قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 4 ب 18

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 4962

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> العصور المظلمة -> العالم البيزنطي -> هرقل


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الرّابع: العصور المظلمة 566 - 1095: الباب الثامن عشر: العالم البيزنطي 565-1095

الفصل الأول: هرقل

إذا حولنا الآن نظرنا من الجانب الشرقي للنزاع الدائم بين الشرق والغرب، شعرنا من فورنا بالعطف على دولة عظيمة تنتابها محنتان في وقت واحد: تمزقها الانقسامات في الداخل، ويهاجمها الأعداء من جميع الجهات في الخارج. فقد كان الآفار والصقالبة يعبرون نهر الدانوب ويستولون على أراضي الإمبراطورية وبلدانها، وكان الفرس يستعدون لاجتياح آسية الغربية؛ وخسر القوط الغربيون أسبانيا، واستولى اللمبارد بعد ثلاث سنين من موت جستنيان على نصف إيطاليا (568). وفشا الطاعون في جميع أنحاء الإمبراطورية في عام 542 وعاد إليها مرة أخرى في عام 566؛ وعمتها المجاعة في عام 569؛ وعطلت الحروب، والهمجية، والفقر، وسائل الاتصال، ووقفت في سبيل التجارة، وقضت على الآداب والفنون.

وكان لفاء جستنيان أباطرة أولى قوة وكفاية، ولكن المشاكل التي واجهتهم لم يكن في وسع أحد أن يتغلب عليها إلا رجال من طراز نابليون يتلو بعضهم بعضاً مدى قرن كامل دون انقطاع. وقاتل جستنين الثاني (565-578) الفرس الساعين إلى التوسع قتال الأبطال؛ ولم تكد الآلة تضن على تيبيريوس الثاني بكل ما لديها من الفضائل، ولكنها اختصرته بعد حكم عادل قصير. وهاجم موريق الآفار الغزاة بشجاعة ومهارة، ولكنه لم يلق من الأمة إلا قليلاً من التأييد، فقد كان آلاف من أبنائها يدخلون الأديرة فراراً من الخدمة العسكرية؛ ولما أن نهى الموريق الأديرة عن قبول أعضاء جدد فيها إلا بعد زوال الخطر عن الدولة نادى الرهبان بسقوطه. وتزعم قوقاس الذي عمر مائة عام ثورة قام بها الجيش والعامة على الأشراف والحكومة (602)، وذبح أبناء موريق الخمسة أمام عينيه؛ وأبى الإمبراطور الشيخ على مربية أصغر أبنائه أن تنجيه من القتل بأن تستبدل ابنها هي به؛ فلما قطع رأسه علقت الرؤوس الستة لتتمتع بها أعين الشعب وألقيت جثثهم في البحر. وذبحت الإمبراطورة قسطنطينة، وبناتها الثلاث، وكثير من الأشراف، وكان مقتلهم مصحوباً في العادة بضروب من التعذيب، بعد محاكمة أو بغير محاكمة، فسملت أعينهم، واقتلعت ألسنتهم من أفواههم، وبترت أطرافهم، وارتكبت الفظائع التي تكررت فيما بعد أثناء الثورة الفرنسية. وأفاد كسرى الثاني من هذا الاضطراب، وجدد الحرب القديمة حرب الفرس واليونان، وعقد قوقاس الصلح مع العرب، ونقل الجيش البيزنطي كله إلى آسية، ولكن الفرس هزموه في كل واقعة التقوا بها فيها، واستولى الآثار على جميع الأراضي الزراعية الواقعة خلف القسطنطينية إلا قليلاً منها، دون أن يلقوا مقاومة، واستغاث أشراف العاصمة بهرقل إمبراطور أفريقية اليوناني، ودعوه لينقذ الإمبراطورية وينجي أملاكهم. لكنه اعتذر محتجاً بكبر سنه، وأرسل إليهم ابنه. وجهز هرقل الأصغر عمارة بحرية، جاء بها إلى البسفور.


وخلع قوقاس، وعرض جثة للمغتصب المبتورة الأطراف أمام الشعب، ونودي به إمبراطوراً (610).. وكان هرقل خليقاً باسمه ولقبه، فقد شرع بعزيمة سميه الهرقل الأسطوري يعيد تنظيم الدولة المحطمة، وقضى عشر سنين يعمل لإحياء روح الشعب المعنوية، ويعيد قوة الجيش، وينظم موارد الخزنة، ووهب الأرض الزراع على شريطة أن يؤدي أكبر أبناء الأسرة الخدمة العسكرية. وفي هذه الأثناء استولى الفرس على أورشليم (614)، وتقدموا إلى خلقدون (615)؛ ولم ينقذ عاصمة الدولة وأوربا إلى الأسطول البيزنطي. ولم يمض بعد ذلك إلا قليل حتى زحفت جحافل الآفار على القرن الذهبي، وأغاروا على أرباض العاصمة، وقبضوا على آلاف من اليونان واتخذوهم أرقاء. وكانت نتيجة خسارة الأراضي الخصبة الواقعة خلف القسطنطينية مضافة إلى خسارة مصر أن انقطعت واردات الحبوب على المدينة، وأرغمت الحكومة على قطع إعانات الغذاء عن الأهلين (618)، وفكر في هرقل في يأس أن ينقل جيشه إلى قرطاجنة، وأن يأمل منها استرجاع مصر. ولكن الأهلين والقساوسة منعوه من المسير، ورضي البطريق سرجيوس أن يقرضه ثروة الكنيسة اليونانية بفائدة، ليمول بها حرباً مقدسة يستعيد بها أورشليم(3). ولهذا تصالح هرقل مع الآفار ثم زحف آخر الأمر لقتال الفرس. وكانت الحروب التي أعقبت هذا الزحف آيات في التفكير والتنفيذ. فقد واصل هرقل الحرب على أعدائه ست سنوات، هزم فيها كسرى عدة مرات، وحاصر في أثناء غيابه جيش من الفرس، وجحافل من الآفار، والبلغار والصقالبة مدينة القسطنطينية (626)؛ فسير هرقل جيشاً هزم الفرس في خلقدون، ومزقت حامية العاصمة وعامتها بتحريض البطريق جحافل البرابرة. ودق هرقل أبواب طيسفون، وسقط كسرى الثاني، وطلبت فارس الصلح، وردت كل ما كان كسرى قد استولى عليه من الإمبراطورية اليونانية، وعاد هرقل ظافراً إلى القسطنطينية بعد أن غاب عنها سبع سنين.

ولم يكن هرقل خليقاً بمصيره الذي جلله العار في سن الشيخوخة. فبينما هو يبذل ما بقي لديه من نشاط في إصلاح شئون الإدارة بعد أن هد المرض قواه إذا انقضت قبائل العرب على بلاد الشام (634)، وهزمت جيشاً يونانياً منهوك القوى، واستولت على بيت المقدس (638)، ثم استولت على مصر بينما كان الإمبراطور يعاني سكرات الموت (641). وكانت فارس وبيزنطية قد جرت كلتاهما الخراب على الأخرى بحروبها العوان. وواصل العرب انتصاراتهم في أيام قنسطانس Constans الثاني (642-668)؛ وظن قنسطانس أن لا نجاة للإمبراطورية، فقضى آخر سني حياته في الغرب ثم قتل في سرقوسة. وكان ابنه قسطنطين الرابع بجنونوتس Pognonotus أقدر منه أو أسعد حظاً. ولما أن حاول المسلمون مرة أخرى في خلال السنين الخمس الحاسمة (673-678) أن يستولوا على القسطنطينية أنقذت أوربا "التار الإغريقية" التي ورد ذكرها وقتئذ لأول مرة. وكان هذا السلاح الجديد، الذي يعزى اختراعه إلى كلسنيوس Calcinius السوري من نوع قاذفات اللهب المستخدمة في هذه الأيام، فهو مزيج حارق من النفط، والجير الحي، والكبريت، والزفت، يلقي على سفن العدو أو جيوشه في سهام ملتهبة، أو يصب عليها من أنابيب، أو يقذف في صورة كرات من الحديد مغطاة بالكتان ونسالته المغموسة في الزيت، أو يوضع في قوارب صغيرة وتشعل وتوجه إلى العدو. وأفلحت الحكومة البيزنطية في الاحتفاظ بسر هذا المزيج مدى قرنين من الزمان، وكان إفشاؤه يعد خيانة للوطن وإثماً دينياً؛ غير أن المسلمين كشفوا آخر الأمر هذا السر، واستخدموا "النار الإسلامية" في حرب الصليبيين. وظل هذا السلاح أكثر ما يتحدث عنه الناس في العصور الوسطى في العالم كله إلى أن اخترع البارود.


وهاجم المسلمون العاصمة اليونانية مرة أخرى في عام 717، فعبر جيش من العرب والفرس عدته ثمانون ألف مقاتل بقيادة مسلمة مضيق البسفور عند أبيدوس وحاصر القسطنطينية من خلفها. ثم جهز العرب في الوقت نفسه عمارة بحرية مؤلفة من ألف وثمانمائة سفينة، كانت على ما نظن من السفن الصغيرة، ودخلت هذه العمارة البحرية البسفور، وكانت تظلل المضيق، على حد قول أحد الإخباريين، كأنها غابة متحركة. وكان من حسن حظ اليونان وقتئذ أن جلس على عرش الإمبراطورية في هذه الأزمة، بدل ثيودوسيوس Theodosius الثالث الضعيف العاجز، قائد محنك هو ليو "الإسوري" Leo The Isaurian، وشرع ينظم وسائل الدفاع، فوزع قطع الأسطول البيزنطي بمهارة وحنكة، وتأكد من أن كل سفينة قد زودت بكفايتها من النار الإغريقية؛ فلم يمض إلا القليل من الوقت حتى اشتعلت النار في كل سفينة من سفن العرب، فلم تكد تبقى على واحدة منها. ثم هجم الجيش اليوناني على المحاصرين، وانتصر عليهم نصراً حاسماً ارتد المسلمون على أثره إلى بلاد الشام.


الفصل الثاني: محطمو الصور والتماثيل الدينية

يستمد ليو الثالث لقبه من إقليم إسوريا Isauris في قليقية، ويقول ثيوفان Theophanes إنه ولد في هذا الإقليم من أبوين أرمنيين؛ ثم انتقل والده من هناك إلى تراقية، وأخذ يربي الضأن، وأرسل منها خمسمائة رأس مصحوبة بابنة ليو هدية منه إلى الإمبراطور جستنيان الثاني وأصبح ليو فيما بعد جندياً في حرس القصر، ثم قائداً لفيلق الأناضول، ثم اختاره الجيش إمبراطوراً، والجيش كما لا يخفى لا يرد له اختيار؛ وكان ليو رجلاً طموحاً، قوي الإرادة، مثابراً، صبوراً؛ وكان قبل اختياره للجلوس على العرش قد هزم عدة مرات جيوشاً إسلامية تفوق جيوشه؛ كما كان بعد ذلك سياسياً محنكاً، وهب الإمبراطورية الاستقرار الناشئ من التطبيق العادل للقوانين العادلة، وأصلح نظام الضرائب، وخفض من أعباء رقيق الأرض، ووسع نطاق الملكية الزراعية، ووزع الأراضي على الفلاحين وعمر الأقاليم المهجورة، وعاد النظر في القوانين، ووضعها على أساس إنشائي حكيم، ولم يكن يعيبه إلا سلطانه الأوتوقراطي. ولعله قد تشبعت نفسه وهو في صباه بآسية بفكرة رواقية متزمتة عن الدين سرت إليه من المسلمين، واليهود، والمانيين، واليعاقبة، ومن تعاليم القديس بولس، وكلها تذم عكوف جمهرة المسيحيين على عبادة الصور والتماثيل، والحرص الشديد على المراسم والطقوس، والاعتقاد بالخرافات. ولقد نهى العهد القديم في صراحة تامة (الآية الخامسة عشرة من الإصحاح الرابع من سِفر التثنية) المؤمنين على أن يضعوا: "تمثالاً منحوتاً صورة مثال ما شبه ذكر أو أنثى شبه بهيمة ما مما على الأرض... الخ". وكانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل وتعدها بقايا عن الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة. ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر في القسطنطينية والشرق الهلنستي، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية. ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين، نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم؛ فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور. ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب- حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة. وأطلق الشعب العنان لفطرته فحول الآثار، والصور، والتماثيل المقدسة، إلى معبودات، يسجد الناس لها، ويقبلونها، ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها، ويتوجونها بالأزهار، ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي. وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص، كانت ترى الصور المقدسة، في كل مكان- في الكنائس، والأديرة، والمنازل، والحوانيت-، وحتى أثاث المنازل، والحلي، والملابس نفسها لم تخل منها. وأخذت المدن التي تتهددها أخطار الوباء، أو المجاعة، أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية أو على ما فيها من الأولياء والقديسين بدل أن تعتمد على الجهود البشرية للنجاة من هذه الكوارث؛ وكم من مرة نادى آباء الكنيسة، ونادت مجالسها، بأن الصور ليست آلهة، بل هي تذكير بها فحسب(4)، ولكن الشعب لم يكن يأبه بهذه التفرقة.

وغضب ليو الثالث من هذا الإفراط في التدين من جانب الشعب. وخيل إليه أن الوثنية أخذت تغزو المسيحية وتتغلب عليها من جديد بهذه الوسيلة، وحز في نفسه ما كان يوجهه المسلمون، واليهود، والشيع المسيحية المنشقة من المطاعن للخرافات السائدة عند جماهير المسيحيين المتمسكين بدينهم. وأراد أن يضعف من سلطان الأساقفة على الشعب والحكومة، ويضمن تأييد النساطرة، واليعاقبة، فعقد مجلساً من الأساقفة، وأعضاء مجلس الشيوخ، وأذاع بموافقتهم في عام 726 مرسوماً يطلب فيه إزالة جميع الصور والتماثيل الدينية من الكنائس، وحرم تصوير المسيح والعذراء، وأمر بأن يغطى بالجص ما على جدران الكنائس من صور. وأيد بعض كبار رجال الدين هذا المرسوم، ولكن الرهبان وصغار القساوسة احتجوا عليه، وثار عليه الشعب، وهاجم المصلون الجنود الذين حاولوا تنفيذ القانون بالقوة، لأنهم قد روعهم وأثار غضبهم هذا التدنيس المتعمد لأعز رموز دينهم. ونادت قوات الثوار في بلاد اليونان وخلقيدية بإمبراطور آخر، وسيرت أسطولاً ليستولي على العاصمة. ودمر ليو هذا الأسطول، وزج زعماء معارضيه في السجون. وفي إيطاليا، التي لم تنمح منها في يوم من الأيام أساليب العبادات الوثنية، أجمع الشعب كله تقريباً على معارضة المرسوم؛ وطردت مدائن البندقية، ورافنا، وروما عمال الإمبراطورية، واجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا جريجوري الثاني وصب اللعنة على محطمي الصور والتماثيل المقدسة دون أن يذكر اسم الإمبراطور. وانضم بطريق القسطنطينية إلى الثائرين، وحاول بانضمامه إليهم أن يعيد إلى الكنيسة الشرقية استقلالها عن الدولة؛ فما كان من ليو إلا أن خلعه من منصبه (730)، ولكنه لم يعتد عليه، وبلغ من رأفة الإمبراطور في تنفيذ المرسوم أن ظلت معظم الكنائس إلى يوم وفاته في عام 741 تحتفظ بمظلماتها وفسيفسائها سليمة.

