قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 4 ب 19
صفحة رقم : 5016
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> العصور المظلمة -> اضمحلال الغرب -> مقدمة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب التاسع عشر: اضمحلال الغرب 566-1066
بينما كان الإسلام يشق طريقه في أنحاء العالم، وبينما كانت بيزنطية تفيق من الضربات التي بدت قاصمة لظهرها، كانت أوربا تكافح للخروج من دياجير "العصور المظلمة" وهذا تعبير غير دقيق في وسع كل إنسان أن يعرّفه كما يهوى، أما نحن فسنقصره تعسفاً منا على أوربا غير البيزنطية في الفترة الواقعة بين بؤيثيوس Boethlus عام 524 ومولد أبيلارد Abelard في عام 1079. وظلت الحضارة البيزنطية مزدهرة خلال هذه الفترة رغم ما خسرته الدولة من أملاكها ومهابتها، أما أوربا الغربية فكانت في القرن السادس الميلادي مسرحاً لفوضى الفتوح، والانحلال، والعودة إلى الهمجية نعم إن قسطاً كبيراً من الثقافة اليونانية والرومانية القديمة قد بقي فيها، وإن كان معظمه صامتاً مخبوءاً في عدد قليل من الأديرة والأسر، ولكن مصادر الأسس الجسمية والنفسية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي كانت قد اضطربت اضطراباً لا تعود معه هذه الأسس إلى الاستقرار إلا بعد قرون طوال. ذلك أن الولع بالآداب، والإخلاص للفن، ووحدة الثقافة واتصالها، وتجاوب العقول بعضها مع بعض تجاوباً يشحذها ويخصبها، كل هذه الأسس قد انهارت أمام ضربات الحرب وويلاتها، وأخطار طرق النقل، والأساليب الاقتصادية في البيئات الفقيرة، ونشأة اللغات القومية، واختفاء اللغة اللاتينية من بلاد الشرق واللغة اليونانية من الغرب. وعجلت في القرنين التاسع والعاشر في سيطرة المسلمين على البحر المتوسط، وغارات النورمان، والمجر، والمسلمين على السواحل الأوربية نزعة التخصص في أساليب الحياة ووسائل للدفاع وبدائية الفكر والكلام. وكانت ألماني وأوربا الشرقية ملتقى تيارات متعارضة من الهجمات، واسكنديناوة معششاً للقراصنة، وبريطانيا تجتاحها قبائل الإنكليز، والسكسون، والجوت، والدنمرقيين، وغالة يهاجمها الفرنجة، والرومان، والبرغنديون، والقوط، وأسبانيا يتنازعها القوط الغربيون والمسلمون، وكانت إيطاليا قد حطمتها الحروب الطوال التي دارت رحاها بين القوط والبيزنطيين، وظلت البلاد التي وهبت نصف العالم الأمن والنظام تعاني خمسة قرون طوال مساوئ الانحلال في الأخلاق والاقتصاد، وأنظمة الحكم. ومع هذا فإن شارلمان، وألفرد Alfred، وأتو الأول قد وهبوا فرنسا، وإنجلترا وألمانيا فترات من النظام، وكانوا حافزاً على لسير إلى الأمام، وأحيت إرجينا Erigena موت الفلسفة، وجدد ألكوين Alcuin وغيره نشاط التعليم، وأدخل جريرت Gerbert علوم المسلمين إلى بلاد المسيحية وأصلح ليو التاسع وجريجوري السابع نظم الكنيسة وبعثا فيها القوة، ونشأ في فن العمارة طراز الزخرف الروماني، وبدأت أوربا في القرن الحادي عشر رقيها البطيء إلى ما وصلت إليه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أي إلى أعظم ما بلغته في العصور الوسطى بأجمعها.
الفصل الأول: إيطاليا
اللمبارد 568-774
انطفأ سراج الحكم البيزنطي في إيطاليا الشمالية بعد ثلاث سنين من موت جستنيان على أثر غارات اللمبارد على تلك البلاد.
ويظن بولس الشماس- وهو واحد منهم- أن اللمبارد أو اللنجوباردي Longobardi قد سموا بهذا الاسم لطول لحاهم(1)، وهم أنفسهم يعتقدون أن موطنهم الأصلي كان في اسكنديناوة(2)، ولهذا فإن دانتي، وهو من نسلهم(3)، يوجه الخطاب إليهم بهذا الوصف(4). ونراهم على ضفاف نهر الإلب الأدنى في القرن الأول الميلادي، وعلى ضفاف الدانوب في القرن السادس، ويستخدمهم نارسيس Narses في حروبه الإيطالية التي دارت رحاها عام 552، ثم يعيدهم إلى بانونيا بعد أن يحرز النصر. ثم يشتد ضغط الآفار على اللمبارد من الشمال والشرق، فيتحرك مائة وثلاثون ألفاً منهم في عناء-رجالهم ونساؤهم وأطفالهم، ومتاعهم- ويعبرون جبال الألب إلى "لمبارديا" سهول البو الخصيبة. ولعل نارسيس كان يستطيع وقف سيرهم، ولكنه كان قد خلع وجلله العار قبل عام من ذلك الوقت؛ كذلك كانت بيزنطية مشغولة عنهم بالآفار والفرس، ولم يكن لديها من المال ما تنفقه في أعمال البطولة التي يفيد منها غيرها. ولهذا فإنه لم يحل عام 573 حتى استولى اللمبارد على فيرونا، وميلان، وفلورنس، وبافيا-وقد أصبحت هذه المدينة الأخيرة عاصمة ملكهم، وفي عام 601 استولوا على بدوا، وفي 603 على كرمونا Gemona ومنتوا Manlua؛ وفي 640 على جنوا. وانتزع ليوتبراند Liutprand أعظم ملوكهم (712-744) رافنا في شرقي إيطاليا، واسبوليتو Spoleto في وسطها، وبنفنتو في جنوبها، وكان يطمح إلى جميع كلمة إيطاليا كلها تحت سلطانه. غير أن البابا جريجوري الثالث لم يكن يرضى أن تصبح البابوية أبرشية لمباردية؛ فاستغاث بالبنادقة الذين لم يخضعوا للمبارد، وأعاد هؤلاء رافنا إلى بيزنطية. ولم ير ليوتبراند بُدّاً من أن يقنع بحكم شمالي إيطاليا ووسطها أصبح حكم منّ عليهما منذ أيان ثيودريك القوطي، وكان هو مثل ثيودريك يجهل القراءة والكتابة(5).
وأنشأ اللمبارد حضارة خطت في مدارج الرقي. وكانوا يختارون ملكهم، وكان هذا يستشير في شئون الحكم مجلساً من الأعيان، ويعرض شرائعه عادة على جمعية شعبية مؤلفة من جميع الذكور الذين بلغوا سن الخدمة العسكرية. ونشر مليكهم راثاي Rathari (643) كتاب قوانين جمعت بين البدائية والتقدمية: فكانت تبيح أداء الدية المالية جزاء للقتل، وأرادت أن تحمي الفقراء من الأغنياء، وكانت تسخر من السحر والشعوذة، وتبيح حرية العبادة للكاثوليك، والأريوسيين، والوثنيين على السواء(6). وامتص الدم الإيطالي الغزاة الألمان عن طريق الزواج، واتخذوا اللسان اللاتيني لغة لهم وترك اللمبارد آثارهم في أماكن متفرقة: في العيون الزرقاء، والشعر الأشقر، وفي قليل من الكلمات التيوتونية في اللغة الإيطالية. ولما أن خبت حدة الفتوح واستقر القانون، عادت التجارة- وهي العمل الطبيعي في وادي نهر البو- سيرتها الأولى، ولم يكد ينتهي عصر اللمبارد حتى أثرت مدائن شمال إيطاليا وقويت واستعدت لتلقي الفنون وخوض الحرب عندما بلغت ذروتها في العصور الوسطى. أما الأدب فكانت سوقه راكدة، فلم يبق الدهر من أدب ذلك العصر وتلك الدولة إلا كتاباً واحداً ذا شأن-هو كتاب تاريخ اللمبارد لبولس الشماس (حوالي عام 748)، وهو كتاب ممل، مشوه الترتيب، ليس فيه مثقال ذرة من الفلسفة. ولكن لمبارديا طبعت اسمها على فن العمارة وعلى شئون المال، وكانت حرف البناء قد احتفظت بشيء مما أخذته عن بيزنطية من تنظيم وحذق قديمين. وكان لإحدى الجماعات، وهي جماعة سادة كومو، السبق في صياغة طراز "لمباردي" في العمارة جمعته من أصول متعددة، وازدهر فيما بعد حتى أصبح هو الطراز الرومانسي.
ولم يمض جيل واحد على حكم ليوتبراند حتى تحطمت المملكة اللمباردية على صخرة البابوية. ثم استولى الملك إيستلف Aistulf على رافنا في عام 751، وأنهى بذلك تبعيتها لبيزنطية، وإذ كانت دوقية روما قبل ذلك الوقت تابعة من الوجهة القانونية للولي المقيم في رافنا فإن أيستلف طالب بحقه في ضم روما إلى مملكته الآخذة في الاتساع. واستغاث البابا استيفن الثاني بقسطنطين كبرونيموس فبعث الإمبراطور اليوناني بمذكرة غير ذات خطر إلى أيستلف، فما كان من استيفن إلا أن استغاث ببيبين القصير Pepin the Short ملك الفرنجة. وكان لهذه الاستغاثة نتائج ذات شأن لم تقف عند حد. ولاح لبيبين الأمل في بناء إمبراطورية له فعبر جبال الألب، ونكل بإيستلف، وجعل لمبارديا إقطاعية للفرنجة، وأعطى جميع إيطاليا الوسطى للبابوية. وظل البابوات يقرون بالسيادة الرسمية لأباطرة الشرق، أما إيطاليا الشمالية فقد قضي فيها على سلطان بيزنطية قضاءً نهائياً. وقد حاول ديسدريوس Desiderius الملك اللمباردي التابع أن يسترد استقلال لمبارديا وفتوحها، ولكن البابا هدريان الأول استدعي لمعونته إفرنجياً جديداً، وانقض شالمان على بافيا، وأرسل ديسدريوس إلى حد الأديرة وقضى على مملكة اللمبارد وجعلها ولاية تابعة للفرنجة.
النورمان في إيطاليا 1036-1085
وتركت إيطاليا الآن تعاني الانقسام والحكم الأجنبي مدى ألف عام، لن نعني بتسجيل تفاصيل حوادثها. وحسبنا أن نقول إن النورمان شرعوا في 1036 يفتحون إيطاليا الجنوبية وينتزعونها من الدولة البيزنطية. ذلك أنه كان من عادة أشراف نورمنديا أن يوزعوا أراضيهم على أبنائهم بالتساوي كما يفعل الفرنسيون في هذه الأيام، وكانت نتيجة هذا القانون في نورمنديا أن تجزأت أملاك الأسر في العصور الوسطى إلى ملكيات صغيرة على حين أن نتيجته في فرنسا هي وجود أسر صغيرة. ولم يكن النورمان راغبين في حياة الفقر الهادئة، وكانوا إلى هذا لا يزالون يذكرون ما طبع عليه آباؤهم أهل الشمال من حب المغامرة والسلب والنهب، ولهذا أجَّر بعض شداد النورمان أنفسهم إلى أدواق إيطاليا الجنوبية المتنافسين المتنازعين، وأظهروا ضروباً من البسالة في حروبهم إلى جانب بنفنتو، وسلرنو، ونابلي، وكبوا، وإلى جانب أعدائها، وأعطوا مدينة أفرسا Aversa جزاء لهم على أعمالهم وترامى إلى مسامع غيرهم من شباب النورمان المتحمسين أن الأراضي تكسب بضربة أو ضربتين من سواعدهم، فغادروا نورمنديا إلى إيطاليا. وسرعان ما أصبح من فيها من النورمان كثرة تستطيع أن تقاتل لحسابها، ولم يحل عام 1053 حتى أنشأ أجرأهم ربرت جوسكارد Robert Guiscard (أي العاقل أو الماكر) مملكة نورمندية في إيطاليا الجنوبية. وكان ربرت هذا يتصف بكل الصفات التي تخلعها الأساطير على الأبطال. وكان أطول من جميع جنوده، وكان قوي الساعدين، صلب الرأي، جميل المحيا، أشقر الشعر، أصهب اللحية، فخم الثياب، سخي اليد ينثر الذهب نثراً، قاسياً في بعض الأحيان، وباسلاً على الدوام.
ولم يكن روبرت يعترف بغير قانون القوة والخداع، فاجتاح كلبريا Galabria واستولى على بنفنتو، وكاد يمشي إليها على جثة البابا ليو التاسع (1054)، وعقد حلفاً مع نقولا الثاني، تعهد فيه أن يكون خاضعاً له وأن يؤدي له الجزية، وأقطعه نقولا في نظير ذلك كلبريا، وأبوليا Apulia وصقلية (1059). وترك ربرت أخاه الأصغر روجر ليفتح صقلية، واستولى هو على باري Bari (1071) وطرد البيزنطيين من أبوليا. واغتاظ إذ وجد البحر الأدرياوي يعترض طريقه فأمل أن يعبره ليستولي على القسطنطينية، ويصبح أقوى ملوك أوربا جميعاً. وأنشأ من فوره عمارة بحرية، هزم بها الأسطول البيزنطي في واقعة بحرية بالقرب من درزو (1081)، واستغاثت بيزنطية بالبندقية، فخفت هذه المدينة لنجدتها لأنها لم تشأ إلا أن تكون ملكة البحر الأدرياوي، وأوقعت سفائنها الماهرة في ضروب القتال هزيمة منكرة بعمارة جوسكارد البحرية في عام 1082 على بعد قليل من موضع نصره الذي ناله من وقت قصير. ولكن ربرت استطاع بنشاطه الشبيه بنشاط يوليوس قيصر نقل جيشه إلى دورزو Durazzo وهزم عندها جيوش الكسيوس الأول الإمبراطور اليوناني، واخترق إبريوس وتساليا حتى كاد يصل إلى سلانيك. وبينما هو يوشك أن يحقق حلمه إذ تلقى دعوة حارة من البابا جريجوري السابع يستغيث به لينقذه من الإمبراطور هنري الرابع. فما كان من ربرت إلا أن ترك جيشه في تساليا، وعاد مسرعاً إلى إيطاليا، وحشد جيشاً من النورمان، والطليان، والمسلمين أنقذ به البابا، وانتزع روما من الألمان، وأخمد ثورة قام بها الشعب على جيشه، وترك هذا الجيش الحانق يحرق المدينة وينهبها ويخربها تخريباً لا يجاريه فيها تخريب الوندال أنفسهم لهذه المدينة (1084) وعاد في هذه الأثناء ابنه بوهمند Bohemond ليعترف بأن جيشه الذي كان في بلاد اليونان قد مزقه ألكسيوس شر ممزق. وأنشأ القرصان القديم أسطولاً ثالثاً هزم به أسطول البندقية بالقرب من جزيرة كورفو Gorfo (1084)، واستولى على جزيرة
كفلونيا Cephalonia الأيونية، ثم مات فيها، بعدوى سرت إليه أو بالسم، في سن السبعين (1085). وكان هو أول القادة اللصوص في إيطاليا (الكندتيري Gonedottieri).
البندقية 451-1095
وبينما كانت هذه الأحداث تجري في مجراها إذا ولدت دولة جديدة في الطرف الشمالي من شبه الجزيرة؛ قدر لها أن تزداد قوة وعظمة حين كانت الفوضى تضرب بجيرانها على الجزء الأكبر من إيطاليا. وتفصيل ذلك أن سكان أكويليا Aquileia، وبدوا، وبلونو Belluno، وفلتري Feltre وغيرها من المدن فروا في أثناء غارات القبائل الهمجية في القرن الخامس والسادس-وبخاصة في أثناء غارة اللمبارد في عام 568-لينجوا بأنفسهم من الهلاك وينضموا إلى صيادي السمك المقيمين في الجزائر الصغيرة التي كونها نهر البياف Piav والأديج Adige في الطرف الشمالي من البحر الأدرياوي. وبقى بعض هؤلاء اللاجئين في هذه الجزائر بعد انتهاء الأزمة، وأنشئوا فيها محلات: هرقلية، وملامكو Melamocco وجرادو Grado، وليدو Lido... وريفو ألتو Rivo Alto (النهر العميق). وقد أضحت هذه المحلة الأخيرة التي سميت فيها بعد ريالتو Rialto عاصمة حكومتهم المتحدة (811). وكانت قبلية من الفنيتي Veneti قد احتلت شمالي إيطاليا قبل عهد يوليوس قيصر بزمن طويل، وأطلق اسم فنيزيا Venezia في القرن الثالث عشر على المدينة الفذة التي نشأت حيث كان يقيم اللاجئون.
وكانت الحياة فيها شاقة في بادئ الأمر، فكان من الصعب الحصول على الماء العذب، لأن قيمته لم تكن تقل عن قيمة الخمر. وأرغمت الظروف البنادقة-أهل فنيزيا-لأن يصبحوا أهل سفن وتجارة لاضطرارهم إلى استبدال القمح وغيره من السلع بما يحصلون عليه من البحر من سمك وملح؛ وما لبثت تجارة أوربا الشمالية والوسطى أن أخذت تنساب تدريجياً عن طيق الثغور البندقية. وأقر أن المدن البندقية الجديدة بسيادة بيزنطية عليه ليحمي نفسه من الألمان واللمبارد، ولكن مركز هذه الجزائر المنيع في مياهها الضحلة وتعذر الهجوم عليها براً أو بحراً لهذا السبب، مضافاً إلى جد أهلها وجلدهم، وازدياد الثراء الناتج من انتشار تجارتها، كل هذا قد وهب الدولة الصغيرة سيادة واستقلالاً غير منقطعين مدى ألف عام.
