قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 2 ب 9

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب التاسع: القرآن

الفصل الأوَّل: شكله

لفظ القرآن مشتق من القراءة، ويطلق على كتاب المسلمين كله أو على كتاب المسلمين كله أو على أي جزء منه، وهو يتألف كما يتألف الكتاب المقدس، كتاب اليهود والمسيحيين، من أجزاء جمع بعضها إلى بعض. ويعتقد المسلمون أن كل حرف منه موحى به من عند الله، ويختلف عن التوراة في أنه كله نطق به رجل واحد، ومن اجل هذا بلا ريب لا يعادله في آثاره أي كتاب آخر جاء به رجل واحد. وقد أملى النبي في أوقات مختلفة من الثلاث والعشرين السنة الخيرة من حياته ما كان يوحى إليه من آياته ، وكان كل ما يُوحى به إليه يُكتب على الرق، أو الجلود، أو سعف النخيل، أو العظام ثم يحفظ مع الآيات السابقة دون أن يراعى في ذلك ترتيب زمني أو منطقي، ولم تجمع هذه الآيات كلها في كتاب واحد في حياة النبي، ولكن بعض المسلمين كانوا يحفظونها عن ظهر قلب، ولما مات عدد من هؤلاء القراء ولم يكن هناك من يخلفهم أمر الخليفة أبو بكر زيد بن ثابت كبير كتاب الوحي أن يبحث عن آيات القرآن ويجمعها، فجمع زيد أجزاءه من سعف النخيل، وألواح الحجارة البيضاء، وصدور الناس كما تقول الرواية المأثورة، فلما تم له ذلك نسخت منه عدة صور. ولما كانت ألفاظه خالية من الحركات فقد اختلف بعض القراء في تفسير بعضها واختلفت نصوصها في مدن العالم الإسلامي الآخذ في الاتساع، فرأى الخليفة عثمان أن يقضي على هذا الاختلاف، وأمر زيداً وثلاثة من علماء قريش أن يراجعوا مخطوط زيد (651) ثم كتبت نسخ منه وأرسلت إلى دمشق والكوفة والبصرة، وظل القرآن من هذا الوقت محفوظاً نقياً محوطاً بأعظم العناية والتبجيل.

ومن شأن الظروف التي أحاطت بالقرآن أن تعرضه للتكرار وعدم الانسجام، فكل فقرة بمفردها تؤدي إلى غرض واضح. فهي إما أن تقرر عقيدة، أو تأمر بصلاة أو دعاء، أو تسن قانوناً، أو تشهر بعدو، أو توجه إلى عمل، أو تروي قصة، أو تدعو إلى قتال، أو تعلن نصراً، أو تصوغ عهداً، أو تطلب مالاً، أو تنظم شعيرة دينية، أو تنص على مبدأ أخلاقي، أو تضع نظاماً للتجارة، أو الصناعة، أو عمل من الأعمال المالية .

ولكننا لسنا واثقين من أن محمداً كان يريد جمع هذه الأجزاء المتفرقة كلها في كتاب واحد، فقد كان كثير منها حديثاً لرجل بعيه في وقت بعينه ، ويصعب فهمه دون معرفة واسعة بتاريخ ذلك الوقت وتقاليد أهله. وعدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وهي مرتبة حسب طولها، لا بحسب نزولها فإن لك غير معروف، فهو يبدأ بالسور الطوال وينتهي بالقصار، وإذا كانت قصار السور بوجه عام أقدم عهداً من طوالها، فإن القرآن تاريخ مقلوب . فالسور المدنية وهي التي يبدأ بها الكتاب عملية في أغراضها عادية في أسلوبها، أما السور المكية فهي شعرية روحية وبها ينتهي الكتاب. وخليق بنا أن نبدأ بقراءته من نهايته.

