قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 5 ج 23

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 5284

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> الحروب الصليبية -> أسبابها


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الخامس: المسيحية في عنفوانها 1095- 1300

الباب الثالث والعشرون: الحروب الصليبية 1095-1391

الفصل الأول: أسبابها

كانت الحروب الصليبية هي الفصل الأخير من مسرحية العصور الوسطى؛ ولعلها أجد الحوادث بالتصوير في تاريخ أوربا والشرق الأدنى، ففيها عمد الدينان العظيمان- المسيحية والإسلام-، آخر الأمر، وبعد قرون من الجدل والنقاش، إلى الفيصل الأخير فيما بين بني الإنسان من نزاع، ونعني به محكمة الحرب العليا؛ وفيها بلغ كل تطور في العصور الوسطى، وكل توسع في الشؤون التجارية والديانة المسيحية، وكل تحمس في العقيدة الدينية، وكل ما في الإقطاع من قوة، وفي الفروسية من فتنة وبهجة، وبلغ هذا كله غايته في حرب دامت مائتي عام في سبيل البشرية والأرباح التجارية. وأول سبب مباشر للحروب الصليبية هو زحف الأتراك السلاجقة. وكان العالم قبل زحفهم قد كيف نفسه لقبول سيطرة المسلمين على بلاد الشرق الأدنى. وكان الفاطميون حكام مصر قد حكموا فلسطين حكماً سمحاً رحيماً؛ استمتعت فيه الطوائف المسيحية بحرية واسعة في ممارسة شعائر دينها إذا استثنينا بعض فترات قصيرة قليلة. نعم إن الحاكم بأمر الله، الخليفة المجنون، دمر كنيسة الضريح المقدس (1010)؛ ولكن المسلمين أنفسهم قدموا المال الكثير لإعادة بنائها(1). وقد وصفها الرحالة المسلم ناصري خسرو بأنها بناء واسع الجنبات تتسع لثمانية آلاف شخص، بذل في بنائها أعظم ما يستطاع من الحذق والمهارة، وزين كل مكان في داخلها بالنسيج الحريري البيزنطي المطرز بخيوط الذهب، ورسم فيها المسيح عليه السلام راكباً على ظهر حمار(2)؛ وكان في أورشليم كنائس أخرى كثيرة؛ وكان في وسع الحجاج المسيحيين أن يدخلوا الأماكن المقدسة بكامل حريتهم؛ وكان الحج إلى فلسطين قد أصبح من زمن بعيد إحدى شعائر العبادة أو التوبة من الذنوب، فكان الإنسان أينما سار في أوربا يلتقي بحجاج يدلون على أنهم أدوا هذه الشعيرة بأن يضعوا على أثوابهم شارة في شكل الصليب من خوص النخل جاءوا به من فلسطين؛ ويوصف هؤلاء في كتاب بيرز بلاومان Piers Plowman بأنه "كان من حقهم أن يكذبوا ويخادعوا ما بقي من حياتهم(3)". لكن الأتراك انتزعوا بيت المقدس من الفاطميين في عام 1070، وأخذ الحجاج المسيحيون بعد عودتهم إلى أوطانهم يتحدثون عما يلقونه فيها من ظلم وتحقير. وتقول قصة قديمة لا نجد ما يؤيدها، إن أحد هؤلاء الحجاج وهو بطرس الناسك حمل إلى إربان الثاني Urban من سمعان بطريق أورشليم رسالة تصف بالتفصيل ما يعانيه المسيحيون فيها من اضطهاد وتستغيث به لينقذهم (1088). وكان السبب المباشر الثاني من أسباب الحرب الصليبية ما حاق بالإمبراطورية البيزنطية من ضعف شديد الخطورة. لقد ظلت هذه الإمبراطورية سبعة قرون طوال تقف في ملتقى المارة بين أوربا وآسيا، تصد جيوش آسيا وجحافل السهوب. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فإن اضطراب شؤونها الداخلية، وشيعها الخارجة على الدين، وانفصالها عن الغرب على أثر الانشقاق الذي حدث في عام 1054، كل هذا قد أوهنها وجعلها أضعف من أن تؤدي رسالتها التاريخية. وبينا كان البلغار، والبشناق Patznaks، والكومان Comans، والروس يدقون أبوابها في أوربا، كان الأتراك يقطعون أوصال ولاياتها الآسيوية، وكاد الجيش البيزنطي أن يقضي عليه عند ملازكرت في عام 1071، واستولى السلاجقة على حمص وإنطاكية (1085)، وطرسوس، ونيقية ذات الماضي التاريخي الديني، وأخذوا يتطلعون من وراء مضيق البسفور إلى القسطنطينية نفسها، واستطاع الإمبراطور ألكسيوس الأول (1081-1118) أن يحتفظ بجزء من آسيا الصغرى بعقد صلح مذل، ولكنه لم تكن لديه القدرة الحربية على صد الغارات التي توالت بعدئذ على أملاكه. ولو أن القسطنطينية سقطت وقتئذ في أيدي الترك لأمكنهم الاستيلاء على شرقي أوربا كله، ولَمَا بقي لمعركة تور (732) أثر ما. وبعث ألكسيوس برسله إلى إربان الثاني والى مجلس بياسنزا Piacenza يستحث أوربا اللاتينية لتساعده على صد هجمات الترك؛ وكان من أقواله "إن من الحكمة أن يحارب الأتراك في أرض آسيا بدل أن ننتظرهم حتى يقتحموا بجحافلهم بلاد البلقان إلى عواصم أوربا الغربية.

وثالث الأسباب المباشرة للحروب الصليبية هو رغبة المدن الإيطالية- بيزا، وجنوي، والبندقية، وأملفي Amalfi- في توسيع ميدان سلطانها التجاري الآخذ في الازدياد. ذلك أنه لما استولى النورمان على صقلية من المسلمين (1060-1091)، وانتزعت الجيوش المسيحية منهم جزءاً كبيراً من أسبانيا (1085 وما بعدها)، أصبح البحر المتوسط الغربي حراً للتجارة المسيحية؛ وأثرت المدن الإيطالية وقويت لأنها هي الثغور التي تخرج منها غلات إيطاليا والبلاد الواقعة وراء الألب، وأخذت هذه المدن تعمل للقضاء على تفوق المسلمين في الجزء الشرقي من البحر المتوسط وتفتح أسواق الشرق الأدنى لبضائع غربي أوربا. ولسنا نعلم إلى أي حد كان هؤلاء التجار الإيطاليون قريبين من مسامع البابا.

وصدر القرار النهائي مهن إربان نفسه، وإن كان غيره من البابوات قد طافت بعقولهم هذه الفكرة. فقد دعا جربرت Gerbert، حينما أصبح البابا سلفستر الثاني Sylvester II، العالم المسيحي لإنقاذ بيت المقدس، ونزلت حملة مخفقة في بلاد الشام (حوالي 1001)؛ ولم يمنع النزاع المرير القائم بين جريجوري السابع وهنري الرابع البابا من أن يقول بأعلى صوته: "إن تعريض حياتي للخطر في سبيل تخليص الأماكن المقدسة لأفضل عندي من حكم العالم كله"(4). وكان هذا النزاع على اشده حين رأس إربان مجلس بياسنزا في مارس من عام 1095؛ وأيد البابا في هذا المجلس استغاثة ألكسيوس، ولكنه أشار تأجيل العمل حتى تعقد جمعية أكثر من هذا المجلس تمثيلاً للعالم المسيحي، وتبحث في شن الحرب على المسلمين. ولعل الذي دعاه إلى طلب هذا التأجيل ما كان يعمله من أن النصر في مغامرة في هذا الميدان البعيد غير مؤكد؛ وما من شك في أنه كان يدرك أن الهزيمة ستحط من كرامة العالم المسيحي والكنيسة إلى أبعد حد؛ وأكبر الظن أنه كان يتوق إلى توجيه ما في طبائع أمراء الإقطاع والقراصنة النورمان من حب القتال إلى حرب مقدسة، تصد جيوش المسلمين عن أوربا وبيزنطية. ولقد كان يحلم بإعادة الكنيسة الشرقية إلى حظيرة الحكم البابوي، ويرى بعين الخيال عالماً مسيحياً عظيم القوة متحداً تحت حكم البابوات الديني، وروما تعود حاضرة للعالم؛ وكان هذا تفكيراً أملته رغبة في الحكم لا تعلو عليها رغبة.

وظل البابا بعدئذ بين شهري مارس وأكتوبر من عام 1095 يطوف بشمالي إيطاليا وجنوبي فرنسا، يستطلع طلع الزعماء ويضمن المعونة لما هو مقدم عليه. واجتمع المجلس التاريخي بمدينة كليرمونت Clermont في مقاطعة أوفرني، وهرع إليه آلاف الناس من مائة صقع وصقع لم يقف في سبيلهم برد نوفمبر القارس. ونصب القادمون خيامهم في الأراضي المكشوفة، وعقدوا اجتماعاً كبير لا يتسع له بهو، وامتلأت قلوبهم حماسة حين وقف على منصة في وسطهم مواطنهم إربان الفرنسي وألفى عليهم باللغة الفرنسية أقوى الخطب وأعظمها أثراً في تاريخ العصور الوسطى: يا شعب الفرنجة! شعب الله المحبوب المختار!... لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية، أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله، قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين، وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب وبالحرائق؛ ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم وقتلوا الآخر بعد أن عذبوهم أشنع التعذيب. وهم يهدمون المذابح في الكنائس، بعد أن يدنسوها برجسهم، ولقد قطعوا أوصال مملكة اليونان، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين.

على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع، إذا لم تقع عليكم أنتم- أنتم يا من حباكم الله أكثر قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة، وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوى قلوبكم- أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم- فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا، الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست.. لا تدعوا شيئاً يقعد بكم من أملاككم أو من شئون أسركم. ذلك بأن هذا الأرض التي تسكنونها الآن، والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار وقلل الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز عن ا، تجود بما يكفيهم من الطعام، ومن اجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، ويلتهم بعضكم بعضاً، وتتحاربون، ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية.

طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث، وتملكوها أنتم. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج. إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت السموات(5). وعلت أصوات هذا الجمع الحاشد المتحمس قائلة: "تلك إدارة الله Dieu li volt. وردد إربان هذا النداء ودعاهم إلى أن يجعلوه نداءهم في الحرب، وأمر الذاهبين إلى الحرب الصليبية أن يضعوا علامة الصليب على جباههم أو صدورهم. ويقول وليم مالمزبري William Malmsbury: "وتقدم بعض النبلاء من فورهم، وخروا راكعين بين يدي البابا، ووهبوا أنفسهم وأموالهم لله"(6) وحذا حذوهم آلاف من عامة الشعب، وخرج الرهبان والنساك من صوامعهم ليكونوا جنود المسيح بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ لا بمعناه المجازي. وانتقل البابا النشيط إلى مدن أخرى- إلى تور، وبوردو، وطولوز (طلوشة)، ومنبلييه، ونيمز Nimes... وظل تسعة أشهر يخطب داعياً إلى الحب الصليبية. ولما بلغ روما بعد أن غاب عنها سنتين، استقبلته بالترحاب أقدم مدن العالم المسيحي تقوى، وأخذ على عاتقه أن يحل جميع الصليبيين من جمع القيود التي تعوقهم عن الانضمام إلى المقاتلين. ولم يلق في عمله هذا مقاومة جدية؛ فحرر رقيق الأرض، وحرر التابع الإقطاعي طوال مدة الحرب مما عليه من الولاء لسيده؛ ومنح جميع الصليبيين ميزة المحاكمة أمام المحاكم الكنيسة لا أمام المحاكم الإقطاعية، وضمن لهم مدة غيابهم حماية الكنيسة لأملاكهم. وأمر بوقف جميع الحروب القائمة بين المسيحيين- وإن لم يقو على تنفيذ أمره هذا، ووضع مبدأ للطاعة يعلو على قانون الولاء الإقطاعي؛ وهكذا توحدت أوربا كما لم تتوحد في تاريخها كله، ووجد إربان نفسه السيد المرتضي- من الوجهة النظرية على الأقل- لملوك أوربا على بكرة أبيهم. وسَرت روح الحماسة في أوربا كما لم تسر فيها من قبل في أثناء هذا الاستعداد المحموم للحرب المقدسة.


الفصل الثاني: الحرب الصليبية الأولى 1095-1099

وانضوت جماعات لا عدد لها تحت لواء الحرب مدفوعة إلى هذا بمغريات جمة: منها أن كل من يخر صريعاً في الحرب قد وعد بأن تغفر له جميع ذنوبه، وأذن لأرقاء الأرض أن يغادروا الأراضي التي كانوا مرتبطين بها، وأعفى سكان المدن من الضرائب، وأجلت ديون المدينين على أن يؤدوا فائدة نظير هذا التأجيل، وتوسع البابا في سلطاته توسعاً جريئاً فأطلق سراح المسجونين، وخفف أحكام الإعدام عن المحكوم عليهم بها إذا خدموا طوال حياتهم في فلسطين، وانضم آلاف من المتشردين إلى القائمين بهذه الرحلة المقدسة؛ وأقبل كثيرون من الأتقياء المخلصين ليخلصوا الأراضي التي ولد فيها المسيح ومات، منهم رجال سئموا الفقر الذي كانوا يعانونه، والذي ظنوا أن لا نجاة لهم منه، ومنهم المغامرون التواقون إلى الاندفاع في مغامرات جريئة في بلاد الشرق، ومنهم الأبناء الصغار الذين يرجون أن تكون لهم إقطاعيات في تلك البلاد، ومنهم التجار الذين يبحثون عن أسواق لبضائعهم، والفرسان الذين غادر أرضهم أرقاؤها فأصبحوا لا عمل لهم، ومنهم ذوو النفوس الضعيفة الذين يخشون أن يرميهم الناس بالجبن وخور العزيمة. ونشطت الدعامة المألوفة في الحروب فأخذت تؤكد الاضطهاد الذي يلقاه المسيحيون في فلسيطن، والمعاملات الوحشية التي يلقونها على أيدي المسلمين، والأكاذيب عما في العقيدة الإسلامية من زيغ وضلال؛ فكان المسلمون يوصفون بأنهم يعبدون تمثالاً للنبي محمد(7)؛ وأخذ الثرثارون "الأتقياء" يقولون: إن النبي قد أصابته نوبة صرع التهمته في أثنائها الخنازير البرية(8). ورويت قصص خرافية عن ثروة الشرق، وعن الغانيات السمر ينتظرن أن يأخذهن الرجال البواسل(9).

