قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 2 ب 8
صفحة رقم : 4431
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> مقدمة الترجمة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب الثاني: الحضارة الإسلامية 569- 1258 : الباب الثامن: محمد صلى الله عليه وسلم 570-632
مقدمة الترجمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (وبعد) فهذا هو الجزء الخاص بالحضارة الإسلامية من المجلد الرابع من قصة الحضارة، وهو المجلد المسمى "عصر الإيمان"، وقد عاينا في ترجمة من الصعاب ما لم نعانه في سائر ما ترجمناه حتى الآن من أجزاء الكتاب البالغ عددها نحو عشرين جزءاً ما طبع منها وما لم يطبع. ذلك أن المؤلف قد نقل الشيء الكثير عن المؤرخين، والأدباء والشعراء، والعلماء، ورجال الدين، والفلاسفة، والمتصوفة، والحكماء. فليس في الكتاب صفحة تخلو من نص منقول عن واحد من هؤلاء، وقد يكون في الصفحة الواحدة ما لا يقل عن عشرة نصوص. هذا إلى ما ورد فيه من أسماء هؤلاء جميعاً وأسماء مؤلفاتهم، وبلدانهم، وأصدقائهم، والملوك، والسلاطين، والأمراء، والوزراء الذي اتصلوا بهم؛ وكان لا بد لنا أن نرجع في هذا كله إلى المصادر العربية وترجمتها الأجنبية التي نقل عنها المؤلف وأشار إلى بعضها ولم يشر إلى البعض الآخر، فكان علينا نحن أن نبحث عن أسماء لمصادر أولاً ثم عن النصوص بعدئذ.
على أن هذا ليس هو كل شيء، فقد كانت أسماء من نقل عنهم ترد أحياناً محرفة تحريفاً يتطلب تصحيحه الكثير من الجهد. وكم من نص نسب إلى غير قائله لخطأ في المراجع التي نقل عنها المؤلف، كالأبيات التي يعزوها نقلاً عن أمين الريحاني لأبي العلاء المعري وليست هي له بل من أقوال محي الدين بن عربي، والتي كان علينا أن نتصل من أجلها بنيويورك لنبحث فيها عن نسخة من كتاب "رباعيات أبي العلاء"، لأمين الريحاني لأنا لم نجده في مصر. وأكثر من هذا أن المؤلف ينقل في كثير من الأحيان عن تراجم المستشرقين للكتب العربية، وهؤلاء قد يطلقون عليها أسماء غير أسمائها العربية أو يترجمونها ترجمة يصعب معها الاهتداء إليها كتسمية الجزء الأول من كتاب نفح الطيب للمقري باسم "تاريخ الأسر الإسلامية بالأندلس"، وكتاب "اليميني" أو "السيرة اليمينية" باسم "تاريخ الأمير سبكتجين ومحمود الغزنوي" الذي لا توجد منه إلا نسخة محطوطة في دار الكتب، تتطلب قراءتها والبحث فيها كثيراً من الجهد، وترجمة "تذكرة الكحالين" باسم "رسالة الرمد" إلخ.
وقد وفقنا بحمد الله إلى تذليل هذه الصعاب فصححنا ما حرف أو كتب خطأ من أسماء الأشخاص والأماكن والكتب، واهتدينا إلى النصوص من مصادرها، وصححنا بعض الأخطاء التي وقع فيها المؤلف كخلطه بين الكندي الفيلسوف وعبد المسيح بن إسحق الكندي الذي كتب رسالة في الدفاع المسيحية عزاها المؤلف إلى الكندي الفيلسوف. وقد عوننا في ذلك غير قليل من العلماء والأصدقاء نذكرهم هنا اعترافاً بفضلهم السيد الحاخام الأكبر الذي ساعدنا في تحقيق كثير من الأسماء والنصوص العبرية في هذا الجزء والجزء الذي يليه والذي اغترفنا من بحر علمه ما روى غلتنا في هذا الميدان، ومنهم صديقنا الأديب الأستاذ كامل كيلاني الحجة في أبي العلاء الذي هدانا إلى كثير من النصوص المنقولة عنه وعن غيره للشعراء، والدكتور عبد الوهاب عزام، والدكتور يحيى الخشاب اللذان عانانا على تحقيق بعض الأسماء الفارسية، والأستاذ دريني خشبة الذي ترجم لنا شعراء رباعيتين لعمر الخيام لم نجدها في التراجم المطبوعة فضلاً عما استخرجه لنا من النصوص الأدبية الأخرى، والأستاذ أمين الشريف الذي وفر علينا كثيراً من المشقة بالبحث عن كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وأصدقاؤنا في دار الكتب، وكتبة وزارة التربية الذين يسروا لنا سبيل الحصول على المراجع أعظم تيسير. فهؤلاء جميعاً أقدم خالص الشكر عن نفسي وعن القراء. وإذا كان قد فاتنا شيء من هذه الناحية فإنا نعتذر عنه مقدماً ونتقبل شاكرين ما يهدينا إليه القراء لنتداركه في الطبعة الثانية إن شاء الله، وعذرنا أننا بذلنا كل ما نستطيع من جهد للوصول إلى الحقيقة كاملة، ونقول كما يقول ابن خلكان، والتمثيل مع الفارق بطبيعة الحال: "فمن وقف على هذا الكتاب من أهل العلم ورأى فيه شيئاً من الخلل فلا يعمل بالمؤاخذة فيه، فإني توخيت فيه الصحة حسبما ظهر لي، مع أنه كما يقال:
أبي الله أن يصح إلا كتابه. ولكن هذا جهد المقل، وبذل الاستطاعة، وما يكلف الإنسان إلا ما تصل قدرته إليه، وفوق كل ذي علم عليم...والله يستر عيوبنا بكرمه الضافي، ولا يكدر علينا ما منحنا من مشرع عظاته النمير الصافي إن شاء الله تعالى بمنه وكرمه". هذا وسيرى القارئ أن المؤلف قد أنصف الحضارة الإسلامية فشاد بفضلها وأوضح ما كان لها من أثر خالد في حضارة أوربا والعالم أجمع وما يدين به العالم الحديث لهذه الحضارة، ثم هو يعتذر في آخر هذا الجزء عن تقصيره في هذه الناحية. وكان لا بد له أن يمهد لوصفه تلك الحضارة بفصول عن باعثها عليه الصلاة والسلام وعن القرآن والدين، ولم تفته الإشادة بمحاسنه وفضائله. على أننا لم نشأ أن نترك هذه الفصول كما هي لما عساه أن يكون فيها من أخطاء أو سوء فهم أو نستقل برأينا فيها، فعرضنا الأمر على الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية فعهدت إلى الأستاذ الجليل الدكتور محمد يوسف موسى أن يعلق على هذه الفصول فكتب التعليق القيم الوارد في هوامشها والذي ذيل باسمه(ي). وقد أضفنا نحن من عندنا تعليقات أخرى على هذه الأجزاء وعلى سائر فصول الكتاب ذيلناها بلفظ (المترجم).
وكان هذا أيضاً هو رأي إخواننا أعضاء مجلس إدارة لجنة التأليف، ونرجو أن نكون قد سلكنا هذا الطريق الصحيح. ولا يسعنا أن نختم هذه المقدمة قبل أن نقدم جزيل الشكر مرة أخرى للإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية صاحبة المشروع وأكبر عون فيه، وللجنة التأليف والترجمة والنشر ناشرة الكتاب، والقراء الكرام في مصر والبلاد العربية التي شجعونا بإقبالهم على الأجزاء السابقة على مواصلة الجهد في هذا العمل الشاق، وفقنا الله وإياهم إلى الخير، وهدانا الصراط المستقيم.
محمد بدران
الفصل الأول: جزيرة العرب
توفي جستنيان في عام 565 وهو سيد إمبراطورية عظيمة، بعد خمس سنين من وفاته ولد محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسرة فقيرة في إقليم ثلاث أرباعه صحراء مجدية قليلة السكان، أهله من قبائل البدو الرحل، إذا جمعت ثروتهم كلها فإنها لا تكاد تكفي إنشاء كنيسة أو صوفيا. ولم يكن أحد في ذلك الوقت يحلم أنه لن يمضي قرن من الزمان حتى يكون أولئك البدو قد فتحوا نصف أملاك الدولة البيزنطية في آسية، وجميع بلاد الفرس، ومصر، ومعظم شمالي أفريقية، وساروا في طريقهم إلى أسبانيا. والحق أن ذلك الحادث الجلل الذي تمخضت عنه جزيرة العرب، والذي أعقبه استيلاؤها على نصف عالم البحر المتوسط ونشر دينها الجديد في ربوعه، لهو أعجب الظواهر الاجتماعية في العصور الوسطى.