وجميع السور ما عدا فاتحة الكتاب حديث من الله أو جبريل إلى النبي أو أتباعه أو أعدائه؛ وتلك هي الطريقة التي سار عليها أنبياء بني إسرائيل؛ وهي التي نراها في كثير من فقرات أسفار موسى الخمسة. وكان محمد يعتقد أنه ما من قانون أخلاقي يمكن أن يقع في النفوس وأن يُطاع طاعة تكفل للمجتمع النظام والقوة إلا إذا آمن الناس أنه منزل من عند الله. وهذه الطريقة تتفق مع الأسلوب الحماسي الفخم ومع البلاغة اللذين يسموان في بعض الأحيان، عن أقوال للنبي أشعيا. وأسلوب القرآن وسط بين الشعر والنثر تتخلله كثير من الفقرات الموزونة المقفاة، ولكنها لا تتبع أوزاناً ولا قوافي خاصة منتظمة؛ وفي السور المكية الأولى نغمات موسيقية رنانة، وأسلوب جزل قوي لا يدركه كل الإدراك إلا الملمون باللغة العربية الذين يعطفون على الدين الإسلامي. ولغة القرآن هي اللغة العربية الفصحى الخالصة، وهو غني بالتشبيهات والاستعارات القوية الواضحة والعبارات الخلابة التي لا توائم ذوق الغربيين. وهو بإجماع الآراء خير كتاب وأول كتاب، في الأدب النثري العربي.


الفصل الثاني: العقائد

من بين الأغراض التي يهدف لها الدين ان يكون سبيلاً إلى الحكم الأخلاقي، وليس من شأن المؤرخ أن يسأل هل هذا الدين أو ذاك حق أو باطل، وأنى له العلم المحيط بكل شيء والذي يوصله إلى هذه المعرفة؟ وإنما الذي يسأل عنه هو العوامل الاجتماعية والنفسانية التي أدت إلى قيام هذا الدين، وإلى أي حد أفلح في تحويل الوحوش إلى آدميين، والهمج إلى مواطنين صالحين، والصدور الفارغة إلى قلوب عامرة بالأمل والشجاعة، وعقول مطمئنة هادئة، وما مقدار ما تركه بعد ذلك من الحرية لتطور العقول البشرية، وما هو أثره في التاريخ؟ وترى اليهودية، والمسيحية، والإسلام أن أهم ما يحتاج إليه المجتمع السليم هو الإيمان بأن هذا الكون خاضع لحكم أخلاقي مسيطر على شؤونه-أي الإيمان بأنه مهما يكن في هذا الكون من شر، فإن عقلاً خيراً، يعجز الناس عن إدراك كنهه، يسيّر المسرحية الكونية إلى غاية عادلة نبيلة. والأديان الثلاثة التي أعانت على تكوين عقلية الناس في العصور الوسطى مجمعة كلها على أن هذه العقلية الكونية هي الله الواحد ذو الجلال. غير أن المسيحية قد أضافت إلى هذه العقيدة أن الله الواحد يظهر في ثلاثة أقانيم مختلفة، أما اليهودية والإسلام فتريان أن هذا الاعتقاد ليس إلا شركاً مقنعاً، وتعلنان وحدانية الله بأقوى الألفاظ وأشدها حماساً.وفي القرآن سورة خصصت كلها لهذا الغرض وهي السورة الثانية عشرة بعد المائة.

ويردده المؤذن من فوق مائة ألف مئذنة كل يوم، فالله هو أصل الحياة ومنشؤها، ومصدر كل خير على ظهر الأرض. "وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" (سورة الحج الآية 5) "فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنَا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهة وأباً" (سورة عبس الآيات 24-30)..."انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إنَّ في ذلكم لآياتٍ لقوم يؤمنون" (سورة الأنعام الآية 99). والله أيضاً إله القوة "الله الذي رفع السمواتِ بغير عمدٍ ترونها... وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى... وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات" (سورة الرعد الآيتان الثانية والثالثة). ويقول في آية الكرسي الشهيرة "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم" (سورة البقرة الآية 255). والله مع سلطانه وعدله رحيم أبداً، فكل سورة من سور القرآن، ما عدا سورة التوبة، وكل رسالة يكتبها مسلم متمسك بدينه تبدأ بتلك العبارة الفخمة "بسم الله الرحمن الرحيم". ومع أن النبي لا يفتأ يُذكّر الناس بأهوال النار، فإنه لا يمل من الثناء على رحمة الله الأبدية.

