قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 2 ب 14

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 4744

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الرابع عشر: عظمة المسلمين واضمحلالهم 1058-1258

الفصل الأوَّل: الشرق الإسلامي 1058-1250

لما توفي طغرل بك في عام 1063 خلفه ابن أخيه ألب أرسلان سلطاناً على السلاجقة، ولم يكن ألب أرسلان وقتئذ قد جاوز السادسة والعشرين من عمرهِ ويصفه أحد المؤرخين المسلمين بأنه رجل طويل القامة له شاربان بلغ من طولهما أن كان يضطر إلى ربطهما حين يريد الصيد، وأن سهامه لم تُخطئ مرماها قط. وكان يضع على رأسهِ عمامة عالية يقول الناس إن المسافة من أعلاها إلى طرف شاربه لا تقل عن ذراعين. وكان حاكماً قوياً عادلاً، كريماً بوجه عام، لا يتوانى عن مجازاة من يظلم الناس أو يغتصب مالهم من عمالهِ، كثير البذل للفقراء. وكان يقضي جزءاً كبيراً من وقته في دراسة التاريخ، كما كان مولعاً بالاستماع إلى أخبار السابقين وإلى الأعمال التي تكشف عن أخلاقهم، وأنظمة حكمهم وإدارتهم(1). ولكن ألب أرسلان قد أثبت رغم هذه الميول العلمية أنه خليق باسمهِ-"البطل قلب الأسد" فقد فتح هراة، وأرمينية، وبلاد الكرج، والشام. وحشد إمبراطور الروم جيشاً مؤلفاً من مائة ألف جندي من مختلف الأجناس، مختل النظام ليلاقي به جنود ألب أرسلان المضرسين البالغ عددهم 15.000 مقاتل، فلما التقيا عرض القائد السلجوقي على عدوه صلحاً معقولاً، رفضه رومانوس Romanus بازدراء، واشتبك معه في معركة عند منزبكرت (ملازكرت أو ملاسجرد) بأرمينية (1071)، وحارب ببسالة بين جنده الجبناء، فهزم ووقع في الأسر، وجيء به إلى السلطان فسأله ماذا كان يفعل لو ابتسم الحظ لجندهِ؟ فأجابه رومانوس بأنه في هذه الحال كان يمزق جسمه بالسياط. ولكن ألب أرسلان عامله أحسن معاملة، وأطلق سراحه بعد أن وعده بأن يفتدي نفسه بفدية كبيرة، وسمح له بالرجوع إلى بلاده، ومنحه كثيراً من الهدايا القيمة(2)، وبعد عام من ذلك الوقت اغتيل ألب أرسلان .

وكان ابنه ملك شاه (1072-1092) أعظم سلاطين السلاجقة على الإطلاق. وبينما كان قائده سليمان يتم فتح آسية الصغرى، كان هو نفسه يستولي على ما وراء نهر جيحون ويمتد فتوحه إلى بخارى وكاشغر. وأسبغ وزيره القدير الوفي نظام الملك على البلاد في عهد وعهد أبيه ألب أرسلان كثيراً من الرخاء والبهاء كالذي أسبغه البرامكة على بغداد في أيام هارون الرشيد. فقد ظل نظام الملك ثلاثين عاماً ينظم شؤون البلاد، ويشرف على أحوالها الإدارية والسياسية، والمالية، ويشجع الصناعة والتجارة ويصلح الطرق، والجسور، والنزل، ويجعلها آمنة لجميع المسافرين. وكان صديقاً كريماً للفنانين، والشعراء، والعلماء؛ شاد المباني الفخمة في بغداد، وأسس فيها مدرسة كبرى ذاع صيتها في الآفاق، وأمر بإنشاء إيوان القبة العظيم في المسجد الجامع بأصفهان، ورصد له ما يلزمه من المال. ويبدو أنه هو الذي أشار على ملك شاه بأن يستقدم إلى بلاطه عمر الخيام وغيره من الفلكيين لإصلاح التقويم الفارسي. وتقول قصة قديمة إن نظام الملك، وعمر الخيام، وحسن ابن الصباح أقسموا وهم صغار يطلبون العلم أن يقتسموا جميعاً ما عسى أن يواتي أي أحد منهم من حظ طيب. وأكبر الظن أن هذه القصة، كغيرها من القصص الطيبة، من نسج الخيال، لأن نظام الملك ولد في عام 1017، على حين أن عمر الخيام، وحسن ابن الصباح توفيا فيما بين عامي 1123، 1124؛ وليس لدينا ما يشير إلى أن أحدهما كان من المعمرين. وكتب نظام الملك وهو في سن الخامسة والسبعين فلسفته في الحكم في كتاب من أكبر الكتب في النثر الفارسي وهو كتاب-سياسة ناما أي كتاب فن الحكم. وهو يوصي فيه بقوة أن يستمسك الملك والشعب بأصول الدين، ويرى أن الحكومة لا يمكن أن تستقر إلا إذا قامت على هذا الأساس، واستمدت من الدين وسلطانه. ولم يبخل على مليكه في الوقت عينه ببعض النصائح الإنسانية يبصره فيها بما على الحاكم من واجبات، فقال إن الحاكم يجب أن لا يفرط في الشراب أو اللهو، وإن عليه أن يتبين كل ما يرتكبه الموظفون من فساد أو ظلم، ويعاقبهم عليه؛ وأن يعقد مجلساً عاماً مرتين كل أسبوع يستطيع أن يتقدم فيه أحقر رعاياه بما لديهم من الشكاوى والمظالم. وكان نظام الملك رحيماً في حكمه ولكنه لم يكن متسامحاً في أمور الدين؛ وهو يأسف لأن الدولة تستخدم في أعمالها المسيحيين واليهود والشيعة، ويندد أشد التنديد بطائفة الإسماعيلية، ويقول إنها تهدد وحدة الدولة. وفي عام 1092 اقترب من أحد أتباع الطائفة المتعصبين لها مدعياً أنه يريد أن يتقدم إليه بمعروض، وطعنه طعنة قضت عليه.

وكان هذا القاتل عضواً في طائفة من اعجب الطوائف في التاريخ. وكان منشؤها أن أحد زعماء الإسماعيلية-وهو الحسن بن الصباح الذي تجمع إحدى القصص المشكوك في صدقها بينه وبين عمر الخيام، ونظام الملك-استولى على حصن الموت (عش النسر) في الجزء الشمالي من إيران، ومن هذا الحصن المنيع الذي يعلوا عن سطح البحر بعشرة آلاف قدم شن حرباً عواناً من التقتيل والإرهاب على أعداء الشيعة، وعلى الذين يضطهدون معتنقيها. وكان نظام الملك قد اتهم هذه الطائفة في كتابه بأن زعماءها من نسل المزدكية الشيوعية أهل فارس الساسانية. وكانت في الواقع جمعية سرية ذات درجات متفاوتة يمر بها أتباعها، ولها رئيس أعلى أطلق عليه الصليبيون اسم "شيخ الجبل". وكانت أدنى طبقاتها تشمل الذين يطلب إليهم أن ينفذوا من غير ما تردد أو تفكير كل ما يصدره لهم رؤساؤهم من الأوامر. ويقول ماركو بولو Marco Polo الذي مر بألموت نفسها في عام 1271 إن زعيم الطائفة الكبرى أعد خلف الحصن حديقة جمع فيها كل ما في الجنة-على حسب ما يعتقده. عامة المسلمين- من سيدات وفتيات يستطيع الرجال أن يشبعوا معهم شهواتهن، وإن الذين يريدون أو ينضموا إلى الطائفة كانوا يسقون الحشيش، حتى إذا غابوا عن وعيهم جيء بهم إلى الحديقة، فإذا عادوا إلى صوابهم قيل لهم إنهم في الجنة. وبعد أن يقضوا أربعة أيام أو خمسة يستمتعون فيها بالخمر والنساء ولذيذ الطعام، يخدرون مرة أخرى بالحشيش ثم ينقلون مرة أخرى من الحديقة، فإذا استيقظوا وسألوا عن الجنة التي كانوا فيها، قيل لهم إنهم سيعدون إليها ويبقون إلى أبد الدهر إذا أطاعوا الشيخ واخلصوا له أو استشهدوا في خدمتهِ(4). كان الشبان الذين يرضون بهذا الوضع يسمون "الحشاشين" أي الذين يشربون الحشيش-ومن هذه الكلمة اشتق لفظ Assassin الإفرنجي الذي يطلق على المغتال. وظل حسن يحكم ألموت خمساً ولثلاثين سنة، وأحالها مركزاً للاغتيال والتعليم والفن. وظلت هذه الطائفة باقية بعد وفاته بزمن طويل، واستولت على عدة حصون أخرى منيعة، وحاربت الصليبيين، ويقال إنها هي التي قتلت كنراد المنتفراتي Conrad of Monteferrat بتحريض رتشرد قلب الأسد(5). وفي عام 1256 استولى المغول بقيادة هولاكو على حصن ألموت وغيره من معاقل الحشاشين، وأخذت الدولة والإمارات الإسلامية من ذلك الوقت تطاردهم وتقتلهم لأنها ترى فيهم أعداء للمجتمع يعملون على خرابه وتدميره. ولكنهم مع ذلك ظلوا بوصفهم طائفة دينية وأضحوا على مر الأيام مسالمين خليقين بالاحترام؛ وفي الهند، وفارس، والشام، وإفريقية كثيرون من أتباع هذه الطائفة يعترفون بزعامة أغا خان ويؤدون إليه عشر دخلهم(6).

وتوفي ملك شاه بعد شهر من وفاة وزيره، وتنازع أبناؤه على وراثة العرش واقتتلوا، وتفرق المسلمين في أثناء هذا النزاع فلم يواجهوا الصليبيين بقوة متحدة. وأعاد السلطان سنجر إلى بغداد أبهة السلاجقة في أثناء حكمه الذي دام من 1117 حتى 1157، وازدهرت في أيامه الآداب بفضل تعضيده ومناصرته، ولكن الدولة السلجوقية تفككت بعد وفاته وانقسمت إلى إمارات مستقلة تحكمها أسر قليلة الشأن وملوك متنازعون متقاتلون، وقام في الموصل أحد المماليك ملك شاه الأكراد وهو عماد الدين زنكي وأسس أسرة الأتابكة (آباء الأمراء) في عام 1127 وهي الأسرة التي حاربت الصليبيين حرباً عواناً وبسطت سلطانها على بلاد النهرين. وفتح ابنه نور الدين محمد (1146-1173) بلاد الشام، واتخذ دمشق عاصمة له، وحكم أملاكه حكماً عادلاً حازماً، وانتزع مصر من الأسرة الفاطمية المحتضرة.

وكانت عوامل الانحلال، التي أدت إلى خضوع الخلفاء العباسيين إلى سلطان بني بويه السلاجقة، قد أدت بعد قرنين من تضعضع الخلافة العباسية إلى اضمحلال شأن الخلافة الفاطميين حتى غدوا رؤساء دينيين لا أكثر في دولة يحكمها وزراؤهم وقادة الجنود. وانغمس هؤلاء الخلفاء في اللهو الشهوات بين نسائهم اللاتي لا يحصى عددهن، وأحاطوا أنفسهم بالخصيان والعبيد، وأفقدهم الترف والانغماس في الشهوات الجنسية صفات الرجولة، فتركوا وزراءهم يلقبون أنفسهم بالملوك ويوزعون مناصب الدولة ومزايا الحكم كما يشتهون. وحدث في عام 1164 أن قام النزاع على الوزارة بين اثنين من القواد. واستعان أحدهما وهو شاور على منافسه بنور الدين، فبعث إليه بقوة صغيرة يقودها أسد الدين شيركوه. وانتهى الأمر بأن قتل شيركوه شاور ونصب نفسه وزيراً. ولما مات شركوه خلفه في الوزارة ابن أخيه الذي صار فيما بعد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب والمعروف عند الغربيين باسم Saladin.

وقد ولد صلاح الدين في كريت الواقعة في أعالي نهر دجلة عام 1138 من أسرة كردية-غير سامية. وكان أبوه أيوب قد ارتقى في مناصب الدولة التي صار والياً على بعلبك أيام عماد الدين زنكي، ثم والياً على دمشق في أيام نور الدين محمود. ونشأ صلاح الدين في هاتين المدينتين في بيت من بيوت الإمارة، وتعلم فنون السياسة والحرب، ولكنه جمع إليها صلاحاً وتمسكاً بالدين، وتحمساً له، وإتقاناً لأصولهِ، وبساطة في المعيشة لا تكاد تفترق عن بساطة الزهاد. ويعده المسلمون من أعظم رجالهم الصالحين وكان خير أثوابه ثوباً من الصوف الخشن الغليظ، ولم يكن يشرب غير الماء وكان مضرب المثل في اعتداله في العلاقات الجنسية، وبلغ في ذلك درجة لا يدانيه فيها معاصروه. قدم إلى مصر مع شيركوه، واشترك فيما نشب فيها من قتال، واستلفت الأنظار ببسالته وحسن تدبيره، فعين حاكماً على الإسكندرية وصد عنها غارة الفرنجة في عام 1167. ثم تولى الوزارة وهو في سن الثلاثين، فبذل جهده في إعادة المذهب السني إلى مصر، حتى إذ كان عام 1170 استبدل باسم الخليفة الفاطمي الشيعي اسم الخليفة العباسي السني في خطبة الجمعة. ولم يكن للخليفة العباسي في ذلك الوقت أكثر من الزعامة الدينية الاسمية في بغداد. وكان الخليفة العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين في ذلك الوقت، مريضاً في قصره، وظل على غير علم بهذا الانقلاب الديني، لأن صلاح الدين حرص على أن لا تصله أنباؤه حتى يقضي هذا السجين العديم الشأن نحبه في هدوء وسلام. وقد حدث هذا بالفعل بعد قليل، فمات ولم يبايع من يخلفه على العرش، وانقضى بذلك حكم الأسرة الفاطمية دون أن يحدث في البلاد شيء من الاضطراب. وجعل صلاح الدين نفسه والياً على البلاد لا وزيراً، وأقر لنور الدين بالسيادة. ولما دخل صلاح الدين قصر الخليفة بالقاهرة وجد في اثني عشر ألف شخص كلهم نساء عدا أقارب الخليفة نفسه، كما وجد فيه من الحلي، وأثاث، والعاج، والخزف الثمين ما لا يوجد في قصر أعظم عظماء ذلك الوقت. ولم يحتفظ صلاح الدين بشيء من هذا كله لنفسهِ، ووهب القصر لقواد جنده، وظل هو يسكن حجرات الوزير ويعيش فيها عيشة البساطة التي هي من خير النعيم على صاحبها.

ولما مات نور الدين في عام 1173 أبى ولاة الأقاليم أن يبايعوا ابنه البالغ عمره أحد عشر عاماً ملكاً عليهم، وأوشكت بلاد الشام أن تقع مرة أخرى في براثن الفوضى. وقال صلاح الدين إنه يخشى أن يستولي الصليبيون على تلك البلاد فسار من مصر ومعه سبعمائة من الفرسان، واستطاع بحملة سريعة موفقة أن يستولي على جميع بلاد الشام. ولما عاد إلى مصر لقب نفسه ملكاً وأسس الأسرة الأيوبية (1175)، وخرج من مصر مرة أخرى بعد ست سنين من ذلك الوقت، واتخذ دمشق مقراً له، واستولى على بلاد النهرين، وكان فيها، كما كان في القاهرة. الرجل الحريص على دينهِ، المستمسك بأصولهِ. وأنشأ عدة مساجد، وبيمارستانات، وأديرة، ومدارس لتعليم قواعد الدين، وشجع العمارة، وإن لم يشجع العلوم الزمنية، وكان يشرك الفاطميون في احتقاره الشعر. ولم يكن يتوانى عن إصلاح كل خطأ ورد كل ظلم يصل إلى علمه، وخفف الضرائب في الوقت الذي أكثر فيه من المنشئات العامة، وأدار دولاب الحكومة بحزم وكفاية وحرص شديد على المصلحة العامة. وكانت البلاد الإسلامية تفخر بعدلهِ وصلاح حكمه، بينما كانت المسيحية تعترف بشهامته وإن لم يكن من دينها.

وسنمسك القلم عن التبسط في أحوال الأسر المحلية التي اقتسمت بلاد الشرق الإسلامية بعد موت صلاح الدين (1193). وحسبنا أن نقول إن ابنه كانت تنقصه مواهب أبيه، وإن حكم الدولة الأيوبية في بلاد الشام انقضى بعد ثلاث أجيال (1260). أما في مصر فقد ظل مزدهراً حتى عام 1250، ووصل إلى ذروة مجده وقوته في عهد الملك المستنير الملك الكامل (1218-1238) صديق فردريك الثاني. وفي آسية الصغرى أقام السلاجقة سلطنة بلاد "الروم" وجعلوا قونية (إيقونيوم Iconium الوارد ذكرها في أقوال القديس بولس) مركزاً لحضارة ذات آداب رفيعة. وانمحت من آسية الصغرى أسس الحضارة اليونانية التي كانت قائمة فيها منذ أيام هومر، وأصبحت بلاداً تركية لا تقل في صبغتها هذه عن التركستان نفسها، وتقوم فيها الآن الدولة التركية متخذة عاصمتها مدينة كانت في الزمن القديم عاصمة الحيثيين. وكانت قبيلة أخرى من الأتراك تحكم خوارزم (1077-1231)، وقد بسطت هذه القبيلة سلطانها من جبال أورال حتى الخليج الفارسي. وفي هذه الأحوال وهذا الانقسام السياسي أسس جنكيز خان الدولة الإسلامية الآسيوية. وكانت بلاد الشام حتى هذه الفترة من عهود الاضمحلال تتزعم العالم كله في الشعر، والعلم، والفلسفة، وتنافس آل هوهنستوفن Hohenstaufen في الحكم. فقد كان سلاطين السلاجقة-طغرل بك، وألب أرسلان، وملك شاه وسنجر-من أقدر الحكام في العصور الوسطى، ويعد نظام الملك من أعظم رجال الحكم والسياسة، ولم يكن نور الدين، وصلاح الدين، والكامل أقل شأناً من رتشرد الأول، ولويس التاسع، وفردريك الثاني. وجرى هؤلاء الحكام المسلمون جميعهم، بل وصغار الملوك أنفسهم، على سنة الخلفاء العباسيين في مناصرة الآداب والفنون، حتى لنجد في بلاطهم شعراء أمثال عمر الخيام، والنظامي، والسعدي، وجلال الدين الرومي، وبلغت العمارة في أيامهم درجة من الازدهار لم تبلغها قط من قبل، وإن كانت الفلسفة قد اضمحلت لتشددهم في الدين ؛ فقد طارد السلاجقة وصلاح الدين كل خارج على السنة من المسلمين، ولكنهم كانوا يعاملون اليهود والمسيحيين معاملة بلغ من تسامحها ولينها أن المؤرخين البيزنطيين يحدثوننا عن جماعات مسيحية تطلب إلى الحكام السلاجقة أن يأتوا إليهم ليطردوا حكامها البيزنطيين الظالمين(7). وازدهر غرب آسية مرة أخرى مادياً، وأدبياً في عهد السلاجقة والأيوبيين حتى كانت دمشق، وحلب، والموصل، وبغداد، وأصفهان، والري، وهراة، وأميدا، ونيسابور، ومرو وقتئذ من أكثر مدن العالم ثقافة وجمالاً. وقصارى القول أن هذا العصر كان عصر اضمحلال متلألئ ساطع.