وسارا ابن قسطنطين الخامس (741-775) على نهجه ولقبه المؤرخون المعادون له بذلك اللقب الظريف "كبرونيموس Copronymus" (المشتق من الدبال). وجمع الإمبراطور الجديد مجلساً من أساقفة الشرق في القسطنطينية (754)، حرم عبادة الصور والتماثيل، ووصفها بأنها عمل "ممقوت"، وقال إن "الشيطان قد أعاد عبادة الأوثان إلى سابق عهدها عن طريق عبادتها". ولعن "الفنان الجاهل الذي يشكل بيديه النجستين ما لا يصح أن يؤمن به الناس إلا بقلوبهم(5)، وأمر بأن يمحى ويدمر كل ما في الكنائس من صور وتماثيل. ونفذ قسطنطين هذا القرار بلا كياسة أو اعتدال، فسجن من قاومه من الرهبان أو ساط عليهم ألوان العذاب، فسلمت الأعين، واقتلعت الألسنة، وجدعت الأنوف مرة أخرى، وعذب البطريق وقطع رأسه (767). وفعل قسطنطين الخامس ما فعله هنري الثامن فيما بعد، فأغلق أديرة الربان والراهبات، وصادر أموالها، وحول مبانيها إلى أغراض غير دينية، ووزع أرضها على محاسبيه. وجمع عامل الإمبراطورية في إفسوس، بموافقة الإمبراطور، رهبان الولاية وراهباتها، وأرغم الرهبان على أن يتزوجوا الراهبات وإلا قتلهم جميعاً(6). وظل هذا الاضطهاد يجري في مجراه خمس سنين (763-771).

وأرغم قسطنطين ابنه ليو الرابع (775-780) على أن يقسم بالجري على خطة تحطيم الصور والتماثيل السالفة الذكر. وفعل ليو ما مكنته من فعله بنيته الضعيفة؛ ولما حضرته الوفاة اختار ابنه قسطنطين السادس البالغ من العمر عشر سنين إمبراطوراً (780-797)، ورشح أرملته إيريني وصية على العرش حتى يبلغ ولده القاصر سن الرشد. وحكمت إيريني الإمبراطورية بمهارة وقوة مجردة من الضمير. وكانت تعطف على مشاعر الشعب الدينية وعلى بنات جنسها، فأنهت في هدوء عهد تنفيذ المرسوم الخاص بتحطيم الصور والأصنام، وسمحت للرهبان أن يعودوا إلى أديرتهم ومنابرهم، ودعت رجال الدين في العالم المسيحي إلى مجمع نيقية الثاني (787)، حيث أعاد 350 من الأساقفة، بزعامة مندوبي البابا، تعظيم الصور المقدسة-لا عبادتها-وقالوا إنها تعبير مشروع عن التقي والإيمان المسيحيين. وبلغ قسطنطين السادس سن الرشد في عام 790؛ ولما رأى أن أمه لا ترغب في أن تتخلى له سلطانها خلعها ونفاها من البلاد وسرعان ما ندم هذا الشاب ظريف على فعلته، فأعادها إلى بلاطه، وأشركها معه في حكم الإمبراطورية (792)؛ فلما كان عام 797 عملت على سجنه وفقء عينيه، ثم حكمت الدولة بعدئذ بوصفها "إمبراطوراً" لا إمبراطورة. وظلت خمس سنين تصرف شئون الإمبراطورية بحكمة ودهاء، فخفضت الضرائب، ووزعت الهبات على الفقراء، وأنشأت المؤسسات الخيرية، وجملت العاصمة. وأحبها الشعب ورحب بها، ولكن الجيش قد ساءه أن تحكمه امرأة أقدر من معظم الرجال. وخرج عليها في عام 802 محطمو الصور والتماثيل، وخلعوها، ونادوا بنقفور وزير ماليتها إمبراطوراً. واستسلمت إيريني لمصيرها في هدوء، ولم تطلب إلى الإمبراطور أكثر من ملجأ أمين يليق بمقامها، فوعدها أن يجيب طابعها، ولكنه نفاها إلى لسبوس، وتركها تكسب قوتها القليل بالاشتغال بالخياطة حتى ماتت بعد تسعة أشهر من ذلك الوقت، لا تكاد تجد درهماً أو صديقاً. وعفا رجال الدين عن جرائمها لتقواها، ورفعتها الكنيسة إلى مقام القديسين.


الفصل الثالث: نظرة عامة في أحوال الإمبراطورية 802- 1057

إذا أردنا أن نلقي نظرة شاملة على الحضارة البيزنطية نقدرها بها تقديراً صادقاً تطلب منا ذلك أن نلم بتاريخ كثير من الأباطرة وبعض الإمبراطورات- ولسنا نقصد بذلك ما دبروه ودبرنه من دسائس القصور، والثورات، والاغتيالات، بل نقصد سياستهم، وتشريعاتهم، وجهودهم الطويلة لحماية الإمبراطورية المتناقصة الرقعة من هجمات المسلمين في الجنوب، والصقالبة والبلغار في الشمال. وتمثل هذه الصورة من بعض نواحيها البطولة الصادقة: فقد حافظت الإمبراطورية خلال ظروف تاريخها، وتقلباته، ومن ظهر على عرشها ومن اختفى عنه من أشخاص، على القسط الأكبر من التراث اليوناني: احتفظت بالنظام الاقتصادي ثابتاً متصلاً، وظلت الحضارة قائمة كأن من ورائها دافعاً قوياً غير منقطع من الجهود القديمة لبركليز وأغسطس، ودقلديانوس، وقسطنطين. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فهي صورة موسية لقواد يرقون إلى السلطة الإمبراطورية على أشلاء منافسيهم، ثم لا يلبثون أن يقتلوا مثلهم، ولمظاهر الأبهة والترف، والعيون المسمولة، والأنوف المجدوعة، والبخور والقتل والغدر، ومن أباطرة وبطارقة لا ضمير لهم يناضلون ليقرروا هل تحكم الإمبراطورية القوة أو الأساطير، السيف أو الكلام. وهكذا نمر بنقفور الأول (802- 811) وحروبه مع هارون الرشيد، وميخائيل الأول (811- 813) وقد ثل عرشه وجز شعره لأن البلغار هزموه، وليو الخامس الأرمني (813- 820) الذي حرم مرة أخرى عبادة الصور والتماثيل والذي اغتيل وهو ينشد ترنيمة للكنيسة، وميخائيل الثاني (820- 829) الأمي "المتلجلج" الذي عشق راهبة وحمل مجلس الشيوخ على أن يتوسل إليه أن يتزوجها(7)، وثيوفيلس (829- 842) المشترع المصلح، والملك البناء، والإداري الحي الضمير الذي أحيا سنه اضطهاد محطمي التماثيل وقضى عليه الزحار، وأرملته ثيودورا التي حكمت البلاد نيابة عنه حكماً قديراً (842- 856) وأنهت عهد الاضطهاد، وميخائيل الثالث "السكّير" (842- 867) الذي أسلم الإمبراطورية بعجزه اللطيف إلى أمه أولاً ثم إلى قيصر بارداس Caesar Bardas عمه المثقف القدير بعد وفاتها. ثم تظهر على المسرح على حين غفلة شخصية فذة لم تكن منتظرة تخرج على كل سابقة عدا سابقة العنف، وتؤسس الأسرة المقدونية القوية.

فقد ولد باسل المقدوني (862؟) بالقرب من هدريانوبل Hadriaople من أسرة أرمنية من الزراع. وأسره البلغار وهو صغير وقضى شبابه بينهم وراء الدانوب في البلاد التي كانت وقتئذ معروفة باسم مقدونية، ثم فر منهم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، واتخذ سبيله إلى القسطنطينية واستأجره أحد رجال السياسة ليكون سائساً لخيوله لأنه أعجب بقوة جسمه وضخامة رأسه. وصحب سيده في بعثة إلى بلاد اليونان، وهناك استلفت نظر الأرملة دنيليس Danielis وحصل على بعض ثروتها. ولما رجع إلى العاصمة روض جواداً جموحاً يملكه ميخائيل الثالث، فأدخله الإمبراطور في خدمته. وظل يرتقي فيها حتى صار رئيس التشريفات وإن لم يكن يعرف القراءة والكتابة. وكان باسيل على الدوام قديراً فما يوكل إليه من الأعمال، سريع الاستجابة لها؛ فلما أن طلب ميخائيل زوجاً لعشيقته، طلق باسيل زوجه القروية، وأرسلها إلى تراقية مع بائنة طيبة، وتزوج يودوسيا Eudocia التي ظلت في خدمة الإمبراطور. وهكذا حبا ميخائيل باسيل بعشيقته، ولكن المقدوني ظن أنه يستحق العرش جزاء له على فعلته، فأقنع ميخائيل بأن بارداس يأتمر به ليخلعه، ثم قتل بارداس بيديه الضخمتين (866)، وكان ميخائيل قد اعتاد من زمن طويل أن يملك دون أن يحكم فجعل باسيل إمبراطوراً وترك له جميع شئون الحكم. ولما هدده ميخائيل بعزله، دبر باسيل اغتياله وأشرف على هذا الاغتيال بنفسه، وانفرد هو بالإمبراطورية (867)، وهكذا كانت المناصب مفتحة الأبواب لذوي الكفاية حتى في عهد الملكيات الوراثية المطلقة، وهكذا أنشأ ابن الفلاح الأمي غير المثقف بتذلله وجرائمه أطول الأسر الحاكمة البيزنطية عهداً، وبدأ حكماً دام تسع عشرة سنة امتاز بالإدارة الحازمة، والقوانين الصالحة، والقضاء العادل، والخزانة الغاصة بالمال، وببناء الكنائس والقصور الجديدة في المدينة التي استولى عليها. ولم يكن أحد يجرؤ على معارضته؛ ولما أن مات بسبب حادث وقع له أثناء الصيد، انتقل الملك من بعده بهدوء غير معهود إلى ولده.

وكان ليو السادس (886- 912) مكملاً لما في أبيه من نقص: كان متعلماً، كثير القراءة، ميالاً لعدم الحركة، دمث الأخلاق؛ ويقول الثرثارون المغتابون أنه كان ابن ميخائيل لا ابن باسيل، ولعل يودوسيا نفسها لم تكن متأكدة من أبوته. ولم يكسب لنفسه لقب "الحكيم" بشعره ولا برسالته في الدين، والإدارة، والحرب، بل كسبه بإعادته تنظيم شئون الحكم الإقليمي والكنسي، وصياغة القوانين البيزنطية، وتنظيمه الدقيق للصناعة. ومع أنه كان تلميذاً للبطريق العالم فوتيوس Photius معجباً به، وكان هو نفسه خاشعاً تقياً، فقد هز مشاعر رجال الدين، وسلى الشعب، بأربع زيجات، ماتت منها الأوليان دون أن تنجبا أبناء؛ وأصر ليو على أن يكون له ولد لأن هذا هو السبيل الوحيدة لوقاية الدولة من حرب الوراثة، وحرمت المبادئ الأخلاقية الدينية للكنيسة الزواج الثالث، وأصر ليو على رأيه، وتَوَّجت زوي Zoe زوجته الرابعة إصراره بولد.

وسمى قسطنطين السابع (912- 958) البرفيروجنتس- "المولود الأرجون"- أي في الشقة المبطنة بالبرفيري المخصصة لأن تستخدمها الإمبراطورات الحاملات. وقد ورث عن أبيه ذوقه الأدبي، ولكنه لم يرث عنه كفايته الإدارية. وألف لابنه كتابين في فن الحكم: أحدهما في ولايات الدولة وثانيهما كتاب في الاحتفالات يصف فيه ما يطلب إلى الإمبراطور من المراسم وآداب اللياقة. وأشرف على جمع مؤلفات في الزراعة، والطب، والطب البيطري، وعلم الحيوان، ووضع "تاريخاً للعالم مستمداً من المؤرخين" بجمع مختارات من كتب المؤرخين والإخباريين، وازدهرت الآداب البيزنطية بفضل تشجيعه ومناصرته، ولكنه كان ازدهار على طريقتها المصقولة الهزيلة.

وربما كان رومانوس الثاني (958- 963) كغيره من الأطفال يقرأ كتب أبيه. وقد تزوج بفتاة يونانية تدعى ثيوفانو Theophano؛ وظن أنها دست السم لحميها وعجلت موت رومانوس؛ وقبل أن يموت زوجها البالغ من العمر أربعاً وعشرين سنة أغوت إلى أحضانها القائد الزاهد نقفور الثاني فوقاس، واغتصب القائد العرش وغضت هي النظر عن ذلك الاغتصاب. وكان نقفور قد أخرج المسلمين من حلب وإقريطش (كريت) (961)، ثم أخرجهم من قبرص في عام 965، ومن إنطاكية في عام 968، وكانت هذه الانتصارات هي التي زلزلت أركان الخلافة العباسية. وطلب نقفور إلى البطريق أن يعد كل من يقتلون من الجنود في حرب المسلمين بكل ما يوعد به الشهداء من جزاء وتكريم؛ ولكن البابا لم يجبه إلى طلبه بحجة أن جميع الجنود قد دنسوا من قبل بما أراقوه من الدماء، ولو أنه فعل لكان محتملاً أن تبدأ الحروب الصليبية قبل بدايتها الحقيقية بمائة عام. وفقد نقفور مطامعه وآوى إلى قصره ليعيش فيه معيشة المتعبدين الزاهدين. وتضايقت ثيوفانو من هذه الحياة الشبيهة بحياة الأديرة فاتخذت لها خليلاً القائد تزيميسيس Tzimisces. وقتل هذا القائد نقفور (969) واستولى بعد قتله على العرش وغضت النظر عن هذا الجرم، ولكن القتل ندم على فعلته، ونبذ خليلته، ونفاها من البلاد، وخرج هو ليكفر عن جرائمه بانتصارات وقتية غير حاسمة على المسلمين والصقالبة.