والله كما يصفه القرآن يحيط علماً بكل شيء، "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (سورة ق16). والله يعلم المستقبل كما يعلم الحاضر والماضي، وإذن فكل الأشياء سابقة في علمهِ، وكل شيء قد تقرر وتحدد منذ الأزل بإرادة الله، ومن ذلك مصير كل نفس وما سيصيبها من خير وشر. فالله يعلم منذ الأزل منذا الذي ينجو من العذاب وهو الذي "يُضِلُ مَنْ يَشاء ويُهدي مَنْ يَشاء" (سورة فاطر 8) "يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً" (سورة الإنسان 31) وكما أن يهوه قد طمس على قلب فرعون فجعله قاسياً، كذلك يقول الله عن الكافرين "إنا جعلنا في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن تدعُهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً" (سورة الكهف 57)، وما من شك في أن المقصود من هذه الآية وأمثالها حث الناس على الإيمان.... غير أنه مع ذلك قول عنيف في أي دين، ولكن محمداً يؤكده بنفس القوة التي يؤكد بها القديس أوغسطين أمثاله. "ولو شئنا لآتينا كلَّ نفسٍ هُداها ولكنْ حَقَ القولُ مني لأملأنَّ جهنمَ مِن الجنةِ والناسِ أجمعين" (سورة السجدة 13). وهذا الإيمان بالقضاء والقدر جعل الجبرية من المظاهر الواضحة في التفكير الإسلامي ، وقد استعان بها النبي وغيره من الزعماء لبث الشجاعة في قلوب المؤمنين عند القتال لأن ساعة الموت لا يقدمها خطر ولا يؤخرها حذر. وبفضل هذه العقيدة لاقى المؤمنون أشد صعاب الحياة بجنان ثابت، ولكنها أيضاً كانت من الأسباب التي عاقت تقدم العرب وعطلت تفكيرهم في القرون المتأخرة.

ويتحدث القرآن كثيراً عن الملائكة والجن والشيطان. فأما الملائكة فهم رسل الله وهم الذين يحصون أعمال البشر الطيب منها والخبيث. والجان مخلوقون من النار، ويختلفون عن الملائكة في أنهم يأكلون ويشربون، ويتناكحون ويموتون، ومنهم الصالحون الذين يستمعون إلى القرآن (سورة الجن) ولكن معظمهم دون ذلك يقضون وقتهم في تضليل الناس وغوايتهم. وزعيم الجن الأشرار إبليس، وكان من قبل من الملائكة الأخيار ولكنه أبى أن يسجد لآدم فطرده الله من رحمته.

والمحور الذي تدور عليه المبادئ الأخلاقية في القرآن، كما هي الحال في كتاب العهد القديم، هو خوف العقاب ورجاء الثواب في الحياة الآخرة، "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" (سورة الحديد 20) وليس فيها محقق إلا شيء واحد هو الموت. وكان بعض العرب يعتقدون أن كل شيء ينتهي عند الموت، ويسخرون من عقيدة الدار الآخرة، ويقولون "إن هذا إلا أساطير الأولين" (سورة المؤمنون 83)، ولكن القرآن يؤكد بعث الجسم والروح (سورة القيامة 3-4) ولن يكون هذا البعث بعد الموت مباشرة، بل إن الموتى سينامون إلى يوم القيامة، ولكن نومهم هذا سيحملهم على الظن بأن استيقاظهم سيكون بعد موتهم على الفور. وعلم يوم القيامة عند الله وحده، ولكنه تسبقه علامات تنبئ بهِ، فإذا قرب ذلك اليوم ضعف إيمان الناس، وفسدت أخلاقهم، وكثر التشاحن والشقاق والحروب العوان، وتمنى العقلاء الموت. وستكون آخر النذر ثلاث نفخات في الصور، ففي النفخة الأولى تكسف الشمس، وتهوي النجوم، وتزول السموات، وتدك الجبال والمباني فلا تُرى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتجف مياه البحر أو تتطاير لهباً (سورة طه 102 وما بعدها). وفي النفخة الثانية تهلك الخلائق جميعها-الملائكة والجن والبشر-إلا من رحم الله، وبعد أربعين عاماً ينفخ إسرافيل النفخة الثالثة فتقوم الجسام من القبور وتتصل بالأرواح، ويتجلى الله لعباده تحف بهِ الملائكة يحملون الكتب التي دونت فيها أعمال الناس جميعها وأقوالهم وأفكارهم .