الفصل الثاني: المسلمون في الغرب 1068-1300

توفي الملك الصالح آخر سلاطين الأيوبيين عام 1249، وتغاضت أرملته وجاريته السابقة شجرة الدر عن مقتل ابن زوجها ونادت بنفسها ملكة. وأراد الزعماء المسلمون في القاهرة أن يوفقوا بين هذا ومقتضيات الشرف والرجولة فاختاروا مملوكاً آخر يدعى أيبك ليكون شريكاً لها في الملك وتزوجت به شجرة الدر، ولكنها ظلت هي الحاكمة، ولما حاول أن يستقل بالملك دونها عملت على قتله في الحمام (1257)، ولم تلبث أن قتلتها جواري أيبك بالقباب، وكان أيبك قد عاش من العمر ما يكفي لإنشاء أسرة المماليك, وكان لفظ مملوك يطلق على الأرقاء البيض، وهم في العادة من الأتراك أو المغول الأشداء البواسل، الذين كان سلاطين بني أيوب يستخدمونهم في حرسهم الخاص، وأصبح هؤلاء فيما بعد ملوك مصر، كما أصبح أمثالهم ملوكاً في روما وبغداد، وظل المماليك يحكمون مصر، وبلاد الشام أحياناً؛ 267 عاماً (1250-1517) أريقت فيها كثير من دماء الاغتيال في عاصمة ملكهم؛ ولكنهم جملوها بآثار الفن. وقد أنجوا بشجاعتهم بلاد الشام وأوربا نفسها من المغول حين بددوا شملهم في واقعة عين جالوت (1260)، وكانوا هم الذين أنجوا فلسطين من الفرنجة، وطردوا آخر محارب مسيحي من بلاد آسية، وإن لم ينالوا من وراء ذلك من الحمد ما نالوه بهزيمة المغول. وكان أعظم سلاطين المماليك وأشدهم قسوة الظاهر بيبرس (1260-1277).

كان الظاهر بيبرس مملوكاً تركياً؛ رفعه دهاؤه وبسالته إلى منصب القيادة في الجيش المصري، وكان هو الذي هزم لويس التاسع في عام 1250، والذي حارب بعد عشر سنين من ذلك الوقت ببسالة ومهارة منقطعة النظير تحت قيادة قطز في معركة عين جالوت. ثم قتل قطز وهو عائد إلى القاهرة ونادى بنفسه سلطاناً على مصر، وكان من الطريف أن يتقبل لنفسهِ الاحتفال الذي أعدته المدينة للضحية المنتصر. واشتبك الظاهر في عدة حروب مع الصليبيين كللت كلها بالنصر، ومن أجلها تضعه الروايات الإسلامية في المرتبة الثانية بعد هارون الرشيد وصلاح الدين، ويصفه مؤرخ مسيحي معاصر له بقولهِ: "إنه كان في السلم معتدلاً، عفيفاً، عادلاً بين شعبهِ، رحيماً برعاياه المسيحيين أنفسهم". وقد أحسن تنظيم حكومة مصر إلى درجة تثبت دعائم حكم خلفائه رغم ما اتصف به من عجز؛ فاحتفظوا بهذا الملك حتى غلبهم الأتراك العثمانيون في عام 1517. وقد أنشأ لمصر جيشاً وأسطولاً قويين، وطهر مرافئها، وأصلح طرقها، وقنوات ريها، وشاد المسجد المسمى باسمه في القاهرة.

وخلع مملوك تركي آخر ابن الظاهر بيبرس، وأصبح هذا المملوك السلطان المنصور سيف الدين قلاون (1279-1290)، وأهم ما اشتهر به في التاريخ هو البيمارستان الذي أنشأه في القاهرة، والذي خصص له مليوناً من الدراهم (ما يعادل 500.000 ريال أمريكي) في العام ورُفع ابنه الناصر إلى العرش ثلاث مرات، ولكنه لم يخلع إلا مرتين، وبني قنوات لجر ماء الشرب إلى العاصمة، وأنشأ حمامات عامة، ومدارس، وأديرة، وثلاثين مسجداً، واحتفر قناة تصل الإسكندرية بالنيل سخر في حفرها مائة ألف عامل، وضرب المثل في بذخ المماليك، إذ نحر عشرين ألفاً من الذبائح في الاحتفال بزواج ولده. ولما سافر الناصر في رحلة خلال الصحراء حمل على ظهر أربعين بعيراً حديقة من الخضر بطينها الخصيب ليستمد منها حاجاته كل يوم(9). وأقفرت خزانة الدولة الرومانية في أيامهِ، وكان سبباً في ضعف خلفائه ضعفاً خارت له فيما بعد قوة المماليك.

وبعد فإن سلاطين المماليك لا يقعون في نفوسنا موقع سلاطين السلاجقة، أو الأيوبيين. نعم إنهم خلفوا منشئات عامة عظمية، ولكن معظم هذه الأعمال كان يقوم بها فلاحون أو عمال فقراء يستغلون إلى أقصى ما تحتمله الطاقة البشرية، وتستطيعه حكومة لا تسأل قط عن أعمالها أمام الأمة أو أمام طبقة الأعيان؛ وكان الاغتيال هو الطريقة الوحيدة للتخلص من السلاطين، ولكن هؤلاء الحكام الغلاظ الأكباد كانوا أصحاب ذوق سليم، أسخياء في مناصرة الآداب والفنون، وكان عصر المماليك ألمع العصور الإسلامية في تاريخ العمارة الإسلامية في العصور الوسطى بأجمعها، وكانت القاهرة في عهدهم (1250-1300) أغنى مدن العالم الممتد في غرب نهر السند(10)، فكانت أسواقها غاصة بجميع لوازم الحياة وبكثير من كمالياتها، وكان فيها سوق للنخاسة يستطيع الإنسان أن يبتاع منها الرجال والفتيات، وحوانيت صغيرة جدرانها مزدحمة بالسلع المتفاوتة الأثمان، وأزقة غاصة بالناس والدواب، تعلو فيها أصوات البائعين الجائلين وعربات النقل، وقد أنشئت ضيقة عن عمد ليستظل بها المارة، ومتعرجة ليسهل الدفاع عنها، تختفي بيوتها وراء واجهات قوية، وحجراتها مظلمة رطبة وسط وهج الشمس وحرارتها في الشوارع الكثيرة الحركة والجلبة، يتنفس سكانها الهواء من بهو داخلي أو حديقة قريبة، وقد فرشت حجراتها بالأثاث الوثير، والسجف، والطنافس، والتحف الفنية، والمفارش والوسائد المطرزة المزركشة. وكان فيها رجال يمضغون الحشيش ليخدروا حواسهم ، ويستجلبوا الأحلام اللذيذة؛ وفيها نساء يثرثرون في بيوت الحريم، أو يغازلن خلسة من وراء النوافذ. والموسيقى تنبعث من آلاف الآلات، والحفلات العجيبة تقام في القلعة، الحدائق العامة يفوح منها شذي الأزهار وتموج بالمتنزهين، والنهر العظيم والقنوات تسبح فيها سفائن النقل والركاب، وقوارب النزهة. هذه هي القاهرة المسلمة في العصور الوسطى .


لله بستان وما قضيت فيه من المآرب

لهفي على زمني به والعيش مخضر الجوانب

فيروقني والجو منه ساكن والقطر ساكب

ولكم بكرت له وقد بكرت له غر السحائب

والطل في أغصانه يحكى عقوداً في ترائب

وتفتحت أزهاره فتأرجحت من كل جانب

وبدا على جنباته ثمر كأذناب الثعالب

وكأنما آصاله ذهب على الأوراق ذائب

فهناك كم ذهبية لي في الولوع بها مذاهب


وتعاقبت على شمالي إفريقية في ذلك الوقت أسر كان لها هي الأخرى شأن عظيم، منها الزيرية (972-1048) وبنو حفص (1228-1534) حكام تونس، والحموديون (1130-1269) في بلاد الجزائر، والمرابطون (1056-1147) والموحدون (1130-1269) أمراء مراكش. وفي الأندلس سرعان ما تأثر المرابطون المنتصرون، جنود إفريقية المتقشفون الأولون، بحياة الترف التي كان يحياها أمراء قرطبة وإشبيلية الذين ثلوا هم عروشهم، وحل لين السلم محل التربية العسكرية الصارمة، وتخلت الشجاعة عن مكانها للمال حتى أصبح هؤلاء الشجعان مقياس السمو والعمة والهدف المبتغى، واكتسبت النساء برقتهن ومفاتنهن سلطاناً لا يدانيه إلا سلطان رجال الدين الذين يمنون الناس بمثل هذه المتع في الجنة. وفسد الموظفون، ولم يلبث دولاب الإدارة الذي بلغ درجة عالية من الكفاية في أيام يوسف بن تاشفين (1090-1106)، أن اختل في أيام ابنه على (1106-1143). واضطرب حبل الأمن، وثرت السرقات كلما ازاد إهمال الحكومة لواجباتها، فأصبحت الطرق غير آمنة، وكسدت التجارة، ونقصت الثروة. واغتنم ملوك أسبانيا الكاثوليكية هذه الفرصة فأغاروا على قرطبة، وإشبيلية وغيرها من مدائن الأندلس الإسلامية، وولى المسلمون وجههم مرة أخرى نحو إفريقية بها لتنجيهم من محنتهم. وكانت ثورة دينية قد شبت في تلك البلاد في عام 1121، ورفعت إلى العرش طائفة أخرى ذات قوة وبأس شديد. فقد قام عبد الله بن تومرت يندد بعقائد السنيين الذين يعزون إلى الله صفات الآدميين، وبآراء الفلاسفة الذين يدعون إلى إرجاع كل شيء إلى العقل وأخذ يطالب بالعودة إلى البساطة في العيش في العقيدة الدينية، ثم أعلن في آخر الأمر أنه هو المهدي المنتظر والمنقذ الذي يقول به الشيعة. والتفت حوله قبائل البربر الهمج سكان جبال أطلس، ونظموا أنفسهم تنظيماً قوياً وسموا بالموحدين؛ وهزموا حكام مراكش المرابطين، ولم يجدوا صعوبة في أن يفعلوا مثل هذا الفعل في الأندلس. وعاد النظام والرخاء إلى الأندلس ومراكش في عهد عبد المؤمن (1145-1163) وأبي يعقوب يوسف (1163-1184) من أمراء الموحدين، وانتعشت الآداب والعلوم مرة أخرى، وبسط الأميران حمايتهما على الفلاسفة على أن يكون مفهوماً لديهم أن يجعلوا كتبهم غير مفهومة، لكن أبا يوسف يعقوب (1184-1199) استسلم إلى فقهاء الدين، وتخلى عن الفلاسفة، وأمر بحرق جميع كتبهم. ولم يكن ابنه محمد الناصر (119-1214) يعنى بالفلسفة ولا بالدين، وأهمل شؤون الحكم، وانغمس في الملذات، وهزم هزيمة منكرة على أيدي قوات المسيحيين المتحدة في واقعة العقاب (Las Navas de Tolosa) عام 1212. وانقسمت أسبانيا الخاضعة للموحدين على أثر هذه الهزيمة إلى دويلات مستقلة افتتحها المسيحيون واحدة بعد واحدة-قرطبة في عام 1236، وبلنسية في 1238، وإشبيلية في عام 1248. وارتد المسلمون المغلوبون إلى غرناطة، حيث وقتهم جبال سيارا نفادا أو الحاج الثلجي بعض الوقاية، وحيث ازدهرت حقول الروم، وحدائق الزيتون، وغياض أشجار البرتقال بفضل ما يجري فيها من مياه الأنهار. وتعاقب على عرش غرناطة طائفة من الحكام الجازمين حافظوا على استقلالهم هي والبلدان التابعة لها-شريش، وجيان، والمرية، ومالقة-وصدوا عنها غارات المسيحيين المتكررة، وراجت التجارة وانتعشت الصناعة، وازدهرت الفنون، واشتهر السكان بثيابهم الزاهية وحفلاتهم المرحة، وظلت هذه المملكة الصغيرة قائمة حتى عام 1492، وكانت هي البقية الباقية في أوربا من تلك الثقافة التي جعلت بلاد الأندلس قروناً طوالاً من مفاخر بني الإنسان.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالِث: نظرات خاطفة في الفن الإسلامي 1058 - 1250

في هذا العصر عصر سيادة البربر على الأندلس الإسلامية أقام المسلمون قصر الحمراء في غرناطة والقصر والخرلدة في وإشبيلية. وكثيراً ما يسمى الطراز المعماري الجديد بالطراز المراكشي Morisco ظناً انه جاء من مراكش ولكن الحقيقة أن عناصره الأولى جاءت من بلاد الشام والفرس، وهي أيضاً من مميزات التاج محال في الهند، ألا ما أوسع ميادين الفن الإسلامي وما أكثر غناه! وقد كان الفن في ذلك الوقت فناً رقيقاً، ولم يعد يهدف إلى القوة والفخامة اللتين نشاهدهما في مساجد دمشق، وقرطبة، والقاهرة، بل يهدف إلى الرقة والمال، ويبدو فيه أن كل مهارة فنية قد وجهت إلى الزينة، وأن المثال قد طغى على مهندس المعمار.

وكان الموحدون من اكثر الحكام نشاطاً في العمارة، وقد شادوا أولاً بقصد الدفاع عن أملاكهم، فكانوا يحيطون مدنهم الكبرى بأسوار ضخمة قوية وأبراج مثل برج الذهب Torre del Oro الذي كان يحرس الوادي الكبير عند إشبيلية. وكان "القصر" Alcazar المقام هناك حصناً وقصراً معاً وكان يطل على العالم بواجهة خالية من الجمال. وكان الذي وضع تصميمه لأبي يعقوب يوسف (1181) هو الجالوني المهندس القرطبي، وأصبح هذا القصر بعد عام 1248 المسكن المحبب لملوك أسبانيا المسيحيين، وأدخل عليه بدور الأول (1353)، وشارل الخامس (126)...وإزابيلا (1833) تعديلاً في بنائه، أو رمموه، أو أعادوا ما تهدم منه، أو أضافوا إليه أبنية جديدة حتى أصبح معظمه الآن مسيحياً في بنائه، ولكنه يغلب على نمطه وصنعه الطراز الإسلامي أو الإسلامي-المسيحي.

وأبو يعقوب يوسف الذي بدأ "القصر" هو نفسه الذي شاد في عام 1171 مسجد إشبيلية العظيم الذي لم يبقَ منه شيء في هذه الأيام. وقد أقام جابر المهندس في عام 1196 مأذنة هذا المسجد الفخمة المعروفة عند الغربيين باسم الخردلة، ثم حول المسيحيون الفاتحون هذا المسجد إلى كنيسة (1235)؛ ثم هدمت هذه الكنيسة في عام 1401، وأقيمت مكانها كنيسة إشبيلية الكبرى، وكان مما استخدم في بنائها مواد المسجد نفسه. والجزء الأدنى من الخرلدة إلى ارتفاع 230 قدماً هو نفس بناء المأذنة الأصلية، أما الاثنتان والثمانون قدماً الباقية فقد أضافها إليها المسيحيون (1568)، وحرصوا أن تكون متناسقة كل التناسق مع قاعدة المأذنة الإسلامية. والثلثان الأعليان من البناء كثير الزخارف، وفيهما شرفات مقنطرة ذات واجهات متشابكة من الجص والحجر؛ وفي أعلاها تمثال من البرونز للإيمان (1568) ولكنه لا يكاد يمثل مزاج أسبانيا الديني غير المتقلب لأنه يدور مع الريح، ومن هنا اشتق لفظ جير لدا-أي الذي يدور-الأسباني من جيرا Gira. وقد أقام المسلمون في مدينتي مراكش (1569) ورباط (1197) أبراجاً لا تكاد تقل جمالاً عن هذا البرج.

وفي غرناطة أمر محمد بن الأحمر (1232-1273) في عام 1248 بتشييد أعظم صرح في الأندلس الإسلامية على بكرة أبيها، ونعني به قصر الحمراء الشهير. وكان الموقع الذي اختير لتشييده عليه قمة جبلية شامخة تحيط بها أخاديد عميقة وتشرف على نهري الدارو Darro والجنيل Genil. وقد وجد الأمير في هذا الموضع حصناً يعرف بحصن الكذابة Acazabs يرجع تاريخه إلى القرن التاسع الميلادي، فأضاف إليه أبنية جديدة وأقام الأسوار الخارجية للحمراء وأقدم قصورها ونقش على كل جزء من أجزائها شعاره المتواضع "لا غالب إلا الله". وقد أضيفت إلى هذا البناء الأصلي أجزاء أخرى في فترات مختلفة وأصلح ما تلف من على أيدي المسيحيين والمسلمين على السواء. ومن ذلك أن شارل الخامس أضاف إليه قصره البني على الطراز المربع طراز عهد النهضة، وهو بناء ناقص كئيب مهيب غير متناسق. وخط المهندس الذي لم يصل إلينا اسمه الفضاء الذي في داخل السور ليكون أولً حصناً لأربعين ألف رجل متبعاً في هذا مبدأ العمارة الحربية التي نمت وتطورت في بلاد الإسلام الشرقية(12). لكن ذوق القرنين التاليين الأكثر ميلاً إلى الترف حول هذا الحصن على مر الأيام إلى مجموعة كبيرة من الأبهاء والقصور، تكاد تمتا كلها بجمال الزخارف المكونة من الأزهار، وأوراق الأشجار، والأشكال الهندسية المحفورة أو المطبوعة في الجص أو الآجر أو الحجارة الملونة، والتي تبلغ من الجمال ورقة الذوق درجة منقطعة النظير. وأنشئت في بهو الآس بركة تنعكس على مياهها أغصان الأشجار وكلات الأبواب المزخرفة، ومن ورائها يقوم برج ذو أسوار حصينة كان المحاصرون يظنون أنهم واجدون فيه آخر ملجأ منيع. وفي داخل هذا البرج بهو السفراء، حيث كان يجلس أمراء غرناطة على رؤوسهم بينما كان المبعوثون الأجانب يعجبون بما حوته المملكة الصغيرة من فن وثراء، ولقد أطل شارل الخامس من شرفة لإحدى نوافذ هذا البهو فرأى الحدائق والغياض، والنهر يجري من تحتها، فقال بعد تفكير عميق: "ما أتعس حظ من خسر هذا كله!"(13) وفي الفناء الرئيسي للقصر المعروف ببهو الآساد أقيم اثنا عشر أسداً من الرخام رهيبة المنظر تحرس فسقتة من المرمر. وإن ما في البواكي المحيطة بهذا الفناء من عمد رشيقة رفيعة ذات تيجان في صورة أزهار، وتيجان ذات عمد صغيرة مدلاة، وكتابات كوفية، ونقوش عربية ذات ألوان أطفأ بريقها كر الغداة ومر العشي، كل هذا يجعل القصر أروع آية في الطراز الإسلامي الأندلسي. ولعل الأندلسيين المسلمين قد دفعهم ترفهم وتحمسهم إلى أن يتجاوزوا في فنهم حدود الرشاقة إلى الإسراف، ذلك أنه حيث لا تشاهد العين إلا الزخرف والزينة فإنها هي والروح تملان حتى الجمال والحذق. وهذه الدقة في الزخرف تبعث في النفس إحساساً بالوهن وتضحي بطابع القوة والأمان اللذين يجب أن تشعرنا بهما هندسة البناء. ومع هذا فإن ذلك الكساء الزخرفي كله تقريباً قد عاش بعد اثني عشر زلزالاً. نعم إن سقف قاعة السفراء قد خر، ولكن ما عداه من القاعة لا يزال قائماً. وملاك القول إأن هذه المجموعة الجميلة من الحدائق والقصور، والفساقي، والشرفات توحي إلى الناظر بأقصى ما وصل إيه الفن الإسلامي الأندلسي من العظمة، كما توحي في نفس الوقت بضعف هذا الفن: توحي بالإسراف في الثراء، وبجهود الفاتحين تتوسد مهاد الراحة وتخلد إلى الدعة، وبحاسة الجمال المرهقة تستبدل بالقوة والعظمة والرشاقة والأناقة.