وكان الإمبراطور الذي خلفه على العرش من أقوى الشخصيات في تاريخ بيزنطية. وقد ولد باسيل الثاني لرومانوس وثيوفانو في عام 958، وكان إمبراطورا بالاشتراك مع نقفور فوقاس وتزيميسيس، ثم بدأ (976) وهو في الثامنة عشرة من عمره حكماً منفرداً دام خمسين عاماً. واكتنفته في بداية الحكم المتاعب من كل جانب: فأخذ كبير وزرائه يأتمر به ليغتصب عرشه، وأمد سادة الإقطاع الذين اعتزم أن يفرض عليهم الضرائب المتآمرين عليه بالمال، وخرج عليه بارداش اسكلروس Badas Sclerus قائد جيش الشرق، فأخمد بارداس فوقاس ثورته، ثم عمل هذا القائد المنتصر على أن يختاره جنوده إمبراطوراً، وكان المسلمون وقتئذ يستردون معظم ما استولى عليه منهم تزيميسيس في بلاد الشام، وبلغت قوة البلغار أوجهاً، وأخذوا يعتدون على بلاد الإمبراطورية من الشرق والغرب. وقلم باسيل أظفار الفتنة، واسترد أرمينية من المسلمين، وحطم قوة البلغار بعد حرب طاحنة دامت ثلاثين عاماً. وبعد أن تم له النصر على البلغار في عام 1014 وسمل عيون 15.000 أسير، ولم يترك إلا عيناً واحدة لكل مائة واحد منهم ليقود هذه الجموع المنكودة في عودتها إلى صمويل قيصر البلغار، وأطلق عليه اليونان اسم قاتل البلغار (بلغاراكتونوس Bulgaroctonus) ولعل ذلك كان منهم رهبة له لا إعجاباً له. ووجد بين هذه الحروب وقتاً يشن فيه حرباً شعواء على "الذين أثروا على حساب الفقراء". فحاول بما سنه من القوانين في عام 996 أن يجزئ بعض الضياع الكبيرة ويشجع انتشار الفلاحين الأحرار. وكان يوشك أن يقود حملة بحرية على المسلمين في صقلية حين وافته المنية وجاءه وهو في الثامنة والستين من عمره. ولم تبلغ الإمبراطورية منذ أيام هرقل ما بلغته في أيامه من السعة، ولم يكن لها منذ عهد جستنيان مثل ما كان لها في عهده من القوة.

ودب الضعف مرة أخرى في جسم الإمبراطورية في عهد أخيه الشيخ قسطنطين الثامن (1025- 1028). ولم يكن لقسطنطين هذا من الأبناء إلا ثلاث بنات، فأقنع رومانوس أرجيروس Romanus Arguros أن يتزوج زوي Zoe كبراهن، وكانت سنها وقتئذ قرب من الخمسين. وحكمت زوي بمساعدة أختها ثيودورا الدولة بوصفها نائبة عن الإمبراطور طوال عهد رومانوس الثالث (1028- 1034)، وميخائيل الرابع (1034- 1042)، وميخائيل الخامس (1042)، وقسطنطين التاسع (1042- 1055)؛ ولم تشهد الإمبراطورية قبل أيامها حكماً أصلح من حكمها. فقد شنت الأختان حرباً شعواء على الفساد في الدولة والكنيسة، وأرغمتا الموظفين على أن يردوا ما اغتصبوه من الأموال؛ ومن هؤلاء واحد كان رئيس وزراء رد إلى الدولة 5300 رطل من الذهب (2.226.00 ريال أمريكي) كان قد خبأها في حوض ماء، ولما أن مات البطريق ألكسيس Alexis، وجد في حجراته مخبأ يحتوي مائة ألف رطل من الفضة (27.000.000 ريال أمريكي)(9). ووقف بيع المناصب الحكومية فترة قصيرة، وجلست الأختان زوي وثيودورا قاضيتين في أعلى محكمة في الدولة، ووزعتا العدالة الصارمة بالقسطاس المستقيم. ولم يكن أحد يضارع زوي في نزاهتها؛ من ذلك أنها تزوجت قسطنطين التاسع وهي في الثانية والستين من عمرها، وكانت تعرف أن براعتها في تزيين نفسها بالأصباغ لا تكاد تحتفظ لها إلا بالشيء القليل من جمالها الظاهري، سمحت لزوجها الجديد أن يأتي بعشيقته اسكلرينا لتعيش معه في القصر الإمبراطوري. واختار الإمبراطور حجراته بين حجراتهما، ولم تكن زوي تزوره قط إلا بعد أن تتأكد أنه بمفرده(10). ولما ماتت زوي (1050)، آوت ثيودورا إلى دير للراهبات، وحكم قسطنطين التاسع بعد ذلك خمس سنين رعى فيها الحكمة وسلامة الذوق؛ فاختار لمعاونته رجالاً من ذوي الكفاية والثقافة، وأعاد تجميل كنيسة أيا صوفيا، وشاد المستشفيات والملاجئ للفقراء، وناصر الآداب والفنون. ولما مات (1055) تزعم أنصار الأسرة المقدونية ثورة شعبية أخرجت العذراء ثيودورا من مأواها في الدير، وتوجتها على الرغم منها إمبراطورة. وحكمت مع وزرائها الدولة حكماً صالحاً حازماً على الرغم من أنها كانت وقتئذ في الرابعة والسبعين من عمرها؛ ولكنها ماتت في عام 1065 ميتة مفاجئة.

ضربت الفوضى على أثر موت ثيودورا أطنابها في البلاد، فنادى الأشراف بميخائيل السادس إمبراطوراً، ولكن الجيش فضل عليه القائد اسحق كمنينوس، وكانت معركة واحدة كافية لحسم النزاع، فنرهب ميخائيل، ودخل كمنينوس العاصمة في عام 1075 إمبراطوراً . وهكذا قضى على الأسرة المقدونية بعد حكم دام مائة وتسعين عاماً، كان قوامه العنف، والحرب، والزنى، والتقي، والإدارة الممتازة.

واعتزل اسحق كمنينوس الملك بعد عامين، ورشح له خلفاً له قسطنطين دوكاس Constantine Ducas، وآوى هو إلى دير. ولما توفي قسطنطين (1076) حكمت أرملته يودوسيا الدولة أربع سنين بوصفها إمبراطورة بالنيابة، ولكن مطالب الحرب كنت تحتاج إلى قائد أعظم منها قوة، وأشد حزماً، ولهذا تزوجت رومانوس الرابع وتوجته إمبراطوراً. وهزم الأتراك رومانوس عند ملاذكرد (1071)، فعاد إلى القسطنطينية يجلله العار؛ ثم خلع، وسجن، وسملت عيناه، وترك ليموت من جروجه التي لم يعتن بها أحد. ولما جلس على العرش كمنينوس الأول (1081) ابن أخي اسحق كمنينوس خيل إلى العالم أن الإمبراطورية البيزنطية موشكة على الانهيار، فقد استولى الأتراك على بيت المقدس (1076) وأخذوا يزحفون على آسية الصغرى، وكانت قبائل البتزيناك Patzinak والكومان Cuman تقترب من القسطنطينية إلى الشمال، والنورمان يهاجمون الحصون البيزنطية الأمامية في البحر الأدرياوي. وكان لجيش والحكومة يفت في عضدهما الخيانة، والعجز، والفساد، والجبن. وواجه ألكسيوس ذلك الموقف بشجاعة ودهاء، فوجه عملاءه إلى إيطاليا الخاضعة للنورمان ليثيروا بها الفتن، ومنح البندقية ميزات تجارية على أن تعينه بأسطولها على النورمان، وصادر كنوز الكنيسة ليعيد بها إنشاء الجيش، ونزل إلى ميدان القتال بنفسه، وانتصر في عدة معارك بفضل مهارته في الفنون الحربية لا بما سفكه من الدماء، ووجد بين هذه المشاغل الخارجية وقتاً استطاع أن يعيد فيه تنظيم الدولة ووسائل الدفاع عنها، ووهب بهذا كله الإمبراطور المتداعية حياة دامت مائة عام أخرى. فلما كان عام 1095 لجأ إلى حيلة دبلوماسية بارعة كان لها أثر بعيد. ذلك أنه استغاث بالغرب لمساعدة الشرق المسيحي، وعرض في مجلس بياسنزا أن تعود الكنيستان اليونانية واللاتينية إلى الاتحاد نظير اتحاد أوربا ضد المسلمين؛ وكانت هذه الاستغاثة هي وغيرها من العوامل التي أطلقت أولى تلك الحروب المسرحية المعروفة بالحروب الصليبية، والتي قدر لها أن تنقذ بيزنطية ثم تقض آخر الأمر عليها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: الحياة في بيزنطية (566-1095)

وصلت الإمبراطورية اليونانية مرة أخرى في بداية القرن الحادي عشر إلى ما كانت عليه من القوة والثروة والثقافة في أوج مجدها أيام جستنيان، وذلك بفضل ما كان للأسرتين الإسورية والمقدونية من قوة حربية وحنكة سياسية، فانتزعت من المسلمين آسية الصغرى، وبلاد الشام الشمالية، وقبرص، ورودس، وخلقيدية، وإقريطش (كريت)؛ وعاد جنوبي إيطاليا فأصبح بلاد اليونان الكبرى Manga Grecia تحكمه القسطنطينية، واستُرِدَّت بلاد البلقان من البلغار والصقالبة، وسيطرت التجارة والصناعة البيزنطيتان مرة أخرى على أسواق بلاد البحر المتوسط، وانتصر المذهب المسيحي اليوناني في البلقان وروسيا، وأخذ الفن والأدب اليونانيان يستمتعان بنهضة مقدونية جديدة، وبلغ إيراد الدولة في القرن الثالث عشر، ما يوازي 2.400.000.000 دولار من نقود هذه الأيام(11).

وكانت القسطنطينية نفسها في أوج عزها، تفوق روما القديمة والإسكندرية وتضارع بغداد وقرطبة المعاصرتين لها في التجارة والثروة، والترف والجمال، والرقة والفن. وكان معظم سكانها البالغ عددهم نحو مليون من الأنفس(12) من الأسيويين والصقالبة-الأرمن، والكبدوكيين، والسوريين، واليهود، والبلغار، واليونان أنصاف الصقالبة، يمتزج بهم ويلونهم تجار وجنود من الإسكنديناويين، والروس، والطليان، والمسلمين؛ وتغشيهم طبقة رقيقة من الأشراف اليونان. وكان في داخل الإطار الخارجي المكون نصفه من الذهب ونصفه من الوحل، والذي تدور فيه الحياة المنتجة الخصيبة في العاصمة البيزنطية ألف نوع ونوع من المنازل-ذا السقوف الهرمية والسطوح أو القباب-ذات شرفات، وبوائك، وحدائق أو عرائش؛ وأسواق غاصة بحاصلات العالم كله، وألف شارع وشارع ضيق موحل تحف به المساكن والحوانيت، وكثير من الشوارع الواسعة تكتنفها القصور الفخمة، والأروقة الظليلة، مليئة بالتماثيل تتخللها أقواس النصر؛ وتتصل المدينة بالريف من خلال أبواب محروسة في أسوار حصينة؛ وقصور ملكية معقدة كقصر ثيوفيلس ذي الثلاثة أجنحة، وقصر باسيل الأول الجديد، وقصر نقفور فوقاس الريفي المؤدي بدرج من الرخام إلى رصيف تقوم عليه التماثيل على شاطئ بحر مرمرة؛ وكنائس "بعدد ما في السنة من أيام" كما يقول أحد الرحالة"، بعضها تحف فنية غاية في الإبداع، ومذابح تضم أثمن ما في العالم المسيحي من مخلفات وأكثرها تعظيماً وإجلالاً؛ وأديرة لا يستحي من فيها من فخامة مظهرها، تضطرب من داخلها بالقديسين ذوي الكبرياء، وكنيسة أيا صوفيا التي تجدد زينتها على الدوام، تتلألأ فيها الشموع والمصابيح، مثقلة بالبخور؛ رائعة المناظر المهيبة، تتردد في جنباتها الترانيم الرنانة التي لا تترك شكاً في النفوس.

وكان في داخل قصور الأشراف وكبار التجار في المدينة، وبيوت الريف المقامة في مؤخرتها على شاطئ البحر، كل ما يستطيع ذلك العصر أن يصل إليه من مظاهر الترف والزينة التي لا تحرمها العادات والتقاليد السامية: رخام من كل صنف ولون، وصور على الجدران وفسيفساء، وتماثيل وخزف جميل، وسجف تنزلق على عصى من الفضة، وأقمشة مصورة على الجدران، وطنافس، وحرائر، وأبواب مطعمة بالفضة والعاج، وصحائف من الفضة والذهب؛ في هذه البيئة يتحرك المجتمع البيزنطي، رجال ونساء حسان الوجه والقوام، عليهن أثواب من الفراء والحرير الجميل اللون الموشي بالمخرمات، لا ينقصن في رشاقتهن، ومغامراتهن الحبية، ودسائسهن عن أهل باريس وفرساي في عهد آل بوربون. ولم تعرف النساء قبل ذلك العهد مساحيق أبهى أو عطوراً أذكى أو جواهر أثمن أو تصفيفاً للشعر أجمل مما عرفته نساء ذلك العصر. وكانت النار تبقى متقدة في القصور الإمبراطورية طوال أيام العام لتطبخ عليها العطور التي يتطلبها تعطير الملكات والأميرات(13). ولم تكن الحياة في أي وقت من الأوقات السابقة أكثر زينة وأشد تكلفاً، وأكثر حفلات، واستقبالات، ومناظر؛ وألعاباً، واستمساكاً بالمراسم، وأشد مراعاة لآداب اللياقة منها في ذلك الوقت. وكان الأرستقراط المتأصلون في أرستقراطيتهم إذا خرجوا إلى مضمار السباق، أو وجدوا في بلاط الإمبراطور، يتباهون بأثوابهم الجميلة، وإذا ساروا في الطرق العامة اندفعوا بعرباتهم الفخمة لا يبالون بالراجلين الفقراء فكسبوا بذلك عداوتهم، وقد بلغوا من الأبهة ما استحقوا من أجله لعنة رجال الدين الذين كانوا يخدمون الله في آنية وعلى مذابح من الرخام، والمرمر، والفضة، والذهب. ويقول ربرت الكلاري Robert of Clari إن القسطنطينية في ذلك الوقت كانت تحوي على "ثلثي ثروة العالم كله"، "وحتى العامة أنفسهم" كما يقول بنيمين التطيلي "من السكان اليونان وكأنهم كلهم أبناء ملوك"(15).