وتوزن الحسنات أمام السيئات ويحاسب الإنسان على ما قدمت يداه. ويتقدم الأنبياء فيشهدون على من رفضوا رسالتهم، ويشفعون لمن آمنوا بهم. ويسير الأخيار والأشرار جميعاً على الصراط-وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف-المعلق فوق الجحيم. فيسقط منه الأشرار والكفرة، ويجتازه المصلحون آمنين إلى الجنة، ولن يكون ذلك لما يستحقونه من عقاب أو ثواب بل لما ينالهم من رحمة الله . ذلك أن القرآن كبعض العقائد المسيحية يُعنى على ما يظهر بصحة الإيمان أكثر مما يعنى بالسلوك الطيب، فهو كثيراً ما ينذر من لا يقبلون دعوة النبي بعذاب النار في الآخرة (آل عمران الآيات 1 و63 و131وسورة النساء 56 و115 والأعراف والأنفال 50 والتوبة 63 الخ). وإذا لم تكن الذنوب كلها بدرجة واحدة ولا من نوع واحد فقد جعلت النار سبع طبقات في كل طبقة من العقاب ما يتناسب مع الذنب الذي ارتكبه المذنب، ففيها الحرارة التي تشوي الوجوه، وفيها الزمهرير، وحتى من يستحقون أخف العقاب يلبسون أحذية من نار، ويشرب الضالون المكذبون من الحميم وشرب الهيم (سورة الواقعة 40 وما بعدها)، وربما كان دانتي قد أبصر بعض الرؤى التي وصفها في ملهاته في القرآن.

وتختلف صورة الجنة في القرآن عن صورتها في ملهاة دانتي فهي في القرآن واضحة وضوح صورة النار والجنة هي مقر المؤمنين الصالحين والذين يموتون في سبيل الله، والفقراء يدخلونها قبل الأغنياء. ومقر الجنة في السماء السابعة الفلكية أو ما بعدها، وهي حديقة واسعة الأكناف تجري من تحتها الأنهار وتظللها الأشجار الظليلة، ويلبس فيها الصالحون ثياباً من سندس وإستبرق، ويحلون بالجواهر، ويتكئون على الآرائك، ويطوف عليهم ولدان مخلدون، ويأكلون فاكهة من أشجار تطأطئ أغصانها لهم ليملئوا من ثمارها أيديهم، فيها أنهار من لبن، وعسل، وخمر يشرب منها الصالحون (وإن كانت الخمر محرمة في الدنيا) في أكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون "لا يسمعون فيها لغواً ولا كذباً" (سورة النبأ 53)، "فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان...كأنهن الياقوت والمرجان" "وكواعب أترابا". "وعندهم قاصرات الطرف عين، كأنهن بيضٌ مكنون"، أجسامهن من المسك مبرأة من نقائص الأجسام البشرية وآثامها. وسيكون لكل رجل من الصالحين اثنتان وسبعون من أولئك الحور جزاء له على ما عمل من الطيبات ، ولم تنقص الأيام ولا الأعمال ولا الموت من جمال أجسامهن، ولا من نعيم رفاقهن (سورة الدخان) وفي الجنة غير هذه المتعة الجسمية متع أخرى روحية فمن المؤمنين من يتلون القرآن، وسيتجلى لهم الله جميعاً بوجهه "ويطوف عليهم ولدان مخلدون". ترى منذا الذي يستطيع أن يرفض مثل هذا النعيم.


الفصل الثالث: القرآن والأخلاق

القانون والأخلاق في القرآن ، كما هما في التلمود، شيء واحد، فالسلوك الديني في كليهما يشمل أيضاً السلوك الدنيوي، وكل أمر فيهما موحى به من عند الله. والقرآن يشمل قواعد للآداب، وصحة الجسم، والزواج والطلاق، ومعاملة الأبناء والعبيد والحيوان، والتجارة، والسياسة، والربا، والدَّين، والعقود، والوصايا، وشؤون الصناعة والمال، والجريمة، والعقاب، والحرب والسلم.