وظل اثنا عشر تربينوناً-يبدو أن كل واحد منهم كان يشرف على شئون جزيرة من الجزائر الاثنتي عشرة الكبيرة-يصرفون شئون الحكم حتى عام 697 حين أحست هذه العشائر بحاجتها إلى سلطة عليا موحدة، فاختارت أول دوج أو دوق أو زعيم doge, dux يتولى شئون الحكم حتى ينزله الموت أو تنزله الثورة عن عرشه. ودافع الدوج أجنلو بدور Agnelle Badoer (809-827) عن المدينة ضد الفرنجة دفاعاً أظهر فيه من ضروب المهارة ما جعل الأدواق فيما بعد يختارون من سلالته حتى عام 942. وثأرت البندقية لنفسها في عهد أرسلو Orsello الثاني (991-1088) من غارات القراصنة الدلماشيين بأن هاجمت معاقلهم واستولت على دلماشيا، وبسطت سيادتها على البحر الأدرياوي. وشرع البنادقة في عام 998 يحتفلون في عيد الصعود من كل عام بهذا النصر البحري وبهذه السيادة الاحتفال الرمزي المعروف عندهم باسم اسبوزاليزيا (sposalisia): فكان الدرج يقذف في البحر من سفينة مزينة بهجة بخاتم مدشن، وينادي باللغة اللاتينية: "إننا نتزوجك أيها البحر، دليلاً على سلطاننا الحق الدائم"(7). وسَرَّ بيزنطية أن تقبل البندقية حليفاً لها مستقلاً، وكافأتها على صداقتها النافعة بامتيازات تجارية في القسطنطينية وغيرها وصلت تجارة البندقية بفضلها إلى البحر الأسود بل تعدته إلى بلاد الإسلام نفسها.
وحدث في عام 1033 أن قضت أرستقراطية التجار على انتقال السلطة إلى الأدواق عن طريق الوراثة، وعادت مبدأ الانتخابات على يد جمعية من المواطنين، وأرغمت الدوج على أن يحكم بعدئذ بالاشتراك مع مجلس من الشيوخ. وكانت البندقية في ذلك الحين قد أصبحت تلقب "بالذهبية " (فنيسيا أوريا Venetia Aurea)، واشتهر أهلها بثيابهم المترفة، وبانتشار التعليم بينهم، وبإخلاصهم لوطنهم وكبريائهم. وكانوا أقواماً نشطين راغبين في الكسب، ماهرين، دهاة، شجعاناً، ميالين للنزاع، أتقياء، لا يحرصون على مبدأ، يبيعون العبيد المسيحيين للمسلمين(8)، وينفقون بعض مكاسبهم في بناء الأضرحة للقديسين. وكان في حوانيت ريالتو صناع ورثوا من إيطاليا الرومانية حذق أهلها الصناعي؛ وكانت تجارة محلية نشيطة تسير في قنواتها، هادئة ساكنة إلا من صيحات بحارة قواربها الأنيقة اللفظ؛ وكانت موانئ الجزائر تجملها السفن المغامرة تحمل منتجات أوربا وبلاد الشرق. وكانت قروض الرأسماليين تمول رحلات التجار البحرية، وتعود على أصحاب هذه الأموال بربح لا يقل عن عشرين في المائة في الأحوال العادية(9). واتسعت الهوة بين الأغنياء (الماجوري) والفقراء (المنيوري) حين ازداد ثراء الأثرياء، ولم ينقص فقر الفقراء إلا قليلاً. ولم يكن أحد يظهر الرأفة بالسذج البسطاء، فكان الكسب والثراء من نصيب الأسرع، والظفر من نصيب الأقوى. فكان الفقراء يمشون على الأرض العارية، وتنساب فضلات بيوتهم في الشوارع إلى القنوات؛ أما الأثرياء فقد شادوا القصور الفخمة، وسعوا لكسب رضاء الله والناس بإقامة أفخم كنيسة ميرى في العالم اللاتيني، وتبدلت واجهة قصر الدوج، التي شيدت أول مرة في عام 814 واحترقت في عام 976، وتغير شكلها مراراً عدة قبل أن تستقر على شكلها الحاضر الذي هو مزيج رشيق من الزخرف الإسلامي والصورة التي هي من مميزات عصر النهضة.
وحدث في عام 828 أن سرق بعض تجار البنادقة من إحدى كنائس الإسكندرية ما يظن أنه مخلفات القديس مرقس. واتخذت البندقية ذلك القديس شفيعاً لها وحاميها ونهبت نصف العالم لتواري عظامه. وبدئ بإنشاء كنيسة القديس مرقص الأولى في عام 830 ثم دمرتها النار في عام 976 تدميراً رأى معه أرسيولو Orseolo الثاني أن يبدأ كنيسة جديدة أوسع منها رقعة. واستدعى لهذا الغرض فنانين من بيزنطية أقاموها على نمط كنيسة الرسول المقدس في القسطنطينية- ذات سبع قباب فوق بناء صليبي. وظل العمل فيها جارياً نحو قرن من الزمان؛ وتم البناء الرئيسي بشكله الحاضر تقريباً في عام 1071، ودشن في عام 1095. ولما فقدت مخلفات القديس مرقس حين شبت النار في الكنيسة عام 976، وهدد فقدها قداستها، اتفق على أن يجمع المصلون في الكنيسة في يوم تدشينها ويدعوا الله أن توجد هذه المخلفات. وتقول إحدى الروايات المأثورة العزيزة على البنادقة الصالحين إن إحدى الأعمدة خر لدعواتهم، وسقط على الأرض، وكشف عن عظام القديس(10). وتهدم البناء وأصلح مراراً، وقلما مرت عشر سنين دون أن تشهد فيه تغييراً أو تحسيناً. وليست كنيسة القديس بطرس التي نعرفها الآن بنت تاريخ واحد أو عصر واحد، بل إنها سجل من الحجارة والجواهر لألف عام، فقد أضيفت في القرن الثاني عشر واجهة من الرخام إلى جدرانها المقامة من الآجر، وجيء بأعمدة مختلفة الأنواع من أكثر من عشر مدائن، وقم الفنانون البيزنطيون الذين اتخذوا البندقية وطناً لهم بعمل فسيفساء الكنيسة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأخذ أربعة جياد برونزية من القسطنطينية حين استولى البنادقة عليها في عام 1204، ووضعت فوق البوابة الرئيسية، وأضاف الفنانون القوط في القرن الرابع عشر أبراجاً، وشبابيك مفرغة، وستاراً للضريح المقدس، وغطى مصورو عصر النهضة في القرن السابع عشر ونصف الفسيفساء بصور للجدران غير ذات شأن كبير. واحتفظ البناء العجيب في خلال هذا التغيير كله وهذه القرون الطوال بمميزاته ووحدته- فكان على الدوام بيزنطياً وعربياً، منمقاً وشاذاً غير مألوف: فهو من خارجها شديد البريق ذو أقواس، وأكتاف، وأبراج مستدقة، وأبواب، والتفافات لولبية، ورخام متعدد الألوان مغلف بالمعادن، وطنف منحوتة، وقباب بصلية الشكل. وهو من الداخل يحوي متاهة من العمد الملونة، ومثلثات مطلية بين العقود؛ ومظلمات قائمة، وخمسة آلاف ياردة مربعة من الفسيفساء، وأرضية مرصعة باليشب والعقيق وغيرهما من الحجارة الكريمة، وحظاراً زخرفياً خلف المذبح صنع عام 976 في القسطنطينية من المعادن الغالية والميناء ذات الحزوز، مثقلة بألفين وأربعمائة قطعة من الجواهر، ومقاماً خلف المذبح الرئيسي منذ عام 1105. وقد عدت الرغبة الجامحة في الزخرف كورها في كنيسة القديس مرقس كما عدته في كنيسة أيا صوفيا، فرأت أن تكرم الله بالرخاء والحلي، وأن تروع الإنسان، وتؤدبه، وتشجعه، وتواسيه بمائة مشهد ومشهد من الملحمة المسيحية من بداية الخلق إلى نهاية العالم. وكانت كنيسة القديس مرقس أسمى وأخص ما عبر به عن أنفسهم أقوام لاتين استحوذ عليهم الفن الشرقي حتى ملك عليهم مشاعرهم.
الحضارة الإيطالية 566-1095
ظلت إيطاليا الشرقية والجنوبية بيزنطية في ثقافتها، على حين أن بقية شبه الجزيرة قد نشأت فيها من تراث الرومان حضارة جديدة-عناصرها لغة جديدة، ودين جديد، وفن جديد. ذلك أن هذا التراث لم يفن كله رغم ما حل بالبلاد من غزو، وفوضى، وفقر. فأما اللغة الإيطالية فكانت هي اللاتينية الخشنة التي كانت تتكلم بها الجماهير في العهد القديم، وقد استحالت على مهل حتى أضحت أكثر اللغات رخامة. وأما المسيحية الإيطالية فكانت مؤلفة من وثنية خيالية جذابة، وشرك عاطفي من القديسين الحماة المحليين، وأساطير صريحة من الخرافات والمعجزات. وكان الفن الإيطالي يرى أن الفن القوطي فن همجي ويستمسك بطراز الباسلفا، (البناء الروماني المستطيل الشكل)، ثم عاد آخر الأمر في عصر النهضة إلى الشكل الأوغسطي. ولم يزدهر نظام الإقطاع في إيطاليا مطلقاً؛ فالمدن لم تفقد قط سلطانها وتفوقها على الريف؛ وكانت الصناعة والتجارة، لا الزراعة، هما اللتين مهدتا السبيل إلى الثراء.
ولم تكن في روما في عهد من العهود مدينة تجارية، ولذلك ظلت آخذة في الضعف، فقد اندثر مجلس شيوخها في حروب القوط، وأضحت وأضحت نظم بلدياتها القديمة بعد سبعمائة عام من نشأتها أدوات جوفاء وأحلاماً تناقض روح الزمان، ولم يكن في وسع عامتها المؤلفين من خليط من الأجناس، والذين يعيشون عيشة قذرة يخفف من قذارتها بعض الشيء الإباحية الجنسية والصدقات البابوية، لم يكن في وسعها هؤلاء العامة أن يعبروا عن عواطفهم السياسية إلا بالثورات المتكررة على السادة الأجانب أو البابوات البغيضين. وكانت الأسر الأرستقراطية القديمة لا شغل لها إلا التنافس للسيطرة على البابوية أو التنازع مع البابوية للسيطرة على روما. وبينما كان التربيونون- محامو الشعب- والقناصل وأعضاء مجالس الشيوخ هم الذين ينفذون القانون بالعصا والحراب، أضحى النظام الاجتماعي يقوم الآن على أساس مزعزع من قرارات المجالس الكنسية ومواعظ الأساقفة، ووكلائهم، والمثل المريبة يضربها آلاف الرهبان المختلفي الأمم، وهم طائفة قلّما كانت غير متعطلة، ولم تكن على الدوام عازبة. وكانت الكنيسة قد شنت الغارة على الاختلاط الجنسي في الحمامات العامة وهجر الناس الأبهاء العظمى وحمامات السباحة الساخنة، وزال من الوجود فن الطهارة الوثني. وخُربت قنوات الشرب الإمبراطورية من جرّاء الإهمال أو الحروب فأخذ الناس يشربون مياه التيبر(11)؛ وعطلت حلبة مكسيموس Circus Maxtmus والكلسيوم Collosseum ذواتا الذكريات الدموية، وأخذت السوق العامة تعود في القرن السابع مراعي للبقر كما بدأت، وغطى الوحل أرض الكبتول، وهدمت الهياكل القديمة والمباني العامة ليأخذ من أنقاضها ما تحتاجه الكنائس المسيحية والقصور من مواد، وعانت رومة من أبنائها أكثر مما عانته من الوندال والقوط(12)، وملاك القول إن روما يوليوس قيصر قد ماتت، وإن روما ليو العاشر لم تكن قد ولدت بعد.
وتشتت محتويات دور الكتب القديمة وتلفت، وكادت الحياة الذهنية أن تنحصر في الكنيسة. وهوى العلم تحت أقدام الخرافات التي تهب الفقر خيالاً ورواء؛ وظل الطب وحده يرفع رأسه عالياً تحتفظ منه الأديرة بما ورثته عن جالينوس. ولعل مدرسة طبية علمانية قد نشأت من دير للبندكتيين في سلرنو في القرن التاسع الميلادي، فكانت هي التي سدت الثغرة القائمة بين طب الأقدمين وطب العصور الوسطى، كما سدت إيطاليا الجنوبية الهنستية الثغرة التي قامت بين ثقافة هذه العصور وثقافة اليونان: وكانت سلرنو مصحة منذ أكثر من ألف عام، وقد وصفت الرواية المحلية المأثورة كلية أبقراط التي كانت بها؛ فقالت إنها تتألف من عشرة معلمين أطباء منهم واحد يوناني وآخر مسلم، وثالث يهودي(13). وجاء قسطنطين "الأفريقي" وهو مواطن يوناني درس الطب في مدارس المسلمين بأفريقية وبغداد-إلى مونتي كسينو Monte Gassino (التي أصبح فيها راهباً)، وإلى سلرنو القريبة منها، جاء إليهما ببضاعة عجيبة مثيرة من المعارف الطبية الإسلامية. وأسهمت تراجمه للكتب اليونانية والعربية في الطب وغيره من الميادين في إحياء العلم بإيطاليا، حتى كانت مدرسة سلرنو حين وفاته حاملة لواء العلوم الطبية في بلاد الغرب المسيحية.
وكان أهم ما أثمرته الفنون في هذا العصر هو ابتداع الطراز الرومانسي Romanesque في العمارة (774-1200). ذلك أن البنائين الإيطاليين وارثي التقاليد الرومانية في الصلابة والبقاء زادوا سمك جدران الباسلقا، وأنشأوا في الكنائس جناحاً متقاطعاً مع الصحن، وأضافوا دعامات من أبراج أو عمد متلاصقة، وأقاموا للعقود التي يرتكز عليها السقف على عمد أو أو أكتاف متجمعة. وكان العقد الروماني الخالص يتكون من نصف دائرة بسيطة، وهو شكل دذو مهابة عظيمة، يصلح لجسر فوق فرجة أكثر مما يصلح لتحمل ثقل. وكان الدهليز في الطراز الرومانسي الأول-والصحن والدهليز في الطراز الرومانسي المتأخر-تعلوه عقود أن يتكون سقفه من بناء ذي أقواس. وكان البناء في الخارج خالياً في العادة من الزخرف ومبنياً من الآجر المكشوف. وكان داخل البناء يتحاشى الزخرف الكثير الذي يمز الطراز البيزنطي وإن كان يزدان بقصد غير كبير من الفسيفساء، والمظلمات، والنقوش المنحوتة. وفيما عدا هذا كان الطراز الرومانسي رومانيا، همه الثبات والمتانة لا الارتفاع القوطي والرشاقة القوطية؛ يهدف إلى إخضاع الروح للتواضع المهدئ لها لا لرفعها إلى نشوة عليا تعصف بها.
وأخرجت إيطاليا في هذه الفترة آيتين من روائع الفن الرومانسي: إحداهما كنيسة أمبروجيو Ambrogio المتواضعة في ميلان، والثانية الكتدرائية الضخمة في بيزا. وقد أعاد الرهبان البندكتيون في عام 789 البناء الذي منع أمبروز أحد الأباطرة من دخول بابه، ثم تهدم بعد ذلك مرة أخرى. ثم غير جيدو Guido كبير الأساقفة طرازه بعد عامي 1046 و1071 تغييراً شاملاً فبدله من باسلقا ذات عمد إلى كنيسة ذات عقود. وكان سقف دهليزها وصحنها قبل أيامه من الخشب، فأقام لهما هو سقفاً معقوداً من الآجر والحجارة يرتكز على عقود مستديرة خارجة من أكتاف متراكبة. وكانت زوايا التقاطع الناشئة في السقف المعقود من تقاطع العقود المبنية تقويها "أضلاع" من الآجر، وذلك أول مثل من السقف المعقود "المضلع" في أوربا كلها. ويخيل إلى الرائي إن واجهة كنيسة أمبروجيو تختلف كل الاختلاف عن واجهة كتدرائية بيزا الكثيرة التعقيد، ولكن عناصر الطراز فيهما واحدة. وقد أقيمت هذه الكنيسة الكبرى بعد المعركة الحاسمة التي انتصر فيها أسطول بيزا على أسطول العرب بالقرب من بالرم (1063)؛ إذ طلبت المدينة إلى المهندسين بوشتو Buschetto (اليوناني؟) ورنالدو Rinaldo أن يخلدا ذكر المعركة، ويقربا بعض أسلاب النصر إلى العذراء، بأن يقيما معبداً تحسدها عليه إيطاليا على بكرة أبيها. وقد شيد البناء كله تقريباً من الرخام. وأقيمت فوق المداخل الغريبة أربع أكتاف لبواكي مفتوحة تقوم في عرض الواجهة متكررة تكراراً يتجاوز الحد؛ وجعل لهذه المداخل فيما بعد (1606) أبواب فخمة من البرونز. وكان في الداخل طائفة كبيرة من العمد الرشيقة-وهي غنائم مختلفة الأصول-تقسم الكنيسة إلى صحن ودهليزين؛ وتقوم فوق ملتقى جناح الكنيسة وصحنها قبة إهليلجية غير جميل الشكل. وكانت هذه أولى الكتدرائيات الكبرى في إيطاليا، ولا تزال حتى اليوم من أروع الصروح التي أقامها الإنسان في العصور الوسطى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثاني: أسبانيا المسيحية 711-1095
ليس تاريخ أسبانيا المسيحية في هذه الفترة إلا حرباً صليبية طويلة الأمد منشأها تصميمها المتزايد على إخراج المسلمين منها. وكان هؤلاء المسلمون قوماً أغنياء أقوياء، يمتلكون معظم الأراضي الخصبة، وتسيطر عليهم خير الحكومات؛ أما المسيحيون فكانوا فقراء ضعفاء، وتربة بلادهم ضنينة، وتفصلهم سلاسل الجبال عن سائر بلاد أوربا، وتقسمهم إلى ممالك صغيرة، وتشجع النعرة القومية الإقليمية، والتطاحن بين الأخوة، حتى لقد أريق من دماء المسيحيين على أيدي أهلها المسيحيين ذوي العواطف الثائرة أكثر مما أريق منها على أيدي المسلمين.
