكورتز إلى الاجتماع كل عام، وسبقت هذين القرارين مثلهما من القرارات التي أصدرها البرلمان الإنجليزي (1311-1322) بأكثر من ربع قرن من الزمان. هذا إلى أن الكورتز عين أعضاء يختارهم من كل طبقة من الطبقات الاجتماعية يؤلفون جنتا (Junta) أي اتحاداً ليشرف في أثناء الفترات التي تقع بين أدوارد انعقاد الكورتز على تنفيذ القوانين وإنفاق الأموال التي وافق عليها(90).

وكان من العوامل التي عقدت مشكلة الحكم في أسبانيا قيام الجبال التي قسمتها أقساماً منفصلة، وعرقلت تنفيذ قانون عام موحد في جميع ربوعها. يضاف إلى هذا أن عدم استواء أرضها، وجفاف هضبتها، وما كان يحل بها من الدمار حيناً بعد حين بسبب الحروب، كل هذا قد عطل الزراعة، وجعل أسبانيا في معظم أجزائها مراعي للماشية والضأن. وكانت قطعان الضأن الجميلة الصوف تغذى آلاف الأنواع في البلدان؛ ولقد حافظت أسبانيا على شهرتها العالمية القديمة بجمال أصوافها. وكانت التجارة الداخلية تقف في سبيلها صعاب النقل، واختلاف الموازين والمقاييس والنقد، غير أن التجارة الخارجية تمت في موانئ برشلونة، وطرقونة، وبلنسية، وإشبيلة، وقادس؛ وكان تجار قطلونية يجوبون جميع الأقطار؛ وكان لتجار قشتالة في عام 1282 مركز في بروج لا يضارعه إلا مركز العصبة الهانسية(91). وأصبح التجار والصناع أعظم من يمدون التاج بالمعونة المالية، ونظم صعاليك المدن لهم نقابات طوائف Gremios، ولكن الملوك كانوا يسيطرون سيطرة قوية على هذه النقابات، وكانت الطبقات العامة تعاني مساوئ الاستغلال الاقتصادي دون أن تستمتع بحق التمثيل النيابي السياسي.

وكانت كثرة الصناع إما من اليهود أو المسلمين المقيمين في أسبانيا المسيحية. فأما اليهود فقد أثروا في أرغونة، وقشتالة؛ وأسهموا بحظ موفور في حياة المملكتين العقلية؛ وكان عدد كبير منهم تجاراً أغنياء، ولكن قيوداً متزايدة في شدتها فرضت عليهم في نهاية هذه الفترة. وأما المسلمون المقيمون في أسبانيا المسيحية فقد ترك لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وقسط كبير من الاستقلال بحكم أنفسهم؛ وكان منهم أيضاً تجار أغنياء، ودخل عدد قليل منهم في بلاط الملوك، كما كان لأرباب الحرف منهم أثر قوي في العمارة الأسبانية، وأعمال التجارة الدقيقة، وأشغال المعادن، ونتج من أثرهم هذا طراز أسباني إسلامي أدى إلى استخدام الموضوعات والأشكال الإسلامية في الفن المسيحي. وقد سمي ألفنسو السادس نفسه في إحدى نشواته الدينية "إمبراطور العقيدتين Emperador de Ios Dos Cultos"(92). ولكن المسلمين في أسبانيا المسيحية كانوا يرغمون في العادة على لبس زي خاص، وعلى أن تكون منازلهم في كل مدينة في حي منعزل عن سائر أحيائها، وكانت تفرض عليهم ضريبة فادحة أكثر مما تفرض على غيرهم؛ وأخيراً أشعلت الثروة التي جمعوها بفضل مهارتهم في الأعمال الصناعية والتجارية نار الحسد في قلوب الأغلبية المسيحية؛ فأصدر جيمس الأول عام 1247 أمراً بطردهم من أرغونة، فغادرها أكثر من مائة ألف يحملون معهم حذقهم الفني، وتدهورت الصناعة في أرغونة من ذلك الحين.