وبلاد العرب أكبر أشباه الجزائر في العالم، ويبلغ أكبر أطوالها 1400 ميل وأكبر عروضها 1250 ميلاً، وهي من الوجهة الجيولوجية امتداد للصحراء الكبرى، وجزء من الإقليم الصحراوي الرملي يمتد إلى صحراء جوبي مخترقاً بلاد فارس. ومعنى "عرب" قحل . وبلاد العرب هضبة واسعة ترتفع على مسافة ثلاثين ميلاً من البحر الأحمر ارتفاعاً فجائياً إلى 12.000قدم، تنحدر نحو الشرق انحداراً سهلاً في أرض جبلية جدباء حتى تصل إلى الخليج الفارسي. وفي وسط الجزيرة عدد من الواحات الكلئة، والقرى ذات النخيل، نشأت حيث يمكن الحصول على الماء بحفر الآبار. وتمتد الرمال حول هذه المراكز مئات الأميال في جميع الجهات. ويسقط الثلج في تلك البلاد مرة كل أربعين عاماً، وتنخفض درجة الحرارة فيها بالليل إلى 3o، أما شكس النهار فتلفح الوجوه وتغلي الدم في العروق، والهواء المحمل بالرمال يضطر الأهلين إلى لبس الأثواب الطوال، وشد غطاء الرأس بالعقال لوقاية الجسم والشعر. وتكاد المساء تكون على الدوام صافية خالية من الغيوم، والهواء "يشبه النبيذ البراق". ويسقط المطر أحياناً قرب شاطئ البحر صالحاً لقيام الحضارة، وأكثر ما يكون ذلك على الساحل الغربي في بلاد الحجاز حيث نشأت بلدتا مكة والمدينة، وفي الطرف الجنوبي الغربي من بلاد اليمن موطن الممالك العربية القديمة. ويسجل نقش بابلي (يرجع تاريخه إلى حوالي عام 2400ق.م). هزيمة لحقت بملك ماجان على يد نارام سن الحاكم البابلي. وقد كانت ماجان هذه عاصمة المملكة المعينية التي كانت قائمة في الجنوب الغربي من جزيرة العرب. وقد عُرف خمسة وعشرون من ملوكها الذين حكموها بعد هذه الهزيمة من نقوش عربية يرجع تاريخها إلى عام 800 ق.م. وثمة نقش آخر يرجعه بعضهم إلى 2300ق.م وإن كانوا غير واثقين من هذا. وقد ورد في هذا النقش اسم مملكة عربية أخرى هي مملكة سبأ في بلاد اليمن. ومن سبأ أو من مستعمراتها في القسم الشمالي من بلاد العرب-لأن هذا موضع خلاف بين المؤرخين-"ذهبت" ملكة سبأ إلى سليمان حوالي عام 950 ق.م. وقد اتخذ ملوك سبأ مأرب عاصمة لهم، وخاضوا حروب "الدفاع" المعتادة، وأنشئوا أعمالاً عظيمة للري كسدود مأرب (التي لا تزال آثارها باقية إلى الآن)، وشادوا الحصون والهياكل الضخمة، ووهبوا كثيراً من المال للشئون الدينية، واتخذوا الدين وسيلة للحكم(2). والنقوش التي خلفوها-والتي لا ترجع في أغلب الظن إلى ما قبل عام 900ق.م-منحوتة نحتاً جميلاً بحروف هجائية. وكانت بلادهم تنتج الكندر والمر اللذين كان لهما أيما شأن في الشعائر الدينية الأسيوية والمصرية، وكانوا يسيطرون على التجارة بين الهند ومصر، وعلى الطرف الجنوبي من طريق القوافل الذاهب إلى البتراء وبيت المقدس ماراً بمكة والمدينة. وحدث حوالي عام 115 ق.م أن قامت مملكة صغيرة أخرى في الجنوب الغربي من بلاد العرب هي مملكة الحميرين، فهاجمت مملكة سبأ، وغلبتها على أمرها، وظلت بعد هذا الوقت تسيطر على تجارة بلاد العرب عدة قرون. وفي عام 25 ق.م غضب أغسطس من سيطرة بلاد العرب على التجارة المتبادلة بين مصر والهند فسير جيشاً بقيادة جالوس Aelius Gallus للاستيلاء على مأرب. وأضل الأدلاء العرب الفيالق الرومانية، وأهلكهم الحر والمرض، وعجزت الحملة عن تحقيق غرضها، ولكن جيشاً رومانياً آخر نجح في الاستيلاء على عدن، وانتقلت بذلك السيطرة على التجارة بين مصر والهند إلى يد روما. (وقد فعل البريطانيون ذلك بعينه في الوقت الحاضر). وفي القرن الثاني قبل الميلاد عبر بعض الحميريين البحر الأحمر، واستعمروا بلاد الحبشة، ونشروا الثقافة السامية بين أهلها الزنوج، كما أدخلوا فيها الكثير من الدم السامي . وتلقى الأحباش من مصر وبيزنطية الدين المسيحي والصناعات اليدوية والفنون. وكانت سفنهم التجارية تجوب البحار وتوغل فيها إلى الهند وسرنديب(2). وكانت سبع ممالك صغيرة تقر بالسيادة للنجاشي .
هذا في الحبشة أما في بلاد العرب نفسها فإن كثيرين من الحميريين ساروا على سنة ملكهم ذي نواس، واعتنقوا الدين اليهودي، واندفع ذو نواس في حماسته الدينية فأخذ يضطهد المسيحيين المقيمين في الجنوب الغربي من جزيرة العرب، فاستغاث هؤلاء ببني دينهم، واستجاب الأحباش إلى دعوتهم، وهزموا ملوك الحميريين (522م)، وأجلسوا على عرش البلاد أسرة حبشية. وتحالف جستنيان مع الدولة الجديدة، ورد الفرس على هذا بأن انحازوا إلى جانب ملوك حمير المخلوعين وطردوا الأحباش، وأقاموا في بلاد اليمن حكماً فارسياً (575) انتهى بعد ستين عاماً أو نحوها حين فتح المسلمون بلاد الفرس.
وازدهرت بعض الممالك العربية الصغرى في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة، ولكنها لم تدم طويلاً. فقدد ظل مشايخ بني غسان يحكمون الجزء الشمالي الغربي والقسم المحيط بتدمر من بلاد سوريا من القرن الثالث إلى القرن السابع تحت سيادة بيزنطية. وأنشأ ملوك بني لحم في الحيرة القريبة من بابل في هذا الوقت عينه بلاطاً نصف فارسي، وتقفوا ثقافة فارسية اشتهرت بموسيقاها وشعرها. ويرى من هذا أن العرب انتشروا شمالاً في سوريا والعراق قبل الإسلام بزمن طويل. وكان النظام السياسي السائد في بلاد العرب قبلا الإسلام، إذا استثنينا هذه الممالك الصغرى في الجنوب والشمال، وهو النظام البدائي الذي يقوم على رابطة القرابة والذي تجتمع الأسر بمقتضاه في عشائر وقبائل. بل إن هذه الممالك الصغرى نفسها لم تكن تخلو من قسط كبير من هذا النظام القبلي. وكانت القبيلة تسمى باسم أب لها مزعوم عام، فالغساسنة مثلاً كانوا أنهم "أبناء غسان"، ولم يكن لبلاد العرب بوصفها وحدة سياسية وجود قبل عصر النبي إلا في مسميات اليونان غير الدقيقة، فقد كانوا يسمون جميع الساكنين في شبه الجزيرة باسم السركنوي Sarakenoi، ومن هذا الاسم اشتق اللفظ الإنجليزي Saracens، ويلوح أنه هو نفسه مشتق من لفظ "الشرقيين" العربي. وكانت قلة سبل الاتصال وصعوبتها مما اضطر أهل البلاد إلى أن يعملوا على الاكتفاء بأنفسهم من غيرهم، كما أنهما كانتا سبباً في نمو روح العزلة فيهم، فالعربي لم يكن يشعر بواجب أو ولاء لأية جماعة أكبر من القبيلة، وكانت قوة ولائه تتناسب تناسباً عكسياً مع سعة الجماعة التي يدين لها بهذا الولاء، فلم يكن يتردد في أن يقدم وهو مرتاح الضمير على ما لا يقدم عليه الرجل المتحضر إلا من أجل بلاده أو دينه أو "عنصره"، أي أن يكذب، ويسرق، ويقتل، ويموت. وكان يحكم كل قبيلة أو بطن من القبيلة شيخ يختاره رؤساء العشائر فيها من بيت اشتهر من زمن بعيد بثرائه، أو سداد رأيه، أو شدة بأسه في القتال.
وكان الرجال في القرى ينتزعون بعض الحب والخضر من التربة الضنينة، ويربون بعض الماشية القليلة العدد، وبعض الجياد الكريمة، ولكنهم كانوا يجدون أن زراعة بساتين النخيل، والخوخ، والمشمش، والرمان، والليمون، والبرتقال، والمز، والتين أجدى لهم وأعود بالربح عليهم. ومنهم من كان يعنى بزراعة النباتات العطرة كالكندر، والسعتر، والياسمين، والخزامي، وكان بعضهم يستخرجون العطر من ورد الجبال، وبعضهم يحفرون سيقان الأشجار ليستخرجوا منها المر أو البلسم. وربما كان جزء من اثني عشر جزءاً من السكان يعيشون في المدن القائمة على الساحل الغربي أو بالقرب منه. وكان في هذا الساحل عدد من المرافئ والأسواق تتبادل منها تجارة البحر الأحمر. وفي داخل البلاد كانت تسير طرق القوافل الكبرى إلى بلاد الشام. ونحن نسمع عن تجارة بين بلاد العرب ومصر منذ عام 2743م؛ وأكبر الظن أن الاتجار مع الهند لم يكن يقل قدماً عن الاتجار مع مصر. وكانت الأسواق والمواسم السنوية تستدعي التجار إلى هذه تارة وإلى تلك تارة أخرى، وكان يجتمع في سوق عكاظ الشهيرة القريبة من التجار، والممثلين، والخطباء، والمقامرين، والشعراء، والعاهرات.