وهذه البواعث المختلفة لا يمكن أن تجتمع من أجلها جموع متجانسة يستطاع إخضاعها لنظام عسكري. وقد بلغ من أمر هذا الخليط أن النساء والأطفال أصروا في كثير من الحالات على الانضمام إلى صفوف المجاهدين ليقوم النساء بخدمة أزواجهن، والأبناء بخدمة آبائهن، ولعلهم كانوا على حق في هذا الإصرار لأن العاهرات سرعان ما تطوعن لخدمة المحاربين. وكان إربان قد حدد لبدء الرحيل شهر أغسطس من عام 1096، ولكن الفلاحين القلقين الذين كانوا أوائل المتطوعين لم يستطيعوا الانتظار إلى هذا الموعد، فسار جحفل منهم عدته نحو أثنى عشر ألفاً (لم يكن من بينهم إلا ثمانية من الفرسان) وبدأ رحلته من فرنسا في شهر مارس بقيادة بطرس الناسك Peter the Hermit، وولتر المفلس (Gautar Sans- Avoir) Walter the penniless، وقام جحفل آخر- ربما كانت عدته 500 من ألمانيا بقيادة القس جتسشوك Gattschalck، وزحف ثالث من أرض الرين بقيادة الكونت إمكو الليننجيني Count Emico iningen-. وكانت هذه الجموع غير النظامية هي التي قامت بأكثر الاعتداءات على يهود ألمانيا ويوهيميا، وأبت أن تطيع نداء رجال الدين والمواطنين من أهل تلك البلاد، وانحطت حتى استحالت إلى وقت ما وحوشها كاسرة تستر تعطشها للدماء بستار من عبارات التقي والصلاح. وكان المجندون قد جاءوا معهم ببعض المال، لكنهم لم يجيئوا إلا بالقليل الذي لا يغني من الطعام، وكان قادتهم تعوزهم التجارب فلم يعدوا العدة لإطعامهم؛ وقدر كثيرون من الزاحفين المسافة بأقل من قدرها الصحيح، وكانوا وهم يسيرون على ضفاف الرين والدانوب كلما عرجوا على بلدة من البلدان يسألهم أبناؤهم في لهفة- أليست هذه أورشليم؟ ولما فرغت أموالهم، وعضهم الجوع، اضطروا إلى نهب من في طريقهم من الحقول والبيوت، وسرعان ما أضافوا الفسق إلى السلب والنهب(11). وقاومهم أهل البلاد مقاومة عنيفة، وأغلقت بعض المدن أبوابها في وجوههم، وأمرهم بعضها أن يرحلوا عنها بلا مهل، ولما بلغوا آخر الأمر مدينة القسطنطينية، بعد أن نفذت أموالهم، وهلك منهم من هلك بفعل الجوع والطاعون، والجذام، والحمى، والمعارك التي خاضوا غمارها في الطريق، رحب بهم ألكسيوس؛ ولكنه لم يقدم لهم كفايتهم من الطعام، فانطلقوا في أرباض المدينة، ونهبوا الكنائس، والمنازل، والقصور. وأراد ألكسيوس أن ينقذ عاصمته من هذه الجموع الفتاكة التي أهلكت الحرث ولانسل وكانت فيها كالجراد المنتشر. فأمدها بالسفن التي عبرت بها البسفور، وأرسل إليها المؤن، وأمرها بالانتظار حتى تصل إليها فرق أخرى أحسن منها سلاحاً وعتاداً. ولكن الصليبيين لم يستمعوا إلى هذه الأوامر، سواء كان ذلك لجوعهم أو لقلقهم ونفاد صبرهم، فزحفوا على نيقية. وخرجت عليهم قوة منظمة من الترك، كلها من مهرة الرماة، وأبادت هذه الطليعة من فرق الحرب الصليبية الأولى فلم تكد تبقى على أحد منها. وكان ولتر المفلس من بين القتلى؛ وأما بطرس الناسك فكانت نفسه قد اشمأزت من هذه الجموع التي لا تخضع لقيادة، وعاد قبل المعركة إلى القسطنطينية، وأقام فيها سالماً حتى عام 1115.

وبينا كانت هذه الحوادث تجري في مجراها كان الزعماء والإقطاعيون الذين حملوا الصليب قد جمع كل منهم رجاله في إقليمه. ولم يكن من بين هؤلاء الزعماء ملوك، فقد كان فيلب الأول ملك فرنسا، ووليم الثاني ملك إنجلترا، وهنري الرابع ملك ألمانيا، كان هؤلاء جميعاً مطرودين من حظيرة الدين حين كان إربان الثاني يدعو إلى الحرب الصليبية، ولكن كثيرين من الأشراف انضموا إلى صفوف المقاتلين، وكانوا كلهم تقريباً من الفرنسيين أو الفرنجة. وبهذا كانت الحرب الصليبية الأولى في الأغلب الأعم مغامرة فرنسية، ومن أجل هذا ظل الشرق الأدنى إلى هذا اليوم إذا ذكر غربي أوربا سماه بلاد الفرنجة (الأفرنج)، وكان الدوق جدفري Godfrey سيدبويون Bouillon (وهي مقاطعة صغيرة في بلجيكا) يجمع بين صفات الجندي والراهب- كان شجاعاً محنكاً في الحرب، ورعاً إلى حد التعصب في الدين؛ وكان الكونت بوهمند من سادة ترنتو Taranto ابن روبرت جسكارد Robert Guiscard قد ورث عن أبيه كل شجاعته وبراعته، وكان يحلم باقتطاع مملكة له ولجنوده النورمان من الأملاك البيزنطية السابقة في الشرق الأدنى. وكان معه ابن أخيه تانكرد الهوتفيلي Tancred of Hauteville الذي شاءت الأقدار أن يكون بطل رواية أورشليم المنجاة Jeusalem Delivered لتاسو Tasso. وكان بهي الطلعة، شجاعاً لا يهاب الردي، شهماً، كريماً، يحب المجد والمال، يعجب به الناس كافة ويرونه المثل الأعلى للفارس المسيحي. وكان ريموند Reymond كونت طولوز (طلوشة) قد حارب المسلمين من قبل في أسبانيا فلما تقدمت به السن وهب نفسه وثروته العظيمة إلى حرب أكبر وأوسع، ولكن غطرسته أفسدت عليه نبله، ودنس بخله تقواه.

وسارت هذه الجموع إلى القسطنطينية من طرق مختلفة؛ وعرض بوهمند على جدفري أن يستوليا على المدينة، فرفض جدفري هذا العرض لأنه لم يأت، على حد قوله، إلا لقتال الكفرة(12)، ولكن هذه الفكرة لم تمت. وكان فرسان الغرب الأشداء أنصاف الهمج يحتقرون سادة الشرق المثقفين المخادعين، ويرون أنهم مارقون من الدين، مخنثون، مترفون. وكانوا ينظرون بعين الدهشة والحسد إلى الكنوز المخزونة في كنائس العاصمة البيزنطية، وقصورها وأسواقها، ويرون أن هذا الثراء العظيم يجب أن يكون من نصيب الشجعان البواسل. ولعل ألكسيوس قد ترامت إليه هذه الأفكار التي كانت تملأ صدور منقذيه، وكان ما لاقاه في قتال جحافل الفلاحين (وقد لامه الغرب على هزيمته إياهم) مما دعاه إلى اصطناع الحذر، وإن شئت فقل إلى النفاق. نعم إنه استنجد بالغرب على الأتراك، ولكنه لم يطلب أن تتجمع قوى أوربا المتحدة على أبواب عاصمته، ولم يكن واثقاً قط من أن أولئك المقاتلين يطمعون في أورشليم بقدر ما يطمعون في القسطنطينية، أو من أنهم سيعيدون إلى ملكه أي إقليم ينتزعونه من الأتراك، وكان قبل من أملاك الدولة البيزنطية. ولهذا عرض على الصليبين المؤن، والأموال، ووسائل النقل، والمعونة الحربية، وعرض على زعمائهم رشا سخية(12)، وطلب إليهم في نظير هذا أن يقسم النبلاء يمين الولاء له بوصفه سيدهم الإقطاعي، وأن تكون كل الأراضي التي يستولون عليها إقطاعيات لهم منه. وأثرت الفضة في نفوس النبلاء ورقت قلوبهم فأقسموا اليمين المطلوبة.

وعبرت هذه الجيوش البالغ عددها نحو ثلاثين ألفاً المضيقين في عام 1079، وكانت لا تزال موزعة القيادة. وكان من حسن حظ الصليبيين أن المسلمين كانوا أشد انقساماً على أنفسهم من المسيحيين، فقد أنهكت الحروب قوة المسلمين في أسبانيا، ومزقت المنازعات الدينية وحدتهم في شمالي إفريقيا؛ وكان الخلفاء الفاطميون في الشرق يمتلكون بلاد الشام الجنوبية، بينما كان أعداؤهم السلاجقة يمتلكون جزأها الشمالي والقسم الأكبر من آسيا الصغرى. وخرجت أرمينيا على فاتحيها السلاجقة وتحالفت مع الفرنجة. وزحفت جيوش أوربا يؤيدها هذا العون كله وحاصرت نيقية. واستسلمت الحامية التركية في المدينة بعد أن وعدها ألكسيوس بالمحافظة على حياتها (19 يونية سنة 1097)، ورفع إمبراطور الروم العلم الإمبراطوري على حصنها، وحمى المدينة من النهب، وأرضى الزعماء الإقطاعيين بالعطايا السخية، ولكن الجنود المسيحيين اتهموا ألكسيوس بأنه ضالع مع الأتراك. واستراح الصليبيون في المدينة أسبوعاً زحفوا بعده على أنطاكية، والتقوا عند دوريليوم بجيش تركي تحت قيادة قلج أرسلان، وانتصروا عليه انتصاراً سفكوا فيه كثيراً من الدماء (أول يوليه سنة 1097)، واخترقوا آسيا الصغرى دون أن يلقوا فيها عدواً غير قلة الماء والطعام، والحر الشديد الذي لم تكن دماء الغربيين قادرة على احتماله. ومات الرجال والنساء، والخيل والكلاب، من العطش في أثناء هذا الزحف الشاق الذي اجتازوا فيه خمسمائة ميل؛ فلما عبروا جبال طوروس انفصل بعض النبلاء بقواتهم عن الجيش الرئيسي ليفتحوا لأنفسهم فتوحاً خاصة بهم- فسار ريمند، وبوهمند، وجدفري إلى أرمينيا؛ وسار تنكرد وبولدوين (أخو جدفري) إلى الرها حيث أسس بلدوين بالختل والغدر(14) أولى الإمارات اللاتينية في الشرق (1098). وأخذت قوات الصليبيين الكبرى تشكو من هذا التأخير وتتوجس منه الشر المستطير؛ فعاد النبلاء وواصلت القوة بأجمعها الزحف على إنطاكية.

ويصف المؤرخ الإخباري صاحب جستا فرنكورم Gesta Francorum إنطاكية بأنها "مدينة ذات بهجة وجمال عظيم تمتاز عن سائر المدن"(15). وقاومت المدينة الحصار ثمانية أشهر، مات في خلالها كثير من الصليبيين بسبب تعرضهم لأمطار الشتاء القارس والبرد والجوع، وقد وجد بعضهم غذاء جديداً بامتصاص "أعواد حلوة سموها زكرا Zucra" (وهي كلمة مشتقة من لفظ السكر العربي)، ففيها ذاق "الفرنجة" طعم السكر للمرة الأولى وعرفوا أنه يضع من عصير أحد النباتات المزروعة(16). وقدمت العاهرات للغزاة متعاً أشد خطراً من السكر، من ذلك أن رئيساً للشمامسة قتله الأتراك وهو مضطجع مع عاهر سوريا(17). وجاءت الأنباء في شهر مايو من عام 1098 أن جيشاً إسلامياً كبيراً يقوده كربوغة أمير الموصل يقترب من أنطاكية، لكن هذه المدينة سقطت في أيدي الصليبيين (3 يونية 1098) قبل أن يصل إليها هذا الجيش ببضعة أيام. وخشي كثيرون من الصليبيين عجزهم عن مقاومة جيش كربوغة، فركبوا السفن في نهر العاصي، وفروا هاربين. وزحف ألكسيوس بقوة من جنود الروم، ولكن جماعة من الفارين غرروا به، فادخلوا في روعه أن المسيحيين هزموا، فعاد أدراجه ليدافع عن آسيا الصغرى، ولم يغفر له الصليبيون هذه الفعلة. وأراد قسيس من مرسيليه يدعى بطرس بارثلميو Peter Bartholomew أن يبعث الشجاعة من جديد في قلوب الصليبيين، فادعى أنه عثر على الحربة التي نفذت في جنب المسيح، ولما سار المسيحيون للقتال رفعت هذه الحربة أمامهم كأنها علم مقدس، وخرج ثلاثة فرسان من بيت التلال في ثياب بيض حين ناداهم الرسول البابوي أدهمار وسماهم الشهداء القديسين موريس، وثيودور، وجورج. وبعث ذلك في قلوب الصليبيين روحاً جديدة، وتولى بوهمند القيادة الموحدة فانتصروا انتصاراً حاسماً. ثم اتهم بارثلميو بأنه ارتكب خدعة دينية، وعرض أن يرضى بحكم الله فيجتاز ناراً مشتعلة ليثبت باجتيازها صدق دعواه. وأجيب إلى طلبه فاخترق ناراً مشتعلة في حزم من الحطب، وخرج سالماً في الظاهر، ولكنه توفي في اليوم الثاني من أثر الحروق أو من الإجهاد الذي لم يحتمله قلبه، وأزيلت الحربة من بين أعلام الجيش الصليبي(18).

وأصبح بوهمند من ذلك الحين أمير إنطاكية اعترافاً بفضله، وكان يمتلك هذا الإقليم في ظاهر الأمر بوصفه أميراً إقطاعياً خاضعاً لألكسيوس، لكنه في الواقع كان يحكمه بوصفه حاكماً مستقلاً؛ وقال زعماء الصليبيين إن عجز ألكسيوس عن أن يخف لمعونتهم قد أحلهم من يمين الولاء التي اقسموها له. وقضى أولئك الزعماء ستة أشهر أعادوا فيها تنظيم قواهم وجددوا نشاطهم، ثم زحفوا بجيوشهم على أورشليم. وبعد حروب وقفوا في اليوم السابع من شهر يونية عام 1099 وهم مبتهجون متعبون أمام أسوار المدينة. وكان من سخريات التاريخ أن الأتراك الذين جاءوا ليقاتلوهم قد أخرجوا من المدينة قبل ذلك الوقت بعام، وكان مخرجوهم هم الفاطميين. وعرض الخليفة الفاطمي على الصليبين أن يعقد معهم الصلح مشترطاً على نفسه أن يؤمن الحجاج المسيحيين القادمين إلى أورشليم والذين يأتونها للعبادة. ولكن بوهمند وجدفري طلبا التسليم بغير قيد أو شرط، وقاومت حامية الفاطميين المكونة من ألف رجل الحصار مدة أربعين يوماً، فلما حل اليوم الخامس عشر من شهر يولية قاد جدفري وتانكرد رجالهما وتسلقوا أسوار المدينة، وتم للصليبيين الفوز بغرضهم بعد أن لاقوا في سبيله الأمرين. وفي هذا يقول القس ريمند الإجيلي شاهد العيان: وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين وقتل غيرهم رمياً بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا أنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخر يعذبون عدة أيام، ثم أحرقوا في النار. وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل(19).

ويروي غيره من المعاصرين تفاصيل أدق من هذه وأوفى؛ يقولون إن النساء كن يقتلن طعناً بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم(20) ويقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد، وذبح السبعون ألفاً من المسلمين الذين بقوا في المدينة، أما اليهود الذين بقوا أحياء فقد سيقوا إلى كنيس لهم، وأشعلت فيهم النار وهم أحياء. واحتشد المنتصرون في كنيسة الضريح المقدس، وكانوا يعتقدون أن مغارة فيها احتوت في يوم ما المسيح المصلوب. وفيها أخذ كل منهم يعانق الآخر ابتهاجاً بالنصر، وبتحرير المدينة، ويحمدون الرحمن الرحيم على ما نالوا من فوز!.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: مملكة أورشليم اللاتينية 1099-1143

اختير جدفري البويوني الذي اعترف له آخر الأمر بالصلاح، والتقي المنقطعي النظير حاكماً على دمشق على أن يلقب بهذا اللقب المتواضع وهو "حامي الضريح المقدس" ولم يدع الحاكم الجديد أنه خاضع لألكسيوس لأن الحكم البيزنطي لهذه المدينة كان قد انقضى منذ 365 عاماً، ولهذا أصبحت مملكة أورشليم اللاتينية من يوم إنشائها دولة مستقلة كاملة السيادة. وحرم فيها المذهب الأورثوذكسي الشرقي، وفر البطريق اليوناني إلى قبرص، وقبلت أبرشيات المملكة الجديدة الشعائر اللاتينية، والمطران الإيطالي والحكم البابوي.