وبعث امتزاج الحضارة الأسبانية بجزء غير قليل من الثقافة الإسلامية، والقوة الناشئة من الانتصار على عدو قديم، وتقدم الصناعة وازدياد الثروة، وارتقاء العادات والأذواق، بعث هذا كله في الحياة العقلية بأسبانيا نشاطاً عظيماً؛ فشهد القرن الثالث عشر نشأة ست جامعات في أسبانيا، وكان ألفنسو الثاني ملك أرغونة (1162-1196) أول الشعراء الغزلين الأسبان، وسرعان ما أصبح هؤلاء الشعراء يعدون بالمئات؛ ولم يكن هؤلاء يقرضون الشعر فحسب، بل صاغوا من احتفالات الكنيسة مسرحيات زمنية، ومهدوا بذلك السبيل إلى روائع لوبي ده فيجا Lope de Veag وكلدرون Calderon. وكان من روائع ذلك العصر أيضاً ملحمة السيد Cid ملحمة أسبانيا القومية. وكان خيراً من هذا كله فنون الموسيقى، والغناء، والرقص التي كانت تفيض من قلوب الشعب في المنازل والشوارع، والتي كانت مصدر العظمة والفخامة في قصور الملوك. وكانت أول مصارعة للثيران على الطراز الحديث سجلت في تاريخ أسبانيا هي المصارعة التي أقيمت في أبيلا عام 1107 في حفلة عرش؛ وقبل أن يحل عام 1300 كانت تلك المصارعة من الألعاب العامة في المدن الأسبانية. وجاء الفرسان الفرنسيون الذين أقبلوا على أسبانيا ليساعدوا أهلها في حروبهم مع المسلمين، جاءوا معهم في الوقت عينه بمبادئ الفروسية واحتفالاتها، فأصبح احترام النساء، أو احترام ملكية الرجل دون غيره لامرأة بعينها من مسائل الشرف لا تقل في هذا عن افتخار الرجل بشجاعته أو استقامته، وأضحت المبارزة للاحتفاظ بالشرف عاملاً أساسياً في الحياة الأسبانية. وكان امتزاج الدم الأوربي بالدم الأفريقي والسامي، والثقافة الغربية بالثقافة الشرقية، والأساليب السورية والفارسية بأصول الفن القوطي، والخشونة الرومانية بالعواطف الشرقية؛ كان هذا الامتزاج هو الذي تولد منه الخلق الأسباني، والذي جعل الحضارة الأسبانية في القرن الثالث عشر عنصراً فذاً بارزاً في موكب الحياة الأوربية.

الفصل الثالث عشر: البرتغال 1095

سُرَّ ألفنسو ملك قشتالة وليون في عام 1095 من الكونت هنري البرغندي أحد الفرسان الصليبيين الأسبان سروراً جعله يزوجه بابنته تريزا، وأن يجعل من بائنتها مقاطعة من مقاطعات ليون تدعى البرتغال أعطاه إياها إمارة إقطاعية. ولم يكن هذا الإقليم قد استرد من المسلمين إلا قبل ذلك الوقت بإحدى وثلاثين سنة، وكان المسلمون لا يزالون يحكمون جزأه الواقع جنوب نهر منديجو Mondego. وساء الكونت هنري أن يكون أقل من ملك، فأخذ هو وزوجته منذ قرانهما يأتمران ليجعلا من إقطاعياتهما دولة مستقلة؛ ولما مات هنري (1112) واصلت تريزا سعيها لنيل الاستقلال، وعلمت أعيان بلادها وأتباعها أن يفكروا على الدوام في حريتهم القومية، وشجعت مدنها على أن تحصن نفسها وتدرس فنون الحرب وأساليبها، وقادت بنفسها جنودها في حرب إثر حرب. وكانت في فترات السلم تحيط نفسها بالموسيقيين، والشعراء، والعشاق(93). وهُزمت، وأُسرت، ثم أُطلق سراحها، وأعيدت إلى إقطاعياتها؛ وأنفقت المال جزافاً في حب محرم، وخُلعت عن عرشها، ونفيت مع حبيبها، وماتت فقيرة معدمة (1130).