وكان خمسة أسداس السكان بدواً رحلاً، يشتغلون بالرعي وينتقلون بقطعانهم من مرعى إلى مرعى حسب فصول السنة وأمطار الشتاء. والبدوي يحب الخيل، ولكن الجمل أعز أصدقائه في الصحراء، فهو يسير ويهتز في وقار، وإن كان لا يقطع إلا ثمانية أميال في الساعة، ولكنه يستطيع أن يصبر على الماء خمسة أيام طوال في الصيف، وخمسة وعشرون يوماً في الشتاء. والناقة تدر اللبن، وبول الجمل مفيد في تقوية الشعر ، وروثه يمكن أن يُتخذ وقوداً، وإذا ذُبح أكل لحمه، وصُنعت الثياب والخيام من جلده ووبره. وبهذه المقومات المختلفة الأنواع كان في وسع البدوي أن يواجه حياة الصحراء متجلداً كجمله، مرهف الحس نشيطاً كجواده. والبدوي قصير القامة، نحيف الجسم، مفتول العضلات، قوي البنية، في وسعه أن يعيش أياماً متوالية على قليل من التمر واللبن، وكان يستخرج من البلح نفسه خمراً يرتفع بها من تراب الأرض إلى خيال الشعراء. وكان يدفع عن نفسه ملل الحياة الرتيبة وسآمتها بالحب والحرب، وكان يسرع كما يسرع الأسباني (الذي ورث عنه سرعة غضبه) إلى الانتقام لما عساه أن يوجه إليه أو إلى قبيلته من إهانة أو أذى. وكان يقضي جزءاً كبيراً من حياته في الحرب التي تستعر نارها بين القبائل المختلفة، ولما أن فتح بلاد الشام، وفارس، ومصر، وأسبانيا لم يكن عمله هذا إلا توسعاً منه في غارات النهب التي كان يشنها في أيام الجاهلية وإن اختلف الغرض في هذه عن تلك.
وكان من بعض أوقات السنة هدنة مقدسة للحج أو للتجارة، أما في غير هذه الأوقات فكان يرى أن الصحراء ملكه الخاص، وأن كل من يدخلها في غير هذه الأشهر الحرم ومن غير أن يؤدي له ما يفرضه من إتاوة، معتد عليه معلى وطنه، وأن نهب أموال هذا المعتدي ليس إلا ضريبة تُجبى منه بأهون السبل, وكان يحتقر حياة الحضر، لأن معناها الخضوع لمطالب القانون والتجارة، ويحب الصحراء القاسية لأنه يتمتع فيها بكامل حريته، وكان البدوي رحيماً وسفاكاً للدماء، كريماً وبخيلاً، غادراً وأميناً، حذراً وشجاعاً، ومهما يكن فقيراً، فإنه كان يواجه العالم بمهابة وأنفة، ويزهو بنقاء دمه ويولع بأنه يضيف إلى اسمه سلسلة نسبه.
كان لدى البدوي أمر لا يقبل فيه جدلاً، ذلك هو جمال نسائه الذي لا يدانيه في نظره جمال. لقد كان جمالاً أسمر، قوياً، يفتن اللب، خليقاً بأن يتغزل فيه بعشرات المئات من الأغاني الشعرية، ولكنه جمال قصير الأجل سرعان ما يذوى في جو الصحراء القائظ. وكانت حياة المرأة العربية قبل أيام النبي تنتقل من حب الرجل لها حباً يقترب من العبادة إلى الكدح طوال ما بقي من حياتها، ولم تتغير هذه الحياة فيما بعد إلا قليلاً . وكان في وسع أبيها أن يئدها حين مولدها إذا رغب في هذا، فإن لم يفعل فلا أقل من أن يحزن لمولدها، ويواري وجهه خجلاً من الناس، لأنه يحس لسبب ما أن جهوده قد ذهبت أدراج الرياح، وكانت طفولتها الجذابة تستحوذ على قلبه بضع سنين، ولكنها حين تبلغ السنة السابعة أو الثامنة من عمرها كانت تُزوج لأي شاب من شبان القبيلة يرضى والده أن يؤدي للعروس ثمنها . وكان حبيبها وزوجها يحارب العالم كله إذا لزم الأمر ليحميها، أو يدافع عن شرفها. وقد انتقلت بعض مبادئ هذه الشهامة المتطرفة مع هؤلاء العشاق المتيمين إلى أسبانيا. ولكن هذه المعبودة كانت إلى هذا سلعة من السلع، فقد كانت جزءاً من أملاك أبيها، أو زوجها، أو ابنها، تُورَث مع هذه الأملاك، وكانت على الدوام من خدم الرجل، وقلما كانت رفيقته. وكان يطلب إليها أن تلد له كثيراً من الأبناء، والأبناء الذكور بطبيعة الحال، لأن واجبها أن تنجب المحاربين، ولم تكن في كثير من الأحوال إلا زوجة واحدة من كثيرات من الزوجات وكان في وسع الرجل أن يخرجها من بيته متى شاء. ولكن مفاتنها لم تكن تقل عن الحرب إلهاماً لخيال الشعراء، وموضوعاً لشعرهم، وكان العربي قبل الإسلام أمياً ولكن حبه للشعر لم يكن يزيد عليه إلا حبه للخيل والنساء والخمر. ولم يكن بين العرب في الجاهلية علماء أو مؤرخون ولكنهم كانوا مولعين بفصاحة اللسان، وصحة الكلام، والشعر المختلف المعقد الأوزان. وكانت اللغة العربية قريبة الشبه باللغة العبرية، معقدة في تصريفها، غنية بمفرداتها، دقيقة في الفروق بين ألفاظها، قادرة في ذلك الوقت على التعبير عن جميع أحاسيس الشعراء وفيما بعده عن جميع دقائق الفلسفة. وكان العرب يفخرون بقدم لغتهم وكمالها، يولعون بترديد مقاطعها العذبة في خطبهم الرنانة وشعرهم الجذل ونثرهم الرصين، يأخذ بلبهم شعر الشعراء الذين كانوا يعيدون على أسماعهم في القرى والمدن، وفي مخيمات الصحراء أو الأسواق، مغامرات أبطالهم أو قبائلهم أو ملوكهم في الحب أو الحرب في قصائد طوال من الشعر الموزون المقفى. وكان الشاعر العربي مؤرخ العرب، وجامع أنسابهم، وهجاءهم، والمعتني بفضائلهم، وناقل أخبارهم، وما همهم، وداعيهم إلى القتال. وإذا نال الشاعر جائزة في إحدى المباريات الشعرية الكثيرة التي كانت تعقد من آن إلى آن، كانت قبيلته كلها تعد ذلك شرفاً لها تبتهج له أعظم ابتهاج؛ وكانت أهم هذه المباريات كلها تعقد كل عام في سوق عكاظ، حيث كانت تتنافس القبائل في كل يوم تقريباً مدى شهر كامل على لسان شعرائها. ولم يكن في هذا السوق محكمون غير الجماهير المنصتة التي تبدي استحسانها لما تسمع أو احتقارها له . وكانت أحسن القصائد التي تقال في هذه السوق تكتب بحروف جميلة براقة فسميت من أجل ذلك "بالمذهبات"، وكان يُحتفظ بها في خزائن الأمراء والملوك تراثاً خالداً قيماً. وكان العرب يسمون هذه القصائد أيضاً بالمعلقات لأن الفائز منها-كما تقول القصص المتواترة-قد كتبت على الحرير المصري بأحرف من ذهب وعُلقت على جدران الكعبة في مكة. وقد بقيت من هذه المعلقات التي قبلت في الجاهلية سبع قصائد يرجع تاريخها إلى القرن السادس الميلادي، وهي قصائد طوال من الشعر المقفى المعقد الأوزان، وموضوعها في العادة هو الحب أو الحرب. وتقص إحداها وهي معلقة لبيد قصة جندي عاد من الحرب إلى قريته وبيته حيث كان قد ترك زوجته، فوجد بيته خالياُ، وقد غادرته الزوجة مع رجل غيره. ويصف لبيد منظر هذا البيت الخيالي بحنان لا يقل عن حنان جولد سمث . ويزيد عليه في فصاحة الشعر وقوة التعبير. وفي معلقة أخرى تستحث النساء الرجال إلى الحرب بقولهن:
ويها بني عبد الدار ويها حماة الديار
ضرباً بكل بتار
نحن بنات طارق لا ننثني لوامق
نمشي على النمارق المسك في المفارق
والدر في المخانق إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وفي معلقة لأمرئ القيس أبيات تنم عن حب شهواني سافر:
وبيضة خدر لا يرام خباؤهـا تمتعت من لهو بها غير معجل
تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً علي حرصاً لو يسرون مقتلي
إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت يمين الله مالك حيلة وما أن أرى عنك الغواية تنجلي
خرجت بها أمشي تجر وراءنا على أثرينا ذيل مرط مرحل
فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت على هضيم الكشح رياً المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضلة ترائبها مصقولة كالسجنجل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي بناظرة من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش إذا هي نضته ولا بمعطل
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيت كقنوة النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا تضل العقائص في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر وساق كأنبوب السقي المذلل
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وتعطو برخص غير شئن كأنه أساريع ظبي أو مساويك أسحل
تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممس راهب متبتل
وكان شعراء الجاهلية ينشدون أشعارهم على نغمات الموسيقى، فجمعوا بذلك بين الشعر والموسيقى في صورة واحدة. وكان الناي، والمزهر، والدف أحب الآلات الموسيقية إليهم، وكثيراً ما كانت الفتيات المغنيات يُستدعين لتسلية الأضياف في الولائم. وكان في مجال الشراب عدد منهن، وكان عند ملوك الغساسنة عدد كبير من الفتيات ليفرجن عنهم متاعب الملك. ولما خرج أهل مكة لقتال النبي في عام 634 أخذوا معهم سرباً القيان ليلينهم ويشجعنهم على القتال، وكانت الأغاني العربية حتى في أيام الجاهلية أناشيد مشجية حزينة، لا تُستخدم فيها إلا ألفاظ قليلة نغمتها على الدوام في الدرجات العليا من السلم الموسيقي، وتكفي فيها أبيات قليلة لتشغل المعنى ساعة كاملة.