وبعد فإن ثمن السيادة هو القدرة على الدفاع عنها. وهذا هو الثمن الذي كان على المحررين أن يؤيده؛ فقد وصل إلى عسقلان بعد أسبوعين من هذا التحرير جيش مصري يهدف إلى استعادة المدينة المقدسة في أديان كثيرة وهزم جدفري هذا الجيش القادم، ولكنه مات بعد سنة واحدة من تلك المعركة (1100) وخلفه أخوه بولدوين وهو أقل منه كفاية (1100-1118)، واتخذ لنفسه لقباً أسمى من لقبه وهو لقب ملك. وشملت المملكة الجديدة في عهد الملك فلك Fulk كونت أنجو (1131-1143) الجزء الأكبر من فلسطين وسوريا، ولكن المسلمين ظلوا مالكين حلب، ودمشق، وحمص. وقسمت المملكة أربع إمارات إقطاعية، تتركز على التوالي حول أورشليم، وإنطاكية والرها، وطرابلس؛ ثم جزئت كل إمارة إلى إقطاعيات تكاد كل منها تكون مستقلة عن الأخرى، وكان سادتها المتحاسدون يشنون الحروب بعضهم على بعض، ويسكون العملة، ويحاكون الملوك المستقلين في هذه وغيرها من الشئون. وكان الأشراف هم الذين يختارون الملك، وتقيده سلطة كنسية دينية لا سلطان عليها لغير البابا نفسه. وكان مما أضعف سلطان الملك غير هذا أنه أسلم عدة ثغور: يافا، وصور، وعكا، وبيروت، وعسقلان- إلى البندقية، وبيزا، وجنوى، نظير ما تقدمه للمملكة الجديدة من معونة حربية وما تحمله لها بطريق البحر من مؤن. أما تنظيم المملكة وقوانينها فكانت تضعها المحاكم العليا في أورشليم- وكان هذا إحدى النتائج المنطقية للحكم الإقطاعي من الوجهة القانونية. وادعى الأشراف ملكية الأرض جميعها، وأنزلوا ملاكها السابقين- سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين- منزلة أرقاء الأرض، وفرضوا عليهم واجبات إقطاعية أشد قسوة مما كان منها وقتئذ في أوربا، حتى أخذ سكان البلاد المسيحيون ينظرون بعين الحسرة إلى حكم المسلمين ويعدونه من العصور الذهبية التي مرت بالبلاد(21).

وكان في المملكة الناشئة كثير من أسباب الضعف، ولكنها كانت تتلقى معونة فذة من نظام من الرهبان الحربين. ذلك أن تجار أملفي Amalfi كانوا قد حصلوا من المسلمين منذ عام 1048 على إذن ببناء مستشفى في بيت المقدس لإيواء الفقراء أو المرضى من الحجاج. ثم نظم ريمند دوبي Raymond du Puy موظفي هذا المعهد تنظيماً جديداً فجعلهم هيئة دينية تكرس حياتها للعفة، والفقر،ى والطاعة، وحماية المسيحيين في فلسطين بالدفاع عنهم دفاعاً عسكرياً؛ ومن ثم أصبح هؤلاء الفرسان فرسان مستشفى القديس يوحنا من أنبل الهيئات الخيرية في العالم المسيحي. وحدث حوالي ذلك الوقت نفسه (1119) أن نذر هيدوه بايان Hugh de Payans وثمانية آخرون من فرسان الصليبيين أنفسهم للرهبنة، وخدمة المسيحيين العسكرية، وأن حصلوا من بلدوين الثاني على مسكن لهم بالقرب من الموضع الذي كان فيه هيكل سليمان، وسرعان ما أطلق عليهم اسم فرسان المعبد. ووضع لهم القديس برنار نظاماً صارماً، لم يطيعوه زمناً طويلاً؛ وكان مما أثنى عليهم به أنهم "أكثر الناس علماً بفن الحرب"، وأمرهم "ألا يغتسلوا إلا نادراً" وأن يقصوا شعر رؤوسهم(22). وكتب برنار إلى فرسان المعبد يقول "إن على المسيحي الذي يقتل غير المؤمن في الحرب المقدسة، أن يثق بما سينال من ثواب، وعليه أن يكون أشد وثوقاً من هذا الثواب إذا قتل هو نفسه، وإن المسيحي ليبتهج بموت الكافر لأن المسيح يبتهج بهذا الموت"(23)؛ ومن الواجب على الناس أن يقتلوا وهم مرتاحو الضمير إذا كانوا يريدون النصر في الحروب. وكان الواحد من فرسان المستشفى يلبس مئزراً أسود اللون، على كمه الأيسر صليب، أما الواحد من فرسان المعبد فكان يلبس مئزراً أبيض على "حرملته" صليب أحمر. وكانت كلتا الطائفتين تكره الأخرى كرهاً مبعثه الدين. وانتقل فرسان المستشفى وفرسان المعبد من تمريض الحجاج إلى الهجوم على حصون المسلمين؛ ومع أن فرسان المعبد لم يكونوا يزيدون على ثلثمائة، وأن فرسان المستشفى كانوا حوالي 1180(24)، فقد كان لهم جميعاً شأن ظاهر في معارك الحروب الصليبية؛ وذاعت شهرتهم الحربية. وقامت الطائفتان بحملة واسعة لجمع المال، فتوالت عليهما الإعانات من الكنيسة والدولة، ومن الأغنياء والفقراء على السواء؛ فلم يحل القرن الثالث عشر حتى كانت كلتاهما تمتلك في أوربا ضياعاً واسعة تشمل أديرة، وقرى، وبلداناً. وأدهشت كلتاهما المسيحيين والمسلمين بما أنشأت من الحصون الواسعة في بلاد الشام، حيث كانوا يستمتعون بالترف مجتمعين، وسط متاعب الحروب وكدحها، مع أنهم قد نذروا أنفسهم فرادي للفقر(25). وفي عام 1190 أنشأ ألمان فلسطين طائفة الفرسان التيوتون بمعونة عدد قليل من الألمان في بلادهم الأصلية، وشادوا لهم مستشفى قرب عكا.

وعاد معظم الصليبيين إلى أوربا بعد الاستيلاء على بيت المقدس، فنقص بذلك عدد الرجال الذين تعتمد عليهم الحكومة المزعزعة الأركان نقصاً يعرضها للخطر الشديد. ووفد على البلاد كثيرون من الحجاج ولكن قلما بقي فيها عدد منهم للقتال. وكان الروم في الشمال يترقبون فرصة تتاح لهم لاستعادة إنطاكية والرها وغيرهما من المدن التي كانوا يدعون أنها مدن بيزنطية؛ وأخذ المسلمون في الشرق ينشطون ويضمون صفوفهم بتأثير النداءات الإسلامية والغارات المسيحية. وكان اللاجئون المسلمون الفارون من فلسطين يقصون عليهم الحوادث المفصلة المحزنة التي أعقبت سقوط المدينة في أيدي المسيحيين. واقتحمت هذه الجموع مسجد بغداد العظيم وأهابت بالجيوش الإسلامية أن تحرر بيت المقدس وقبة الصخرة المقدسة من أيدي الكفرة النجسة(26). وكان الخليفة عاجزاً لا يستطيع تلبية النداء، ولكن عماد الدين زنكي أمير الموصل الذي ولد عبداً رقيقاً لبى الدعوة، وزحف جيشه الحسن القيادة في عام 1144 وانتزع من المسيحيين المعقل الخارجي الشرقي، وبعد اشهر قليلة استعاد الرها وضمها إلى حظيرة الإسلام. واغتيل زنكي وخلفه ابنه نور الدين، وكان يماثله في شجاعته، ويفوقه في قدرته. وكانت أخبار هذه الحوادث هي التي أثارت أوربا ودفعتها إلى الحرب الصليبية الثانية.

الفصل الرابع: الحرب الصليبية الثانية 1146-1148

واستغاث القديس برنار بالبابا يوجنيوس الثالث لينادي مرة أخرى بحمل السلاح. وكان يوجنيوس وقتئذ في صراع مع الخارجين على الدين في روما نفسها، فطلب إلى برنار أن يقوم هو نفسه بالدعوى. وكانت هذه فكرة سديدة لأن القديس كان أعظم شأناً من الرجل الذي نصبه هو بابا. فلما أن خرج من صومعته في كليرفو Clairvaux ليدعو الفرنسيين إلى الحرب خفتت أصوات الشك التي كانت مستكنة في صدور المؤمنين، وزالت المخاوف التي نشرتها القصص التي كانت تروي عن الحروب الصليبية الأولى. واتخذ برنار سبيله مباشرة إلى الملك لويس السابع وأقنعه بأن يحمل الصليب، ثم وقف والملك إلى جانبه وأخذ يخطب الجمع الحاشد في فيزلاي Vezelay (1146)؛ ولم يكد يتم خطبته حتى تطوع الجمع كله لحمل السلاح، وتبين أن ما كان معداً من الصلبان لا يكفيهم؛ فمزق برنار مئزره ليصنع منه ما يحتاجه من الشارات، وكتب إلى البابا يقول إن "المدائن والحصون قد خلت من سكانها، ولم يبق إلا رجل واحد لكل سبع نساء، وترى في كل مكان أرامل لأزواج لا يزالون أحياء". ولما أن ضم إليه فرنسا على هذا النحو انتقل إلى ألمانيا، واستطاع بحماسته وفصاحة لسانه أن يقنع الإمبراطور كنراد الثاني بأن الحرب الصليبية هي القضية الوحيدة التي يستطاع بها توحيد حزبي الجلف Guelf والههنستوفن Hohenstaufen اللذين كان نزاعهما يمزق الدولة تمزيقاً. وانضوى كثيرون من النبلاء تحت لواء كنراد، من بينهم الشاب فردريك السوابي Frederick of Swabfa الذي أصبح فيما بعد بربروسه Barbarossa والذي مات في الحرب الصليبية الثالثة.

وبدأ كنراد والألمان سيرهما في يوم عيد الفصح من عام 1147، وتبعهما الفرنسيون في يوم عيد العنصرة، وكانوا يسيرون في حذر على مسافة منهم، لأنهم لم يكونوا واثقين أيهما أشد عداء لهم: الألمان أو الأتراك. وكان الألمان أيضاً يشعرون بمثل هذه الحيرة بين الأتراك واليونان؛ وبلغ من كثرة المدن البيزنطية التي نهبت في طريق الزاحفين أن أغلقت كثير منها أبوابها في وجوههم، ولم تقدم لهم إلا قليلاً من المؤن أنزلتها في سلات من فوق الأسوار. وعرض عليهم مانول كمنينوس Manuel Comnenus إمبراطور الرومان في ذلك الوقت في رقة ولطف أن تعبر الجيوش النبيلة مضيق الهلسبنت عند ستسوس Sestos، بدل أن تخترق القسطنطينية، ولكن كنراد ولويس رفضا هذا العرض، وقامت طائفة في مجلس لويس تدعوه إلى الاستيلاء على القسطنطينية وضمها إلى فرنسا، ولكنه لم يستجب لهذه الدعوة. على أنه لا يبعد أن تكون أنباؤها قد ترامت إلى اليونان؛ هذا إلى أن هؤلاء قد توجسوا خفية من قامة فرسان الغرب ودروعهم، وإن سرتهم حاشيتهم النسائية. فقد كانت اليانور المتعية تصاحب زوجها لويس، وكان الشعراء يصحبون الملكة، ونبلاء فلاندرز وطلوشة يصطحبون معهم أزواجهم، وكانت وسائل النقل التي مع الفرنسيين مثقلة بالحقائب والصناديق الملآى بالثياب، ومواد التجميل، يراد بها المحافظة على جمال تلك السيدات في الأجواء المتقلبة وفي صروف الدهر والحرب. وعجل مانويل بنقل الجيشين في مضيق البسفور، وأمد اليونان بالنقود المخفضة القيمة ليتعاملوا بها مع الصليبيين. وكثيراً ما أدى نقص المؤن في آسيا، وارتفاع الأثمان التي يطالب بها اليونان، إلى النزاع بين المنقذين ومن يريدون إنقاذهم من أعدائهم، وكان مما أحزن فردريك ذا اللحية الصهباء أنه اضطر إلى أن يسفك بسيفه دماء المسيحيين ليستطيع ملاقاة "الكفار". وأصر كنراد على أن يسير في الطريق الذي سارت فيه الحملة الصليبية الأولى مخالفاً بذلك نصيحة مانويل. وتخبط الألمان في سيرهم على الرغم من مرشديهم، أو لعل ذلك كان بفعل مرشديهم، فاجتازوا بطاحاً بعد بطاح خالية من موارد الطعام، ووقعوا في كمين بعد كمين نصبه لهم المسلمون، ودب في قلوبهم اليأس لكثرة من هلك منهم. والتقى جيش كنراد عند دورليوم، حيث هزمت الحملة الأولى جيش قلج أرسلان، بقوة المسلمين الرئيسية، ومني فيها بهزيمة ساحقة، لم ينج فيها من جيش المسيحيين أكثر من واحد من كل عشرة. وخدع الجيش الفرنسي الذي كان متأخراً وراء الألمان بمسافة طويلة بما جاءه من أخبار عن انتصار الألمان، فتقدم في غير حذر، وقضي على الكثيرين من رجاله الجوع وهجمات المسلمين. ولما وصل إلى أضاليا أخذ لويس يساوم رؤساء بحارة السفن اليونانية على نقل جيشه بطريق البحر إلى طرسوس أو إنطاكية المسيحيتين، وطالب أولئك الرؤساء بأجور باهظة عن كل شخص تحمله السفن، فقبل لويس وطائفة من النبلاء، وإليانور، وسرب من السيدات الانتقال، وتركوا بقية الجيش الفرنسي في أضاليا، وانقضت جيوش المسلمين على المدينة وقتلوا كل من فيها تقريباً من الجنود الفرنسيين (1148). ووصل لويس إلى بيت المقدس ومعه النساء وليس معه جيش، كما وصل إليها كنراد بفلول الجيش الذي غادر به راتسبون. وحشد الملكان من هذه الفلول وممن كان في العاصمة من الجنود جيشاً مرتجلاً، وزحفا به على دمشق؛ وكانت قيادته موزعة بين كنراد، ولويس، وبولدوين الثالث (1143-1162). وشجر النزاع في أثناء الحصار بين النبلاء على الطائفة التي تحكم المدينة بعد سقوطها، وتسرب عمال المسلمين إلى الجيش المسيحي، ورشوا بعض الزعماء بالمال فجعلوهم يقعدون بلا عمل أو ينسحبون من الميدان(27). ولما أن ترامت الأنباء بأن أميري حلب والموصل يزحفان بجيش كبير لفك الحصار عن دمشق تغلب دعادة الانسحاب، فانقسم الجيش المسيحي إلى جماعات قليلة فرت إلى إنطاكية أو عكا، أو بيت المقدس.. وهزم كنراد وأصيب بالمرض ورجع مسربلاً بالعار إلى ألمانيا، وعادت إليانور وعاد معظم الفرسان إلى فرنسا، أما لويس فقد بقي فلي فلسطين عاماً آخر يحج فيه إلى الأضرحة المقدسة.

وارتاعت أوربا لما أصيبت به الحملة الصليبية الثانية من إخفاق شنيع، وأخذ الناس يتساءلون كيف يرضى الله جل جلاله أن يذل المدافعون عن دينه هذا الإذلال المنقطع النظير، وشرع النقاد يهاجمون القديس برنار ويصفونه بأنه خيالي متهور، يرسل الناس ليلاقوا حتفهم، وقام في أماكن متفرقة بعض المتشككة الجريئين يجادلون في القواعد الأساسية للدين المسيحي. ورد عليهم برنار بقوله إن أساليب الله سبحانه لا تدركها عقول البشر، وإن الوبال الذي حل بالمسيحيين ربما كان عقاباً لهم على ما ارتكبوا من ذنوب. ولكن الشكوك الفلسفية التي أشاعها أبلارد Abelard (المتوفى عام 1142) أخذت من ذلك الوقت تجد من يعبر عنها حتى جمهرة الشعب نفسه، وسرعان ما خبت جذوة التحمس للحرب الصليبية، وتأهب عصر الإيمان للدفاع عن نفسه بالسيف والنار ضد الأديان الغربية أو عدم الإيمان بأديان على الإطلاق.