وكانت غارات المسلمين عليها في عام 711 قد دفعت من لم يغلبوا من القوط، والسويفي Suevi، والبرابرة الذين اعتنقوا الدين المسيحي، والكلت من سكان شبه الجزيرة، دفعت هؤلاء إلى جبال الكنتبريان في الشمال الغربي من أسبانيا وطاردهم المسلمون في هذه الجبال ولكن قوة صغيرة بقيادة جوت بلايو Got Pelayo هزمتهم عند كفادنجا Covadonga (718)، ومن ثم نادى ذلك القائد بنفسه ملكاً على أسترورياس، وأسس الملكية الأسبانية، واستطاع ألفنسو الأول (739-757) على أثر هزيمة المسلمين في تور أن يمد الحدود الأستورية إلى جليقية Galicia ولوزيتانيا وبسكايا Biscaya. وضم حفيده ألفنسو الثاني (791-842) ولاية ليون، واتخذ أويدو حاضرة لمملكته.
وفي عهد هذا الملك وقعت حادثة كانت من أهم الحوادث في تاريخ أسبانيا. ذلك أن أحد الرعاة سار بهداية نجم من النجوم- كما تقول الرواية- حتى وجد في الجبال تابوتاً من الرخام يعتقد الكثيرون أنه يحتوي على بقايا "الرسول يوحنا" أخي المسيح. وأقيم ضريح في المكان الذي وجد فيه التابوت، ثم شيدت في مكان هذا الضريح كتدرائية فخمة فيما بعد، وأضحى سنتياجو ده كمبستيلا Sontoagio de Compostela-"يوحنا قديس ميدان النجم" كعبة يحج إليها المسيحيون لا يفوقها في قداستها إلا بيت المقدس وروما؛ وكان لهذه العظام أكبر الأثر في إثارة للروح المعنوية عند الأسبان، وجمع الأموال اللازمة لقتال المسلمين. وصار القديس يوحنا شفيع أسبانيا وحاميها. وذاع اسم سنتياجو في قارات ثلاث. وهكذا تصنع العقائد التاريخ وخاصة حين تكون هذه العقائد خاطئة، والأخطاء هي التي يموت من أجلها الناس أشرف ميتة.
وإلى شرق استوريا، وفي جنوب جبال البرانس مباشرة تقع نافاري Navarre وكان معظم أهلها من سلاسلة البشكنس، وهم في أغلب الظن خليط من كلت أسبانيا وبربر أفريقية. وقد أفاد هؤلاء من منعة جبالهم فنجحوا في حماية استقلالهم من المسلمين، والفرنجة، والأسبان، حتى أسس سانكو نافاري الأول جراسيا Sancaho Garacia مملكة نافاري واتخذ بمبلونا عاصمة لها. وكسب سانكو لنفسه لقب "العظيم" (994-1035) باستيلائه على ليون، وقشتالة، وأرغونة؛ وأتى على أسباني المسيحية حين من الدهر أوشكت فيه أن تتحد، ولكن سانكو أفسد قبيل وفاته ما عمله طول حياته بأن قسم مملكته بين أولاده الأربعة. ومن تاريخ هذا التقسيم تبدأ حياة مملكة أرغونة؛ واستطاعت هذه المملكة أن تدفع المسلمين في الجنوب، وأن تضم إليها بالسلم نبرة في الشمال (1076)، فلم يحل عام 1095 حتى شملت رقعتها جزءاً كبيراً من وسط أسبانيا الشمالي. وفتح شارلمان في عام 788 مقاطعة قطلونيا-في شمال أسبانيا الشرق حول برشلونة؛ وظل يحكمها أدواق فرنسيون جعلوا هذا الإقليم "حدوداً أسبانية"، وكانت لغته القطلانية مزيجاً لطيفاً من فرنسية وبروفنسال ولغة قشتالة. وبدأت ليون الواقعة في الشمال الغربي تاريخها "بسانشو السمين Sancho the Fat" الذي بلغ من البدانة درجة لم يكن يستطيع معها السير إلا متكئاً على تابع له. ولما خلعه الأشراف لجأ إلى قرطبة حيث شفاه حسداي بن شبروط الطبيب اليهودي الشهير من شحمه، ثم عاد سانكو إلى ليون يميس كما يميس دن كيشوت، واسترد عرشه (959)(14). وسميت قشتالة بهذا الاسم نسبة إلى قلعتها (كاستل Castle). وكانت تواجه الأندلس الإسلامية وتقضي حياتها تتأهب للحرب. وفي عام 930 رفض فرسانها أن يظلوا طائعين لملوك أستورياس أوليون وأقاموا دولة مستقلة اتخذوا برغوس Burgos عاصمة لها. وضم فرنندو الأول (1035-1065) ليون وجليقة إلى قشتالة، وأرغم أميري طليطلة وأشبيلية على أن يعطوه جزية سنوية، ثم فعل ما فعله سانكو العظيم فأفسد جهوده بتقسيم مملكته بين أبنائه الثلاثة؛ وقد واصل هؤلاء بكل ما وهبوا من حماسة ما طبع عليه ملوك أسبانيا المسيحيون من تطاحن وحروب يقتل فيها الاخوة بعضهم بعضاً.
وأبقى الفقر الزراعي والتمزق السياسي أسبانيا المسيحية متأخرة أشد التأخر عن منافسيها المسلمين في الجنوب ومنافسيها الفرنجة في الشمال في نِعم الحضارة وفنونها. ولم تكن الوحدة في داخل كل مملكة من ممالكها الصغيرة إلا سحابة صيف لا تكاد تبدو حتى تنقشع؛ فكان النبلاء يتجاهلون الملوك إلا في أوقات الحرب، ويحكمون من عندهم من رقيق الأرض والعبيد حكم سادة الإقطاع؛ وكان رجال الكنيسة يؤلفون طبقة ثانية من الأشراف، فكان الأساقفة هم أيضاً يمتلكون رقيق الأرض والعبيد، ويتولون قيادة جندهم في الحرب، ويتجاهلون البابوات في العادة، ويحكمون المسيحيين الأسبان حكماً يكاد يجعل منهم كنيسة مستقلة. واجتمع نبلاء ليون وأساقفتها عام 1020 في مجالس قومية وأخذوا يشرعون لمملكة ليون كما تشرع مجالس النواب. وأصدر مجلس ليون مرسوماً يمنح تلك المدينة الحكم الذاتي، فجعلها بذلك أول مدينة تحكم نفسها في أوربا في أثناء العصور الوسطى وصدرت مراسيم مماثلة لهذا المرسوم تمنح غيرها من المدن الأسبانية هذا الحكم الذاتي نفسه، وأكبر الظن أن الغرض من إصدارها هو إثارة حماستها وكسب أموالها في الحروب القائمة مع المسلمين، وبذلك قامت دمقراطية حضرية محدودة في وسط النظام الإقطاعي الأسباني، وتحت سلطان الملكية الأسبانية.
ويشهد تاريخ ردريجو (راي) دياز Diaz (Ruy) Roderigo بما كانت عليه أسبانيا المسيحية في القرن الحادي عشر من بسالة، وفروسية، وفوضى. وردريجو لهذا يعرف عندنا باللقب الذي حباه به المسلمون وهو السيد أي الرجل النبيل أو الشريف أكثر مما يعرف بلقبه المسيحي وهو الكمبيدور El Campaedor أي المهاجم أو البطل. وكان في مولده في بيفار Bivar بالقرب من برغوس Burgos حوالي عام 1040، ونشأ نشأة المغامرين المحاربين، يقاتل أينما وجد سبباً للقتال يدر المال. ولم يكد يبلغ سن الثلاثين حتى صار موضع إعجاب أهل قشتالة لمهارته وجرأته في القتال، وموضع ريبتهم لاستعداده أن يحارب المسلمين في صف المسيحيين أو يحارب المسيحيين في صف المسلمين؛ ويبدو أن هذا وذاك كانا عنده سواء. وأرسله ألفنسو السادس ملك قشتالة ليأتي بالجزية المستحقة له من المعتمد ابن عباد الشاعر أمير أشبيلية؛ ولكنه اتهم عند عودته بأنه احتفظ ببعض هذه الجزية لنفسه. فنفي من قشتالة (1081) وانضم إلى قطّاع الطرق، ونظم جيشاً صغيراً من الجنود المغامرين، وباع خدماته إلى من يشتريها من الحكام المسيحيين والمسلمين فقد ظل ثماني سنين في خدمة أمير سرقسطة ووسَّع رقعة أملاك المسلمين على حساب أرغونة. وفي عام 1089 قاد سبعة آلاف من الرجال معظمهم من المسلمين، واستولى على بلنسية وأرغمها على أداء جزية شهرية، مقدارها عشرة آلاف دينار ذهبي. وفي عام 1090 قبض على كونت برشلونة، ولم يطلقه إلا بعد أن افتدى بثمانين ألف دينار. ولما وجد بعد رجوعه من تلك الحملة بلنسية قد أغلقت أبوابها دونه حاصرها عاماً كاملاً؛ فلما استسلمت له (1094)، نكث بكل الشروط التي ألقت بمقتضاها سلاحها، وحرق قاضي قضاتها حياً، ووزع أملاك سكانها على أتباعه، وكاد يحرق زوجة قاضي القضاة وبناته لولا احتجاج أهل المدينة وجنوده على هذا العمل(15). وكان السيد حين يقدم على هذه الأعمال وأمثالها إنما يسلك السبيل التي يسلكها أبناء زمانه، ولكنه كفر عن سيئاته بأن حكم بلنسية حكماً حازماً عادلاً، وجعلها حصناً منيعاً في وجه جيوش المرابطين المسلمين وحكمت زوجته يمينة Jimena (1099) المدينة بعد موته ثلاث سنين. وقد أحاله أعقابه المعجبون به، بما حاكوه حوله من أقاصيص، فارساً لا تحركه إلا رغبة مقدسة في إعادة أسبانيا إلى المسيح، ويعظم الناس رفاقه في برغوس تعظيمهم للقديسين(16). ولم تستطع أسبانيا المسيحية، وهي على هذه الحال من الانقسام، أن تسترد البلاد من المسلمين إلا لأن أسبانيا الإسلامية قد فاقتها آخر الأمر في التمزق والفوضى. وكان سقوط خلافة قرطبة عام 1036 فرصة ثمينة اغتنمها ألفنسو السادس ملك قشتالة (الأذفنش)، فاستولى على طليطلة بمعونة المعتمد ملك أشبيلية (1085) واتخذها عاصمة لملكه وعامل المسلمين المغلوبين بما جبل عليه المسلمون من كرم، وشجع انتشار الثقافة الإسلامية في أسبانيا المسيحية.
الفصل الثالث: فرنسا 614 - 1060
مجيء الكارولنجيين 614 - 768
لما جلس كلوتير Clotaire الثاني على عرش الفرنجة لاح أن مركز الأسرة المروفنجية وطيد؛ ذلك أنه لم يحكم ملك قبله من ملوك هذه الأسرة دولة تضارع دولته في الاتساع والوحدة؛ ولكن كلوتير كان مديناً بقوته إلى أشراف استراسيا وبرغندية؛ وقد كافأهم على تأييدهم له بأن زاد من استقلالهم ووسع أملاكهم وبأن اختار واحداً منهم هو بيبين Pepin الأول الأكبر ليكون "ناظراً للقصر". وكان ناظر القصر في بادئ الأمر هو المشرف على القصر الملكي وناظراً على المزارع الملكية؛ وزادت مهام مناصبه حين عكف الملوك المروفنجيون على الدعارة والدسائس، وأخذ يشرف شيئاً فشيئاً على شئون المحاكم، والجيش، والمال، وحَدَّ الملك داجوبرت Dagobet (628-639) ابن كلوتير من سلطان ناظر القصر والأشراف وقتاً ما "فوزع العدالة بين الأغنياء والفقراء على السواء" كما يقول فرديجار Fredegart الإخباري، "وكان قليل النوم والطعام، ولم يكن همه إلا أن يخرج الناس من مجلسه ممتلئة قلوبهم غبطة وإعجاباً(17)". غير أن فرديجار يضيف إلى ذلك قوله: "وكانت له ثلاث ملكات وعدد كبير من الحظايا" كما كان عبداً لشهواته(18)". وعادت السلطة في عهد خلفائه- الملوك الذين لا يفعلون شيئاً-إلى ناظر القصر. وهزم بيبين الثاني الأصغر منافسيه في واقعة تستري Testry (687)، واستبدل بلقب "ناظر القصر" لقب دوق الفرنجة وكبيرهم، وحكم غالة جميعها ما عدا أكتين Aquitaone. وحكم شارل مارتل Chales Martel (المطرقة)، الذي كان بالاسم ناظراً للقصر ودوق استراسيا، غالة كلها تحت سلطان كلوتير الرابع (717-719). وهو الذي صد بعزيمته غارات الغاليين مستعيناً بالفريزيين والسكسون، وهو الذي صد المسلمين عند تور وردهم عن أوربا. وأعان بنيفاس Boniface وغيره من المبشرين على تنصير ألمانيا، ولكنه حين اشتدت حاجته إلى المال صادر أراضي الكنيسة. وباع مناصب الأساقفة لقواد الجيش، وأسكن جيوشه في الأديرة، وقطع عنق راهب بروتستنتي(19). وحُكِمَ عليها في مائة منشور وخطبة منبرية بأن مأواه الجحيم.
وأرسل ابنه بيبين الثالث ناظر قصر كلدريك الثالث بعثة إلى البابا زخرياس يسأله هل يأثم إذا خلع الإمعة المروفنجي وأصبح هو ملكاً بالاسم كما هو ملك بالفعل. وكان زخرياس وقتئذ في حاجة إلى تأييد الفرنجة ضد مطامع اللمبارد فبعث إليه بجواب مطمئن يقول فيه إنه لا يأثم. فلما تلقى بيبين الرد عقد جمعية من الأشراف والمطارنة في سواسون Soissons اختير فيها بإجماع الآراء ملكاً على الفرنجة (751)، ثم قص شعر آخر الملوك المروفنجيين البلداء وأرسله إلى دير. وجاء البابا استيفن الثاني في عام 754 إلى دير القديس دنيس St, Denis في أرباض باريس، ومسح بيبين "ملكاً بنعمة الله". وهكذا انتهت الأسرة المروفنجية (486-751) وبدأت الأسرة الكارولنجية (751-987).
وكان بيبين الثالث "القيصر" حاكماً صبوراً يعيد النظر، نقياً عملياً، محباً للسلم، لا يغلب في الحرب، متمسكاً بالأخلاق الفاضلة إلى حد لم يسبقه إليه ملك آخر في غالة في تلك القرون. وكان بيبين هو الذي مهد لشارلمان سبيل كل ما أتاه من جليل الأعمال؛ وفي خلال حكمها الذي دام ثلاثاً وستين سنة (571-814) تحولت بلدهما نهائياً من غالة إلى فرنسا. وأدرك بيبن ما في الحكم بغير معونة الدين من صعاب، فأعاد إلى الكنيسة أملاكها، وامتيازاتها وحصانتها، وجاء إلى فرنسا بالمخلفات المقدسة، وحملها على كتفيه في موكب فخم؛ وأنقذ البابوية من الملوك اللمبارد، ومنحها سلطات زمنية واسعة في عهده المعروف باسم "عطية بيبين" (756)، وقنع بأن ينال في نظير هذا لقب "النبيل الروماني" وتحذيراً من البابا للفرنجة بألا يختاروا ملكاً إلا من سلالته. وتوفي بيبين في عنفوان قوته عام 768 بعد أن أوصى بملكه الفرنجة لولديه كارلومان Carloman الثاني وشارل الذي أصبح فيما بعد شارلمان على أن يحكماها معاً.
شارلمان 768-814
ولد أعظم ملوك العصور الوسطى عام 742 في مكان غير معروف. وكان يجري في عروقه الدم الألماني وينطق باللسان الألماني، ويشترك مع قومه في بعض الصفات-قوة الجسم، والبسالة ورباطة الجأش، والافتخار بالأصل، والبساطة الخشنة التي تفصلها مئات السنين عن رقة الفرنسيين الحضرية المصقولة. وكان قليل العلم بالكتب وما فيها، لم يقرأ منها إلا عدداً قليلاً، لكن ما قرأه منها كان من خيارها، وحاول في شيخوخته أن يتعلم الكتابة باللغة التيوتونية القديمة واللاتينية الأدبية، وكان يفهم اللغة اليونانية(20). ولما مات كارلون الثاني في عام 771 انفرد شارل بالحكم وهو في التاسعة والعشرين من عمره. وبعد سنتين من انفراده به بعث إليه البابا هدريان الثاني بدعوة عاجلة ليساعده على دسديريوس Desiderius اللمباردي الذي كان وقتئذ يغزو الولايات البابوية. ولبى شارلمان الدعوة وحاصر بافيا واستولى عليها، ولبس تاج لمباردي، وأيد عطية بيبي، وارتضى أن يكون حامي الكنيسة، جميع سلطاتها الزمنية. ولما عاد إلى عاصمة في آخن بدأ سلسلة من الحروب عدتها ثلاث وخمسون- قادها كلها تقريباً بنفسه- يهدف بها إلى تأمين دولته بفتح بافاريا وسكسونية وجعلها مسيحيتين، والقضاء على الآفار المشاغبين المتعبين، وحماية إيطاليا من غارات المسلمين، وتقوية حصون فرنسا حتى تستطيع الوقوف في وجه مسلمي أسبانيا الذين يبغون بسط سلطانهم عليها. وكان السكسون المقيمون عند الحدود الشرقية لبلاده وثنيين، أحرقوا كنيسة مسيحية وأغاروا مراراً على غالة، وكانت هذه الأسباب كافية في رأي شارلمان لأن يوجه إليهم ثماني عشرة حملة (772-804)، قاتل فيها الطرفان بمنتهى الوحشية. فلما هزم السكسون خيرهم شارلمان بين التعميد والموت وأمر بضرب رقاب 4500 منهم في يوم واحد(21)، وسار بعد فعلته هذه إلى ثيونفيل ليحتفل بميلاد المسيح.