ولم يكن محمد يحتقر التجارة، فقد كان هو نفسه في صباه تاجراً، وحين كان سيد المدينة كان يبتاع بعض السلع جملة ويبيعها أشتاتاً، ويربح من هذا البيع دون أن يرى فيهِ عيباً أو منقصة، وكان في بعض الأحيان يدلل على السلع بنفسه، ولغة القرآن غنية بالتشبيهات التجارية، ففيه وعد بالثراء في الدنيا للمسلمين الصالحين، وإنذار بعذاب أليم للمخادعين والكاذبين من التجار . وفي الأحاديث النبوية تنديد بالمحتكرين والمضاربين الذين يحتجزون السلع ليبيعوها بأغلى الأسعار، وحض على إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم، وأمر لصاحب العمل بأن يؤدي للعامل أجره قبل أن يجف عرقه. ويحرم القرآن الربا أخذاً أو إعطاء (سورة البقرة 275 وسورة آل عمران 130)، ولسنا نجد في التاريخ كله مصلحاً فرض على الأغنياء من الضرائب ما فرضه عليهم محمد لإعانة الفقراء. وكان يحض كل موصٍ بأن يخص من مالهِ جزءاً للفقراء، وإذا مات رجل ولم يترك وصية فرض على ورثته أن يخصصوا بعض ما يرثون لأعمال الخير (سورة النساء 8 و9) وقد قبل محمد كما قبل معاصروه نظام الاسترقاق على أنه من قوانين الطبيعة، ولكنه بذل كل ما في وسعه لتخفيف أعباء الرق ومساوئه.

كذلك رفع من مقام المرأة في بلاد العرب، وإن لم يرَ عيباً في خضوعها للرجل، وهو يهيب بالرجال ألا يكونوا عبيداً لشهواتهم، ويكاد يصف النساء كما يصفهم آباء الكنيسة المسيحية بأنهم من أكبر الشرور التي أصيب بها الرجال، ويظن أن مصير الكثرة الغالبة منهن هو الجحيم . وهو يحرم على النساء ولاية الحكم، لكنه يسمح لهن أن يحضرن الصلاة في المساجد، وإن كان يرى أن بيوتهن أولى بهن، وكن إذا جئن إليه للصلاة أحسن معاملتهن ولو أتين معهن بأطفالهن. وقد روي عنه أنه كان إذا سمع بكاء طفل في أثناء الصلاة قصر خطبته حتى لا يؤذي بطولها أمه. وقضى القرآن على عادة وأد البنات (سورة الإسراء 31) وسوى بين الرجل والمرأة في الإجراءات القضائية والاستقلال المالي، وجعل من حقها أن تشتغل بكل عمل حلال، وأن تحتفظ بمالها ومكاسبها، وأن ترث، وتتصرف في مالها كما تشاء (سورة النساء 4 و32)، وقضى على ما اعتاده العرب في الجاهلية من انتقال النساء من الآباء إلى الأبناء فيما ينتقل لهم من متاع. وجعل نصيب الأنثى في الميراث نصف نصيب الذكر، ومنع زواجهن بغير إرادتهن. وفي القرآن آية يأخذها بعضهم حجة على حجب النساء وهي "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" (سورة الأحزاب 33). ولكن الآية إنما تؤكد النهي عن التبرج، ويروى أن النبي أجاز للنساء أن يخرجن لقضاء حوائجهن. أما زوجاته هو فقد طلب إلى أتباعه ألا يكلموهن إلا من وراء حجاب. وفيما عدا هذه القيود فإن نساء المسلمين كن يخرجن من البيوت بكامل حريتهن غير محجبات في أيام النبي وفي القرن الأول بعد الهجرة .

وبعد فإن المناخ من العوامل التي تؤثر في الأخلاق الفردية، ولعل حرارة الجو في بلاد العرب كانت من أسباب تقوية الغريزة الجنسية والنضج المبكر، ولهذا يجب التسامح بعض الشيء فيما نراه من نزعات الرجال في هذه الناحية في البلاد التي يطول فيها فصل الحر-ولقد كانت الشرائع الإسلامية تحرص على طلب العفة من الرجال والنساء قبل الزواج ، وزيادة الفرص لإشباع الغريزة الجنسية بين الأزواج. ولهذا حتم القرآن الاستعفاف قبل الزواج (سورة النور 33) وأوصى النبي بالصيام للاستعانة على هذا الاستعفاف. ويشترط الدين الإسلامي رضاء الخطيبين لإتمام عقد الزواج، فإذا تم هذا الرضاء بشهادة الشهود العدول وأدى العريس مهر عروسه، كان ذلك كافياً لإتمام العقد سواء رضي بذلك آباء%=@يشترط الأحناف إجازة الولي في حال تزويج الصغير والصغيرة وإن كانا عاقلين والشافعي يحتم وجود الولي في حال تزويج البنت البكر وإن كانت بالغة وهو الذي يقوم بعقد الزواج (راجع بدائع الصنائع جـ3 ص33 و241). والزواج لابد فيه من مهر لا يشترط أداؤه فعلاً ليتم عقد الزواج، وللزوجين أن يتفقا على تأجيله كله أو بعضه على ما هو متعارف (راجع بدائع الصنائع ج‍2 ص277-278). (ي)@ العروسين أو لم يرضوا. وقد أجيز للمسلم أن يتزوج مسيحية أو يهودية ولكنه حرم عليه أن يتزوج من وثنية أو مشركة. وعدم الزواج في الإسلام، كما هو في الدين اليهودي، إثم، والزواج فيهِ فريضة محببة إلى الله (سورة النور 32). وأجاز الإسلام تعدد الزوجات ليعوض بكثرة النسل الوفيات العالية بين الذكور والنساء على السواء، ولطول فترة النفاس، وما يحدث في البلاد الحارة من نقص سريع في قوة الإخصاب، ولكنه حدد عدد الزوجات الشرعيات بحيث لا يزدن على أربع وإن كان النبي نفسه قد تجاوز هذا العدد. وحرم الإسلام التسري (سورة المعارج 29 و31) ولكن ذلك عنده خير من الزواج بمشركة (سورة البقرة 231) .

وبعد أن تسامح الإسلام مع الرجل إلى هذا الحد فمكنه بتعدد الزوجات من إشباع غريزته الجنسية إشباعاً حلالاً حرم الزنى أشد التحريم، فجعل عقوبة الزاني والزانية مائة جلدة (سورة النور ) لكنه اشترط لتوقيع هذه العقوبة ثبوت الزنى بشهادة أربعة من الشهود. ونهى القرآن فضلاً عن هذا عن رمي المحصنات فقال "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً" (سورة النور 4) وقد قل الاتهام بالزنى بعد نزول هذه الآية.

وأباح القرآن الطلاق للرجل كما أباحه التلمود. وللمرأة أن تطلق نفسها من زوجها بأن ترد له صداقها (سورة البقرة 229)؛ لكن الإسلام وإن أجاز للزوج أن يطلق زوجته كما كان مباحاً له في أيام الجاهلية%=@الصحيح في هذا أنه لما كان الإسلام حريصاً على أن تكون العشرة بين الزوجين بالمعروف فإن العشرة إن ساءت وأصبح من الخير لهما الانفصال كان ذلك بالطلاق برضاء الزوجين بلا مقابل أو بمقابل. (ي)@ ، فإن النبي لم يكن يشجع عليهِ ويروى عنه أنه قال إن "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". هذا إلى أن القرآن نفسه يحض على عدم قطع العلاقة الزوجية إلا بعد أن تُبذل الجهود للإصلاح بين الزوجين "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما" (سورة النساء 35). ولا يصبح الطلاق نهائياً إلا بعد صدوره ثلاث مرات بين كل واحدة والأخرى شهر على الأقل ولكي يُرغم الزوج على أن يطيل التفكير في أيمان الطلاق قبل صدورها، فإن الإسلام لا يبيح بعد ذلك للرجل أن يرد مطلقته إلى عصمته إلا إذا تزوجت من رجل آخر ثم طُلقت منه. ولا يباح للزوج أن يقرب زوجته في المحيض وليس ذلك لأنها "نجسة" في ذلك الوقت، وإن كان يطلب إليها أن تتطهر بعده قبل أن يقربها زوجها. والنساء حرثٌ للرجال ومن الواجب على الرجل أن ينجب أبناء، وينبغي للزوجة أن تقر للزوج بتفوقهِ عليها في الزكاء، ومن ثم أن تكون له عليها القوامة وحق الطاعة، فإذا عصت كان له أن يهجرها ويضربها (سورة النساء 34) والمرأة التي تتوفى وزوجها راضٍ عنها تدخل الجنة .

لكن ما فقدته النساء من حقوق قد نلن أكثر منه بفصاحة لسانهن، ورقة قلوبهن، ومفاتنهن، شأنهن في هذا شأن النساء في العالم كله. وقد حدث مرة أن لام عمر بن الخطاب زوجته لأنها كلمته بلهجة رأى فيها شيئاً من قلة الاحترام، فما كان منها إلا أن أكدت له أن هذه هي اللهجة التي تخاطب بها ابنته حفصة وغيرها من أزواج النبي رسول الله. فذهب عمر من فوره ولام على ذلك حفصة وزوجة أخرى من أزواج النبي. فقيل له إن هذا ليس من شأنهِ وخرج عمر غاضباً. وسمع النبي بهذا فأثار ضحكه. وكان النزاع يقوم في بعض الأحيان بين النبي وبين أزواجه كما يحدث عند غيره من المسلمين، ولكنه كان على الدوام يعزهن، ويظهر لهن ولغيرهن من النساء المسلمات ما يليق بهن من عواطف طيبة. ويروى عنه أنه قال إن المرأة الصالحة أثمن شيء في العالم. ويذكر الله الناس في القرآن مرتين بأن أمهاتهم حملنهم كرهاً ووضعنهم كرهاً وأرضعنهم أربعة وعشرين أو ثلاثين شهراً( ، ويروى عن النبي أنه قال: "الجنة تحت أقدام الأمهات".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: القرآن والدين والدولة

إن أعقد ما يلاقيه المصلح من المشاكل مشكلتان، أولهما أن يجعل التعاون بين الناس محبوباً جذاباً، والثانية أن يحدد سعة الكل والجماعة التي يشير عليها بالتعاون الكامل. والأخلاق المثالية تطلب المعاونة التامة بين كل جزء وبين كلّ كلّ-أي بين العالم أجمع وحياته الجوهرية ونظامه أي الله سبحانه وتعالى. وفي هذه الدرجة من التعاون يصبح الدين والأخلاق شيئاً واحداً، ولكن الأخلاق وليدة العادة وحفيدة القسر، وهي لا تنمي التعاون إلا بين مجموعات مزودة بالقوة، ومن أجل هذا كانت كل الأخلاق الواقعية أخلاقاً جماعية.

وقد تخطت القوانين الأخلاقية التي جاء الإسلام بها حدود القبيلة التي ولد النبي بين ظهرانيها، ولكنها اقتصرت على الجماعة الدينية التي أنشأها. فلما تم له النصر في مكة وضع القيود على غارات النهب بين القبائل، وإن لم يكن في مقدورهِ أن يمنع هذه الغارات منعاً باتاً؛ وأشعر بلاد العرب كلها، أي أنه أشعر بلاد الإسلام كلها في ذلك الوقت، معنى جديداً للوحدة، ووضع لها أفقاً للتعاون والولاء أوسع مما عرفته من قبل "إنما المؤمنون أخوة" (سورة الحجرات 10) وقللت العقيدة المشتركة ما بين الطبقات والأجناس من فروق، وفي ذلك يقول النبي: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبداً حبشي كأن رأسه زبيبة". تلك بلا مراء عقيدة نبيلة سامية ألفت بين الأمم المتباينة المنتشرة في قارات الأرض فجعلت منها شعباً واحداً: وهي لعمري أعظم معجزة للمسيحية والإسلام. غير أن هذا الحب السامي الذي يدعو إليه الدينان يقابله عداء شديد لغير المؤمنين (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء"..."إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" سورة المائدة 51 و55 "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان" (سورة التوبة 23). لكن القرآن يأمر في آيات كثيرة بأن يسلك المسلمون جادة الاعتدال في الأخذ بهذه المبادئ فيقول "لا إكراه في الدين" "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا" (سورة البقرة 137) "وإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين" (سورة النحل 82) "فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت بهِ إليكم" (سورة هود 57) "فتول عنهم حتى حين، وأبصرهم فسوف يبصرون" (سورة الصافات 174 و175) "وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون" (سورة الصافات 178 و179). أما كفار العرب الذين لم يؤمنوا برسالة النبي فقد أمر بقتالهم ولما أن بدأت الحرب مع قريش وانسلخت الأشهر الحرم أمر المسلمون بقتالهم حيث وجدوهم (سورة التوبة 5) "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفورٌ رحيم"-"وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"، "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" (سورة التوبة 5 و6) ومن وصايا أبي بكر لجيوشه أن لا يقتلوا شيخاً عاجزاً عن القتال، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة. وكان على كل مسلم سليم الجسم أن يشترك في الجهاد "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" (سورة الصف 4). ومن أحاديث النبي "والذي نفس محمد بيده لغدوةٌ في سبيل الله أو روحةٌ خير من الدنيا وما فيها". و"لمقام أحدكم في الصف خيرٌ من صلاته ستين سنة". لكن هذه المبادئ الأخلاقية الحربية ليست في واقع الأمر تحريضاً على القتال "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (سورة البقرة 190). وكان محمد يتبع قوانين الحرب التي كان يتبعها المسيحيون في أيامه ويشن الحرب على كفار قريش المسيطرين على مكة كما كان إربان الثاني Urban II فيما بعد يدعوا إلى قتال المسلمين المسيطرين على بيت المقدس.

ويلوح أن الثغرة التي لابد من وجودها بين النظريات المجردة والأفعال الواقعية كانت أضيق في الإسلام منها في سائر الأديان. ولقد كانت العرب أكثر شهوانية من كثير من الشعوب، ولهذا أجاز الإسلام تعدد الزوجات ، أما فيما عدا هذا فإن الشريعة الإسلامية شديدة كل الشدة على من لا يتمسك من المسلمين بأصول الدين؛ والذين يجهلون الإسلام هم وحدهم الذين يظنون أنه دين سهل من الوجهة الأخلاقية. كذلك كان من طبيعة العرب الآخذ بالثأر، ولهذا لم يدع الإسلام إلى مقابلة الإساءة بالإحسان . "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (سورة البقرة 194) "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل" (سورة الشورى 41)، تلك أخلاق تليق بالرجال، شبيهة بما جاء في العهد القديم، فهي تؤكد فضائل الرجولة كما تؤكد المسيحية فضائل الأنوثة. وليس في التاريخ دين غير دين الإسلام يدعو أتباعه على الدوام إلى أن يكونوا أقوياء، ولم يفلح في هذه الدعوة دين آخر بقدر ما أفلح فيها الإسلام: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا" (سورة آل عمران 200) هكذا كان يقول أيضاً زرادشت الذي نادى بمبادئ نتشة قبل وجود نتشة بزمن طويل.

والمسلمون يعظمون القرآن إلى درجة تقرب من العبادة، وقد كتبوا المصاحف وزينوها وبذلوا في سبيل ذلك كل ما يستطيعون من عناية مدفوعين إليها بحبهم له، وهو الكتاب الذي يبدأ منه أطفال المسلمين بتعلم القراءة، وهو المحور الذي يدور عليه تعليمهم والذروة التي ينتهي بها هذا التعليم. وقد ظل أربعة عشر قرناً من الزمان محفوظاً في ذاكرتهم، يستثير خيالهم، ويشكل أخلاقهم، ويشحذ قرائح مئات الملايين من الرجال. والقرآن يبعث في النفوس الساذجة (الأفضل أن يقال السليمة الفطرة) ولقد آمن بالقرآن كثير من رجال العلم والفكر في كل عصر من العصور الماضية وفي هذا العصر الذي نعيش فيه؛ كما آمن به من لا يحصون كثرة من الناس على اختلاف حظوظهم من العقل والفكر؛ وما ذلك إلا لأنه جاء بالعقيدة الحقة الواضحة التي يتقبلها الجميع. (ي)@ أسهل العقائد، وأقلها غموضا، وأبعدها عن التقيد بالمراسم والطقوس، وأكثرها تحرراً من الوثنية والكهنوتية. وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعي والوحدة الاجتماعية، وحضهم على إتباع القواعد الصحية، وحرر عقولهم من كثير من الخرافات والأوهام، ومن الظلم والقسوة، وحسن أحوال الأرقاء، وبعث في نفوس الأذلاء الكرامة والعزة، وأوجد بين المسلمين (إذا استثنينا ما كان يقترفه بعض الخلفاء المتأخرين) درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أية بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض. ولقد علم الإسلام الناس أن يواجهوا صعاب الحياة، ويتحملوا قيودها، بلا شكوى ولا ملل، وبعثهم في الوقت نفسه إلى التوسع توسعاً كان أعجب ما شهده التاريخ كله. وقد عرَّف الدين وحدده تحديداً لا يجد المسيحي ولا اليهودي الصحيح العقيدة ما يمنعه من قبوله. "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبهِ ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساءِ والضراءِ وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" (سورة البقرة الآية 177).