الفصل الخامس: صلاح الدين

وكانت حضارة جديدة عجيبة قد نشأت في سوريا وفلسطين المسيحيتين. ذلك أن الأوربيين الذين استوطنوا هذين البلدين منذ عام 1099 قد تزيوا شيئاً فشيئاً بالزي الشرقي، فلبسوا العمامة والقفطان اللذين يوائمان مناخ تلك البلاد ذات الشمس والرمال. وزاد اتصالهم بمن يعيشون في تلك المملكة من المسلمين، فقل بذلك ما بين الجنسين من تنافر وعداء، فأخذ التجار المسلمون يدخلون بكامل حريتهم البلدان المسيحية ويبيعون أهلها بضاعتهم، وكان المرضى من المسيحيين يفضلون الأطباء المسلمين واليهود على الأطباء المسيحيين(28)، وأجاز رجال الدين المسيحيون إلى المسلمين أن يؤموا المساجد للعبادة، وأخذ المسلمون يعلمون أبناءهم القرآن في المدارس الإسلامية القائمة في إنطاكية وطرابلس المسيحيتين، وتعهدت الدول المسيحية والإسلامية بأن تضمن سلامة التجار والمسافرين الذين ينتقلون من إحداهما إلى الأخرى. وإذ كان الصليبيون لم يأتوا معهم إلا قليل من زوجاتهم فقد اتخذ كثيرون ممن أقاموا منهم في الدول المسيحية لهم زوجات سوريات؛ وسرعان ما كون أبناء هذا الزواج المختلط عنصراً كبيراً من سكان الدول الجديدة، وأصبحت اللغة العربية لغة التخاطب اليومي العامة للسكان، وعقد الأمراء المسيحيون أحلافاً مع الأمراء المسلمين ضد منافسيهم من المسيحيين، كما كان الأمراء المسلمون في بعض الأحيان يستعينون "بالمشركين" في شئون السياسة والحرب. ونمت صلات المودة الشخصية بين المسيحيين والمسلمين. وقد وصف الرحالة ابن جبير الذي طاف بسوريا المسيحية في عام 1183 بنى دينه المسلمين بأنهم ينعمون بالرخاء ويلقون معاملة حسنة على يد الفرنجة. وكان مما ساءه أن يرى عكا غاصة بالخنازير والصلبان، تفوح منها رائحة الأوربيين الكريهة، ولكنه يأمل أن يتحضر المسيحيون بالحضارة التي وفدوا إليها والتي هي أرقى من حضارتهم(29).

وظلت مملكة أورشليم اللاتينية في سني السلم الأربعين التي أعقبت الحملة الصليبية الثانية تمزقها المنازعات الداخلية، على حين أن أعداءها المسلمين كانوا يسيرون بخطى حثيثة نحو الوحدة. فقد مد نور الدين سلطانه من حلب إلى دمشق (1175)، ولما مات أخضع صلاح الدين لسلطانه مصر وسوريا الإسلامية (1175)؛ ونشر تجار جنوى، والبندقية، وبيزا الاضطراب في الثغور الشرقية بمنافساتهم القاتلة. وفي أورشليم أخذ الفرسان يتنازعون للاستيلاء على العرش. ولما استطاع جاي ده لوزينان أن يشق إليه طريقه بالختل (1186)، استاءت لذلك طبقة الأشراف، حتى قال أخوه جوفري: "إن يكن جاي هذا ملكاً فأنا خليق بأن أكون إلهاً". ونصب ريجلند أمير شاتيون Reginald of Chatillon نفسه أميراً مستقلاً في قلعة الكرك العظيمة وراء نهر الأردن، على حدود بلاد العرب، وكثيراً ما خرق اتفاق الهدنة المعقود بين الملك اللاتيني وصلاح الدين، وأعلن عزمه على أن يغزو بلاد العرب، ويهدم قبر النبي في المدينة، ويدك أبنية الكعبة في مكة(30). وأبحرت قوته الصغيرة المؤلفة من الفرسان المغامرين في البحر الأحمر، واتجهت نحو المدينة؛ ولكن سرية مصرية باغتتها، وقتلتها عن آخرها إلا عدداً قليلاً فروا مع ريجنلد، وبعض الأسرى الذين سيقوا إلى مكة، وذبحوا في يوم عيد النحر (1183).

وكان صلاح الدين في هذه الأثناء قد قنع بشن الغارات الصغيرة على فلسطين؛ فلما رأى ما فعله ريجلند ثارت حميته الدينية، فأخذ ينظم من جديد جيشه الذي فتح به دمشق، والتقى بقوات المملكة اللاتينية في معركة غير حاسمة عند مرج ابن عامر ذي الشهرة التاريخية (1183)، ثم هاجم ريجلند عند الكرك بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت، ولكنه لم يستطع دخول القلعة الحصينة. وفي عام 1185 وقع مع المملكة اللاتينية هدنة تدوم أربع سنين؛ ولكن ريجلند مل فترة السلم الطويلة، فاعترض في عام 1186 للمسلمين، ونهب كثيراً من متاعها وأسر عدداً من أفرادها، ومنهم أخت صلاح الدين، وقال ريجنلد: "إذا كانوا يثقون بمحمد فليأت محمد لينقذهم". ولم يأت محمد؛ ولكن صلاح الدين ثارت ثائرته، فأعلن الجهاد على المسيحيين، وأقسم ليقتلن ريجنلد بيده.

ونشبت المعركة الفاصلة في الحروب الصليبية كلها عند حطين بالقرب من طبرية في اليوم الرابع من شهر يوليه سنة 1187. وكان صلاح الدين ملماً بمعالم الأرض فاختار لجيوشه الأماكن المشرفة على آبار الماء؛ ودخل المسيحيون ميدان المعركة يلهثون من الظمأ بعد أن اخترقوا السهول في حر منتصف المحرق. وانتهز المسلمون فرصة هبوب الريح نحو معسكر الصليبيين، فأشعلوا النار في الأعشاب البرية، وحملت الريح الدخان فزاد فرسانهم، وقتلوا عن آخرهم؛ وبعد أن ظل الفرسان يقاتلون قتال اليائسين ضد السلاح، والدخان، والظمأ خروا منهوكي القوى، فقتل منهم من قتل وأسر الباقون. ولم تظهر جيوش المسلمين شيئاً من الرأفة بفرسان المعبد أو المستشفى، وأمر صلاح الدين أن يؤتى له بالملك جاي والدوق ريجنلد، فلما أقبلا عليه قدم الشراب إلى الملك دليلاً على أنه قد عفا عنه، أما ريجنلد فقد خيره بين الموت والإيمان برسالة النبي، فلما رفض قتله. وكان مما غنمه المسلمون في هذه المعركة الصليب الذي كان الصليبيون يتخذونه علماً لهم في المعركة، ويحمله فيها أحد القساوسة، وقد أرسله صلاح الدين إلى الخليفة في بغداد. ولما رأى صلاح الدين أنه لم يبق أمامه جيش يخشى بأسه، زحف لتحرير عكا، وأطلق فيها سراح أربعة آلاف أسير من المسلمين، وكافأ جنوده بما غنمه من ثروة هذا المرفأ الكثير المتاجر، وخضعت فلسطين كلها تقريباً لصلاح الدين وبقيت في قبضة يده بضعة اشهر. ولما اقترب من بيت المقدس خرج إليه أعيانها يعرضون عليه الصلح، فقال لهم إنه يعتقد كما يعتقدون هم أن هذه المدينة بيت الله، وإنه لا يرضيه أن يحاصرها أو يهاجمها. وعرض على أهلها أن تكون لهم الحرية الكاملة في تحصينها، وأن يزرعوا ما حولها من الأرض إلى ما بعد أسوارها بخمسة عشر ميلاً دون أن يقف أحد في سبيلهم، ووعدهم بأن يسد كل ما ينقصهم من المال والطعام إلى يوم عيد العنصرة، فإذا حل هذا اليوم ورأوا أن هناك أملاً في إنقاذهم، كان لهم أن يحتفظوا بالمدينة، ويقاوموا المحاصرين مقاومة شريفة، أما إذا لم يكن لهم أمل في هذه المعونة، فإن عليهم أن يستسلموا من غير قتال، وتعهد في هذه الحال أن يحافظ على أرواح السكان المسيحيين وأموالهم . ورفض المندوبون هذا العرض، وقالوا إنهم لن يسلموا المدينة التي مات فيها المسيح منقذ الخلق(31). ولم يطل حصار المدينة أكثر من اثني عشر يوماً، ولما أن استسلمت بعدها فرض صلاح الدين على أهلها فدية قدرها عشر قطع من الذهب (47.50؟ ريالاً أمريكياً) عن كل رجل، وخمس قطع عن كل امرأة، وقطعة واحدة عن كل طفل، أما فقراء أهلها البالغ عددهم سبعة آلاف فقد وعد بإطلاق سراحهم إذا أدوا إليه الثلاثين ألف بيزانت (270.000؟ ريال أمريكي) التي بعث بها هنري الثاني ملك إنجلترا إلى فرسان المستشفى. وقبلت المدينة هذه الشروط "بالشكر والنحيب" على حد قول أحد الإخباريين المسيحيين، ولعل بعض العارفين من المسيحيين قد وازنوا بين هذه الحوادث وبين ما جرى في عام 1099. وطلب العادل أخو صلاح الدين أن يهدي إليه ألف عبد من الفقراء الذين بقوا من غير فداء، فلما أجيب إلى طلبه أعتقهم جميعاً؛ وطلب بليان Balian زعيم المقاومين المسيحيين هدية مثلها، وأجيب إلى ما طلب، وأعتق ألفاً آخرين، وحذا حذوه المطران المسيحي وفعل ما فعل صاحبه، وقال صلاح الدين إن أخاه قد أدى الصدقة عن نفسه، وإن المطران وباليان قد تصدقا عن نفسهما، وإنه يفعل فعلهما، ثم أعتنق كل من لم يستطع أداء الفدية من كبار السن؛ ويلوح أن نحو خمسة عشر ألفاً من الأسرى المسيحيين بقوا بعدئذ من غير فداء فكانوا أرقاء. وكان ممن افتدوا زوجات وبنات النبلاء الذين قتلوا أو أسروا في واقعة حطين. ورق قلب صلاح الدين لدموع أولئك النساء والبنات فأطلق سراح من كان في أسر المسلمين من أزواجهم وآبائهن (ومن بينهم جاي) أما "النساء والبنات اللاتي قتل أزواجهن وآباؤهن فقد وزع عليهن منه ماله الخاص ما أطلق ألسنتهن بحمد الله، وبالثناء على ما عاملهن به صلاح الدين من معاملة رحيمة نبيلة" ذلك ما يقوله إرنول Ernoul مولى باليان. وأقسم الملك والنبلاء الذين أطلق سراحهم ألا يحملوا السلاح ضده مرة أخرى، ولكنهم ما كادوا يشعرون بالأمن في طرابلس وإنطاكية المسيحيتين حتى أحلهما حكم رجال الدين من يمينهما المغلظة، وأخذ يدبرا الخطط للثأر من صلاح الدين(23). وأجاز السلطان لليهود أن يعودوا إلى السكنى في بيت المقدس، وأعطى المسيحيين حق دخولها، على أن يكونوا غير مسلحين، وساعد حجاجهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم(34)؛ وطهرت قبة الصخرة التي حولها المسيحيون إلى كنيسة بأن رشت بماء الورد، وأزيل منها الصليب الذهبي الذي كان يعلوها، بين تهليل المسلمين وأنين المسيحيين. وسار صلاح الدين على رأس جيشه لحصار عكا، ولما وجدها أمنع من عقاب الجو سرح الجزء الأكبر من جنده وانسحب وهو مريض متعب إلى دمشق (1188) في الخمسين من عمره.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس: الحملة الصليبية الثالثة 1189-1192

وكان احتفاظ المسيحيين بمدائن صور أنطاكية، وطرابلس مما ترك قلوبهم إثارة من الأمل. وكانت الأساطيل الإيطالية لا تزال تسيطر على مياه البحر المتوسط، متأهبة لنقل المحاربين الصليبيين إذا أدوا لها أجورها. وعاد وليم كبير أساقفة صور إلى أوربا، وأخذ يروي في الاجتماعات التي تعقد في إيطاليا، وفرنسا وألمانيا قصة سقوط بيت المقدس، ولما قدم إلى ألمانيا تأثر بدعوته فردريك بربروسه إلى حد دفع الإمبراطور العظيم وهو في سن السادسة والسبعين إلى الزحف بجيشه من فوره (1189)، وحياه العالم المسيحي كله وخلع عليه اسم موسى الثاني الذي سيشق الطريق إلى الأرض الموعودة. ولما عبر الجيش الجديد مضيق الهلسبنت عند غاليبولي، واتخذ إلى أرض فلسطين طريقاً جديداً، كرر أخطاء الحملة الصليبية الأولى ومآسيها؛ واقتفت أثره العصابات التركية وأزعجته، وقطعت عنه المؤن، فمات مئات من رجاله جوعاً، ومات فردريك ميتة غير شريفة إذ غرق في نهر سالف الصغير في قليقية (1190)، ولم ينج من جيشه إلا جزء قليل انضم إلى حصار عكا.

وكان رتشرد الأول (الأنكتار) الملقب "قلب الأسد" قد توج من زمن قريب ملكاً على إنجلترا وهو في الحادية والثلاثين من عمره، فصمم هذا الملك على أن يجرب حظه مع المسلمين. وإذ كان يخشى أن يغير الفرنسيون في أثناء غيابه على الأملاك الإنجليزية في فرنسا، فقد أصر على أن يصحبه فليب أغسطس، ووافق الملك الفرنسي، وكان وقتئذ شابا في الحادية والعشرين من عمره، وتلقى الملكان الشابان الصليب من وليم كبير أساقفة صور باحتفال مهيب في فيزلاي، وأبحر رتشرد المؤنف من النورمان (لأن الإنجليز لم يشترك منهم في الحروب الصليبية إلا القليل) من مرسيليا، وأبحر جيش فليب من جنوى على أن يلتقي الجيشان في صقلية (1190)، فلما التقيا فيها شجر النزاع بينهما واستسلما للهو وقضيا في نزاعهما ولهوهما نصف عام. وأغضب تانكرد ملك صقلية رتشرد، فانتزع هذا منه مسينا "بأسرع مما يتطلبه من القس ترتيل صلاة السحر"، ثم ردها إليه نظير أربعين ألف أوقية من الذهب؛ فلما توفر له المال بهذه الطريقة أبحر بجيشه إلى فلسطين. وتحطمت بعض سفنه على ساحل جزيرة قبرص، وقبض حاكمها اليوناني على بحارة السفن وزجهم في السجون، فوقف رتشرد عندها بعض الوقت، وفتح الجزيرة، وأعطاها إلى جاي ده لوزينان ملك بيت المقدس المشرد. وبلغ عكا في يونيه من عام 1191 بعد عام من مغادرته فيزلاي، وكان فليب قد سبقه إليها. وكان حصار المسيحيين لعكا قد دام تسعة شهراً، وهلك فيه منهم عدة آلاف، ثم استسلم المسلمون بعد أسابيع قليلة من وصول رتشرد. وطلب المنتصرون من المغلوبين مائتي ألف قطعة لن الذهب (نحو 950.000ريال أمريكي)، وأن يسلموا إليهم 1600 أسيراً من صفوة أهل المدينة، وأن يردوا إليهم الصليب الحق. ووعدهم أهل المدينة أن يجيبوهم إلى ما طلبوا؛ وأيد صلاح الدين هذا الاتفاق، وسمح للمسلمين من سكان عكا ما عدا الألف والستمائة السالفي الذكر أن يغادروا المدينة ومعهم من المؤن ما يستطيعون حمله. ثم أصيب فليب أغسطس بالحمى فعاد إلى فرنسا وترك وراءه قوة فرنسية مؤلفة من 10.500رجل، وأصبح رتشرد القائد الوحيد للحملة الصليبية الثالثة.