ولما كان شارلمان في بادربون Paderborn إذ استغاث به ابن العربي حاكم برشلونة المسلم في عام 777 لينصره على خليفة قرطبة. فما كان منه إلا أن سار على رأس جيش عبر به جبال البرانس، وحاصر مدينة بمبلونا المسيحية، وعامل البشكنس مسيحي أسبانيا الشمالية الذين لا يحصى عديدهم معاملة الأعداء، وواصل زحفه حتى وصل إلى سرقسطة نفسها. غير أن الفتن الإسلامية التي وعد ابن العربي بإثارتها على الخليفة والتي كانت جزءاً من الخطة الحربية المدبرة لم يظهر لها أثر، ورأى شارلمان أن جيوشه بمفردها لا تستطيع مقاومة جيوش قرطبة، وترامى إليه أن السكسون ثائرون عليه وأنهم يزحفون وهم غضاب على كولوني Cologce، فرأى من حسن السياسة أن يعود بجيشه إلى بلاده، واخترق بهم في وصف طويل رفيع ممرات جبال البرانس. وبينما كان يعبر أحد هذه الممرات عند رُنسفال Roncesvalles من أعمال نافاري إذا انقضت على مؤخرة الفرنجة قوة من البشكنس، ولم تكد تبقى على أحد منها (778)، وهناك مات هرودلاند Hruodland النبيل الذي أصبح بعد ثلاثة قرون بطل القصيدة الفرنسية الذائعة الصيت أغنية رولان Chancno de Roland. وسير شارلمان في عام 795 جيشاً آخر عبر جبال البرانس، واستولى به على شريط ضيق في شمالي أسبانيا الشرقي وضمه إلى فرنسيا Francia. واستسلمت له برشلونة، وأقرت أستراسيا ونبرة بستادة الفرنجة عليهما (806). وكان شارلمان في هذه الأثناء قد أخضع السكسون لسلطانه (785)، وصد الصقالبة الزاحفين على بلاده (789)، وهزم الآفار وشتت شملهم (790-805)، ثم أخلد في السنة الرابعة الثلاثين من حكمه والثالثة والستين من عمره إلى السلام. والحق أنه كان على الدوام يحب شئون الإدارة والحكم أكثر مما يحب الحرب، ولم ينزل إلى ميدان القتال إلا ليفرض على أوربا الغربية، التي مزقتها منذ قرون طوال منازعات القبائل والعقائد، شيئاً من وحدة الحكم والعقيدة.
وكان في أثناء هذا الحكم قد أخضع لسلطانه جميع الشعوب الضاربة بين نهر الفستيولا Vistula والمحيط الأطلنطي، وبين البحر البلطي وجبال البرانس، وإيطاليا كلها تقريباً، والجزء الأكبر من بلاد البلقان. ترى كيف استطاع رجل واحد أن يحكم هذه المملكة المتباينة المترامية الأطراف؟ الجواب أنه قد وهب من قوة الجسم والأعصاب ما يستطيع به أن يأخذ على عاتقه مئات التبعات، والأخطار، والأزمات، وأن يتحمل ما هو أصعب على النفس من هذا كله وهو ائتمار أبنائه به ليقتلوه. وكان في دمائه دم أو تعاليم بيبين الثالث الحذر الحكيم، وشارل مارتل الذي لا يرحم ولايلين، وكان هو نفسه إلى حد ما مطرقة مثل مارتل. وقد وسع أملاكهما وحافظ عليها بما وضعه لها من نظام عسكري قوي الدعائم، وسندها بما أفاء عليها من ظل الدين وشعائره. وكان في وسعه أن يضع لنفسه الأهداف الكبار، وأن يهيئ الرسائل ويبتغي الغايات. وكان في مقدوره أن يقود الجيوش، ويقنع الجمعيات، ويشرح صدور الأعيان، ويسيطر على رجال الدين، ويكبح جماح الحريم.
وقد جعل الخدمة العسكرية شرطاً لامتلاك أكثر من الكفاف من الأملاك، وبهذا أقام الروح العسكرية المعنوية على أساس الدفاع عن الأرض وتوسيع رقعتها، وأوجب على كل حر إذا دُعي لحمل السلاح أن يمثل كامل العدة أمام الكونت المحلي، وكان كل عامل نبيل مسئولاً أمامه عن كفاية وحداته. وكان بناء الدولة يقوم على هذه القوة المنظمة يؤيدها كل عامل نفساني تخلعه عليها قداسة صاحب الجلالة الذي باركه رجال الدين، وفخامة الاحتفالات الإمبراطورية، والطاعة التقليدية للحكم القائم الموطد الدعائم. وكانت تجتمع حول الملك حاشية من النبلاء الإداريين ورجال الدين-رئيس خدم البيت، وقاضي القضاة وقضاة حاشية القصر، ومائة من العلماء، والخدم، والكتبة. وكان مما قوى إحساس الشعب باشتراكه في الحكم ما كان يعقده كل نصف عام من اجتماعات يحضرها الملاك المسلحون، يجتمعون كلما تطلبت اجتماعهم الشئون الحربية أو غيرها في مدن ورمز، وفلنسين، وآخن، وجنيف وباربون... وكانت هذه الاجتماعات تعقد عادة في الهواء الطلق. وكان الملك يعرض على جماعات قليلة من الأعيان أو الأساقفة ما عنده من الاقتراحات التشريعية، فكانت تبحثها وتعيدها إليه مشفوعة باقتراحاتها ثم يضع هو القوانين ويعرضها على المجتمعين ليوافقوا عليها بصياحهم؛ وكان يحدث في بعض الأحوال النادرة أن ترفضها الجمعية بالأنين أو القباع الجماعي. وقد نقل إلينا هنكمار Hincmar كبير أساقفة ريمس صورة دقيقة لشارلمان في هذه الاجتماعات، فقال إنه كان "يسلم على أكابر الحاضرين، ويتحدث إلى من لم يكن يراهم إلا قليلاً، ويظهر اهتماماً ظريفاً بالكبار، ويلهو مع الصغار". وكان يطلب إلى أسقف كل إقليم ورئيسه الإداري أن يبلغ الملك في هذه الاجتماعات عن كل حادثة هامة وقعت في إقليمه منذ الاجتماع السابق، ويضيف هنكمار إلى أقواله السابقة أن "الملك كان يرغب في أن يعرف هل الأهلون في أي ركن من أركان مملكته قلقون مستاءون، وما سبب قلقهم واستيائهم"(22). وكان عمال الملك يواصلون نظام الاستعلامات الرومانية القديمة فيستدعون إليهم كبار المواطنين ويطلبون إليهم أن "يعطوا بيانات صحيحة"، معززة بالإيمان عما في الإقليم الذي يزورونه من أملاك ترفض عليها الضرائب، وعن حالة النظام في هذا الإقليم وعما يقع فيه من الجرائم أو من فيه من المجرمين. وكانت شهادة جماعة الباحثين الذين يقسمون الإيمان تستخدم في أرض الفرنجة في القرن العاشر للفصل في كثير من المشاكل المحلية الخاصة بالأملاك العقارية أو الجرائم. وقد نشأ من هذه الجماعات، بعد تطورها على يد النورمان والإنجليز، نظام المحلفين القائم في هذه الأيام.
وكانت الدولة مقسمة إلى مقاطعات يحكم كل مقاطعة في الشئون الروحية أسقف أو كبير أساقفة، وفي الشئون الدنيوية قومس Comes (رفيق للملك أو كونت. وكانت جمعية محلية من الملاك تجتمع مرتين أو ثلاث مرات كل سنة في عاصمة كل مقاطعة لتبدي رأيها في حكومة الإقليم وتكون بمثابة محكمة استئناف فيه. وكان للمقاطعات الواقعة على الحدود المعرضة للخطر حكام من طراز خاص يسمونهم جراف graf أو مارجريف Margravc، أو مرخرزوج Markherzog، فكان رولان المرسستفالي Roland of Maecesvallcs مثلاً حاكم مقاطعة برتن Breton وكانت كل الإدارات المحلية خاضعة لسلطان "مبعوثي السيد" missi dominici- الذين يرسلهم شارلمان يحملون رغباته للموظفين المحليين، ويطلعون على أعمالهم، وأحكامهم، وحساباتهم، ويمنعون الربا، والاغتصاب، والمحاباة، واستغلال النفوذ، ويتلقون الشكاوي، ويردون المظالم، ويحمون "الكنيسة، والفقراء، والذين تحت الوصاية، والشعب أجمع" من سوء استعمال السلطة أو الاستبداد، وأن يعرفوا الملك بأحوال مملكته. وكان العهد الذي عين بمقتضاه هؤلاء المبعوثون بمثابة عهد أعظم للشعب وضع قبل أن يوضع العهد الأعظم Magna Garta لحماية أشراف إنجلترا بأربعة قرون. ومما يدل على أن هذا العهد كان يقصد به ما جاء فيه ما حدث لدوق إستريا Istria، إذ اتهمه المبعوثون بارتكاب عدة مظالم، واغتصاب الأموال، فأرغمه الملك على أن يرد ما اختلسه، وأن يعوض كل مظلوم عما وقع عليه من ظلم، ويعترف علناً بجرائمه، ويقدم الضمانات التي تمنعه من تكرارها. وإذا ما غضضنا النظر عن حروب شارلمان كان هو أعدل الحكام الذين عرفتهم أوربا منذ عهد ثيودريك القوطي وأكثرهم استنارة.
وتعد القوانين الست والخمسون الباقية من تشريعات شارلمان من أكثر المجموعات القانونية طرافة في العصور الوسطى. فهي لا تكون مجموعة منتظمة، بل هي توسيع القوانين "الهمجية" الأقدم منها عهداً وتطبيقاً على الظروف والمطالب الجديدة. ولقد كانت في بعض تفاصيلها أقل استنارة من قوانين ليوتبراند اللمباردي: فقد أبقت على عادات الكفارة عن الجرائم الكبرى، والتحكم الإلهي، والمحاكمة بالاقتتال، والعقاب ببتر الأعضاء(24)، وحكمت بالإعدام على من يرتد إلى الوثنية، أو من يأكل اللحم في أيام الصوم الكبير-وإن كان يسمح لرجال الدين أن يخففوا هذه العقوبة الأخيرة(25). ولم تكن هذه كلها قوانين، بل منها ما كان فتاوي، ومنها ما كان أسئلة موجهة من شارلمان إلى موظفيه، ومنها ما هو نصائح أخلاقية. وقد جاء في إحدى المواد: "يجب على كل إنسان أن يعمل بكل ما لديه من قوة وكفاية لخدمة الله وإتباع أوامره، لأن الإمبراطور لا يستطيع أن يراقب كل إنسان في أخلاقه الخاصة"(26). وحاولت بعض المواد أن تقيم العلاقات الجنسية والزوجية بين أفراد الشعب على قواعد أكثر نظاماً مما كانت قبل، على أن الناس لم يطيعوا هذه النصائح كلها؛ ولكن القوانين والنصائح في مجموعها تنم عن جهود صادقة لتحويل الهمجية إلى حضارة. وشرع شارلمان للزراعة، والصناعة، والشئون المالية، والتعليم، والدين، كما شرع لشئون الحكم والأخلاق. وكان حكمه في فترة انحطت فيها الحالة الاقتصادية في جنوبي فرنسا وإيطاليا إلى الحضيض من جراء سيطرة المسلمين على البحر المتوسط. وفي هذا يقول ابن خلدون إن المسيحيين لم يكن في وسعهم أن يسيروا لوحاً فوق البحر(27)، وكانت العلاقات التجارية بأجمعها بين غربي أوربا وأفريقية وشرقي البحر المتوسط غاية في الاضطراب. وكان اليهود وحدهم هم الذين يربطون النصفين المتعاديين من البلاد التي كانت أيام حكم روما عالماً اقتصادياً موحداً. وبقيت التجارة قائمة في أوربا الخاضعة لحكم الصقالبة وبيزنطية، وفي شمالها التيوتوني. وكذلك كانت القناة الإنجليزية وكان بحر الشمال يموجان بالمتاجر، ولكن هذه التجارة الأخيرة أيضاً اضطربت أحوالها قبل موت شارلمان، وقد أوقعتها في هذا الاضطراب غارات أهل الشمال وقرصنتهم. وكاد أهل الشمال يغلقون ثغور فرنسا الشمالية، والمسلمون يغلقون ثغورها الجنوبية، حتى أضحت لهذا السبب جزيرة منفصلة عن العالم، وبلداً زراعياً، واضمحلت فيها طبقة التجار الوسطى، فلم تبق هناك طبقة تنافس كبار الملاك في الريف؛ وكان مما ساعد على قيام نظام الإقطاع في فرنسا هبات شارلمان للأراضي وانتصار الإسلام. وبذل شارلمان جهوداً جبارة لحماية الفلاحين الأحرار من نظام رقيق الأرض الآخذ في الانتشار. ولكن قوة الأشراف والظروف القاهرة المحيطة به أحبطت جهوده. وحتى الاسترقاق نفسه اتسع نطاقه وقتاً ما نتيجة لحروب الكارولنجيين ضد القبائل الوثنية. وكانت أهم موارد الملك مزارعه الخاصة التي كانت مساحتها تتسع من حين إلى حين نتيجة المصادرة، والهبات، وعودة بعض الأراضي إلى الملك ممن يموتون بغير ورثة، واستصلاح الأراضي البور. وقد أصدر للعناية بهذه الأراضي قانوناً زراعياً مفصلاً أعظم تفصيل يشهد بعنايته التامة في بحث جميع موارد الدولة ومصروفاتها. وكانت الغابات والأراضي البور، والطرق العامة، والمواني وجميع ما في الأرض من معادن ملكاً للدولة(28). وشجع ما بقي في البلاد من تجارة بكافة السبل ؛ فبسطت الدولة حمايتها على الأسواق، ووُضع نظام دقيق للموازين والمقاييس والأثمان، وجففت المكوس، ومُنعت المضاربات على المحاصيل قبل حصادها، وأنشئت الطرق والجسور أو أصلحت، وأنشئ جسر عظيم على نهر الرين عند مينز، وطهرت المسالك المائية لتبقى مفتوحة على الدوام، واختطت قناة تصل الرين بالدانوب حتى يتصل بحر الشمال بالبحر الأسود. وحافظت الدولة على ثبات النقد، ولكن قلة الذهب في فرنسا واضمحلال التجارة أدّيا إلى استبدال الجنيه الفضي بجنيه شارلمان المعروف باسم السوليدس Solidus.
وامتدت جهود الملك وعنايته إلى كل ناحية من نواحي الحياة، فأسمى الرياح الأربع بأسمائها التي تعرف بها الآن؛ ووضع نظاماً إعانة الفقراء، وفرض على النبلاء ورجال الدين ما يلزمه من المال لهذا المشروع، ثم حرم التسول وجعله جريمة يعاقب عليها القانون(29). وهاله انتشار الأمية في أيامه حتى لا يكاد أحد يعرف القراءة والكتابة غير رجال الدين، كما هاله انعدام التعليم بين الطبقات الدنيا من هذه الطائفة، فاستدعى علماء من الأجانب لإعادة مدارس فرنسا إلى سابق عهدها؛ فأغرى بولس الشماس على أن يأتي إليه من منتي كسينو، وألكوين من يورك (782)، ليعلما في المدرسة التي أنشأها شارلمان في القصر الملكي بآخن. وكان ألكوين هذا (735-804) رجلاً سكسونياً، ولد بالقرب من مدينة يورك، وتعلم في مدرسة الكتدرائية وهي المدرسة التي أنشأها الأسقف إجبرت في تلك المدينة، وقد كانت بريطانيا وأيرلندة في القرن الثامن متقدمتين من الناحية الثقافية عن فرنسا. ولما بعث أفا Offa ملك مرسية Mercia ألكوين في بعثة إلى شارلمان ألح شارلمان على ألكوين أن يبقى عنده، وسر ألكوين أن يخرج من إنجلترا حين كان "الدنمرقيون يتلفون أرضها، ويدنسون الأديرة بما يرتكبونه فيها من الزنى"(30)، فآثر البقاء، وبعث إلى إنجلترا وغيرها من البلاد في طلب الكتب والمعلمين، وسرعان ما أضحت مدرسة القصر مركزاً نشيطاً من مراكز الدرس، ومراجعة المخطوطات ونسخها، كما أضحت مركزاً لإصلاح نظم التربية إصلاحاً عم جميع المملكة. وكان من بين طلابها شارلمان نفسه، وزوجته ليوتجارد Liutgard، وأولاده وابنته جزيلا Gisela، وأمين سره اجنهارد Eginhard، وإحدى الراهبات، وكثيرون غيرهم، وكان أكثرهم شغفاً بالتعليم؛ فكان يحرص على العلم حرصه على تملك البلاد، يدرس البلاغة وعلوم الكلام، والهيئة؛ ويقول إجنهارد إنه بذل جهوداً جبارة ليتعلم الكتابة "وكان من عادته أن يحتفظ بالألواح تحت وسادته، حتى يستطيع في أوقات فراغه أن يمرن يده على رسم الحروف؛ ولكن جهوده هذه لم تلق إلا قليلاً من النجاح لأنه بدأ هذه الجهود في سني حياته"(31). ودرس اللاتينية بنهم شديد، ولكنه ظل يتحدث بالألمانية مع أفراد حاشيته؛ وقد وضع كتاباً فينحو اللغة الألمانية وجمع نماذج من الشعر الألماني القديم.