ووصفها أحد كتاب القرن الثاني عشر فقال: "إذا كانت القسطنطينية تفوق سائر المدن في ثرائها، فإنها تفوق هذه المدن أيضاً في رذائلها"(16). ذلك أن جميع رذائل المدن الكبرى قد وجدت لها مكاناً فيها بين أغنيائها وفقرائها على السواء. فالقسوة الوحشية والتقوى كانتا تتبادلان الاستحواذ على نفوس الأباطرة، وفي نفوس العامة كان يمكن التوفيق بين الحاجة الشديدة إلى لدين ومفاسد السياسة والحرب أو عنفهما، وظل إخصاء الأطفال لاتخاذهم خصياناً في بيوت الحريم وأعمال الإدارة، واغتيال المطالبين بالعرش أو الذين يخشى أن يكونوا مطالبين به أو سمل عيونهم، ظلت هذه الجرائم تسير سيرها خلال حكم الأسر المختلفة، وخلال التغيرات الرتيبة المملة التي لا تنقطع. وكانت جماهير الشعب التي أفسدت نظامها وسخرتها الانقسامات العنصرية، والطائفية، والدينية، كانت هذه الجماهير متقلبة لا يقر لها قرار، متعطشة للدماء، تضطرب وتثور من آن إلى آن، ترشوها الدولة بوجبات الطعام المكونة من الخبز والزيت والخمر بلا ثمن؛ ويسيلها سباق الخيل ومصارعة الوحوش، والرقص على الحبال، والتمثيليات الصامتة الفاحشة البذيئة في الملاهي، والمراكب الإمبراطورية أو الكنسية في الشوارع. وكانت قاعات الميسر لا يخلو منها مكان، وتكاد بيوت العاهرات توجد في كل شارع، بل كانت في بعض الأحيان "تلاصق أبواب الكنائس"(17). واشتهرت نساء بيزنطية بدعارتهن وورعهن، كما اشتهر رجالها بحدة الذكاء والطموح والتجرد من الضمير. وكانت كل الطبقات من سكانها تؤمن بالسحر، والتنجيم، والتنبؤ بالغيب، والعرافة، والاتصال بالشياطين، والتمائم ذات القوة المعجزة. وكانت الفضائل الرومانية القديمة قد اختفت حتى قبل اختفاء اللغة اللاتينية. وقضى على الصفات الرومانية واليونانية سيل من الشرقيين فقدوا هم أيضاً مبادئهم الأخلاقية، ولم يستعيضوا عنها إلا بالألفاظ الجوفاء. ومع هذا فإن الكثرة الغالبة من الرجال والنساء في هذا المجتمع المتطرف في دينه وشهواته كانوا مواطنين ومؤدبين وآباء محتشمين يسكنون بعد لهو الشباب إلى حياة الأسر وما فيها من متع وأحزان، ويؤدون الأعمال الدنيوية وهم كارهون. وهؤلاء الأباطرة الذين كانوا يسملون عيون منافسيهم يغدقون الصدقات على المستشفيات وملاجئ الأيتام، والعجزة، ونزل المسافرين المجانية(18). وكانت طبقة الأشراف، التي يخيل إلى الناس أن الترف والراحة ديدنها وشغلها الشاغل كل يوم، تضم مئات من الرجال يقبلون على أعمال الإدارة والسياسة بغيرة يختلط بها الطمع في الكسب ولإنشاء، واستطاعوا بطريقة ما، وبالرغم مما يتعرضون له من الانقلابات وما يحاك حولهم من الدسائس، أن ينقذوا الدولة من كل كارثة تلم بها، وأن يقيموا فيها نظاماً اقتصادياً أغدق عليها من الرخاء أكثر ما شهده العالم المسيحي في العصور الوسطى.

وكانت البيروقراطية التي أنشأها دقلديانوس وقسطنطين قد صارت في مدى سبعة قرون أداة قوية فعّالة في إدارة شئون الحكم: وصلت إلى كل إقليم من أقاليم الدولة. وكان هرقل قد استعاض عن تقسيم الدولة القديم إلى ولايات تقسيمها إلى وحدات عسكرية على رأسها حاكم عسكري (استراتيجوس Strategos)، وكان هذا التقسيم وسيلة من مائة وسيلة عدلت بها الأنظمة البيزنطية لمواجهة الغزو الإسلامي. واحتفظت الوحدات الجديدة بقسط كبير من الحكم الذاتي وعمها الرخاء تحت إشراف الإدارة المركزية، فقد حباها هذا النوع من الحكم استمراراً في النظام دون أن يلقى على كاهلها العبء المباشر للنزاع والعنف اللذين كانت تضطرب بهما العاصمة؛ فبينما كانت العاصمة يحكمها الإمبراطور والبطريق، والغوغاء، كانت الوحدات العسكرية يحكمها القانون البيزنطي. وبينما كانت البلاد الإسلامية توحد بين القانون والدين، وبينما كان غرب أوربا يتعثر في فوضى عدد كبير من قوانين القبائل الهمجية، كان العالم البيزنطي يعض بالنواجد على نطاق جستنيان ويوسع نطاقه، فكانت قوانين جستين الثاني Jutslsn ll وهرقل "الجديدة"، والقوانين "المختارة" التي سنها ليو الثالث والمراسيم الملكية التي نشرها ليو السادس، وقوانين هذا الإمبراطور الجديدة الأخرى، كانت كل هذه قد كيفت مجموعات قوانين جستنيان كي تتفق مع الحاجات المتغيرة لقرون خمسة. ووهبت كتب القوانين العسكرية، والكنسية، والبحرية، والتجارية، والريفية، الأحكام القضائية في الجيش والكنيسة، والأسواق والثغور، والضياع، والبحار، نظاماً وثقة بين الناس، وجعلتها خليقة بأن يعتمد عليها؛ وكانت مدرسة القانون في القسطنطينية في القرن الحادي عشر المركز الثقافي للشئون غير الدينية في العالم المسيحي. وهكذا احتفظ البيزنطيون بأعظم ما وهبته لهم روما-ألا وهو القانون الروماني-خلال ألف عام من الأخطاء والتغييرات، حتى إذا ما بعث بعثاً جديداً في بولونيا Bologna في القرن الثاني عشر أحدث انقلاباً عظيماً في القانون المدني لأوربا اللاتينية والقانون الكنسي للكنيسة الرومانية. وكان القانون البحري البيزنطي الذي سنه ليو الثالث والمستمد من الأنظمة البحرية لرودس القديمة أول مجموعة من القوانين التجارية في العالم المسيحي في العصور الوسطى؛ وقد أصبح في القرن الحادي عشر مصدراً لقوانين أخرى من نوعه في جمهوريتي تراني Trani وأملفي Amalfi الإيطاليتين، ومن هذا الطريق سرى إلى التراث القانوني في عصرنا الحاضر.

أما القانون الريفي فكان محاولة صادقة جديرة بالثناء للوقوف في وجه الإقطاع وإنشاء طبقة من الفرحين الأحرار. فقد وهب هذا القانون قطعاً صغيرة من الأرض إلى الجنود المتقاعدين؛ وكانت أرض واسعة من أملاك الدولة يزرعها الجند على أن يكون عملهم فيها نوعاً من الخدمة العسكرية، وكانت مساحات واسعة تزرعها الطوائف الخارجة على الدين المنقولة من آسية إلى تراقية وبلاد اليونان. وكانت أقاليم أوسع رقعة من هذه وتلك تستقر فيها جماعات البرابرة، ترغمهم على ذلك الحكومة أو تبسط حمايتها عليهم لأنها ترى أن وجودهم في داخل الإمبراطورية أقل خطورة من وجودهم في خارجها؛ وعلى هذا النحو استقر القوط في تراقية وإليريا، واللمبارد في بانونيا، والصقالبة في تراقية ومقدونية وبلاد اليونان؛ ولم يستهل القرن الحادي عشر حتى كان الجنس الصقلبي هو الجنس الغالب في البلوبونيز، وحتى كثر عدد الصقالبة في أتكا وتساليا. وتعاونت الدولة والكنيسة على إنقاص عدد الأرقاء؛ فحرمت الشرائع الإمبراطورية بيع الأرقاء الذين ينضمون إلى الجيش أو رجال الدين أو يتزوجون من شخص حر. وكان عمل العبيد في القسطنطينية مقصوراً في الواقع على العمل في المنازل، أما في غيرها من المدن فكانت تجارة الرقيق رائجة.


بيد أن من قوانين التاريخ الصادقة الأكيدة التي لا تكاد تفترق عن قانون نيوتن في الجاذبية أن الملكيات الزراعية الكبيرة كلما تقاربت واتسعت رقعتها اجتذبت إليها الملكيات الصغيرة، وأنها بعد فترات من الزمن تجمع هذه الملكيات الصغيرة إلى ضياع كبيرة عن طريق الشراء أو غيره من الطرق؛ ثم لا يلبث هذا التركيز على مر الزمن أن يتفجر، فتوزع الأرض مرة أخرى عن طريق الضرائب أو الثورة، ثم تبدأ عملية التركيز من جديد. ولقد كانت معظم الأراضي الزراعية في بلاد الشرق البيزنطية ضياعاً واسعة يمتلكها كبار الملاك المعروفون باسم الديناتوي dynatoi أي "الرجال الأقوياء"، أو الكنائس، أو الأديرة، أو المستشفيات التي ينفق عليها من أرضين أوصى بها إليها الأتقياء الصالحون من الناس. وكانت هذه الأراضي يفلحها رقيق الأرض، أو فلاحون أحرار من الوجهة القانونية، ولكنهم مكبلون بالأغلال من الناحية الاقتصادية. وكان ملاك الأرض تحيط بهم بطانة من الموالي، والحراس، وعبيد المنازل، ويحيون حياة الترف المنعم في بيوت الريف أو قصور المدن. وترى ما في حياة أولئك الملاك من خير وشر في قصة السيدة دنييلس Damielis محسنة باسيل الأول. ذلك أنها حين جاءت لزيارته في القسطنطينية كان ثلاثمائة من العبيد يتناوبون على حمل هودجها الذي جاءت فيه من بتراس Patras. وحملت معها لمحسوبها الإمبراطوري هدايا أثمن مما بعث به ملك من الملوك إلى الإمبراطور البيزنطي: منها أربعمائة شاب، ومائة خصي، ومائة عذراء. ومنها أربعة قطعة من النسيج المنقوش نقشاً فنياً، ومائة قطعة أخرى من التيل الرفيع (تبلغ كل منها من الرقة درجة تسمح لها بأن توضع في عقلة غاب)، ومجموعة من صحاف المائدة مصنوعة من الفضة والذهب. وقد تخلت هذه السيدة في أثناء حياتها عن كثير من ثروتها، فلما دنت منيتها أوصت بما بقي لديها إلى ابن باسيل، ووجد ليو السادس أنه قد وُهب ثمانين بيتاً ومزرعة في الريف، وأكداساً من النقود والجواهر والصحاف والأثاث الثمين، والمنسوجات الغالية، وما لا يحصى من الماشية، وآلافاً من العبيد(19).

ولم يكن الأباطرة يسرون كل السرور بهذه الهدايا اليونانية؛ ذلك بأن هذا الثراء المجتمع من لحوم ملايين الناس ودمائهم كان يكسب أصحابه سلطاناً، وأنهم إذا اجتمعوا كانوا خطراً شديداً على أي ملك أو إمبراطوراً. ولهذا كان الأباطرة يعملون بدافع مصالحهم الشخصية وحب الإنسانية على وقف تركيز الثروة على هذا النحو. من ذلك أن شتاء 927-928 القارس قد أعقبه قحط ووباء، فباع الفلاحون أرضهم إلى كبار الملاك بأثمان منخفضة إلى أقصى حد، ومنهم من تخلى عنها نظير لقمة العيش. ولهذا أصدر رومانوس نائب الإمبراطور "مرسوماً جديداً" يندد فيه بالملاك ويصفهم بأنهم "أظهروا أنهم أشد قسوة من القحط والوباء"؛ وطالبهم بأن يردوا كل الأملاك التي ابتاعوها من أصحابها بأقل من نصف "الثمن المجزئ"؛ وأجاز لكل من باع أرضه أن يشتري في خلال ثلاث سنين ما باعه منها بالثمن الذي باعه به، ولكن هذا المرسوم لم تكن له نتيجة تستحق الذكر؛ وظل تركيز الملكية يجري في مجراه، وزاد الطين بلّة أن كثيرين من الفلاحين اضطرتهم الضرائب الباهظة إلى بيع أراضيهم والهجرة إلى المدن-إلى القسطنطينية إن استطاعوا-وإلى المعيشة من الإعانات الحكومية. وجدد باسيل الثاني النضال بين الأباطرة والأعيان، فأصدر في عام 996 مرسوماً يبيح للبائع أن يستعيد في أي وقت ما باعه من الأرض بالثمن الذي باعه به؛ وألغى عقود الأراضي التي استولى عليها الملاك بطريقة تخالف قانون عام 934؛ وأمر بأن تعود هذه الأراضي من فورها إلى ملاكها السابقين ومن غير ثمن. واستطاعت كثرة الملاك أن تحتال على التملص من هذه القوانين، ونشأ من ذلك في الشرق البيزنطي في أزمنة غير متصلة، قبل بداية القرن الحادي عشر، نظام معدل من أنظمة الإقطاع. ولكن جهود الأباطرة لم تذهب كلها أدراج الرياح، ذلك أن من بقوا من الزراع الأحرار مدفوعين بغريزة التملك قد غطوا الأرض بالمزارع، والبساتين، والكروم، والمناحل، والمراعي، ونشأت في ضياع كبار الملاك الزراعة العلمية إلى أقصى ما وصلت إليه في العصور الوسطى، وكان تقدم الزراعة البيزنطية بين القرن الثمن والقرن الحادي عشر يضارع تقدم الصناعة في تلك البلاد.

واصطبغت الإمبراطورية الشرقية في ذلك العصر بصبغة حضرية نصف صناعية تختلف كل الاختلاف عن الصبغة الريفية الغالبة على أوربا اللاتينية الواقعة في شمال جبال الألب، فكان عمال المناجم وصناع المعادن يعملون بجد في الكشف عن مناجم الرصاص؛ والحديد، والنحاس، والذهب واستغلالها. وكانت القسطنطينية ومائة مدينة غيرها-أزمير، وطرسوس، وإفسوس، ودورزو، وراجوسا، وبتراس، وكورنثة، وطيبة، وسلانيك، وهدريانوبل، وهرقلية، وسليميريا-تترد فيها أصوات دابغي الجلود، وصانعي الأحذية، والسروج، والأسلحة، والصياغ، وصناع الحلي، وطارق المعادن، والنجارين، والحفارين على الخشب، وصانعي العجلات، والخبازين، والصباغين، والنساجين، والفخرانيين، وصانعي الفسيفساء، والنقاشين. وكانت القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، في القرن التاسع مراكز للصناعة والتبادل التجاري تكاد تضارع في سرعة حركتها وجنونها أي حاضرة من الحواضر في هذه الأيام. وظلت العاصمة اليونانية، بالرغم من المنافسة الفارسية تتزعم العالم الأبيض في إنتاج المنسوجات الرفيعة والحريرية ويليها في هذا أرجوس، وكورنثة، وطيبة. ونظمت صناعة النسيج أحسن تنظيم، وكانت تستخدم كثيراً من العبيد، أما غيرها من الصناعات فكانت تستخدم صناعاً أحراراً. وكان صعاليك القسطنطينية وسلانيك يحسون بسوء حالهم، وكثيراً ما حاولوا القيام بثورات لم يوفقوا فيها. وكان أصحاب الأعمال الذين يستخدمونهم يؤلفون من بينهم طبقة وسطى كبيرة العدد، محبة للكسب، متصدقة، مجدة، ذكية، محافظة أشد المحافظة. وانتظمت الصناعات الكبرى بصنَّاعها، وفنَّانيها، ومديريها، وتجارها، ومحاميها، ورجال مالها في جماعات نقابية-سستماتا Sytemata-تحدرت من الجماعات القديمة المعروفة بالكوليجيا والأرتيس، وتشبه الوحدات الاقتصادية الكبيرة في الدول الحديثة ذات الصناعات الجماعية. وكانت كل جماعة نقابية منها تحتكر عملاً من الأعمال يتفق مع تكوينها، ولكنها كانت مقيدة أشد التقييد بأنظمة خاصة بمشترياتها، وبأثمانها، وبأساليب صناعتها، وشروط البيع؛ وكان مفتشون حكوميون يراقبون أعمالها وحساباتها، وكانت القوانين في بعض الأحيان تحدد أقصى الأجور. أما الصناعات الصغرى فكانت تترك للصناع الأحرار وللنشاط الفردي. وقد أفادت الصناعة البيزنطية من هذا نظاماً، ورخاء، واتصالاً، ولكن نظامها حال دون الابتكار والاختراع، ومال بها إلى الجمود وركود الحياة(20). وكانت الحكومة تشجع التجارة بتعضيدها، وبمراقبة الأهوسة، والموانئ وتنظيم التأمينات والقروض بضمان السفن، وتشن حرباً شعواء على القرصنة، وكانت العملة البيزنطية أكثر عملات أوربا ثباتاً. وكان للحكومة البيزنطية إشراف واسع شامل متغلغل في جميع الأعمال التجارية-فكانت تحرم تصدير بعض المواد والسلع، وتحتكر تجارة الحبوب والحرير، وتفرض عوائد على الصادرات والواردات، وضرائب على المبيعات(21). وكادت هي تدعو غيرها من الدول إلى أن تحل محلها في سيادتها التجارية القديمة على بحر إيجة والبحر الأسود بسماحها إلى التجار الأجانب-الأرمن، والسوريين، والمصريين، والأملفيين والبيزيين، والبنادقة، والجنويين، واليهود، والروس، والقطلانيين-بنقل معظم بضائعها هي، وبإنشاء وكالات شبه مستقلة في العاصمة أو بالقرب منها. وكان الربا مباحاً، ولكن القانون كان يحدد سعر الفائدة باثني عشر أو عشرة، أو ثمانية عشر في المائة، أو بأقل من ذلك في بعض الأحيان وكان رجال المصارف كثيري العدد، ولعل المرابين في القسطنطينية لا المرابين الطليان هم الذين أوجدوا نظام السفاتج القابلة للتحويل(22)، ووضعوا أوسع نظام للائتمان عرفه العالم المسيحي قبل القرن الثالث عشر.