وبدأت وقتئذ طائفة من الوقائع المشوشة الفذة، تعاقبت فيها الضربات والمعارك مع التحيات والمجاملات؛ وأظهر فيها الملك الإنجليزي والسلطان الكردي بعض ما تتصف به حضارتاهما وديناهما من أنبل الصفات وأظرفها. وليس معنى هذا أن كلا الرجلين كان من أولياء الله الصالحين، فقد كان في وسع صلاح الدين أن يكيل بكل ما لديه من باس الضربات المميتة لعدوه إذا بدا له أن أهدافه الحربية تتطلب هذا؛ وكذلك سمح ذو النزعة الروائية الشعرية لنفسه أن يفعل ما لا يتفق مع حياته النبيلة. من ذلك أنه لما تباطأ زعماء عكا المحاصرة في تنفيذ شروط الاتفاق المعقود بينهم، أمر رتشرد أن تضرب رؤوس 2.500من الأسرى المسلمين أمام أسوار المدينة لينبه بذلك الأهلين إلى وجوب الإسراع في تنفيذ الشروط(35)؛ فلما بلغ هذا النبأ صلاح الدين، أمر بأن يعدم كل من يقع بعدئذ في الأسر أثناء المعارك مع الملك الإنجليزي. ثم بدل رتشرد نغمته، فعرض أن ينهي الحروب الصليبية بأن يزوج أخته جوان للعادل أخي صلاح الدين، ولكن الكنيسة عارضت هذه الفكرة فتخلى رتشرد عنها.

وأيقن رتشرد أن صلاح الدين لن يصبر على الهزيمة، فأعاد تنظيم قوته، وتأهب للسير ستين ميلاً نحو الجنوب بمحاذاة شاطئ البحر ليفك الحصار عن يافا التي كانت وقتئذ في أيدي المسيحيين ويحاصرها المسلمون، ورفض كثير من النبلاء أن يسيروا معه، وفضلوا أن يتخلفوا في عكا، ويحيكوا الدسائس للاستيلاء على عرش فلسطين، لأنهم كانوا واثقين من أن رتشرد سيستولي عليها. وعاد الجنود الألمان الإنجليزي ويفسدون عليه خططه الحربية؛ كذلك لم يكن العامة مستعدين لبذل جهود جديدة في سبيل فلسطين. ويقول المؤرخ الإخباري المسيحي لحملة رتشرد الصليبية إن المسيحيين المنتصرين بعد هذا الحصار الطويل:

استسلموا للخمول والترف، وأبوا أن يغادروا المدينة المليئة بأسباب النعيم- أحسن أنواع الخمور، وأجمل الزانيات. وأطلق الكثيرون منهم لشهواتهم العنان فانحلت أخلاقهم ودنسوا المدنية بترفهم، حتى أصبح العقلاء يتوارون خجلاً من طيشهم ونهمهم(36). وزاد الطين بلة أن رتشرد أمر ألا يصحب الجيش من النساء إلا الغسالات ممن لا يغرين الجند بالإثم. وعوض رتشرد عيوب جنوده بمقدرته الفذة على القيادة، وحذقه في الهندسة العسكرية، وشجاعته الملهمة في الميدان. وكان في هذه الصفات كلها متفوقاً على صلاح الدين وعلى سائر قادة الحروب الصليبية المسيحيين.

والتقى جيشه بجيش صلاح الدين عند أرسوف وانتصر عليه انتصاراً غير حاسم (1191)، وطلب مواصلة القتال، ولكن رتشرد سحب جنوده إلى داخل أسوار يافا، ثم عرض عليه صلاح الدين الصلح؛ وبينا كانت المفاوضات دائرة بين القائدين اتصل كنراد مركيز منفرات Conrad Marquls of Montferrat، الذي كان يتولى أمر صور، في مفاوضات مستقلة مع صلاح الدين، وعرض عليه أن يصبح حليفه، وأن يتولى على عكا ويردها للمسلمين، إذا وافق صلاح الدين على أن يتملك هو صيدا وبيروت. ولكن صلاح الدين أجاز لأخيه، على الرغم من هذا العرض، أن يعقد مع رتشرد صلحاً يترك للمسيحيين جميع ما كان بيدهم وقتئذ من المدن الساحلية، ونصف بيت المقدس. وبلغ من سرور رتشرد بهذه الشروط أن خلع على ابن السفير المسلم لقب فارس (1192)؛ لكنه حين سمع بعد قليل من الوقت أن صلاح الدين يواجه بعض المتاعب في الشرق، رفض شروطه، وحاصر داروم واستولى عليها، وتقدم حتى اصبح على بعد اثني عشر ميلاً من بيت المقدس. ودعا صلاح الدين جنوده إلى حمل السلاح، وكان قد سرحهم ليستريحوا في فصل الشتاء، وحدث الشقاق في هذه الأثناء في معسكر المسيحيين، وأبلغهم كشافتهم أن الآبار التي في طريق بيت المقدس قد سممت، وأن الجيش الزاحف عليها لن يجد ماء للشرب، وعقدوا مجلساً للنظر فيما يجب أن يفعلوه، فقرر هذا المجلس أن يتخلوا عن بيت المقدس ويزحفوا على القاهرة البعيدة عنهم بنحو 250 ميلاً. وكان رتشرد قد سئمت نفسه هذه الفعال، وعافتها، وملأ اليأس قلبه، فانسحب إلى عكا وأخذ يفكر في العودة إلى إنجلترا.

ولكنه لما سمع أن صلاح الدين عاود الهجوم على يافا، وأنه استولى عليها بعد يومين لا أكثر، أبى عليه كبرياؤه أن ينكص عن غرضه، وبعث في نفسه روحاً جديدة، وأقلع من فوره إلى يافا مع من استطاع أن يحشدهم من الجنود. ولما وصل إلى الميناء نادى بأعلى صوته "الويل للقاعد!" وقفز إلى وسطه في البحر، وأخذ يلوح ببلطته الدنمرقية الشهيرة ويقتل كل من يقف في سبيله، ثم قاد جنوده إلى داخل المدينة، وأخرج منها جميع الجنود المسلمين. كل هذا ولم يكد صلاح الدين يعرف ما حصل (1192). فلما عرفه استدعى القسم الرئيسي من جيشه لإنقاذ المدينة، وكان عدد رجاله يربو كثيراً على عدد جنود رتشرد الثلاثة الآلاف، ولكن شجاعة الملك وجرأته أكسبتاه النصر. ولما رأى صلاح الدين أن رتشرد راجلاً بعث إليه بجواد من عنده، وقال إن من العار أن يقاتل هذا الرجل الشهم راجلاً. وغضب جنود صلاح الدين من هذا العمل وأمثاله فلم يعودوا يطيقون صبراً عليه؛ وأخذوا يلومونه على أن ترك جنود حامية يافا أحياء ليقاتلوه فيها مرة أخرى. ثم سار رتشرد آخر الأمر- إذا جاز لنا أن نصدق رواة القصة المسيحيين- أمام جيش المسلمين وحربته مدلاة إلى جانبه، ولكن أحداً لم يجرؤ على مهاجمته(37).

ثم تبدلت الحال في اليوم الثاني، وجاءت الإمداد إلى صلاح الدين، واستولى الملل مرة أخرى على رتشرد، وحبس عنه فرسان عكا وصور معونتهم، فأرسل بطلب الصلح من جديد. واشتدت عليه الحمى فطلب فاكهة وشراباً بارداً، فما كان من صلاح الدين إلا أن بعث إليه بالكمثرى والخوخ والثلج، وبطبيبه الخاص. وفي اليوم الثاني من سبتمبر 1192 وقع البطلان شروط صلح يدوم ثلاث سنين، وقسمت فلسطين قسمين؛ فاحتفظ رتشرد بجميع ما فتحه من المدن الممتدة على طول الساحل من عكا إلى يافا؛ وسمح للمسلمين والمسيحيين بحرية الانتقال من أحد القسمين إلى الآخر، وتعهد السلطان بحماية الحجاج المسيحيين إلى بيت المقدس على أن تبقى المدينة في أيد المسلمين (ولعل التجار الإيطاليين الذين يهمهم قبل كل شيء أن يسيطروا على الثغور البحرية، قد أقنعوا رتشرد بالتخلي عن المدينة المقدسة نظير استيلائه على المدن الساحلية). وأقيمت المآدب والألعاب احتفالاً بالصلح؛ ويقول صاحب سيرة رتشرد في هذا: "واله وحده يعلم مقدار السرور الذي ملأ قلوب الشعبين، وهو سرور يجل عن الوصف"(38). وزالت إلى حين الأحقاد من الصدور؛ ولما ركب سفينته إلى إنجلترا أرسل رسالته الأخيرة إلى صلاح الدين يتحداه، ويتوعده بأنه سيعود بعد ثلاث سنين ويستولي على بيت المقدس. وأجابه صلاح الدين بأنه إذا كان لابد أن تقطع يده فإنه يفضل أن يقطعها رتشرد (الأنكتار) لا أي رجل سواه(39).

وبعد فإن اعتدال صلاح الدين، وصبره، وعدله قد غلبت بهاء رتشرد، وشجاعته، ومهارته الحربية؛ كما غلب المسلمون بفضل إخلاص زعمائهم ووحدتهم الزعماء الإقطاعيين المنقسمين على أنفسهم، والذين يعوزهم الولاء للغرض والإخلاص في المقصد؛ وكان قصر خط التموين من وراء المسلمين أعظم فائدة من سيطرة المسيحيين على البحار. وكانت الفضائل والأخطاء المسيحية أبرز في السلطان منها في الملك المسيحي؛ فقد كان صلاح الدين مستمسكاً بدينه إلى أبعد حد، وأجاز لنفسه أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى؛ ولكنه كان في العدة شفيقاً على الضعفاء، رحيماً بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سموا جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي "الخاطئ" في ظنهم رجلاً يصل في العظمة إلى هذا الحد. وكان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب. ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا ديناراً واحداً(40)؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية :

"أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير؛ وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك؛ وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام؛ وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم، فأنت أميني وأمين الله عليهم؛ وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر. فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس؛ ولا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقى على أحد؛ وأحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره اله بتوبتك إليه فإنه كريم ".

ومات في عام 1193 ولم يتجاوز سنه الخامسة والخمسين.


الفصل السابع: الحملة الصليبية الرابعة 1202-1204

أفلحت الحملة الصليبية الثالثة في أخذ عكا ولكنها لم تفلح في الاستيلاء على بيت المقدس، وكانت هذه نتيجة ضئيلة ميئسة لحملة اشترك فيها اعظم ملوك أوربا. وكان غرق بربروسه، وفرار فيليب أغسطس، وإخفاق رتشرد، ودسائس الفرسان المسيحيين في الأرض المقدسة التي لم يرعوا فيها واجباً أو ضميراً، أو النزاع الذي قام بين فرسان المستشفى وفرسان المعبد، وتجدد الحرب بين إنجلترا وفرنسا، كل هذا قد حطم كبرياء أوربا، وأذلها، وأضعف ثقة العالم المسيحي بها. ولكن موت صلاح الدين المبكر، وانقسام دولته بعد وفاته، بعث في قلوب العالم المسيحي آمالاً جديدة، فلم يكد إنوسنت الثالث Innocent III يجلس على عرش البابوية (1198-1216)، حتى أخذ يطالب العالم المسيحي ببذل مجهود جديد، وقام فلك ده نويي Fnlk de Neuilly، وهو قس ساذج، يدعو الملوك والسوقة إلى حرب صليبية رابعة. وكانت نتيجة الدعوة ميئسة؛ فقد كان الإمبراطور فردريك الثاني طفلاً في سن الرابعة؛ وكان فليب أغسطس يرى أن حملة صليبية واحدة تكفيه طوال حياته، ونسى رتشرد كلماته الأخيرة لصلاح الدين فأخذ يسخر من دعوة فلك، ويقول له: "إنك تدعوني إلى التخلي عن بناتي الثلاث- الكبرياء، والبخل، والانغماس في الملاذ، فدونك هي لأجدر الناس بها: كبريائي لفرسان المعبد، وبخلي لرهبان سيتو Citeaux، وانغماسي في الملاذ إلى المطارنة"(42). ولكن إنوسنت واصل دعوته، وقال إن حملة توجه إلى مصر مقدر لها الفوز بفضل سيطرة الإيطاليين على البحر المتوسط، ثم تتخذ الغنية الخصبة قاعدة للزحف على بيت المقدس. ووافقت البندقية بعد مساومات طويلة على أن تعد ما يلزم لنقل 4500 من الفرسان والخيول، و9000 من أتباعهم، وعشرين ألفاً من المشاة، وما يكفي هذه القوة من المؤن تسعة شهور، كل هذا في نظير 85.000 مارك من الفضة (نحو 8.500.000ريال أمريكي). ورضيت أيضاً أن تمدهم بخمسين سفينة حربية بشرط أن تختص جمهورية البندقية بنصف الغنائم الحربية(43). على أن البنادقة لم يكن في عزمهم أن يهاجموا مصر، فقد كانوا يكسبون منها الملايين في كل عام بما يصدرونه إليها من الخشب، والحديد والسلاح، وباستيراد العبيد؛ ولم يكونوا يريدون أن يخاطروا بضياع هذه التجارة بالاشتراك في الحرب، أو باقتسامها مع بيزا وجنوى. ولهذا فإنهم وهم يفاوضون بمقتضاه سلامة تلك البلاد من الغزو (1201)(44). وبقول إرنول Ernoul المؤرخ الإخباري المعاصر إن البندقية حصلت على رشوة كبيرة نظير تحويل الحملة الصليبية عن فلسطين(45).

وتجمعت الجيوش الجديدة في مدينة البندقية في صيف 1202. وكان من أبرز رجالها المركيز بنغاس من منت فرات، والكونت لويس من بلوا Bliois، والكونت بلدوين من فلاندرز، وسيمون ده منت فورت الذي يستمد شهرته من الألبجنسيين، وكان من بين أعيانها الكثيرين جيوفروا ده فيلهاردون Geoffroi de Villehardouin (1160-1213)، مارشال شمبانيا الذي لم يقتصر عمله على ما اضطلع به من دور رئيسي في الأعمال السياسية والحربية المتصلة بالحرب الصليبية، بل إنه سجل تاريخها المعيب في مذكرات سترت معايبها، وكانت بداية النثر الفرنسي الأدبي. وجاء معظم الصليبيين من فرنسا كما جرت بذلك عادتها؛ وكان قد طلب إلى كل رجل أن يأتي معه بقدر من المال يتفق مع موارده حتى يتجمع للحملة مبلغ الـــ 85.000 مارك التي لابد من أدائها للبندقية تنفيذاً للشروط المتفق عليها معها. ونقص المبلغ المتجمع عن الواجب أداؤه بأربعة وثلاثين ألف مارك، وحينئذ عرض إنريكودندو لو Enrico Dandolo الدوج الذي لا يكاد يبصر "ذو القلب العظيم"، مدفوعاً إلى ما عرضه بكل ما أمدته به من تقي وقداسة سنوه الأربع والتسعون، عرض هذا الدوج أن ينزل عن المبلغ الباقي إذا ساعد الصليبيون مدينة البندقية على فتح مدينة زارا Zara، وكانت هذه المدينة وقتئذ أهم ثغور البحر الأدرياوي بعد البندقية نفسها؛ وكانت البندقية قد استولت عليها في عام 998، وكثيراً ما خرجت عليها وأخضعت لها، وكانت في الوقت الذي نتحدث عنه من أملاك المجر، ومنفذها الوحيد إلى البحر. وكانت ثروتها وقوتها آخذتين في النماء، ولهذا كانت البندقية تخشى منافستها لها في تجارة البحر الأدرياوي. ووصف إنوسنت الثالث هذا الاقتراح بأنه اقتراح دنئ، وأنذر كل من يشترك فيه بالحرمان، غير أن أعظم البابوات شأناً وأقواهم سلطاناً لم يستطع أن يجعل صوته أعلى من رنين الذهب، وهاجم الإسطولان زارا، واستوليا عليها بعد خمسة أيام، وقسم الفاتحون الغنائم فيما بينهم؛ ثم أرسل الصليبيون بعثة إلى البابا يرجون منه المغفرة، فغفر لهم، ولكنه طلب إليهم أن يردوا الغنيمة؛ فشكروا له غفران الخطيئة، واحتفظوا بالغنيمة؛ وتجاهل البنادقة أمر الحرمان، وخطوا الخطوة التالية لتنفيذ القسم الثاني من مشروعهم وهو الاستيلاء على القسطنطينية.