ولما ألح ألكوين على شارلمان، وبعد أن قضي في مدرسة القصر ثمة سنين، أن ينقله إلى بيئة أكثر منها هدوءاً، عينه الملك على كره منه رئيساً لدير تور (796)؛ وهناك حشد ألكوين الرهبان لينقلوا نسخاً من الترجمة اللاتينية المتداولة للتوراة والإنجيل التي قام جيروم أحد آباء الكنيسة اللاتين، ومن الكتب اللاتينية القديمة، بحيث تكون أكثر دقة من النسخ المتداولة وقتئذ. وحذت الأديرة الأخرى حذو هذا الدير، وبفضل هذه الجهود كانت كثير من أحسن ما وصل إلينا من النصوص القديمة من مخطوطات هذه الأديرة في القرن التاسع الميلادي؛ وقد احتفظ لنا رهبان العصر الكارولنجي بما لدينا من الشعر اللاتيني كله تقريباً عدا شعر كاتلس Gatullus، وتيبلس Tibullus، وبروبرتيوس Poptrtius، وبما لدينا من النثر اللاتيني كله تقريباً ما عدا كتابات فارو Varro، وتاستس Tacitns وأبوليوس Apnleius(32). وكانت كثير من المخطوطات الكارولنجية جميلة الزخرفة يزينها فن الرهبان وصبرهم الطويل،
وكان من آثار هذه الكتب المزخرفة التي أخرجتها مدرسة القصر أناجيل "فينا" التي كانت أباطرة ألمانيا المتأخرون يقسمون عليها أيمان تتويجهم.
وأصدر شارلمان في عام 787 إلى جميع أساقفة فرنسا ورؤساء أديرتها "توجيهات لدراسة الآداب"، يلوم فيها رجال الدين على ما يستخدمونه من "اللغة الفظة" و "الألسنة غير المهذبة" ويحث كل كنيسة ودير على إنشاء مدارس يتعلم فيها رجال الدين على السواء القراءة والكتابة. ثم أصدر توجيهات أخرى في عام 789 يدعو فيها مديري هذه المدارس أن "يحرصوا على ألا يفرقوا بين أبناء رقيق الأرض وأبناء الأحرار، حتى يمكنهم أن يأتوا ويجلسوا على المقاعد نفسها ليدرسوا النحو، والموسيقى، والحساب". وفي عام 805 صدرت تعليمات أخرى تهيئ لهذه المدارس تعليم الطب، وتعليمات غيرها تندد بالخرافات الطبية. ومما يدلنا على أن أوامره لم تذهب أدراج الرياح كثرة ما أنشئ في فرنسا وألمانيا الغربية من مدارس في الكنائس والأديرة؛ فلقد أنشأ ثيودولف Theodulf أسقف أورليان مدارس في كل أبرشية من أسقفيته، رحب فيها بجميع الأطفال على السواء، وحرم على القساوسة الذين يتولون التدريس أن يتناولوا أجوراً(33)، وذلك أول مثل للتعليم العام المجاني في تاريخ كله. ونشأت مدارس هامة، متصلة كلها تقريباً بالأديرة، في خلال القرن التاسع في تور، وأوكسير Auxer، وبافيا، وسانت جول St, Gall، وفلدا Fulda، وغنت Ghent وغيرها من المدن. وأراد شارلمان أن يوفر حاجة هذه المدارس إلى المعلمين، فاستقدم العلماء من أيرلندة، وبريطانيا، وإيطاليا، ومن هذه المدارس نشأت في المستقبل الجامعات الأوربية.
على أننا يجب أن لا نغالي في تقدير القيمة العقلية لذلك العهد. فلقد كان هذا البعث المدرسي أشبه بيقظة الأطفال منه بالنضوج الثقافي الذي كان قائماً وقتئذ في القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، فلم يثمر هذا البعث كتاباً كباراً من أي نوع كان. وكتابات ألكوين الشكلي مملة، مقبضة، خانقة؛ وليس فيها ما ينفي عنه تهمة التحذلق والتباهي بالعلم، وتدل على أنه إنسان لطيف يستطيع أن يوفق بين السعادة والتقي؛ وليس فيها ما يدل على هذا وينفي ذاك إلا بعض وسائله وأبيات من شعره. ولقد أنشأ كثير من الناس أشعاراً في أثناء هذه النهضة العلمية القصيرة الأجل، منها قصائد ثيودولف التي فيها قدر كاف من الجمال على طريقتها الضعيفة الخاصة بها. غير أن الأثر الأدبي الخالد الوحيد الذي خلفه ذلك العهد هو الترجمة المختصرة البسيطة لشارلمان التي كتبها اجنهارد. وهي تحذو حذو كتاب ستونيوس Seutonius حياة القياصرة Lives of the Caesars، بل الكتاب الأول ليقتطف بعض فقرات من الثاني يصف بها شارلمان. على أننا يجب أن نغفر كل شيء للمؤلف الذي يصف نفسه في تواضع جم بأنه "همجي، لا يعرف إلا قليلاً من لسان الرومان"(34)، وما من شك رغم هذا الاعتراف في أنه رجل عظيم المواهب، لأن شارلمان عيّنَه أستاذاً اقصره، وخازناً لبيت ماله، واتخذه صديقاً مقرباً له، واختاره ليشرف على الكثير من العمائر في حكمه الإنساني العظيم، ولعله قد اختاره لتخطيطها.
وشيدت قصور للإمبراطور في أنجلهيم Ingelheim ونجمجين Njimegen، وأقام في آخن عاصمته المحببة القصر والكنيسة الصغيرة الذائعي الصيت الذين تعرضا لأكثر من ألف من الأخطار وظلا قائمين حتى دمرتهما قنابل الحرب العالمية الثانية. وقد أقام المهندسون المجهولون تلك الكنيسة على نمط كنيسة سان فيتال San Vitale برافنا وهي التي أقيمت على غرار الكنائس البيزنطية السورية؛ فكانت النتيجة أن وجدت كنيسة شرقية جانحة في الغرب. وقد أقيمت فوق البناء المثمن قبة مستديرة، وقسم البناء من الداخل عدة أقسام بطابقين من عمد مستديرة "وزينت بمصابيح من الذهب والفضة، وحظارٍ، وأبواب من البرونز المصمت، وأعمدة وبوارق جيء بها من روما ورافنا"(35)، وينقش فسيفسائي ذائع الصيت في القبة.
وكان شارلمان سخياً غاية السخاء على الكنيسة، ولكنه مع هذا جعل نفسه سيدها، واتخذ من عقائدها ورجالها أدوات لتعليم الناس وحكمهم. وكانت كثرة رسائله متعلقة بشئون الدين، فكان يقذف الفاسدين من موظفيه والقساوسة الدنيويين بعبارات مقتبسة من الكتاب المقدس؛ وإن ما في أقواله من القوة لينفي عنه مظنة أن تقواه كانت خدعة سياسية. فقد كان يبعث بالمال إلى المسيحيين المنكوبين في البلاد الأجنبية، وكان يصر في مفاوضاته مع الحكام المسلمين على أن يراعوا العدالة في معاملة رعاياهم المسيحيين(36). وكان للأساقفة شأن كبير في مجالسه، وجمعياته، ونظامه الإداري، ولكنه كان ينظر إليهم، رغم احترامه الشديد لهم، على أنهم عماله بأمر الله، ولم يكن يتردد في أن يصدر أوامره لهم، حتى في المسائل المتعلقة بالعقائد أو الأخلاق. ولقد ندد بعبارة الصور و التماثيل حين كان البابوات يدافعون عنها، وطلب إلى كل قس أن يبعث إليه بوصف مكتوب لطريقة التعميد في أبرشيته، ولم تكن توجيهاته للبابوات أقل من هداياه لهم، وقضى على ما يحدث في الأديرة من تمرد، ووضع نظاماً للرقابة الصارمة على أديرة النساء ليمنع "الدعارة، والسكر، والشره" بين الراهبات. سأل القساوسة في أمر وجهه لهم عام 811 عما يقصدون بقولهم إنهم ينبذون العالم على حين "أننا نرى" بعضهم يكدحون يوماً بعد يوم بجميع الوسائل، ليزيدوا أملاكهم، فتارة يتخذون التهديد بالنار الأبدية وسيلة يستخدمونها لأغراضهم الخاصة، وتارة يعدون الناس بالنعيم السرمدي لهذه الأغراض نفسها، وطوراً يسلبون السذج أموالهم باسم الله أو اسم أحد القديسين، ويلحقون بذلك أعظم الضرر بورثتهم الشرعيين". على أنه رغم هذا قد أبقى لرجال الدين محاكمهم الخاصة، وأمر بأن يؤدي إلى الكنيسة عشر غلة الأرض، وجعل لرجال الدين الإشراف على شئون الزواج، والوصايا، وأوصى هو نفسه بثلثي ضياعه لأسقفيات مملكته(37)، ولكنه كان يطلب إلى الأساقفة بين الفينة والفينة أن يقدموا "هبات" قيمة لتساعد على الوفاء بنفقات الحكومة.
وقد أثمر هذا التعاون الوثيق بين الكنيسة والدولة فكرة من أجلّ الأفكار في تاريخ الحكم: ألا وهي استحالة دولة شارلمان إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تستند إلى كل ما كان لروما الإمبراطورية والبابوية من هيبة، وقداسة، واستقرار. ولقد كان البابوات من زمن طويل يستنكرون خضوع أقاليمهم إلى بيزنطية التي لا تصد عنها غارة ولا تقر فيها أمناً، وكانوا يشاهدون خضوع البطارقة المتزايد إلى إمبراطور القسطنطينية ويخشون أن تضيع حريتهم هم أيضاً. ولسنا نعرف من الذي لاحت له فكرة تتويج شارلمان إمبراطوراً رومانياً على يد البابا أو منذا الذي وضع خطة هذا التتويج، وكل ما نعرفه أن ألكوين، وثيودولف وغيرهما من الملتفين حوله قد تناقشوا في إمكانه، ولعلهم هم الذين خطوا فيه الخطوة الأولى، أو لعل مستشاري البابا هم الذي فكروا في هذا الأمر. وقامت في سبيل تنفيذه صعاب شديدة: فقد كان إمبراطور الروم يلقب وقتئذ بلقب الإمبراطور الروماني، وكان أحق الناس من الوجهة التاريخية بذلك اللقب، ولم يكن للكنيسة حق معترف به في حمل الألقاب أو نقلها من شخص إلى آخر، ولربما كان منح اللقب لشخص منافس لبيزنطية سبباً في إشعال نار حرب عاجلة عوان بين المسيحيين في الشرق وإخوانهم في الغرب، حرب تترك أوربا المخربة غنيمة سهلة للفتوح الإسلامية. غير أن الأمر قد سيره بعض التيسير إن إيريني جلست على عرش أباطرة الروم (797)، فقد قال البعض وقتئذ إنه لم يعد هناك إمبراطور روماني، وإن الباب أصبح مفتوحاً لكل من يطالب باللقب، فإذا ما نفذت هذه الخطة الجريئة قام مرة أخرى إمبراطور روماني في الغرب، تقوى به المسيحية اللاتينية وتتوحد، فتستطيع مقاومة انشقاق بيزنطية وتهديد المسلمين ولعل ما في اللقب الإمبراطوري من رهبة وسحر يمكن أوربا الهمجية من أن تعود أدراجها خلال القرون المظلمة وترث حضارة العالم القديم وثقافته وتنشر المسيحية في ربوعه.
وحدث في السادس والعشرين من ديسمبر عام 795 أن اختير ليو الثالث بابا؛ ولم يكن شعب روما يحبه، وكان يتهمه بعدة فعال خبيثة، ثم هاجمه العامة في الخامس والعشرين من إبريل عام 799، وأساءوا معاملته، وسجنوه في دير. لكنه هرب من سجنه، وفر إلى شارلمان في بادربورن وطلب إليه أن يحميه. وأحسن الملك استقباله، وأعاده إلى رومة مع حرس مسلح، وأمر البابا ومتهميه أن يمثلوا أمامه في تلك المدينة في العام المقبل. ودخل شارلمان العاصمة القديمة بموكب فخم في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 800، واجتمعت في أول ديسمبر جمعية من الفرنجة الرومان، واتفقت على إسقاط التهم الموجهة إلى ليو إذا ما أقسم يميناً مغلظة على أنه لم يرتكبها. وأقسم ليو اليمين وتهيأت السبيل إلى إقامة احتفال فخم بعيد الميلاد. فلما أقبل ذلك اليوم ركع شارلمان للصلاة أمام مذبح القديس بطرس بالعباءة اليونانية القصيرة والصندلين، وهما اللباس الذي كان يرتديه كبراء الرومان، ثم أخرج ليو على حين غفلة تاجاً مطعماً بالجواهر ووضعه على رأس الملك. ولعل المصلين كانوا قد علموا من قبل أن يفعلوا ما توجبه عليهم الشعائر القديمة التي يقوم بها كبراء الشعب الروماني لتأييد هذا التتويج، فنادوا ثلاث مرات: "ليحي شارل الأفخم، الذي توجه الله إمبراطوراً عظيماً للرومان لينشر بينهم السلام!". ومسح رأس الملك بالزيت المقدس، وحيا البابا شارلمان ونادى به إمبراطوراً وأغسطس، وتقدم إليهم بمراهم الولاء التي ظلت محتفظاً بها للإمبراطور الشرقي منذ عام 476.
وإذا جاز لنا أن نصدق اجنهارد، فإن شارلمان قد قال له إنه ما كان ليدخل الكنيسة لو أنه عرف أن ليو ينوي تتويجه إمبراطوراً. ولربما كان قد عرف الخطة بوجه عام، ولكنه لم يرض عن السرعة التي تمت بها والظروف المحيطة بها وقت إتمامها؛ ولعله لم يكن يسره أن يتلقى التاج من البابا، فيفتح بقبوله منه باباً للنزاع الذي دام قروناً طوالاً بين البابا والإمبراطور، وأيهما أعظم مكانة وأقوى سلطاناً: المعطي: أو آخذ العطية؛ ولعله فكر أيضاً فيما سوف يجره ذلك من نزاع مع بيزنطية في المستقبل. ثم أرسل شارلمان عدة رسائل وبعوث إلى القسطنطينية يريد بها أن يأسو الجرح الذي أحدثته هذه الفعلة، وظل زمناً طويلاً لا ينتفع بلقبه الجديد؛ حتى كان عام 802 فعرض الزواج على إيريني ليكون ذلك وسيلة يجعل بها لقبيهما المشكوك فيهما شرعيين(39)، ولكن سقوط إيريني عن عرشهما أفسد هذه الخطة اللطيفة. وأراد بعد ذلك أن يقلل من خطر هجوم بيزنطية عليه فوضع خطة لعقد اتفاق ودي مع هارون الرشيد، وقد أيد هارون ما نشأ بينهما من حسن التفاهم بأن أرسل إليه عدداً من الفيلة ومفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس. وردّ الإمبراطور الشرقي على ذلك بأن شجع أمير قرطبة على عدم الولاء لبغداد، وانتهى الأمر في عام 812 حين اعترف إمبراطور الروم بشارلمان إمبراطوراً نظير اعترافه بأن البندقية وإيطاليا الجنوبية من أملاك بيزنطية.
وكان لتتويج شارلمان نتائج دامت ألف عام، فقد قوى البابوية والأساقفة إذ جعل السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، وأتاحت حوادث عام 800 لجريجوري السابع وإنوسنت الثالث أن يقيما على أساسها كنيسة أقوى من الكنيسة السابقة، وقوت شارلمان على البارونات الغضاب وغيرهم لأنها جعلته ولياً لله في أرضه، وأيدت أعظم التأييد نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، ووسعت الهوة بين الكنيسة اليونانية والكنيسة اللاتينية، لأن أولاهما لم تكن ترغب في الخضوع إلى كنيسة رومانية متحالفة مع إمبراطورية منافسة لبيزنطية. ولقد كان استمرار شارلمان في اتخاذ آخن لا روما عاصمة له شاهداً على انتقال السلطة السياسية من بلاد البحر المتوسط إلى أوربا الشمالية، ومن الشعوب اللاتينية إلى التيوتون. وأهم من هذا كله أن تتويج شارلمان أقام الإمبراطورية الرومانية المقدسة عملياً وإن لم يقمها من الوجهة النظرية. وكان شارلمان ومستشاروه يرون أن سلطته الجديدة إحياء للسلطة الإمبراطورية القديمة، على أن الصبغة الجديدة الخاصة بهذا النظام لم يعترف بها إلا في عهد أتو Otto الأول، كما أنها لم تصبح "مقدسة" إلا حين ضم فردريك باربروسا Frederik Barbarossa لفظ مقدس sacrum إلى ألقابه في عام 1155. وجملة القول أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة كانت-على الرغم من تهديدها للعقول والمواطنين-فكرة نبيلة، وحلماً من أحلام الأمن والسلام، وعودة للنظام والحضارة إلى عالم أنقذ من براثن الهمجية، والعنف، والجهل.
وأصبحت المراسيم الإمبراطورية تكتنف الإمبراطور في المهام الرسمية، فكان عليه أن يلبس أثواباً مزركشة، ذات مشبك ذهبي، وحذاءين مرصعين بالجواهر وتاجاً من الذهب والجوهر، وكان على زائريه أن يسجدوا أمامه لقبلوا قدمه أو ركبته، هذا ما أخذه شارلمان عن بيزنطية وما أخذته بيزنطية عن طيسفون. غير أن اجنهارد يؤكد لنا أن ثيابه-إذا استثنينا ما ذكرناه عنها آنفاً-لم تكن تختلف إلا قليلاً عن ثياب الفرنجة العادية: كانت تتألف من قميص من التيل، وسروال قصير لا شيء تحته، ومن فوق القميص والسروال القصير قناء من الصوف ربما كانت له أهداب من الحرير، وجورب طويل مربوط بشريطين يغطي ساقيه وحذاءين من الجلد في قدميه، وكان يضيف إليها في الشتاء معطفاً ضيقاً من جلود ثعلب الماء أو الفنك ، وكان يحتفظ بسيف إلى جانبه لا يفارقه أبداً. وكان طول قامته ست أقدام وأربع بوصات، وكانت بنيته تناسب مع هذا الطول. وكان أشقر الشعر، شفذ العينين ، أشم الأنف، له شاربان وليست له لحية "جليلاً مهيب الطلعة على الدوام"(40). وكان معتدلاً في طعامه وشرابه، يمقت السكر أشد المقت، جيد الصحة على الدوام مهما تعرض لتقلبات الجو ومهما قاسي من الصعاب. وكثيراً ما كان يخرج للصيد أو يمارس ضروب الرياضة العنيفة على ظهور الخيل، وكان سبّاحاً ماهراً، يحب الاستحمام في عيون آخن الدفيئة. وقلّما كان يدعو الناس إلى الولائم، لأنه كان يفضل الاستماع إلى الموسيقى أو قراءة كتاب في أثناء الطعام. وكان يعرف قيمة الوقت كما يعرفها كل عظيم. وكان يستقبل زائريه ويستمع إلى قضاياهم في الصباح وهو يرتدي ثيابه أو يلبس حذائيه.