وكان إلهامها واستعدادها هما اللذين أمكنا ولدها أفنسو الأول هنريك Affonsol Henriqnes (1128-1185) أن يحقق أغراضه: ذلك أن ألفنسو السابع صاحب قشتالة وعده بأن يعترف به حاكماً مستقلاً تام السيادة على جميع البلاد التي ينتزعها من المسلمين جنوبي نهر الدوو. فهاجم هنري المسلمين بكل ما روثه عن أبيه من شجاعة وتهور، وعن أمه من روح عالية وصلابة، وهزمهم في أوتريك Outrique (1139)، ونادى بنفسه ملكاً على البرتغال. وأقنع رجال الدين الملكين بأن يعرضا الأمر على البابا إنوسنت الثالث، فكان حكمه لصالح قشتالة، فما كان من أفنسو هنريك إلا أن نقض هذا الحكم بأن عرض مملكته الجديدة على البابا إقطاعياً له. وقبل إسكندر الثالث هذا العرض واعترف به ملكاً على البرتغال (1143) على شريطة أن تؤدي جزية سنوية إلى كرسي روما(94). وواصل أفنسو هنريك حروبه مع المسلمين، واستولى على سنتريمة Santarem ولشبونة، ومد رقعة مملكته إلى نهر التاجه Tagus. ووصلت البرتغال في عهد أفنسو الثالث (1248-1279) إلى حدودها الأرضية التي لها في الوقت الحاضر، وأصبحت لشبونة ثغرها وعاصمتها لموقعها الحربي على مصب نهر التاجه (1263). وتقول إحدى الأساطير القديمة إن يولسيز- أوديسيوس Ulysses- Odysseus، هو الذي أنشأ المدينة وسماها باسمها القديم يولسبو Ulissipo الذي حرفه الناس فيما بعد بإهمالهم فكان أولسبو Olisipo أو لشبونة Lisbon.

ونغصت سني أفنسو الثاني الأخيرة الحربُ الأهلية التي شبت نارها بينه وبين ابنه دنيز Dinilz الذي كان يأخذه العجب من أن والده قد طال عمره أكثر مما يجب. وانتقل دنيز من هذه البداية المربية إلى حكم صالح طويل (1279-1325) عقد فيه الصلح بين ليون وقشتالة بحلف بينهما سببه الزواج، وامتنع النزاع بينه وبين وارث آخر للعرش بفضل توسط إزبل Isabel، زوجة دنيز الصالحة، وترك دنيز مجد الحروب ووجه جهوده إلى إصلاح حال بلاده من الناحيتين الثقافية والاقتصادية، فأنشأ مدارس زراعية وعلم الأهلين طرقاً للزراعة خيراً من الطرق التي كانوا يجرون عليها، وغرس الأشجار لتمنع تعرية التربة، وشجع التجارة، وأنشأ السفن والمدن، ونظم للبرتغال أسطولاً حربياً، وعقد معاهدة تجارية مع إنجلترا، فاستحق بذلك اللقب الذي أطلقه عليه شعبه حباً فيه وهو Re Lavrador أي الملك العامل. والحق أنه كان إدراياً مجداً، وقاضياً عادلاً، يعين الشعراء والعلماء، وقد كتب هو أحسن ما كتب من الشعر في زمنه وبلاده، وبفضله ارتقت اللغة البرتغالية، فلم تعد كما كانت من قبل لهجة جليقية بل أضحت لغة أدبية؛ وقد صاغ في أغانيه الرعوية pastorellas أغاني شعبه صياغة أدبية، وشجع الشعراء الغزلين في بلاطه على أن يغتنوا بمباهج الحب وآلامه. وكان دنيز نفسه عليماً بأحوال النساء، وكان يفضل أبناءه غير الشرعيين على ابنه الشرعي الوحيد. ولما أن خرج هذا الابن على أبيه؛ وحشد جيشاً ليخلع به أباه عن عرشه، ركبت إزبل، وكانت تعيش بعيدة عن مرح بلاط الملك ومباهجه، ووقفت بين القوتين المتحاربتين، وعرضت أن تكون أولى ضحايا نزاعهما وعنفهما. فاستحى زوجها وابنها من فعلهما وامتنعا عن القتال (1323).