ولم تكن الإمبراطورية البيزنطية قد تعلمت شيئاً من الحملات الصليبية. ذلك أن هذه الإمبراطورية لم تقدم للصليبيين معونة تذكر، ولكنها حصلت منهم على كسب عظيم؛ فقد استردت الجزء الأكبر من آسيا الصغرى، وكانت تنظر بعين الرضا والاطمئنان إلى ما حل من الضعف بالغرب وبالإسلام في كفاحهما للاستيلاء على فلسطين. وكان الإمبراطور مانيول Manuel قد ألقى القبض على آلاف من البنادقة من القسطنطينية وألغى إلى حين ما للبندقية في تلك المدينة من امتيازات تجارية (1171)(46)؛ ولم يستنكف إيزاك أنجليوس Isaac Angelus أن يتحالف مع المسلمين(47)؛ وفي عام 1195 خلعه أخوه ألكسيوس الثالث Alexius III وسجنه وفقأ عينيه؛ وفر ابن اسحق واسمه أيضاً ألكسيوس إلى ألمانيا، ثم جاء إلى البندقية في عام 1202، واستغاث بمجلس شيوخها وبالصليبيين أن ينقذوا أباء ويعيدوه إلى عرشه، ووعدهم في نظير هذا العمل أن تساعدهم بيزنطية في حربهم على الإسلام. وعقد دنولو والأشراف الفرنسيون مع الأمير الشاب اتفاقاً عظيم الفائدة لهم: فقد أقنعوه أن يتعهد بأداء مائتي ألف مارك فضي إلى الصليبيين، وأن يجهز جيشاً قوامه عشرة آلاف رجل للخدمة في فلسطين، وأن يخضع الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية للبابا في روما(48). ولكن البابا إنوست الثالث نهى الصليبيين على الرغم من هذه المنح السخية عن مهاجمة القسطنطينية وأنذرهم بالحرمان إذا فعلوا؛ ورفض بعض الأشراف أن يشتركوا في الحملة، ورأى قسم من الجيش أنه في حل من يمنه التي أقسمها بالاشتراك في الحملة الصليبية وعاد إلى أوطانه، ولكن فكرة الاستيلاء على أغنى مدينة في أوربا ظلت مستحوذة على الكثيرين من الصليبيين يصعب عليهم مقاومتها، ولهذا فإن الأسطول العظيم المكون من 480 سفينة أقلع في أول يوم من شهر أكتوبر عام 1202 وسط مظاهر الابتهاج والتهليل بينا كان القساوسة الواقفون عند أبراج السفن الحربية ينشدون نشيد تعال أيها الخالق الروح Veni Creator Spilritus(49)، ووقف هذا الأسطول الضخم أمام القسطنطينية في الرابع والعشرين من شهر يونيه عام 1203. ويقول فيل هاردون في وصفها:

وأؤكد لكم أن أولئك الذين لم يروا القسطنطينية من قبل قد فتحوا عيونهم واسعة، لأنهم لم يكونوا يعتقدون أن في العالم كله مدينة في مثل هذا الثراء، حين أبصروا الأسوار الشامخة، والأبراج الضخمة التي تتألف منها، والقصور المنيفة، والكنائس العالية التي لا تحصى عددها، ولا يعتقد إنسان بوجودها إلا إذا كان قد رآها بعينيه، وعرف ما بلغته هذه المدينة سيدة المدن كلها من الطول والعرض. واعلموا أنه لم يكن بيننا رجل مهما بلغ من الشجاعة، إلا اقشعر بدنه حين شاهدها؛ وليس في هذا شيء من العجب، لأن أحداً من الناس لم يقم منذ بداية العالم بعمل يضارع في جلاله هجومنا على تلك المدينة(50).

وأرسل المهاجمون بلاغاً نهائياً إلى ألكسيوس طلبوا فيه: أن يرد الإمبراطورية إلى الأخ الأعمى أو إلى ألكسيوس الصغير، الذي كان يصحب الأسطول المغير؛ فلما رفض ألكسيوس الثالث هذا الإنذار نزل الصليبيون إلى البر، بعد مقاومة ضعيفة، أمام أسوار المدينة، وكان دنولو الشيخ المسن أول من وطئت قدماه الأرض. وفر ألكسيوس الثالث إلى تراقيا، وأخرج الأشراف اليون اسحق أنجليوس من سجنه وأجلسوه بأنفسهم على العرش، وأرسلوا باسمه رسالة إلى الزعماء اللاتين يقول فيها إنه ينتظر ابنه ليحييه. وبعد أن استخلص الصليبيون وعداً من اسحق بارتباطه بما تعهد لهم به ولده دخل ندولو والأشراف المدينة، وتوج ألكسيوس الصغير إمبراطوراً بالاشتراك مع أبيه. ولما عرف اليونان الثمن الذي اشترى به هذا النصر انقلبوا عليه غاضبين ساخرين؛ فأما العامة فقد أخذوا يحبسون مقدار ما يجب عليهم أداؤه من الضرائب لجمع ما وعد به منقذيه من المال، وأما الأشراف فقد ساءهم وجود أرستقراطية غربية وقوة أجنبية في المدينة، وأما رجال الدين فقد رفضوا في غضب وحنق أن يخضعوا لروما. وحدث في هذا الأثناء أن رأى بعض الجنود اللاتين جماعة من المسلمين يصلون في مسجد مقام في مدينة مسيحية، فثارت ثائرتهم وأشعلوا النار في المسجد، وقتلوا المصلين. وظلت النار مشتعلة ثمانية أيام وامتدت إلى مسافة ثلاثة أميال، وأحالت جزءاً كبيراً من القسطنطينية رماداً وأنقاضاً. وقام أمير من البيت المالك وتزعم ثورة من أهل المدينة وقتل ألكسيوس الرابع، وأعاد اسحق إنجليوس إلى السجن، وجلس على العرش وتسمى باسم ألكسيوس الخامس دوكاس Alexius V. Ducas ، وأخذ يعد جيشاً يطرد به اللاتين من معسكرهم في غلطة. ولكن اليونان كانوا قد قضوا دهراً طويلاً وهم آمنون وراء أسوارهم، فلم يحتفظوا بشيء من الفضائل المتصلة باسمهم الروماني، فاستسلموا بعد شهر من الحصار؛ وفر ألكسيوس الخامس، وأخذ اللاتين الظافرون يعيثون في العاصمة كأنهم جراد منتشر ملتهم (1204).

وازداد نهمهم لطول ما حرموا من فريستهم الموعودة، فانقضوا على المدينة الغنية في أسبوع عيد الفصح وأتوا فيها من ضروب السلب والنهب ما لم تشهده روما نفسها على أيدي الوندال أو القوط. نعم إنه لم يقتل في هذه الحوادث كثيرون من اليونان- فلعل عدد القتلى لم يتجاوز ألفين، أما السلب والنهب فلم يقفا عند حد. ووزع الأشراف القصور فيما بينهم، واستولوا على ما وجدوه فيها من الكنوز؛ واقتحم الجنود البيوت، والكنائس، والحوانيت، واستولوا على كل ما راقهم مما فيها؛ ولم يكتفوا بتجريد الكنائس مما تجمع فيها خلال ألف عام من الذهب والفضة والجواهر، بل جردوها فوق ذلك من المخلفات المقدسة، ثم بيعت هذه المخلفات بعدئذ في أوربا الغربية بأثمان عالية. وعانت كنيسة أياصوفيا من النهب ما لم تعانه فيما بعد على يد الأتراك عام 1453(51)، فقد قطع مذبحها العظيم تقطيعاً لتوزع فضته وذهبه(52). وكان البنادقة، وهم الذين يألفون المدينة التي كثيراً ما رحبت بهم تجاراً، يعرفون أين توجد أعظم كنوزها، فاستعانوا بذكائهم الفائق على أعمال التلصص، وامتدت أيديهم إلى التماثيل، والأقمشة، والأرقاء، والجواهر؛ ونقلت الأربعة الجياد البرنزية التي كانت تطل على المدينة اليونانية، وجمل بها ميدان القديس مرقس Piazza di San Marco. وكانت هذه السرقات المنظمة مصدر تسعة أعشار مجموعات الفنون والجواهر التي امتازت بها كنوز كنيسة القديس مرقس على سائر الكنائس(53). وبذلت محاولة ضئيلة للحد من اغتصاب النساء، وقنع الكثيرون من الجنود بالعاهرات، ولكن إنوسنت الثالث أخذ يشكو من أن شهوات اللاتين المكبوتة لم ينج منها الكبار أو الصغار، ولا الذكور أو الإناث، ولا أهل الدنيا أو الدين؛ فقد أرغمت الراهبات اليونانيات على احتضان الفلاحين أو السائسين البنادقة والفرنسيين(54). وبددت في أثناء هذا السلب والنهب محتويات دور الكتب وأتلفت المخطوطات الثمينة أو فقدت، واندلعت ألسنة النيران بعدئذ مرتين في المدينة فالتهمت دور الكتب والمتاحف كما التهمت الكنائس والمنازل، فضاعت مسرحيات سفكليز ويوربديز التي ظلت حتى ذلك الوقت باقية بأكملها ولم ينج منها إلا القليل، وسرقت آلاف من روائع الفن أو شوهت أو أتلفت.

ولما خفت حدة الاضطراب والنهب اختار أعيان اللاتين بلدوين أمير فلاندرز ملكاً لمملكة القسطنطينية اللاتينية (1024)، وجعلوا الفرنسية لغتها الرسمية. وقسمت الإمبراطورية البيزنطية إلى أملاك إقطاعية يحكم كلاً منها أمير نبيل إقطاعي. وكانت البندقية حريصة على السيطرة على طرق التجارة فاستولت على هدريانويل، وإبيروس، وأكارنانيا Acarnania، والجزائر الأيونية، وجزء من البلوبونيز، وجزيرة عوبية، وجزائر الأرخبيل، وغاليبولي، وثلاثة أثمان القسطنطينية. وانتزعت من أهل جنوى "المصانع" البيزنطية، والمعاقل الخارجية، واختار دنوولو لنفسه، وكان وقتئذ يترنح في ثيابه الإمبراطورية، لقب "دوج البندقية، وسيد ربع الإمبراطورية الرومانية وثمنها"(85). ولم يطل عمره بعد هذا فقد مات في زهو هذا النصر الذي ناله بفعال أثيمة لم يؤنبه عليها ضميره. واستبدل برجال الدين اليونان غيرهم من اللاتين، رسم الكثيرون منهم قساوسة لهذه المناسبة دون أن يكون لهم تاريخ سابق في شئون الدين، ووافق إنوسنت الثالث على الاتحاد الرسمي بين الكنيستين اليونانية واللاتينية عن رضا وطيب خاطر، وإن ظل يحتج على الهجوم. وعاد معظم الصليبين إلى أوطانهم مثقلين بالغنائم، وأقام بعضهم في الأملاك الجديدة، ولم يصل منهم إلى فلسطين إلا حفنة قليلة، لم تعمل فيها عملاً ما. ولعل الصليبيين قد ظنوا أن القسطنطينية بعد استيلائهم عليها، ستكون قاعدة ضد الأتراك أقوى مما كانت وهي بيزنطية، ولكن النزاع بين اللاتين واليونان الذي دام أجيالاً طوالاً أنهك قوى العالم اليوناني ولم تفق الإمبراطورية البيزنطية من هذه الضربة القاصمة، ومهد استيلاء اللاتين على القسطنطينية إلى استيلاء الأتراك عليها بعد مائتي عام من ذلك الوقت.


الفصل الثامن: إخفاق الحملات الصليبية 1211-1291

لقد كانت فضائح الحملة الصليبية الرابعة، مضافة في نحو عشر سنين إلى إخفاق الحملة الثالثة، مما لا يرتاح له الدين المسيحي الذي واجه بعد زمن قليل بعث فلسفة أرسطو، وفلسفة ابن رشد الدقيقة القائمة على تحكيم العقل. وأخذ المفكرون يجهدون عقولهم ليفسروا للناس كيف رضى الله أن يهزم ناصروه في تلك القضية المقدسة، ولم يهب النصر إلا للبنادقة الأدنياء. ولاح ناصروه في تلك القضية الساذجة في خلال هذه الشكوك أن لا سبيل إلى استرداد حصن المسيح الحصين إلا بالطهر والتجرد من الذنوب. ولهذا قام في عام 1212 شاب ألماني لا يعرف التاريخ من ماضيه إلا أن اسمه نيقولاس Nicholas، وأعلن أن الله قد أمره أن يقود إلى الأرض المقدسة حملة صليبية مؤلفة من الأطفال. وعارضه في ذلك رجال الدين وغير رجال الدين، ولكن فكرته انتشرت انتشاراً سريعاً في عصر تسوده أكثر مما تسود سائر العصور موجات الحماسة العاطفية. وحاول الآباء بكل ما وسعهم من الجهد أن يمنعوا أبناءهم من الاستجابة لدعوته، ولكن آلافاً من الغلمان (وبعض البنات في ثياب الغلمان) لا يزيد متوسط أعمارهم على الثانية عشرة تسللوا من بيوتهم وساروا وراء نيقولاس، ولعلهم قد سرهم أن ينجوا من استبداد البيت إلى حرية الطريق. وخرج القسم الأكبر من هذا الحشد المؤلف من ثلاثين ألف طفل، من مدينة كولوني، وساروا بإزاء نهر الرين، وفوق جبال الألب. وأهلك الجوع عدداً كبيراً منهم وفتكت الذئاب ببعض المتخلفين، واختلط اللصوص بالزاحفين وسرقوا ثيابهم وطعامهم؛ ووصل من نجا منهم إلى جنوى حيث سخر منهم الإيطاليون عبدة المصالح الدنيوية؛ ولم يجدوا سفناً تقلهم إلى فلسطين؛ فلما استغاثوا بإنوسنت الثالث أجابهم بلطف أن يعودوا إلى أوطانهم، فمنهم من سمعوا النصيحة وقفلوا راجعين وهم حزانى مكتئبون، فعبروا جبال الألب، ومنهم من استقروا في جنوي، وتعلموا فيها أساليب العالم التجارية.