وكان من وراء مهابته وجلاله عاطفة قوية وهمة عالية، ولكنه كان يسخّر عاطفته وهمته لتحقيق أغراضه ويوجههما بذكائه وثاقب بصره. ولم تستنفد حروبه التي تربى على نصف المائة قوته وحيويته. وكان إلى هذا كله شديد العناية بالعلوم والقوانين، والآداب، وعلوم الدين لا تفتر حماسته لها على مر السنين، وكان يسوئه أن يبقى جزء من الأرض لم يستول عليه أو أي فرع من فروع العلم لم يضرب فيه بسهم. وكان شريف النفس من بعض الوجوه، وكان يزدري الخرافات، ويحرّم أعمال المتنبئين أو العرّافين، ولكنه صدّق كثيراً من الأعاجيب الأسطورية، وبالغ في مقدرة الشرائع على إصلاح أخلاق الناس وعقولهم. ولقد كان لهذه السذاجة النفسية بعض المحاسن: لقد كان في تفكيره وحديثه صراحة ونُبل قلَّما نراهما في رجال الحكم.
وكان يسعه أن يكون قاسياً إذا تطلبت سياسة الدولة القسوة، وأشد ما كانت قسوته فيما بذله من جهود لنشر الدين المسيحي، ولكنه مع هذا كان عظيم الرأفة، كثير الإحسان، وفياً مخلصاً لأصدقائه، ولقد بكى بالدمع عند وفاة أولاده، وبنته، والبابا هدريان. ويرسم لنا ثيودولف في قصيدة له عنوانها "حكم شارل" صورة لطيفة للإمبراطور في بيته، فيقول إنه إذا قدم من أعماله أحاط به أبناؤه، فيخلع عنه ابنه شارل عباءته، ويأخذ ابنه نويس سيفه، وتعانقه بناته الست، ويأتين له بالخبز، والخمر، والتفاح، والأزهار، ويدخل الأسقف ليبارك طعام الملك، ويقترب منه ألكوين ليبحث معه ما لديه من الرسائل، ويهرول إجنهارد الضئيل الجسم هنا وهناك كأنه نملة، ويأتيه بكتب ضخمة(41). وقد بلغ من حبه لبناته أن أقنعهن بعدم الزواج، وقال إنه لا يطيق فراقهن، ومن أجل هذا أخذن يواسين أنفسهن بالارتماء إلى أحضان العشاق وجئن بعدة أبناء غير شرعيين(42). وقد قابل شارلمان هذه الأعمال منهن بنفس سمحة، لأنه هو نفسه قد جرى على سنة أسلافه، فاتخذ له أربع أزواج واحدة بعد الأخرى، وأربع عشيقات أو حظايا. ذلك أن حيويته الموفورة جعلته شديد الإحساس بمفاتن النساء، وكانت نساؤه يؤثرن أن يكون للواحدة منهن نصيب منه على أن يكون لها رجل آخر بمفردها. وقد ولدت له نساؤه نحو ثمانية عشر من الأبناء والبنات منهم أربعة شرعيون(43). وغض من في حاشيته ومن في روما من رجال الدين أبصارهم عن تحلل رجل مسيحي مثله من قيود الأخلاق المسيحية.
وكان شارلمان وقتئذ على رأس دولة أعظم من الإمبراطورية البيزنطية لا يعلو عليها في عالم الرجل الأبيض إلا دولة الخلفاء العباسيين. ولكن كل توسع في حدود الإمبراطوريات أو العلوم يخلق مشاكل جديدة. فلقد حاولت أوربا الغربية أن تحمي نفسها من الألمان بإدماجهم في حضارتها؛ غير أن ألمانيا كان عليها في هذا الوقت أن تحمي نفسها من أهل الشمال ومن الصقالبة؛ وكان الملاحون من أهل الشمال قد أنشئوا لهم مملكة في جتلندة Jutland قبل عام 800 م وأخذوا يغيرون على سواحل فريزيا Frisia. وأسرع إليهم شارل من روما، وأنشأ الأساطيل والقلاع عند الشواطئ والأنهار، وأقام حاميات في الأماكن المعرضة للأخطار، ولما أغار ملك جتلندة على فريزيا عام 810 صُدَّ عنها، ولكن شارلمان هاله أن يشهد من قصره في نربونة بعد قليل من ذلك الوقت، إذا جاز لنا أن نصدق أخبار راهب سانت جول، سفن القراصنة الدنمرقيين في خليج ليون. ولعله قد تنبأ، كما تنبأ دقلديانوس من قبل، بأن إمبراطوريته الواسعة في حاجة إلى الدفاع السريع عنها في عدة مواضع في وقت واحد، فقسمها في عام 806 بين أولاده الثلاثة-بيبين، ولويس، وشارل. ولكن بيبن توفي عام 810، وشارل في عام 811، ولم يبق من هؤلاء الأبناء إلا لويس، وكان منهمكاً في العبادة انهماكا بدا معه أنه غير خليق بأن يحكم عالماً مليئاً بالاضطراب والغدر. غير أن لويس رغم هذا قد رفع باحتفال مهيب في عام 813 من ملك إلى إمبراطور ونطق المليك الشيخ قائلاً: "حمداً لله يا إلهي إذ أنعمت عليَّ بأن أرى بعين ولدي يجلس على عرشي"(44).
وبعد أربع سنين من ذلك الوقت أصيب الملك الشيخ وهو يقضي الشتاء في آخن بحمى شديدة نتج عنها التهاب البلورة، وحاول أن يداوي نفسه بالاقتصار على السوائل، ولكنه توفي بعد سبعة أيام من بداية المرض بعد أن حكم سبعاً وأربعين سنة وعاش اثنتين وسبعين (814)، ودفن تحت قبة كتدرائية آخن، مرتدياً أثوابه الإمبراطورية. وما لبث العالم كله أن أسماه كارولس ماجنس Carolus Magnus أو كارل در جروس Karl der Grosse أو شارلمان Charlemagne (أي شارل العظيم)، ولما حل عام 1165 ومحا الزمان جميع ذكريات عشيقاته ضمته الكنيسة التي أحسن إليها الإحسان كله في زمرة الصالحين المنعمين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اضمحلال الكارولنجيين
كانت النهضة الكارولنجية فترة من فترات البطولة المتعددة في العصور المظلمة، ولولا ما اتصف به خلفاء شارلمان من عجز وما شجر بينهم من نزاع لكان من المستطاع أن تقضي هذه الفترات قبل مجيء أبلار بثلاثة قرون على ظلمات تلك العصور، وعلى فوضى بارونات الإقطاع. وعلى النزاع الذي قام بين الكنيسة والدولة ومزقها شر ممزق، وعلى غارات النورمان، والمجر، والمسلمين التي أدى إليها هذا النزاع الأخرق. لكن رجلاً بمفرده، وحياة بمفردها لم يكفيا لإقامة حضارة جديدة. يضاف إلى هذا أن تلك النهضة القصيرة الأجل كانت نهضة كنسية ضيقة أشد الضيق، فلم يكن للمواطن العادي فيها نصيب، وما أقل من كان يعني بها من النبلاء، وما أقل من كان منهم يشغل نفسه بتعلم القراءة. وما من شك في أن شارل نفسه ملوم إلى حد ما على انهيار دولته. فلقد أفاء على رجال الدين من الثراء ما جعل سلطان الأساقفة، بعد أن رفعت يده القوية عنهم، يرجح سلطان الإمبراطور؛ ولقد اضطرته أسباب حربية وإدارية أن يمنح المحاكم والبارونات في الأقاليم قدراً من الاستقلال شديد الخطورة. ثم إنه جعل مالية الحكومة الإمبراطورية ذات الأعباء الجسام تعتمد على ولاء هؤلاء الأشراف الغلاظ واستقامتهم، وعلى ما تدره أراضيه ومناجمه من إيراد غير كبير، ولم يكن في وسعه أن يعمل ما عمله أباطرة الروم فينشئ بيروقراطية من الموظفين المدنيين مسئولين أمام السلطة المركزية دون غيرها، وقادرين على النهوض بأعباء الحكم مهما تكن شخصية الإمبراطور وأتباعه، فلم يكد يمضي على وفاته جيل واحد حتى أقبل رسل الإمبراطور الذين بسطوا سلطانه في الولايات أو تجاهل الولاة وجودهم، وألقى الأعيان المحليون عن كاهلهم سلطان الحكومة المركزية. وملاك القول أن حكم شارلمان كان عملاً جليلاً من أعمال العباقرة يمثل الرقي السياسي في عصر وفي رقعة من الأرض يعمهما الاضمحلال الاقتصادي.
وإن الألقاب التي أطلقها المعاصرون لخلفائه عليهم لتكفي وحدها لأن تقص علينا قصتهم: لويس التقي Louis the Pious، وشارل الأصلع Charles the Bald، ولويس المتلعثم Louis the Stammerer وشارل البدين Charles the Fat، وشارل الساذج Charles the Simple. فأما لويس "التقي" (814-840) فكان كأبيه طويل القامة، بهي الطلعة؛ وكان متواضعاً، رقيق الحاشية، خيّراً كريماً، مفرطاً في اللين إفراط يوليوس قيصر. وكان قد تربى على أيدي القساوسة فجعلته هذه التربية شديد الاهتمام بالمبادئ الأخلاقية التي كان يزاولها شارلمان باعتدال.من ذلك أنه لم تكن له إلا زوج واحدة ولم يكن له قط حظايا، وأنه طرد من حاشيته عشيقات أبيه وعشاق أخواته، ولما احتجت أخواته، ولما احتجت أخواته على عمله هذا حبسهن في أديرة الراهبات. وأرغم القساوسة على أن يعملوا بأقوالهم، وأمر الرهبان أن يحيوا الحياة التي توجبها عليها قواعد البنكتين، وحاول أن يقضي على المظالم والاستغلال أينما وجدا، وأن يصلح ما كان فاسداً من قبل. وقد أعجب الناس به لانحيازه إلى الضعفاء على الأقوياء في جميع الأحوال.
وأحس لويس أن عادت الفرنجة توجب عليهم تقسيم دولته فقسمها إلى ممالك يحكمها أبناؤه-بيبن، ولوثير Lothaire، ولويس "الألماني" (وسنسميه لدفج فيما بعد). وقد رزق لويس من يوديت Juidith زوجته الثانية ابناً رابعاً يعرف في التاريخ باسم شارل الأصلع؛ وكان لويس يحبه حباً لا يكاد يقل عن افتتان الأجداد بأحفادهم، ويريد أن يعطيه قسطاً من إمبراطوريته بعد أن يلغي التقسيم الذي عمله في عام 817، لكن أولاده الثلاثة الكبار عارضوا في هذا وشنوا على أبيهم حرباً داخية دامت ثمانية أعوام. وأيدت كثرة النبلاء ورجال الدين هذه الفتنة، ثم خرجت عليه القلة التي ظلت موالية له عندما تأزمت الأحوال في رُثفلد Rothfeld (القريبة من كلمار Colmar) والتي عرفت فيما بعد باسم لوجنفلد L(genfeld أي ميدان الأكاذيب. فلما رأى ذلك لويس أمر من بقي من أنصاره أن يتركوه وشأنه وأن يهتموا بحماية أنفسهم، ثم استسلم لأبنائه (833)، فلما تم لهم ذلك سجنوا يوديث وجزوا شعرها، وأودعوا شارل الصغير في دير، وأمروا أباهم أن ينزل عن العرش وأن يكفر علناً عما فعل، وجيء بلويس إلى كنيسة بسواسون يحيط به ثلاثون أسقفاً، وأرغم في حضرة لوثير ابنه وخلفه على أن يخلع ملابسه حتى وسطه، وأن يسجد على قطعة من نسيج الشعر ويقرأ جهرة اعترافاً بجريمته. ثم لبس مسوح الندم الرمادية اللون، وقضى سنة في أحد الأديرة. وحكمت فرنسا من تلك اللحظة أسقفية موحدة قامت بين الأسرة الكارلنجية المتفككة.
واشمأز الشعب من سوء معاملة لوثير لأبيه لويس؛ واستجاب كثيرون من النبلاء وبعض رجال الدين لنداء يوديث حين طالبت بإلغاء قرار الخلع، ودب النزاع بين الأخوة الثلاثة، وأطلق بيبين ولدفج أباهما، وأجلساه على عرشه، وأعادا يوديث وشارل إلى أحضانه (834). ولم يثأر لويس لنفسه، بل عفا عن كل من أساءوا إليه. ولما مات بيبين (838) قسمت الدولة تقسيماً جديداً لم يرض عنه لدفج، وهجم على سكسونيا، ونزل الإمبراطور الشيخ مرة أخرى إلى ميدان القتال، وصد المهاجمين، ولكنه مرض من تعرضه لتقلبات الجو وهو عائد من الميدان، وتوفي بالقرب من إنجلهايم Ingelheim (840). وكان من آخر الألفاظ التي نطق بها رسالة يصفح بها لدفج، ويدعو لوثير، وقد أصبح إمبراطوراً، أن يحمي يوديث وشارل.
وحاول لوثير أن ينزل شارل ولدفج منزلة الأتباع، ولكنهما هزماه عند فنتناي Fonteney (841)، وأقسما عند استراسبرج يمين الولاء المتبادلة المشهرة بأنها أقدم وثيقة كتبت باللغة الفرنسية.لكنهما وقعا مع لوثير في عام 843 معاهدة فردون، وقسموا فيما بينهم إمبراطورية شارلمان أقساماً ثلاثة تنطبق بوجه التقريب على إيطاليا، وألمانيا، وفرنسا الحالية. فاختص لدفج بالأراضي المحصورة بين نهري الرين والإلب، واختص شارل بالجزء الأكبر من فرنسا وبولايات الحدود الأسبانية، وأعطى لوثير إيطاليا والأراضي المحصورة بين الرين شرقاً، والشلد Scheld، والساءون Saone والرون غرباً. وسميت هذه الأراضي الغير متجانسة، والممتدة من هواندة إلى بروفانس باسم لوثير-فكانت أرض بوثير، أو لوئرنجيا Lutheringia. أو لوثرنجار Lutharingar، أو لورين Lorraine. ولم تكن ذات وحدة جنسية أو لغوية، فكان لا بد أن تصبح ميداناً للقتال بين ألمانيا وفرنسا. وكثيراً ما استبدلت سيداً يسيد فيما تقلب عليها من نصر وهزيمة أريقت فيهما الدماء أنهاراً. وفي خلال هذه الحروب الداخلية الكثيرة الأكلاف، والتي أضعفت الحكومة، وأنقصت السكان، والثروة، والروح المعنوية في أوربا الغربية، غزت القبائل الإسكنديناوية في سعيها إلى التوسع وبسط السلطان بلاد فرنسا فاكتسحتها بموجة همجية واصلت وأنمت الخراب والذعر اللذين جاءا في أعقاب الهجرات الألمانية قبل ذلك الوقت بثلاثة قرون. فبينما كان أهل السويد يتسربون إلى الروسيا والنرويجيون يضعون أقدامهم في أيرلندة، والدنمرقيون يفتحون إنجلترا، كان خليط من أهل إسكنديناوة، في وسعنا أن نسميهم الشماليين أو أهل الشمال، يغيرون على مدائن فرنسا القائمة على شواطئ البحار أو ضفاف الأنهار. واستحالت هذه الغارات بعد موت لويس التقي حملات قوية تقوم بها أساطيل مؤلفة من أكثر من مائة سفينة، يسيرها ملاحون محاربون. وقاست فرنسا في القرنين التاسع والعاشر سبعاً وأربعين من هذه الهجمات الشمالية؛ ونهب المغيرون في عام 840 مدينة رون Rouen، وبدءوا مائة عام من الهجمات على نورماندي، وفي عام 843 دخلوا مدينة نانت Nantes وذبحوا أسقفها وهو قائم للصلاة أمام مذبحه، وفي عام 844 صعدوا في نهر الجارون Garonne إلى طلوشة Tculcuse. وفي عام 845 صعدوا في نهر السين إلى باريس، ولكنهم تركوا المدينة وشأنها بعد أن أخذوا جزية مقدارها سبعة آلاف رطل من الفضة.