وعاد الفن الإسلامي الأندلسي في القرن الثاني عشر من أسبانيا إلى شمال إفريقية، وبلغت مدائن مراكش، وفاس، وتلمسان، وتونس، وصفاقس، وطرابلس أوج عظمتها بما شيد فيها من القصور والمساجد التي يبهر العين؛ وبالأحياء الفقيرة المتعرجة. أما في مصر وبلاد الشرق فقد طعم السلاجقة والأيوبيون والمماليك الفن الإسلامي بقوة جديدة، فقد أقام صلاح الدين وخلفاؤه في الجنوب الشرقي من القاهرة قلعتها الضخمة، واستخدموا في بنائها الأسى الصليبيين، ولعلهم حذو في طرازها حذو القلاع التي شادها الفرنجة في بلاد الشام، وشاد الأيوبيون في حلب المسجد العظيم والقلعة، وبنوا في دمشق ضريح صلاح الدين. وحدث في هذه الأثناء انقلاب في فن العمارة حول في جميع بلاد الشرق الإسلامي الطراز القديم في عمارة المساجد، وهو طراز الصحن الواسع إلى طراز المدرسة أو الجامع ذي المدرسة، وكان منشأ هذا الطراز الجديد أن المساجد زاد عددها فلم تعد ثمة حاجة إلى أن يكون في وسطها صحن كبير يتسع لجمهور كبير من المصلين، وأن ازدياد الحاجة إلى المدارس كان يتطلب تسهيلات جديدة في التعليم. ولهذا امتت في المسجد الحقيقي أي من مكان الصلاة-الذي كان يعلوه في ذلك الوقت على الدوام تقريباً قبة كبيرة-امتدت منه أربعة أجنحة لكل منها مآذنه الخاصة ومدخله الكثير الزخارف، وقاعاته الرحبة للمحاضرات. وقد جرت العادة في أغلب الأحيان أن يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة جناح خاص، ويقول أحد سلاطين ذلك الوقت في صراحة: إن ذلك يتيح الفرصة لوجود مذهب منها في القليل يؤيد أعمال الحكومة القائمة. وقد استمر هذا الانقلاب في العمارة في عهد المماليك فأنشئت الساجد والمقابر الضمة التينة من الحجارة، تحرسها أبواب قوية كبيرة من البرونز المشغول، وتضيؤها نوافذ ذات زجاج ملون؛ وتتلألأ فيها الفسيفساء، والنقوش المحفورة في الجص الملون، وقع القرميد التي قاومت حتى الآن عوادي الزمان والتي لم يعرف طريقة صنعها غير المسلمين.

وقد درست الآثار المعمارية السلجوقية فلم يبقَ منها إلا أقل من واحد في المائة، نذكر من هذه البقية القليلة مسجد آني في أرمينية، والمدخل الفخم لمدخل قونية، ومسجد علاء الدين الفخم، والمدخل الكهفي، والواجهة ذات النقوش الشبيهة بالتطريز في جامع سرتجيلي، ونذكر منها في بلاد النهرين مسجد الموصل الكبير، ومسجد المستنصر في بغداد، وفي فارس برج طغرل بك في الري وقبر سنجر في مرو، والمحراب المتلألئ في مسجد همذان، والقبة المضلعة والعقود الصغيرة الفذة في السجد الجامع بقزوين، والعقود الكبرى والمحراب في جامع الحيدرية، وليست هذه إلا قلة من الصروح التي بقيت حتى الآن شاهدة على ما بلغه السلاجقة من حذق في العمارة وما بلغه ملوكهم من سمو في الذوق. وأجمل من هذه كلها المسجد الجامع في إصفهان الذي لا يدانيه في بلاد الفرس كلها إلا مسجد الإمام الرضا في مشهد والذي أقيم بعد ذلك الوقت. ومسجد إصفهان هذا أروع الآيات الفنية كلها في عصر السلاجقة. وقد أقيمت أجزاء من هذا المسجد في قرون عدة، ويبدو عليها طابع تل القرون، فهو من هذه الناحية شبيه بكنيسة نتردام Notre Dam. وقد بدئ بتشييده في عام 1088 ووسع مراراً عدة، ولم يتخذ شكله الحاضر إلا في عام 1612، غير أن كبرى قبابه المشيدة من الآجر تحمل نقوش خاتم نظام الملك وعام 1088. ومدخل المسجد وأبواب المحراب-ومنها واحد يبلغ ارتفاعه ثمانين قدماً-مزينة بالقيشاني والفسيفساء الذي لا يكاد يوجد له نظير في تاريخ ذلك الفن بأكمله. وأبهاؤه الداخلية ذات قباب مضلعة وعقود صغيرة متتالية معقدة، وأقواس مستدقة تخرج من دعامات ضخمة. وعلى المحراب (1310) نقوش على الجص من أوراق الكرم والبشنين؛ وكتابات كوفية لا يعلو عليها شيء من نوعها في بلاد الإسلام جميعها.

وهذه الآثار تسخر من القائلين بأن الأتراك كانوا قوماً همجاً، فكما أن الحكام والوزراء السلاجقة كانوا من أقدر الساسة والحكام في التاريخ، كذلك كان المهندسون السلاجقة من أقدر البنائين وأشجعهم في عصر الإيمان الذي يمتاز بضخامة مبانيه وأعظمها قوة؛ ولقد وقف طراز المباني السلجوقية الضخمة الجريئة في وجه النزعة الفارسية إلى الزينة، ونشأ من اجتماع النزعتين السلجوقية والفارسية طراز معماري جديد عم آسية الصغرى والعراق وإيران، ومن العجيب أن يتفق هذا الطراز في الزمن مع ازدهار فن العمارة القوطي في فرنسا. ولم يجر السلاجقة على السنة التي جرى عليها العرب قبلهم فيخفوا مكان الصلاة في ركن من أركان الصحن، بل جعلوا للمسجد واجهة قوية متلألئة، ورفعوا بناءه، وأقاموا عليه قبة مستديرة أو مخروطية جمعت كل الصرح، وضمت أجزاءه جميعها في وحدة، وفي هذا الوقت بالذات اجتمع في البناء العقد المستدق، والقبو، والقبة أحسن اجتماع(14).

وبلغت الفنون كلها ذروة مجدها في هذا العصر العجيب عصر العظمة والاضمحلال، فقد كان يبدو للفرس من مسرات الحياة التي لا غنى عنها، ولم يبلغ الخزف على اختلاف أشكاله ما بلغه في ذلك الوقت من تنوع في الشكل وجمال(15). ذلك أن الفرس أتقنوا ما ورثوه عن المصريين، وأعل الجزيرة، والساسانيين، وأهل الشام من فنون الزخارف البراقة، والتلوين المفرد، أو المتعدد الألوان فوق السطح المزجج أو تحته، وأعمال الميناء، والقرميد، والقاشاني، والزجاج، حتى بلغوا بذلك كله درجة الكمال. وتأثرت هذه الأعمال كلها بالفن الصيني، وخاصة ما كان منها متصلاً يتلوين الصور، ولكن ذلك لم يفرض سلطانه على الطراز الفارسي، وقد استورد الخزف وقتئذ من بلاد الصين، ولكن ندرة الكاولين في الشرق الأدنى والأوسط لم تشجع المسلمين على صنع هذه الآنية النصف الشفافة. إلا أن الفخار الفارسي مع هذا بقي طوال القرون الثاني عشر، والثالث عشر ، والرابع عشر، لا يفوقه فخار آخر في العالم كله-فقد كان في تنوع أشكاله، ودقة تناسبه، وبريق زخارفه، ودقة حزونه، ورشاقته يسمو على كل ما عداه في العالم كله(19).

ولم تكن الفنون الصغرى في بلاد الإسلام مما تنطبق عليها هذه التسمية التي تبخسها حقها. فقد كانت حلب ودمشق في هذا العصر تصنعان العجائب من الآنية الزجاجية الهشة، والمزخرفة بالميناء، وصنعت القاهرة للمساجد والقصور قناديل من الزجاج المزخرف بالميناء أيضاً يبذل هواة التحف الفنية في هذه الأيام أقصى جهودهم للحصول عليها . وكانت كنوز الفاطميين التي فرقها صلاح الدين تحتوي على آلاف من الزهريات المصنوعة من البلور والجزع البقراني، بلغ صانعوها من المهارة الفنية ما يعجز عنه الفنانون في هذه الأيام، وبلغ فن الزخارف العدنية الآشوري القديم في مصر والشام درجة من الإتقان لم يسبق لها مثيل، ومن هذين القطرين انتقل هذا الفن إلى البندقية في القرن الخامس عشر(18). وكان النحاس، والبرونز، والشبَّه، والفضة، والذهب، تصبّ أو تطرق، وتصنع منها آنية للطبخ، وأسلحة، ودروع، وقناديل، وأباريق، وأحواض، وجفان؛ وصَّوانٍ؛ ومرايا وآلات فلكية، ومزهريات، وثريات، ومقالم، ومحابر، ومدافىء، ومباخر، وتماثيل للحيوانات، وصناديق للمصاحف، ومساند للمواقد، ومفاتيح، وأقفال، ومقصات...مزينة بنقوش محفورة، ومرصعة في كثير من الأحيان بالمعادن أو الحجارة الكريمة. وكانت الوجه العليا للموائد النحاسية تحفر عليها كثير من النقوش، وكانت الشبابيك الفخمة تصنع من المعد المشغول للمحاريب، والأبواب، أو القبور. وفي متحف الفنون الجميلة ببسطن صينية فضية نقشت عليها صور وعول، وإوز، واسم ألب أرسلان، ويرجع عهدها إلى عام 1066، وقد وصفها بعض العلاء بأنها أشهر ما أخرجه الفن الفارسي في العهود الإسلامية من تحف فضية، وأنها أهم تحفة فضية مفردة باقية من أيام السلاجقة(19).

وظل النحت فناً تابعاً لغيره من الفنون ومقصوراً على عمل النقوش البارزة والحفر على الحجارة أو الجص، وعلى الزخرفة العربية والكتابية، وقد يحدث أحياناً أن يأمر حاكم مستهتر بعمل تمثال له أو لزوجته أو إحدى مغنياته، ولكن هذا العمل كان خطيئة سرية قلما تعرض على أعين الجماهير. غير أن النقش على الخشب ترعرع وازدهر، فكانت الأبواب، والمنابر، والمحاريب، وكراسي المصاحف، والسجف، والسقف، والمناضد، والشبابيك الشَّعرية؛ والأصونة: والصناديق، والأمشاط، كانت هذه كلها تقطع على رسم شَعْرية أو يكدح في عملها صناع قاعدون القرفصاء يديرون المخارط بأقواس. وكان ثمة عمال آخرون أشد من هؤلاء كدحاً وأكثر منهم صبراً ينسجون الحرير والأطلس والحرير المشجر، والأقمشة المطرزة، والمخمل المشغول بخيوط الذهب والستائر؛ والخيام، والطنافس ذات النسيج الرقيق البديع والرسوم الفتاة التي كانت موضع دهشة العالم وحسده. وقد شاهد ماركوبولو في آسية الصغرى حين زارها في عام 1270 "أجمل الطنافس في العالم كله"(20). ويقول جون سنجر سارجنت Jhon Singer Sargent إن السجادة العجمية "تساوي في قيمتها كل ما رسم من الصور حتى ذلك الوقت"(21)، مع أن الخبراء المختصين يحكمون بأن السجاجيد العجمية الحالية ليست إلا ناقصة من الفن الذي بزت فيه بلاد الفرس العالم له، ولم يبق من السجاجيد العجمية التي نسجت في عصر السلاجقة إلا قطع ممزقة، ولكن في وسعنا أن نتصور ما بلغه من إتقان وجمال منقطعي النظير مما نسج على منوالها بصورة مصغرة في العصر المغولي.

وكان التصوير في الإسلام من الفنون الكبرى في الرسو الدقيقة الصغيرة، كما كان طوال عهده من الفنون الصغرى في الرسم على الجدران؛ وفي الرسوم الملونة للكائنات الحية. وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر (1104-1130) عدداً منم رجال الفن ليرسموا له في حجرته بالقاهرة صور شعراء ذلك الوقت(22)، ويبدو من ذلك أن تحريم الصور المنقوشة لم يعد له من القوة ما كان له في سالف الأيام. وقد بلغ التصوير في عهد السلاجقة ذروته في بلاد التركستان حيث أضعف بُعد المسافة كراهية أهل السنة لهذا الفن، ومن اجل هذا نرى في المخطوطات التركية صوراً كثيرة لأبطال الأتراك. ولم تصل إلينا رسوم دقيقة صغيرة يمكن الجزم بأنها من عصر السلاجقة، ولكن بلوغ هذا الفن أوَجه في عصر المغول الذي تلا ذلك العصر في بلاد الشام الشرقية لا يكاد يترك مجالاً للشك في ازدهاره في ذلك العصر السابق. فقد كانت العقول الأوربية والأيدي للصناع تخرج مصاحف تزاد جمالاً فوق جمالها على مر الأيام لمساجد السلاجقة والأيوبيين والمماليك، ومحال عبادتهم؛ ولكبرائهم، ومدارسهم، وكانوا ينقشون على جلود المصاحف المصنوعة من الجلد أو المطلية بالك نقوشاً تبلغ في دقتها بيوت العنكبوت، وكان الأغنياء ينفقون بعض مالهم في استئجار الفنانين لإخراج اجمل ما عرف من الكتب، وكانت طائفة كبيرة من الوراقين، والخطاطين، والمصورين، والمجلدين، تعمل في بعض الأحيان سبعة عشر عاماً كاملاً لإخراج مجلد واحد. ولم يكن بد من أن يكون الورق من أحسن الأنواع، ويقال إن فرش الرسم كانت تصنع من شعرات بيضاء من رقاب القطط التي لا تزيد عرها على سنتين، وكان المداد الأزرق يصنع من مسحوق حجر اللازورد الأزرق، وكان يساوي وزنه ذهباً؛ ولم يكن الذهب السائل يعد أثمن من أن ترسم به بعض الخطوط أو تكتب به بعض الحروف في رسم أو نص. وفي ذلك يقول أحد شعراء الفرس: "إن الخيال لا يمكن أن يتصور مقدار السرور الذي يتيحه للعقل منظر خط متقن الرسم"(23).


الفصل الرّابع: عصر عمر الخيام 1038 - 1122

يبدو أن عدد الشعراء والعلماء في ذلك العصر لم يكن يقل عن عدد الفنانين. فقد كانت القاهرة، والإسكندرية، وبيت المقدس، وبعلبك؛ وحلب، ودمشق، والموصل، وحمص، وطوس، ونيسابور؛ وكثير غيرها من المدن تفخر بما فيها من مدارس كبرى، وكان في بغداد وحدها سنة 1064 ثلاثون مدرسة من هذا النوع، أضاف إليها نظام الملك بعد عام من ذلك الوقت مدرسة أخرى تفوقها كلها في سعتها، وفخامة بنائها، وأجهزتها، ويصفها أحد الرحالة بأنها أجمل بناء في المدينة كلها. وكانت هذه المدرسة الأخيرة تحتوي أربع مدارس للشريعة الإسلامية منفصلة كل منها عن الأخرى، يجد فيها الطلاب التعليم؛ والطعام، والعناية الطبية بالمجان، ويعطى كل منهم فوق ذلك ديناراً ذهبياً لما يحتاجه من النفقات الأخرى. وكان في المدرسة مستشفى، وحمام، ومكتبة مفتحة الأبواب بالمجان للطلبة وهيئة التدريس. ويغلب على الظن أن النساء كان يسمح لهن في بعض الأحوال بالالتحاق بهذه المدارس لأنا نسمع وجود شيخة-أي أستاذة-يهرع الطلاب إلى سماع محاضراتها كما كانوا يهرعون إلى سماع محاضرات أسبازيا Aspasia وهيباشيا Hypatia. (1178)(24).

وكانت دور الكتب العامة أغنى مما كانت في أي عهد آخر من عهود الإسلام؛ وقد كان في الأندلس الإسلامية وحدها سبعون مكتبة عامة، وظل النحاة، وعلماء اللغة، وأصحاب الموسوعات، والمؤرخون موفوري العدد والثراء، وكانت كتب السير التي يضم كل منها عدداً من التراجم من الهوايات الشائعة المتقنة عند المسلمين. من ذلك أن القفطي (المتوفى في عام 1248) ترجم لأربعمائة وأربعة عشر فيلسوفاً وعالماً، وأن ابن أبي أصيبعة (1203-1270) ترج لأربعمائة طبيب، وأن محمد الغوفي (1228)، ألف موسوعة تشمل ترجمة لثلاثمائة من شعراء الفرس لم يذكر فيها اسم عمر الخيام، وبز محمد بن خلكان (121-1282) بمفرده هؤلاء جميعاً وغيرهم بكتابة وفيات الأعيان الذي يحتوي على تراجم في صورة قصص لثمانمائة وخمسة وستين من ذوي المكانة من المسلمين. والكتاب على اتساع مجاله عجيب الدقة، وإن كان ابن خلكان نفسه يعتذر ما فيه من نقص ويختتمه بقوله "أبى الله أن يصح إلا كتابه" وحلل محمد الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (1128) المشهورة من أديان العالم وفلسفاته، ولخص تواريخها، ولم يكن في مقدور أحد من المسيحيين في ذلك العصر أن يكتب كتاباً يماثله في غزارة مادته ونزاهته.

أما أدب القصة عند المسلمين فلم يتجاوز حكايات كثيرة عن حوادث اللصوص، متقطعة، متقطعة لا يربطها بعضها ببعض إلا أنها تروى عن شخصية واحدة. وكان أوسع الكتب انتشاراً عند المسلمين بعد القرآن، وكتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب كليلة ودمنة لبيدبا هو مقامات أبي محمد الحريري (1054-1122) البصري. وتروي هذه المقامات في نثر مسجع مغامرات الوغد السافل أبي زيد صاحب الشخصية الممتعة، وهو الذي يضطر القارئ إلى العفو عن مجونه، وجرائمه، وتجديفه بسبب فكاهته الظريفة، وحذقه ودهائه، وفلسفته الجذابة المغرية: أنظر إلى قوله في إحدى المقامات:


وعاص النصيح الذي لا يبيح

إذا ما سمح

وجل في المجال ولو بالمحال

وخذ ما صلح

ويكاد كل من يعرف الكتابة والقراءة من المسلمين في ذلك الوقت أن يقرض الشعر، ولا يكاد يوجد حاكم لا يشجعه، وإذا صدقنا قول ابن خدون مئات من الشعر كانوا يقيمون في بلاط المرابطين والموحدين في إفريقية وأسبانيا(26). وحدث في اجتماع للشعراء المتنافسين في إشبيلية أن نال الأعمى التطيلي جائزة لأنه جمع في بيتي نصف شعر العالم كله إذ قال:


ضاحك عن جمان سافر عن در

ضاق عنه الزمان وحواه صدري

وتقول الرواية إن سائر الشعراء مزقوا قصائدهم دون أن يقرءوها، وفي القاهرة ظل البها زهير يغني عن الحب بعد أن ابيض شعره بزمن طويل، وفي بلاد الشرق الإسلامي كان انقسام الدولة إلى ممالك صغيرة سبباً في ازدياد عدد الأمراء والكبراء الذين يناصرون الآداب، وإلى تنافسهم في هذا الميدان كما حدث في ألمانيا في القرن التاسع عشر. وكان الفرس أغنى الأمم الإسلامية بالشعراء؛ فقد ظل الأنوري شاعر خراسان زمناً ما يتغنى بقصائده في بلاط سنجر، ومدحه بما لم يمدح به إلا نفسه. ومن مديحه لنفسه قوله بالفارسية ما معناه:


لي روح ملتهبة كالنار، ولسان فياض كالماء،


وعقل قواه الذكاء وشعراً مبرأ من العيوب،


ولكن ما أشد أسفي إذ لا أجد نصيراً خليقاً بمديحي

وما أشد أسفي إذ لا أجد حبيباً جديراً بغزلي!