هذا ما حدث في ألمانيا، أما في فرنسا فقد قدم إلى فليب أغسطس في ذلك العالم نفسه راع في الثانية عشرة من عمره يدعى استيفن، وقال إن المسيح ظهر له وهو يرعى غنمه، وأمره أن يقود حملة من الأطفال إلى فلسطين، فأمره الملك أن يعود إلى غنمه، ولكن عشرين ألفاً من الغلمان اجتمعوا رغم هذا وساروا وراء استيفن؛ واجتازوا فرنسا إلى مرسيليا، وكان استيفن قد وعدهم أن البحر سيشنق عند هذه المدينة ليمكنهم من الوصول إلى فلسطين راجلين، ولم يشنق لهم البحر، ولكن اثنين من أصحاب السفن عرضا عليهم أن ينقلاهم إلى حيث يقصدون دون أن يتقاضوا منهم أجراً. فازدحم الأطفال في سبع سفن أقلعت بهم وهم ينشدون أناشيد النصر. وتحطمت اثنتان من هذه السفن بالقرب من سردانية وغرق كل من كانوا فيها، وجيء بالباقين من الأطفال إلى تونس أو مصر حيث بيعوا في أسواق الرقيق، وشنق صاحبا السفن التي أقلتهم بأمر فردريك الثاني(56). وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت وجه إنوسنت الثالث في أثناء انعقاد مجلس لاتران الرابع دعوة أخرى إلى أوربا لاستعادة الأراضي المقدسة، وعاد إلى الخطة التي حالت البندقية دون تنفيذها- خطة الهجوم على مصر. وغادرت الحملة الصليبية الخامسة بلاد ألمانيا، والنمسا، والمجر في عام 1217 بقيادة أندرو Andrew ملك المجر، وأفلحت في الوصول إلى دمياط الواقعة على مصب النيل الشرقي. وسقطت المدينة في أيديهم بعد حصار دام عاماً كاملاً، وعرض عليهم الملك الكامل سلطان مصر وسوريا الجديد أن يصالحهم على أن سلم لهم الجزء الكبير من بيت المقدس، ويطلق سراح الأسرى المسيحيين، ويعيد الصليب الحق. وطلب الصليبيون أن يتقاضوا بالإضافة إلى ذلك كله غرامة حربية، ولكن الكامل رفض هذا الطلب، وبدأت الحرب من جديد، ولكنها لم تجر كما يشتهي الصليبيون، فلم يأتهم ما كانوا ينتظرون من المدد؛ ثم عقدت هدنة تدوم ثماني سنين رد إلى الصليبيين بمقتضاها الصليب الحق، ولكن دمياط أعيدت إلى المسلمين، وجلا جميع الجنود المسيحيين عن أرض مصر.

وعزا الصليبيون هذه المأساة إلى فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا وإيطاليا الشاب؛ ذلك أنه أقسم يمين الصليبيين في عام 1215، ووعد أن ينضم إلى الجيوش المحاصرة لدمياط، ولكن المشاكل السياسية القائمة وقتئذ في إيطاليا، مضافاً إليها في أغلب الظن ضعف إيمانه، لم يمكناه من أن يبر بقسمه ووعده. فلما كان عام 1228 زحف فردريك، وهو لا يزال مطروداً من حظيرة الدين، على رأس الحملة الصليبية السادسة، ولما وصل إلى فلسطين لم يلق أية معونة ممن فيها من المسيحيين الصالحين، فقد أعرض هؤلاء عن رجل مطرود من الكنيسة المسيحية. فلما رأى الإمبراطور ما فعلوا أرسل رسله إلى الملك الكامل، وكان يقود جيش المسلمين في نابلس، ورد عليه الكامل رداً جميلاً، وأعجب فخر الدين سفير السلطان بما رآه من معرفة الإمبراطور بلغة العرب، وآدابهم، وعلومهم، وفلسفتهم، وشرع الحاكمان يتبادلان المجاملات والآراء، ولشد ما دهش المسيحيون والمسلمون على السواء حين وقعا في عام 1229 معاهدة أعطى الكامل بمقتضاها فردريك مدن عكا، ويافا، وصيدا، والناصرة، وبيت لحم، وجميع مدينة بيت المقدس ما عدا الفضاء المحيط بقبة الصخرة المقدسة عند المسلمين. وأجيز فوق ذلك للحجاج المسيحيين أن يأتوا إلى هذا الفضاء ليؤدوا فيه صلواتهم في موضع هيكل سليمان، وسمح للمسلمين بمثل هذه الحقوق في بيت لحم. ونصت المعاهدة فوق ذلك على إطلاق جميع الأسرى من الطرفين المتعاقدين، وتعهد كلاهما أن يحافظ على السلم عشر سنين وعشرة شهور(57). وهكذا افلح الإمبراطور الطريد فيما عجز عنه المسيحيون في مائة عام كاملة، والتقت الثقافتان المسيحية والإسلامية فترة من الزمان وهما متفاهمتان، تحترم كلتاهما الأخرى، ووجدتا أن في وسعهما أن يعيشا معاً في صفاء ووئام. واغتبط سكان الأرض المقدسة المسيحيون، ولكن جريجوري التاسع نادى بان تلك المعاهدة سبة للعالم المسيحي، وأبى أن يقرها. ولما رجع فردريك إلى بلاده استولى النبلاء المسيحيون المقيمون في فلسطين على بيت المقدس، وعقدوا حلفاً بين القوة المسيحية في آسيا، وبين أمير دمشق المسلم ضد سلطان مصر المسلم (1244). واستنجد سلطان مصر بأتراك خوارزم، فخف هؤلاء لنجدته واستولوا على بيت المقدس ونهبوها، وقيلوا عدداً كبيراً من أهلها. وبعد شهرين من ذلك الوقت هزم بيبرس المسيحيين في غزة، وسقطت مدينة بيت المقدس مرة أخرى في أيدي المسلين (أكتوبر سنة 1244).

وبينا كان إنوسنت الرابع يدعو إلى حرب صليبية على فردريك الثاني ويعرض على كل من يقاتلون الإمبراطور في إيطاليا نفس المنح والمزايا التي يمنحها من يخدمون في الأراضي المقدسة، نظم لويس التاسع أو القديس لويس ملك فرنسا الحملة الصليبية السابعة. ذلك أنه لبس شارة الصليب بعد زمن قليل من سقوط أورشليم، وأقنع نبلاء بلاده أن يحذوا حذوه؛ ولما حل عيد الميلاد أهدى إلى بعض المسيحيين الذين ظلوا ممتنعين عن الانضمام إلى الحملة أثواباً غالية الثمن نقشت عليها شارة الصليب. وبذل الملك جهده للتوفيق بين إرنوسنت وفردريك حتى تلقى الحملة الصليبية تأييد أوربا متحدة. لكن إنوسنت رفض وساطته، وزاد على هذا الرفض أن بعث راهباً يدعى جيوفي ده بيانو كربيني Giovanni de Piano Carpini إلى خان المغول الأعظم يعرض عليه اتحاد المغول والمسيحيين على الأتراك. ورد عليه الخان بان طلب خضوع البلاد المسيحية للمغول. فلما حل عام 1248 سار لويس على رأس الفرسان الفرنسيين ومعهم جان جوانفيل الذي روي أعمال الملك في تاريخه الذائع الصيت. ووصلت الحملة إلى دمياط، واستولت عليها بعد قليل من وصولها، ولكن فيضان النيل السنوي الذي لم يحسب الصليبيون حسابه حين وضعوا خطة الحملة بدأ في وقت وصول الصليبيين، وغمر البلاد بالماء فأحاط بالصليبيين وحصرهم في دمياط مدة نصف عام. على أنهم لم يندموا لما أصابهم لأن "الأشراف" كما يقول جوانفيل "أخذوا يولمون الولائم.. كما أخذ العامة يصاحبون النساء الفاجرات"(58). ولما وصل الجيش زحفه، كان الجوع والمرض، والفرار، قد أنهكت قوته وأنقصت عدده، وأضعفه اختلال نظامه، فهي بهزيمة ساحقة عند المنصورة رغم استبساله في الدفاع عن نفسه، وتبدد شمله وولى الجنود الأدبار، وأسر عشرة آلاف من المسيحيين من بينهم لويس نفسه، وقد خارت قواه من وطأة الزحار (1250). وعالجه من مرضه طبيب عربي، ثم أطلق سراحه بعد أن قضى في الأسر شهراً بشرط أن يسلم دمياط ويفتدي نفسه بخمسمائة ألف جنيه فرنسي (3.800.000ريال أمريكي). ولما أن قبل لويس هذه الفدية الباهظة أنقص منها السلطان خمسها، وقبل نصف الباقي ووثق بعهد قطعه الملك على نفسه أن يؤدي إليه النصف الآخر(59). وسار الملك على رأس فلول جيشه إلى عكا، وأقام فيها أربع سنين، يدعو فيها أوربا في غير طائل إلى أن تكف عن الحروب فيما بينها وأن تنضم إليه في حرب جديدة. وبعث في هذه الأثناء وليم الربركوازي Wlliam of Rubruquois إلى خان المغول يعرض عليه للمرة الثانية دعوة إنوسنت- ولكنه لم يلق منه غير ما لقي في الدعوة الأولى: ثم عاد في عام 1254 إلى فرنسا.

وكانت السنون التي قضاها في الشرق قد هدأت ما كان بين المسيحيين فيه من شقاق، فلما غادره عاد هذا الشقاق سيرته الأولى؛ فقامت بين أهل البندقية وجنوى بين عامي 1256و1260 حرب داخلية في ثغور الشام، انضمت فيها جميع الأحزاب المتنافرة إلى هذا الجانب أو ذاك، وأنهكت قوى المسيحيين في فلسطين. واغتنم بيبرس أحد السلاطين المماليك في مصر هذه الفرصة فزحف بجيشه على الساحل واستولى على المدن المسيحية مدينة في إثر مدينة: قيصرية (1265)، وصفد (1266)، وبافا (1267)، وإنطاكية (1268). وقتل من وقع في الأسر من المسيحيين أو استرقوا، وقاست إنطاكية من النهب والحرق ما لم تفق منه قط فيما بعد.

وثارت حمية لويس من جديد في شيخوخته فلبس شارة الصليب مرة أخرى (1267)، وحذا حذوه أبناؤه الثلاثة، ولكن النبلاء الفرنسيين لم يوافقوا على خطته وقالوا إنها سخافة بلهاء، وأبوا أن ينضموا إليه؛ وحتى جوانفيل نفسه رفض رفضاً باتاً أن يشترك في الحملة الصليبية التالية. ونزل الملك- الحصيف في حكمه، الأخرق في حربه- بقواته القليلة في بلاد تونس؛ وكان يرجو من وراء ذلك أن يحمل أميرها على اعتناق الدين المسيحي، وأن يهاجم مصر من جهة الغرب. ولكنه لم تكد تطأ قدماء أرض إفريقية حتى "أصيب بنزلة معوية شديدة"(60) ومات وهو يردد لفظ إدوارد، ولي عهد إنجلترا في عكا، وقاد بعض هجمات جريئة قامت بها حاميتها، ثم عاد مسرعاً إلى إنجلترا ليضع على رأسه التاج الإنجليزي. وحلت بالمسيحيين الكارثة الأخيرة حين نهب بعض المغامرين منهم قافلة للمسلمين في بلاد الشام، وشنقوا تسعة عشر من التجار المسلمين، ونهبوا بعض البلدان الإسلامية. وطلب السلطان الترضية الكافية عن هذا الاعتداء؛ ولم يجب إلى طلبه، فلم يسعه إلا أن يزحف عليها بعد حصار دام ثلاثة وأربعين يوماً. فلما سقطت في يده سمح لرجاله أن يقتلوا أو يسترقوا ستين ألفاً من الأسرى (1291). وسرعان ما سقطت بعدئذ في أيدي المسلمين مدائن صور، وصيدا، وحيفا، وبيروت. وبقي شبح مملكة أورشليم اللاتينية ماثلاً إلى حين في ألقاب بعض الزعماء، وظل بعض المغامرين أو المتحمسين قرنين من الزمان يقدمون على محاولات متقطعة غير مجدية "ليواصلوا السجال العظيم"، ولكن أوربا أدركت أن الحروب الصليبية قد انقضى أجلها.


الفصل التاسع: نتائج الحروب الصليبية

إذا نظرنا إلى الحروب الصليبية من حيث أغراضها المباشرة التي دارت رحالها من أجلها قلنا إنها أخفقت لا محالة. ذلك أنه بعد أن دامت هذه الحروب قرنين من الزمان بقيت بيت المقدس في أيدي المماليك، وقل عدد الحجاج المسيحيين إلى تلك المدينة وزادت مخاوفهم. يضاف إلى هذا أن الحكومات الإسلامية التي كانت من قبل تمتاز بالتسامح مع أصحاب الأديان الأخرى قد ذهب عنها تسامحها بسبب الهجمات المتكررة على بلادها، ولم يبق في أيدي المسيحيين ثغر واحد من ثغور فلسطين والشام التي انتزعوها من قبل لتستقبل التجارة الإيطالية، وأثبتت الحضارة الإسلامية أنها أرقى من الحضارة المسيحية في رقتها، وأسباب راحتها، وتعليمها وأساليبها الحربية. يضاف إلى هذا كله أن الجهود الكبيرة التي بذلها البابوات لنشر لواء السلم على ربوع أوربا بتوجيهها إلى غرض واحد قد تحطمت بفعل المطامع القومية، وحروب البابوات "الصليبية" على الأباطرة. ولم يفق الإقطاع مما أصابه من إخفاق في الحروب الصليبية إلا بأشد الصعاب. ذلك أن الذي كان يوائم النظام الإقطاعي هو المغامرات والبطولة الفردية في أضيق نطاق، ولهذا لم تعرف كيف توفق بين أساليبها الخاصة وبين مناخ الشرق والحرب في الميادين النائية، وأخطأت خطأ لا يغتفر لها في حل مشكلة التموين في خط مواصلاتها الطويل؛ ثم إنها قد استنفدت في تلك الحروب ما لديها من عتاد، وفقدت روحها المعنوية حين لم تقو على فتح بيت المقدس المسلمة بل فتحت بيزنطية المسيحية. وكان كثيرون من الفرسان قد باعوا أملاكهم أو رهنوها للمرابين أو الكنيسة أو الملوك ليحصلوا على المال اللازم للحروب؛ وتخلوا من أجل المال عما كان لهم من حقوق في كثير من المدن القائمة في أملاكهم، وأعفوا كثيرين من الفلاحين من الضرائب والالتزامات الإقطاعية المستقبلة بأثمان عاجلة، وأفاد آلاف من أرقاء الأرض من الامتيازات التي هيأتها لهم الحروب الصليبية بأن تركوا الأراضي التي كانوا يعملون فيها، ولم يرجع آلاف منهم إلى الضياع. وبينا كانت الثروة الإقطاعية والأسلحة الإقطاعية تتحول نحو الشرق، كان سلطان الملوك الفرنسيين يقوى وثراؤهم يزداد، فكانت هذه القوة والزيادة من أهم آثار الحروب الصليبية. وضعفت في الوقت عينه قوة الإمبراطوريتين الرومانيتين الشرقية والغربية: فقد ضاعت هيبة أباطرة الغرب لعجزهم عن استرداد الأرض المقدسة، ولنزاعهم مع البابوية التي أعلت شأنها الحروب الصليبية. أما الدولة الشرقية، فلم تستعد قط ما كان لها في سابق عهدها من قوة وشهرة، رغم مولدها الجديد في عام 1261. ولكن الحروب الصليبية قد أفادت العالم الغربي هذه الفائدة: وهي أنه لولاها لاستولى الأتراك على القسطنطينية قبل عام 1453 بزمن طويل، ذلك أنها أضعفت قوة المسلمين أنفسهم وجعلتهم أقل مقاومة لتيار المغول الجارف.