وبينا كان المسلمون يهاجمون روما استولى أهل الشمال على فريزيا في عام 846 وأحرقوا دوردرخت Dordreeht، ونهبوا ليموج Limoges. ثم حاصروا بوردو Berdeaux في عام 847، ولكنهم ردوا عنها وأعادوا الكرة عليها في عام 848، واستولوا عليها في هذه المرة، ونهبوها، وقتلوا أهلها، وأحرقوها عن آخرها. وفي العالم الذي تلاه وجهوا مثل هذه الضربات إلى بوفيه Beauvais وبايو Bayeux، وسانت لو St, Lu، ومو Meaux، وإيفرو Evreux، وتور Tours وفي وسعنا أن نصور ما حل بهذه البلاد من رعب إذا قلنا أن تور نهبت في أعوام 853، و856، و862، 872، و886، و903، 919(45)، وإن باريس نهبت في عامي 856، و861، وأحرقت في عام 865. وجهز الأساقفة في أورليان وشارتر Chartres جيشين صدوا بهما المغيرين (855)؛ ولكن القراصنة الدنمرقيين خربوا أورليان في عام 856. وفي عام 859 اخترق أسطول شمال مضيق جبل طارق ودخل البحر المتوسط، ونهب المدن الواقعة على ضفاف الرون من مصبه حتى مدينة فالنس Valence شمالاً، ثم عبر خليج جنوا، ونهب بيزا وغيرها من المدن الإيطالية. ولما قاومتهم قلاع النبلاء الحصينة في أماكن متفرقة في طريقهم نهبوا أو أتلفوا كنوز الكنائس والأديرة غير المحمية، وكثيراً ما أحرقوها بما فيها من مكتبات، ولم ينج القساوسة والرهبان من القتل في بعض الأحيان. وكان الناس في تلك الأيام الحالكة يدعون ربهم في صلواتهم قائلين: "اللهم أنقذنا من شر أهل الشمال"(46)! وكأنما كان المسلمون على موعد مع الشماليين فاستولوا على قورسقة وسردينية في عام 810، ونهبوا ساحل الرفييرا الفرنسي في عام 820، وخربوا أرل Arles في 842، واستولوا على ساحل فرنسا الواقع على البحر المتوسط وبقى في أيديهم حتى عام 972.
ترى ماذا كان يفعل الملوك والأشراف خلال هذه الأعوام الخمسين الملية بالتدمير والتخريب؟ فأما الأشراف فقد كان لديهم من المشاغل ما يكفيهم، ولم يكونوا يرغبون في أن يخفوا لمساعدة أقاليمهم، ولم يستجيبوا إلا استجابات ضعيفة لما وجه إليهم من نداء للعمل الإجماعي. وأما الملوك فكانوا في شغل شاغل بحروبهم في سبيل التملك أو الاستيلاء على تاج الإمبراطورية، وكانوا أحياناً يشجعون الساحليين في غاراتهم على سواحل منافسيهم. وحدث في عام 859 أن اتهم هنكمار كبير أساقفة ريمس شارل الأصلع علناً بالإهمال في الدفاع عن فرنسا. وخلف شارل فيما بين 877 و888 ملوك أكثر منه ضعفاً-لويس الثالث، وكارلومان، وشارل البدين. وتعاونت أحداث الزمان والمنايا فتوحدت مملكة شارلمان مرة أخرى تحت حكم شارل البدين، وأتيحت للإمبراطورية المحتضرة فرصة أخرى للدفاع عن حياتها. ولكن أهل الشمال استولوا على نجمين Nmegen وأحرقوها في عام 880، واتخذوا من كورتراي Courtrai وغنت قلاعاً لهم حصينة، وفي عام 881 أحرقوا لياج Li(ge، وكولوني، وبن Bonn وبروم Prum، وآخن؛ وفي 882 استولوا على تريير Trier، وقتلوا كبير أساقفتها الذي قاد المدافعين عنها؛ وفي السنة نفسها استولوا على ريمس، وأرغموا هنكمار على أن يقاتل ويموت. وفي عام 883 استولوا على أمين Amiens، ولكنهم انسحبوا منها بعد أن أخذوا أثنى عشر ألف رطل من الفضة من كارلومان. وفي عام 885 استولوا على رون، وساروا في النهر صعداً إلى باريس في سبعمائة سفينة عليها ثلاثون ألف رجل. وقاد حاكم المدينة الكونت أودو Odo أو أود Eudes، وأسقفها جزلان Gozlin المدافعين عنها، وقاوموا المغيرين مقاومة باسلة. وظلت باريس مضروباً عليها الحصار ثلاثة عشر شهراً هاجم المدافعون عنها المحاصرين أثنى عشر مرة؛ وانتهى الأمر بأن أدى شارل البدين الشماليين 7000 رطل من الفضة بدل أن يخف لإنقاذ المدينة، وأذن لهم فوق ذلك أن يسيروا في نهر السين صعداً ويقضوا الشتاء في برغندية التي نهبوها نهباً ترتضيه نفوسهم.ثم خلع شارل وتوفي عام 888، وأختير أودو ملكاً على فرنسا، وصارت باريس بعد ثبت قيمتها من الوجهة الحربية الفنية مقر الحكومة.
وحمى شارل الساذج الذي خلف أودو على العرش (895-923) إقليم السين والساءون من المغيرين، ولكنه لم يرفع يده ضد غارات الشماليين على بقية فرنسا، ثم لم يكتف بهذا بل أسلم إلى رولف Rolf أو رلو Rollo أحد زعماء النورمان في عام 911 أقاليم رون، وليزيو Lisienx، وإفرو Evreux. وكان النورمان قد استولوا عليها من قبل. ووافق النورمان على أن يؤدوا عنها للملك ما يؤديه أمراء الإقطاع عن أملاكهم، ولكنهم كانوا يسخرون منه وهم يقومون بمراسم الولاء التقليدية. وارتضى ليو أن يُعَمَّد، وحذا رجاله حذوه، ثم استقروا على مهل وأصبحوا زراعاً ومتحضرين. وهكذا بدأت نورمنديا بأن كانت ولاية في فرنسا فتحها أهل الشمال. ولقد وجد الملك الساذج حلاً لمشكلة باريس إن لم يكن لغيرها من المشاكل، ذلك أن النورمان أنفسهم سيصدون بعد ذلك الوقت من يحاولون دخول السين من المغيرين. أما في غير هذا الجزء من فرنسا فلم تنقطع غارات الشماليين، فنهبت تشارتر في عام 911، وأنجير Angers في عام 919، ونهبت أكتين Aquitaine وأوفرني في عام 923، كما نهبت آرتوا وإقليم بوفيه في عام 924. وفي هذا الوقت نفسه تقريباً دخل المجر برغندية في عام 917 بعد أن خربوا جنوبي ألمانيا، واجتازوا الحدود الفرنسية، ثم اجتازوها راجعين دون أن يلقوا مقاومة، ونهبوا الأديرة القريبة من ريمس وسان Sens وأحرقوها (937)، واخترقوا كأرجال الجراد الفتاك أكتين (951) وأحرقوا ضواحي كورتراي، وليون، وريمس (954)، ونهبوا برغندية على مهل. وأوشك صرح النظام الاجتماعي في فرنسا أن ينهار تحت هذه الضربات المتكررة التي كالها له الماليون والهون. وفي ذلك يقول أحد المجاميع الدينية المقدسة في عام 909.
لقد أقفرت المدن من السكان، وخربت الأديرة وحرقت، وأضحت البلاد في عزلة... وكما كان الناس الأولون يعيشون بغير قانون... فكذلك يفعل الآن كل إنسان ما يبدو حسناً في نظره غير آبه بالشرائع البشرية والدينية... فالأقوياء يظلمون الضعفاء، والعالم مليء بالعنف والقسوة على الفقراء، وأملاك الكنائس تنهب... ويلتهم الناس بعضهم بعضاً كما يفعل السمك في البحر(47). وكان آخر الملوك الكارولنجيين- لويس الرابع، ولوثير الرابع، ولويس الخامس ملوكاً حسني النية، ولكنهم لم يكن لهم من القوة ما لا بد منه قامة نظام دائم من ذلك الخراب الشامل. ولما مات لويس الخامس ولم يكن له أبناء (987)، بحث أعيان فرنسا ورجال الدين فيها عن زعيم لهم من أسرة أخرى غير الكارولنجيين، حتى وجدوا هذا الزعيم المنشود من نسل مركيز من نوستريا Neustria يحمل ذلك الاسم العظيم الدلالة وهو روبرت القوي Robert the Strong (المتوفي عام 966). وكان أودو منقذ باريس ابن هذا المركيز؛ وكان هيو الأكبر Hugh the Great أحد أجداده (المتوفي 956) قد حصل بالشراء أو الحرب على الإقليم المحصور بين نورمنديا، والسين، واللوار كله تقريباً وكان فيه أميراً إقطاعياً، واجتمع له فيه من الثروة والسلطان ما لم يجتمع للملوك. وورث هيو كابت Hugh Capet ابن هيو هذا جميع تلك الثروة وذاك السلطان؛ وورث، كما يلوح، العزيمة التي كسبتهما. وعرض أدلبرو Adlabero كبير الأساقفة، بإرشاد العالم الداهية جربرت، أن يكون هيو كابت ملكاً على فرنسا، فاختير لهذا المنصب بالإجماع (987) وبدأت بذلك الأسرة الكابتية التي حكمت ابناً أو أباً أو حكم فروعها مملكة فرنسا إلى عهد الثورة الكبرى.
الآداب والفنون 814-1066
لعلنا قد غالينا في وصف ما أحدثته غارات الشماليين والمجر من أضرار، ذلك أن حشدها كلها في حيز قليل توخياً للإيجاز يجعل صورة الحياة في تلك، الأوقات قاتمة فوق ما تستحق، مع أنها لم تكن تخلو بلا ريب من فترات ساد فيها الأمن والسلام؛ فقد ظلت الأديرة تشاد خلال هذا القرن التاسع الرهيب، وكثيراً ما كانت مراكز للصناعة الناشطة، وازدادت مدينة رون قوة بفضل اتجارها مع بريطانيا رغم ما أصيبت به من غارات وحرائق؛ وسيطرت كولوني ومينز على التجارة المارة بنهر الرين، ونشأت في فلاندرة مراكز غنية صناعية وتجارية بمدن غنت، وإيبرس Ypres، وليل Lile، ودويه، وآراس Arass، وتورناي Tournai، ودينان Dinant، وكمبريه، ولييج وفلنسين.
وأصيبت مكتبات الأديرة بخسائر فادحة في كنوزها القديمة من جرّاء هذه الغارات، وما من شك في أن كثيراً من الكنائس التي أنشئت فيها مدارس عملاً بقرار شارلمان قد دمرت، وإن كانت مكاتب قد بقيت في الأديرة أو الكنائس القائمة في فلدا، ولورسن Lorson، وريشنو Reichenau، ومينز، وتريير وكولوني، ولييج، ولأون Laon، وريمس، وكوربي Corbie، وفليري Fleury، وسانت دينس، وتور، وببيو Bobbio، ومونتي كسينو، وسانت جول... واشتهر دير البندكتيين في سانت جول بمن كان فيه من الكتّاب، كما اشتهر بمدرسته وكتبها، وفيه كتب نتكر بلبولوس Notker Balbulus-الألكن- (840-912) ترانيم بديعة ممتازة وسجل راهب سانت جول. وفيه ترجم نتكر لبيئو Notker Labeo-الغليظ الشفة- (950-1022) كتب بؤيثيوس، وأرسطو وغيرها من الكتب القديمة إلى اللغة الألمانية؛ وأعانت هذه التراجم- وهي من أول ما كتب بالنتر الألماني- على تثبيت تراكيب اللغة الجديدة وقواعدها.
وحتى في فرنسا الجريحة كانت مدارس الأديرة تضيء حلكة هذه العصور المظلمة. فقد افتتح ريمي الأوكسيري Remy of Auxerre مدرسة عامة في باريس عام 900، وأنشئت في القرن العاشر مدارس أخرى في أوكسير وكوربي، وريمس ولييج. وأسس الأسقف فلبير Fulbert (960-1028) بمدينة تشارتر حوالي 1006 مدرسة أصبحت أشهر مدارس فرنسا كلها قبل أيام أبلار، ففيها وضع سقراط المبجل-كما كان تلاميذه يسمونه-قواعد تدريس العلوم، والطب، والآداب القديمة، بالإضافة إلى علوم الدين، والكتاب المقدس، والطقوس الدينية. وكان فلبير هذا رجلاً كريم الطبع، عظيم الإخلاص صبوراً صبر أولى العزم من الرسل، محسناً متصدقاً إلى أقصى حد. ولقد تخرج في مدرسته-قبل ختام القرن الحادي عشر-علماء أمثال جون السلزبوري John of Salisbury، ووليم الكنشي William of Conches، وبرنجار التوري Berengar of Tours وجلبرت ده لابريه Gilbert de la Porr(a. وفي هذه الأثناء وصلت مدرسة القصر التي أنشأها شارلمان أوج مجدها في كمبييني Compi(gne تارة وفي لأون تارة أخرى بفضل ما حباها به شارل الأصلع من عون وتشجيع.
وقد استدعى شارل الورع إلى مدرسة القصر عام 843 علماء أيرلنديين وإنجليز في مختلف العلوم، كان من بينهم عالم من أعظم العقول المبتكرة وأعظمها جرأة في العصور الوسطى، رجل يبعث وجوده في ذلك الوقت الشك في صواب استبقاء اسم "العصور المظلمة" حتى على القرن التاسع نفسه، بَلْه غيره من القرون.
ويكشف اسمه عن أصله كشفاً مضاعفاً، فهو يوهان سكوتس إريوجينا Johannes Scotus Eriugina أي جون الأيرلندي المولود في إرين Erin. وسنسميه نحن إريجنا Erigena. وكفى. ويبدو أنه لم يكن من رجال الدين، ولكنه كان رجلاً متبحراً في العلوم، يجيد اللغة اليونانية، مغرماً بأفلاطون والآداب القديمة، حلو الفكاهة إلى حد ما. وتحدثنا إحدى القصص-التي بدو من سياقها كله أنها من مخترعات الأدباء-أن شارل الأصلع، كان يطعم معه في يوم من الأيام فسأله: ما الفارق بين الأبله والأيرلندي quid distat inter sottum et Scottum؟ فأجابه جون-كما تروي القصة-: "المنضدة"(48). ولكن شارل رغم هذا كان يحبه حباً جماً، وكان يشهد محاضراته، وأكبر الظن أنه كان يستظرف إلحاده. ويفسر جون العشاء الرباني في كتابه عن القربان المقدس بأنه عمل رمزي، ويتضمن هذا ارتيابه في وجود المسيح بحق في الخبز والخمر المقدسين. ولما أخذ الراهب الألماني جتسشولك Gottdchalk ينادي بمبدأ الجبرية المطلقة وينكر تبعاً لذلك مبدأ حرية الإرادة في الإنسان. طلب هنكمار كبير الأساقفة إلى إيورجينا أن يرد عليه كتابه. فأجابه هذا إلى ما طلب وكتب رسالته المسماة الجبرية الإلهية De Divina praedestinatione (حوالي عام 851). وقد بدأها بإطراء الفلسفة إطراءً عظيماً فقال: "من يشأ أن يبحث جاداً عن علل الأشياء جميعها ويحاول كشفها، يجد جميع الوسائل الموصلة إلى العقيدة الصالحة الكاملة في العلم والتدريب اللذين يطلق عليهما اليونان اسم الفلسفة". وينكر الكتاب في واقع الأمر مبدأ الجبرية، ويقول الإرادة حرة عند الله وعند الإنسان، وإن الله لا يعرف الشيء، ولو عرفه لكان هو سببه. وكان رد إرجينا أكثر إلحاداً من أقوال جتسشولك، وأنكره مجلسان من مجالس الكنيسة في عامي 855 و859، وأودع جتسشولك في دير قضى فيه بقية حياته أما إرجينا فقد حماه الملك.
وكان ميخائيل الألكن إمبراطور بيزنطية قد بعث إلى لويس التقي في عام 824 مخطوطاً يونانياً لكتاب يسمى الحكومة الكنوتية السماوية. ويعتقد المسيحيون المتدينون أن مؤلفه هو ديونيشيوس "الأريوباجي" Disnysius the "Areopagite". وأحال لويس التقي المخطوط إلى دير سانت دنيس، ولكن أحداً ممن فيه لم يستطع ترجمة لغته اليونانية، فقام إرجينا بهذه المهمة إجابة لطلب الملك. وتأثر بالترجمة أعظم التأثر، وأعاد الكتاب إلى المسيحية غير الرسمية الصورة التي ترسمها الأفلاطونية الجديدة للكون المتولد أو المنبعث من الله في مراحل مختلفة أو درجات من الكمال آخذة في النقصان، والذي يعود ببطء وبدرجات متفاوتة إلى الله مرة أخرى.
وأصبحت هذه الفكرة الرئيسية التي يدور حولها أعظم مؤلفات جون التقسيم الطبيعي (867). ففي هذا الكتاب نجد بين الكثير من السخف، وقبل أبلار بقرنين من الزمان، إخضاعاً جريئاً لعلوم الدين والوحي إلى العقل، ومحاولة للتوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية، وفيه يقر جون بصحة الكتاب المقدس؛ ولكنه يقول إنه لما كان معناه في كثير من أجزائه غامضاً، فإن الواجب يقضي بتفسيره حسبما يمليه العقل-ويكون ذلك عادة بفهم نصوصه على أنها رموز أو استعارات. ويقول إرجينا في هذا: "إن السلطان يُستمد أحياناً من العقل ولكن العقل لا يُستمد أبداً من السلطان، ذلك بأن كل سلطان لا يرضى عنه العقل السليم يبدو ضعيفاً، ولكن العقل السليم لا يحتاج إلى تأييد السلطان أياً كان نوعه لأنه يستند إلى قوته"(49). ويجب ألا يحتج بآراء آباء الكنيسة... إلا إذا كان لا بد لنا من الاحتجاج بآرائهم لتقوية حججنا أمام الناس الذين لا يحسنون الاستدلال، ولهذا يخضعون للسلطان لا للعقل"(50). فها هو ذا عصر العقل يتحرك في أرحام عصر الإيمان.
ويعرف جون الطبيعة بأنها: "اسم عام يطلق على جميع الأشياء التي تكون وغير التي تكون" أي على جميع الأجسام، والعمليات، والمبادئ، والعلل، والأفكار. وهو يقسم الطبيعة إلى أربعة أنواع من الكائنات.
- (1) ذاك الذي يخلق ولكنه لا يُخلَق- أي الله.