الفصل الخامس: النهضة البيزنطية

ونشأ من كدح الشعب وحذقه، ومن أموال الأغنياء الزائدة على حاجتهم، إحياء عجيب للآداب والفنون في القرنين التاسع والعاشر. ذلك أن الدولة وإن ظلت إلى آخر أيام حياتها تسمى نفسها الدولة الرومانية، فإن ما فيها من العناصر اللاتينية إلا القليل منها كان قد اختفى كله تقريباً ما عدا القانون الروماني. فأضحت اللغة اليونانية في الشرق البيزنطي من أيام هرقل هي لغة الحكومة، والأدب، والشعائر الدينية، ولغة الحديث اليومي. وأصبح التعليم له يونانياً، وكان كل حر من الذكور، وكثير من النساء، بل وكثير من الأرقاء، يتلقى قدراً ما من التعليم؛ وأحيا قيصر بارداس Caesar Baradas (863) جامعة القسطنطينية التي تركت لتضمحل وتوت، كما تركت الآداب بوجه عام؛ خلال ما حدث من الأزمات في عهد هرقل؛ وذاعت شهرة هذه الجامعة بما كانت تدرسه من المناهج في فقه اللغة، والفلسفة، وعلوم الدين، والهيئة، والرياضة، والأحياء، والموسيقى، والآداب؛ وحتى ليبانيوس الوثني ولوشيان الكافر كانا متعلمين. وكان التعليم في العادة من غير أجر للطلاب ذوي المؤهلات، وكانت الدولة تتكفل بمرتبات المدرسين. وكثرت في البلاد دور الكتب العامة والخاصة، وظلت تحتفظ بروائع المؤلفات اليونانية والرومانية القديمة التي جر عليها النسيان ذيوله في الغرب المضطرب.

وكان انتقال التراث اليوناني في هذا النطاق الواسع منبهاً للعقول ومقيداً لها معاً. فقد كان من جهة مقوياً للتفكير وموسعاً لمداه، ومشجعاً على الخروج من أساليب البلاغة الوعظية الرتيبة القديمة؛ والجدول الديني. ولكن ثراءه نفسه كان عائقاً له من الابتكار، لأن الابتكار أيسر على الجاهل منه على المتعلم، وكان أهم ما تهدف إليه الآداب البيزنطية أن توائم النساء المثقفات ذوي الفراغ؛ والرجال المثقفين الذين لا يعملون. وكانت هذه الآداب هلنستية لا يونانية؛ ولهذا كانت تطفو على ظاهر الحياة البشرية ولا تتعمق إلى قلبها. وقد اقتصر التفكير بتأثير العادات التي كسبها في مراحله الأولى على دائرة المتمسكين بالدين القويم، وكان محطمو الصور والتماثيل الدينية أتقى من القساوسة وإن كان رجال الكنيسة في ذلك العهد شديدي التسامح إلى حد عجيب.

وشهدت الإسكندرية عصراً آخر من عصور النهضة العلمية شبيهاً بعصرها القديم أخذ فيه العلماء يحللون اللغة، ويبحثون ويلخصون في علم العروض، ويؤلفون الكتب المجملة، والتواريخ العالمية، ويجتمعون المعاجم والموسوعات والدواوين. ففيه (917) جمع قسطنطين كفالاس Constantine Cephalas الديوان اليوناني. وفيه (976) جمع سويداس معجمه الكبير الغزير المادة. وألف ثيوفانيس (حوالي 814) وليو الشماس (المولود في عام (950) تاريخين قيمين لأيامهما والأيام القريبة منها، وألف بولس الإيجيني Paul of Aegine (815-890) موسوعة في الطب جمعت بين نظريات المسلمين وتجاربهم وبين ما خلفه للعالم جالينوس وأرباسيوس Oribasius، وتتحدت بلغة تكاد تشبه لغة هذه الأيام عن جراحات لسرطان القلب، وعن البواسير، وعن قنطرة المثانة، واستخراج الحصاة منها، والإخصاء، ويقول بولس إن الإخصاء كان يحدث بطحن خصيتي الأطفال في حمام حار(23).

وكان أعظم العلماء البيزنطيين في هذه القرون الثلاثة معلماً خامل الذكر معدماً يدعى ليو السلانيكي (حوالي 850)، لم تأبه القسطنطينية لوجوده حتى دعاه أحد الخلفاء إلى بغداد. ذلك أن أحد تلاميذه أسره المسلمون في حرب من الحروب وأصبح عبداً لأحد عظماء المسلمين، وسرعان ما دهش هذا العظيم من علم هذا الشاب بالهندسة. وعرف المأمون خبره فأغراه بالاشتراك في نقاش مسائل هندسية في قصره. وأعجب الخليفة بعلمه، واستمع بشغف عظيم إلى ما قاله عن معلمه، وأرسل من فوره يدعو ليو إلى بغداد وإلى الثراء والجاه. واستشار ليو في ذلك موظفاً بيزنطياً، ثم استشار هذا الموظف الإمبراطور، ثيوفيلس، فأسرع هذا إلى تعيين ليو أستاذاً. وكان ليو ملماً بكثير من العلوم فكان يؤلف في الرياضة والهيئة، والتنجيم، والطب، والفلسفة ويعلمها. وعرض عليه المأمون عدة مسائل في الهندسة والهيئة وسُرّ من إجابته عنها سروراً جعله يعرض على ثيوفيلس صلحاً أبدياً وألفى رطل من الذهب إذ أعاره ليو غلى أجل قصير. ورفض ثيوفيلس هذا العرض وعين ليو كبيراً لأساقفة سلانيك لكي يبعده عن متناول يد المأمون(24).

وكان ليو، وفوتيوس Photius، وبسلوس Psellus كواكب ذلك العصر المنيرة. فأما فوتيوس (820؟-891) أعلم أهل زمانه فقد ارتقى في خلال ستة أيام من رجل عادي إلى بطريق، فكان بذلك من رجال التاريخ الديني، وأما ميخائيل بسلوس (1018؟-1080) فكان من رجال هذا العالم ومن حاشية الإمبراطور، مستشاراً للملوك والملكات، وكان فلتير عصره إلا أنه كان دمث الأخلاق مستمسكاً بالدين، وفي وسعه أن يبهر الناس في كل موضوع؛ ولكنه كان يرسو على قرار مكين بعد كل نقاش ديني وكل ثورة في القصر. ولم يكن يسمح بحب الكتب أن يطغى على حبه الحياة؛ وكان يعلم الفلسفة في جامعة القسطنطينية، ومنح فيها لقب أمير الفلاسفة؛ ثم دخل ديراً، فلما وجد حياة الأديرة أهدأ من أن تطاق عاد إلى الدنيا، وكان رئيساً للوزراء من 1071 إلى 1078؛ ووجد من وقته متسعاً للكتابة في السياسة، والعلوم، والنحو، واللاهوت، وفقه القانون، والموسيقى والتاريخ. ويسجل كتابه المعروف باسم كروتوغرافيا Chronographia أو سجل الزمان الدسائس والمخازي التي حدثت في مائة عام (976-1078) بصراحة، وحماسة وكبرياء (فقال عن قسطنطين التاسع إنه كان "رهين إشارة بسلوس"(25)). وها هي ذي فقرة من وصفه للثورة التي أعادت ثيودورا إلى العرش في عام 1055 نضربها مثلاً لما قلناه:

وكان كل (جندي في الجمع) مسلحاً: فكان واحداً منهم يحمل بلطة قصيرة اليد، وآخر يحمل بلطة حربية، وثالث يحمل قوساً، ورابع يحمل حربة. وكان بعض الغوغاء يحملون حجارة ثقيلة، وأخذوا جميعاً يهرولون في اضطراب عظيم... إلى مسكن ثيودورا... ولكنها لجأت إلى كنيسة صغيرة، وأصمت أذنيها عن سماع صياحهم. وترك الغوغاء النصح ولجئوا معها إلى العنف، فاستل بعض خناجرهم، وألقوا بأجسادهم على ثيودورا كأنهم يريدون أن يقتلوها، ثم اختطفوها بقوة من مأواها المقدس، وألبسوها ثياباً فخمة، وأركبوها جواداً، وأحاطوا بها، وقادوها إلى كنيسة أيا صوفياً، حيث قدم لها جميع السكان عظماؤهم وسوقتهم فروض الطاعة والولاء، ونادوا كلهم بها ملكة عليهم(26).

وتكاد رسائل بسلوس الشخصية تبلغ من السحر والبلاغة ما بلغته رسائل شيشرون، وكانت خطبه، وأشعاره، وكتبه حديث الناس في زمانه؛ وكانت ملحه الخبيثة ونكاته القاتلة حافزاً مثيراً وسط علم معاصريه الجم الثقيل. وإذا ما وازناه هو وفوتيوس وثيوفانيس بأبناء الكوين Alcuin، وبراباني Rabani وأبناء جربرت Gerbert الذين كانوا يعيشون في الغرب في أيامه، بدا هؤلاء وكأنهم ضعاف مهاجرون من الهمجية إلى بلاد العقل. وكان الفن أبرز نواحي النهضة البيزنطية. ذلك أن حركة تحطيم الصور والتماثيل الدينية قد حرمت في خلال الفترة الواقعة بين 726 و842 تمثيل الكائنات المقدسة بالنحت المجسم أو بالصور وإن كانت الثانية أقل صرامة منها في الأولى. ولكنها عوضت الفنان عن هذا التحريم بأن حررته من الاقتصار الممل على الموضوعات الكنسية، ونبهته إلى ملاحظة الحياة الدنيوية وتصويرها وتزيينها فقد اتخذ موضوعات لفنه بدل آلهة الأسرة الإمبراطورية والأشراف المناصرين لها، والحادثات التاريخية، ووحوش الغاب، ونبات الحقول وفاكهتها، وما يجري في البيوت من حوادث تافهة. وأنشأ باسيل الأولى في قصره النيا Nea أو الكنيسة الجديدة، وزينها كلها" على حد قول كاتب معاصر "باللآلئ الجميلة، والذهب، والفضة البراقة، والفسيفساء، والحرير، والرخام مما لا يحصى أنواعه"(27).

ومن أعمال القرن التاسع كثير من النقوش التي أزيح عنها الستار حديثاً في كنيسة أيا صوفيا. وقد أعيد بناء قبتها الوسطى في عام 975 بعد أن دمرها زلزال ثم وضعت فيها الصورة العظيمة المصنوعة من الفسيفساء والتي تمثل المسيح جالساً على قوس قزح، ثم وضعت فيها نقوش أخرى بالفسيفساء في عام 1028. وكانت هذه الكنيسة الضخمة تنبعث فيها الحياة الدائمة، كما تنبعث في الكائنات الحية، بموت أجزائها وتجديدها. واشتهرت أبوابها البرنزية التي وضعت فيها عام 838 بجمالها الممتاز شهرة جعلت ذوي الشأن يأمرون بأن تصنع في القسطنطينية أبواب مثلها لدير مونتي كازينو Monte Casino، وكنيسة أملفي، وباسلقا سان بولو القائمة في خارج أسوار روما. ولا يزال الباب الأخير ذو المصراعين المصنوع في القسطنطينية عام 1070 قائماً حتى الآن يشهد بعظمة الفن البيزنطي.

واكن القصر الملكي أو "القصر المقدس" الذي كانت النيا مُصَلاَّة مجموعة متزايدة من الحجرات، وأبهاء الاستقبال، والكنائس والحمامات، والأجنحة المنعزلة والحدائق، والدهاليز ذات العمد، والأبهاء. وقلّما جلس إمبراطور على العرش إلا أضاف إليه شيئاً جديداً وخلع ثيوفيلس على هذه المجموعة مسحة شرقية جديدة بأن أضاف إليها حجرة للعرش تعرف باسم التريكنكوس Triconchos وهو اسم مشتق من المحاريب الشبيهة بالأصداف والتي تكون ثلاثة من جوانبها- وذلك طراز أخذ من بلاد الشام وأدخل عليه بعض التحسين. وقد شاد في الجهة الشمالية من هذه الحجرة قاعة اللؤلؤة وفي الجهة الجنوبية منها عدة من الباياقا Beliaka أو حجرات الشمس، والكاملات وهي حجرات ذوات سقف من الذهب، وعمد من الرخام الأخضر، وفسيفساء غاية في الرونق تمثل على أرضية من الذهب رجالاً ونساءً يجمعون الفاكهة. وهذا النقش نفسه فقد فاقه نقش آخر على جدران بناء مجاور له يمثل بالفسيفساء الزرقاء أشجاراً بارزة من ورائها سماء من الفسيفساء الذهبية، وتفوقه كذلك أرض بهو التوافق الذي نحسبه مرجلاً مليئاً بالأزهار. وأطلق ثيوفيلس العنان لذوقه الغريب الشاذ وافتتانه بالعظمة إلى أقصى حدود الافتتان في قصره بمجنورا Magnaura، فقد كانت تشرف على العرش شجرة ذهبية تجثم على غصونها وعلى العرش نفسه طيور من الذهب، وترقد على جانبي المقعد الملكي حيوانات خرافية مجنحة ذهبية، وعلى الأرض آساد أقدامها تحت قدميه. فإذا ما مثل بين يديه سفير أجنبي قامت الحيوانات الخرافية، ووقفت الآساد الذهبية، وهزت أذيالها، وزأرت، وغنت الطيور أغاني آلية(28) وكانت هذه السخافات كلها صور مطابقة من مثيلاتها التي كانت في قصر هارون الرشيد ببغداد.