وحلت الكوارث ببعض المنظمات العسكرية. من هذا أن فرسان المعبد الذين نجوا من مذبحة عكا وفروا إلى قبرص، وانتزعوا في عام 1310 رودس من المسلمين، واستبدلوا باسمهم القديم اسم فرسان رودس، وظلوا يحكمون الجزيرة حتى طردهم منها الأتراك في عام 1522، فانتقلوا منها إلى مالطة وأصبحوا فرسان مالطة، وظلوا باقين حتى حل نظامهم في عام 1799. أما الفرسان التيوتون فقد نقلوا مقرهم الرئيسي بعد سقوط عكا إلى مارينبوج Marienburg في بروسيا التي انتزعوها من الصقالبة وضموها إلى ألمانيا. وأعاد فرسان المعبد تنظيم صفوفهم في فرنسا بعد أن أخرجوا من آسيا؛ وإذ كانت لهم أملاك واسعة غنية في جميع أنحاء أوربا، فقد اخذوا يستمتعون بما تدره عليهم هذه الأملاك؛ وإذ كانت أملاكهم معفاة من الضرائب فقد كان في وسعهم أن يقرضوا المال بفوائد أقل من التي يتقاضاها اللمبارد واليهود، وجمعوا هذا ثروة طائلة. هذا إلى أنهم لم يكونوا كفرسان المعبد ينشئون المستشفيات والمدارس أو يقدمون المعونة للفقراء؛ وأثارت أموالهم الطائلة المكنوزة، ودولتهم المسلحة في داخل الدولة، وعدم خضوعهم لسلطان الملوك أثارت هذه كلها حسد فليب الرابع الجميل لهم وخوفه منهم وغضبه عليهم؛ فقبض في الثاني عشر من شهر أكتوبر عام 1310 على جميع من كان في فرنسا من فرسان المعبد دون سابق إنذار لهم ووضع الخاتم الملكي على جميع ممتلكاتهم. واتهمهم فليب باللواط، وبأنهم فقدوا إيمانهم بالدين المسيحي لطول اختلاطهم بالمسلمين، وبأنهم ينكرون المسيح ويبصقون على الصليب، ويعبدون الأوثان، ويحالفون المسلمين سراً، وأنهم طالما خانوا القضية المسيحية. وحوكم السجناء أمام محكمة من المطارنة والرهبان الموالين للملك، فأنكروا التهم الموجهة إليهم، وعذبوا لكي يعترفوا، فمنهم من علقوا من معاصمهم وكانوا يرفعون وينزلون فجأة، ومنهم من وضعت أقدامهم عارية أمام النيران ومنهم من دقت شظايا حادة بين أظافر أيديهم، ومنهم من كانت تقتلع لهم سن كل يوم، ومنهم من علقت أوزان ثقيلة في أعضائهم التناسلية، ومنهم من ماتوا موتاً بطيئاً من الجوع. وكانت جميع وسائل التعذيب السالفة الذكر تستخدم مع أولئك الفرسان في كثير من الحالات، فكانت النتيجة أن الكثيرين منهم حين جيء بهم ليعاد استجوابهم كانوا ضعافاً موشكين على الموت. وأظهر واحد منهم العظام التي سقطت من قدميه المحروقتين. واعترف الكثيرون منهم بجميع التهم التي وجهها لهم الملك، وقال بعضهم إنهم قد تلقوا وعداً مختوماً بخاتم الملك أن يؤمنوا على حياتهم وترد لهم أملاكهم إذا اقروا بارتكاب التهم التي توجهها لهم الحكومة، ومات بعضهم في السجون، وانتحر البعض الآخر؛ وشد تسعة وخمسون على قوائم خشبية وأحرقوا بالنيران (1310)، وظلوا إلى آخر لحظة من حياتهم يجهرون بأنهم بريئون. واعترف دوه مولاي Du Molay رئيس الطائفة الأكبر على نفسه نتيجة لهذا التعذيب، فسيق إلى قائمة الإحراق، فعاد إلى الإنكار، واقترح محاكموه أن تعاد محاكمته؛ ولكن فليب لم يرضه هذا التأخير، وأمر بحرقه على الفور، وشرف الملك بحضوره تنفيذ الحكم. وصادرت الدولة جميع ما كان لفرسان المعبد من أملاك في فرنسا، واحتج البابا كلمنت الخامس على هذه الأعمال، ولكن رجال الدين الفرنسيين أيدوا الملك في أعماله، وامتنع البابا عن المقاومة وكان في واقع الأمر سجيناً في أفنيون، وأعلن بإيعاز إلغاء نظام فرسان المعبد (1312). وصادر إدوارد الثاني هو الآخر أملاك فرسان المعبد في إنجلترا ليسد بها حاجته إلى المال. وأعطى فليب وإدوارد الكنيسة بعض هذه الأموال المصادرة، ووهبا بعضها الآخر لأنصارهم وأحبائهم، فأنشئوا بها ضياعاً واسعة، وأعانوا بها الملوك على الأشراف الإقطاعيين القدامى.

وربما كان بعض الصليبين قد تعلموا في الشرق أن يتغاضوا من جديد عن الشذوذ ؛ وفي وسعنا أن نضم هذا، والعودة إلى إنشاء الحمامات العامة والمراحيض الخاصة في الغرب، إلى ما أسفرت عنه الحروب الصليبية من نتائج وأكبر الظن أن الأوربيين قد رجعوا إلى العادة الرومانية القديمة عادة حلق اللحى نتيجة لاتصالهم ببلاد الشرق الإسلامية(61)، ودخلت ألف كلمة وكلمة من اللغة العربية إلى اللغات الأوربية، وانتشرت القصص الشرقية في أوربا، وتهيأ لها مظهر جديد في اللغات القومية الناشئة. وتأثر الصليبيون بروعة الزجاج المنقوش المصنوع في بلاد الإسلام، وربما كان من نتائج تأثرهم بها أنهم نقلوا من بلاد الشرق الأسرار الفنية التي أدت إلى تحسين الزجاج الملون الذي نشاهده في الكنائس القوطية(62). وكانت البوصلة، والطباعة، والبارود معروفة في بلاد الشرق قبل انتهاء الحروب الصليبية، ولعلها انتقلت إلى أوربا في أعقاب تلك الحروب. ويلوح أن الأوربيين كانوا أشد جهلاً من أن يعنوا بالشعر، والعلوم، والفلسفة "العربية"؛ ولهذا فإن تأثر الغرب بهذه المؤثرات الإسلامية جاء عن طريق أسبانيا وصقلية لا عن طريق اتصالهم بالمسلمين أثناء هذه الحروب. كذلك تأثر الغرب بالثقافة اليونانية بعد استيلاء الأتراك على القسطنطينية، ومن دلائل هذا التأثر أن موربيك Moerbeke كبير أساقفة كورنثة الفلمنكي أمد تومس أكويناس بتراجم لكتب أرسطو عن أصولها اليونانية مباشرة. وفي وسعنا أن نقول بوجه عام إن ما عرفه الصليبيون من أن أتباع الدين المسيحي قد يكونون مثلهم خلائق متحضرين، كريمين، يوثق بهم ويعتمد عليهم، أو يفوقونهم في هذه الصفات، إن ما عرفه الصليبيون من هذا قد بعث بلا ريب بعض العقول على التفكير، وكان سبباً في إضعاف العقائد الدينية المقررة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ولقد تحدث بعض المؤرخين أمثال وليم كبير أساقفة صور عن الحضارة الإسلامية حديثاً ملؤه الإجلال بل والإعجاب في بعض الأحيان، لو سمعه المحاربون في الحملة الصليبية الأولى لهزمهم وصدم مشاعرهم وكبرياءهم(63).

وعظم سلطان الكنيسة الرومانية وعلت مكانتها إلى أبعد حد بسبب الحملة الصليبية الأولى، ثم أخذت تضعف بالتدريج بسبب الحملات التي تلتها. وكان منظر الشعوب المختلفة، والأشراف العظام، والفرسان ذوي الكبرياء، والأباطرة والملوك في بعض الأحيان، متحدين جميعاً للدفاع عن قضية دينية بزعامة الكنيسة، كان هذا المنظر سبباً في رفع مكانة البابوية وعلو شأنها. فقد كان مندوبو البابا يدخلون كل قطر وكل أبرشية، يحثون الناس على التطوع للحروب الصليبية ويجمعون لها الأموال، وكان سلطانهم يزاحم سلطان رجال الدين في تلك الأقطار والأبرشيات ويطغى عليه في بعض الأحيان؛ وبفضلهم أصبح المستمسكون بدينهم خاضعين مباشرة لسلطان البابا. وأضحى جمع المال على هذا النحو سنة متبعة، وسرعان ما استخدمت الأموال المجموعة في أغراض أخرى غير الحملات الصليبية؛ وأصبح من حق البابا أن يفرض الضرائب على رعايا الملوك، وأن يحول إلى روما مبالغ كبيرة من المال، لولا هذا لذهبت إلى خزائن الملوك واستخدمت في الحاجات المحلية؛ وأثار هذا بلا ريب غضب الملوك ومقاومتهم. وكان توزيع صكوك الغفران على من يقوم بالخدمة في فلسطين أربعين يوماً عملاً مشروعاً في العرف العسكري، وكان منح هذه الصكوك الغفرانية نفسها لمن يتكفلون بنفقات محارب من الصليبيين يبدو كذلك من الأعمال التي يمكن التسامح فيها، أما التوسع في منح تلك الصكوك، إلى الذين يؤدون الأموال ليستخدمها البابوات، أو الذين يحاربون حروب البابا في أوربا ضد فردريك، ومانفرد Manfread وكنراد فقد كان مصدراً جديداً من مصادر غضب الملوك واستيائهم، ومبعثاً لفكاهة الناقدين وسخريتهم. وحدث في عام 1241 أن أمر جريجوري التاسع مندوبه في بلاد المجر أن يعفى الذين أقسموا بالتطوع في الحرب الصليبية من أيمانهم إذا أدوا إليه قدراً من المال، ثم استخدم ما جمعه من الأموال بهذه الطريقة في كفاحه المرير ضد فردريك الثاني(64). وقام الشعراء الجوالون أهل بروفنسال ينتقدون الكنيسة لتحويلها تيار الحرب الصليبية من فلسطين إلى فرنسا، وذلك بعرضها صكوك الغفران نفسها على من يتطوعون لمحاربة المارقين الألبجنسيين في فرنسا(65). ويقول ماثيو باربس Mathew Paris في التعليق على هذا العمل: "ودهش المؤمنون من أن يعد البابوات بغفران جميع خطايا من يسفكون دماء المسيحيين كما تغفر جميع خطايا من يسفكون دماء الكفار"(66). وكان كثيرون من ملاك الأراضي قد باعوا أرضهم للكنائس أو الأديرة أو رهنوها لها ليحصلوا بذلك على ما يلزمهم من المال في الحروب الصليبية، وأصبح للأديرة بفضل هذا ضياع واسعة. ولما أن انحطت مكانة الكنيسة بسبب إخفاق الحروب الصليبية أضحت ثروتها هدفاً واضحاً لحسد الملوك، وغضب الشعب وتأنيب النقاد. ومن الناس من كان يعزو الكوارث التي أصابت لويس التاسع في عام 1250 إلى الحرب التي شنها في الوقت نفسه إنوسنت الرابع على فردريك الثاني. وقام المتشككون الجريئون يقولون إن إخفاق الحروب الصليبية يدحض ما يدعيه البابا من أنه نائب عن الله أو ممثله في أرضه. ولما أن قام الرهبان بعد عام 1250 يسألون الناس المال لإعداد حروب صليبية أخرى، استدعى بعض من كانوا يستمعون خطبهم بعض المتسولين وتصدقوا عليهم باسم محمد من قبيل السخرية بالرهبان أو الحقد عليهم، لأن محمداً في رأيهم قد أظهر أنه أعظم قوة من المسيح(67).

وكان أثر الحروب الصليبية الذي يلي في أهميته إضعاف العقيدة الدينية المسيحية هو بث روح النشاط في الحياة المدنية الأوربية لمعرفة الأوربيين بأساليب المسلمين التجارية والصناعية. ذلك أن الحرب تسدى إلى الناس خيراً واحداً وهو أنها تعلمهم علم تقويم البلدان. فقد عرف التجار الإيطاليون الذين أثروا بفضل الحروب الصليبية كيف يرسمون خرائط للبحر المتوسط، وتلقى المؤرخون الإخباريون الرهبان الذين رافقوا الفرسان آراء جديدة عن اتساع بلاد آسيا واختلاف أصقاعها ونقلوا هذه الآراء إلى غيرهم من الناس، وبهذا تحركت في القلوب الرغبة في الكشف والارتياد، وظهرت كتب في وصف الأقاليم والبلدان ترشد الحجاج إلى البلاد المقدسة والى داخل البلاد المقدسة؛ وأخذ الأطباء المسيحيون العلم عن الأطباء اليهود والمسلمين، وتقدم علم الجراحة بفضل الحروب الصليبية.

وسارت التجارة وراء الصليب، أو لعل التجارة هي التي قادت الصليب. لقد خسر الفرسان فلسطين، ولكن الأساطيل التجارية الإيطالية لم تنتزع السيطرة على البحر المتوسط من أيدي المسلمين وحدهم بل انتزعها كذلك من أيدي البيزنطيين. نعم إن مدائن البندقية، وجنوى، وبيزا، وأملفي، ومرسيليا، وبرشلونة كانت قبل الحروب الصليبية تتجر مع بلاد الشرق الإسلامية، وتخترق مضيق البسفور والبحر الأسود، ولكن الحروب الصليبية قد وسعن نطاق هذه التجارة إلى أبعد حد. وكان لاستيلاء البنادقة على القسطنطينية، ونقلهم الحجاج والمحاربين إلى فلسطين، وتوريدهم المؤن إلى المسيحيين وغير المسيحيين في بلاد الشرق، واستيرادهم المحاصيل الشرقية إلى أوربا- كان لهذا كله أكبر الأثر في انتعاش التجارة والنقل البحري انتعاشاً لم يكن له نظير منذ أيام مجد روما الإمبراطورية، وجاءت إلى أوربا بكميات موفورة من الأقمشة الحريرية والسكر والتوابل كالفلفل، والزنجيل، والقرنفل، والقرفة- وكانت كلها من مواد الترف النادرة في أوربا في القرن الحادي عشر. وانتقلت من الشرق إلى الغرب بكميات كبيرة نباتات ومحاصيل وأشجار عرفتها أوربا من قبل من بلاد الأندلس الإسلامية. ومن هذه الذرة، والأرز، والسمسم، والخروب، والليمون، والبطيخ، والخوخ، والمشمش، والكرز، والبلح. وسمى البصل الصغير المعروف باسم الشالوت والعسقلاني من اسم عسقلان الثغر الذي كان ينقل منه على ظهور السفن من الشرق إلى الغرب، وظل المشمش يسمى "برقوق دمشق" زمناً طويلاً(68). وجاء من بلاد الإسلام الدمقس، والموصلين، والساتان، والمخمل، والأقمشة المزركشة، والطنافس، والأصباغ، والمساحيق، والعطور، والجواهر لتزدان بها بيوت أمراء الإقطاع وأهل الطبقات الوسطى ويتحلى بها رجالهم ونساؤهم(69). وحلت المرايا الزجاجية المطلية بغشاء معدني محل المرايا المصنوعة من البرنز أو الصلب المصقول، وأخذت أوربا عن الشرق صناعة تكرير السكر والزجاج "البندقي".

ونمت الصناعة الفلمنكية بوجود أسواق جديدة لها في بلاد الشرق، وساعد هذا النماء على قيام البلدان ونشأة الطبقة الوسطى، وأدخلت من بلاد بيزنطية والإسلام فنون للأعمال المصرفية أحسن مما كان موجوداً فيها قبل، فظهرت أشكال ووسائل جديدة للائتمان، وازداد تداول النقود والآراء كما ازداد عدد الرجال. لقد بدأت الحروب الصليبية بنظام إقطاعي زراعي، نفخت فيه روح البربرية الألمانية الممتزجة بالعاطفة الدينية؛ واختتمت بقيام الصناعة، واتساع نطاق التجارة، في عهد ثورة اقتصادية مهدت السبيل لعصر النهضة وأمدته بالمال.