وكان للعربي ساكن الصحراء دينه الدال على حذقه ودهائه رغم بدائيته. فكان يهاب ويعبد أرباباً لا حصر لها في النجوم، والقمر، وفي أطباق الأرض، وكان حين إلى حين يطلب الرحمة من السماء المنتقمة، ولكنه لم يكن في الغالب يستبين سبيل الرشاد بين الجن المحيطين به، ولا يرى أملاً في استرضائهم، فغلب عليه من أجل ذلك النزعة الجبرية والاستسلام، فإذا دعاهم في رجولة ولم يطل الدعاء، ويستهزئ بالأبدية ولا يعبأ بها، وبيدوا أنه لم يكن يفكر كثيراً في الحياة بعد الموت، على أنه كان في بعض الأحيان يطلب أن يربط جمله بجوار قبره، وأن يُمنع عنه الطعام حتى يلحق به بعد قليل في الدار الآخرة، وينجيه من مذلة السير على قدميه في الجنة، وكان بين الفينة والفينة يقدم لآلهته الضحايا البشرية، كما كان في بعض الأماكن يعبد الأصنام الحجرية. وكانت مكة مركز عبادة الأصنام. ولم يكن سبب قيام هذه المدينة المقدسة في موضعها الذي قامت فيه هو جودة مناخها، ذلك أن الجبال الجرداء التي تكاد تطبق عليها من جميع الجهات تجعل صيفها حار لا يطاق. وكان الوادي الذي تقوم فيه غير ذي زرع، ولا يكاد يوجد في البلدة كلها كما عرفها محمد حديقة واحدة، ولكن موقعها في منتصف ساحل البلاد الغربي، وعلى بعد ثمانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر، جعلها محطة صالحة في طوق القوافل الطوال التي تجمع في بعض الأحيان ألف جمل بعضها وراء بعض، والتي كانت تحمل المتاجر بين جنوبي بلاد العرب (ومن ثم بين الهند وأفريقية الوسطى) وبين مصر، وفلسطين، وبلاد الشام. وكان التجار أصحاب هذه التجارة يؤلفون فيما بينهم شركات محاصة، ويسيطرون على أسواق عكاظ، ويقومون بالشعائر الدينية المجزية حول الكعبة وحجرها الأسود المقدس.
ومعنى الكعبة البيت المربع. واللفظ ذو صلة باللفظ الإنجليزي Cube (مكعب) ومن المعتقدات الشائعة أن الكعبة بنيت ثم أعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها في فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها في المرة الثانية آدم أبو البشر، وفي المرة الثالثة ابنه شيث، ثم بناها في المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل ابنه من هاجر... وبناها في المرة السابعة قصي زعيم قبيلة قريش، وبناها في المرة الثامنة كبار قريش في حياة محمد (605)، وبناها في المرتين التاسعة والعاشرة زعماء المسلمين عامي 681 و 696. والكعبة كما بنيت في المرة العاشرة هي كعبة هذه الأيام في معظم أجزائها. وهي مقدمة ي داخل بناء واسع هو المسجد الحرام. وهي بناء مربع من الحجر طولها أربعون قدماً، وعرضها خمسة وثلاثون، وارتفاعها خمسون، وفي ركنها الجنوبي الشرقي، وعلى بعد خمسة أقدام من سطح الأرض، الحجر الأسود، وهو حجر قاتم اللون بيضي الشكل قطره سبع بوصات. ويعتقد الكثيرون أن هذا الحجر قد نزل من السماء-ولعله كان صاعقة؛ ويقول معظمهم إنه وجد بالكعبة من أيام إبراهيم، ويرى علماء المسلمين أنه رمز لذلك الفرع من أبناء إبراهيم فرع إسماعيل وأبنائه الذي نبذه بنو إسرائيل فكان منه آباء قبيلة قريش. ويؤيدون قولهم هذا بما جاء في المزمور الثامن عشر بعد المائة في الآيتين 22 و23 "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية"، وفي الآيتين 42 و43 من الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متي، وهو قول عيسى بعد أن نطق بهذه العبارة العجيبة: "لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" وإن لم يكن في وسع المسلمين أن يقولوا إنهم قد حققوا ما قاله عنهم المسيح .
وكان في الكعبة قبل الإسلام عدد من الأصنام تمثل معبودات العرب. منها، اللات، والعزى، ومناة. وفي وسعنا أن ندرك قدم عهد هذه الآلهة العربية إذا عرفنا أن هيرودوت قد ذكر الإلات (اللاَّت) على أنها من أكبر أرباب العرب. وكانوا يقولون لأهل مكة أن إلههم الأكبر رب أرضهم، وإن عليهم أن يؤدوا لها عشر محاصيلهم، والثمرة الأولى من نتاج قطعانهم. وكانت قريش، وهي التي تعزو نسبها إلى إبراهيم وإسماعيل، تختار من بين رجالها سدنة الكعبة وخدامها والمشرفين على مواردها المالية. وكانت أقلية أرستقراطية منه هم بنو قصي يتولون زمام الحكومة المدنية في مكة.
وكانت قريش في بداية القرن السادس منقسمة إلى فئتين متنافستين، إحداهما يتزعمها التاجر الثري الخير هاشم، والأخرى يتزعمها ابن أخيه أمية.
وكان لهذا التنافس الشديد شأنه العظيم في تاريخ العرب بعد الرسالة. ولما توفي هاشم خلفه في زعامة بيته أخوه الأصغر عبد المطلب-وفي عام 568 تزوج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة، وهي أيضاً من قصي، وأقام عبد الله مع عروسه أياماً قليلة سافر بعدها في بعثة تجارية. ومات في المدينة وهو راجع من سفره وبعد شهرين من وفاته (569) ولدت آمنة أعظم شخصية في تاريخ العصور الوسطى .
الفصل الثاني: محمد في مكة 569-622
[نكرر هنا ما ذكرناه في مقدمة هذا الجزء من أننا آثرنا أن نثبت هذه الفصول التي يتحدث فيها المؤلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن والدين الإسلامي كما أوردها حرصاً منا على الأمانة في الترجمة من جهة ولكي يطلع قراء العربية على بعض آراء الكتاب غير المسلمين من جهة أخرى سواء كانت هذه الآراء مما يتفق مع ما أجمع عليه أولئك القراء أولا يتفق معه. يضاف إلى ذلك أن هذه الفصول لا تخلو من كثير من الثناء على النبي وتمجيد للإسلام يصح أن يطلع عليه القراء. على أن إثباتنا لأقوال المؤلف لا يعني مطلقاً أننا نوافقه عليها. وقد ذكر وهو مسيحي في كلامه على المسيحية ما لا يوافقه عليه كثيرون من أبنائها كما ذكر عن اليهودية ما لا يوافقه عليه كثيرون من اليهود، ويجب أن لا يغفل القراء التعليقات التي أثبتناها في هوامش هذه الفصول]. لقد كان محمد من أسرة كريمة ممتازة، ولكنه لم يرث منها إلا ثروة متواضعة، فقد ترك له عبد الله خمسة من الإبل، وقطيعاً من المعز، وبيتاً، وأمة عنيت بتربيته في طفولته. ولفظ محمد مشتق من الحمد وهو مبالغة فيه، كأنه حمد مرة بعد مرة، ويمكن أن تنطبق عليه بعض فقرات في التوراة تبشر به. وقد توفيت أمه وهو في السادسة من عمره وكفله أولاً جده وكان وقتئذ في السادسة والسبعين من عمره ثم عمه أبو طالب ولقي منهما كثيراً من الحب والرعاية، ولكن يبدوا أن أحداً لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة. ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر يقرءون ويكتبون. ولم يُعرَف عن محمد أنه كتب شيئاً بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتباً خاصاً له ولكن هذا لم يحل بينه وبين المجئ بأشهر وأبلغ كتاب في اللغة العربية، أو بين قدرته على تعرف شؤون الناس تعرفاً قلما يصل إليه أرقى الناس تعليماً.