- (2) ذاك الذي يُخلَق ويخلق- أي العلل الأولى، والمبادئ، والنماذج الأولى، والأفكار الأفلاطونية، والكلمة، وهي التي يتكون من عملياتها عالم الأشياء المفردة،
- (3) ذاك الذي يٌخلَق ولا يخلق- أي عالم الأشياء المفردة السالفة الذكر،
- (4) ذاك الذي لا يخلق ولا يُخلَق- أي الله بوصفه الغاية النهائية التي تستوعب كل شيء. فالله هو كل شيء كائن بحق؛ لأنه يكوّن الأشياء وجميعها ويتكون من الأشياء جميعها". وليس ثمة عملية خلق في وقت بذاته، لأن هذا القول يتضمن تغيراً في الله. فإذا سمعنا أن الله قد أوجد كل شيء-، فيجب ألا نفهم من هذا القول إلا أن الله حال في كل شيء- أي يوجد بوصفه جوهر كل الأشياء"(51).
"والله نفسه لا يدركه عقل من العقول، وليس الجوهر المكنون لكل شيء والذي خلقه الله مما يمكن إدراكه، وكل الذي نراه هو الأعراض لا الجوهر"(52)- أي صور الأشياء التي تدركها الحواس والعقول لا حقائقها التي لا تعرف ولا يمكن معرفتها-كما يقول كانت Kant فيما بعد. وليست الخصائص المحسوسة في الأشياء متأصلة في الأشياء نفسها، وإنما تتكون من الأشياء التي ندركها بها. فإذا قيل لنا إن الله يرغب، ويحب ويختار، ويرى، ويسمع... فيجب ألا نفكر إلا في أن حقيقته وقوته اللتين لا يستطاع وصفهما يُعَبَّر عنهما بمعان تتفق معنا في طبيعتها"- أي موائمة لطبيعتنا، "حتى لا يجد المسيحي الحق التقي ما يقوله عن الخالق، فلا يقول شيئاً عنه ليعلم به النفوس الساذجة"(53). ولمثل هذا الغرض لا لشيء سواه نستطيع أن نتحدث عن الله كأنه ذكر أو أنثى، وليس "هو" هذا ولا ذاك(54). فإذا فهمنا لفظ "الأب" بمعنى المادة الخلاّقة أو جوهر الأشياء جميعها، و"الابن" على أنه الحكمة الإلهية التي تتكون أو تحكم بمقتضاها الأشياء كلها، والروح على أنه الحياة أو حيوية الخلق، إذا فهمنا هذه الثلاثة على هذا النحو جاز لنا أن نفكر في الله على أنه ثالوث. وليست الجنة والنار مكانين، بل هما أحوال النفس، فالنار هي الشقاء المنبعث من الخطيئة، والجنة هي السعادة المنبعثة من الفضيلة والنشوة المنبعثة من الرؤيا الإلهية (إدراك الألوهية) التي تتكشف من الأشياء جميعها للنفس التقية(55). وليست جنة عدن مكاناً على الأرض، بل هي حالة كهذه من حالات النفس(56). والأشياء جميعها خالدة: فللحيوانات أيضاً، كما للآدميين، نفوس تعود إلى الموت بعد الله أو إلى الروح الخالق الذي انبعثت منه(57). والتاريخ كله إن هو إلا فيض من عملية الخلق إلى الخارج عن طريق الانبعاث، وموجة مدية لا تغلب نحو الداخل تجذب الأشياء جميعها في آخر الأمر إلى الله.
لقد وجدت فلسفات شر من هذه الفلسفة وفي عصور النور، ولكن الكنيسة حسبتها تموج بالإلحاد والزندقة. ولهذا طلب نقولاس الأول إلى شارل الأصلع في عام 865 إما أن يبعث بجون إلى روما ليحاكم أو أن يفصله من مدرسة القصر، "حتى لا يستمر في تسميم الذين يسعون لطلب الخبز"(58). ولسنا نعرف نتيجة هذا الطلب، غير أن إنجليزياً من أهل مالمزبري Malmsbury يروي "أن جوهان اسكوتس جاء إلى إنجلترا وإلى ديرنا، كما تقول الأخبار، وأن الأولاد الذين يعلمهم كانوا يَشُكوُّنه بأقلامهم الحديدية"، وأنه مات من أثر هذا العمل. وأكبر الظن أن هذه القصة حلم من أحلام تلميذ كان يتمنى تحقيقه. ولقد تأثر بإرجينا فلاسفة من أمثال جلبرت، وأبلار، وجلبرت ده لابوريه على غير علم منهم، غير أنه بوجه عام قد نسي في غمار الفوضى الضاربة أطنابها في ذلك العصر المظلم. ولما أن رفع ستار النسيان عن كتابة في القرن الثالث عشر حكم مجلس سنس Sens بتحريمه (1225) وأمر البابا هونوريوس Honorius الثالث بأن ترسل نسخة جميعها إلى روما وأن تحرق فيها.
ووقف الفن الفرنسي في هذه الأوقات المضطربة جامداً لا يتحرك، فقد ظل الفرنسيون يشيدون كنائسهم على نظام الباسلقا رغم ما ضربه لهم شارلمان من أمثلة. وفي عام 966 أصبح أحد الرهبان والمهندسين الإيطاليين ويدعى وليم من أبناء فلبيانو Volpiano رئيساً لدير فيكامب F(camp النورماني. وقد جاء معه من إيطاليا بكثير من أساليب الطراز النورماني والرومانسي، ويبدو أن أحد تلاميذه هو الذي بنى دير جوميج Jumi(ges الكنسي (1045-1067)؛ وفي عام 1042 دخل رجل إيطالي آخر يدعى لانفرانك Lanfranc الدير النورماني في بك Bec، وسرعان ما جعله مركزاً علمياً نشطاً، يهرع إليه طلاّب بلغوا من الكثرة ما اضطر القائمين عليه إلى إضافة أبنية جديدة له. وقد خطط لانفرانك هذه الأبنية، ولعله قد استعان على تخطيطها بمن هم أكثر منه خبرة بهذا العمل. ولم يبق حجر واحد من حجارة هذا البناء، ولكن دير الرجال في جائن Abbaye aux Hommes at Gaen (1077-1081) لا يزال قائماً غلى اليوم يشهد بقوة الطراز الرومانسي الذي تطور في نورماندي على أيدي لانفرانك ومن جاء بعده.
وشيدت في القرن الحادي عشر كنائس جديدة في جميع أنحاء فرنسا وفلاندرز، زينها الفنانون بصور الجدران وبنقوش الفسيفساء والتماثيل. وكان شارلمان قد أمر بأن يطلى داخل الكنائس ويلون ليستفيد من ذلك المؤمنون؛ وزينت قصور آخن وأنجلهيم بالمظلمات، وما من شك في أن كثيراً من الكنائس قد حذت حذو هذه القصور. وقد دمرت آخر قطع من مظلمات آخن في عام 1944، ولكن نقوشاً شبيهة بما كان على جدرانها لا تزال باقية في كنيسة سان جرمان St, Germain في أوكسير. ولا تختلف هذه النقوش في شكلها عن النقوش التي تزدان بها مخطوطات ذلك العصر ولا عن طرازها أو حجمها.
وقد كتب رهبان مدينة تور في عهد شارل الأصلع نسخة ضخمة ملونة من الكتاب المقدس وأهدوها إلى الملك، ولا تزال هذه النسخة محفوظة في قسم المخطوطات اللاتينية بالمكتبة الأهلية بباريس تحت رقم 1. وأجمل من هذا المخطوط إنجيل "لوثير" الذي كتبه في ذلك الوقت رهبان تور أيضاً. كذلك أخرج رهبان ريمس في هذا القرن التاسع كتاب تراتيل "أوترخت Utrecht" الذائعة الصيت-وبتأليف هذا المخطوط من 108 ورقة من الجلد الرقيق ويحتوي على مزامير داود وعقيدة الرسل مزدانة بكثير من صور الحيوانات على اختلاف أنواعها وبعدد لا يحصى من الأدوات وصور المهن والأعمال. وتصطبغ هذه الصور الحية بصبغة من الواقعية الشديدة بدلت فن التصوير الدقيق الذي كان من قبل جامداً مستمسكاً بالتقاليد.
نشأة الأدواق 987-1066
وبرزت فرنسا التي كان يحكمها هيو كابت (987-996) فأصبحت وقتئذ أمة منفصلة عن غيرها، ولم تعد تعترف بسيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة عليها، ولم تعد قط إلى أوربا الغربية الوحدة التي وهبها إياها شارلمان اللهم إلا فترة قصيرة في أيام نابليون وهتلر. ولكن فرنسا التي كانت في أيام هيو كابت لم تكن فرنسا القائمة في أيامنا هذه؛ فقد كانت أكتين وبرغندية دوقيتين مستقلتين بالفعل، وظلت بورين بعدئذ سبعة قرون جزءاً من ألمانيا. وكانت فرنسا في ذلك الوقت موطناً أجناس مختلفة ولغات متعددة: فكانت فرنسا الشمالية فلمنكية أكثر منها فرنسية، وكان في دمها عنصر ألماني كبير؛ وكان سكان نورماندي من الشماليين، وكانت بريطانيا كلتيه غير ذات صلة بسائر البلاد، يسيطر عليها لاجئون من بريطانيا؛ أما بروفانس فكانت في جنس أهلها ولغتهم "ولاية" رومانية غالية، كذلك كانت فرنسا المجاورة لجبال البرانس قوطية، وقطالونيا الخاضعة من الوجهة الرسمية للملكية الفرنسية قوطية أيضاً كما يدل على ذلك اسمها "قطالونيا". وكان نهر اللوار يقسم فرنسا إلى إقليمين، مختلفين في الثقافات واللغات. وكان العمل الذي اضطلعت به الملكية الفرنسية هو مزج الأجناس واللغات المختلفة، لينشئوا من أكثر من عشر شعوب أمة واحدة؛ ولقد تطلب هذا العمل ثمانمائة عام.
وأراد هيو كابت أن يهيئ الظروف لوراثة للعرش منظمة، فتوج ابنه ربرت ملكاً معه في السنة الأولى من حكمه ويعد "ربرت التقي" (996-1031) من الملوك الأوساط غير المبرزين(60)، ولعل سبب اشتهاره بهذه المكانة الوسطى أنه كان يتجنب مجد الحروب. مثال ذلك أنه لما قام النزاع بينه وبين هنري الثاني إمبراطور ألمانيا بشأن الحدود عقد اجتماعاً معه وتبادل وإياه الهدايا، ووصل معه إلى اتفاق سلمي. وكان ربرت رءوفاً بالضعفاء والفقراء يحميهم قدر استطاعته من الأقوياء غير ذوي الضمير، ومثله في هذا كمثل لويس التاسع، وهنري الرابع، ولويس السادس عشر. وقد أغضب الكنيسة بزواجه من برثا Bertha ابنة عمه (998)، وصبر على الحرمان وعلى سخرية الذين كانوا يعدونها ساحرة، ولكنه انفصل عنها آخر الأمر وعاش بعدئذ بائساً حزيناً إلى آخر أيام حياته. ويحدثا المؤرخون أن الناس حزنوا عليه أشد الحزن عند مماته(61)، وشبت نار حرب للوراثة بين ولديه، انتصر فيها هنري الأول (1031-1060) أكبرهما، ولكنه لم ينل النصر إلا بمعونة ربرت دوق نورماندي. ولما انتهى هذا الصراع الطويل (1031-1039) كانت المملكة قد وصلت إلى درجة من الفقر في المال والرجال لم تقو معها على منع تقطع أوصالها بفعل النبلاء الأقوياء المستقلين.
وانقسمت فرنسا حوالي عام 1000 م، بفعل كبار الملاك الذين كانوا يضمون إليهم تدريجياً ما يحيط بهم من الأراضي إلى سبع إمارات كبرى يحكم كلا منها كونت أو دوق. وهذه الأقسام هي أكتين، وطلوشة، وبرغندية، وأنجوا، وشمبانيا، وفلاندرز، ونورمندية. وكان هؤلاء الأدواق أو الكونتات في جميع الحالات تقريباً ورثة زعماء أو قواد منحهم الملوك المروفنجيون أو الكارلونجيون ضياعاً جزاء لهم على خدماتهم الحربية أو الإدارية. وكان الملك قد أصبح يعتمد على هؤلاء الكبراء في تجييش الجيوش وحماية ولايات الحدود؛ ولم يكن بعد عام 888 يسن القوانين للمملكة جميعها، أو يجبي منها الضرائب، بل كان الأدواق والكونتات يسنون القوانين، ويجبون الضرائب، ويشنون الحروب، ويفصلون في القضايا ويعاقبون، ويكادون يكونون سادة مستقلين في ضياعهم، لا يدينون للملك إلا بولاء أسمى، ولا يؤدون له إلا خدمة عسكرية ذات نطاق محدود. واقتصرت سلطة الملك في وضع القوانين، والفصل في القضايا، وفي الشئون المالية، على ضياعه الملكية الخاصة، وهي التي سميت فيما بعد جزيرة فرنسا lle de France وتشمل إقليمي الساءون والسين الأوسط الممتدين من أورليان إلى بوفيه ومن تشاتر إلى ريمس.وتقدمت نورمندية دون سائر الدوقيات المستقلة استقلالاً نسبياً بأن نمت نمواً سريعاً إلى أقصى حدود السرعة في قوتها وسلطانها، فلم يمض عليها قرن واحد بعد تسليمها لأهل الشمال حتى أصبحت أكثر ولايات فرنسا مغامرة ومخاطرة-ولعل السبب في ذلك هو قربها من البحر وموقعها بين إنجلترا وباريس. وكان أهل الشمال وقتئذ مسيحيين متحمسين للمسيحية، لهم أديرة ومدارس أديرة، وكانوا يتناسلون باستهتار ما لبث أن دفع شبابا النورمنديين إلى إنشاء ممالك جديدة من الولايات القديمة. ذلك أن بحارة الشمال كانوا حكاماً أقوياء لا يبالون بالمبادئ الأخلاقية ولا راعون في الوصول إلى أغراضهم ضميراً، ولكنهم قادرون على أن يحكموا بيد من حديد شعباً مشاكساً، مضطرباً، مكوَّناً من الغاليين والفرنجة، والشماليين. ولم يكن ربرت الأول (1028-1035) قد أصبح بعد دوقا لنورمندية حين وقعت عينه في عام 1026 على هارلت Harlette ابنة دباغ في فاليز Falaise. فلما رآها أضحت عشيقته العزيزة جرياً على إحدى السنن الدنمرقية القديمة، وسرعان ما أنجبت له ولداً يعرف عند معاصريه باسم وليم النغل William the Bastard وعندنا نحن باسم وليم الفاتح William the Conqueror. ولما اشتد على ربرت وخز ضميره لكثرة ما ارتكب من الذنوب غادر نورمندية في عام 1035 ليحج حجة التوبة إلى أورشليم، واستدعى قبل سفره أكابر الأعيان ورجال الدين وقال لهم:
"أقسم بديني أني لن أترككم دون أن أولي عليكم سيداً؛ إني لي إبناً نغلاً سيكبر بفضل الله، وإني لقوي الرجاء في أن يكون من أحسن الناس صفات، ورجائي أن تقبلوه سيداً عليكم؛ وليس يهمكم قط أنه لم يولد من زواج شرعي فهذا لن يؤثر في قدرته على الحكم... أو في توزيع العدالة بين الناس. وهأنذا أعينه وارثاً لعرشي، وأخلع عليه من هذه اللحظة دوقية نورمندية بأكملها(62).
وتوفي ربرت في طريق إلى أورشليم، وحكم الأشراف وقتاً ما بالنيابة عن ابنه. ولما شبت فتنة في البلاد تحاول خلعه أخمدها بوحشية ممزوجة بالكرامة، فقد كان رجلاً يجمع بين الدهاء والبسالة، بعيد النظر في وضعه خطط المستقبل، ملاكاً لأصدقائه، وشيطاناً على أعدائه. وكان يسمع تهكم الناس على مولده ويقبل هذا التهكم بصدر رحب، وكان من حين إلى حين يمضي بعض ما يكتب باسم وليم النغل Guiielmus Nethus؛ ولكنه حين حاصر ألنسون Alencon وعلق المحاصرون الجلود على جدرانهم إشارة إلى حرفة جده قطع أيدي من وقع في يديه من الأسرى وأرجلهم، وفقأ أعينهم، وقذف المدينة من مجانيقه بهذه الأعضاء. وأعجبت نورمندية بوحشيته وحكمه الصارم، وعمها الرخاء. فقد حد وليم من استغلال الأشراف للفلاحين، وأرضى أولئك الأشراف بالعطايا السنية، وكان يعني عناية الأتقياء الصالحين بواجباته الدينية، وجلل أباه العار بإخلاصه لزوجته إخلاصاً لم يسبق له مثيل، وقد أولع بحب ماتلدة Matilda الجميلة ابنة بلدوين Baldwin كونت فلاندرز، ولم يؤثر فيه أن لها ولدين وزوجاً لا يزال على قيد الحياة وإن كان منفصلاً عنها. غير أنها ردت وليم وكالت له الإهانات وقالت "إنها تفضل أن تكون راهبة محجبة على أن تتزوج بنغل"(63)؛ ولكنه لم يرجع عن حبها، ونالها آخر الأمر وتزوجها رغم تشهير رجال الدين؛ وترتب على ذلك أن جَرَّدَ الأسقف مالجر Malger والأب لانفرانك رئيس الدير لأنهما ذما هذا الزواج، وحرق في صورة غضبه جزءاً من دير بك. ثم أقنع لانفرانك البابا نقولاس الثاني بأن يصادق على الزواج، وأراد وليم أن يكفر عما فرط منه فبنى في جائن دير الرجال النورمندي الذائع الصيت، وبفضل هذا الزواج ارتبط وليم بكونت فلاندرز، وكان قد وقع قبل ذلك الوقت في عام 1048 اتفاقاً مع ملك فرنسا. وبعد أن حمى جناحيه بهاتين الوسيلتين وزينهما شرع وهو في التاسعة والثلاثين من عمره في فتح إنجلترا.