ولا يقل عنه ثقة بنفسه معاصره الخاقاني (1106-1185)، وقد أثار بغطرسته معلمه فقال فيه شعراً يطعن في نسبه يقول فيه بالفارسية ما معناه: أي خاقاني! مهما تكن مكانتك في الشعر فإني أسدي إليك نصيحة لا أقتضيك عليها أجراً:


لا تهجون أسن منك فربما تهجو أباك وأنت لا تدري


وأكثر ما يعرف الأوربيون من الشعر الفارسي هو شعر عمر الخيام، وتضعه بلاد فارس بين علمائهم الأعلام، ولا ترى فر رباعياته إلا لهواً عارضاً كان يلهو به "من أعظم علماء الرياضية في العصور الوسطى"(30). وقد ولد أبو الفتح عمر الخيام ابن إبراهيم في نيسابور عام 1038، ومعنى لقبه صانع الخيام، ولكن هذا اللقب لا يدل على صناعته أو صناعة أبيه إبراهيم، لأن الألقاب المهنية كانت قد فقدت في أيامه معانيها الحرفية، كما فقدت ألقاب الحداد Smith، والخياط Taylor والخباز Baker، والفخراني Potter، معانيها عند الإنجليز والأمريكيين في الوقت الحاضر. ولا يكاد التاريخ يذكر شيئاً عن حياته، وإن كان يسجل أسماء الكثير من مؤلفاته، منها كتابه في الجبر الذي ترجم إلى الفرنسية في عام 1857، وهو يدل على تقدم كبير عما وصل إليه هذا العلم على أيدي الخوارزمي والعلماء اليونان. فقد وصل فيه إلى حل جزئي لمعادلات الدرجة الثالثة قيا أنه "ربما كان أعظم ما وصلت إليه الرياضة في العصور الوسطى"(31) ومنها كتاب آخر في الجبر (وهو كتاب مخطوط في مكتبة ليدن) يعد دراسة نقدية لنظريات إقليدس وتعاريفه. وقد كلفه السلطان ملك شاه مع جماعة من العلماء في عام 1074 إصلاح التقويم الفارسي، وكانت نتيجة عملهم تقويماً لا يخطئ إلا في يوم واحد كل 3770 عاماً-أي أنه أدق قليلاً من تقويمنا الحاضر الذي يخطئ يوم كل 3330 عاماً(32).وإنا لنترك اختيار أحد التقويمين للحضارة التي تتلو حضارتنا هذه. غير أن الدين الإسلامي كان أعظم سلطاناً على النفوس من العلوم الإسلامية، ولهذا عجز تقويم عمر الخيام عن أن يحل عند المسلمين محل التقويم الهجري. ومما يدل على ما بلغه ذلك العالم الفلكي من شهرة واسعة تلك القصة التي يرويا عنه نظامي عروضي الذي عرفه في نيسابور:

في شتاء سنة 508 في مدينة مرو أرسل السلطان ملكشاه في طلب صدر الدين محمد ابن المظفر رحمه الله، وكلفه أن يخبر الخيام-وكان ينزل داره-أن السلطان يريد الخروج للصيد، وأنه يطلب إلى عر أن يختار له خمسة أيام لا ينزل فيها مطر ولا ثلج. وفعل عمر ما كلف به ثم أرسل ابن المظفر إلى السلطان يخبره بما اختاره. ولما أعد السلطان عدته للرحيل هبط المطر؛ وهبت الرياح عواصف، ونزل الثلج والبرد، وأراد السلطان أن يعود، ولكن الخيام قال: لا تشغل بالك فإن المطر سينقطع في هذه الساعة ثم لا يهب مدة الخمسة الأيام اللاحقة. وسار السلطان وأنقطع المر مدة الأيام الخمسة(33).

والرباعيات في أصلها الفارسي قصيدة تتألف كل مقطوعة فيها من أربعة أبيات قافيتها آبا. وتعبر كل منها عن فكرة كاملة في شعر جامع محكم. ولسنا نعرف منشأ هذا البحر، ولكنه يرجع إلى ما قبل زمن عمر الخيام بوقت طويل. ولم يكن هذا الشعر في الأدب الفارسي جزءاً من القصائد الطوال ولكن كل مقطوعة من مقطوعاته تكون وحدة مستقلة بذاتها، ومن ثم فإن الفرس الذين جمعوا الرباعيات لا يرتبونها حسب تتابع أفكارها، بل يرتبونها حسب قوافيها(34). وتوجد الآن آلاف من الرباعيات الفارسية، معظمها لا يعرف قائله، ومنها 1200 تُعزى إلى عمر الخيام فسه، ولكن كثيراً منها يُشك في أنها من قوله. ويرجع تاريخ أقدم مخطوط فارسي لرباعيات الخيام (وهو المخطوط المحفوظ في المكتبة البدلية Bodleian بأكسفورد) إلى عام 1460 لا قبل. ويحتوي على 158 من هذه الرباعيات مرتبة ترتيباً أبجدياً(35). وقد أمكن إثبات بعض هذه المقطوعات إلى شعراء قبل الخيام-بعضها إلى أبي سعيد، وواحدة منها إلى ابن سينا(37). وإن من الصعب، إلا في حالات، أن نجزم بأن مقطوعة من المقطوعات التي تُعزى إلى الخيّام من أقواله حقاً(38).

ولقد كان المستشرق الألماني فون همر Von Hammar أول من لفت نظر العالم الغربي إلى رباعيات الخيًّام في عام 1818، ثم ترجم إدوارد فتزجرلد Edward Fitzgerald في عام 1859 خمساً وسبعين منها شعراً إنجليزياً رصيناً ممتازاً، فريداً في وعه. ومع أن ثمن النسخة من الطبعة الأولى من هذه الترجمة لم يكن يزيد على بنس واحد فإنها لم يقبل عليها إلا عدد قليل، ولكن طبعات أخرى متتالية أكبر من الأولى عدداً صدرت بعدئذ، وأفلحت في تعديل الصورة التي كانت في عقول الناس عن العالم الرياضي الفارسي حتى جعلته من أكثر الشعراء شهرة، وجعلت شعره من أكثر ما يقرأ من الشعر في العالم. ويرى العارفون بالأصل الذي ترجمه فزجرلد أن من بين المائة والعشر من المقطوعات التي ترجمها تسعاً وأربعين تعبر كل منها عن رباعية واحدة من الأصل الفارسي تعبيراً صادقاً أميناً وأن أربعاً وأربعين مأخوذة كل منها من رباعيتن أو أكثر وأن اثنتين تنعكس "فيهما روح القصيدة الأصلية بأجمعها"، وأن ستاً مأخوذة من رباعيات توجد أصولها أحياناً ضمن رباعيات الخيام، ولكنها في أغلب الظن ليست له؛ وأن اثنتي ينطبع عليهما تأثر فتزجرلد بما قرأه لحافظ، وأن ثلاثة لا نجد لها أصلاً في أي نص فيما لدينا من نصوص رباعيات الخيام، ويبدو أنها من وضع فتزجرلد نفسه، وقد استبعدها هو في الطبعة الثانية(39). ولسنا نجد في رباعيات الخيام ما يقابل المقطوعة الحادية والثمانين من ترجمة فتزجرلدد(40) وهي التي تقول:


إنني أدعو يا من أنجما من خبيث التراب إنساناً نما



وبفردوس أدب الأرقما كيفما زل امرؤ أو أجرما



فاحبه وأسأله غفران الأنام


أما فيما عدا هذه المقطوعات فإن الموازنة بين ترجمة فتزجرلد وبين الترجمة الحرفية للنص الفارسي تتجلى فيها على الدوام روح عمر. وهي أمينة على الأصل إلى الحد الذي يحق للإنسان أن يتوقعه من هذه الترجمة الشعرية. وقد كانت ترجمة فتزجرلد الدروينية السائدة في أيامه مما حمله على إغفال فكاهة الخيام الحلوة، وعلى توكيد ما في أقواله من نزعة مضادة للدين. ولكن المؤلفين الفرس الذي جاءوا بعد عمر الخيام بقرن واحد لا أكثر يخلعون عليه من الأوصاف ما يتفق كل الاتفاق مع أقوال فتزجرلد، فمرصد العباد (1223) يصفه بأنه فيلسوف ملحد، مادي تعس. ويقول عنه القفي في تاريخ الحكماء (1240) إنه لا نظير له في الفلك والفلسفة، ولكنه يصفه بأنه ملحد شديد الإلحاد، يضطره الحذر إلى أن يمسك لسانه، ويصفه أحد كتاب القرن الثالث عشر الميلادي بأنه رجل سيئ الخلق من أتباع ابن سينا، ويذكر كتابين للخيام في الفلسفة لا وجود لهما الآن. ويفسر بعض المتصوفة رباعيات عمر تفسيراً مبنياً على الاستعارات الصوفية الخفية، ولكن الصوفي نجم الدين الرازي يطعن عليه ويقول إنه أكبر الملحدين في أيامه(41).

وكان عمر الخيام يرفض أقوال فقهاء الدين ويسخر منها على الدوام، ويفخر بأنه سرق أبسطة الصلاة من المساجد، ولعله قد تأثر بهذه النزعة بدراسته للعلوم الطبيعية، أو لعله كان فيها متأثراً بأقوال أبي العلاء المعري(42). وقد قبل النزعة الجبرية السائدة عند المسلمين، وإذ كان يأمل في حياة غير الحياة الدنيا، فقد استولت عليه فلسفة متشائمة حاول أن يجد لنفسه منها سلوى في الدرس والخمر، فترى المقطوعتين السابعة بعد المائة والتي بعدها من المحفوظ في المكتبة البدلية تسموان بالسكر إلى مرتبة الفلسفة العالمية:


وحانة كنستها بشاربي وعالمين وليا عن غاربي



ما عاد لي بالشر إما حاق بي شأن ولا خيرهما إن ضاق بي



ودعها يا قلب عند ضارب بأكرة يرسلها لضارب



تجد أخاك نائماً كشارب سكران من هذى وتلك غائب



أشفقت إلا من كئوس الطلى لله ما أحلى وما أجملا



أن تشرب العقل فلا يعقلا وأن يجوب المرء هذا الفلا



وأعقله من كل شيء سلا بين سماك نافر وهلا


(يريد من برج الحوت إلى الهلال أي من أحد رفي السماء إلى الطرف الآخر) وإذا عرفنا كم من شعراء الفرس يقولون في مدح الغيبوبة أقوالاً شبيهة بهذا القول، حق لنا نتساءل أليست هذه الأقوال الخمرية مجرد صورة من صور الأدب، ووقفة من مواقفه مثلها كمثل عشق هوراس للجنسين؟ وأكبر الظن أن هذه الرباعيات القليلة تطبع في عقل القارئ صورة خاطئة لحياة الخيام، وما من شك في أنها لم يكن لها إلا شأن قليل في الخمسة والثمانين عاماً التي امتدت إليها حياته. ومن واجبنا أن نصوره، لا في صورة السكير الذي يستلقي مخموراً في الطرقات، بل في صورة العالم المسن العاكف في هدوء على معادلاته التكعيبية، وعلى طائفة قليلة من أبراج النجوم والخرائط الفلكية، وعلى كأس من الخمر بين الفينة والفينة مع زملائه العلماء، وهم منتشرون على الكلأ كالنجوم. ويبدو أنه كان يحب الأزهار كحب المحصورين في أرض جدباء؛ وإذا أخذنا بقول النظامي العروضي قد نال بغيته في أن يدفن حيث يتفتح الزهر النضير. قال النظامي:

هبط عمر الخيام سنة 506هـ (1112-13م) مدينة بلخ ونزل في قصر الأمير أبي سعد، وكنت في خدمة الأمير فسمعت حجة الحق عمر يقول: سيكون قبري في موضع تنتثر الأزهار عليه في كل ربيع. وظننته يقول مستحيلاً ولكني كنت أعلم أنه لا يلقي لقول جزافاً. ثم هبطت نيسابور سنة 530هـ (1135م) فقيل لي بأن ذلك الرجل العظيم قد مات، وكان له على حق الأستاذ فرأيت من واجبي أن أزور قبره وصحبت من يدلني عليه فأخرجني إلى مقبرة الحيرة، وهناك رأيت على يسار الزائر في سفح سور حديقة موضع دفنه، ورأيت أشجار الكمثري والبرقوق وقد تدلت أغصانها من داخل الحديقة ونثرت على قبره النوار حتى كادت نخفيه عن الأبصار. فعدت بالذاكرة إلى تلك القصة التي سمعتها منه في بلح، وغشيني الحزن، وغلبني الباء لأني لم أكن أعرف له نداً بين الرجال، وفهمت أن الله تعالى أسكنه فسيح جناته فضلاً وكرماً.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامِس: عصر السعدي 1150 - 1291

ولد بعد خمس سنين من وفاة عمر الخيام شاعر يجله الفرس أعظم من إجلالهم لعمر، وكان مولده في المدينة المعروفة الآن بفيروز آباد بالقرب من تفليس. وكأن الأقدار قد شاءت أن تتخذ من إلياس أبي محمد الذي عرف بعدئذ باسم نظامي وسيلة لإظهار نزعة الخيام الأخلاقية في أبشع صورها فجعلته يستمسك في حياته بأسباب الصلاح الحق، فيتمتع كل الامتناع عن شرب الخمر ويهب حياته لواجبات الأبوة وللشعر. وقصته ليلى والمجنون (1188) أشهر القصص الغرامية في الشعر الفارسي. وخلاصتها أن قيس المجنون افتتن بليلى، ولكن أباها أرغمها على أن تتزوج برجل غيره، فأثرت تلك الخيبة في قيس وأفقدته عقله، فاعتز المدينة إلى البادية، ولم يكن يعود إلى صوابه لحظة وجيزة إلا إذا ذكر اسم ليلى أمامه. ولما ترملت جاءت ليلى إليه ولكنها توفيت بعد قليل، ولم يسع قيس إلا أن يقتل نفسه عند قبرها كما قتل روميو نفسه عند قبر جولييت. وليس في مقدور أي ترجمة أن تظهر ما يمتاز به الأصل الفرنسي من قوة في التعبير وجمال في النغم.

لقد كان الصوفيون أنفسهم يتغنون بالحب؛ ولكنهم يؤدون لنا أشد التأكيد أن العاطفة التي يعبرون عنها ليست إلا رمزاً لمحبة الله. وقد ولد محمد بن إبراهيم المعروف في عالم الأدب باسم فريد الدين العار بالقرب من نيسابور (1119)، ولقب بالعطار لأنه كان يبيع العطر. ولما اشتدت لديه العاطفة الدينية غادر حانوته والتق بخلوة للصوفية. وتشتمل كتبه الأربعون على مائتي ألف بيت من الشعر أشهرها كلها منطق الطير. وخلاصته أن ثلاثين طائراً (أي صوفياً) يعتزمون البحث مجتمعين عن ملك الطيور كلها المسمى سيمورغ (الحق). ويختارون ستة وديان: الطب؛ والعشق، والمعرفة، والتجرد (عن جميع الشهوات)، والتوحيد (حيث يدركون أن الأشياء جميعها واحدة)، والحيرة (من فقدان الإحساس بالوجود الفردي). وتصل ثلاثة من الطيور الوادي السابع وادي الفناء (فناء النفس)، ويطرقون باب الملك المختفي. ويعرض الحاجب عن ل منهم سجل أعماله، فيغلبهم الحياء، ويستحيلون ترابا، ولكنهم يبعثون من هذا التراب في صورة ضياء، ويدركون بعدئذ أنهم هم وسيمورغ (وهو لفظ معناه ثلاثون طيراً) شيء واحد، ويفنون من هذا الوقت في سيمرغ كما تفنى الظلال في ضوء الشمس. ويعبر العطار في كتبه الأخرى عن عقيدته في وحدة الوجود تعبيراُ أكثر فيقول إن العقل يستطيع معرفة الله لأنه لا يستطيع معرفة نفسه، ولكن الهيام والوجد يستطيعان الوصول إلى الله، لأنه هو الحقيقة الجوهرية والقوة الكامنة في كل شيء والمصدر الوحيد لكل عمل وكل حركة، وهو روح العالم وحياته. وليس في مقدور أية نفس أن تستمتع بالسعادة حتى تفنى وتصبح جزءاً من هذه الروح الجامعة، والشوق إلى هذا الاتحاد هو وحده الدين الحق، وإفناء النفس فيه هو وحده الخلود الصحيح(45). ويرفض أهل السنة هذا كله ويعدونه بدعة وضلالاً، وقد هاجم جماعة من الغوغاء بيت العطار وأحرقوه عن آخره، ولكنه مع هذا لم يقضِ عليه القضاء كله، إذ تقول الرواية المتواترة إنه عاش مائة عام وعشرة أعوام، وأنه بار بيده الفل الذي نادى به فيما بعد معلماً له، والذي فاقت شهرته شهرة معلمه.

كان جلال الدين الرومي (1201-1273) من أهل بلخ، ولكنه عاش معظم حياته في قونية. وجاء إلى هذه المدينة صوفي عجيب هو شمس تبريري ليخطب في أهلها، وبلغ من تأثر جلال الدين بخطبه أن عمد إلى تأسيس طائفة المولوية الذين لا يزالون يتخذون قونية عاصمة لهم، وأنشأ جلال الدين في حياته القصير نسبياً بضع مئات من القصائد. وقد جمعت القصار منها في ديوانه، وتمتز بعمق الشعور، والإخلاص وقوة الخيال وإن لم تخرجها هذه القوة عن مقتضيات الطبيعة، وبهذه الصفات كلها أصبحت تلك القصائد أسمى ما قيل من الشعر الديني في عهد المزامير. وكتابه المثنوي المأنوي عرض ضافٍ للتصوف، وهو ملحمة دينية تفوق في حجمها كل ما خلفه هوميروس، وفيها فقرات بارعة الجمال، ولكن الجمال إذا أثقل بعبء الألفاظ لا يبقى متعة إلى أبد الدهر. وموضوعه، كموضوع كتاب معلمه، هو وحدة الكون:

دق إنسان باب الحبيب، فناداه صوت من الداخل:

من الطارق؟ فأجابه "أنا" فناداه الصوت: "إن هذه الدار لا تتسع لي ولك"، وظل الباب مغلقاً. فسار المحب إلى الصحراء، وداو في عزلته على الصوم والصلاة ثم عاد بعد عام ودق الباب مرة أخرى، وسأله الصوت كما سأله من قبل: "من الطارق؟" فأجاب المحب: "إنه أنت نفسك"، ففتح له الباب(46). ونظرت حولي أبحث عنه، فلم أجده على الصليب، وذهبت إلى هيكل الأوثان؛ وإلى المعبد القديم، فلم أشاهد فيهما أثراً...ثم وجهت بحثي نحو الكعبة، لكنني لم أجده في هذا المكان الذي يلجأ إليه الشبان والشيب، وسألت ابن سينا عن مقامه، ولكن ابن سينا لم يحط به. ثم تفقدت قلبي، وفيه وجدته، ولم يوجد في مكان سواه(47).

إن كل سورة تراها لها أصل مثلها في العالم اللامكاني، فإذا انعدمت الصورة فليس ذلك بذي خطر لأن أصلها باقٍ مخلد. وما من شكل جميل رأيته، أو قول حكيم سمعته-فلا يحزنك أنه قد فني لأنه في واقع الأمر لم يفنَ...فما دام النبع فياضاً فإن الأنهار تجري منه. فاطرد الغم من قلبك وعبِ من هذا النهر، ولا تظنن أن الماء سيفرغ فمعينه لا ينضب.

ولقد وضع أمام من ساعة مجيئك إلى عالم الخلق سلم لتفر عليه منه. ولقد كنت في أول الأمر جماداً، ثم استحلت بعدئذٍ نباتاً ثم صرت حيواناً، فكيف يخفى عليك؟ثم جعلت بعدئذ إنساناً ذا علم، وعقل، ودين...فإذا ما واصلت رحلتك بعد الآن، أصبحت بلا ريب ملاكاً. وانتقل مرة أخرى من طائفة الملائكة، وادخل ذلك البحر الخضم حتى تصبح نقطتك بحراً...دع عن هذا "الابن" وقل : "الواحد" على الدوام بكل قلبك(48).

وتذكر أخيراً السعدي، ولا حاجة إلى القول بأن اسمه الحقيقي أطول من هذا فهو مشرف الدين بن مصلح الدين عبد الله. وكان أبوه يشغل منصباً في بلاط سعد بن زنجي أتابك شيراز، ولما مات أبوه تبنى الأتابك الغلام، والذي جرى على سنة المسلمين فأضاف اسم وليه إلى اسمه. ويختلف العلماء في تاريخ مولده ووفاته، فمنهم من يقول إنهما 1184، 1283(49)، ومنهم من يقول إنهما 1184، 1291(50)، ومنهم من يحددهما بعامي 1193؛ 1291(51). ومهما يكن هذان التاريخان فإنه عاش ما يقرب من مائة عام. ويقول هو نفسه إنه كان في صباه متمسكاً أشد التمسك بأهداب الدين...تقياً إلى أبعد حدود التقوى، عفيفاً أشد العفة(52). وبعد أن أتم علومه في المدرسة النظامية ببغداد (1226)، بدأ رحلته العجيبة التي قضى فيها ثلاثين عاماً طاف فيها بجميع بلاد الشرقين الأدنى والأوسط-الهند، وبلاد الحبشة، ومصر، وشمال إفريقية. وقاسى فيها كل أنواع الصعاب، وذاق مرارة الفقر والحرمان، وقد قال عن نفسه إنه كان يشكو الحفاء حتى التقى برجل مقطوع القدمين فشكر الله على ما أنعم به عليه(53). وكشف وهو في الهند عن جهاز في صنم قيل عنه إنه يأتي بالمعجزات وقتل الدعي البرهمي المختفي فيه والذي كان هو إله ذلك الجهاز، وهو يوصي في شعره المتأخر المرح بأن تتبع هذه الطريقة العاجلة مع جميع الدجالين:

"فإذا أتفق لك أنت أيضاً أن كشفت عن مثل هذه الحيلة، فاقضِ من فورك على المحتال ولا تدعه يفلت منك، بل عجل به! لأنك إذا أبقيت على حياة ذلك الوغد، فلا تشك قط في أنه لن يرحمك...ومن أجل ذلك قضيت على هذا الخبيث رجماً بالحجارة، ولم ألتفت إلى نحيبه وعويله، لأن الموت كما تعلم لا ينطقون(54).

وحارب الصليبيين وأسره "الكفار"، ثم افتُدي، فتزوج ابنة من افتداه ليعبر بذلك عن شكره لأبيها، ولكنه تبين بعد ذلك أنها سليطة لا تطاق وكتب عنها يقول "إن غدائر ذات الجمال قيد في قدمي صاحب العقل"(55). ثم طلقها ولكنه التقى بغيرها من ذوات الغدائر، وسلك نفسه في سلسلة أخرى؛ ولما ماتت زوجته الثاني، آوى إلى صومعة في حديقة بشيراز وأقام فيها طوال الأعوام الخمسين الباقية من حياته. وعرف معنى الحياة فشرع يكتب، ويقول المؤرخون إنه ألف كتبه الكبرى بعد أن اعتزل العالم، ومن هذه الكتب البيدناما وهو كتاب في الحكمة وديوانه وهو مجموعة من القصائد القصار، معظمها باللغة الفارسية وبعضها بالعربية، وبعضها يفيض بالتقى؛ وبعضها بالفحش، ويشرح السعدي في كتابه البستان فلسفته العامة بالشعر التعليمي الفلسفي، تتخلله في بعض الأحيان مقطوعات من الغزل الرقيق.

لم أعرف في حياتي أحلى من هذه اللحظات. وقلت لحبيبتي لما أن ضممتها إلى صدري في تلك الليلة ونظرت إلى عينيها يكاد يغلبهما النعاس: "أي حبيبتي يا غصن بان لقد آن آوان النوم. غنِ يا بلبلي! وافتحي فاكِ كما تتفتح الوردة. اطردي النوم يا ملهبة قلبي، ولتقدم لي شفاك رحيق حبك".ونظرت إليّ حبيبتي وهمست بصوتٍ خافت: "أملهبة قلبكِ؟ ومع هذا توقظني من نومي؟".

... وظلت حبيبتك طوال هذا الوقت تكرر قولها إنها لم تحب قط سواك... وكنت أنت تبتسم لأنك تعرف أنها كاذبة، ولكن ماذا يهمك من هذا؟ فهل شفتاها من أجله أقل حرارة وهما تحت شفتيك؟ وهل كتفاها أقل نعومة وأنت تداعبها بيديك؟... يقولون إن نسيم الربيع حلو جميل شبيه بشذى الورد وتغريد العندليب، والمرج الأخضر، والسماء الزرقاء. ويحك يا جاهل! إن هذه كلها لا تحلو إلا إذا كانت معها حبيبتك(56). والجلستان وحديقة الورد (1258) مجموعة من القصص التعليمية تتخللها قصائد من الشعر المطرب الجميل : سأل ملك ظالم أحد الأولياء الصالحين: "أي شيء أفضل من الصلاة؟" فأجابه الولي بقولهِ: "أفضل منها لك أن تظل نائماً إلى منتصف النهار، فلا تؤذي أحد من خلق الله حتى ذلك الوقت(57).

يستطيع فقيران أن يناما على بساط واحد، ولكن مليكين لا تتسع لهما مملكة بأكملها(58). إذا كنت تسعى إلى الغنى فلا تطلب الهناءة(59).

إن رجل الدين الذي يغضب إذا ناله أذى لا يزال كالجدول الضحل(60) لم يعترف قط إنسان بجهلهِ إلا من كان في مجلس وأخذ غيره يتحدث، وقبل أن يتم حديثه يبدأ هو بالسؤال(61).

لو كان فيك فضيلة واحدة وسبعون رذيلة لما رأى من يحبك غير فضيلتك الوحيدة(62).

لا تعجل... وتعلم الأناة. فإن الجواد العربي يعدو أشواطاً قليلة بأقصى سرعته ثم تخور قواه؛ أما الجمل فيمشي على مهل ولكنه يسافر بالليل وبالنهار حنى يصل إلى آخر سفرهِ(63). حصل العلم لأن المال والثراء لا يعتمد عليهما... فإذا فقد صاحب المهنة ماله فليس له أن يندم على فقده لأن علمه في حد ذاته معين للثراء لا ينضب(64)

إن قسوة المعلم أعظم نفعاً من لين الأب(65).

لو محيت العقول من وجه الأرض لما وجد من يقول "أنا جاهل" إن خفة البندقة لدليل على إنها فارغة(67).

وكان السعدي فيلسوفاً ولكنه أضاع سمعته الفلسفية لأنه كان يكتب في وضوح؛ وكانت فلسفته أصح وأسلم من فلسفة عمر الخيام؛ فهي تفهم ما في الإيمان من سلوى، وتعرف كيف تداوي جراح المعرفة بما في الحياة الحنونة من نعمة. ولقد قاسى السعدي كل ما في ملهاة الحياة البشرية من مآس، ولكن أجله مع ذلك طال حتى بلغ مائة عام. ولقد كان السعدي شاعراً كما كان فيلسوفاً: كان مرهف الحس بكل أنواع الجمال الظاهر والمكنون، الحسي منه والمعنوي، من جسم المرأة الجميلة إلى النجم الذي يستأثر لحظة بالسماء وقت المساء؛ وكان في وسعه أن يعبر عن الحكمة والتفاهة بإيجاز، ورقة، وظرف. ولم يكن يعجز في أية لحظة عن الإتيان بتشبيه نير جميل، أو عبارة بليغة فاتنة. ومن أقواله ما أشبه تعليم السفلة بقذف القبة بالجوز(68) "إني كنت وصديقي كحبتين في قشرة لوزة(69)"، "لو أن قرص الشمس كان في جُبّة" هذا التاجر البخيل "لما رأى إنسان ضوء النهار إلى يوم القيامة"(70) وقد ظل السعدي شاعراً إلى آخر يوم من حياته رغم ما كان ينطق به من حكمة. وكان يسلم حكمته راضياً مغتبطاً إلى عبودية الحب:


لقد قُدر عليّ ألا أضم حبيبتي إلى صدري



وألا أنسى بُعدي الطويل في قبلة أطبعها على شفتيها الحلوتين



وسأختلس منها ذلك الشراك الذي تقتنص به ضحاياها في طول البلاد



وعرضها حتى أستطيع أن أغريها بالمجيء إلى جانبي



ولكنني لن أجسر على أن أمس شعرها بيدٍ مسرفة في الجرأة



فكم في هذا الشعر من قلوب للمحبين حبيسة احتباس الطيور في الأقفاص



أنا عبد لهذا القد المياس الذي يبدو في نظري كأنما قد فصلت عليه الرشاقة



تفصيلاً كما بفصل الخياط الثوب



يا شجرة السرو يا أطراف من اللجين، إن لونك ورائحتك قد فاقا رائحة



الآس ونضرة الورد البري



احكمي بناظريك وضعي قدمكِ فوق كل حر وجميل



وامشي فوق الياسمين والأزهار



ولا تعجبي إذا أيقضتِ في زمن الربيع من الحسد ما يجعل السحب تبكي



بينما الأزهار الصغير تبتسم، وكل هذا يا حبيبتي من أجلكِ



وإذا ما وطئت جسم ميت بقدميك الجميلتين الخفيفتين، فلا عجب إذا



سمعت صوتاً يخرج من طيات أكفانه



لم يبقَ مكان للحيرة في بلدنا هذا أيام حكم مولانا المليك



سوى أنني جننت بحبك وجن الناس بفنائي في حبكِ(71).


الفصل السّادس: علوم المسلمين 1057 - 1258

قسم العلماء المسلمون الشعوب في العصور الوسطى طبقتين- طبقة الذين يعلمون وطبقة الذين لا يعلمون؛ ووضعوا في الطبقة الأولى الهنود، والفرس، والبابليين، واليهود، واليونان، والمصريين، والعرب، أولئك في اعتقادهم هم الصفوة المختارة من عباد الله في العالم؛ أما الطبقة الثانية- وخير من تشملهم الصينيون والأتراك- فهي أشبه بالحيوان منها بالإنسان(72). وأكبر خطأ في هذا التقسيم وهو وضع الصينيين في الطبقة الثانية. وحافظ المسلمون في العصر الذي نتحدث عنه على تفوقهم غير المنازع في العلوم، وكان أعظم ما بلغوه من التقدم في علم الرياضة في مراكش وأذربيجان، ففيهما نشاهد مرة أخرى ما بلغته الحضارة الإسلامية من رقي عظيم. في مدينة مراكش نشر حسن المراكشي في عام 1229 جداول تشتمل على جيوب الزوايا لكل درجة من الدرجات، وجداول بجيوب التمام، وجيوب الأقواس، ومماسات الأقواس والأقواس المتماسة. وبعد جيل من ذلك الوقت أصدر ناصر الدين الطوسي أول رسالة يحث فيها حساب المثلثات بوصفه علماً مستقلاً بذاته لا بوصفه فرعاً من فروع علم الهيئة. وقد بقي كتابه المسمى شكل القطاع لا ينافسه منافس في هذا الميدان حتى نشر رجيومنتانس Regiomontanus كتابه المثلثات De Triangulis بعد مائتي عام من ذلك الوقت، وربما كان حساب المثلثات الذي ظهر عند الصينيين في النصف الثاني من القرن الثالث عشر عربي النشأة(73).

وأشهر ما ظهر من الكتب في العلوم الطبيعية في ذلك العهد هو كتاب ميزان الحكمة الذي ألفه في عام 1122 مول يوناني من آسية الصغرى يدعى أبا الفتح. وفي هذا الكتاب تاريخ لعلم الطبيعة، وقوانين الروافع، وجداول بالكثافة النوعية لكثير من المواد السائلة والأجسام الصلبة، وفيه عرض لنظرية الجاذبية بوصفها قوة عامة تجتذب كل شيء نحو مركز الأرض(74). وقد أدخل المسلمون كثيراً من التحسينات على السواقي التي كانت معروفة عند اليونان والرومان، وشاهد الصليبيون هذه السواقي ترفع الماء من نهر العاصي فأدخلوها في ألمانيا(75). وعلا شأن الكيميائيين، وكانوا يعرفون كما يقول عبد اللطيف ثلاثمائة طريقة لتضليل الناس(76). ويقال إن أحد هؤلاء الكيميائيين حصل من نور الدين على قرض كبير لينفقه في البحوث العلمية ثم اختفى عن الأنظار، وبعدئذ نشر أحد الظرفاء ثبتاً بأسماء المغفلين وعلى رأسهم نور الدين نفسه، ووعد أن يضع اسم الكيميائي إذا رجع مكان اسم نور الدين، ويبدو أن هذا المؤلف الظريف لم يمسسه أذى(77).

وفي عام 1081 صنع إبراهيم السهلي أحد علماء بلنسية أقدم كرة سماوية معروفة في التاريخ. وقد صنعت هذه الكرة من النحاس الأصفر وكان طول قطرها 209 ملليمتر (81.5 بوصة)؛ وحفر على سطحها 1015 نجماً مقسمة إلى سبعة وأربعين كوكبة، وتبدو النجوم فيها حسب أقدارها(78). وكانت خرلدة إشبيلية منارة ومرصداً في وقت واحد، وفيها قام جابر بأرصاده التي نشرها في كتابه إصلاح المجسطي (1240). كذلك ظهرت نفس هذه الثورة على نظريات بطليموس الفلكية في مؤلفات أبي إسحق البطروجي القرطبي (المعروف عند علماء الغرب باسم البتراجيوس Alpetragius) والذي مهد الطريق لكوبرنيق بنقده الهدام لنظرية أفلاك التدوير والدوائر المختلفة المراكز التي حاول بها بطليموس أن يفسر حركات النجوم ومساراتها.

وأنجب هذا العصر عالمين في تقويم البلدان طبقت شهرتهما العالم كله في العصور الوسطى، ونعني بهما الإدريسي وياقوت. فأما أبو عبد الله محمد الإدريسي فقد ولد في سنة 1100 وتلقى العلم في قرطبة، وكتب في بلرم إجابة لطلب روجر الثاني ملك صقلية، كتابه المسمى كتاب روجاري وقد قسم فيه الأرض سبعة أقاليم مناخية ثم قسم كل إقليم إلى عشرة أجزاء، ورسم لكل جزء من الأجزاء السبعين خريطة تفصيلية إيضاحية، وكانت هذه الخرائط أعظم ما أنتجه علم رسم الخرائط في العصور الوسطى، لم ترسم قبلها خرائط أتم منها، أو أدق، أو أوسع وأعظم تفصيلاً. وكان الإدريسي يجزم كما تجزم الكثرة الغالبة من علماء المسلمين بكرية الأرض، ويرى أن هذه حقيقة مسلم بصحتها. ويقاسمه هذا الشرف العظيم شرف حمل لواء علماء الجغرافية في العصور الوسطى أبو عبد الله ياقوت (1179- 1229). وكان ياقوت بمولده يونانياً من سكان آسية الصغرى، وأسر في الحرب وبيع في سوق الرقيق، ولكن التاجر البغدادي الذي ابتاعه أحسن تربيته وتعليمه، ثم أعتقه. وكان ياقوت كثير الأسفار، سافر أولاً للتجارة، ثم سافر لدراسة الأرض وأهلها، لأنه أعجب أشد الإعجاب ببلادها، وسكانها المختلفي الأجناس، وبلباسهم وأساليب حياتهم. وقد سره وأثلج صدره أن يجد عشر مكاتب عامة تحتوي إحداها على 12.000 مجلد، وف أمين هذه المكتبة لشأن الزائر فسمح له أن يأخذ منها مائتي كتاب إلى حجرته دفعة واحدة. وما من شك في أن الذين يحبون الكتب يرون أنها دم الحياة يجري في عروق عظماء الرجال يدركون ما شعر به ياقوت من بهجة حين حصل على الكنز العظيم من كنوز العقل. ثم انتقل ياقوت بعدئذ إلى خيوة وبلخ، وهناك أوشك المغول أن يقبضوا عليه أثناء زحفهم المخرب الفتاك، ولكنه استطاع الفرار عارياً من الثياب، وهو محتفظ بمخطوطاته، واجتاز بلاد الفرس إلى الموصل. وأنم وهو يعاني آلام الفاقة وشظف العيش أثناء عمله في نسخ الكتب كتابه الشهير معجم البلدان (1228) وهو موسوعة جغرافية ضخمة جمع فيها كل المعلومات الجغرافية المعروفة في العصور الوسطى. ولم يكد يترك شيئاً من هذه المعلومات إلا أدخله في هذه الموسوعة- من فلك، وطبيعة، وعلوم آثار، والجغرافية البشرية، والتاريخ، هذا إلى ما أثبته فيها من أبعاد المدن بعضها عن بعض، وأهميتها وحياة مشهوري أهلها وأعمالهم، ولسنا نعلم أن أحداً أحب الأرض كما احبها هذا العالم العظيم.

وبعث علم النبات بعثاً جديداً على أيدي المسلمين في ذلك العصر وقد كاد ينسى بعد ثاوفراسطوس؛ فقد وضع الإدريسي كتاباً في النباتات وصف فيه ثلاثمائة وستين نوعاً مختلفاً منها، ولم يقتصر اهتمامه بها على الناحية الطبية، بل عنى أيضاً بالناحية العلمية النباتية. وذاعت شهرة أبي العباس الإشبيلي (1216) لدراسته حياة أنواع البات المختلفة التي تنمو بين المحيط الأطلنطي والبحر الأحمر. وجمع أبو محمد بن البيطار المالقي (1190- 1248) كل ما عرفه المسلمون في علم النبات في موسوعة عظيمة غزيرة المادة ظلت هي المرجع المعترف به في هذا العالم حتى القرن السادس عشر، ورفعته إلى مقام أعظم علماء النبات والصيادلة في العصور الوسطى(79). ومن أهم ما ظهر من الكتب في العلوم الزراعية كتاب الفلاحة الذي وصف فيه مؤلفه ابن الأوان الإشبيلي أنواع التربة والسماد، وريقة زرع 585 نوعاً من أنواع النبات، وخمسين نوعاً من أشجار الفاكهة، وشرح طرق التطعيم، وبحث أغراض لأمراض النبات وطرق علاجها. وكان كتابه هذا أكمل البحوث في علم الفلاحة في العصور الوسطى جميعها(80).

وأنجب المسلمون في هذا العصر، كما أنجبوا في غيره من العصور أعظم الأطباء في آسية، وإفريقية، وأوربا. وكان أهم ما بغوا فيه علم الرمد، ولعل سبب هذا النبوغ أنه كان واسع الانتشار في بلاد الشرق الأدنى، ففي هذه البلاد كان الناس يبذلون أكثر المال لعلاج الأمراض وأقله للوقاية منها. وكان أطباء العيون يجرون كثيراً من العمليات لإزالة إظلام العدسة (سادَّة العين أو الكتركتا). وقد بلغ من ثقة الطبيب خليفة بن أبي المحاسن الحلبي (1256) بحذقه في هذه العمليات أنه أجرى هذه الجراحة لرجل أعور(81). ووضع ابن البيطار في كتابه الجامع الطب النباتي. فقد وصف في هذا الكتاب ألفاً وأربعمائة من أنواع النبات والأغذية، والعقاقير، ثلاثمائة منها لم تكن معروفة من قبل، وحلل تركيبها الكيمائي، وخصائصها العلاجية، وأضاف إلى ذلك ملاحظات دقيقة عن طرق استخدامها في علاج الأمراض. ولكن أشهر أطباء المسلمين على بكرة أبيهم هو أبو مروان ابن زهر (1091- 1162) الأشبيلي المعروف في عالم الطب الغربي أفنزور Avenzoar. وكان أبو مروان السادس من ستة أجيال من أطباء ذائعي الصيت متصلي النسب، كل منهم يحمل لواء الب في أيامه، وقد ألف تابه السمى كتاب التيسير إجابة لطلب صديقه ابن رش (أعظم فلاسفة زمانه) الذي كان يعده أعظم من أنجبه العالم من الأطباء منذ أيام جالينوس. وكان أهم ما برع فيه ابن زهر هو الوصف الإكينيكي؛ وقد ترك وراءه تحليلات صادقة للأورام الحيزرومية، والتهاب الثامور، ودرن الأمعاء، والشلل البلعومي(82). وكان للترجمتين العبرية واللاتينية لكتاب التيسير أعظم الأثر في الطب الأوربي.

كذلك تزعم الإسلام العالم كله في إعداد المستشفيات الصالحة وإمدادها بحاجاتها. مثال ذلك أن البيمارستان الذي أنشأه نور الدين في دمشق عام 1160 ظل ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن؛ ويقول المؤرخون إن نيرانه ظلت مشتعلة لا تنطفئ 267 سنة(83). ولما وفد ابن جبير إلى بغداد في عام 1184 دهش أيما دهشة من بيمارستانها العظيم الذي كان يعلو كما تعلو القصور الملكية على شاطئ نهر جلة، والذي كان يطعم المرضى ويمدهم بالدواء من غير ثمن . وفي القاهرة بدأ السلطان قلاون في عام 1285 تشييد بيمارستان المنصور أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق، فقد أقام في داخل فضاء واسع مسوّر مربع مباني أربعة يتوسطها فناء يزدان بالبواكي، وتلطف حرارته الفساقي والجداول. وكان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية، زوت بمناظر تسر العي. وكان المرضى يعالجون فيه من غير أجر رجالاً كانوا أو نساء، أغنياء أو فقراء، أرقاء، أو أحراراً، وكان كل مريض يعطي عند خروجه منه بعد شفائه مبلغاً من المال حتى لا يضطر إلى العمل لسب قوته بعد خروجه منه مباشرة. وكان الذين ينتابهم الأرق يستمعون إلى موسيقى هادئة، وقصاصين محترفين، ويعطون في بعض الأحيان كتباً تاريخية للقراءة(85). وكان في جميع المدن الإسلامية الكبيرة مصحات للمصابين بالأمراض العقلية.


الفصل السّابع: الغزالي والنهضة الدينية

وبينما كانت العلوم تسير قدماً في طريق الرقي كان الدين يكافح للاحتفاظ بولاء الطبقات المتعلمة وإبقائها إلى جانبه؛ وأدى النزاع الذي قام بين الدين والعلم إلى تشكيك الكثيرين في عقائد الدين، بل إنه دفع بعضهم إلى الإلحاد والكفر. وقد قسم الغزالي المفكرين المسلمين إلى ثلاث طوائف: كلها في نظره كافرة وهي المؤلهة، والربوبية (أو الطبيعية)، والمادية. فأما المؤلهة فتؤمن بالله، وبخلود الروح ولكنها تنكر الخلق وبعث الأجسام، وتقول إن الجنة والنار حالات روحية لا غير؛ أما الثانية فتؤمن بالله ولكنها تنكر خلود الروح وترى أن العالم آلة تعمل بنفسها؛ وأما المادية فترفض وجود الله إطلاقاً . وقامت حركة أخرى على شيء من النظام هي حركة الدهرية، وهؤلاء لا أدريون صريحون لا يؤمنون بشيء، وقد أعدم عدد من أتباع هذه الحركة ومن متبعي هذا المذهب إصبهان بن قرة الذي قال في يوم من أيام رمضان لأحد الصائمين الأتقياء إنه يعذب نفسه من غير داع، فالإنسان كالحبة ينبت وينمو ثم يحصد لكي يفنى إلى أبد الدهر...ثم نصحبه بأن يأكل ويشرب(86).

وكان رد الفعل الذي نتج من هذه الحركة المتشككة هو ظهور أبي حامد الغزالي أعظم علماء الدين المسلمين، الذي جمع بين الفلسفة والدين، فكان بذلك عند المسلمين، كما كان أوغسطين وكانت الأوربيين. ولد أبو حامد الغزالي في طوس عام 1058، ومات أبوه في صغره فكفله صديق له متصوف ودرس الغلام الشريعة، وعلوم الدين، والفلسفة. ولما بلغ سن الثلاثين عين أستاذاً في المدرسة النظامية الكبرى ببغداد؛ وسرعان ما أعجب العالم الإسلامي بفصاحته، وغزارة علمه، وبراعته في الجدل. وبعد أن قضى في هذا العمل ثلاث سنين طبقت فيها شهرته الآفاق أصيب بمرض غريب أقعده عن العمل وأفقده شهوة الطعام والشراب والقدرة على الهضم؛ وكان شلل لسانه يشوه منطقة في بعض الأحيان، ثم بدأت قواه العقلية تنهار. وشخص طبيب ماهر مرضه بأنه في الأصل مرض عقلي. وقد أقر الغزالي في ترجمته لحياته بأنه لم يعد يؤمن بقدرة العقل على فهم أسرار الدين الإسلامي، وأنه لم يكن يطيق ما في دروسه الدينية من نفاق. وغادر الرجل بغداد في عام 1094 يريد الحج إلى بيت الله الظاهر، ولكنه في الحقيقة كان يريد اعتزال الناس، وينشد الوحدة والصمت، والهدوء وإطلاق العنان للتفكير والتأمل. ولما عجز عن أن يجد في العلم ما يطلبه من عون يعيد إليه إيمانه المتداعي، انقلب من التفكير في العالم الخارجي إلى تأمل العالم الداخلي، معتقداً انه سيجد في هذا العالم من أقرب سبيل تلك الحقيقة الخالدة وهي القاعدة الثابتة الأكيدة للإيمان بعالم الروح. وتعرض بالنقد الشديد لعالم المحسوسات-وهو عماد النزعة المادية وأساسها، وفقد الثقة بالحواس واتهمها بأنها تجعل النجوم تبدو ضئيلة مع أنها بلا ريب أكبر كثيراً من الأرض، وإلا لتعذرت رؤيتها من بعدها الشاسع؛ واستخلص من هذا المثل ومن مئات غيره من الأمثلة أن الحواس وحدها ليست طريقاً موثوقاً به موصلاً إلى الحقيقة. وأما العقل فهو في رأيه أرقى درجة من الحواس وهو يصحح ما يصل إليها عن طريق إحداها بما يصل إليه عن طريق الأخرى، ولكنه هو الآخر يعتمد في النهاية على الحواس نفسها. فها عند الإنسان نوع من المعرفة، يهديه إلى الحقيقة، أصدق من العقل وأوكد؟ وأحس الغزالي بأنه قد عثر على هذا النوع من المعرفة في تأمل الصوفية الباطني: فالصوفي يقترب من سر الحقيقة المكنون أكثر مما يقترب منه الفيلسوف؛ وأرقى أنواع المعرفة هو التأمل في معجزة العقل حتى يظهر الله للمتأمل من داخل نفسه، وحتى تختفي النفس ذاتها في رؤية الواحد(78).

وبهذه النزعة وهذا الزاج كتب الغزالي أعظم كتبه كلها تأثيراً ونعني به كتاب تهافت الفلاسفة واستعان فيه على العقل بجميع فنون العقل، فاستخدم الصوفي المسلم الجدل الفلسفي الذي لا يقل دقة عن جدل كانت Kant ليثبت أن العقل يؤدي بالإنسان إلى التشكك في كل شيء، وإلى الإفلاس الذهني، والانحطاط الخلقي، والتدهور الاجتماعي. وأنزل الغزالي العقل-قبل أن ينزله هيوم Hume بسبعة قرون-إلى مبدأ العلية، وأنزل مبدأ العلية نفسه إلى مجرد التتابع إذ قال إن كل ما ندركه هو أن ب تتبع أ على الدوام ولا ندرك أن أ هي علة ب. ومن أقواله أن الفلسفة، والمنطق، والعلوم لا تستطيع قط أن تثبت وجود الله، أو خلود الروح بل إن الإلهام المباشر هو وحده الذي يؤكد لنا هاتين العقيدتين اللتين لا قيام بغيرهما لأي نظام أخلاقي، وهو النظام الذي لا قيام لأية حضارة إلا به(88).

وعاد الغزالي في آخر الأمر عن طريق التصوف إلى العقائد الدينية السليمة جميعها، وعاد إليه كل ما كان يساوره في شبابه من مخاوف وآمال، وجهر بأنه يحس بعيني إله قاهر قريبتين من رأسه تتوعدانه وتنذرانه، وأخذ ينذر الناس من جديد بأهوال الجحيم يؤكد أن دعوته هذه لا غنى عنها لتقويم أخلاق العامة(89)، وعاد إلى الإيمان بكل ما جاء به القرآن والحديث، وقد شرح في كتابه إحياء علوم الدين هذه العودة إلى عقائده الأولى، ودافع عنها بكل ما كان له في شبابه من قوة وحماسة أصبح بهما أقوى عدو للمتشككة والفلاسفة الذين لم يواجهوا من قبله عدواً أشد منه عنفاً. ولما توفي في عام 1111 كانت موجة الإلحاد قد ردت على أعقابها، واطمأنت جميع قلوب المؤمنين المتمسكين بالدين، بل إن رجال الدين المسيحيين أنفسهم قد أثلج صدورهم ما وجدوه في كتبه، بعد أن ترجمت إلى اللغات الأجنبية، من دفاع حار عن الدين، وعرض بليغ لقواعد التقى والصلاح لم يروا له نظيراً بعد أيام أوغسطين. واختفت الفلسفة منذ أيامه، بالرغم من ظهور ابن رشد، في أقصى أركان العالم الإسلامي، وضعفت البحوث العلمية، وأصبح الحديث والقرآن دون غيرهما من العلوم موضع اهتماماً العقول الإسلامية وشغلها الشاغل.

وكان اعتناق الغزالي لمذهب التصوف نصراً باهراً للصوفية، فأخذ أهل السنة من بعده بالتصوف حتى طغت عقائد المتصوفة وقتاً ما على قواعد الدين. نعم إن علماء الدين والشريعة الإسلامية كانوا لا يزالون من الوجهة الرسمية أصحاب الكلمة العليا في علم الدين والشريعة، لكن ميدان التفكير الديني استسلم لمشايخ الطرق وأولياء الله الصالحين. ومن عجب أن ظهور طائفة الرهبان الفرنسيس في المسيحية قد عاصره نوع جديد من الزهد والنسك في العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الميلادي، فقد أخذ الزهاد المتصوفة يهجرون الحياة العائلية يحيون حياة الأخوة الدينية بزعامة شيخ لهم ويسمون أنفسهم الفقراء أو الدراويش، وثانيهما لفظ فارسي معناه السائل. وكان هؤلاء يسعون بطرق مختلفة إلى التسامي بأرواحهم ليرتفعوا بها إلى الفناء في روح الله فيستطيعوا بذلك الإتيان بعجائب الأعمال: فمنهم من كانت وسيلته إلى هذا التسامي هي الصلاة والتأمل، ومنهم من كانت سبيله إليها النشوة التي تعقب الأذكار العنيفة.

وقد صيغت نظريات الصوفية في المائة والخمسين من الكتب التي ألفها محي الدين بن العربي (1165-1240)-وهو مسلم أندلسي أقام في دمشق. ومن أقواله أن العالم لم يخلق قط لأنه هو المظهر الخارجي لما هو في حقيقته الداخلية الله نفسه، والجحيم مقام مؤقت، لأن الناس كلهم سينجون آخر الأمر، والحب يخطئ إذا كان هو حب المظهر الجسمي الزائل، لأن الله وهو الذي يظهر في صورة المحبوب، والمحب الصادق يجد في أية صورة باعث الجمال كله ويعشقه. ولعل محي الدين قد تذكر أقوال بعض المسيحيين من أيام جيروم فأخذ يعلم الناس أن "من أحب وعف ثم مات مات شهيداً"، ووصل إلى أسمى درجات الصلاح والورع. وكان كثير من الدراويش المتزوجين يجهرون بأنهم يحبون هذه الحياة الطاهرة مع أزواجهم(90).

وأثرت بعض الطوائف الدينية الإسلامية مما كان يغدقه عليها الناس من العطايا، ورضيت أن تستمع بطيبات الحياة. وقد شكا من ذلك أحد شيوخ الشام حوالي عام 1250 فقال إن الصوفية كانوا من قبل أخوة مختلفين في الجسم ولكنهم متحدون بالروح، أما الآن فهم طائفة تكتسي أجسامها بالثياب بالحسنة ولكن سرائرها ممزقة خلقة. وكان الناس يبتسمون لهؤلاء الذين جمعوا بين الدين والدنيا ويتركونهم وشأنهم، ولكنهم كانوا يعظمون الأتقياء المخلصين الصادقين، ويعزون إليهم قوى وأفعالاً غير عادية، ويحتفلون بموالدهم، ويرجون منهم الشفاعة لهم عند الله، ويزورون قبورهم. ذلك أن الإسلام كالمسيحية دين يتطور ويكيف نفسه تكييفاً يدهش له محمد والمسيح إذا قدر لهما أن يعودا إلى هذا العالم .

ولما انتصر أهل السنة على هذا النحو وضعفت روح التسامح الديني، وعادت إلى الوجود شيئاً فشيئاً القواعد الصارمة التي يعزونها إلى الخليفة عمر بن الخطاب فطلب إلى غير المسلمين أن يميزوا ثيابهم بخطوط صفراء، وحرم عليهم أن يركبوا الخيل وأذن لهم أن يركبوا الحمير أو البغال، ولم يسمح لهم بإنشاء كنائس أو معابد جديدة وإن أجيز لهم أن يصلحوا ما يحتاج منها إلى الإصلاح؛ ولم يكن يجوز لهم أن يظهروا الصليب في خارج الكنائس، أو يدقوا نواقيسها؛ ولم يكن أبناء غير مسلمين يقبلون في المدارس الإسلامية، ولكن كان في وسع غير المسلمين أن ينشئوا لأبنائهم مدارس خاصة لهم. كان هذا كله هو ما يجب إتباعه من الوجهة النظرية، ولكنه لم يكن ينفذ على الدوام. ولا تزال هذه هي النصوص الحرفية للشريعة الإسلامية إن لم تكن هي المعمول بها على الدوام(92) . ومع هذا فقد كان في بغداد وحدها في القرن العاشر 45.000 مسيحي(93)، وكانت جنائز المسيحيين تسير في الشوارع دون أن يتعرض لها أحد(94)، وظل المسلمون على الدوام يحتجون على استخدام المسيحيين واليهود في المناصب العليا؛ ولقد كان صلاح الدين، في ثورة الحرب الصليبية وحدتها وما أوجدته في النفوس من أحقاد، كريماً رحيماً بمن في دولته من المسيحيين.


الفصل الثامِن: ابن رشد

عاشت الفلسفة وقتاً ما في أسبانيا الإسلامية بما كانت تبثه بحكمة وحذر من الآراء التي تتفق مع الدين بين محاولات النقد الهين غير العنيف؛ وقد وجد الفكر شيئاً من الحرية المزعزعة في بلاط الأمراء الذين كانوا يستمتعون سراً بالبحوث التي يرونها ضارة بعامة الشعب. ومن أجل ذلك اختار أمير سرقسطة وهو من المرابطين أبا بكر بن باجة الذي ولد في تلك المدينة حوالي عام 1106 ليكون وزيراً له وكان ابن باجة، أو أفمباس Avempace كما اختار الأوربيون أن يسموه فيما بعد، قد بلغ، وهو لا يزال في شبابه، مرتبة عليا غير عادية في العلوم الطبيعية، والطب، والفلسفة، والموسيقى، والشعر؛ ويقول ابن خلدون إن الأمير أعجب بأبيات قالها العالم الشاب إعجاباً دفعه إلى أن يقسم ألا يدخل عليه قط إلا وهو يسير على الذهب، وخشي ابن باجة أن يقلل هذا القسم من الحفاوة به فوضع قطعة من النقود الذهبية في كلا حذاءيه. ولما سقطت سرقسطة في أيدي المسيحيين، فر الوزير-العالم-الشاعر منها إلى فاس حيث وجد نفسه فقيراً معدماً بين مسلمين يتهمونه بالكفر، ومات ابن باجة في سن الثلاثين مسموماً كما تقول بعض الروايات. وتعدّ رسالته في الموسيقى التي لم نقف لها على أثر خير ما كتب في هذا الموضوع الدقيق في الآداب الإسلامية في الغرب. وأشهر مؤلفاته كلها كتاب مرشد الحيران الذي جدد فيه البحث في أحد الموضوعات الأساسية في الفلسفة الإسلامية. فقد قال ابن باجة إن العقل البشري يتكون من جزأين: العقل المادي الذي يتصل بالجسم ويموت بموته؛ والعقل الفعّال أو العقل الكوني غير البشري الذي يوجد في الناس كلهم، وهو وحده الذي لا يموت بموتهم. والتفكير هو أسمى وظائف الإنسان، وبالتفكير وحده، لا بالنشوة الصوفية، يصل الإنسان إلى معرفة العقل الفعال وهو الله. ولكن التفكير مغامرة خطيرة، إلا إذا كانت في صمت. والرجل العاقل يعيش في عزلة هادئة، بعيداً عن الأطباء، ورجال القانون، والناس أجمعين؛ أو لعل عدداً قليلاً من الفلاسفة يؤلفون فيما بينهم جماعة تسعى مجتمعة لطلب المعرفة في رفق وتسامح بعيدة عن صخب الشعب وجنونه(95). وواصل أبو بكر بن طفيل (أبو ياسر Adupacer عند الأوربيين) (1107؟-1185) أفكار ابن باجة: وكاد يحقق مثله العليا. وكان هو الآخر عالماً، وشاعراً، وطبيباً، وفيلسوفاً؛ وكان وزيراً وطبيباً للخليفة أبي يعقوب يوسف في مدينة مراكش عاصمة الموحدين. وقد استطاع أن يقضي معظم ساعات يقظته في المكتبة الملكية ووجد بين الدرس وشئون الحكم متسعاً من الوقت كتب فيه، من بين الكتب العميقة، أعظم قصة فلسفية في أدب العصور الوسطى. وقد أخذ ابن طفيل عنوان قصته من ابن سينا ولعلها هي التي أوحت إلى دفوا (Defoe) بقصة ربنسن كروزو Robinson Crusse (بعد أن ترجمها أكلي Ockley إلى الإنجليزية في عام 1708).

وخلاصة القصة أن حي بن يقظان، الذي سميت القصة باسمه ألقى وهو طفل في جزيرة خالية من السكان، فأرضعته عنزة؛ وشب الفتى متوقد الذكاء عظيم المهارة، فكان يصنع حذاءيه وأثوابه بنفسه من جلود الحيوان، ودرس النجوم، وسرَّح الحيوانات حية وميتة، حتى وصل في هذا النوع من المعرفة إلى أرقى ما وصل إليه أعظم المشتغلين بعلم الأحياء(96). ثم انتقل من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين؛ وأثبت لنفسه وجود خالق قادر على كل شيء؛ ثم عاش معيشة الزهاد، وحرم على نفسه أكل اللحم، واستطاع أن يتصل اتصالاً روحياً بالعقل الفعال(97). وأصبح حي بعد أن بلغ التاسعة والأربعين من العمر متأهباً لتعليم غيره من الناس. وكان من حسن الحظ أن متصوفاً يدعى أسال استطاع في سعيه إلى الوحدة أن يلقي بنفسه على الجزيرة، فالتقى بحي، وكان هذا أول معرفة له بوجود بني الإنسان. وعلمه أسال لغة الكلام وسره أن يجد أن حياً قد وصل دون معونة أحد إلى معرفة الله، وأقر لحي بما في عقائد الناس الدينية في الأرض التي جاء منها من غلظة وخشونة، وأظهر له أسفه على أن الناس لم يصلوا إلى قليل من الخلاق الطيبة إلا بما وعدوا به من نعيم الجنة، وما أنذروا به من عقاب النار. واعتزم حي أن يغادر جزيرته ليهدي ذلك الشعب الجاهل إلى دين أرقى من دينهم وأكثر منه فلسفة. فلما وصل إليهم أخذ يدعوهم في السوق العامة إلى دينه الجديد وهو وحده الله والكائنات. لكن الناس انصرفوا عنه أو لم يفهموا أقواله. وأدرك أن الناس لا يتعلمون النظام الاجتماعي إلا إذا مزج الدين بالأساطير، والمعجزات، والمراسيم، والعقاب والثواب الإلهيين. ثم ندم على إقحامه نفسه فيما لا يعنيه، وعاد إلى جزيرته، وعاش مع أسال يرافق الحيوانات الوديعة والعقل الفعال، وظلا على هذه الحال يعبدان الله حتى الممات.

وقدم ابن طفيل إلى أبي يعقوب يوسف حوالي عام 1153 شاباً قاضياً وطبيباً يعرفه المسلمون باسم أبي الوليد محمد بن رشد (1126-1198) ويعرفه الأوربيون في العصور الوسطى باسم أفروس (Averro(s)، واكبر فلاسفة المسلمين تأثيراً في العقول. ودل ابن طفيل بعمله هذا على تجرده من الغيرة والحسد تجرداً نادر الوجود في بني الإنسان. وكان جد ابن رشد وأبوه كلاهما قاضيين للقضاة في قرطبة، وقد هيأ له من التعليم كل ما تستطيع أن تهيئه له العاصمة القديمة. ونقل إلينا أحد تلاميذه هذه الفقرة التي يقولون إنها هي التي وصف بها ابن رشد نفسهُ أول لقاء له بالأمير فقال إنه لما قدم عليه لم يجد معه إلا ابن طفيل، وأخذ ابن طفيل هذا يمتدحه بما لا يستحقه من المديح...وبدأ الأمير حديثه بأن سأل الفيلسوف عن رأيه في السموات، هل هي أزلية أو أن لها بداية؟ فارتاع الفيلسوف لذلك اضطرب، وأخذ يتلمس المعاذير للفرار من الإجابة. وأدرك الأمير ما هو فيه من اضطراب فالتفت إلى ابن طفيل وأخذ يتحدث إليه في الموضوع، ويعيد على مسامعه آراء أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة، وما لفقهاء المسلمين عليها من اعتراض؛ ولا يرجع في شيء هذا إلا إلى ذاكرته مما لم يكن يظن أن له نظيراً حتى بين من كانت الفلسفة مهنته. وطمأن الأمير الفيلسوف وامتن علمه، ولما انصرف من حضرته بعث إليه بشيء من المال، وبجواد، وحلة غالية الثمن(98). وعين ابن رشد في عام 1169 قاضياً للقضاة في إشبيلية وفي عام 1172 قاضياً للقضاة في قرطبة، ثم استدعاه أبو يعقوب إلى مراكش بعد عشر سنين من ذلك الوقت ليكون طبيبه الخاص، وظل يشغل هذا المنصب حتى ورث الخلافة يعقوب المنصور. وفي عام 1194 نفي ابن رشد إلى أليسانة القريبة من قرطبة لغضب الشعب عليه بسبب آرائه. ثم عفي عنه وعاد إلى مراكش في عام 1198 ولكن المنية عاجلته في العام التالي، ولا يزال قبره حتى الآن قائماً في تلك المدينة.

وكاد كتابه في الطب ينسى بسبب شهرته الواسعة في الفلسفة، ولكنه كان في الحقيقة من أعظم أطباء زمانه، فقد كان أول من شرح وظيفة شبكية العين، وقال إن من يمرض بالجدري يكتسب الحصانة من هذا الداء(99). وكانت موسوعته الطبية المسماة كتاب الكليات في الطب بعد أن ترجمت إلى اللغة اللاتينية واسعة الانتشار في الجامعات المسيحية. وأبدى الأمير أبو يعقوب في ذلك الوقت رغبته في أن يكتب له أحد العلماء شرحاً واضحاً لآراء أرسطو، وأشار ابن طفيل أن يعهد هذا العمل إلى ابن رشد. ورحب الفيلسوف بهذا الاقتراح، لأنه كان يرى أن الفلسفة كلها قد اجتمعت في آراء الفيلسوف اليوناني، وأن كل ما تحتاجه لكي تصبح موائمة لكل زمان هو أن تشرح وتفسر . واعتزم ابن رشد أن يعيد لكل من كتب أرسطو البرى خلاصة موجزة في أول الأمر، ثم شرحاً لها موجزاً أيضاً، ثم شرحاً مطولاً للطلبة المتقدمين في الدرس- وكانت هذه الطريقة طريقة الشروح المتدرجة في الصعوبة مألوفة في الجامعات الإسلامية. ولقد كان من سوء الحظ أنه لا يعرف اللغة اليونانية، وأنه اضطر لهذا السبب إلى الاعتماد على الترجمة العربية للترجمة السريانية لكتب أرسطو؛ ولكن صبره، وصفاء ذهنه، وقدرته على التحليل الدقيق العميق، أذاعت شهرته في أوربا كلها وأكسبه اسم الشارح الأعظم ورفعه إلى أعلى مقام بين فلاسفة المسلمين لا يعلوا عليه في المنزلة إلا لبن سينا العظيم. وأضاف ابن رشد إلى هذه الشروح كتباً ألفها هو في المنطق، والطبيعة، وعلم النفس، وما بعد الطبيعة، والفقه، والشريعة، والفلك، والنحو، ورداً على تهافت الفلاسفة للغزالي سماه تهافت التهافت. وهو يقول كما قال فرانسس بكن من بعده إن من الفلسفة قد يميل الإنسان إلى المروق من الدين، ولكن الدرس الواسع يؤدي إلى الائتلاف بين الفلسفة والدين. ذلك أن الفيلسوف، وإن كان لا يأخذ تعاليم القرآن، والتوراة، وغيرهما من الكتب النزلة(100) بمعناها الحرفي يدرك أنها لا غنى عنها لإنماء روح التقوى الطيبة والأخلاق السليمة في عقول الناس، الذين تشغلهم مطالب الحياة الملحة فلا يجدون من الوقت ما يكفي لغير التفكير العارض، السطحي، الخطر في مبادئ الأشياء وأواخرها. ومن ثم فإن الفيلسوف الناجح لا ينطق بلفظ أو يشجع لفظاً يعرض الدين(101)؛ ومن حق الفيلسوف في مقابل هذا أن يترك حراً يسعى وراء الحقيقة، ولكن عليه مع ذلك أن يحصر مناقشاته في دائرة المتعلمين ومداركهم، وألا يعمد إلى الدعاوة لآرائه بين العامة(102). وهو يرى أن العقائد الدينية إذا فسرت تفسيراً رمزياً تتفق مع ما يكشف عنه العلم والفلسفة(103). ولقد ظل هذا التفسير الرمزي للنصوص المقدسة المبني على الاستعارة التشبيه سنة متبعة حتى عند رجال الدين أنفسهم مئات السنين. وابن رشد لا يقول صراحة بالنظرية التي يعزوها إليه النقاد المسيحيون وهي أن قضية من القضايا قد تكون صادقة في الفلسفة (بين المتعلمين)، ولكنها قد تكون خاطئة (مضرة) في الدين (والأخلاق)(104)، وإن كانت تعاليمه تتضمن هذا المعنى. ومن أجل هذا وجب ألا يبحث عن آراء ابن رشد في رسائله الصغرى التي وضعها لجمهور الطلاب، بل في شروحه لأرسطو التي هي أكثر عمقاً وأصعب فهماً من الرسائل السالفة الذكر. وهو يفسر الفلسفة بأنها البحث في عنى الوجد بقصد إصلاح شأن الإنسان(105) ويقول إن العالم أزلي، وإن حركات الكواكب لا بداية لها ولا نهاية؛ وإن القول بالخلق خرافة، فالقائلون بالخلق يدعون أن الله ينشئ كائناً (جديداً) من غير أن يحتاج في إنشائه إلى مادة موجودة من قبل...وهذا التصور هو الذي جعل علماء الأديان الثلاثة القائمة في هذه الأيام يقولون إن الشيء قد ينشأ من لا شيء(106)...والحركة أزلية ودائمة؛ وكل حركة تنشأ من حركة أخرى قبلها. وبغير الحركة لا يكون زمن ليس في وسعنا أن نتصور حركة ذات بداية ونهاية(107).

ولكنه مع هذا يقول إن الله هو خالق العالم، ويعني بهذا أن العالم موجود في أي وقت من الأوقات بقوة الله الحافظة، وإنه يمر في كل لحظة بعملية خلق مستمرة بقدرة الله الفعالة(108)؛ فالله هو نظام الكون، وقوته وعقله.

ومن هذا النظام الأعلى والعقل الكلي يكون نظام الأفلاك والنجوم عقلها المحرك. ومن عقل أدنى الأفلاك السماوية (فلك القمر) يأتي العقل الفعال الذي يدل في جسم الإنسان المفرد وعقله. والعقل الإنساني مكون من عنصرين أحدهما العقل القابل أو المادي وهو استعداد الإنسان أو قدرته على التفكير أو المعرفة العقلية، وهذا العقل جزء من الجسم يفنى بفنائه (الجهاز العصبي؟)، والثاني العقل الفعال، المستمد من الله، وهو الذي يبعث العقل القابل على التفكير الفعلي, وهذا العقل الفعال لا يختلف في فرد عنه في آخر؛ بل هو سواء في الناس كلهم، وهو وحده الخالد الذي لا يفنى(109). ويشبه ابن رشد عمل العقل الفعال في الفرد أو في العقل القابل بتأثير الشمس التي يجعل ضوءها كثيراً من الأجسام نيرة، ولكنه يبقى في كل مكان، ويظل على الدوام كما كان(110). يسعى العقل الفردي للاتحاد مع العقل الفعال، كما تمتد النار إلى الأجسام القابلة للاحتراق. وبهذا الاتصال يصبح العقل البشري شبيهاً بالله، لأنه يستحوذ على الكون كله بالقوة في فكره، والحق أن العالم وكل ما فيه ليس له وجود بالنسبة لنا، وليس له معنى، إلا عن طريق العقل يدركه(111). وإدراك الحقيقة وحده عن طريق الذهن هو الذي يؤدي بالعقل إلى الاتحاد مع الله ذلك الاتحاد الذي يظن المتصوفة أنهم يستطيعون الوصول إليه بالتدريب النفساني على الزهد أو بالنشوة التي تحدث بالأذكار. وابن رشد بعيد كل البعد عن عقائد المتصوفة وعن الأسرار الخفية. ويرى أن الجنة ليست إلا ما يستمتع به العقلاء من حكمة هادئة محببة إلى النفس(112).

وهذه هي النتيجة التي وصل إليها أرسطو نفسه، ولا حاجة إلى القول بأن نظرية العقل الفعال والعقل المنفعل (nous pathetikos nous poietikos) مرجعها كتاب النفس لأرسطو De Anima (المقالة الثالثة)، كما فسرها الإسكندر الأفروديسي، وثامسطيوس الإسكندري، وهي التي استحالت إلى نظرية الفيض Emanation التي تقول بها الأفلاطونية الحديثة والتي انتقلت إلينا عن طريق الفارابي وابن سينا وابن باجة، وأصبحت هذه الفلسفة العربية في نهايتها كما كانت في بدايتها هي فلسفة أرسطو استحالت أفلاطونية حديثة؛ ولكن بينا كانت عقائد أرسطو قد عدلت وحورت على أيدي معظم الفلاسفة المسلمين والمسيحيين حتى توفي بحاجات الدين، فإن العقائد الإسلامية قد انقضت على أيدي ابن رشد إلى أقل قدر حتى يوفق بينها وبين آراء أرسطو. ومن أجل هذا كان أثر ابن رشد في المسيحية أعظم منه في بلاد الإسلام، فقد اضطهده معاصره من المسلمين؛ ونسيه من جاء بعده منهم، وتركوا معظم كتبه تضيع أصولها العربية؛ ولكن اليهود احتفظوا بالكثير منها مترجماً إلى اللغة العبرية. وسار ابن ميمون على نهج ابن رشد فحاول أن يوفق بين الدين والفلسفة، أما في العالم المسيحي فإن الشروح بعد أن ترجمت من العبرية إلى اللاتينية كانت من أكبر البواعث على نزعة سيجر دي برابانت Siger de Brabant الإلحادية، ونزعة مدرسة بدوا Padua العقلية، وكانت خطر يهد أساس العقيدة المسيحية. وأراد تومس أكويناس أن يرد هذا التيار الذي بعثه ابن رش بمؤلفاته فكتب كتابه Summae لهذا الغرض، ولكنه سار على الطريقة التي اتبعها ابن رشد في شروحه في كثير من تفسيراته المختلفة لأرسطو، وفي قوله إن المادة هي منشأ الفروق بين الكائنات، وفي تفسيره الرمزي للنصوص الخاصة بالتجسيد في الكتاب المقدس، وفي قبوله الفكرة القائلة بأن العالم قد يكون أزلياً، وفي رفضه التصوف أساساً كافياً للدين، وفي اعترافه بأن بعض العقائد الدينية فوق إدراك العقل، وأنه يمكن قبولها عن طريق الإيمان(113). وقد وضع روجر بيكن ابن رشد في الرتبة الثانية بعد أرسطو وابن سينا، وأضاف إلى ذلك قوله مع المبالغة التي هي من خصائصه "تحظى فلسفة ابن رشد في هذه الأيام (حوالي عام 1370) بقبول جميع العقلاء"(114).

وفي عام 1150 أمر الخليفة المستنجد في بغداد بإحراق جميع كتب ابن سينا وإخوان الصفا الفلسفية. وفي عام 1194 أصدر الأمير أبو يوسف يعقوب المنصور وكان وقتئذ في إشبيلية أمراً بإحراق جميع كتب ابن رشد إلا عدداً قليلاً منها في التاريخ الطبيعي، وحرم على رعاياه دراسة الفلسفة، وحثهم على أن يلقوا في النار جميع كتبها أينما وجدت..وبادر العامة إلى تنفيذ هذه الأمور، وكان يسوءهم ويحز في نفوسهم هجوم الفلاسفة على إيمانهم الذي كان عند بعضهم أعز سلوى لهم في حياتهم المضنية النكدة.وفي هذا الوقت بالذات أعدم أبن حبيب لدراسته الفلسفة(115)، وأعرض الإسلام بعد عام 1200 عن كل تفكير نظري. ولما أن ضعفت القوة العباسية في العالم الإسلامي، أخذت تتجه اتجاهاً متزايداً نحو طلب المعونة من رجال الدين والفقهاء من أهل السنة. وأمدها هؤلاء بما تحتاجه من هذه القوة، نظير كبتها للتفكير الحر المستقل. ومع هذا له فإن هذه المعونة لم تكن كافية لإنقاذ الدولة المضمحلة. ففي أسبانيا كان المسيحيون يتقدمون من بلد إلى بلد، حتى لم يبقَ للمسلمين إلا غرناطة وحدها: وفي الشرق استولى الصليبيون على بيت المقدس، وفي عام 1258 استولى المغول على بغداد ودمروها تدميراً.


الفصل التاسع: غارة المغول 1219 - 1258

وهنا يثبت التاريخ مرة أخرى الحقيقة القائلة إن نعم الحضارة تغري الهمج بالهجوم على البلاد المتحضرة . وكان السلاجقة قد بعثوا في بلاد الإسلام الشرقية قوة جديدة، لكنهم هم أيضاً ركنوا إلى الدعة والنعيم، وتركوا دولة ملك شاه تنقسم مملكتين ذواتي حضارة رائعة ولكنهما ضعيفتان من الناحية العسكرية. وكان التعصب الديني والعداء العنصري قد قسما الشعب أقساماً شديدة الغضب والتنازع وحالا بينه وبين الاتحاد لمقاومة الصليبيين.

وفي هذه الأثناء كان المغول الضاربون في شمالي آسية الغربي يزداد عددهم لقوة إخصابهم، ويشتد بأسهم لما يلاقون من شظف العيش وصعابه. وكانوا يعيشون في الخيام أو في العراء، ويرحلون وراء قطعانهم إلى مراعٍ جديدة، ويرتدون جلود الماشية، ويدرسون فنون الحرب دراسة المتحمس لها الراغب فيها. وكان أولئك الهون الجدد، كما كان بنو جنسهم منذ ثمانية قرون، بارعين في استعمال الخناجر، والسيوف، والسهام يطلقونها من فوق جيادهم التي تسابق الريح. وإذا جاز لنا أن نصدق ما يقوله فيهم جيوفني دي بيانو كريبيني Giovanni de Piano Carpini المبشر المسيحي، فإن هؤلاء الأقوام كانوا "يأكلون كل ما يستطيعون أكله حتى القمل نفسه"(116)، ولم يكونوا يشمئزون من أكل الفئران، والقطط، والكلاب، ودم الآدميين، اشمئزاز أعظم الناس ثقافة في هذه الأيام من أكل ثعابين الماء والقواقع البحرية. ونظم جنكيز خان-أي الملك العظيم-أولئك الأقوام بما فرضه عليهم من القوانين الصارمة حتى أنشأ منهم قوة عظيمة البأس، وقادهم البأس، وقادهم لفتح أواسط آسية الممتدة من نهر الفلجا إلى سور الصين العظيم. بينما كان جنكيز خان غائباً عن حاضرة ملكه في كركورم خرج عليه زعيم المغول، وعقد حلفاً مع الشاه علاء الدين محمد صاحب خوارزم المستقلة. وقمع جنكيز خان هذه الفتنة وعرض الصلح على الشاه فقبله، ولكن نائبه في أترار Otrar قتل بعد قليل من ذلك الوقت تاجرين من المغول فيما وراء نهر جيحون، وطلب جنكيز خان أن يسلم إليه الوالي لمحاكمته، فرفض محمد هذا الطلب، وقتل رئيس البعثة المغولية، ورد بقية أعضائها محلوق اللحى، فلم يكن من جنكيز خان إلا أن أعلن الحرب وبدأ بذلك هجوم المغول على بلاد الإسلام (1219).

وهزم جيش من المغول بقادة جوجي ابن الخان جيش محمد البالغ أربعمائة ألف جندي عند جند، وفر الشاه على أثر هذه الهزيمة إلى سمرقند وترك 160.000 من رجاله قتلى في ساحة الوغى. وتقدم جيش مغولى آخر بقيادة ابن ججتان ابن الخان نحو أترار واستولى عليها ونهبها، وسار جيش ثالث بقيادة الخان نفسه إلى بخارى وحرقها عن آخرها. وسبى آلافاً من نسائها، وذبح ثلاثين ألفاً من رجالها. واستسلمت له سمرقند وبلخ حين وصل إلى أبوابها ولكنهما لم تنجوا من النهب والمذاب العامة؛ وزار ابن بطوطة هذه المدن بعد مائة عام من ذلك الوقت وصفها بأن أكثره لا يزال خرائب ينعق فيها البوم. وزحف تولوي بن جنكيز خان بجيش يبلغ سبعين ألفاً اخترق به خراسان وخرب كل ما مر به من المدن. وكان المغول يضعون الأسرى في مقدمة جيوشهم ويخيرونهم بين قتال مواطنيهم-من أمامهم أو قتلهم من خلفهم. وفتحت مرو خيانة وأحرقت عن آخرها، ودمرت في اللهب مكتبتها التي كانت مفخرة الإسلام، وسمح لأهلها بأن يخرجوا من أبوابها يحملون معهم كنوزهم، ولكنهم لم يخرجوا على هذا النحو إلا ليقتلوا وينهبوا فرادى. ويؤكد لنا المؤرخون المسلمون أن هذه المذابح استمرت ثلاثة عشر يوماً هلك فيها 1.300.000 نسمة(117). وقاومت نيسابور الغزاة ببسالة زمناً طويلاً، فلما استسلمت آخر الأمر (1221) قتل كل من فيها من الرجال، والنساء، والأطفال، ما عدا أربعمائة من مهرة الصناع أرسلوا إلى منغوليا، وكومت رؤوس القتلى في كومة مروعة؛ وخربت كذلك مدينة الري الجميلة ومساجدها البالغ عددها ثلاثة آلاف، وما كان فيها من مصانع الفخار الذائعة الصيت، وقتل أهلها عن أخرهم كما يقول أحد المؤرخين المسلمين(118). وجمع ابن الشاة محمد جيشاً جديداً من الأتراك وحارب به جيش جنكيز خان عند نهر السند ولكنه هزم وفر إلى دلهي. ولما خرجت هراة على واليها المغولي كان جزاؤها ذبح ستين ألفاً من أهلها. لقد كانت هذه الوحشية جزءاَ من علوم الحرب عند المغول، وكانوا يقصدون بها شل قوى أعدائهم بما يقذفونه من الرعب في قلوبهم، وإرهاب المغلوبين على أمرهم حتى لا يفكرون في الخروج عليهم. ونجحت هذه الخطة.

وعاد جنكيز خان بعدئذ إلى بلاد ليستمتع بأزواجه وخليلاته الخمسمائة، ومات في فراشه. وسير ابنه وخليفته أجتاي جيشاً من 300.000 للقبض على جلال الدين، وكان قد جيش جيشاً جديداً في ديار بكر. وهزم جلال الدين وقتل، ولم يلق الغازون بعدئذ مقاومة فعاثوا في أذربيجان، وبلاد النهرين، والكرج، وأرمينية (1234). وسمع المغول أن فتنة قامت في إيران بقيادة الحشاشين، فزحف هولاكو حفيد جنكيز خان بجيش مغولي اخترق به سمرقند، وبلخ ودمر حصن الحشاشين في ألموت وولى وجهه شطر بغداد.

وكان المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في المشرق من جلة العلماء، وكبار الخطاطين؛ وكان مثال الرقة ودماثة الأخلاق، شديد الاهتمام بأمور الدين، وبالكتب، والصدقات: وكل هذه أمور لا تتفق مع ذوق هولاكو. واتهم المغول الخليفة بأنه يتستر على العصاة، ويمنع ما وعد به من مساعدة على الحشاشين، وطلب إلى الخليفة جزاء له على فعلته أن يكون خاضعاً للخان الأعظم، وأن تجرد بغداد من الأسلحة ومن جميع وسائل الدفاع. ورفض المستعصم هذه الطلبات بإباء وكبرياء، وحاصر المغول بغداد، وأرسل الخليفة إلى هولاكو بعد شهر من بدء الحصار هدايا وعرض عليه الصلح؛ وخدع بما وعد به من الرحمة فأسلم هو وولداه أنفسهم إلى المغول؛ ودخل هولاكو وجنوده بغداد في الثالث عشر من فبراير عام 1258، وأعملوا فيها السلب والنهب والقتل أربعين يوماً كاملة، فتكوا فيها بثمانمائة ألف من أهلها على حد قول بعض المؤرخين. وهلك في هذه المذبحة الشاملة آلاف من الطلاب، والعلماء، والشعراء، ونهبت أو دمرت في أسبوع واحد المكاتب والكنوز التي أنفقت في جميع قرون طوال، وذهبت مئات الآلاف من المجلدات طعاماً للنيران، وأرغم الخليفة أفراد أسرته على أن يكشفوا عن مخابئ ثروتهم، ثم قتلوا(119). وهكذا قضي على الخلافة العباسية في آسية. ثم عاد هولاكو إلى منغوليا، وبقي جيشه وراءه، يتقدم لفتح الشام تحت إمرة غيره من القواد، حتى التقى عند عين جالوت بجيش مصري يقوده قطز وبيبرس من أمراء المماليك (1260). وزفّت البشرى إلى كل مكان في بلاد الإسلام وفي أوربا نفسها، وابتهجت نفوس الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، فقد حُل الطلسم وذهب الروع، ذلك أن معركة حاسمة دارت رحاها بالقرب من دمشق عام 1303 وكانت عاقبتها أن هزم المغول، ونجت بلاد الشام للمماليك، ولعلها أيضاً احتفظت للمسيحية بأوربا.

ولسنا نعرف أن حضارة من الحضارات في التاريخ كله قد عانت من التدمير الفجائي ما عانته الحضارة الإسلامية على أيدي المغول. لقد امتدت فتوح البرابرة لبلاد الدولة الرومانية قرنين من الزمان، وكان في استطاعة بلاد الدولة أن تنتعش بعض الانتعاش بين كل ضربة والتي بعدها، وكان الفاتحون الجرمان يكنون في قلوبهم بعض الإجلال للدولة المحتضرة التي يعملون على تدميرها، ومنهم من حاول المحافظة عليها. أما المغول فقد أقبلوا وارتدوا في أربعين عاماً لا أكثر، ولم يأتوا ليفتحوا ويقيموا، بل جاءوا ليقتلوا، وينهبوا ويحملون ما يسلبون إلى منغوليا. ولما ارتد تيار فتوحهم الدموي خلف وراءه اقتصاداً مضطرباً، وقنوات للري مطمورة، ومدارس ودوراً للكتب رماداً تذروه الرياح، وحكومات منقسمة على نفسها، معدمة، ضعيفة، لا تقوى على حكم البلاد، وسكاناً هلك نصفهم، وتحطمت نفوسهم. واجتمع الانغماس الأبيقوري في الملذات، والهزال الجسمي والعقلي، وخور العزيمة والعجز الحربي، والانقسام الديني والالتجاء إلى المراسم الغامضة الخفية، والفساد السياسي والفوضى الشاملة، اجتمعت هذه العوامل كلها وائتلفت لتحطيم كل شيء في الدولة قبل الغزو الخارجي. لقد كان هذا كله-لا تبدّل المناخ-هو الذي بدل آسية الغربية من زعامتها على العالم فقراً مدقعاً، وخراباً شاملاً. وأحل محل مئات المدن العامرة المثقفة في الشام، وأرض الجزيرة، وفارس، والقفقاس، والتركستان ما تعانيه في الوقت الحاضر من فقر، ومرض، وركود .


الفصل العاشِر: الإسلام والعالم المسيحي

إن قيام الحضارة الإسلامية واضمحلالها لمن الظواهر الكبرى في التاريخ. لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم كله في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميع الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة. وفي العمارة أسلم مكانته الأولى في القرن الثاني عشر إلى الكنائس الكبرى الأوربية، ولم يجد فن النحت القوطي منافساً له في بلاد الإسلام التي كانت تحرم صنع التماثيل. أما الفن الإسلامي فقد أفنى قوته في الزخرفة، وعانى الشيء الكثير من ضيق المدى ووحدة الطراز المملة؛ ولكنه في داخل هذا النطاق الذي فرضه على نفسه لم يفقه حتى الآن فن سواه. وكان الفن والثقافة في بلاد الإسلام أعم وأوسع انتشاراً بين الناس مما كانا في البلاد المسيحية في العصور الوسطى؛ فقد كان الملوك أنفسهم خطاطين، وتجاراً، وكانوا أطباء، وكان في مقدورهم أن يكونوا فلاسفة.

ويغلب على الظن أن البلاد المسيحية كانت متفوقة على بلاد الإسلام من ناحية الآداب الجنسية في خلال تلك القرون، وإن لم يكن لكليهما حظ لمختار. غير لأننا لا يسعنا إلا أن نذكر أن الاقتصار على زوجة واحد في البلاد المسيحية، مهما بلغ من عدم التقيد بهذه العادة من الناحية العملية، فقد أبقى الغريزة الجنسية في نطاق محدود، ورفع منزلة المرأة رفعاً بطيئاً، في حين الإسلام قد أخفى وجه المرأة بالحجاب والقناع. (ولقد أفلحت الكنيسة في تقييد الطلاق، ويبدو أن اللواط لم يبلغ في المسيحية، ومنها إيطاليا في عهد النهضة، ما بلغه من الحرية والانتشار- حاشا أن نقول في حياة المسلمين. غير أن المسلمين، كما يلوح، كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين؛ فقد كانوا أحفظ منهم للعهد، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام 1099، ولقد ظل القانون المسيحي يستخدم طريقة التحكيم الإلهي بالقتال أو الماء، أو النار، في الوقت الذي كانت الشريعة الإسلامية تضع فيه طائفة من المبادئ القانونية الراقية ينفذها قضاة مستنيرون. واحتفظ الدين الإسلامي، وهو أقل غموضاً في عقائده من الدين المسيحي، بشعائرهِ أبسط، وأنقى، وأقل اعتماداً على المظاهر المسرحية من الدين المسيحي، وأقل منه قبولاً لنزعة الإنسان الغريزية نحو الشرك. وهو شبيه بالمذهب البروتستنتي احتقاره ما يعرضه دين البحر المتوسط من عون للخيال والحواس وما يطلقه لهما من عنان، (ولكنه يستسلم للنزعة الجنسية في تصويره الجنة) . وقد ظل هذا الدين بعيداً كل البعد تقريباً عن النظم الكهنوتية، ولكنه قيد في الوقت الذي كانت فيه المسيحية مقبلة على أخصب عصور الفلسفة الكاثوليكية. ويكاد تأثير العالم المسيحي في الإسلام يكون مقصوراً على بعض المظاهر الدينية وعلى الحرب. فأما من حيث المظاهر الدينية فأكبر الظن أن التصوف قد جاء إلى العالم الإسلامي من نماذج مسيحية، ومن الرهبنة، وعبادة القديسين. ولقد تأثرت النفس الإسلامية بقصة عيسى وشخصيته وظهرت في الشعر والفن الإسلاميين وكانت فيهما موضع العطف الكبير(120).

أما العالم الإسلامي فقد كان له في العالم المسيحي أثر بالغ مختلف الأنواع. لقد تلقت أوربا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير، والأدوية، والأسلحة. وشارات الدروع ونقوشها، والدوافع الفنية، والتحف، والمصنوعات، والسلع التجارية، وكثيراً من الصناعات، والتشريعات والأساليب البحرية، وكثيراً ما أخذت عن المسلمين أسماء هذه كلها: Orange. Lemon, Sugar, Syrup, Sherbet Julep. elixir, Jar Azure, Arapesque, Mattress. Sofa Muslin, Ealin, Fustian, Baziar, Caravan, Check Mate, Tariff, Douane, maguzine, Risk. sloop Barge. Cablc, Admiral. ويقابل هذه في العربية: البرتقال، والليمون، والسكر، والشراب، والشربات، والحلاَّب، والإكسير، والإبريق، والأوراق، والنقش العربي، والحشية (واللفظ الإنجليزي مشتق من المطرح) والأريكة ( اللفظ الإنجليزي مشتق من الصُّفة)، والموصلين، والساتان، والفستان والسوق، والقافلة، والشاة مات. والتعريفة، وحركة المرور، والديوان، والمخزن، والخطر، والقلوب بنوعيه، والحبل، وأمير البحار (وبعض هذه الألفاظ مأخوذة عن الفارسية مثل Bazaar وبعضها الآخر عن العربية). وقد جاءت لعبة الشطرنج إلى أوربا من الهند عن طريق بلاد الفرس، واتخذ لها في طريقها أسماء فارسية وعربية، فلفظ Check Mate مثلاً مأخوذ من عبارة الشاه مات. وبعض آلاتنا الموسيقية تحمل بين طيات أسمائها أدلة على أصولها السامية، ومن هذه الألفاظ Lute من العود، وRebeck من الربابة، وGuitar من القيثارة وTambourlne من الطنبور. وقد انتقل شعر شعراء الفروسية الغزليين Troubadour وموسيقاهم من بلاد الأندلس إلى بروفانس في فرنسا، ومن صقلية المسلمة إلى إيطاليا. ولعل الأوصاف العربية للرحلات إلى الجنة والجحيم كان لها نصيب من المسلاة الإلهية The Divine Comedy لدانتي. وقد دخلت القصص الخرافية، والأعداد الهندية إلى أوربا في زيها العربي أو صورتها العربية. والعلماء العرب هم الذين احتفظوا بما كان عند اليونان من علوم الرياضة، والطبيعة، والكيمياء، والفلك والطب، وارتقوا بها، ونقلوا هذا التراث اليوناني بعد أن أضافوا إليه من عندهم ثروة عظيمة جديدة إلى أوربا. ولا تزال المصطلحات العلمية العربية تملأ اللغات الأوربية، ونذكر منها على سبيل المثال Algebra الجبر، Zero وCipher للصفر، Azimuth السُّمُوت وAlembic للأنبيق، وZenith للسمت، وAlmanac للتقويم وهي مشتقة من لفظ المناخ. وظل أطباء العرب يحملون لواء الطب في العالم خمسمائة عام كاملة، وفلاسفة العرب عم الذين احتفظوا لأوربا بمؤلفات أرسطو وشوهوا لها هذه المؤلفات. وكان ابن سينا وابن رشد نجمين لاحا من الشرق للفلاسفة المدرسيين الذين كانوا ينقلون عنهما، ويعتمدون على كتبهما، ويثقون بهما ثقة لا تزيد عليها إلا ثقتهم بالنصوص اليونانية.

والقباب المضلعة أقدم في بلاد المسلمين منها في أوربا(121)، وإن لم يكن في مقدورنا أن نتتبع الطريق الذي وصلت منه إلى الفن القوطي؛ وأبراج الكنائس المسيحية المستدقة؛ وأبراج نواقيسها مدينة بالشيء الكثير إلى مآذن المساجد(122)، ولعل زخارف النوافذ القوطية المقطعة المصنوعة من الحجارة قد أوحت بها بوائك برج الخرلدة ذات الأقواس المقترنة(123). ويعزى انتعاش فن الخزف الرفيع في إيطاليا وفرنسا إلى انتقال صناع الخزف المسلمين في القرن الثاني عشر إلى هذين البلدين، وإلى زيادة صناعة الإيطاليين إلى بلاد الأندلس الإسلامية(124). ولقد أخذ صناع الحديد والزجاج في البندقية، ومجلدو الكتب في إيطاليا، وصانعوا الدروع والسلاح في أسبانيا، أخذ كل هؤلاء فنونهم عن الصناع المسلمين(125)، وكان النساجون في جميع أنحاء أوربا تقريباً يتطلعون إلى بلاد الإسلام ليأخذوا منها النماذج والرسوم، وحتى الحدائق نفسها قد تأثرت إلى حد بعيد بالحدائق الفارسية.

وسنشرح فيما بعد بالتفصيل السبل التي جاء منها هذا التأثير الإسلامي إلى بلاد الغرب، غير أننا نقول هنا بإيجاز إنه قد جاء عن طريق التجارة، والحروب الصليبية؛ وعن آلاف الكتب التي ترجمت من اللغة العربية إلى اللاتينية؛ وعن الزيارات التي قام بها العلماء أمثال جربرت Gerbert، وميخائيل أسكت Michael Scot وأدلارد Adelard من أهل باث Bath إلى الأندلس الإسلامية؛ ومن الشبان المسيحيين الذين أرسلهم آباؤهم الأسبان إلى بلاط الأمراء المسلمين ليربوا فيها ويتعلموا الفروسية(126)-ذلك أن بعض الأشراف المسلمين كانوا يعدون "فرساناً وسادة مهذبين كاملين وإن كانوا مسلمين"(127)، ومن الاتصال الدائم بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الشام، ومصر، وصقلية،وأسبانيا. وكان كل تقدم للمسيحيين في أسبانيا تتبعه موجة من آداب المسلمين، وعلومهم، وفلسفتهم، وفنونهم تنتقل إلى البلاد المسيحية، وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال أن استيلاء المسيحيين على طليطلة في عام 1085 قد زاد معلومات المسيحيين الفلكية، وأبقى على الاعتقاد بكرية الأرض(128).

ولكن نار الحقد لم تطفئ لظاها هذه الاستدانة العلمية. ذلك أن لا شيء بعد الخبز أعز على بني الإنسان من عقائدهم الدينية، لأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل يحيا معه بالإيمان الذي يبعث في قلبه الأمل. ومن أجل هذا فإن قلب الإنسان يتلظى غيظاً على من يهدده قُوته أو عقيدته. ولقد ظل المسيحيون ثلاثة قرون يشهدون زحف المسلمين، ويبصرونهم يستولون على قطر مسيحي في إثر قطر، ويمتصون شعباً مسيحياً بعد شعب، وكانوا يحسون بأيدي المسلمين القوية تقبض على التجارة المسيحية، ويستمعون إليهم وهم يسمون المسيحيين كفرة وأمست المعركة المرتقبة في آخر الأمر معركة حقيقية، فاصطدمت الحضارتان في الحروب الصليبية، وقَتَل خيرُ ما في الشرق أو الغرب خيرَ ما في الغرب أو الشرق، وكان هذا العداء المتبادل عاملاً فعّالاً في تاريخ العصور الوسطى كله، مضافاً إليه دين ثالث هو الدين اليهودي قائماً بين الطائفتين المحتربتين الرئيسيتين يتلقى ضربات كلتيهما. وخسر الغرب الحروب الصليبية، ولكنه ربح معركة الأديان؛ فقد وطرد كل مسيحي محارب من الأرض المقدسة؛ ولكن المسلمين، وقد استنزف النصر البطيء دمائهم، وخرب المغول بلادهم، مرت بهم فترة من العصور المظلمة ساد فيها الجهل والفقر، على حين أن الغرب المنهزم قد أنضجه ما بذل من جهود، فنسي هزائمه، وأخذ عن أعدائه التعطش إلى العلم والولع بالرقي. فأقام الكنائس عالية تناطح السحاب، وأخذ يجوب ميادين العقل، وحوّل لغاته الفجة الجديدة إلى أساليب دانتي وتشوسر Chaucer وفيون Villon، وسار تحدوه العزة إلى النهضة.

وبعد فإن القارئ العادي ستعتريه الدهشة من طول هذه الإلمامة بحضارة المسلمين، وسيأسف الباحث لما يجده فيها من إيجاز غير خليق بها. إن عصور التاريخ الذهبية دون غيرها هي التي أنجب فيها المجتمع، في مثل هذا الزمن القصير، ذلك العدد الجم من الرجال الذين ذاع صيتهم في الحكم، والتعليم، والآداب، واللغة، والجغرافية، والتاريخ، والرياضة. والفلك،والكيمياء، والفلسفة، والطب، كما أنجب الإسلام في الأربعة القرون الفاصلة بين هارون الرشيد وابن رشد. وقد استمد بعض هذا النشاط المتلألئ مادته من تراث اليونان، ولكم الكثير منه، وبخاصة في الحُكم، والشعر، والفن كان نشاطاً مبتكراً لا تقدر قيمته. ولقد كانت هذه الذروة من نهضة الإسلام من بعض نواحيها تحريراً للشرق الأدنى من سيطرة اليونان العلمية، ولم تمتد إلى فارس الساسانية والأكيمينية فحسب، بل امتدت كذلك إلى بلاد اليهود وبلاد سليمان، وإلى أشور بلاد أشور بانيبال، وإلى بابل حمورابي، وأكاد سرجون، وسومر بلد الملوك الذين لا تعرف أسماؤهم. وهكذا يثبت مرة أخرى اتصال حلقات التاريخ بعضها ببعض: ذلك أن الأسس الجوهرية في الحضارة لا تضيع أبداً مهما حل بها من زلازل وأوبئة، وجدب، وهجرات مدمرة، وحروب مخربة مهلكة. بل إن ثقافات فنية تمد أيديها إلى هذه الأسس فتنتشلها من هذا اللهب، وتمد حياتها بالتقليد والمحاكاة، ثم بالخلق والابتكار، حتى ينبعث في الشعب الناشئ شباب جديد وروح وثابة جديدة. وكما أن الناس أعضاء في مجتمع، والأجيال لحظات في تسلسل الأسر، فإن الحضارات وحدات في كل أكبر منها وأعظم اسمه التاريخ، فهي مراحل في حياة الإنسانية. إن الحضارة متعددة الأصول، وهي نتاج تعاوني لكثير من الشعوب، والطبقات، والأديان، وليس في وسع من يدرس تاريخها أن يتعصب لشعب أو لعقيدة. ومن أجل هذا فإن العالـِم وإن كان مواطناً في بلدهِ يحبه لما يربطه من صلات وثيقة، يحس أيضاً بأنه مواطن في بلد العقل، الذي لا يعرف عداوات ولا حدوداً. وهو لا يكاد ويكون خليقاً باسمه إذا ما حمل معه في أثناء دراسته أهواء سياسية، أو نزعات عنصرية، أو عداوات دينية، وهو يقدم لكل شعب حمل مشعل الحضارة وأغنى تراثها شكره وإجلاله.