ولا نكاد نعرف عن شباب محمد إلا القليل، وكان ما يروى عنه من القصص قد ملأ عشرة آلاف مجلد. وتقول إحدى الروايات إن عمه أبا طالب قد أخذه معه وهو في الثامنة عشرة من عمره في قافلة إلى بصرى ببلاد الشام، وليس ببعيد أن يكون قد عرف في هذه الرحلة قليلاً من القصص الشعبية اليهودية والمسيحية. وتصور قصة أخرى بعد بضعة سنين من الرحلة السابقة مسافراً إلى بصرى في تجارة إلى السيدة خديجة وكانت وقتئذ أرملة غنية، ثم نراه في الخامسة والعشرين من عمره وقد تزوج فجأة بهذه السيدة وهي وقتئذ في الأربعين من عمرها وأم لعدة أبناء. ولم يتزوج غيرها حتى توفيت بعد ذلك بستة وعشرين عاماً، ولم يكن الاقتصار على زوجة واحدة أمراً مألوفاً عند أغنياء العرب في ذلك الوقت، ولكن لعله كان طبيعياً في حالتهما. وقد رزق منها عدة بنات أشهرهن كلهن فاطمة، كما رزق بولدين توفيا في طفولتهما. وقد وجد سلواه في تبني علي بن أبي طالب الذي مات عنه والده. وكانت خديجة سيدة طيبة، وزوجة صالحة، وتاجرة بارعة ظلت وفية لمحمد في صروف حياته الروحية، وظل يذكرها بعد وفاتها على أنها خير نسائه كلهن. ويصف زوج فاطمة محمداً وهو في سن الخامسة والأربعين بقوله: لم يكن الطويل الممغط ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط، وكان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان أبيض مشرباً أدعج العينين أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المشربة، أجود شئن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً،...أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من آره بديهة، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته "لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم". وكان محمد مهيب الطلعة، لا يضحك إلا قليلاً، قادراً على الفكاهة ولكنه لا يترك العنان لهذه الموهبة، لأنه كان يعرف خطورة المزاح إذا نطق به من يتولى أمور الناس، ولم يكن قوي البنية، ولهذا كان مرهف الحس سريع التأثر، ميالاً إلى الانقباض كثير التفكير. كان إذا غضب أو تهيج انتفخت عروق وجهه بدرجة يرتاع لها من حوله ، ولكنه كان يعرف متى يهدأ من انفعاله، وكان في وسعه أن يعفو من فوره عن عدوه الأعزل إذا تاب. وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيين، وكان منهم عدد قليل في مكة، وكان محمد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل ورقة بن نوفل ابن عم خديجة الذي كان مطلعاً على كتب اليهود والمسيحيين المقدسة. وكثيراً ما كان محمد يزور المدينة التي مات فيها والده، ولعله قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا كثيرين فيها. وتدل كثير من آيات القرآن على إعجابه بأخلاق المسيحيين، وبما في دين اليهود من نزعة إلى التوحيد، وبما عاد على المسيحية واليهودية من قوة كبيرة لأن لكلتيهما كتاباً مقدساً تعتقد أنه موحى من عند الله. ولعله قد بدا له أن ما يسود جزيرة العرب من شرك، ومن عبادة للأوثان، ومن فساد خلقي، ومن حروب بين القبائل وتفكك سياسي، نقول لعله قد بدا له أن حال بلاد العرب إذا قورنت مورد رزقهم ، وكادوا يوقعون به أذى جسيماً لولا أن حماه عنهم عمه أبو طالب. ولم يعتنق أبو طالب الدين الجديد، ولكن إخلاصه لتقاليد العرب القديمة تحتم عليه أن يحمي كل فرد من أفراد قبيلته. وكان خوف قريش من إثارة الفتنة الصماء بين العرب مانعاً لها من استخدام العنف مع محمد والأحرار من أتباعه، أما من آمنوا به من العبيد فقد كان في وسعهم أن يستخدموا من الأساليب ما يرونه كفيلاً بردهم عن الدين الجديد دون أن يخالفوا بذلك قوانين القبائل وتقاليدها. فزجوا بعضهم في السجون وعرضوا البعض الآخر ساعات طوال إلى وهج الشمس وهم عراة الرؤوس. ومنعوا عنهم الماء وكان أبو بكر قد ادخر من تجارته خلال عدة سنين أربعين ألف قطعة من الفضة، فلما رأى ما كان يحدث لأولئك العبيد أنفق 35000 منها في تحرير أكبر عدد من العبيد المسلمين، ويسّر محمد الأمر بقوله إن المرتد المكره لا عقاب عليه وغضبت قريش من ترحيب محمد بالعبيد أكثر من غضبها من عقيدته الدينية. وظلت تضطهد من دخل في الإسلام من الفقراء اضطهاداً بلغ من القسوة حداً لم يسع النبي معه إلا أن يأذن لهم أو يشير عليهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، حيث رحب بهم ملكها المسيحي وأكرم وفادتهم(615).
وحدث بعد عام من لك الوقت حادثة كان لها من الشأن في تاريخ الإسلام ما كان لإيمان بولس في تاريخ المسيحية. تلك هي اعتناق عمر بن الخطاب للدين الجديد بعد أن كان من ألد أعدائه وأشدهم عنفاً في مناهضته. وكان عمر رجلاً قوي الجسم، ذا مكانة اجتماعية عالية، وشجاعة أدبية تكاد تكون منقطعة النظير. وبعث إسلامه الثقة في قلوب المؤمنين المضطهدين، وهي ثقة ما كان أحوجهم إلها في ذلك الوقت كما كان سبباً في دخول كثيرين من العرب في الدين الجديد. وبدأ المسلمون من ذلك الوقت يدعون الناس جهرة في الشوارع والطرقات بعد أن كانوا من قبل لا يعبدون الله إلا سراً في بيوتهم. واجتمع المدافعون عن آلهة الكعبة وأقسموا أن يقطعوا كل صلة بينهم وبين من لا يزالون من بني هاشم يرون واجباً عليهم أن يدافعوا عن محمد. ورأى كثيرون من الهاشميين ومن بينهم محمد وأسرته حقناً للدماء أن ينسحبوا إلى شعب منعزلة في مكة يستطيع أبو طالب أن يدفع عنهم الأذى فيه (615). وظلت هذه الفرقة بين العشائر قائمة سنتين كاملتين عاد بعدها بعض رجال قريش إلى صوابهم فدعوا الهاشميين أن يعودوا إلى بيوتهم وتعهدوا ألا يمسوهم بسوء.
وابتهجت لهذه القلة المسلمة في مكة، ولكن ثلاثة خطوب ألمت بمحمد في عام 619، فقد توفيت في ذلك العام السيدة خديجة أوفى الناس له وأكثرهم تأييداً لدعوته، وتوفي أبو طالب الذي كان ينصره ويدافع عنه. وأحس محمد أنه لا يأمن على نفسه في مكة، وآلمه بطء انتشار الدعوة فيها، فهاجر إلى الطائف (620). وهي بلدة ظريفة بعيدة عن مكة بنحو ستين ميلاً إلى جهة الشرق، ولكن الطائف لم تقبله، لأن زعماءها لم يروا من مصلحتهم أن يغضبوا أشراف مكة التجار، ولأن العامة فزعوا من الدين الجديد فأخذوا يهزءون بمجمد في الشوارع، ويقذفونه بالحجارة، حتى سال الدم من ساقيه، فعاد إلى مكة، وتزوج أرملة تدعى سودة ، ثم خطب وهو في سن الخمسين عائشة بنت أبي بكر وكانت وقتئذ فتاة حسناء في السابعة من العمر . ولم ينقطع عنه الوحي في هذه الأثناء، وخيل إليه في ذات ليلة أنه انتقل من نومه إلى بيت المقدس، حيث رأى في انتظاره عند المبكى من أنقاض هيكل البُرَاق، وهو جواد مجنح فطار به إلى السماء، ثم عاد به منها، ثم وجد النبي نفسه بمعجزة أخرى آمناً في فراشه بمكة. وبفضل الإسراء أصبحت بيت المقدس ثالثة المدن المقدسة عند المسلمين . وفي عام 620 أخذ محمد يبث الدعوة بين التجار الذين وفدوا على مكة ليحجوا إلى الكعبة، وقبل بعض التجار دعوته، لأن عقائد التوحيد، والرسول المبعوث من عند الله، ويوم الحساب كانت مألوفة عندهم، انتقلت إليهم من يهود المدينة. ولما عاد هؤلاء التجار إلى بلدهم أخذ بعضهم يدعون أصدقائهم إلى الدين الجديد، ورحب بعض اليهود بهذه الدعوة لأنهم لم يروا فارقاً كبيراً بين تعاليم محمد وتعاليمهم. وفي عام 622 أقبل على محمد في مكة سراً ثلاثة وسبعون رجلاً من أهل المدينة ودعوه إلى الهجرة