وكان المال الذي ينفق في تزيين القسطنطينية يجمع من الضرائب المفروضة على التجارة ومن الوحدات العسكرية في الدولة. ولكن ما بقي من هذا المال كان يكفي لتزيين عواصم الولايات زينة أقل من زينة العاصمة الكبرى. فقد قامت الأديرة، بعد أن أعاد إليها الثراء، فخمة كثيرة العدد، وعاد إليها ثراؤها: ففي القرن العاشر أنشئ دير لفرا Lavra ودير إفرون Iviron في آثوس Athos وفي القرن الحادي عشر أقيم دير دافني Daphni للراهبات بالقرب من اليوسيس Eleusis. وتعد فسيفساؤه التي لا تكاد تفترق عن الفسيفساء اليونانية والرومانية القديمة أجمل مثل للطراز البيزنطي الأوسط. واشتركت بلاد الكرج، وأرمينية، وآسية الصغرى في هذه الحركة، وأمست مراكز أمامية للفن البيزنطي. واستثارت المباني العامة في إنطاكية إعجاب المسلمين، وأنشئت في بيت المقدس كنيسة الضريح المقدس، ولما يمض على انتصارات هرقل إلا القليل؛ وفي مصر شاد الأقباط المسيحيون قبل الفتح العربي وبعد كنائس ذات قباب متواضعة في حجمها ولكنها مزدانة أجمل زينة فنية بكل ما وصل إلى أهلها من مصر الفرعونية، والبطليموسية، والرومانية، والبيزنطية من حذق في أشغال المعادن، والعاج، والخشب، والنسيج لم ينتقص منه شيء. وأخرج اضطهاد محطمي الصور والتماثيل آلاف الرهبان من الشام، وآسية الصغرى، والقسطنطينية إلى جنوبي إيطاليا حيث بسط عليهم البابوات حمايتهم؛ وبفضل هؤلاء اللاجئين، والتجار الشرقيين ازدهر الطراز المعماري والزخرفي البيزنطي في باري، وأترنتو، وبنفنتو، ونابلي، وروما نفسها. وظلت رافنا يونانية في فنها، وأخرجت في القرن السابع الفسيفساء الضخمة التي نشهدها في سانت أبولينارس St. Appolinaris في كلاس Glasse، وظلت سلانيك بيزنطية، وزينت كنيسة أيا صوفيا بصورة مقبضة للقديسين من الفسيفساء نحيلة كالقديسين الذين صورهم الجريكو El Greco.

وأخرجت النهضة البيزنطية في جميع هذه الأراضي والمدن، كما أخرجت في العاصمة نفسها، سيلاً من الروائع الفنية في الفسيفساء والنقش الدقيق، والفخار، والميناء، والزجاج، والخشب، والعاج، والبرونز، والحديد والجواهر، والأقمشة المنسوجة، والمصبوغة، والمنقوشة، بمهارة يخر بها العالم كله. وكان الفنانون البيزنطيون يصنعون أكواباً من الزجاج الأزرق، نقشت عليها تحت سطحها، أغصان وأوراق أشجار، وطيور، وصور آدمية، وآنية زجاجية، ذات رقاب مطلية بالميناء عليها زخارف عربية الطراز وأزهار؛ وأشكال أخرى من الزجاج بلغت من الدقة حداً جعلها هي خير ما أهداه الأباطرة البيزنطيون إلى رؤساء الدول الأجنبية. وكان أعظم قيمة من هذه الهدايا السابقة ثمين الثياب والشيلان، والحبريات، والجبب الدلماشية التي تبرز مفاخر فن النسيج البيزنطي. وكانت "عباءة شارلمان" في كنيسة متز والحرير الرقيق الذي وجد بآخن Aachen في تابوت ذلك الملك من هذا الطراز. وكان نصف مصدر الفخامة التي تحيط بالإمبراطور البيزنطي، وكثير الرهبة التي ترفع من مقام البطريق، وبعض الأبهة التي تكسو المُخَلص" والعذراء والشهداء في شعائر الكنيسة؛ كان مصدر هذا كله هو الثياب الفخمة التي أنفقت فيها حياة عدد من الصناع، وازدانت بعض القرون الطوال، وخير ما أخرجه البر والبحر من أصباغ. واحتفظ صائغو الحلي الذهبية وقاطعو الجواهر بذروة مجدهم الفني حتى القرن الثالث عشر، ولا تزال كنوز كنيسة القديس مرقس بالبندقية مليئة بثمار فنهم. ومن مخلفات ذلك العصر الفسيفساء الواقعية النزعة المدهشة الصنع التي وجدت في كنيسة القديس لوقا والمحفوظة في كلية الدراسات العليا Goll(ge de Hautes Etudes في باريس، ورأس المسيح المتوهج المنقوش في فسيفساء ديسيز في كنيسة أيا صوفيا؛ والفسيفساء الكبيرة الحجم التي تغطي أربعين ياردة مربعة، والتي استخرجت في اسطنبول عام 1935 من خرائب قصر الأباطرة المقدونيين(29). ولما خفَّت حدة محطمي الأصنام، وفي الأماكن التي لم تصل إليها حركتهم، غذت الكنيسة تقوى الناس بالصور المنقوشة على الخشب بالطلاء المائي الفردي، والتي تكتنفها أحياناً أطر منقوشة بالميناء أو الجواهر. وليس في تاريخ العالم كله صور دقيقة تفوق صورة "رؤية حزقيال" التي يحتويها مجلد من عظات جريجوري نزيانزين محفوظ في المكتبة الأهلية بباريس(30)، أو الصور الإيضاحية الأربعمائة التي يحتويها مخطوط "المناجاة" (Monologus) المحفوظ في الفاتكان (حوالي عام 1000)، أو صور داود في كتاب التراتيل المحفوظ بباريس (حوالي عام 900). نعم إن هذه الصور لا تراعي فن المنظور، ولا تعني بإبراز الأشكال بطريق الضوء والظل، ولكنها تعوض هذا بالتلوين القوي البراق، وبالخيال الحي، وبالعلم الحديث بأصول التشريح البشري والحيواني، وبالعدد الجم المؤتلف من الوحش والطير، والنبات والزهر، تتخلل القديسين والأرباب، وبالفساقي، والعقود والإيوانات-فيها طيور تنقر الفاكهة، ودببة ترقص، ووعول وعجول تتشابك قرونها في النضال، وفهد يرفع ساقه الخبيثة ليمثل بها الحرف الأول من جملة دينية(31).

ولقد عرف صانعو الفخار البيزنطيون من زمن بعيد فن التطعيم بالميناء، وذلك بأن يضعوا على الطين المحروق والقاعد المعدني أكسيداً معدنياً إذا أدخل النار امتزج بالقاعد وأكسبه بريقاً ووقاية. وكان هذا الفن قد وصل من الشرق إلى بلاد اليونان القديمة، حيث اختفى في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم عاد إلى الظهور في القرن الثالث بعده. وكانت هذه الفترة البيزنطية الوسطى غنية بأعمال الميناء من رصائع للصور، ومن صور للقديسين، وصلبان، ومن علب لحفظ المخلفات، وأكواب، وكؤوس للقرابين، وجلود كتب، وزينات للسروج وغيرها من العدد. وقد أخذت بيزنطية من فارس الساسانية منذ ذلك العهد البعيد وهو القرن السادس فن الميناء المقسم: وذلك بأن تصب العجينة الملونة في السطح المقسم إلى مساحات محاطة بأسلاك رفيعة أو قطع رقيقة من المعدن؛ وهذه الحواجز الملتحمة بقاعدة معدنية تكون النقش الزخرفي. ومن أعظم الأمثلة لفن الميناء المقسم وأوسعها شهرة علبة لحفظ المخلفات صنعت (حوالي عام 945) لقسطنطين برفيروجنتس محفوظة الآن في لمبورج Lemburg وهي بيزنطية بنوع خاص في دقة صنعها وفي أمانة صانعها، وفي نقوشها الزخرفية الموفورة.

وليس ثمة من الفنون تغلب عليه الصبغة الدينية أكثر مما تغلب على الفن البيزنطي وليس أدل على هذا من أن مجلساً للكنائس عقد في عام 787 قد وضع القانون القائل بأن: على المصورين أن ينفذوا، وعلى رجال الدين أن يقرروا، الموضوعات ويشرفوا على عمليات تنفيذها"(32). ومن ثم كانت النزعة الجدية المكتئبة لهذا الفن، وضيق دائرة موضوعاته، والتكرار الممل في أساليبه وأنماطه. وندرة مغامراته في عالم الواقعية، والفكاهة، والحياة الشعبية؛ ولم يكن لهذا الفن نظير في تنميقه ولألائه، ولكنه لم يبلغ في يوم من الأيام ما بلغه الفن القوطي الناضج من تنوع وقوة، ومن نزعة دنيوية شائنة. ومن أجل هذا النقص عنه تزيد دهشتنا من انتصاراته وتأثيره، فقد كان العالم المسيحي على بكرة أبيه من كيف إلى فارس يقر له بالزعامة؛ ويتملقه بتقليده؛ وحتى الصين نفسها كانت بين الفينة والفينة تنحني له إجلالاً وتكريماً. ولقد كان في أشكال السورية نصيب من الفن الفارسي في تكوين موضوعات الفن الإسلامي في العمارة، والفسيفساء، والزخرف. وشكلت البندقية فنها على صورة فن القسطنطينية كما حذا الفن في كنيسة القديس مرقس حذو كنيسة الرسل في تلك المدينة، وظهر فن العمارة البيزنطية في فرنسا، ثم اتخذ طريقه نحو الشمال حتى بلغ آخن. وكانت المخطوطات المزخرفة في كل مكان شاهداً على ما للفن البيزنطي من أثر فيه، وأخذ البلغار عن بيزنطية دينها وزخارفها؛ ولما اعتنق فلادمير مذهب الكنيسة المسيحية اليونانية فتح بذلك أكثر من عشر سبل واسعة دخل منها الفن البيزنطي إلى الحياة الروسية.

وظلت الحضارة البيزنطية من القرن الخامس إلى القرن الثاني عشر هي السائدة في أوربا المسيحية في النظم الإدارية والدبلوماسية، وجباية الأموال، وفي الأخلاق، والثقافة، والفن. وأكبر الظن أنه لم يوجد قبل أيامها مجتمع يماثلها في فخامة زينتها، كما لم يوجد قبل أيامها دين به من المظاهر الفخمة مثل ما في دينها. وكانت هذه الحضارة، كما كانت كل حضارة أخرى. تعتمد على كدح رقيق الأرض والعبيد، وكان ما في محاريبها وقصورها من ذهب ورخام هو عرق العمال الذين يكدحون في الأرض قد تبدل وتجسم. وكانت ثقافتها، ككل ثقافة سواها في زمانها، قاسية؛ وكان في وسع الرجل الذي يخر راكعاً أمام صورة العذراء أن يذبح أطفال موريق أمام عيني أبيهم. وكان في هذه الثقافة شيء من الضحالة، وكان عليها طلاء من الرقة الأرستقراطية يغطي بناء ضخماً من الخرافات الشعبية، ومن التعصب، ومن الجهل يتصف به غير الأميين، وكان نصف هذه الثقافة يوجه إلى تأييد ذلك الجهل. ولم يكن يسمح لعلم أو فن ينمو أو فلسفة أن تنشأ إذا كانت تتعارض مع هذا الجهل، وظلت الحضارة اليونانية مدى ألف عام لا تضيف شيئاً جديداً إلى علم الإنسان بالعالم. فليس ثمة كتاب في الأدب البيزنطي أثار خيال بني الإنسان، أو خلده على مدى الزمان. ذلك أن العقل اليوناني في العصر الوسيط قد أثقله عبء التراث العظيم الذي انحدر إليه من الأيام الخالية، وسجن في المتاهة الدينية التي فقدت فيها بلاد اليونان المحتضرة مسيحية المسيح، فعجز عن أن ينهض فينظر نظرة واقعية ناضجة إلى الإنسان وإلى العالم. وسبب هذا أنه مزق المسيحية شيعاً لاختلافه على حرف واحد من حروف الهجاء أو على كلمة واحدة، وحطم الإمبراطورية الرومانية الشرقية لأنه رأى في كل خروج على الدين خيانة للدولة.

لكننا لا يزال يدهشنا أن هذه الحضارة قد عمرت ذلك الزمن الطويل. ترى ما هي الموارد الخفية، وما هي القوة الحيوية الكامنة، التي أمكنتها من أن تبقى حية بعد أن انتصر عليها الفرس في آسية، وبعد أن انتزع منها المسلمون بلاد الشام، ومصر، وصقلية، وأسبانيا؟ لعل العقيدة الدينية التي أضعفت الدفاع عن الدولة باعتماد أهلها على مخلفات القديسين ومعجزاتهم قد ثبت بعض النظام والتأديب في شعب ديدنة الصبر، وإن انتابه في فترات نوبات من الاضطراب، وأحاطت الأباطرة والدولة بهالة من القداسة يرهبها التبديل. وقد أكسبتها البيروقراطية الخالدة بهيئتها الجامعة استمراراً واستقراراً لم تنل منهما جميع الحروب والثورات، وحافظت على السلام في الداخل، ونظمت اقتصادياتها، وجبيت الضرائب التي أمكنت الإمبراطورية من أن توسع رقعتها مرة أخرى حتى كادت تبلغ ما بلغته أيام جستنيان. وأكبر الظن أن موارد الخلافة الإسلامية كانت أقل من موارد الدولة البيزنطية وإن كانت أملاك الخلفاء أوسع رقعة من أملاك الأباطرة، ولقد كان ضعف نظام الحكومة الإسلامية، وقصور وسائل الاتصال ودولاب الإدارة عن الوفاء بحاجات الدولة، سبباً في تفككها بعد ثلاثة قرون من قيامها،على حين أن الإمبراطورية البيزنطية عاشت ألف عام.

وقد قامت الحضارة البيزنطية بثلاث مهام حيوية: أولها أنها ظلت ألف عام حصناً حصيناً وفي أوربا هجمات الفرس والدولة الإسلامية في المشرق، وثانيهما أنها احتفظت في أمانة بالنصوص التي أعيد فيها تسجيل آداب اليونان الأقدمين وعلومهم وفلسفتهم، وأسلمتها كاملة إلى أوربا حيث بقيت حتى نهبها الصليبيون في عام 1204. وجاء الرهبان الفارون من وجه محطمي الصور والتماثيل المقدسة بالمخطوطات اليونانية إلى جنوبي إيطاليا، وأعادوا إلى هذه البلاد علمها القديم بالآداب اليونانية؛ وغادر الأساتذة اليونان مدينة القسطنطينية فراراً من المسلمين والصليبيين على السواء، واستقروا أحياناً في إيطاليا، وكانوا هم الحاملين لبذور الآداب القديمة؛ وهكذا أخذت إيطاليا عاماً بعد عام تستكشف بلاد اليونان من جديد، وظل الناس يغترفون من ينبوع الحضارة الذهنية حتى ثملوا. وثالثها وآخرها أن بيزنطية هي التي أخرجت البلغار والصقالبة من دياجير الهمجية إلى المسيحية، وصمت قوة الجسم الصقلبي التي لا حد لها إلى روح أوربا وحياتها ومصائرها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس: البلقان (558-1075)

على بعد بضعة أميال لا أكثر في شمال القسطنطينية بحر مضطرب من خلائق الآداب ويحبون الحرب بنصف قلوبهم. ولم تكد موجة الهون تتراجع حتى أقبلت من التركستان خلائق أخرى جديدة تمت إليهم بصلة الدم يدعون الآفار مخترقين جنوبي الروسيا (558) واسترقوا جموعاً من الصقالبة، وأغاروا على ألمانيا حتى نهر الألب (562)، ودفعوا اللمبارد أمامهم إلى إيطاليا (568)، وعاثوا في بلاد البلقان فساداً حتى كاد ينمحي منها سكانها الذين ينطقون باللغة اللاتينية. وبسط الآفار سلطانهم في وقت ما على البلاد الممتدة من البحر البلطي إلى البحر الأسود، وحاصروا القسطنطينية في عام 626 وكادوا يستولون عليها؛ وكان عجزهم عن ذلك بداية اضمحلالهم؛ فغلبهم شارلمان على أمرهم في عام 805، وما لبثوا أن امتصهم البلغار والصقالبة شيئاً فشيئاً.

وكان البلغار، وهم في أصلهم خليط من الدم الهوني، والأجري Ugrian والتركي، يكونون قبل ذلك الوقت جزءاً من إمبراطورية الهون في روسيا؛ وأقام فرع منهم بعد موت أتلا Atilla مملكة لهم-"بلغاريا القديمة"-على ضفاف نهر الفلجا Volga حول مدينة قازان الحالية. وأثرت عاصمتهم بلغار Bolgar من التجارة النهرية، وظلت مزدهرة حتى خربها التتار في القرن الثالث عشر. وهاجر فرع آخر منهم في القرن الخامس نحو الجنوب الغربي إلى وادي الدن Donـ، وعبرت إحدى قبائل هذا الفرع، وهي قبيلة اليوتجر Uitgurs، نهر الدانوب (679)، وأسست مملكة بلغارية ثانية في موئيزيا Moesia واسترقوا من فيها من الصقالبة، وأخذوا عنه لغتهم وأنظمتهم، وامتصهم آخر الأمر العنصر الصقلبي، وبلغت الدولة الجديدة أوجهها في عهد الخاقان أو الخان (الرئيس) كروم Krum (802)، وهو رجل جمع إلى شجاعة الهمج دهاء المتحضرين. وغزا الخاقان مقدونية-إحدى ولايات الدولة الرومانية الشرقية-ونهب 1100 رطل من الذهب، وأحرق مدينة سرديقا Sardica المسماة الآن صوفيا عاصمة بلغاريا الحالية. وكان له الإمبراطور نقفور الصاع صاعين وأحرق بلسكا Pliska عاصمة كروم (811)؛ ولكن كروم أوقع الجيش اليوناني في كمين نصبه له في أحد ممرات الجبال، وقتل نقفور، واتخذ من جمجمة الإمبراطور قدحاً لشرابه ثم حاصر القسطنطينية في عام 813، وأحرق أرباضها، وضرب تراقية، وفعل بها ما فعلته الجيوش التي غزتها في عام 1913. وبينما هو يعد العدة لهجوم آخر إذ انفجر أحد أوعيته الدموية وقضى على حياته. وعقد ابنه أمورتاج Omurtag الصلح مع اليونان وأسلموه بمقتضاه نصف تراقية، واعتنق البلغار المسيحية في عهد الخان بوريس Boris (852-888). وآوى بوريس نفسه بعد حكم طويل إلى أحد الأديرة، ثم خرج منه بعد أربع سنين ليخلع ابنه الأكبر فلادمير، ويُجلس على العرش ابناً آخر أصغر من أخيه يدعى سيمون Simeon (893-927)، وعاش بوريس حتى عام 907، وأصبح هو أول قديس قومي لبلغاريا. وكان سيمون من أعظم ملوك زمانه، فقد وسع رقعة أملاكه حتى شملت بلاد الصرب والبحر الأدرياوي، ولقب نفسه "إمبراطوراً وحاكماً مطلقاً لجميع البلغار واليونان"، وشن الحرب عدة مرات على بيزنطية، لكنه حاول أن يدخل الحضارة إلى بلاده بتراجم الآداب اليونانية، وأن يجمل عاصمته في أقاليم الدانوب بروائع الفن اليوناني. ويصف أحد معاصريه مدينة برسلاف Breslav بأنها "من أعجب ما تقع عليه العين". مليئة "بالقصور والكنائس الشامخة الكثيرة الزخرف، ولقد كانت في القرن الثالث عشر أكبر مدينة في بلاد البلقان كلها؛ ولا تزال خرابات قليلة باقية منها. وأضعفت المنازعات الداخلية بلغاريا بعد موت سيمون. وحول ملاحدة بجوميل Bogomil نصف الفلاحين خلائق مسالمين شيوعيين؛ واستردت بلاد الصرب استقلالها في عام 931؛ وأعاد الإمبراطور يوحنا تزيمسيس بلغاريا الشرقية إلى أحضان الإمبراطورية اليونانية في عام 972، وفتح باسيل الثاني بلغاريا الغربية في عام 1014، وبذلك أضحت بلغاريا (1018-1186) مرة أخرى ولاية تابعة لبيزنطية.

وفي أثناء هذه الأحداث أقبل على الإمبراطورية القلقة زائرون من أقوام همج جدد يدعون المجر. والراجح أن المجر كانوا، كما كان البلغار، من تلك القبائل التي يطلق عليها ذلك الاسم غير الدقيق الأجري Ugri أو الإيجور Igurs (ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة Ogre المرادفة لكلمة غول)، والتي كانت تضرب في البلاد المصاقبة لحدود الصين الغربية. وكان هؤلاء أيضاً قد سرى إليهم دم هوني وتركي كثير لطول اختلاطهم بهذين العنصرين. وكانوا يتكلمون لغة وثيقة الصلة بلغتي الفن (أهل فنلندة) والسمويد Somoyeds. وقد هاجروا في القرن التاسع الميلادي من سهول الأورال وبحر الخزر (قزوين) إلى الأراضي المجاورة لنهري الدن والدنيبر Dneiper والبحر الأسود، حيث كانوا يعيشون بفلح الأرض في الصيف، وصيد السمك في الشتاء، واقتناص الصقالبة وبيعهم عبيداً غلى اليونان في جميع فصول العام. وبعد أن أقاموا في أكرانيا ستين عاماً أو نحوها تحركوا مرة أخرى في اتجاه الغرب. وكانت أوربا وقتئذ في الدرك الأسفل من حياتها؛ فلم تكن فيها حكومة قوية غرب القسطنطينية، ولم يقف في وجههم جيش قوي. لهذا اجتاح المجر بسرابيا Bessarabia وملدافيا Moldavia (البغدان) في عام 889 وشرعوا في عام 895 في فتوحهم الدائمة لبلاد هنغاريا (المجر) بقيادة زعيمهم أرباد Arpad. وفي عام 899 عبرت جموعهم جبال الألب وانقضت على إيطاليا، وأحرقوا بافيا Pavia وكنائسها الثلاث والأربعين جميعها، وذبحوا أهلها، وظلوا عاماً كاملاً يعيشون فيشبه الجزيرة فساداً، ثم فتحوا بنونيا Pannonia، وأغاروا على بافاريا Bavaria (900-907)، وخربوا كارانثيا Carinthia (901)، واستولوا على مورافيا Moravia (906) ونهبوا سكسونيا، وثورنجيا Thuringia وسوابيا Swabia (913)، وألمانيا الجنوبية، والألساس Alsace (917)، وانقضوا فجأة على الألمان المقيمين على ضفاف نهر الك Lech أحد روافد الدانوب (924). وارتجفت لذلك قلوب الأوربيين وتوجهوا إلى خالقهم بالدعاء والصلاة، لأن هؤلاء المغيرين كانوا لا يزالون أقواماً وثنيين، ولاح أن العالم المسيحي مقضي عليه لا محالة. ولكن المجر هُزموا عند جوثا Gotha عام 933، ووقف زحفهم على أثر هذه الهزيمة، ثم غزا إيطاليا مرة أخرى في عام 943ن ونهبوا برغنديا في عام 955. وانتهى الأمر في ذلك العام نفسه بأن هزمتهم جيوش ألمانيا المتحدة بقيادة أتو Otto الأول في معركة حاسمة في لكفلد Lechfeld أو وادي ألك بالقرب من مدينة أوجزبرج Augsburg، واستطاعت أوربا عقب هذه الهزيمة أن تتنفس الصعداء بين خراباتها بعد أن حاربت في قرن واحد (841-955) النورمان في الشمال، والمسلمين في الجنوب، والمجر في الشرق. وبعد أن خضع المجر أضحت أوربا أكثر أمناً مما كانت لاعتناقهم الدين المسيحي (975). ذلك أن الأمير جيزا Geza خشي اندماج هنغاريا في الإمبراطورية البيزنطية التي عادت وقتئذ توسع رقعتها، ولهذا اختار المذهب المسيحي اللاتيني لكي يسالمه الغرب، وزاد على ذلك بأن زوج ابنه ستيفن من جزيلا Gisela ابنة هنري الثاني دوق بافاريا. وأمسى استيفن الأول (997-1083) شفيعاً لهنغاريا وراعيها وأعظم ملوكها، فقد نظم شئون المجر على غرار النظام الإقطاعي الألماني، وقوى الأساس الديني الذي أقام عليه المجتمع الجديد بأن قبل مملكة هنغاريا وتاجها من البابا سلفستر Sylvster الثاني (1000).

وهرع الرهبان البندكتيون إلى بلاده، وأنشئوا الأديرة والقرى وأدخلوا فيها فنون الغرب الزراعية والصناعية، وبهذا انتقلت هنغاريا بعد حروب دامت مائة عام من ظلمات الهمجية إلى نور الحضارة، ولما أن هدت الملكة جزيلاً صليباً إلى صديق لها ألماني كان هذا الصليب آية رائعة من فن الصياغة الذهبية. وكان أقدم موطن معروف للصقالبة إقليم من روسيا كثير المنافع تحيط به كيف، ومهيلف Mohilev، وبرست لتوفسك Brest Litovsk، وكانوا من عصر هندي أوربي يتكلمون لغات ذات صلة باللغتين الألمانية والفارسية. وكانت أقوام من البدو تجتاح بلادهم من آن إلى آن، وكثيراً ما كانوا يُستَرَقون، وكانوا على الدوام يعانون مرارة الفقر والظلم، ولهذا طبعوا على الصبر وجعلتهم الصعاب وخشونة العيش الدائمة صلاباً أشد، وفاقت خصوبة نسائهم نسبة الوفيات العالية بينهم المسببة من المجاعات، والأمراض والحروب، التي لم ينطفئ لها سعير. وكانوا يسكنون كهوفاً أو أكواخاً من الطين، ويعيش من صيد الحيوان، ورعيه، وصيد السمك، وتربية النحل، وكانوا يبيعون العسل، والشمع، والجلود، ثم استسلموا آخر الأمر لحياة الزراعة والاستقرار. وكانوا أهم أنفسهم يطاردون ويدفعون إلى المناقع والغابات التي يتعذر الوصول إليها، ثم يؤمرون بوحشية، ويباعون بلا رحمة؛ ولهذا تخلقوا، بأخلاق زمانهم، فكانوا يستبدلون السلع بالرجال؛ وإذ كانوا يعيشون في أقاليم باردة رطبة، فقد اعتادوا أن يدفئوا أجسامهم بالمشروبات الكحولية القوية، ومن أجل هذا وجدوا أن المسيحية خير لهم من الإسلام الذي يحرم الخمور(34). وكانت أبرز عيوبهم هي السكر، والقذارة، والقسوة، وحب السلب والنهب، وكان الادخار، والحذر، وسعة الخيال تتذبذب فيهم بين الفضيلة والرذيلة؛ ولكنهم كانوا إلى ذلك طيبي القلوب، أسخياء، حسني العشرة، مولعين بالألعاب، والرقص، والموسيقى، والغناء. وكان زعماؤهم كثيري الأزواج، أما الفقراء فكانوا يقتصرون على واحدة، وكانت النساء- اللاتي يشترين بالمال أو يؤسرن في الحروب ليتخذن زوجات- وفيات مطيعات على غير ما كان ينتظر منهن(35). وكانت الأسر الخاضعة لسلطان الأب تنتظم انتظاماً غير وثيق العرى في عشائر ثم تنتظم العشائر في قبائل. ولربما كان للعشائر أملاك مشتركة في مراحل الرعي الأولى(36)، ولكن قيام الزراعة- التي تثمر فيها الدرجات المختلفة من النشاط، والكفاية في التربة المختلفة الخصوبة: ثماراً غير متساوية- أدى إلى نشأة الملكية عند الأفراد أو الأسر وكثيراً ما كان الصقالبة يتفرقون بسبب الهجرة أو الحروب الداخلية، ولهذا نشأت بينهم عدة لغات صقلبية: البولندية والونديشية Wendish، والتشكية، والسلوفاكية في الغرب، والسلوفينية والصربيكرواتية Serbo-Croat، والبلغارية في الجنوب، والروسية الكبرى، والروسية البيضاء، والروسية الصغرى (الروثينية والأكرانية Ruthenian & Ukrainian) في الغرب. على أن الذين يتكلمون أية لغة من هذه اللغات قد ظلوا يفهمون كل واحدة منها، وكانت جامعة اللغة والعادات بين الصقالبة، مضافة إلى سعة بلادهم، وكثرة مواردهم، وحيويتهم الناشئة من قسوة الظروف المحيطة بهم، والانتقاء الصارم، والطعام البسيط الخشن، كانت هذه كلها سبباً في ازدياد قوة الصقالبة الآخذة في الانتشار.