إلى بلدهم واتخاذها موطناً له. فسألهم هل يدافعون عنه كما يدافعون عن أبنائهم، فأقسموا أن يفعلوا، ولكنهم سألوه عما يُجزون به إذا قُتلوا في أثناء دفاعهم عنه، فأجابهم بأن جزائهم هو الجنة. وفي ذلك الوقت أصبح أبو سفيان حفيد أمية زعيم قريش في مكة، وكان قد نشأ في جو من الكراهية لبني هاشم، فعاد إلى اضطهاد أتباع محمد، ولعله قد سمع أن النبي يعتزم الهجرة من مكة، وخشي أنه إذا استقر له الأمر في المدينة قد يشن الحرب على مكة وعلى آلهة الكعبة. وعهدت قريش بتحريضه إلى بعض رجالها أن يقبضوا على محمد، ولعلها عهدت إليهم أن يقتلوه، وعلم محمد بالخبر ففر هو وأبو بكر إلى غار ثور على بعد فرسخ من مكة، وظل رسل قريش يبحثون عنهما ثلاثة أيام ولكنهم عجزوا عن العثور عليهما. وجاء أبناء أبي بكر لهما بجملين فركباهما في أثناء الليل واتجها بهما شمالاً، وبعد أن ضلا سائرين عدة أيام قطعا فيها نحو مائتي ميل وصلا أخيراً إلى المدينة في 24 سبتمبر من عام 622. وكان قد سبقهم إليها مائتان من المسلمين بدعوى أنهم حجاج عائدون من مكة، ووقفوا عند أبواب المدينة ومعهم من أسلم من أهلها ليستقبلوا النبي، وبعد سبعة عشر عاماً من ذلك الوقت اتخذ الخليفة عمر اليوم الأول من السنة العربية التي حدثت فيها تلك الهجرة، وكان هو في ذلك العام يوم 16 يولية من سنة 622، البداية الرسمية للتاريخ الإسلامي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالِث: محمد في المدينة 622-630
تقع يثرب، التي سميت فيما بعد "مدينة النبي" على الحافة الغربية من الهضبة العربية الوسطى. وكانت إذا قورنت من حيث جوها بمكة بدت كأنها جنة عدن، وكان بها مئات من الحدائق وغياض النخل، والضياع. ولما دخل محمد المدينة تقدمت إليه طائفة في إثر طائفة وألحت عليه أن ينزل عندها ويقيم معها؛ وأمسك بعضها بزمام ناقته لتمنعه عن مواصلة السير وأصرت على ذلك إصراراً تمليه عليها تقاليدها العربية، وكان جوابه غاية في حسن السياسة فكان يقول لهم: "خلوا سبيلها فإنها مأمورة"، وبهذا لم يترك للغيرة سبيلاً إلى قلوبهم لأن الله وحده هو الذي يسير الناقة ويهديها إلى حيث تقف. وبنى محمد في المكان الذي وقفت فيه ناقته مسجداً وبيتين متجاورين أحدهما لسودة والآخر لعائشة، وأضاف إليهما مساكن أخرى لزوجاته الأخريات. وكان حين غادر مكة قد قطع كثيراً من صلات القرابة، فلما جاء إلى المدينة اعتزم أن يستبدل بصلات الدم صلات الأخوة الدينية في الدولة الجديدة، كما أراد أن يقضي عل أسباب الغيرة بين المهاجرين الذين جاءوا من مكة والأنصار الذين أسلموا من أهل المدينة-وكانت بوادر هذه الغيرة قد بدت في ذلك الوقت-فآخى بين كل واحد من إحدى الطائفتين وزميل له من الطائفة الأخرى، وطلب إلى كلتيهما أن تصلي في المسجد مع أختها. وفي أول احتفال أقيم في المدينة صعد المنبر وقال بصوت عالٍ "الله أكبر" وردد المجتمعون النداء بأعلى صوتهم وسجد لله وهو لا يزال متجهاً بظهره إليهم، ثم نزل عن المنبر بظهره فلما وصل إلى آخره سجد لله ثلاث مرات وكان هذا السجود رمزاً للخضوع إلى الله والاستسلام له ومنه سمي الدين الجديد بالإسلام أي "الاستسلام" و"السلم"، وسمي أتباعه بالمسلمين. ثم التفت إلى الحاضرين وأمرهم أن يحافظوا على هذه الشعائر إلى أبد الدهر، ولا يزال المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يتبعون هذه السنة في الصلاة سواء كانت في مسجد، أو ضاربين في الصحراء أو في بلد غريب لا مسجد فيه. وتنتهي الصلاة بخطبة كانت في زمن النبي خبراً عن وحي وتوجيهاً لأعمال الأسبوع وسياسته. ذلك أن النبي كان ينشئ حكومة مدنية في المدينة. واضطر بحكم الظروف أن يخصص جزءاً متزايداً من وقته للمشاكل العملية المتصلة بالتنظيم الاجتماعي، والأخلاق، والعلاقات السياسية بي القبائل، ولشؤون الحرب، لأنه لم يكن ثمة حد فاصل بين الشؤون الدينية والدنيوية، بل اجتمعت هذه الشؤون كلها في يد الزعيم الديني كما كانت الحال عند اليهود.
فكان محمد في المدينة الرسول الديني والحاكم السياسي جميعاً، ولم ترضَ أكثرية العرب عن هذا الوضع وأخذت تنظر بعين الريبة إلى الدين الجديد وشعائره، وترى أن محمداً كاد يقضي على تقاليد العرب وحريتهم، وأنه كان يزج به في الحروب، وكان من هؤلاء يهود المدينة الذين ظلوا متمسكين بدينهم ولم ينقطعوا عن الاتجار مع قريش في مكة. وقد عقد محمد مع أولئك اليهود عهداً ينم عن مهارة سياسية كبيرة، وقد جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن يتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربقتهم يتعاقلون بينهم وهم يقدرون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة، وبنو الحارث، وبنو جشم، وبنو النجار، وبنو عمر بن عوف، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإن ذمة الله واحدة، وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مناصرين عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود وبينهم مواليهم وأنفسهم، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسرعان ما قبلت هذا جميع قبائل اليهود في المدينة وما حولها قبيلة بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع.
وهاجرت إلى المدينة مائتا أسرة من مكة فنشأت فيها من جراء هذه الهجرة مشكلة الحصول على ما يكفي أهلها من الطعام وحل محمد هذه المشكلة كما يحلها كل الأقوام الجياع بالحصول على الطعام أنى وجد. ومن ذلك أنه أمر أتباعه بالإغارة على القوافل المارة بالمدينة، متبعاً في ذلك ما كانت تتبعه معظم القبائل العربية في ذلك الوقت . فلما كللت هذه الغارات بالنصر أعطى المغيرين أربعة أخماس الغنائم، واحتفظ بالخمس الباقي للأعمال الدينية والخيرية، وكان نصيب من استشهد في هذه الغزوات من حق أرملته، أما هو فكان جزاءه الجنة. وكثرت الغزوات، وتضاعف عدد المشتركين فيها، وارتاع لها تجار مكة الذين كانت حياتهم الاقتصادية تعتمد على سلامة قوافلهم، فأخذوا يدبرون أمر الانتقام من محمد والمسلمين. وكان من هذه الغارات واحدة حدثت في آخر يوم من شهر رجب أحد الأشهر الحرم التي كان العرب يمتنعون فيها عن جميع أعمال القتال، وقتل فيها رجل، وأساءت بذلك إلى سمعة أهل مكة والمدينة على السواء وإلى تقاليد العرب المرعية منذ القدم. وفي عام 623 جمع محمد نفسه ثلاثمائة من المسلمين المسلحين، واعترض طريق قافلة قادمة من الشام إلى مكة. وعلم أبو سفيان وكان على رأس القافلة بهذه الخطة، فغير طريقه، وأرسل إلى مكة من يطلب النجدة، وبعثت قريش بتسعمائة من رجالها، والتقى الجيشان الصغيران عند وادي بدر على بعد عشرين ميلاً جنوبي المدينة. ولو أن محمداً هُزم في هذه الغزوة لقضي عليه وعلى الإسلام في هذه المعركة، ولكنه قاد رجاله بنفسه وانتصر على قريش؛ وقويت بهذا النصر شوكة الإسلام، وعاد المسلمون إلى المدينة ومعهم كثير من الأسرى والغنائم (يناير عام 624)، وقتل من هؤلاء الأسرى بعض من كانوا أشد الناس اضطهاداً للمسلمين في مكة، وأطلق سراح الباقين نظير فدية كبيرة، ونجا أبو سفيان، وأنذر المسلمين بالانتقام. ولما عاد إلى مكة أخذ يواسي أسر القتلى ويشجعهم، ويطلب عدم البكاء عليهم ورثائهم ويقول إن الحرب سجال وإنهم سيأخذون بثأرهم. ثم أقسم ألا يقرب زوجه إلا بعد أن يخرج مرة أخرى لقتال محمد.
واشتد ساعد محمد بهذا النصر، وجرى العرب بعده على الأساليب المألوفة في الحروب. من ذلك أن شاعرة تدعى عصماء هاجمته في شعرها فتسلل عمير، وهو مسلم ضرير إلى بيتها وطعنها وهي نائمة بسيفه في صدرهما طعنة بلغ من قوتها أن نفذ السيف من تحتها إلى فراشها. وفي اليوم التالي سأل محمد عميراً هل قتل عصماء فأجابه، يا رسول الله إني قد قتلتها، فقال "نصرت الله ورسوله يا عمير"؛ فقال عمير: "هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟" فأجابه بقوله إن هذا أمر "لا ينتطح فيه عنزان". ومنها أن رجلاً ممن اعتنقوا الدين اليهودي يدعى أبا عفك يناهز من العمر مائة عام هجا النبي فقتله بعضهم وهو نائم في فناء بيته، وارتد شاعر ثالث من أهل المدينة يدعى كعب بن الأشرف، وكانت أمه يهودية، حين انقلب محمد على اليهود، وكتب قصائد يحرض فيها قريشاً على أن يثأروا لهزيمتهم، وأثار غضب المسلمين بتشبيبه بنسائهم، فقال النبي "من لي بابن الأشرف؟" فلم يمضِ آخر النهار حتى كان رأس الشاعر ملقى أمام قدميه. وكان المسلمون يرون أن هذه الأعمال وأمثالها إن هي إلا دفاع مشروع عن أنفسهم من الخونة، فقد كان محمد رئيس دولة، وكان من حقه أن يصدر فيها الأحكام
ولم يطل حب اليهود من أهل المدينة لهذا الدين ذي النزعة الحربية، والذي بدا لهم أول الأمر شديد الشبه بدينهم، وأخذوا يسخرون من تفسير محمد لكتابهم المقدس، وقوله أنه هو الذي بشر به آباؤهم، وكان جوابه أن قال، كما أوحى إليه، إنهم حرفوا كتابهم، وقتلوا أنبياءهم، وأبوا أن يصدقوا المسيح. وكان قد اتخذ بيت المقدس قبلة يتجه إليها المسلمون في الصلاة، فاستبدل به في عام 624 مكة والكعبة، واتهمه اليهود بأنه قد عاد إلى عبادة الأوثان . وحدث في هذا الوقت أن زارت فتاة مسلمة سوق بني قينقاع اليهودي في المدينة، وبينا هي جالسة في حانوت صائغ إذ شبك يهودي خبيث قميصها من وراء ظهرها في أعلى ثيابها، فلما قامت ورأت ما فعل بها بكت مما لحقها عار فقتل أحد المسلمين اليهودي الأثيم، وقتل أخوه اليهودي المسلم، فجمع محمد أتباعه وحاصر يهود بني قينقاع في حيهم خمسة عشر يوماً، حتى استسلموا، فقبل استسلامهم وأمرهم أن يخرجوا بقضهم وقضيضهم من المدينة ويتركوا وراءهم جميع ممتلكاتهم، وكان عددهم في ذلك الوقت نحو سبعمائة.
ولا يسعنا إلا أن نعجب بأبي سفيان لأنه استطاع أن يكظم غيظه وينتظر بعد يمينه غير الطبيعية عاماً كاملاً قبل أن يقدم على قتال محمد. وفي أوائل 625 سار على رأس جيش تبلغ عدته ثلاثة آلاف رجل إلى جبل أحد على بعد ثلاثة أميال شمالي المدينة، وصحب الجيش خمسة عشر من النساء بينهن زوجات أبي سفيان ليثرن حماسة الجند بأغانيهن الحزينة ودعوتهن إياهم إلى الانتقام.
ولم يكن جيش المسلمين يزيد على ألف، وهُزم المسلمون في هذه الغزوة، وحارب فيها محمد بشجاعة عظيمة، وأصيب بعدة جروح وحُمل من الميدان. وقتل في المعركة حمزة عم النبي ومضغت كبده هند أشهر زوجات أبي سفيان، وكان أبوها، وعمها، وأخوها قد قتلوا جميعاً في غزوة بدر، وكان حمزة نفسه هو الذي قتل أباها، ثم لم تكتفِ بهذا بل صنعت لنفسها من جلده وأظافرهِ خلاخيل وأساور. وظن أبو سفيان أن محمداً قد مات، وعاد منتصراً إلى مكة . وبعد ستة أشهر من هذه الواقعة شفي النبي واستطاع أن يهاجم بني النضير، لأنهم أعانوا قريشاً على المسلمين وكانوا يأتمرون به ليقتلوه. وبعد أن حاصرهم ثلاثة أسابيع أذن لهم أن يهاجروا من المدينة على أن تأخذ كل أسرة معها حمل بعير. واستولى النبي على بعض ما كان لهم من بساتين النخيل الغنية، فكان بعضها له، ووزع مل بقي منها على المهاجرين . لقد كان محمد يرى أنه في حرب مع أهل مكة، وأن من حقه أن يؤمن نفسه بإبعاد الجماعات المعادية له عن جناحيه. وعادت قريش وعاد أبي سفيان إلى مهاجمة المسلمين في عام 626 بجيش يبلغ 10.000 رجل يساعدهم يهود بني قريظة مساعدة جدية. ورأى محمد أنه لا يستطيع مقابلة هذه القوة الكبيرة في الميدان، ففضل أن يدافع عن المدينة بحفر خندق حولها. وحاصرتها قريش عشرين يوماً حتى فتَ في عضدهم المطر والعواصف، فعادوا إلى أوطانهم، وقاد محمد من فوره ثلاثة آلاف من المسلمين وهاجم بهم يهود بني قريظة، فلما استسلموا خيرهم بين الإسلام والموت. وكان النبي في ذلك الوقت قد أصبح من مهرة القواد، فقد جهز في العشر السنين التي قضاها في المدينة خمساً وستين غزوة وسرية حربية قاد بنفسه سبعاً وعشرين منها، ولكنه كان إلى هذا سياسياً محنكاً، يعرف كيف يواصل الحرب بطريق السلم، وكان يشارك المهاجرين في الحنين إلى بيوتهم وأسرهم في مكة، ويشارك المهاجرين والأنصار جميعاً في الحنين إلى زيارة الكعبة، التي كانت في صباهم عزيزة عليهم وموضع إجلالهم.
وفي عام 628 أرسل محمد إلى قريش يعرض عليهم الصلح، ويتعهد لهم بسلامة قوافلهم إذا رضوا أن يؤدي شعائر الحج في موسمه. وأجاب زعماء قريش بأنهم يشترطون لقبول هذا العرض أن يمضي قبله عام كامل من السلم، وأدهش محمد أتباعه بقبوله إياه ، ووقع الطرفان شروط هدنة تدوم عشر سنين، وحدثت بعدئذ غارة على يهود خيبر في مساكنهم الواقعة في الشمال الشرقي من المدينة على مسيرة ستة أيام منها، ودافع اليهود عن أنفسهم بأحسن ما يستطيعون من دفاع، وسقط منهم في أثناء ذلك ثلاثة وتسعون رجلاً، ثم سلم الباقون آخر الأمر، وسمح لهم بالبقاء في أماكنهم يزرعون الأرض، على شرط أن يسلموا جميع ممتلكاتهم ونصف محصولاتهم المستقبلة إلى الفاتحين. ولم يمس أحد من الباقين بسوء ما عدا زعيمهم كنانة وابن عمه فقد قطع رأساهما لأنهما أخفيا بعض ما يمتلكان، وضُمت صفية وهي فتاة يهودية في السابعة عشرة من عمرها كانت مخطوبة لكنانة ، إلى نساء النبي.
وفي عام 629 دخل مسلمو المدينة، البالغ عددهم ألفين، مكة مسالمين، وانسحبت قريش إلى التلال لتجنب الاحتكاك بالمسلمين، وطاف محمد وأتباعهُ في أثناء ذلك بالكعبة سبع مرات. ومس محمد الحجر الأسود بعصاه مظهراً له دلائل الإجلال، ولكنه نادى ونادى بعده المسلمون "لا إله إلى الله". وكان لمسلك المسلمين المنفيين وحسن نظامهم، ووطنيتهم، وتقواهم أعظم الأثر في نفوس أهل مكة، فأسلم من قريش عدد من ذوي المكانة من بينهم خالد بن الوليد وعمر اللذين صارا فيما بعد من أعظم قواد المسلمين. وعرضت بعض القبائل المجاورة على النبي أن يؤمنها على دينها نظير مساعدتها إياه في القتال؛ ولما عاد إلى المدينة رأى أنه قد أصبح له من القوة ما يمكنه من الاستيلاء على مكة عنوة.
ولم يكن قد مضى من الهدنة إلا عامان، ولكن إحدى القبائل المتحالفة مع قريش أخلت بشروط الهدنة فهاجمت إحدى القبائل المسلمة ، فجمع النبي عشرة آلاف رجل وزحف بهم على مكة، وأدرك أبو سفيان قوة المسلمين فسمح لهم بأن يدخلوا مكة بلا مقاومة. وكان جواب محمد جواباً كريماً، فقد أعلن عفواً عاماً عن جميع أهل مكة عدا اثنين أو ثلاثة من أعدائه، وحطم الأصنام التي كانت في داخل الكعبة وحولها، ولكنه ترك الحجر الأسود في مكانه وأجاز تقبيله. ونادى بمكة مدينة الإسلام المقدسة، وأعلن أنه لن يدخلها بعد ذلك اليوم كافر، وامتنعت قريش بعدئذ عن كل مقاومة مباشرة، وأصبح الرجل المضطهد الذي هاجر من مكة منذ ثمان سنين صاحب الكلمة العليا في حياتها.