ولما أن زحفت القبائل الألمانية جنوباً وغرباً في هجرتها إلى إيطاليا وغالة خلفت وراءها رقعة من الأرض قليلة السكان في شمالي ألمانيا ووسطها. وانجذب الصقالبة نحو هذا الفراغ، ودفعهم إليه دفعاً الهون الغزاة، فانتشروا غرباً وعبروا نهر الفستيولا Vistula، ونهر الإلب نفسه، وكانوا في هذه الأرض هم الوند Wend، والبولنديين، والتشك، والفلاخ Vlache والسلوفاك الذين نعرفهم فيما بعد. وحدث في أواخر القرن الثالث تيار جارف من الهجرة الصقلبية عبر ريف اليونان، وأغلقت المدن بابها دونه، ولكن ماً صقلبياً غزيراً امتزج بالدم الهليني. وجاءت حوالي عام 640 قبيلتان صقلبيتان ذواتي قربي هما الصربي Serbi، والكروباتي Chrobali، واستوطنتا بانونيا وإليركم lllyricum من جديد. واعتنق الصرب المذهب اليوناني المسيحي، واعتنق الكروات المذهب الروماني. وأضعف هذا الانقسام الديني، الذي عاق الوحدة الجنسية واللغوية، الأمة أمام جيرانها، ولهذا أخذت بلاد الصرب تتأرجح بين الاستقلال تارة، والخضوع لبيزنطية أو بلغاريا تارة أخرى، إلى أن كان عام 989 فهزم صمويل قيصر البلغار يوحنا فلادمير الصربي، وأسره، ثم زوجه بابنته كسارا Kossara وسمح له بالعودة إلى عاصمته زيتا Zita، على أن يكون فيها أميراً من قبل فلدمير. ذلك هو موضوع أقدم الروايات القصصية الصربية فلدمير وكسارا التي ألفت في القرن الثالث عشر. واحتفظت المدن الساحلية في دلماشيا القديمة-زارا، واسبالاتو Spalato، وراجوسا Ragusa بلغتها وثقافتها اللاتينيتين، أما بقية بلاد الصرب فأضحت صقلبية. وحرر الأمير فواسلاف صربياً في عام 1042 ولكنها عادت فاعترفت بسيادة بيزنطية في القرن الثاني عشر.

ولما أن بلغت هذه الهجرة الصقلبية الرائعة العجيبة تمامها في أواخر القرن الثامن أمست أوربا الوسطى، وبلاد البلقان، والروسيا بأجمعها بحراً صقلبياً تصطدم أمواجه بحدود القسطنطينية، وبلاد اليونان؛ وألمانيا.


الفصل السابع: مولد الروسيا (509-1054)

لم يكن الصقالبة إلا آخر الأقوام الكثيرين الذين كانوا يمرحون ويطربون في تربة الروسيا الخصبة، وسهولها الرحبة، وأنهارها الكثيرة الصالحة للملاحة، ويأسون لمناقعها العفنة، وغاباتها المانعة، وافتقارها إلى المعاقل الطبيعية التي تصد الأعداء الغازين، وصيفها الحار، وشتائها البارد. فلقد أنشأ اليونان منذ القرن السابع قبل الميلاد على أقل سواحلها جدباً أي شواطئ البحر الأسود الغربي والشمالي نحو عشرين بلدة-ألبيا Albia، وتانيس Tanais، وثيودوسيا Theodosja، وبنتيكبيوم Panticapium (كرتش Kerche). واقتتلوا مع السكوذيين الضاربين وراء هذه البلاد أو ناصروهم. وسرت إلى هؤلاء الأقوام-وأكبر الظن أنهم من أصل إيراني-بعض عناصر الحضارة الفارسية واليونانية، بل إنهم قد خرج من بينهم فيلسوف-أناخارسيس Anacharsis 600 ق. م-قدم إلى أثينة وتناقش مع صولون.

ثم أقبلت في القرن الثاني قبل الميلاد قبيلة إيرانية أخرى هي قبيلة السرماتيين، وهزمت السكوذيين وسكنت ديارهم؛ واضمحلت المستعمرات اليونانية في هذا الاضطراب. ودخل البلاط القوط من الغرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وأنشئوا مملكة القوط الشرقيين، ثم قضى الهون على هذه المملكة حوالي عام 375، ولم تكد سهول روسيا الجنوبية تشهد بعد هذا الغزو أية حضارة، بل شهدت هجرات متتابعة من أقوام بدو- هم البلغار، والآفار، والصقالبة، والخزر، والمجر، والبتزيناك Patzinaks، والكومان Cumans، والمغول. وكان الخزر من أصل تركي زحفوا في القرن السبع مخترقين جبال القفقاس إلى جنوبي روسيا، وأنشأوا مُلكاً منظماً امتد من نهر الدنبير إلى بحر قزوين (بحر الخزر)، وشيدوا عاصمة لهم في مدينة إتيل itil على مصب نهر الفلجا Volga بالقرب من أستراخان الحاضرة، واعتنق ملكهم هو والطبقات العليا منهم الدين اليهودي وكانت تحيط بهم الدولتان المسيحية والإسلامية، ولكنهم فضلوا في أكبر الظن أن يغضبوا الدولتين بدرجة واحدة عن أن يغضبوا واحدة منهما غضباً يعرضهم للخطر، وأطلقوا في الوقت عينه الحرية الكاملة لأصحاب العقائد المختلفة، فكانت لهم سبع محاكم توزع العدالة بين الناس- اثنتان للمسلمين، واثنتان للمسيحيين، واثنتان لليهود، وواحدة للكفر الوثنيين. وكان يسمح باستئناف أحكام المحاكم الخمس الأخيرة إلى المحكمتين الإسلاميتين، إذ كانوا يرون أنهما أكثر عدالة من المحاكم الأخرى(37). واجتمع التجار على اختلاف أديانهم في مدن الخزر تشجعهم على ذلك هذه السياسة المستنيرة، فنشأت هناك من ذلك تجارة منتعشة بين البحر البلطي وبحر قزوين، وأصبحت إتيل في القرن الثامن من أعظم مدن العالم التجارية. وهاجم الأتراك البدو خزاريا Khazaria في القرن التاسع؛ وعجزت الحكومة عن أن تحمي مسالكها التجارية من اللصوصية والقرصنة، وذابت مملكة الخزر في القرن العاشر وعادت إلى الفوضى العنصرية التي نشأت منها.

وجاءت من جبال الكربات في القرن السادس هجرة من القبائل الصقلبية إلى هذا الخليط الضارب في روسيا الجنوبية والوسطى. واستقرت هذه القبائل في وادي الدنيبر والدن، ثم انتشرت انتشاراً أرق إلى بحيرة إلمن Ilmen في الشمال، وظل أفرادها عدة قرون يتضاعفون، وهم في كل عام يقطعون الغابات ويجففون المستنقعات، ويقتلون الوحوش البرية، وينشئون بلاد أكرانيا. وانتشروا فوق السهول بفضل حركة من الإخصاب البشري لا يضارعهم فيها إلا الهنود والصينيون. ولقد كان هؤلاء الأقوام طوال التاريخ المعروف لا يقر لهم قرار- يهاجرون إلى بلاد القفقاس والتركستان، وإلى أقاليم أورال وسيبيريا، ولا تزال عملية الاستعمار هذه في مجراها في هذه الأيام؛ ولا يزال البحر الصقلبي العجاج يدخل كل عام في خلجان عنصرية جديدة.

وأقبلت على العالم الصقلبي في بداية القرن التاسع غارة بدت وقتئذ أنها لا يؤبه بها. ذلك أن أهل الشمال الإسكنديناويين كان في وسعهم أن يوفروا بعض الرجال وبعض النشاط يقتطعونهما من هجماتهم على اسكتلندة، وأيسلندة، وأيرلندة، وإنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا، وأن يوجهوا إلى روسيا الشمالية عصابات مؤلفة من مائة أو مائتين من الرجال، ينهبون بها الجماعات الضاربة حول للبحر البلطي، والفنلنديين، والصقالبة، ثم يعودون بجر الحقائب بالغنائم. وشاء هؤلاء الفيرنج جار Vaerlnjar أو الفرنجيون Varangians ("أتباع" الزعيم) أن يحملوا تلصصهم بالقانون والنظام فأقاموا مراكز محصنة في طرقهم، ثم استقروا بالتدريج وكانوا أقلية اسكنديناوية من التجار المسلحين بين زراعين خاضعين لهم. واستأجرتهم بعض المدن ليكونوا حماة للأمن والنظام الاجتماعي. ويبدو أن أولئك الحراس قد أحالوا أجورهم جزية، وأضحوا سادة من استخدموهم(38)، ولم يكد ينتصف القرن التاسع حتى أضحوا هم حكام نفجورود "الحصن الجديد"، وبسطوا ملكهم حتى وصلوا إلى كيف في الجنوب، وارتبطت الطرق والمحلات التي كانوا يسيطرون عليها برباط غير وثيق فتألفت منها دولة تجارية وسياسية، سميت روس Ros أو Rus وهي كلمة لا يزال اشتقاقها مثاراً للجدل الشديد. وربطت الأنهار العظيمة التي تحترق البلاد البحرين الأبيض في الشمال والأسود في الجنوب بالقنوات والطرق البرية القصيرة، وأغرت الفرنجيين بأن يوسعوا تجارتهم ويبسطوا سلطانهم نحو الجنوب. وسرعان ما أخذ هؤلاء التجار المحاربون البواسل يبيعون بضائعهم أو خدماتهم في القسطنطينية نفسها. ثم حدث ما يناقض هذا، حدث أنه لما أضحت التجارة على أنهار الدنيبر، والفلخوف Volkhov، ودوينا الغربي أكثر انتظاماً مما كانت قبل، أقبل التجار المسلمون من بغداد وبيزنطية، وأخذوا يستبدلون الفراء، والكهرمان، وعسل النحل، وشمعه، والرقيق، بالتوابل، والخمور، والحرير والجواهر، وهذا منشأ ما نجده من النقود الإسلامية والبيزنطية الكثيرة العدد على ضفاف تلك الأنهار وفي اسكنديناوة نفسها. ولما حالت سيطرة المسلمين على البحر المتوسط الشرقي دون وصول الحاصلات الأوربية مجتازة المسالك الفرنسية والإيطالية إلى ثغور البلاد الواقعة في شرق هذا البحر، واضمحلت مرسيليا، وجنوا وبيزا في القرنين التاسع والعاشر، وازدهرت في مقابل هذا في الروسيا مدائن نفجورود، وسمولنسك Smolensk، وشرينجوف Shernigov، وكيف، ورستوف Rostov بفضل التجارة الاسكنديناوية، والصقلبية، والإسلامية، والبيزنطية.

وخلع السجل القديم الروسي (القرن الثاني عشر) على هذا التسرب الاسكنديناوي شخصية تاريخية بقصته عن "الأمراء الثلاثة": وخلاصتها أن السكان الفلنديين والصقالبة في نفجورود وما حولها أخذوا يتقاتلون فيما بينهم بعد أن طردوا سادتهم الفرنجيين، وبلغ من هذا التناحر أن دعوا الفرنجيين أن يرسلوا لهم حاكماً أو قائداً (862)، فجاءهم، كما تروي القصة، ثلاثة أخوة-روريك Rurik، وسنيوس Sinues، وتروفور Truvor-وأنشئوا الدولة الروسية. وقد تكون هذه القصة صادقة رغم تشكك المتأخرين فيها، وقد تكون طلاء وطنياً لفتح نفجورود على يد الاسكنديناويين. ويضيف السجل بعد ذلك أن روريك أرسل اثنين من أعوانه هما أسكولد Ascold ودير Dir ليستوليا على القسطنطينية، وأن هذين الشماليين وقفا في طريقهما ليستوليا على كيف، ثم أعلنا استقلالهما عن روريك والخزر جميعاً. وبلغت كيف في عام 860 من القوة مبلغاً أمكنها أن تسير عمارة بحرية من ألف سفينة تهاجم القسطنطينية؛ وأخفقت الحملة في مهمتها، ولكن كيف بقيت كما كانت مركزاً لروسيا التجاري والسياسي، وجمعت تحت سلطانها بلاداً واسعة ممتدة خلفها- وفي وسعنا أن نقول بحق إن حكامها الأولين- أسكولد Ascold، وأولج Oleg، وإيجور Igor لا روريك حاكم نفجورود-هم الذين أنشئوا الدولة الروسية. ووسع أولج، وإيجور، وألجا Oelga-الأميرة القديرة أرملة أولج-وابنها المحارب اسفياتسلاف Sivatoslav (962-972) مملكة كيف حتى انضوت تحت لوائها القبائل الصقلبية كلها تقريباً، ومدائن بولوتسك Polotsk، واسمولنسك وشرنجوف، ورستوف. وحاولت الإمارة الناشئة بين عامي 860، 1043 ست مرات أن تستولي على القسطنطينية. ألا ما أقدم زحف الروس على البسفور، وتعطش الروس إلى مخرج أمين إلى البحر المتوسط.

واعتنقت روس، كما سميت الإمارة الجديدة نفسها، تحت حكم فلديمير الخامس (972-1015) "دوق كيف الأكبر"، الدين المسيحي (989). وتزوج فلاديمير أخت الإمبراطور باسيل الثاني، وظلت الروسيا من ذلك الوقت إلى عام 1917 ابنة للدولة البيزنطية في دينها، وحروفها الهجائية، وعملتها، وفنها. وشرح القساوسة اليونان لفلاديمير منشأ الملوك وحقهم الإلهيين، وما لهذه العقيدة من نفع في تثبيت النظام الاجتماعي واستقرار الملكية المطلقة(39). وبلغت دولة كيف أوج عزها في عهد يروسلاف Yaroslav (1036-1054) بن فلاديمير، واعترفت بسلطانها اعترافاً غير أكيد كل البلاد الممتدة من بحيرة لدوجا Ladoga والبحر البلطي إلى بحر قزوين، وجبال القفقاس، والبحر الأسود، وكانت الضرائب تجبي إليها من هذه البلاد. وامتصت في جسمها الغزاة الاسكنديناويين وغلب على هؤلاء الدم الصقلبي واللغة الصقلبية. وكان نظامها الاجتماعي أرستقراطياً صريحاً، فكان الأمراء يعهدون بمهام الإدارة والدفاع إلى طبقة عليا من النبلاء، وطائفة أخرى مثلهم ولكنها أقل منهم مقاماً يعرفون بالديتسكي dietski أو الأوتروكي Otroki أي الخدم أو الأتباع. ويلي هؤلاء في المنزلة طبقة التجار، وأهل المدن، ثم الزراع نصف العبيد، ثم العبيد أنفسهم. وأقر كتاب القانون المعروف باسم الرسكايا برافدا Raskaya Pravda أو الحق الروسي، الثأر الشخصي والمبارزة القانونية، وتبرئه المتهم بناء على إيمان الشهود، ولكنه أوجد نظام المحاكمة على أيدي اثني عشر محلفين من المواطنين(40). وأنشأ فلاديمير مدرسة للأولاد في كيف، وأنشأ باروسلاف مدرسة أخرى في نفجورود. وكانت كيف وهي ملتقى السفن النهرية الآتية من أنهار يلخوف، ودفينا، ودنبير الأدنى تجبي الضرائب على المتاجر المارة بها، وسرعان ما بلغت من الثراء درجة أمكنتها من أن تشيد أربعمائة كنيسة، وكاتدرائية كبيرة-تضارع أيا صوفيا-على الطراز البيزنطي. وجيء بالفنانين اليونان ليزينوا هذه المباني بالفسيفساء، والمظلمات وغيرها من ضروب الزينة البيزنطية، ودخلت فيها الموسيقى اليونانية لتمهد السبيل إلى نصرة الأغاني الروسية الجماعية. وأخذت الروسيا ترفع نفسها على مهل من غمار الأوحال والتراب، وتبني القصور لأمرائها، وتقيم القباب فوق أكواخ الطين، وتستعين بقوة أبنائها وجلدهم على بناء جزائر صغرى من الحضارة في بحر لم يخرج بعد من مظلمات الهمجية.