الفصل الرّابع: انتصار النبي
قضى النبي معظم العامين الباقيين من حياته في المدينة، وكان ينتقل فيها من نصر إلى نصر، فقد خضعت فيهما بلاد العرب كلها، بعد فتن قليلة الشأن، إلى سلطانه ودخلت في دين الإسلام. وجاء إلى المدينة كعب ابن زهير، أعظم شعراء العرب في ذلك الوقت، وكان قد هجا النبي في بعض قصائده، وأسلم نفسه إليه، واعتنق الإسلام، فعفا عنه النبي، وأنشأ الشاعر قصيدة عصماء في مديح النبي أجازه عليها ببردته ، وعاهد النبي المسيحيين في بلاد العرب، وأخذ على نفسه أن يحميهم وأن يكونوا أحرار في ممارسة شعائر دينهم نظير ضريبة هينة، ولكنه نهاهم عن الربا. ويقول المؤرخون إنه بعث الوفود إلى ملك الروم، وملك الفرس وإلى أمير الحيرة وبني غسان، يدعوهم إلى الدين الجديد؛ ويلوح أن أحداً منهم لم يرد على رسائله ، وكان يشهد بعين المستسلم الفيلسوف الحروب المشتعلة نارها بين فارس وبيزنطية وما جرته عل الدولتين من خراب، ولكنه يبدو أنه لم يفكر قط في توسيع سلطانه خارج حدود بلاد العرب .
وكانت أعمال الحكومة تشغل وقته كله، فقد كان يُعنى أشد العناية بكل صغيرة وكبيرة في شؤون التشريع والقضاء، والتنظيم المدني، والديني، والحزبي. وحتى التقويم نفسه قد عني بتنظيمه لأتباعه، فقد كان العرب يقسمون السنة كما يقسمها اليهود إلى اثني عشر شهراً قمرياً، وكانوا يضيفون إليها شهراً كل ثلاث سنوات لكي تتفق مع السنة الشمسية. فأمر النبي أن تكون السنة الإسلامية اثني عشر شهراً على الدوام كل منها ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون على التوالي، وكانت نتيجة هذا أن أصبحت السنة الإسلامية فيما بعد غير متفقة مع فصول السنة، وأن تقدم التقويم الإسلامي سنة كاملة على التقويم الجريجوري كل اثنتين وثلاثين سنة. ولم يكن النبي مشرعاً علمياً، فلم يضع لأمته كتاباً في القانون أو موجزاً فيه، ولم يسر في تشريعه على نظام مقرر، بل كان يصدر الأوامر حسبما تمليه عليه الظروف. فإذا أدى هذا إلى شيء من التناقض أزاله بوحي جديد ينسخ القديم ويجعله كأنه لم يكن ، وحتى شؤون الحياة العادية كانت أوامره فيها تُعرض في بعض الأحيان كأنها موحى بها من عند الله. وكان اضطراره إلى تكييف هذه الوسيلة السامية بحيث تتفق مع الشؤون الدنيوية مما أفقد أسلوبه بعض ما كان يتصف به من بلاغة وشاعرية، ولكن لعله كان يشعر بأنه بهذه التضحية القليلة جعل كل تشريعاته تصطبغ بالصبغة الدينية الرهيبة . ومع اضطلاع النبي بهذه الشؤون كلها فقد كان جم التواضع إلى درجة تحببه إلى النفوس، وكثيراً ما كان يعترف بأن ثمة أموراً لا يعرفها، ويحتج على الذين يظنونه أكثر من إنسان يجري عليه ما يجري على الناس جميعاً من موت ووقوع في الخطأ.
ولم يدعِ في يوم من الأيام أنه قادر على معرفة الغيب أو الإتيان بالمعجزات. لكنه مع هذا لم يكن يستنكف أن يستعين بالوحي بالأغراض البشرية والشخصية، كما حدث حين نزل الوحي مؤيداً زواجه من زوجة زيد متبناه . وتزوج النبي بعشر نساء وكانت له اثنتان من السراري هن مبعث الدهشة والحسد والتعليق والمدح عند الغربيين، ولكن علينا أن نذكر على الدوام أن نسبة الوفيات العالية من الذكور بين الساميين في العصر القديم وفي بداية العصور الوسطى جعلت تعدد الزوجات، في نظر هؤلاء الساميين، ضرورة حيوية تكاد تكون واجباً أخلاقياً. وكان تعدد الزوجات في نظر النبي أمراً عادياً مسلماً به لا غبار عليه، ولذلك كان يقبل عليه وهو مرتاح الضمير لا يبغي به إشباع الشهوة الجنسية، ويروى عن عائشة حديث عن النبي مشكوك في صحته يقول فيه "حبب إلي من المساكن التي أقام بها واحداً بعد واحد كلها من اللبن، لا يزيد اتساعها على اثنتي عشرة أو أربع عشرة قدماً، ولا يزيد ارتفاعها على ثمان أقدام، سقفها من جريد النخل، وأبوابها ستائر من شعر المعز أو وبر الجمال. أما الفراش فلم يكن أكثر من حشية تُفرش على الأرض ووسادة، وكثيراً ما كان يُشاهد وهو يخصف نعليهِ؛ ويرقع ثوبه، وينفخ النار، ويكنس أرض الدار، ويحلب عنزة البيت في فنائه، ويبتاع الطعام من السوق. وكان يأكل بيده، ويلعق أصابعه بعد كل وجبة، وكان طعامه الأساسي التمر وخبز الشعير، وكان اللبن وعسل النحل كل ما يستمتع به من الترف في بعض الأحيان.
ولم يتعاطَ الخمر التي حرمها هو على غيره، وكان لطيفاً مع العظماء، بشوشاً في أوجه الضعفاء، عظيماً مهيباً أمام المتعاظمين المتكبرين، متسامحاً مع أعوانه، يشترك في تشييع كل جنازة تمر به، ولم يتظاهر قط بأبهة السلطان. وكان يرفض أن يوجه إليه شيء من التعظيم الخاص، يقبل دعوة العبد الرقيق إلى الطعام، ولا يطلب إلى عبد أن يقوم له بعمل يجد لديه من الوقت والقوة ما يمكنانه من القيام به لنفسه. ولم يكن ينفق على أسرته إلا القليل من المال رغم ما كان يرد إليه من الفيء وغيره من الموارد، أما ما كان ينفقه على نفسه فقد كان أقل من القليل. وكان يخص الصدقات بالجزء الأكبر من هذا المال، لكنه كان ككل الناس يعنى بمظهره الشخصي ويقضي في تلك العناية كثيراً من الوقت، فكان يتعطر ويكتحل، ويصبغ شعره، ويلبس خاتماً نقش عليه "محمد رسول الله" وربما كان الغرض من هذا الخاتم هو توقيع الوثائق والرسائل. وكان صوته موسيقياً حلواً يأسر القلوب، وكان مرهف الحس إلى أقصى حد، لا يطيق الروائح الكريهة، ولا صلصلة الأجراس، أو الأصوات العالية "واقصد في مشيك، واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وكان قلقاً عصبي المزاج، يُرى أحياناً كاسف البال، ثم ينقلب فجأة مرحاً كثير الحديث؛ وكان حلو الفكاهة فقد قال مرة لأبي هريرة، وكان يتردد عليه كثيراً: "يا أبا هريرة زد غباً تزدد حباً". وكان محارباً صارماً لا يرحم عدواً ، وقاضياً عادلاً في وسعه أن يقسو ويغدر، ولكن أعماله الرحيمة أكثر من أن تُعد. وقد قضى على كثير من الخرافات الهمجية كفقء أعين بعض الحيوانات لوقايتها من الحسد، أو ربط بعير الميت عند قبرهم. وكان أصدقاؤه يحبونه حباً يقرب من العبادة، وكان أتباعه يجمعون بصاقه أو شعره بعد قصه، أو الماء الذي يغسل به يديه، لاعتقادهم أن في هذه الفضلات شفاء لهم من ضعفهم أو مرضهم.
وقد أعانه نشاطه وصحته على أداء جميع واجبات الحب والحرب ، ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره، وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحميات ونوبات غريبة. وتقول عائشة إنه كان يخرج من بيته في ظلام الليل، ويزور القبور، ويطلب المغفرة للأموات ، ويدعو الله لهم جهرة، ويهنئهم على أنهم موتى. ولما بلغ الثالثة والستين من عمره اشتدت عليه هذه الحميات، وحدث في إحدى الليالي أن شكت عائشة الصداع، وأن شكاه هو نفسه وسألها وهو يمازحها إلا تفضل أن تموت هي قبله، فتحظى بأن يدفنها رسول الله، فأجابته بحديثها المعهود، أنه حين يعود من دفنها سيأتي بعروس أخرى مكانها. وظلت الحمى تعاوده أربعة عشر يوماً بعد ذلك الوقت، وقبل وفاته بثلاثة أيام نهض من فراشه، ودخل المسجد وشاهد أبا بكر يؤم المسلمين للصلاة بدله، فجلس متواضعاً إلى جانبه حتى أتم صلاته. وفي اليوم السابع من شهر يونيه عام 632 توفي ورأسه على صدر عائشة. وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمداً كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقل أن نجد إنساناً غيرة حقق كل ما كان يحلم به. وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، فقد لجأ إلى خيالهم، وإلى مخاوفهم وآمالهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، وكانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة. وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية، ودين بلاده القديم، ديناً سهلاً واضحاً قوياً، وصرحاً خلقياً قوامه البسالة والعزة القومية. واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم.