قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 2 ب 13

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 4691

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثالث عشر: الإسلام في الغرب 641-1086

الفصل الأوَّل: فتح إفريقية

لم يكن الشرق الأدنى إلا جزءاً من العالم الإسلامي، وقد استعادت مصر تحت حكم المسلمين مجدها الفرعوني؛ كما استعادت تونس ومراكش بزعامة العرب ما كان لهما من حكومة منظمة؛ وازدهرت مدائن القيروان وبالرم وفاس إلى حين. أما أسبانيا في عهد العرب فقد وصلت إلى الذروة في تاريخ الحضارة؛ ولما حكم المُغُل المسلمون بلاد الهند فيما بعد شادوا كما يشيد الجبابرة، وأبدعوا كما يبدع الصياغ.

وبينما كان خالد بن الوليد وغيره من الفاتحين يخضعون بلاد الشرق زحف عمرو بن العاص، بعد موت النبي بما لا يزيد على سبع سنين؛ من مدينة غزة في فلسطين واستولى على بلوز ، ومنفيس، ثم زحف على الإسكندرية. لقد كان لمصر مرافئ وقواعد بحرية، وكان العرب في حاجة ماسة إلى أسطول؛ وكانت مصر تصدر الحبوب إلى القسطنطينية، وكانت بلاد العرب في حاجة إلى الحبوب، وكانت الحكومة البيزنطية منذ قرون طوال تستخدم العرب في شرطتها، ولم يكن هؤلاء ممن يعوقون زحف الفاتحين؛ وكان المسيحيون اليعاقبة في مصر قد قاسوا الأمرَّين من جراء اضطهاد بيزنطية؛ ولهذا رحب بقدوم المسلمين، وأعانوهم على استيلاء منفيس، وأرشدوهم إلى الإسكندرية ، ولما سقطت تلك المدينة في يد عمر وبعد حصار دام ثلاثة عشر شهراً (641) كتب إلى الخليفة عمر ابن الخطاب يقول: "أما بعد، فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف قصر وأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربعمائة ملهى للملوك" .

وحال عمرو بين العرب وبين نهب المدينة وفضل أن يفرض عليها الجزية. ولم يكن في وسعهِ أن يدرك أسباب الخلافات الدينية بين المذاهب المسيحية المختلفة، ولذلك منع أعوانه اليعاقبة أن ينتقموا من خصومهم الملكانيين، وخالف ما جرت عليه عادة الفاتحين من أقدم الأزمنة فأعلن حرية العبادة لجميع أهل المدينة.

وبعد،فهل أحرق عمرو مكتبة الإسكندرية؟ لقد وردت هذه القصة أول ما وردت في كتاب عبد اللطيف (1162-1231)، أحد العلماء المسلمين(2)؛ ثم أوردها بتفصيل أوفى بار هبريوس Bar Hebraeus (1226-1286) وهو مسيحي يهودي الأصل من شرقي بلاد الشام كتب باللغة العربية، باسم أبي الفرج، مختصراً لتاريخ العالم. وقد جاء في روايته لهذه القصة أن رجلاً من أهل الإسكندرية يسميه العرب حنا الأجرومي (واسمه عند الغربيين John Philoponus) طلب إلى عمرو أن يعطيه ما في المكتبة من مخطوطات؛ فكتب عمرو إلى الخليفة عمر يستأذنه في هذا؛ فرد عليه عمر، كما تقول الرواية، بقولهِ: "أما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا بهِ، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه واحرقها". وتختصر الأسطورة هذا الرد الأسطوري في أغلب الظن إلى هذا الجواب القصير: "احرقها لأن ما فيها كله يحتويه كتاب واحد هو القرآن". ويضيف بار هبريوس أن عمراً أمر بالكتب فوزعت على حمامات المدينة البالغ عددها أربعة آلاف حمام لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بملفات البردي والرق ستة أشهر (642). ومن نقط الضعف في هذه القصة: (1) أن جزءاً كبيراً من هذه المكتبة قد أحرقه المسيحيون المتحمسون في عهد البطريق توفيلس عام 392(3)، (2) وأن ما بقي فيها قد تعرض لإهمال المهملين وعداء الأعداء تعرضاً "أدى إلى ضياع معظمه قبل عام 642"(4)، (3) وأن أحداً من المؤرخين المسيحيين لم يشر بكلمة إلى هذا الحديث المزعوم في الخمسمائة العام الواقعة بين حدوثه وبين ذكره لأول مرة، مع أن أحد هؤلاء المؤرخين وهو أوتكيوس Eutychius كبير أساقفة الإسكندرية في عام 933 وقد وصف فتح العرب للإسكندرية بتطويل كبير(5). ولهذا فإن معظم المؤرخين يرفضون هذه القصة ويرون أنها من الخرافات الباطلة. هذا ولقد كان ضياع مكتبة الإسكندرية شيئاً فشيئاً من المآسي الكبرى في تاريخ العالم؛ وذلك بأنها، كما يعتقد العلماء، كانت تحتوي على مجموعة كاملة مما نشر من كتب إسكلس، وسفكل، وبولبيوس، وليفي، وتاستوس، ومائة آخرين من المؤلفين الذين وصلت إلينا كتبهم مختلطة مهوشة، كما كانت تحتوي على نصوص الكاملة لمن جاء قبل سقراط من الفلاسفة، وهي النصوص التي لم يبقَ منها إلا جذاذات متفرقة، وعلى آلاف من المجلدات في تاريخ اليونان، والمصريين، والرومان، وفي العلوم الطبيعية، والآداب والفلسفة.

وحكم عمر مصر حكماً صالحاً؛ وخصص جزءاً من الضرائب الباهظة لتطهير قنوات الري وترميم الجسور، وإعادة فتح الخليج الذي كان يوصل النيل بالبحر الأحمر، والذي يبلغ طوله ثمانين ميلاً. وبذلك استطاعت السفن وقتئذ أن تصل من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي(6) (وقد طمر هذا الخليج مرة أخرى في عام 732 وأهمل شأنه). وأنشأ عمرو عاصمة جديدة لمصر في الموضع الذي أقام فيه معسكر عام 641 وسميت العاصمة الجديدة بالفسطاط، وهي كما يبدو الكلمة المرادفة لخيمة. وكانت هذه المدينة بداية مدينة القاهرة الحاضرة؛ وقد ظلت قرنين كاملين (641-868) مقر الولاة المسلمين يحكمون منه مصر نيابة عن خلفاء دمشق أو بغداد.

وبعد فإن من الحقائق المقررة أم كل فتح يخلق حدوداً جديدة تتعرض للخطر فتوحي بفتح جديد. وأراد المسلمون أن يحكموا مصر الإسلامية من هجوم على جناحها الغربي من قيرين البيزنطية فزحفوا بجيش تبلغ عدته أربعين ألف مقاتل مخترقين الصحراء إلى برقة، واستولوا عليها، ووصلوا قرب قرطاجة. وغرس قائد المسلمين رمحه في الرمل جنوبي مدينة تونس الحالية بنحو ثمانين ميلاً، وأقام في هذه النقطة معسكره، وأنشأ بذلك (670) مدينة من أكبر المدائن الإسلامية وهي مدينة القيروان- "المحطة" . ونسي البربر إلى حين حقدهم على الروم فانظموا إليهم في الدفاع عن المدينة، فظلت تقاوم المسلمين ولم تخضع إليهم إلا في عام 698. ولم يلبث شمال إفريقية أن خضع للمسلمين حتى شاطئ المحيط الأطلنطي. واقتنع البربر- بشروطهم هم أنفسهم تقريباً- بقبول حكم المسلمين، ولم يلبثوا أن اعتنقوا الدين الإسلامي، وقسمت أملاك المسلمين في إفريقية إدارياً إلى ثلاث ولايات: ومص وعاصمتها الفسطاط، وإفريقية وعاصمتها القيروان، والمغرب (مراكش) وعاصمتها فاس. وظلت هذه الولايات نفسها قرناً من الزمان تعترف بالسيادة لخلفاء المشرق؛ ولكن انتقال مقر الخلافة إلى بغداد زاد من صعاب الاتصال والنقل، فأخذت الولايات الإفريقية تتحول واحدة بعد الأخرى إلى ممالك مستقلة. فقامت أسرة الأدارسة في فاس (974)، وأسرة بني الأغلب (800-909) تحكم القيروان، وقامت الأسرة الطولونية (869-905) في مصر. ولم تعد مصر-نهباً للحكام الأجانب، ودخلت في نهضة صغرى جديدة. وفتح أحمد بن طولون عام (869-884) بلاد الشام وضمها إلى مصر، وبنى له عاصمة جديدة تدعى القطائع (ضاحية من ضواحي الفسطاط) وشجع العلوم والفنون، وشاد القصور، والحمامات العامة، وأنشأ بيمارستاناً، ومسجداً عظيماً لا يزال حتى اليوم ناطقاً بفضلهِ: وقلب ابنه خماريه (884-895) هذا النشاط إلى ترف، ورصع جدران قصره بالذهب، وفرض على شعب مصر الضرائب الباهظة لينشئ لنفسهِ بركة من الزئبق ليتأرجح بلطف على فراشهِ المصنوع من الجلد المنفوخ حتى يغلبه النوم. وخَلَفت الأسرة الطولونية بعد أن حكمت أربعين عاماً أسرة تركية أنشأها الإخشيد (935-969). ولم تكن لهذه المماليك الإفريقية جذور تمتد إلى دماء الشعب أو تقاليده، ولهذا كان لا بد لها أن تقيم حكمها على القوة والزعامة الحربيتين، فلما أضعفت الثروة حماستها العسكرية ذابت قوّتها واختفت من الوجود.

وأيدت أعظم الأسر الحاكمة الإفريقية سيادتها الحربية بعقيدة دينية تكاد تبلغ درجة التعصب؛ ذلك أن أبا عبد الله قام في بلاد تونس عام 905 وأخذ يدعو إلى المذهب الشيعي وإلى عقيدة الأئمة السبعة، ويبشر بقرب ظهور المهدي؛ وقد بلغ من قوة أتباعه البربر أن استطاع إزالة حكم الأغالبة من القيروان. وكان قد أعد العدة لتحقيق ما أثاره في أتباعهِ من آمال مرتقبة فاستدعى من بلاد العرب عبيد الله بن محمد، وزعم أنه حفيد عبد الله إمام الإسماعيلية، وأعلن أنه المهدي المنتظر، ونادى به ملكاً (909)، وما لبث هذا الداعية أن قُتِل بأمر مليكه. وقال عبيد الله إن نسبه يمتد إلى السيدة فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) وسمى أسرته بالأسرة الفاطمية نسبة لها. واستعاد شمال إفريقية تحت حكم الأغالبة والفاطميين ما عرفه من رخاء في أيام مجد قرطاجنة تحت حكم الرومان. ذلك أن الفاتحين المسلمين في عنفوان شبابهم في القرن التاسع أنشئوا ثلاث طرق كبرى يتراوح طولها بين 1500 و2000 ميل تخترق الصحراء الكبرى إلى بحيرة شاد وتمبكتو، كما أنشئوا من الثغور في الشمال والغرب بونة، ووهران، وسبتة، وطنجة؛ وقامت تجارة عظيمة مربحة ربطت بلاد السودان بالبحر المتوسط، وبلاد الإسلام الشرقية بمراكش والأندلس، ونقل المهاجرون الأسبان إلى مراكش الصناعات الجلدية؛ وأضحت مدينة فاس مركزاً لتبادل التجارة مع أسبانيا، واشتهرت بأصباغها وعطروها، وطرابيشها الحمر والمغربية.

وانتزع الفاطميون في عام969 مصر من بني الإخشيد، وما لبثوا أن بسطوا حكمهم على بلاد العرب والشام. ونقل المعز الخليفة الفاطمي عاصمة ملكه إلى القاهرة؛ وكانت امتداداً للقطائع في جهة الشمال الشرقي كما كانت القطائع نفسها امتداداً للفسطاط في هذا الاتجاه. وحذا المعز حذو أسلافه فشرع بغزو البلاد ويفتح الأمصار. وفي عهد المعز (943-975) وابنه العزيز (975-996) أعاد يعقوب بن كلس-وهو يهودي من بغداد اعتنق الإسلام- تنظيم الإدارة المصرية، وجعل الفاطميين أغنى حكام زمانهم. ويشهد بذلك أنه حين توفيت رشيدة أخت المعز خلفت وراءها 2.700.000 دينار (12.825.000 دولار أمريكي)، و12.000 ألف ثوب؛ ولما ماتت أخته عبدة تركت ثلاثة آلاف مزهرية فضية، وأربعمائة سيف ذات نقوش دمشقية ذهبية، وثلاثين ألف قطعة من المنسوجات الصقلية، ومقداراً ضخماً من الجواهر(7). ولكن لا شيء يسقط كالنجاح، وآية ذلك أن الحاكم الخليفة التالي (996-1021) جن من فرط الثراء والسلطان، فدبر اغتيال عدد كبير من الوزراء، واضطهد المسيحيين واليهود، وأحرق كثيراً من الكنائس والمعابد، وأمر بهدم كنيسة بيت المقدس التي فيها قبر المسيح، وكان تنفيذ هذا الأمر من أسباب قيام الحروب الصليبية. وكأنما أراد الحاكم أن يعيد سيرة الإمبراطور كلجيولا، فنادى بنفسهِ إلهاً، وأرسل البعوث لنشر هذه العقيدة بين الناس، فلما أم قتل بعض هؤلاء الرسل عاد هو إلى حب المسيحيين واليهود، وأعاد بناء كنائسهم ومعابدهم. واغتيل الحاكم في سن السادسة والثلاثين.

وعم الرخاء مصر رغم ما كان يخص به الخلفاء أنفسهم من امتيازات واسعة لأنها كانت حلقة الاتصال التجاري بين أوربا وآسية، وازدادت عدد السفن التي ينقل عليها تجار الهند والصين بضائعهم من تلك البلاد مارة بالخليج الفارسي، والبحر الأحمر، والنيل إلى مصر. واضمحلت ثروة بغداد، وضعفت قوتها بينما زاد سلطان القاهرة وثراؤها وقد زار ناصري خسرو العاصمة الجديدة في عام 1047 وجاء في وصفه لها أن بها عشرين ألف بيت، معظمها من الآجر ترتفع إلى خمس طبقات أو ست، وعشرين ألف متجر مملوءة بالذهب، والجواهر، والأقمشة المطرزة، والحرير إلى درجة لا يجد الإنسان فيها مكاناً يجلس(8) فيهِ. وكانت الشوارع الكبرى مظللة من وهج الشمس وتضيؤها المصابيح بالليل. وكانت الحكومة تحدد الأثمان، وتقبض على من يبيع بأغلى منها، ويطاف به في شوارع المدينة على جمل، وهو يدق بيدهِ ناقوساً ويعلن بنفسهِ جرمه(9). وكان ذوو الثروات الضخمة كثيري العدد؛ وقد استطاع أحد التجار، وهو مسيحي، أن يطعم السكان كلهم من مالهِ الخاص مدة خمس سنين أصيبت فيها البلاد بالقحط بسبب انخفاض فيضان النيل؛ وترك يعقوب بن كلس وراءه ضياعاً تقدر قيمتها بما يوازي ثلاثين مليون دولار أمريكي(10). واشترك هؤلاء الأثرياء مع الخلفاء الفاطميين في بناء المساجد، وإنشاء دور الكتب، والمدارس الكبرى، وتشجيع العلوم والفنون. وكان حكم الفاطميين بوجه عام حكماً صالحاً خيـّراً طابعه الحرية والتسامح على الرغم مما كان يشينه أحياناً من قساوات، ومن ترف وإتلاف، وبالرغم من الاستغلال المعتاد للعمال، ومن العدد المطلوب من الحروب؛ وكان يضارع في رخائه وثقافته أي عهد آخر في تاريخ مصر(11).

وأخذ حكم الفاطميين في الضعف أيام المستنصر (1036-1094)، وهو ابن أمة سودانية. وقد أقام هذا الخليفة سرادقاً فخماً يقضي فيه أوقات ممتعة، وعاش عيشة الموسيقى، والخمر، واللذة؛ وكان يقول إن تلك الحياة خير لديه من التحديق في حجر أسود، والاستماع إلى صوت المؤذن الممل، وشرب الماء العكر (من بئر زمزم في مكة)(12). وثار عليه جنوده الأتراك في عام 1067، وأغاروا على قصرهِ، ونهبوا منه كنوزاً فنية لا تقدر بثمن، ومقداراً عظيماً من الجواهر، وحمل خمسة وعشرين بعيراً من المخطوطات اتخذ الضباط الأتراك بعضها وقوداً لتدفئة بيوتهم، كما اتخذوا جلودها المصنوعة من الجلد الرقيق البديع لإصلاح نعال جواريهم. ولما توفي المستنصر تمزقت أوصال الدولة الفاطمية، وانقسم جيشها الذي كان من قبل قوياً إلى شيع متنازعة من البربر، وسودانيين، وأتراك؛ وكانت إفريقية ومراكش قد انفصلتا عنها،وثارت عليها فلسطين، وضاعت منها بلاد الشام. ولما أن خلع صلاح الدين آخر الخلفاء الفاطميين في عام 1171، كانت أسرة أخرى من الأسر التي حكمت مصر قد ساقها السلطان والانغماس في الملذات إلى ما ساق إليه سابقاتها من الضعف والفناء.


الفصل الثاني: الحضارة الإسلامية في إفريقية

كان الأمراء والخلفاء في القاهرة، والقيروان، وفاس، ينافس بعضهم بعضاً في إقامة المباني، وتشجيع التصوير، والموسيقى،والشعر، والفلسفة؛ ولكن كل ما بقي من المخطوطات من ذلك الوقت في شمالي إفريقية مخبوء الآن في دور الكتب التي لم يبدأ علماء الغرب في ارتيادها إلا منذ وقت قريب . وقد اندثرت معظم آيات الفن ولم يبقَ ما يشهد على عظمة ذلك العصر وروحه إلا المساجد وحدها. ففي القيروان مسجد سيدي عقبة الذي أنشئ أولاً في عام 670 وجدد بناؤه سبع مرات، والذي يرجع الجزء الأكبر منه إلى عام 838. وتعتمد أروقته ذات العقود المستديرة على مئات من العمد الكورنثية المأخوذة من خرائب قرطاجة، ومِنبره آية رائعة من آيات النحت الخشبي، ومحرابه من الرخام السماقي والقاشاني؛ ومئذنته المربعة الضخمة- وهي أقدم مئذنة في العالم(13)- أصبحت هي الطراز السوري الذي أقيمت على مثالهِ مآذن الغرب. وبفضل هذا المسجد أصبحت القيروان رابعة المدن الإسلامية المقدسة "أبواب الجنة الأربعة" ولا تقل مساجد فاس، ومراكش، وتونس، وطرابلس عنها في الروعة والفخامة إلا قليلاً.

وكانت المساجد في القاهرة ضخمة كثيرة العدد؛ ولا تزال هذه الحاضرة الفاتنة تزدان بنحو ثلاثمائة من هذه المساجد. ومن أشهرها مسجد عمرو بن العاص وقد بدئ بإنشائهِ في عام 641، وأعيد بناؤه في القرن العاشر، ولم يبقَ من \أجزائه الأولى في هذه الأيام إلا عمده الكورنثية التي أنقذها العرب بحكمتهم من الخرائب الرومانية والبيزنطية. ولا يزال مسجد ابن طولون محتفظاً بشكلهِ الأصلي ونقوشهِ الأولى، ويحيط بصحنهِ الواسع سور ذو شرفات، وفي داخلهِ عقود مستدقة (غير مستديرة) هي أقدم ما يوجد من نوعها في مصر، إذا استثنينا عقد مقياس النيل بالروضة (865)- وهو بناء مقام على جزيرة الروضة بالقاهرة يقاس به ارتفاع ماء النهر. وربما كان هذا الطراز الرشيق من العقود قد اتنقل من مصر إلى أوربا القوطية عن طريق صقلية والنورمان(14). وفي مئذنة المسجد (ذات السلم الخارجي) والشبيهة بصروح الزجروات البابلية، وفي القبة المقامة فوق قبر ابن طولون، عقود على شكل حذاء الفرس، وهي إحدى المظاهر الإسلامية التي لا ترتاح إليها العين كما ترتاح إلى غيرها من مظاهر الفن الإسلامي. ويروى أن أحمد بن طولون أراد أن يرفع العقود على ثلاثمائة عمود، فلما علم أن هذه العمد لا يمكن الحصول عليها إلا إذا انتزعت من العمائر الرومانية والمسيحية، قرر أن يقيم هذه العقود بدلاً من هذا على عمد ضخمة من الآجر(15)، وربما كان هذا الطراز من العمد قد أوحى هو الآخر بعنصر من عناصر الطراز القوطي. وآخر ما نذكره من خصائص هذا المسجد أن بعض نوافذه قد ملئت بالزجاج الملون، وبعضها بالشبابيك الجصية على شكل ورود أو نجوم أو غيرها من الأشكال الهندسية، وهذه الأشكال ترجع إلى تاريخ غير معروف على وجه التحقيق.

وفي 970-972 أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلي-وهو عبد مسيحي اعتنق الإسلام وكان القائد الذي فتح مصر للفاطميين. ولا تزال بعض الأجزاء الأصلية من هذا المسجد في مكانها؛ وفيه أيضاً نجد العقود المستدقة على 380 عموداً من الرخام، والجرانيت، والرخام السماقي. وقد شيد جامع الحاكم بأمر الله من الحجر، ولا يزال معظمه باقياً وإن لم تكن تقام فيه الصلاة الآن. وفي وسعنا أن نتصور ما كان عليه ن عظمة في العصور الوسطى بالنظر إلى نقوشه العربية الطراز، الرشيقة، المصنوعة من الجص، ومن الكتابات الكوفية الجميلة التي يزدان بها إفريزه. وقد كانت هذه المساجد، التي تبدو الآن معاقل أشبه بالقلاع-وما من شك في أنها صممت لتكون قلاعاً أيضاً-تزدان بكثير من روائع النحت، والكتابات، والفسيفساء،والمحاريب المطعمة، والقناديل التي أضحت الآن تحفاً نادرة في المتاحف. وكان بمسجد ابن طولون وحده 18.000 قنديل كثير منها من الزجاج المطلي بالميناء المختلف الألوان(16).

وكانت الفنون الصغرى شائعة في إفريقية الإسلامية، يمارسها المسلمون بما عرف عنهم من الصبر والدقة. فالقاشاني البراق يشاهد في جامع القيروان، وقد وصف ناصري خسرو (1050) الخزف الذي كان يصنع في القاهرة بأنه رقيق بلغ من شفيفه أن اليد وضعت في خارجه تستطاع رؤيتها من داخلهِ(17). واحتفظ الزجاج المصري والسوري بكل ما كان له من جمال في العهود القديمة، وتحتفظ متاحف البندقية وفلورنس واللوفر بالآنية المصنوعة من البلور الصخري في عهد الفاطميين، وكان ناحتو الخشب يدخلون البهجة على النفوس بنقوشهم البديعة على أبواب المساجد، والمنابر، والمحاريب، والنوافذ الشبكية. وأخذ المسلمون المصريون عن رعاياهم الأقباط فن زخرفة الصناديق والنضد وغيرها من الأدوات بترصيعها أو تطعيمها بالعاج، أو الأبنوس، أو الأصداف. وكانت الجواهر كثيرة موفورة، وحسبنا أن نقول إنه لما أن نهب الجنود الأتراك المأجورون حجرات قصر المستنصر حملوا معهم آلاف المصنوعات الذهبية-كالمحابر، وقطع الشطرنج، والمزهريات، والطيور، والأشجار الاصطناعية المزينة بالأحجار الكريمة....(18)، وكان من بين ما انتهبوه ستائر من الحرير المطرز بخيوط الذهب نقشت عليها صور أكابر الملوك وكتبت عليها سيرهم. كذلك تعلم المسلمون من الأقباط فن طبع الرسوم وبصمها على المنسوجات بقطع من الخشب؛ ويبدو أن هذه الصناعة انتقلت من صر الإسلامية إلى أوربا على أيدي الصليبيين، وأنها ساعدت على نشأة فن الطباعة. وكان التجار الأوربيون يقدرون منسوجات الدولة الفاطمية تقديراً يفوق سائر المنسوجات، ويتحدثون وهم مذهولون عن منسوجات القاهرة والإسكندرية، التي تبلغ من الرقة درجة يستطاع معها أن تمر في خاتم الإصبع(19). ويحدثنا المؤرخون عن طنافس من عهد الفاطميين، وعن خيام منسوجة من المخمل، والساتان، والدمقس، والحرير، والأقمشة المنسوجة من خيوط الذهب، مزينة كلها بالرسوم، ومن هذه خيمة صنعت لليازوري وزير المستنصر عمل فيها مائة وخمسون صانعاً أكثر من تسع سنوات. وبلغت نفقاتها ثلاثين ألف دينار (142.000 دولار): وصور عليها، كما يقولون، جميع مل عرف من أنواع الحيوان في العالم كله، عدا "الإنسان الذئب" . غير أن الرسوم الفاطمية كلها لك يبقَ منها إلا قطع من المظلمات في دار الآثار العربية بالقاهرة، ولم تبقَ نقوش دقيقة من العهد الفاطمي في مصر؛لكن المقريزي الذي كتب في القرن الخامس عشر تاريخاً للتصوير-يقول إن مكتبة الخلفاء الفاطميين تحتوي على مئات من المخطوطات المزينة بكثير من الرسوم الدقيقة من بينها 2.400 مصحف.

وكانت مكتبة الخلفاء بالقاهرة في عهد الحاكم بأمر الله تحتوي مائة ألف من المجلدات؛ وكان بها في عهد المستنصر 200.000. ويقول المؤرخون إن الكتب كانت تعار لمن يطلبها من الدارسين ذوي السمعة الطيبة من غير أجر. وغي عام 988 أشار الوزير يعقوب بن كلس على الخليفة العزيز أن يعلم على حسابه خمسة وثلاثين طالباً في الجامع الأزهر وأن يتكفل بنفقات معيشتهم، وبهذا نشأت أقدم جامعة في العالم كله. ولما نمت هذه المدرسة واتسعت اجتذبت إليها طلاباً من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما اجتذبت جامعة باريس بعد مائة عام من ذلك الوقت طلاباً من جميع أنحاء أوربا. ومن ذلك الوقت أخذ الخلفاء، والوزراء، والأغنياء من الأهلين يهبون الأموال لتعليم الطلاب بالمجان في تلك الجامعة حتى بلغ طلابها في وقتنا الحاضر 10.000 طالباً وعدد الأساتذة ثلاثمائة(20). ومن أجمل المناظر التي تقع عليها عين السائح العالمي منظر الطلاب وهم مجتمعون في أروقة هذا المسجد القائم منذ ألف عام، تجلس فيها كل طائفة في نصف دائرة إلى جانت عمود أمام أحد العلماء . وكان كبار العلماء الذائعي الصيت يفدون إلى الأزهر من كافة أنحاء العالم الإسلامي ليعلموا الطلاب علوم النحو، والبلاغة، والرياضة، والعروض، والمنطق، والعلوم الدينية، والحديث، والتفسير، والشريعة الإسلامية. ولم يكن الطلاب يؤدون أجوراً، كما لك يكن الأساتذة يتناولون مرتبات. وإذا كانت هذه الجامعة الشهيرة تعتمد على الأموال الحكومية، وهبات المحسنين فقد أخذت تنزع بالتدريج إلى التشدد في أمور الدين، وكان لعلمائها تأثير مثبط للآداب الفاطمية، والفلسفة، والعلوم، ولهذا لم مسمع عن وجود شعراء مجيدين في عهد تلك الأسرة. وأنشأ الحاكم في القاهرة "دار الحكمة"؛ وكانت مهمتها الرئيسية نشر المذهب الشيعي وتعاليمه، ولكن منهجها الدراسي كان يشمل أيضاً علمي الفلك والطب. وأقام الحاكم أيضاً مرصداً فلكياً، وأعان بالمال على بني يونس (المتوفى سنة1090م)، وهو في رأينا أعظم علماء الفلك المسلمين. وبعد أ، ظل هذا العالم يرصد السماء سبعة عشر عاماً أتم "الأزياج الحاكمية" التي توضح حركات الكواكب، ومواقيتها، وحدد بدقة أكثر من ذي قبل ميل مستوى الفلك، ومبادرة الاعتدالين، وزاوية اختلاف منظر الشمس.

وأشهر العلماء كلهم بين علماء المسلمين المصريين اسم الحسن بن هيثم المعروف عند الأوربيين باسم "الهازن Alhazen". وقد ولد في البصرة عام 965 واشتهر فيها بنبوغه في الهندسة والرياضة. وترامى إلى الحاكم أن ابن الهيثم قد وضع خطة لضبط فيضان النيل السنوي فدعاه إلى القاهرة، ولكنه تبين أن الخطة غير عملية فاضطر إلى الاختفاء عن عين الخليفة ذي النزوات الشاذة. وافتتن الرجل، كما افتتن جميع المفكرين في العصور الوسطى، بمحاولات أرسطو في ربط المعارف كلها بعضها ببعض، فكتب عدة شروح وتعليقات عن مؤلفات هذا الفيلسوف، لم يصل إلينا شيء منها. وأهم ما يشتهر ابن الهيثم عندنا الآن كتاب المناظر في البصريات وهو في أغلب الظن أعظم مؤلف في العصور الوسطى بأجمعها جرى على الأسلوب العلمي في طريقته وتفكيره. وقد درس ابن الهيثم انكسار الضوء عند مروره في الأوساط الشفافة كالهواء، والماء واقترب مع اختراع العدسة المكبرة قرباً جعل روجر بيكن Roger Bacon، ووينلو Wnelo وغيرهما من الأوربيين بعد ثلاثمائة عام من ذلك الوقت يعتمدون على بحوثه فيما بذلوه من الجهود لاختراع المجهر والمرقب. وقد رفض ابن الهيثم نظرية إقليدس وبطليموس الفلكي القائلة بأن رؤية الجسم تنشأ من خروج شعاع ضوئي من العين يصل إلى الجسم المرئي، وقال إن صورة الجسم المرئي تصل إلى العين ومنها تنتقل بواسطة الجسم الشفاف-أي العدسة(21). ولاحظ أثر الجو في ازدياد الحجم الظاهري للشمس والقمر إذا كانا قريبين من الأفق؛ وأثبت أن انكسار الأشعة في الجو يجعل ضوء الشمس يصل إلينا حتى بعد أن يختفي قرصها تحت الأفق بتسع عشرة درجة، وعلى هذا الأساس قدر ارتفاع الهواء الجوي بعشرة أميال (إنجليزية). وحلل العلاقة بين ثقل الهواء الجوي وكثافته، وبيت أثر كثافة هذا الهواء في أوزان الأجسام، واستخدم قوانين رياضية معقدة في دراسة فعل الضوء في المرايا الكرية، والتي في شكل القطع المكافئ، وعند مروره في العدسات الزجاجية الحارقة. ورصد صورة الشمس المماثلة لصورة نصف القمر وقت الخسوف على جدار قائم أمام ثقب صغير في مصراع شباك. وهذا هو أول ما ذكر عن الغرفة المظلمة التي تعتمد عليها التصوير الشمسي بكافة أنواعه. وليس في وسعنا مهما قلنا عن ابن الهيثم أن نبالغ في بيان أثره في العلوم الأوربية: وأكبر ظننا أنه لولا ابن الهيثم لما سمع الناس قط بروجر بيكن؛ وها هو ذا روجر بيكن نفسه لا يكاد يخطو خطوة في ذلك الجزء الذي يبحث في البصريات Opus Mains دون أن يشير إلى ابن الهيثم أو ينقل عنه. والجزء السادس من هذا المؤلف يكاد كله يعتمد على كشوف هذا العالم الطبيعي ابن القاهرة. ولقد ظلت الدراسات الأوربية للضوء حتى ذلك العصر المتأخر عصر كبلر وليوناردو تعتمد على بحوث ابن الهيثم.

وأبرز النتائج التي أسفرت عنها فتح العرب لشمالي إفريقية هو اختفاء المسيحية من هذا الإقليم اختفاء تدريجياً ولكنه يكاد يكون تاماً. ذلك أن البربر لم يعتنقوا الإسلام فحسب، بل أصبحوا فوق ذلك أكثر أنصاره تعصباً له ودفاعاً عنه. وما من شك في أن العوامل الاقتصادية كان لها دخل في هذه النتيجة الحاسمة: فقد كان غير الملمين يؤدون الفرضة، التي أعفي منها إلى وقت ما من يعتنقون الإسلام. ولما أن عرض والي مصر العربي على أهل البلاد هذا الإعفاء عام 744 اعتنق الإسلام 24.000 من المسيحيين(22). وربما كان الاضطهاد الذي وقع على المسيحيين، وهو اضطهاد لم يكن يقع إلا في بعض العهود ولكنه شديد، قد أثر في كثيرين من المصريين فحملهم على الدخول في دين الحكام. غير أن أقلية قبطية في مصر ظلت مستمسكة بدينها بشجاعة وأقامت كنائسها شبيهة بالحصون، كانت تؤدي فيها مناسكها سراً ، ولا تزال باقية في تلك البلاد إلى يومنا هذا. ولكن كنائس الإسكندرية، وقورينة، وقرطاجنة، وإفريقية، التي كانت تزدحم من قبل بالمصلين أخذت تخلو منهم وتتداعى، وانمحت من الأذهان ذكريات أثناسيوس، وسيريل Cyril، وأوغسطين، وخبت نيران المنازعات بين الأريوسيين، والدونانيين، واليعاقبة المسيحيين، حل محلها النزاع بين الشيعة وأهل السنة من المسلمين. وأيد الفاطميون سلطانهم بجمع طائفة الإسماعيلية في جماعة كبرى ذات مراسم وطقوس ودرجات متفاوتة، واستخدموا أعضاءها في التجسس والدسائس السياسية. وانتقلت طقوس هذه الجماعة إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان المعبد والشيعة المستنيرة Illuminate وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي كما كان لها أكبر الأثر أيضاً في طقوسها وملابسها. وترى رجل الأعمال الأمريكي بين الفينة والفينة مسلماً متحمساً غيوراً، بفخر بعقيدته السرية، وطربوشه الفاسي ومسجده الإسلامي .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالِث: الإسلام في بلاد البحر المتوسط 649-1071

أدرك زعماء الإسلام، بعد فتح الشام ومصر، أن ليس في مقدورهم أن يدافعوا عن سواحل بلادهم من غير أسطول. وسرعان ما استولت سفنهم الحربية على قبرص ورودس وهزمت العمائر البيزنطية (652، 655)، ثم احتلوا قورسقة في عام 809 وسردينية في عام 810 وإقريطش (كريت) في 823، ومالطة في 870، وبدأ في عام 827 النزاع القديم بين بلاد اليونان وقرطاجنة مرة أخرى من أجل الاستيلاء على صقلية، فأرسل الأغالبة أمراء القيروان الحملة تلو الحملة وتقدموا إلى فتحها بقليل من النهب والدم المهراق؛ فسقطت بالرم في عام 831، ومسينا في 841، وسرقوسة في 878، وتارمينا في 902. ولما أن ورث الخلفاء الفاطميون ملك الأغالبة (909) كان مما ورثوه من أملاكهم جزيرة صقلية؛ ولما نقل الفاطميون عاصمة ملكهم إلى القاهرة أعلن حسين الكلبي والي صقلية من قبلهم نفسه أميراً عليها، وكانت له عليها سيادة تكاد تكون كاملة، وأسس فيها الأسرة الكلبية، وفي عهدها بلغت الحضارة الإسلامية في صقلية ذروة مجدها. وأصبح مركز المسلمين حصيناً منيعاً بعد أن صارت لهم السيادة على البحر المتوسط، فأخذوا يتطلعون إلى المدن القائمة في جنوبي إيطاليا. وكانت القرصنة وقتئذ مما يدخل في نطاق العادات الشريفة، وكان المسيحيون والمسلمون على السواء يشنون الغارات على سواحل البلاد الإسلامية والمسيحية ليقبضوا منها على "الكفرة" ويبيعونهم في أسواق الرقيق، ولهذا شرعت أساطيل المسلمين، ومعظمها من تونس وصقلية، تهاجم الثغور الإيطالية في القرن التاسع الميلادي. فاستولى المسلمون في عام 841 على باري القاعدة البيزنطة الكبرى في الجنوب الشرقي من إيطاليا؛ وفي العام التالي انقضوا انقضاضاً سريعاً على إيطاليا استجابة لدعوة وجهها إليهم لمبارد دوق بنفنتو Benevento ليساعدوه على سالرنو Saleno، ثم عادوا منها بعد أن أتلفوا الحقول وخربوا الأديرة. وفي عام 864 نزل ألف ومئتان من المسلمين في أستيا Ostia، وواصلوا الزحف حتى أشرفوا على أسوار روما، ونهبوا ضواحي المدينة وكنيستي القديسين بطرس وبولس، ثم عادوا على مهل إلى سفنهم. ورأى البابا ليو Leo الرابع أن السلطة المدنية عاجزة عن تنظيم الدفاع عن إيطاليا، فأخذ هذه المهمة على عاتقهِ، وعقد حلفاً بين روما وبين أملفي Amalfi، ونابلي، وجيتا Gaeta ومد سلسلة في عرض نهر التيبز ليمنع العدو من اجتيازه. وبذل العرب في عام 849 محاولة أخرى للاستيلاء على عاصمة المسيحية في الغرب؛ فقابلهم الأسطول الإيطالي المتحد بعد أن باركه البابا، وهزمهم، وقد صور رفائيل منظر الواقعة في قصر الفاتيكان، وفي عام 866 جاء الإمبراطور لويس الثاني من ألمانيا، وصد العرب الذين كانوا يغيرون من جنوبي إيطاليا على شبه الجزيرة وأرجعهم إلى باري وتارنتو Taranto؛ وما وافى عام 844 حتى أخرجوا من جميع شبه الجزيرة.

ولكن غاراتهم عليها لم تنقطع، وظلت إيطاليا الوسطى جيلاً من الزمان يغشاها جو من الخوف والفزع في كل يوم من أيام حياتها. ففي عام 876 أغاروا على كمبانيا ونهبوها، وهددوا روما تهديداً اضطر البابا إلى أن يؤدي لهم جزية سنوية مقدارها 25.000 منقوص (حوالي 25.000 دولار أمريكي) حتى يكفوا عن الإغارة عليها(23). وفي عام 884 أحرقوا دير مونتي كاسينو العظيم ودمروه عن آخره. وشنوا غارات أخرى متقطعة نهبوا فيها وادي نهر الأنيو Anio. ودامت الحال على هذا المنوال حتى اجتمعت قوات البابا وإمبراطوري بيزنطية وألمانيا، ومدائن إيطاليا الوسطى والجنوبية، وهزمت العرب على نهر كرجليانو (916) وانتهى بذلك عصر الفتوح الإسلامية في إيطاليا، وهو العهد الذي دام مائة عام، كادت فيها إيطاليا تصبح ملكاً للعرب. ولو أن روما سقطت في قبضتهم لزحفوا على البندقية، ولو أ،هم استولوا عليها لأطبقت على القسطنطينية قوتان إسلاميتان عظيمتان. ترى إلى أي حد تتعلق مصائر الناس بنتائج الحروب ومصادفاتها!

وخضعت الثقافة الصقلية المتعدد الأصول في أثناء هذه الحوادث الحربية بحكم عادتها إلى الفاتحين الجدد، واتخذت لها طابعاً إسلامياً أبهى وأقوى من طابعهم القديم، واختلط في شوارع العاصمة الإسلامية بانورمس القديمة Panormus أو بالرم العربية، وبالرمو الإيطالية، الصقليون، واليونان، واللمبارد، وكلهم يكره بعضهم بعض من الناحية الدينية، ولكنهم يعيشون معاً صقليين عاديين في عواطفهم، وشِعـْرهم، وجرائمهم. وفيها شاهد ابن حوقل حوالي عام 970 نحو ثلاثمائة مسجد، وثلاثمائة من معلمي المدارس ينظر إليهم الأهلون بعين الاحترام رغم ما اشتهر به هؤلاء المدرسون-كما يقول العالم الجغرافي-من قلة الذكاء وخفة الأحلام(34). هذا وإن كانت صقلية تستمتع بقسط كبير من المطر وضوء الشمس، فقد كانت تربتها غاية في الخصب، فلما جاءها العرب المهرة وأحسنوا تنظيم أحوالها الاقتصادية جنوا ثمار هذا التنظيم، وأضحت بالرم ثغراً تجارياً عظيماً بين أوربا المسيحية وإفريقية الإسلامية؛ وما لبثت أن صارت من أغنى المدن في بلاد الإسلام؛ وكان حب المسلمين للملابس الجميلة، والجواهر المتلألئة، وفنون الزينة، مما جعل الحياة في الجزيرة تسير سيراً هادئاً في غير عجلة ولكن في غير إسفاف. ويصف الشاعر الصقلي ابن حمديس (1055-1132)الساعات التي يقضيها الشاب البالرمي في متعته، ويحدثنا عن قصفهِ ومرحهِ حتى منتصف الليل، وعن اختلاط الرجال والنساء في الولائم والحفلات بعد أن طرد ملك المرح الهموم، وعن الفتيات المغنيات اللاتي يدغدغن العود بأصابعهن اللطيفة، ويرقصن كأنهن الأقمار الساطعة فوق الأغصان اللدنة(25).

وكان في الجزيرة آلاف من الشعراء لأن العرب كانوا يحبون الفكاهة الحلوة، والشعر الموزون، ولأن الحب الصقلي كان يمدهم بموضوعات جمة مثيرة للخيال. وكان في الجزيرة علماء لأن بالرم كان فيها جامعة؛ وكان فيها أطباء عظام، لأن الطب الإسلامي الصقلي قد أثر تأثيراً ذا بال في مدرسة سالرنو الطبية(26). ولقد كان نصف ما امتازت به صقلية النورمانية من البهاء والعظمة صدى لعهدها العربي الزاهر، وتراثاً شرقياً من الصناعات والصناع أورثه العرب ثقافة فنية راغبة في أن تتلقى العلم على أي جنس وأي دين. ولما فتح أهل الشمال (النورمان) صقلية (1060-1091) أعانوا بفتحهم الزمان على محو آثار المسلمين في صقلية؛ وها هو ذا الكونت روجر Count Roger يفخر بأنه قد سوى بالأرض "المدائن، والقلاع، والقصور العربية التي بذل المسلمون في إقامتها أعظم الفنون وأعجبها"(27). ولكن الطراز المعماري الإسلامي خلف طابعه على قصر لازيزا، وعلى سقف كابلا بلاتينا Capella Polatina، ففي هذا المعبد القائم في قصر الملوك النورمان زُينَ المزار المسيحي بالنقوش العربية الإسلامية.


الفصل الرابع: الإسلام في أسبانيا 711-1086

1-الخلفاء والأمراء

لم يكن العرب هم الذين فتحوا أسبانيا أولاً بل الذين فتحوها هم المغاربة، فقد كان طارق من البربر، وكان في جيشه سبعة آلاف من بني جنسه مقابل ثلاثة آلاف من العرب، وقد خُلد أسمه، إذ سميت به الصخرة التي نزلت قواته عند قاعدتها، فقد سماها البربر جبل طارق واختصره الأوربيون إلى جبرولتر Gibraltar. وكان الذي سير طارقاً إلى فتح أسبانيا هو موسى بن نصير والي شمال إفريقية العربي. ثم عبر موسى البحر في عام 712، ومعه 10.000 من الجنود العرب و8000 من البربر وحاصر إشبيلية ومريدة، ولام طارق لأنه تعدى حدود الأوامر الصادرة له، وضربه بالسوط، وزجه بالسجن؛ ولكن الخليفة الوليد استدعى موسى وأطلق سراح طارق فواصل هذا القائد فتوحه. وكان موسى قد عين ولده عبد العزيز حاكماً لإشبيلية؛ ولكن سليمان أخا الوليد ارتاب في نوايا عبد العزيز وظنه يعمل ليستقل ببلاد الأندلس، فأرسل إليه من اغتاله وجيء برأسه إلى سليمان في دمشق، وكان قد تولى الخلافة بعد أخيه، فبعث يستدعي موسى، فلما جاء طلب إليه أن يعطيه رأس ولده حتى يسبل عينيه. ولم يمضِ على موسى عام واحد حتى مات من الحزن(28). ومن حقنا أن نعتقد أن هذه القصة ليست إلا خرافة من الخرافات التي تروى عن حب الملوك لسفك الدماء.


وعامل الفاتحون أهل البلاد معاملة لينة طيبة، ولم يصادروا إلا أراضي الذين قاوموهم بالقوة، ولم يفرضوا على الأهلين من الضرائب أكثر مما كان يفرضها عليهم ملوك القوط الغربيين، وأطلقوا لهم من الحرية الدينية ما لم تتمتع به أسبانيا إلا في أوقات قليلة نادرة. ولما أن توطد مركز المسلمين في أسبانيا، عبروا جبال البرانس ودخلوا غالة يريدون أن يجعلوا أوربا ولاية تابعة لدمشق. والتقى بهم بين تور وبواتييه على بعد ألف ميل شمالي جبل طارق جيش متحد مؤلف من قوى يوديس E(des دوق أكتوين، وشارل دوق أستراليا Austrsia. ودارت المعركة سبعة أيام هزم المسلمون بعدها في واقعة من أهم الوقائع الحاسمة في التاريخ (732)؛ وفيها قررت مصادفات الحرب مرة أخرى الدين الذي يتبعه الملايين التي لا يحصى عددها من بني الإنسان. ومن هذا الوقت أطلق على شال اسم شارل مارتلس Chsrles Martellus أي شارل المطرقة. وأعاد المسلمون الكرة في عام 735 واستولوا على أرليس Arles، ثم فتحوا أفنيون Avignon في عام 737 وخربوا وادي نهر الرون حتى ليون. وفي عام 759 أخرجهم بيبين القصير Pepin the Short نهائياً من جنوب فرنسا؛ ولكم الأربعين عاماً التي تنقلوا خلالها في ذلك الإقليم كانت في أغلب الظن ذات أثر قوي فيما يتصف به أهل لانجويدك Languedoc من تسامح غير عادي بين الأديان المختلفة، ومن مرح كثير ومن حب لأغاني الغزل غير المباح.

ولم يكن خلفاء دمشق يقدرون أسبانيا حق قدرها، فلم تكن تعرف عندهم حتى عام 756 إلى باسم "الأندلس"، وكان يحكمها والٍ يعين من القيروان. لكن شخصية روائية نزلت في أسبانيا عام 755، وكان سلاحها الوحيد هو ما يجري في عروقها من الدم الملكي، وأراد الله أن تؤسس فيها أسرة لا تقل في مجدها وتراثها عن خلفاء بغداد. ذلك أنه لما أمر بنو العباس في عام 750 أن يقتل جميع الأمراء الأمويين، لم ينجُ من هؤلاء الأمراء إلا عبد الرحمن أحد أحفاد الخليفة هشام. وطارده أعداؤه من قرية إلى قرية، فاضطر أن يعبر نهر الفرات الواسع سباحة، واجتاز الصحراء إلى فلسطين، ثم انتقل منها إلى مصر وإفريقية حتى وصل آخر الأمر إلى مراكش. وكانت أخبار الثورة العباسية قد ألهبت نيران المنافسة الحزبية القديمة بين العرب، والسوريين، والفرس، والمغاربة في أسبانيا. واكن في تلك البلاد طائفة من العرب مخلصة الأمويين تخشى أن يعترض الخلفاء العباسيون على حقها في تملك الأراضي التي وهبها لهم ولاة بني أمية، فدعوا عبد الرحمن للانضمام إليهم وتولى قيادتهم. فجاء إليهم وعينوه أميراً على قرطبة (756)، وهزم جيشاً أرسله الخليفة المنصور لينتزعها منه، وبعث برأس قائد هذا الجيش ليعلق أمام أحد القصور في مكة. ولعل هذه الحوادث هي التي منعت انتشار الدين الإسلامي في أوربا: ذلك أن أسبانيا الإسلامية قد أضعفتها الحرب الأهلية، وانقطعت عنها المعونة الخارجية فلم تواصل الغزو والفتح، بل انسحب المسلمون من شمالي أسبانيا، وانقسمت شبه الجزيرة من القرن الحادي عشر قسمين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، يفصلهما خط يمتد من كوامبرا Coimbra ماراً بسرقسطة ومحاذياً لنهر الإبرة، وازدهر النصف الجنوبي الإسلامي بعد أن بسط فيه لواء السلم عبد الرحمن الأول وخلفاؤه، فعمه الرخاء، وترعرع فيه الشعر والفن. واستمتع عبد الرحمن الثاني بثمار هذا الرخاء؛ فقد اتسع وقته، بين حروبه مع المسيحيين على حدوده، وقمعه للثورات التي كان يقوم بها رعاياه، وصد الغارات التي كان يشنها النورمان على سواحل بلاده، واتسع وقته لتجميل قرطبة بالقصور والمساجد، وإجزال العطاء للشعراء. وكان يعفو عن المذنبين ويعاملهم معاملة لينة ربما كان لها بعض الأثر فيما حدث بعده من اضطراب اجتماعي.

وكان عبد الرحمن الثالث (912-961) آخر الشخصيات البارزة من أسرة بني أمية في أسبانيا؛ فقد آلت إليه الخلافة وهو في الحادية والعشرين من عمره، ووجد الأندلس تمزقها الانقسامات العنصرية، والأحقاد الدينية، واضطراب حبل الأمن، ومساعي إشبيلية وطليطلة للاستقلال عن قرطبة. وقبض عبد الرحمن، رغم ما اتصف بع من دماثة الخلق ورقة الحاشية، واشتهاره بالكرم والمجاملة، على زمام الموقف بيد من حديد وقمع فتنة المدن الثائرة، وأخضع أشراف العرب الذين أرادوا أن يحذوا حذو معاصريهم الفرنسيين، فبسطوا على ضياعهم الواسعة الغنية سيادتهم الإقطاعية، ودعا إلى بلاطهِ رجالاً من مختلف الأديان كان يستشيرهم في شؤون الحكم؛ وعقد المخالفات التي يضمن بها توازن القوى بين جيرانه وأعدائه، وأدار شؤون البلاد بجد وعناية بدقائق الأمور، لا يقلان عما كان يتصف به نابليون في هذه الناحية. وكان هو الذي يضع الخطط الحربية لقوادهِ، وكثيراً ما كان ينزل إلى ميدان القتال بنفسهِ؟ وصد غزوة سانكو صاحب نافارا Sancho of Navarra، واستولى على عاصمته ودمرها، وأرهب بذلك المسيحيين فلم يغيروا على بلاده مرة أخرى في أثناء حكمه. ولما رأى في عام 929 أن له من القوة ما لا يقل عن أي حاكم في زمانهِ، وأدرك أن الخليفة العباسي في بغداد قد أصبح ألعوبة في يد الحرس التركي، اتخذ لنفسهِ لقب خليفة-وأمير المؤمنين، وحامي حمى الدين. وقد ترك وراءه بعد وفاته نبذة كتبها بخط يده قدر فيها قيمة الحياة البشرية تقديراً غير مبالغ فيه: "مضت خمسون سنة منذ توليت الخلافة فتمتعت بما لا يزيد عليه شيء من الثراء والمجد والنعم، فاحترمني الملوك وخافوني وحسدوني وحباني الله بأقصى ما يرغب فيه الإنسان، فأحصيت أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في هذه المدة الطويلة فكانت أربعة عشر يوماً، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها" .


وأفاد ابنه الحكم الثاني (961-976) كما يفيد الرجل العاقل الحكيم من هذه الأعوام الخمسين التي حكمها أبوه وبحزم وجدارة، والتي لم يستمتع فيها بقسط موفور من السعادة. وكان في أثناء حكمه آمناً من الخطر الخارجي، والفتن الداخلية، فوجه جهوده إلى تزيين قرطبة وغيرها من المدن؛ وأنشأ فيها المساجد، والمدارس الكبرى، والبيمارستانات، والأسواق، والحمامات العامة، وملاجئ الفقراء(30)، وجعل جامعة قرطبة أعظم معاهد التعليم في زمانهِ؛ وأجزل العطاء لمئات الشعراء والفنانين والعلماء. وفيه يقول المقري المؤرخ الإسلامي:

وكان (الخليفة الحكم) محباً للعلوم مكرماً لأهلها، جماعاً للكتب بأنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله... إن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرست عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير. وأقام للعلم والعلماء سوقاً يانعة جلبت إليه بضائعه من كل قطر.. وكان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في طلب كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني-وكان نسبه من بني أمية-وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه نسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق . وبينما كان الخليفة العالم يعنى بمسرات الحياة ونعيمها، كان يترك تصريف شؤون الحكم، وتوجيه السياسة القومية نفسها إلى وزيره اليهودي القدير حسداي ابن شيروط، ويترك قيادة الجيش إلى قائد نابه مجرد من الضمير تجمعت حول اسمه مادة لكثير من المسرحيات أو القصص الخيالية المسيحية. وقد أسمته هذه الروايات والقصص باسم المنصور، أما اسمه الحقيقي فهو محمد بن أبي عامر.

وهو ينتمي إلى أسرة عربية عريقة النسب لكنها قليلة الثراء. وكان يكسب قوته بكتابة المعروضات لمن يريد من الناس أن يتوجه بمطالب إلى الخليفة، ثم أصبح كاتباً في ديوان قاضي القضاة، ولما بلغ السادسة والعشرين من عمره في عام 967 اختير لإدارة أملاك عبد الرحمن أكبر أبناء الحكم. ثم تقرب إلى الملكة صبح أم الغلام، وفتنها بمجاملتها والثناء عليها، وأثر عليها بجده وكفايته، وما لبث أن أصبح هو المصرف لأملاكها وأملاك والدها، ولم يمضِ عام واحد حتى عين مديراً لدار الضرب. ومن ذلك القوت أصبح سخياً على أصدقائهِ سخاء جعل حاسديه يتهمونه بالارتشاء والخيانة. واستدعاه الحكم ليحاسبه على ما اؤتمن عليه من المال، وعرف ابن أبي عامر أن المال الذي في عهدته سيكون ناقصاً فطلب إلى صديق له غني أن يقرضه قيمة العجز؛ ثم توجه إلى القصر مسلحاً بهذا السلاح القوي، وواجه به من اتهموه، وانتصر عليهم انتصاراً حمل الخليفة على أن يسند له عدة مناصب تدر عليه المال الكثير. ولما مات الحكم أفلح ابن أبي عامر في تنصيب هشام الثاني ابن الحكم خليفة (976-1009) و (1010-1013) بعد أبيه وذلك بأن دبر بنفسهِ قتل منازعه في الخلافة، وبعد أسبوع واحد تولى هو الوزارة(32).

وكان هشام الثاني رجلاً ضعيفاً عاجزاً كل العجز عن سياسة الدولة، ولذلك كان ابن أبي عامر هو الخليفة في كل شيء ما عدا الاسم، واتهمه أعداؤه بحق بأنه يحب الفلسفة أكثر مما يحب الدين الإسلامي؛ وأراد أن يلجم ألسنتهم فدعا رجال الدين أن يُخرجوا من مكتبة الحكم الكبرى كل ما يجدونه فيها من الكتب التي تخالف مذهب أهل السنة، وأن يحرقوا هذه الكتب، وبهذه الطريقة الهمجية الإجرامية اشتهر بيت الناس بالتقى والصلاح. وضم في الوقت نفسه أصحاب المواهب العقلية إلى جانبه بأن بسط حمايته في السر على الفلاسفة، وأخذ يرحب بالأدباء في بلاطهِ، وآوى فيه عدداً كبيراً من الشعراء أجرى عليهم مرتبات من بيت المال، وكان هؤلاء الشعراء يسيرون في ركابهِ حين يخرج إلى الحرب ويتغنون بانتصاراتهِ. وشاد مدينة جديدة هي مدينة الزاهرة في شرق قرطبة ضمت قصره، ومكاتب الإدارة؛ أما الخليفة الذي عنى بتدريبه على الانهماك في الفلسفة فقد بقي مهملاً يكاد يكون سجيناً في القصر الملكي القديم. وأراد ابن أبي عامر أن يزيد مركزه قوة فأعاد تنظيم الجيش وجعل معظمه من مرتزقة البربر والمسيحيين الذين كانوا يكرهون العرب، ولا يشعرون بأن للدولة عليهم حقوقاً، ولكنهم كانوا يجزونه على سخائهِ، وحسن معاملته بالولاء له شخصياً. ولما أن ساعدت ولاية ليون Leon المسيحية ثورة قامت عليه في بلادهِ، فتك بالثوار، وأوقع بأهل ليون هزيمة منكرة، وعاد منتصراً إلى عاصمتهِ؛ ولقب من ذلك الحين بالمنصور. وكثرت المؤامرات عليه، ولكنه كان يحيطها كلها بشبكة من الجاسوسية والاغتيال في الوقت المناسب؛ ولما انضم ابنه عبد الله إلى إحدى هذه المؤامرات، وافتضح أمره قطع رأسه.وكان المنصور مثل صلا الروماني لا يترك محسناً إلا أثابه ولا مسيئاً إلا انتقم منه.

وغفر الناس له جرائمه لأنه قمع جرائم غيره، وحقق العدالة للأغنياء والفقراء على السواء، حتى لم تكن الحياة ولا الأموال في قرطبة أعظم أمناً في وقت من الأوقات مما كانتا في أيامهِ، ولم يسع الناس إلا أن يعجبوا بثباتهِ، ومثابرتهِ، وفطنتهِ، وشجاعتهِ. وحدث في يوم من الأيام والمجلس منعقد برياستهِ أن شعر بألم في ساقهِ؛ فأمر باستدعاء الطبيب، ولما حضر أشار بكيها بالنار. فلم يفض المنصور المجلس، وقبل أن يحرق جسمه دون أن يظهر عليه مل يدل على ألمهِ. ويقول المقري: إن المجلس لم يعرف شيئاً مما حدث إلا بعد أن فاحت رائحة اللحم وهو يحترق . وكان مما فعله أيضاً ليجمع القلوب على محبتهِ أن وسع مسجد قرطبة واستخدم في توسيعه أسرى مسيحيين، واشترك هو بنفسه في أعمال البناء بفأسهِ، ومجرفهِ، ومِسّجَّتهِ ، ومنشارهِ. وأدرك أن الحاكم الذي ينتصر في الحروب، عادلة كانت أو ظالمة، يعلو شأنه بين معاصريه وبين الأجيال المستقبلة، ولهذا شن الحرب من جديد على ليون، واستولى على عاصمتها ودمرها وذبح أهلها. وكان في ربيع كل عام تقريباً يسير على رأس حملة جديدة لمحاربة الأقاليم الشمالية المسيحية؛ وقد عاد من هذه الحملات جميعها بلا استثناء مكللاً بالنصر. من ذلك أنه لما استولى في عام 997 على مدينة سنتياجو ده كمبسستيلا Santiago de Compstela، ودمر ضريح القديس جيمس الشهير، أرغم الأسرى المسيحيين على أن يحملوا أبواب الكنسية وأجراسها على أكتافهم في موكب نصره حتى دخل قرطبة(34). (وقد أعيدت هذه الأجراس مرة أخرى إلى كمبسستيلا محمولة على ظهر أسرى الحرب المسلمين).

ولم يقنع المنصور بما كان له في بلاد الأندلس الإسلامية من مقام، وإن كان في الواقع سيدها بلا منازع، بل كان يتوق إلى أن يكون سيدها اسماً وفعلاً، وأن يؤسس فيها أسرة مالكة. ففي عام 991 تخلى عن منصبه لابنه عبد الملك، ولم يكن يتجاوز الثامنة عشرة من عمرهِ، وأضاف إلى ألقابه الأخرى لقبي السيد والملك الكريم وحكم البلاد حكماً مطلقاً. وكان يرغب في أن يموت في ميدان القتال، ويعد العدة بالفعل لهذه الخاتمة، فكان إذا خرج لحرب من الحروب أخذ معه كفنه. وقد غزا قشتالة في عام 1002 وهو وقتئذ في الحادية والستين من عمرهِ، واستولى على مدنها، ودمر أديرتها، وخرب حقولها، ثم مرض في طريق العودة إلى بلادهِ، ولكنه لم يسمح للأطباء أن يعنوا بهِ، واستدعى إليه ابنه وأخبره أنه سيدركه الموت بعد يومين اثنين، فلما بكى عبد الملك قال له إن هذا البكاء دليل على أن الدولة ستنهار بعد قليل(35). وقد صدقت النبوءة فانهارت خلافة قرطبة بعد جيل من ذلك التاريخ.

وعمت الفوضى بلاد الأندلس الإسلامية بعد موت المنصور، فلم يكن أمراؤها يجلسون على العرش إلا زمناً قصيراً، وكثرت بينهم حوادث الاغتيال، والمنازعات العنصرية، وحروب الطبقات؛ ورأى البربر أنهم محتقرون فقراء في الدولة التي أقاموا دعائمها بسواعدهم وسيوفهم، وأنهم قد طوح بهم إلى استرمادوره Estremadura القاحلة أو جبال ليون الباردة، فثاروا من حين إلى حين على العرب الحاكمين. وكان عمال المدن المستَغَلـَّون يحقدون على من يستغلونهم، فكانوا يخرجون عليهم ويقتلونهم ويستبدلون بهم غيرهم. وأجمعت سائر الطبقات على كره تلك الأسرة الحاكمة أسرة ابن أبي عامر التي كادت في عهد ولده تستأثر بجميع مناصب الدولة ومقومات السلطة. ومات عبد الملك في عام 1008 وتولى الوزارة بعده أخوه عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن رجلاً مستهتراً يشرب الخمر علناً ولا يتورع عن ارتكاب الخطايا، يفضل اللهو على النظر في شؤون الحكم، فلم يلبث أن طرد من منصبه على أثر ثورة اشتركي فيها جميع الأحزاب تقريباً. وأفلت الزمام من أيدي زعماء الثورة فنهبت الجماهير قصور الزاهرة وأحرقتها عن آخرها؛ وفي عام 1012 استولى البربر على قرطبة نفسها وأعملوا فيها السلب والنهب، وذبحوا نصف أهلها، وطردوا النصف الباقي منها، وجعلوا هذه المدينة عاصمة بربرية. بهذه الفقرة الموجزة يقص أحد المؤرخين المسيحيين ثورة أسبانيا الإسلامية الشبيهة كل الشبه بالثورة الفرنسية.

لكن الحماسة التي تدفع صاحبها إلى الهدم والتدمير قلما تقترن بالصبر الذي يتطلبه البناء والتعمير. ففي أثناء حكم البربر اختل الأمن والنظام وعم السلب والنهب، وزاد عدد المتعطلين؛ وخرجت على قرطبة المدائن الخاضعة لها ومنعت عنها الخراج، وحتى ملاك الضياع الواسعة استأثروا بالسلطة كلها في ضياعهم. لكن من بقي في قرطبة من العرب أخذوا ينتعشون شيئاً فشيئاَ، حتى إذا حل عام 1023 طردوا البربر من العاصمة وأجلسوا على العرش عبد الرحمن الخامس، غير أن العامة من أهل قرطبة رأوا أنه لا يرجى خير من العودة إلى العهد القديم، فاستولوا على القصر وبايعوا بالخلافة محمداً المستكفي أحد زعمائهم (1023). وعين محمداً أحد عمال النسيج وزيراً له، ثم اغتيل هذا الوزير، ودس السم للخليفة الشعبي، ثم اتحدت الطبقتان العليا والوسطى وبايعت بالخلافة هشاماً الثالث (1027). وجاء دور الجيش بعد أربع سنين، فقتل وزير هشام، وطُلب إلى هشام نفسه أن ينزل عن الخلافة؛ وعقد مجلس من أصحاب الرأي في المدينة وأيقن المجتمعون أن النزاع على العرش قد جعل قيام الحكم الصالح غي مستطاع، فألغى الخلافة الأندلسية، وأحل محلها مجلساً للدولة، واختير ابن جهور رئيساً لهذا المجلس فحكم الجمهورية الجديدة بالعدل والحكمة.

لكن هذا جاء بعد فوات الأوان، أي بع أن اضمحلت السلطة السياسية وقضي على الزعامة الثقافية في قرطبة، فوصلت بذلك إلى حال لا يرجى منها شفاء. وروع العلماء والشعراء بكثرة الحروب الأهلية ففروا من "جوهرة العالم" إلى بلاط طليطلة، وغرناطة، وإشبيلية. واقتسم بلاد الأندلس الإسلامية ثلاثة وعشرون من ملوك الطوائف شغلتهم الدسائس والمنازعات فيما بينهم عن إغارة أسبانيا المسيحية على الإمارات الإسلامية واستيلائها عليها واحدة بعد واحدة. وازدهرت غرناطة بعض الوقت في حكم الحاخام صمويل هليفي Samuel Halevi المعروف عند العرب باسم إسماعيل بن نغرلة. واستقلت طليطلة عن قرطبة في عام 1035. ثم خضعت لحكم المسيحيين بعد خمسين عاماً من استقلالها.

وورثت إشبيلية مجد قرطبة، وكان بعضهم يظنها خيراً من العاصمة القديمة وأجمل منها؛ وكان الناس يحبونها لجمال حدائقها، ونخيلها، ووردها، وما فيها من مرح دائم، وموسيقى، ورقص، وغناء. وكانت تتوقع سقوط قرطبة فتعجلت هي وأعلنت استقلالها في عام 1023، وعثر أبو القاسم محمد قاضي قضاتها على صانع حصر شبيه بهشام الثاني فنادى به خليفة، وآواه وأمسك هو بزمامهِ، وأقنع بلنسية، وطرطوشة وقرطبة نفسها بمبايعتهِ. وبهذه الطريقة السهلة أقام قاضي القضاة الداهية أسرة بني عباد القصيرة الأجل. ولما مات في عام 1024 خلفه ابنه عباد المعتضد وحكم إشبيلية بمهارة وقسوة مدة سبعة وعشرين سنة، وأخذ يمد سلطانة حتى كان نصف أسبانيا الإسلامية يؤدي له الجزية. وورث الملك من بعده ابنه المعتمد (1068-1019) وهو في السادسة عشر من عمرهِ، ولكنه لم يرث عنه مطامعه ولا وقسوته. وكان المعتمد أعظم شعراء الأندلس، يفضل مجالس الشعراء والموسيقيين على مجالس الساسة وقواد الجند، ويجزل العطاء لمنافسيه من الشعراء، ولا يحسدهم على تفوقهم، فلم يكن يرى من الإسراف أن يجيز إحدى الملح الشعرية بألف دينار(36). وكان يحب شعر ابن عمار، ولذلك اتخذه وزيراً له، وسمع جارية تدعى الرميكية ترتجل جيد الشعر، فابتاعها، وتزوجها، وظل حتى وفاته يحبها حباً شديداً، وإن لم يهمل غيرها من الغانيات في قصرهِ. وكانت الرميكية تملأ القصر بضحكها، وأحاطت سيدها بجو من المرح، جعل رجال الدين يلومونها على عدم اكتراث زوجها بشؤون الحكم، وما آلت إليه مساجد المدينة التي أوشكت أن تخلو من المصلين. لكن المعتمد مع هذا كان قادراً على أن يحكم، وأن يحب، ويغني. فلما أن هاجمت طليطلة مدينة قرطبة، واستغاثت قرطبة به، سير إليها حملة أنقذت المدينة من طليطلة، وأخضعتها لإشبيلية. وحمل الملك-الشاعر مدى جيل كامل مليء بالقلاقل لواء حضارة لا تقل ازدهاراً عن حضارة بغداد في أيام هارون الرشيد، وحضارة قرطبة في عهد المنصور.


2- الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية


لم تنعم الأندلس طوال تاريخها بحكم رحيم، عادل، كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب(37). ذلك حكم يصدره مستشرق مسيحي عظيم قد يتطلب تحمسه شيئاً من التقليل من ثنائه، لكن هذا الحكم بعد أن تنقص منه ما عساه أن يكون فيه من التحمس يظل مع ذلك قائماً صحيحاً. لسنا ننكر أن الأمراء والخلفاء الأندلسيين قد اتصفوا بالقسوة التي يرى ميكفلي أنها لازمة لاستقرار الحكومات وثباتها، ولسنا ننكر أن قسوتهم وصلت في بعض الأحيان إلى حد الهمجية وغلظة القلب، يدل على ذلك ما فعله المعتمد حين زرع الأزهار في جماجم الموتى من أعدائهِ؛ وما فعله المعتضد حين قطع أوصال رجل ظل صديقاً له معظم حياته ثم غدر به هذا الصديق وأهانه آخر الأمر(38). ولكن المقري يورد في مقابل هذه الأمثلة النادرة مئات من الشواهد الدالة على عدل حكام الأندلس الأمويين وجودهم ودماثة أخلاقهم(39). وهم لا يقلون في هذه الصفات عن أباطرة الروم في زمانهم، وما من شك في أن حكمهم كان أفضل من حكم من سبقوهم من القوط الغربيين؛ ولقد كانوا أقدر أهل زمانهم على تصريف الشؤون العامة في العالم الغربي؛ فكانت قوانينهم قائمة على العقل والرحمة، تشرف على تنفيذها هيئة قضائية حسنة النظام. وكان أهل البلاد المغلوبون يحكمون في معظم الأحوال حسب قوانينهم وعلى أيدي موظفين منهم(40). وكان في المدن شرطة تسهر على الأمن فيها، وقد فرضت على الأسواق، والمكاييل، والموازين، رقابة محكمة؛ وكانت الحكومة تقوم بإحصاء عام للسكان والأملاك في فترات منظمة؛ وكانت الضرائب معقولة إذا قورنت بما كانت تفرضه منها روما وبيزنطية. وبلغت الإيرادات في أيام عبد الرحمن الثالث 12.045.000 دينار ذهبي (أي ما يعادل 75.213.750 دولار أمريكي)-وأكبر الظن أن هذا كان يفوق إيرادات حكومات البلاد المسيحية اللاتينية مجتمعة(41). ولم يكن مصدر هذه الإيرادات هو الضرائب العالية بقد ما كان أثراً من آثار الحكم الصالح، وتقد الزراعة والصناعة، ورواج التجارة(42).

وكان حكم العرب نعمة وبركة قصيرة الأجل على الزراع من أهل البلاد. ذلك أن الفاتحين لم يبقوا على الضياع التي كبرت فوق ما يجب، والتي كان يمتلكها القوط الغربيون، وحرروا رقيق الأرض من عبودية الإقطاع(43). ولكن القوى التي كانت في هذه القرون تعمل لتثبيت دعائم الإقطاع ظلت تعمل عملها في أسبانيا أيضاً، وإن لقيت فيها من المقاومة أشد مما لقيته في فرنسا؛ فقد امتلك العرب بدورهم مساحات واسعة من الأراضي، وكان يقوم بزرعها مستأجرون قريبو الشبه برقيق الأرض. وكان العبيد يلقون على أيدي المسلمين معاملة أحسن قليلاً مما كانوا يلقونها على أيدي سادتهم الأولين(44). وكان في مقدور العبيد غير المسلمين أن يتحرروا من الرق بمجرد اعتناقهم الإسلام، وكان العرب في معظم الأحوال يتركون أعمال الزراعة إلى أهل البلاد، ولكنهم كانوا يستعينون بأحدث ما ألف من الكتب في علومها، وبفضل توجيههم بلغت هذه العلوم في أسبانيا من التقدم أكثر مما بلغته في أوربا المسيحية(45). واستبدل بالثيران البطيئة الحركة، التي كانت تستخدم حتى ذلك الوقت في جميع أنحاء أسبانيا للحرث والجر، البغال، والحمير، والخيل. وأدى تهجين السلالات الأسبانية والعربية من الخيل إلى وجود الجياد الأصيلة التي كان يمتطيها فرسان العرب وكبليرو Caballero (فرسان) الأسبان. ونقلت بلاد الأندلس الإسلامية من آسية زراعة الرز، والحنطة السوداء ، قصب السكر، والرمان، والقطن، والسبانخ، والأسفرج ، والموز، الكراز، والبرتقال، والليمون، والسفرجل، والليمون الهندي، والخوخ، ونخيل البلح، والتين، والشليك، والزنجبيل، والمر وصناعة الحرير(46). وكانت زراعة الكروم من الأعمال الكبرى في بلاد الأندلس، وإن كان الدين الإسلامي يحرم الخمر. وأحالت حدائق الخضر، وغياض الزيتون، وبساتين الفاكهة مساحات من الأندلس-وخاصة حول قرطبة وغرناطة، وبلنسية-جنات على الأرض. كما استحالت جزيرة ميورقة Mojorca، التي فتحها العرب في القرن الثامن بفضل عملهم بالزراعة وعنايتهم بها فردوساً مليئاً بالفاكهة والأزهار، تشرف عليها أشجار النخيل التي سميت الجزيرة باسمها فيما بعد.

وأغنت مناجم أسبانيا المسلمين بالذهب، والفضة، والقصدير، والنحاس، والحديد، والرصاص، الشب، والكبريت، والزئبق. وكان المرجان يستخرج من البحر على طول سواحل أسبانيا، كما كان اللؤلؤ يصطاد قرب سواحل قطلونية، وكان الياقوت يستخرج من مناجم حول باجة ومالقة. وتقدمت الصناعات المعدنية في البلاد تقدماً عظيماً، فاشتهرت مرسية بمصنوعاتها من الحديد الشبهان، كما اشتهرت طليطلة بالسيوف، وقرطبة بالدروع. وازدهرت كذلك الصناعات اليدوية، فكانت قرطبة تصنع الجلد القرطبي الذي يستخدمه الحذاءون في أوربا المعروفون باسم Cordwaibner نسبة إلى "الجلد القرطبي Cordovan". وكان في قرطبة وحدها 13.000 نساج، واكن المشتون في كل مكان يقبلون على شراء السجاجيد، والوسائد، والسجف الحريرية، والشيلان، والأرائك الأندلسية. ويقول المقري(48) إن ابن فرناس القرطبي اخترع في القرن التاسع الميلادي النظارات، والساعات الدقاقة المعقدة التركيب، كما اخترع آلة طائرة. وكون أسطول تجاري يزيد على ألف سفينة يحمل غلات الأندلس ومصنوعاتها إلى إفريقية وآسية، وكانت السفائن القادمة من مائة ثغر وثغر تزدحم بها مرافئ برشلونة، والمرية، وقرطاجنة، وبلنسية، ومالقة، وقادس، وإشبيلية. وأنشأت الحكومة نظاماً للبريد ينقل رسائلها بانتظام. واحتفظت العملة الرسمية بأجزائها-الدينار الذهبي، والدرهم الفضي، والفلس النحاسي،-بثباتها واستقرارها النسبي، إذا قارناها بعملة العالم المسيحي اللاتيني في أيامها، ولكن هذه النقود الأندلسية أخذت هي الأخرى ينقص وزنها، ونقائها، وقوتها الشرائية.

وسار الاستغلال الاقتصادي في هذه البلاد سيرته في البلاد الأخرى، فاستحوذ العرب أصحاب الضياع الواسعة، والتجار الذين كانوا يعتصرون المنتج والمستهلك على السواء، على خيرات الأرض. وكان معظم الأغنياء يعيشون في الريف في بيوت ذات حدائق، ويتركون المدن الكبرى للبربر، والذين أسلموا من المسيحيين، والمستعربين (غير المسلمين من الأندلسيين الذين أخذوا عن العرب أساليب العيش ولغة الحديث)، وإلى طائفة قليلة العدد من الخصيان، والضباط والحراس الصقالبة، والعبيد خدم البيوت. وأحس الخلفاء في قرطبة بعجزهم عن القضاء على الاستغلال الاقتصادي من غير أن يضعفوا روح المغامرة فوقفوا بين هذا وذاك بتخصيص ربع غلات أرضهم لمعونة الفقراء(49).

وكان استمساك الطبقات المعدمة بدينها وتشددها في عقائدهما سبباً في زيادة سلطان الفقهاء أي علماء الشريعة الإسلامية؛ وكان العامة ينفرون من كل جديد في العقائد أو الأخلاق نفوراً جعل الخارجين على الدين، والمفكرين يخفون رؤوسهم في معظم الأحوال، وينزوون في البيوت أو يلجأون إلى الغموض في الأقوال. وكمت أفواه الفلاسفة، أو اضطروا إلى الجهر بآراء تقبلها جمهرة الناس وتحترمها. وكان الموت جزاء من يرتد عن دين الإسلام. نعم إن خلفاء قرطبة أنفسهم كانوا رجالاً ذوي آراء حرة، ولكنهم كانوا يظنون أن الخلفاء الفاطميين في مصر يتخذون العلماء المتنقلين عيوناً عليهم، ولهذا كانوا ينظمون في بعض الأحيان إلى الفقهاء في التضييق على التفكير الحر المستقل. لكن الحكام الأندلسيين قد أطلقوا لغير المسلمين جميعهم على اختلاف أديانهم حرية العبادة. وإذا كان اليهود الذين اضطهدهم القوط الغربيون أشد الاضطهاد قد ساعدوا المسلمين في فتوحهم، فقد ظلوا يعيشون من ذلك الوقت إلى القرن الثاني عشر مع المسلمين الفاتحين في أمن ووئام، وأثروا، وبرعوا في العلوم والمعارف، وارتقوا في بعض الأحيان إلى مناصب عالية في الحكومة. أما المسيحيون فكانت تعترضهم في سبيل الرقي في مناصب الدولة عقبات أكثر مما يعترض اليهود، ولكنهم رغم هذه العقبات ظفروا بنجاح عظيم. وكان المسيحيون الذكور، كالذكور في سائر الأديان، يرغمون على الختان بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية الصحية القومية، لكنهم فيما عدا هذا كانوا يحكمون بمقتضى شريعتهم القوطية الرومانية ينفذها فيهم قضاة يختارونهم هم أنفسهم(50). وكان الذكور الأحرار القادرون من المسيحيين يؤدون ضريبة الفرضة نظير إعفائهم من الخدمة العسكرية؛ وكان مقدارها في العادة ثمانية وأربعين درهماً (24 ريالاً أمريكياً) للغني، وأربعة وعشرون للمتوسط الثراء، واثنا عشر درهم لمن يعمل بيده(51). وكان المسلمون والمسيحيون يتزاوجون فيما بينهم بكامل حريتهم، ويشتركون من حين إلى حين بالاحتفال بأحد الأعياد المسيحية أو الإسلامية المقدسة، ويستخدمون المبنى الواحد كنسيةً ومسجداً(52). وجرى بعض المسيحيين على عادة أهل البلاد فاصطفوا "الحريم" أو مارسوا اللواط(53)؛ وكان المسيحيون من رجال الدين وغير رجال الدين يفدون بكامل حريتهم وهم آمنون من جميع أنحاء أوربا المسيحية إلى قرطبة، أو طليطلة، أو إشبيلية طلاباً للعلم، أو زائرين، أو مسافرين. وقد شكا أحد المسيحيين من نتيجة هذا التسامح بعبارات تذكرنا بشكاية العبرانيين القدماء من اصطباغ اليهود بالصبغة اليونانية فيقول:

"إن إخواني المسيحيين يعجبون بقصائد العرب وقصصهم، وهم لا يدرسون مؤلفات فقهاء المسلمين وفلاسفتهم ليردوا عليها ويكذبوها، بل ليتعلموا الأساليب العربية الصحيحة الأنيقة... واحسرتاه! إن الشبان المسيحيين الذين اشتهروا بمواهبهم العقلية لا يعرفون علماً ولا أدباً ولا لغة غير علوم العرب آدابهم ولغتهم؛ فهم يقبلون في نهم على دراسة كتب العرب، ويملئون بها مكتباتهم، وينفقون في سبيل جمعها أموالاً طائلة، وهم أينما كانوا يتغنون بمديح علوم العرب(54)". وفي وسعنا أن نحكم عل ما كان للدين الإسلامي من جاذبية للمسيحيين من رسالة كتبت في عام 1311م تقدر عدد سكان غرناطة المسلمين في ذلك الوقت بمائتي ألف، كلهم ما عدا 500 منهم من أبناء المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام(55). وكثيراً ما كان المسيحيون يفضلون حكم المسلمين على حكم المسيحيين(56).

لكن هذه الصورة الجميلة كان لها وجه آخر أخذ يزداد وقتاً ما على مر الأيام. ذلك أن الكنيسة المسيحية لم تكن حرة، وإن كان المسيحيون أنفسهم أحراراً.. فقد صودر معظم أملاكها العقارية بمقتضى مرسوم يشمل جميع من يقومون بعمل إيجابي في مقاومة الفاتحين؛ كذلك دمرت معظم الكنائس وحرم بناء كنائس جديدة. وورث الأمراء المسلمون من ملوك القوط حق تنصيب الأساقفة وعزلهم، وحق دعوة المجالس الكنسية نفسها إلى الانعقاد. وكان الأمراء يبيعون مناصب الأساقفة لمن يؤدون فيها أغلى الأثمان. ولو كان من يسند إليه المنصب من الفجرة أو المتشككين في الدين، وكان القساوسة المسيحيون يتعرضون أحياناً للشتائم من المسلمين في الشوارع، وكان فقهاء المسلمين يعلقون بكامل حريتهم على ما يبدو لهم أنه سخافات أو أباطيل في الدين المسيحي، ولكن المسيحيون الذين يردون عليهم بمثل أقوالهم كانوا يتعرضون للخطر.

وفي هذه العلاقات المتوترة قد تؤدي أية حادثة صغيرة إلى مأساة شديدة. مثال ذلك أن فتاة حسناء من فتيات قرطبة، معروفة لدينا باسم فلورا Flora فحسب ولدت لأبوين من دينين مختلفين، فلما توفي أبوها المسلم اعتزمت أن تعتنق الدين المسيحي، وفرت من بيت أخيها إلى بيت أحد المسيحيين، ولكن أخاها قبض عليها وضربها، وأصرت الفتاة على الارتداد عن دين أبيها، وسيقت إلى أحد المحاكم الإسلامية. وأمر القاضي بضربها وإن كان في مقدوره أن يحكم بإعدامها. ومع هذا فقد فرت مرة أخرى إلى بيت مسيحي حيث التقت بقس شاب يدعى أولوجيوس Eulogius أحبها حباً روحياً عارماً. وبينما كانت الفتاة مختبئة في أحد الأديرة، إذ قتل قس آخر يدعى برفكتوس Pcrfectos لأنه تكلم في حق النبي محمد أمام بعض المسلمين؛ وقد وعدوه بألا يشوا به، ولكن أقواله بلغت من العنف درجة روع لها مستمعوه فأبلغوا عنه ولاة الأمور. وكان في وسع بروفكتوس أن ينجو من العقاب إذا أنكر ما قال، ولكنه بدل أن يفعل هذا كرر أمام القاضي قوله إن محمداً كان "خادماً للشيطان"، فما كان من القاضي إلا أن حكم عليه بالسجن بضعة أشهر لعل هذا يصلح حاله؛ ولكنه لم ينصلح، وتمادى في أقواله فحكم عليه بالإعدام. وظل وهو يساق إلى المشنقة يسب النبي، فيقول: إنه "مدعٍ، زان، ولدته جهنم" ، وابتهج المسلمون بمقتله، واحتفل المسيحيون بدفنه احتفالاً مهيباً، وعدوه من القديسين (850) .

وأشعل مقتله نيران الحقد في قلوب الطائفتين. فتألفت جماعة من المتعصبين المسيحيين بزعامة يولجيوس وجعلت هدفها سب النبي علناً، والترحيب بالقتل اعتقداً منها بأن مصير من يقتل من أفرادها هو الجنة، وذهب راهب قرطبي يدعى إسحق على القاضي وعرض عليه رغبته في اعتناق الإسلام؛ وسر القاضي من هذا وبدأ يشرح له مبادئ الدين الإسلامي، ولكن الراهب قطع عليه شرحه وقال "إن نبيكم قد كذب عليكم وخدعكم؛ ألا لعنة الله عليه لأنه قد جر معه هذا العدد العظيم من البائسين إلى الجحيم"! فزجره القاضي وسأله هل هو ثمل؟ فرد عليه الراهب بقوله: "إني مالك لقواي فاحكم عليَّ بالإعدام" فأمر القاضي بسجنه ولكنه استأذن عبد الرحمن الثاني بأن يخرجه على أن بعقله خبالاً، غير أن موكب جنازة برفكتوس وما أحاط به من روعة وفخامة كان قد أثار حفيظة الخليفة فأمر بإعدام الراهب. وبعد يومين من هذا الحادث جرؤ جندي من الفرنجة في حرس القصر على سب النبي علناً؛ فكان جزاؤه الإعدام. وفي يوم الأحد التالي وقف ستة من الرهبان أمام القاضي وسبوا النبي ولم يطلبوا لأنفسهم الإعدام فحسب بل طلبوا فوق ذلك أن يعذبوا أشد التعذيب، فحكم عليهم بالإعدام. وحذا حذوهم قس، وشماس، وراهب. وابتهج لذلك أفراد الجماعة ولكن كثيرين من المسيحيين-من رجال الدين وغير رجال الدين-لم يرضوا على هذا التسابق للموت، وقالوا لتلك الفئة المتحمسة "إن السلطان يسمح لنا بأن نمارس شعائر ديننا، ولا يضطهدنا، فما الداعي إذن إلى هذا التعصب الشديد؟"(59) ودعا عبد الرحمن إلى عقد مجلس من الأساقفة المسيحيين فأصدر قراراً بلوم طائفة المتحمسين المتعصبين، وهددهم بأن يتخذ ضدهم إجراءات عنيفة إذا لم ينقطعوا عن إثارة الفتن، فما كان من يولجيوس إلا أن أخذ يندد بأعضاء المجلس ويصفهم بالجبن.

وزادت هذه الحركة من تحمس فلورا، فغادرت الدير الذي كانت تقيم فيه وجاءت هي وفتاة أخرى تدعى مارية إلى القاضي وأخذتا تطعنان على النبي.... وتقولان: إن الإسلام من "اختراع الشيطان" فأمر القاضي بسجنها. وحملها بعض أصدقائهما على أن يرجعا عن أقوالهما، ولكن يولجيوس تغلب عليهما وأقنعهما بأن يرضيا بالقتل، فقتلا. وشجع هذا يولجيوس فأخذ يطلب بضحايا جدد، فأقبل على المحكمة قساوسة، ورهبان، ونساء يسبون النبي ويطلبون أن يعدموا (852)، وأعدم يولجيوس نفسه بعد سبع سنين من ذلك الوقت، وخمدت الفتنة بعد سبع سنين من موتهِ فلم تسمع بين عامي 859، 983 إلا حادثين من حوادث السب والقتل، ولم نسمع عن حوادث أخرى من هذا النوع في أثناء الحكم الإسلامي في أسبانيا(60).

أما بين المسلمين أنفسهم فقد ضعفت الحماسة الدينية بازدياد الثراء، وظهرت في القرن الحادي عشر الميلادي موجة من التشكك رغم ما في الشريعة الإسلامية من شدة على المتشككين؛ ولم يقتصر الأمر على دخول مبادئ المعتزلة التي لا تناقض عقائد أهل السنة مناقضة شديدة، بل قامت طائفة أخرى تنادي بأن الأديان كلها باطلة، وتسخر بالأحكام الدينية، والصلاة، والصوم، والحج، والزكاة. ونشأت طائفة أخرى غير هذه وتلك سمت نفسها أتباع الدين العالمي، وأخذت تندد بكل العقائد، وتنادي بدين يقوم على المبادئ الأخلاقية دون غيرها. وكان من بين هؤلاء جماعة من اللاأدريين يقولون إن العقائد الدينية قد تكون صحيحة وقد لا تكون، فلسنا نؤكدها أو ننكرها، وكل ما في الأمر أننا لا نعرف حقيقتها، ولكننا لا تسمح لنا ضمائرنا بأن نقبل عقائد لا نستطيع إثبات صحتها(61). وأخذ رجال الدين يقاومون هذه العقائد مقاومة قوية؛ ولما أم حلت المصائب بالمسلمين في أسبانيا في القرن الحادي عشر أخذوا يقولون إن سببها هو هذا الضلال، ولما انتعش المسلمون بعض الوقت في الأندلس مرة أخرى، كان انتعاشهم في عهد حكام أقاموا سلطانهم كما كان من قبل على قواعد الدين، وقصروا الجدل القائم بين الدين والفلسفة على ما كان منه في بلاطهم وما يبتغون به تسليتهم. ولكن القباب المتلألئة والمآذن المذهبة كانت على الرغم من الفلاسفة زينة المدائن الكبيرة والصغيرة التي جعلت بلاد الأندلس في القرن العاشر الميلادي أعظم البلاد المتحضرة في أوربا، بل إنها كانت في أغلب الظن أعظم البلاد المتحضرة في العالم كله في ذلك الوقت. لقد كانت قرطبة في أيام المنصور من أعظم مدن العالم حضارة، ولا يفضلها في هذا إلا بغداد والقسطنطينية. وكان فيها كما يقول المقري 200.077 منزلاً، و60.300 قصر، 600 مسجد، و700 حمام(62) عام وإن كانت هذه الإحصاءات لا تخلو من قليل من المغالاة الشرقية. وكان زائرو المدينة يدهشون من ثراء الطبقات العليا، ومما كان يبدو لهم أنه رخاء عام،؛ فقد كان في وسع كل أسرة أن يكون لها حمار؛ ولم يكن يعجز عن الركوب إلا المتسولون. وكانت الشوارع مرصوفة، لكل منها طواران على الجانبين، تضاء أثناء الليل، ويستطيع الإنسان أن يسافر في الليل عشرة أميال على ضوء مصابيح الشوارع وبين صفين لا ينقطعان من المباني(63). وقد أقام المهندسون العرب على نهر الوادي الكبير الهادئ الجريان جسراً من الحجارة ذا سبعة عشر عقداً عرض كل واحد منها خمسون شبراً. وكان من أولى منشئات عبد الرحمن الأول قناة تحمل إلى مدينة قرطبة كفايتها من ماء الشرب تنقله إلى المنازل والحدائق، والفساقي والحمامات، واشتهرت المدينة بكثرة ما كان فيها من الحدائق والمتنزهات.

وكان عبد الرحمن الأول شديد الحنين إلى مسارح صباه، فأنشأ في قرطبة بستاناً عظيماً شبيهاً بالقصر الريفي الذي قضى فيه أيام صباه بالقرب من دمشق، وشاد في هذا البستان قصره المعروف "بقصر الرصافة"، وأضاف إليه من جاء بعده من الخلفاء أجنحة أخرى خلع عليها خيال المسلمين أسماء زاهية كقصر الروضة... وقصر المعشوق... وقصر السرور... وقصر التاج . وكان لقرطبة كما كان لإشبيلية قصرها الذي يجمع بين بيت السكن العظيم والحصن المنيع. ويصف مؤرخو العرب هذه القصور وصفاً يجعلها تضارع في جمالها وترفها قصور نيرون في روما: يصفون أبوابها الفخمة، وعمدها الرخامية، وأرضها المرصوفة بالفسيفساء، وسقفها المذهبة، وما فيها من النقوش الجميلة التي لا يقد عليها إلا الفن الإسلامي وحده. وكانت قصور الأسرة المالكة، وكبار الملاك والتجار تمتد على شاطئ النهر العظيم؛ وقد ورث عبد الرحمن الثالث من إحدى جواريه ثروة طائلةـ وأراد أن ينفقها في افتداء من عساهم يكونون في الأسر من جنودهِ، ولما قال الباحثون الفخورون إنهم لم يجدوا أحداً من جنوده في الأسر عرضت عليهم الزهراء زوجته المحبوبة أن ينفق المال في بناء ضاحية وقصر يخلد بهما اسمها. وظل عشرة آلاف من العمال وألف وخمسمائة من الدواب يكدحون خمسة وعشرين عاماً (936-961) لتحقيق حلمها، فكان قصر الزهراء الملكي يقع على بعد ثلاثة أميال من قرطبة وإلى جنوبها الغربي. وقد زين أفخم زينة وأثث بأفخم أثاث. وكان القصر يقوم على ألف ومائتي عمود من الرخام، وكان جناح الحريم به يتسع لستة آلاف امرأة، وكان يحتوي على بهو لمجلس الخليفة سقفه وجدرانه من الرخام والذهب، له ثمانية أبواب مطعمة بالأبنوس والعاج والحجارة الكريمة، وكان به فسقية مملوءة بالزئبق تنعكس على سطحها أشعة الشمس المتماوجة. واجتمعت حول الزهراء قصور طبقة من الأشراف طبقت العالم شهرتها بالظرف الرقة، وحسن الذوق، وتعدد متعها العقلية. وأقام المنصور في الطرف المقابل لهذا القصر من المدينة قصراً آخر يضارعه (978) سمي بالزاهرة أحاطت به هو الآخر على مر الزمن ضاحية من قصور العظماء، وبيوت الخدم، والمغنين والعازفين، والشعراء، والخليلات. وقد حُرق القصران في أثناء الثورة التي تأجج لهيبها في عام 1010. وكان الناس في العادة يتغاضون عن ترف الأمراء إذا ما أقام هؤلاء بيوتاً لله تفوق قصورهم في الفخامة والسعة وكان الرومان قد شادوا في قرطبة هيكلاً ليانوس Jauns، أنشأ المسيحيون بدلاً منه كنيسة كبرى؛ فلما تولى الخلافة عبد الرحمن الأول ابتاع من المسيحيين أرض الكنيسة، وهدمها وشاد في مكانها المسجد الأزرق، ولما عادت أسبانيا إلى حكم المسيحيين حولوا المسجد إلى كنيسة في عام 1238؛ وهكذا تتغير مقاييس التقى، والصدق، والجمال تبعاً لتقلبات الحظ في الحروب. وجعل عبد الرحمن هذا المشروع سلوته في سنيه الكدرة، فغادر بيته الريفي إلى قصره في المدينة ليشرف على العمل بنفسهِ، وكان يأمل أن يطول عمره حتى يؤم المصلين في المسجد الفخم الجديد شكراً لله على توفيقهِ. ولكنه توفي في عام 788، بعد عامين من وضع الأساس، وواصل ابنه هشام عمل أبيه، وظل الخلفاء مدى قرنين كاملين يضيف كل منهم جزءاً جديداً للمسجد حتى كانت سعته في أيام المنصور 472 قدماً في 742. وكان يحيط به سور منيع من الآجر والحجر ذو أبراج على أبعاد غير منتظمة، وكانت له مأذنة ضخمة تفوق في حجمها وجمالها كل مآذن تلك الأيام، حتى عدت هي الأخرى من "عجائب الدنيا" التي لا يحصى لها عدد(64). وكان للمسجد تسعة عشر باباً تحيط بها عقود على شكل حذاء الفرس، نقشت عليها في الحجر ببراعة فائقة زخارف مكونة من أزهار وأشكال هندسية. وكانت هذه الأبواب تؤدي إلى مكان الوضوء الفسيح الذي يسمى الآن بهو البرتقال (Patio de los Naanjos). وفي هذا البهو الرباعي الشكل، المرصوفة أرضه بالقرميد الملون كانت أربع فساق نحتت كل منها من كتلة واحدة من المرمر الأصم بلغ من ضخامتها أن تطلب نقلها من المقلع إلى مكانها في المسجد سبعين ثوراً. وكان المسجد نفسه يحتوي على أجمة من 1290 عموداً تقسم داخله إلى أحد عشر إيواناً وواحد وعشرين دهليزاً. وكانت تخرج من تيجان الأعمدة عقود مختلفة الأنواع-بعضها نصف دائري، وبعضها مستدق، وبعضها على شكل حذاء الفرس، ولمعظمها أوتاد من الحجر حمراء أو بيضاء بالتناوب. وكانت العمد من حجر اليشب والحجر السماقي، والمرمر، والرخام، انتزعت من خرائب الرومان والقوط الغربيين في أسبانيا، وكانت لكثرة عددها تحير الناظر وتوحي إليه بأن المسجد لا ينتهي عند حد. وقد نقشت على السقف الخشبي آيات من القرآن (الكريم) وزخارف أخرى داخل إطارات، وعلق فيه مائتا ثريا تحمل سبعة آلاف قنديل من الزيت المعطر تستمده من خزانات مصنوعة من نواقيس مسيحية مقلوبة معلقة هي الأخرى من السقف. أما الأرض والجدار فقد زينت بالفسيفساء، بعضها من الزجاج المطلي بالميناء، الملون عند صنعه بكثير من الألوان الزاهية، وكثيراً ما كانت تحتوي على قطع من الفضة والذهب. ولا تزال هذه الزينات بعد ألف عام من وضعها تتلألأ كالجواهر في جدران الكنيسة. وقد جعل قسم من المسجد مزاراً مقدساً، ورصفت أرضه بالفضة وقطع القاشاني المطلية بالميناء، تحرسه أبواب مزدانة ومطعمة بالفسيفساء؛ وقامت عليه ثلاث قباب، وأحيط بساتر من الخشب محلاة بأبدع النقوش. وفي داخل هذا الموضع المنفصل أقيم المحراب والمنبر اللذان أفرغ عليهما الفنان كل ما وهب من حذق وإبداع. وكان المحراب نفسه تجويفاً سباعي الأضلاع محاطاً بالذهب ومزداناً بالفسيفساء المطلية بالميناء، ومزخرفاً بقطع صغيرة من الرخام وبنقوش من الذهب على أرضية قرمزية وزرقاء، يعلوه رباط من الأعمدة الرفيعة الرشيقة، والعقود المزدانة بأزهار الكُرَة لا يفوقها في الجمال شيء مما أبدع الفن القوطي. وكان المنبر يعد أجمل منابر العالم طُراً؛ وكان يؤلف من 37.000 قطعة صغيرة من العاج والأخشاب الثمينة-كالأبنوس، والأترج، وعود الند، والصندل الأحمر والأصفر، مثبتة كلها بمسامير من الذهب والفضة، ومطعمة بالجواهر. وكان على هذا المنبر صندوق مطعم بالجواهر عليه غطاء من الحرير القرمزي المطرز بخيوط من الذهب يحمل مصحفاً بخط الخليفة عثمان بن عفان، ومخضباً بدمه الذي جرى عليه عند مقتله. ويبدو لنا نحن الذين نفضل أن نزين دور تمثيلنا بالمعادن الذهبية وبالنحاس بدل أن نحلي كنائسنا بالجواهر والذهب، يبدو لنا أن في زخرفة المسجد الأزرق إسرافاً كبيراً، وأن جدرانه قد غطيت بطبقة من دماء الأجيال المستغلة؛ وأن الأعمدة فيه كثيرة مربكة، وأن العقد الذي على صوره حذاء الفرس ضعيف من الناحية المعمارية تنفر منه حاسة الجمال كما تنفر من منظر الرجل البدين ذي الساقين الفحجاوين . ذلك حكمنا أما غيرنا فكان حكمه يناقض هذا الحكم؛ فالمقري (1591-1632) يرى أن هذا المسجد لا يدانيه مسجد آخر في سعته، أو جمال تخطيطه، أو نظام زخرفته الذي يشهد للقائمين به بحسن الذوق وبما يدل عليه من قوة وعظمة(65)، ولا يزال البناء حتى في شكله المسيحي المصغر يعد "بالإجماع أجمل المساجد الإسلامية في العالم كله"(66).

وكان من الأقوال المتداولة في بلاد الأندلس الإسلامية أنه "إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها" وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية" . ذلك أن قرطبة كانت في القرن العاشر مركز الحياة الذهنية الأسبانية ذروتها، وإن اشتركت معها طليطلة، وغرناطة، وإشبيلية فيما وصل إليه ذلك العصر من رقي عقلي عظيم. ويصور المؤرخون المسلمون المدن الأندلسية تموج بالشعراء وجهابذة العلماء في العلوم الطبيعية، والأدبية، وكبار المشترعين، والأطباء؛ ويملأ المقري بأسمائهم ستين صحيفة(68). وكانت المدارس الابتدائية كثيرة العدد، ولكنها كانت تتقاضى أجوراً نظير التعليم، ثم أضاف الحكم إليها سبعاً وعشرين مدرسة لتعليم أبناء الفقراء بالمجان. وكانت البنات يذهبن إلى المدارس كالأولاد سواء بسواء، ونبغ عدد من النساء المسلمات في الأدب والفن(69)، وكان التعليم العالي يقوم به أساتذة مستقلون يلقون محاضراتهم في المساجد، وكانت المناهج التي يدرسونها هي التي كونت جامعة قرطبة ذات النظام المفكك، والتي لم يكن يفوقها في القرنين العاشر والحادي عشر إلا جامعتا القاهرة وبغداد الشبيهتان بها. وأنشأت الكليات أيضاً في غرناطة، وطليطلة، وإشبيلية، ومرسية، والمرية وبلنسية، وقادس(70).

وأدخلت صناعة الورق من بغداد فازداد حجم الكتب وتضاعف عددها، حتى كان في الأندلس الإسلامية سبعون مكتبة عامة،وكان الأغنياء يتباهون بكتبهم المجلدة بالجلد القرطبي، ومحبو الكتب يجمعون النادر المزخرف منها. ومن ذلك أن الحضرمي أحد العلماء رأى في مزاد بقرطبة رجلاً آخر لا يفتأ ينافسه فيزيد من ثمن كتاب يرغب فيه حتى فاق الثمن كثيراً قيمة الكتاب، ولما سئل المزايد الذي اقتناه في ذلك قال إن في مكتبته الخاصة موضعاً خالياً يسع هذا الكتاب بالدقة. ويضيف فاغتاظ العالم من هذا القول أشد الاغتياظ ولم يسعه إلا أن يقول: "نعم لا يكون الرزق كثيراً إلا عند مثلك، ويعطى الجوز من لا أسنان له" . وكانت للعلماء في الأندلس منزلة رفيعة وشهرة واسعة، يعظمهم الناس ويهابونهم، ويستثيرونهم في شئونهم، ويعتقدون أن لا فرق مطلقاً بين العلم والحكمة. وكان علماء الدين والنحاة يعدون بالمئات؛ أما الخطباء، وفقهاء اللغة، وأصحاب المعاجم، والموسوعات، ودواوين الشعر، والمؤرخون، وكتاب السير فلم يكن يحصى عددهم. وكان أبو محمد علي بن حزم (994-1064) من جهابذة علماء الدين والمؤرخين، كما كان وزيراً لآخر الخلفاء الأمويين ويعد كتابه المعروف بـ"كتاب الملل والنحل" الذي يتكلم فيه على اليهودية، والزرادشتية، والمسيحية، والفرق الإسلامية المختلفة من أقدم ما كتبه الأقدمون في علم الأديان المقارن. وإذا شئنا أن نعرف رأي العالم المسلم فيما كانت عليه المسيحية في العصور الوسطى فحسبنا أن نقرأ الفقرة الآتية من هذا الكتاب:

يجب أن لا تثير أوهام بني الإنسان عجباً، فإن أكثر الأمم عدداً، وأعظمها حضارة تستحوذ على عقول أبنائها هذه الأوهام...فالمسيحيون من الكثرة بحيث لا يحصي عددهم إلا الله وحده. وبوسعهم أن يباهوا بمن فيهم من ملوك حكماء وفلاسفة نابهين، ولكنهم مع هذا يقولون. إن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن أحد هؤلاء الثلاثة الأب والثاني الابن، وإن الإنسان إله وليس إلهاً، وإن المسيح قديم وجود من الأزل، ومع ذلك فهو مخلوق، ومنهم فرقة تسمى اليعاقبة، تبلغ عدتها مئات الآلاف تعتقد أن الخالق مات وصلب وقتل، وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر، والفلك بلا مدبر(72).

وكان ابن زم يؤمن بأن كل كلمة وردت في القرآن حق بنصها ومعناها(73). وكان من أشد العوائق في سبيل تقدم العلم والفلسفة في بلاد الأندلس الخوف من أن يؤثرا في إيمان العامة، ولكن الأندلس تستطيع أن تفخر بكثير من الفلاسفة والعلماء. فمن هؤلاء مسلمة بن أحمد (المتوفى في عام 1007) والذي عدل أزياج الخوارزمي الفلكية لتلائم أسبانيا، ومن الكتب التي تعزى إليه، وإن لم يثبت أنه له بصورة قاطعة، كتاب يصف إحدى التجارب الكثيرة التي حولت الكيمياء الكاذبة إلى كيمياء صحيحة-وهي التجربة التي استخرجت أكسيد الزئبق من الزئبق. وأصبح اسم إبراهيم الزرقالي (1029-1087) أحد علماء طليطلة من الأسماء العالمية، لأنه حسن الآلات الفلكية؛ وينقل كوبرنيق فقرات من رسالته عن الاسطرلاب، وكانت أزياجه الفلكية خير الأزياج كلها في زمانه، وقد استطاع بها أن يثبت لأول مرة في التاريخ حركة الأوج الشمسي بالنسبة للنجوم. وكانت "أزياج طليطلة" المحددة لحركات الكواكب تستخدم في كافة أنحاء أوربا؛ وكان لأبي قاسم الزهراوي (936-1013) طبيب عبد الرحمن الثالث منزلة رفيعة في العالم المسيحي، ويعرف فيه باسم أبو الكاسس Abulcasis؛ وهو حامل لواء الجراحين المسلمين، وتحتوي موسوعته الطبية المسماة "التصريف" ثلاثة كتب في الجراحة أصبحت بعد أن ترجمت إلى اللغة اللاتينية المرجع الأعلى في الجراحة قروناً كثيرة. وكانت قرطبة في ذلك الوقت المدينة التي يلجأ إليها الأوربيون لتجرى لهم الجراحات. وكانت تحتوي، كما تحتوي كل مدينة متمدينة، على بعض المتطببين الدجالين، والأطباء الذين ابتلوا بجنون الثروة؛ ومن هؤلاء رجل يسمى الحراني أعلن على دواء يشفى الاضطراب المعوية، وكان يبيع الزجاجة من للسذج من ذوي المال بخمسين ديناراً (237.5 يال أمريكي).

ويقول المقري: "وسنمسك عن ذكر الشعراء الذين ظهروا في أيام هشام الثاني والمنصور لأن عددهم كان أكثر من رمال البحر"(75). وكان من بينهم الأميرة الولادة (المتوفاة في عام 1078)؛ والتي كان بيتها في قرطبة ندوة حقة شبيهة بندوات عهد الاستنارة في فرنسا: فكان يلتف حولها الظرفاء، والعلماء، والشعراء؛ وقد أحبت عدداً كبيراً منهم، وكتبت عن عشاقها بحرية لو سمعت بها السيدة ريكمييه Mm R(camisr لارتاعت لها. ولقد بزتها صديقتها مهجة القرطبية في جمال الجسم وخلاعة الشعر وكاد كل إنسان في الأندلس وقتئذ أن يكون شاعراً، يتطارح الشعر المرتجل مع غيره لأي سبب. وكان الخليفة نفسه يشترك في هذه المطارحات الشعرية، وقلما كان يود في البلاد أمير مسلم ليس في بلاطه شاعر يكرم ويُخصص له راتب. وقد أدت هذه الرعاية الملكية إلى الشر كما أدت إلى الخير. ذلك أن ما وصلنا من شعر ذلك العصر كثيراً ما يبدوا فيه التكلف والصناعة اللفظية، والمحسنات، وهو مثقل بالتشبيهات والاستعارات مفعم بالعبارات الدالة على الكبرياء والغرور. أما موضوعه فهو الحب الشهواني والعذري، وقد استبق الشعراء في أسبانيا وفي الشرق الإسلامي أساليب شعراء الغزل في عه الفروسية Toubadors، وطرقهم وفلسفتهم(76). وسنختار من هذا العدد الجم نماً واحداً لامعاً هو سعيد ابن جودي ابن صاحب الشرطة بقرطبة . كان سعيد جندياً مقداماً كثير العشق، يتصف بجميع الصفات التي تجعله في نظر المسلمين سميذعاً أي سيداً كاملاً بحق: فقد كان سخياً، شجاعاً، فارساً بارعاً، بهي الطلعة، فصيح اللسان، شاعراً ممتازاً، قوي الجسم، يجيد فنون المصارعة والمثاقفة بالسيف، والرمح، والرمي بالقوس(77). ولم يكن يدري قي أي وقت من الأوقات أيهما احب إليه-الحب أو الحرب. وكان يتأثر بلمس المرأة مهما ضعف، ولذلك افتتن بكثيرات من النساء كان حب كل واحدة منهن يبشر بحب دائم لا ينقطع. وكان حبه كحب شعراء عهد الفروسية الشعراء الجوالين الغزالين أشد ما يكون حين تندر رؤية الحبيب. وكانت أعظم قصائده الغزلية قصيدة ووجهها إلى جيجان التي لم ير منها إلا يدها الصغيرة الناصعة البياض. وكان أبقورياً صريحاً يشعر بأن على رجال الأخلاق يقع عبء البرهنة على أن السعادة ليست هي اللذة. ومن أقواله في هذا المعنى:


لا شيء أملح..... ومن مناقلة كأساً على طبقِ



ومن مواصلة من بعد معتبة ومن مراسلة الأحباب بالحدقِ



جريت جري جموحٍ في الصبا طلقا وما خرجت لصرف الدهر عن طلقي



ولا انثنيت لداعي الموت يوم دعا ولا انثنيت وحبل الحب في عنقي


وكان زملاؤه في الجندية يغضبون منه أحياناً لأنه يغوي أزواجهم، وقد قبض عليه في يوم ما أحد الضباط في بيته وقتله (897). وقد لقي شاعر أعظم منه وأنبل خاتمة خيراً من هذه وأعظم منها بطولة، ذلك هو المعتمد أمير إشبيلية. وكان كغيره من الملوك الصغار في بلاد الأندلس بعد تفرقها قد ظل عدة سنين يؤدي الجزية إلى ألفنسو السادس (الأذفنش) ملك قشتالة يشتري بها عدم اعتداء المسيحية على الإسلام. ولكن الرشا تترك على الدوام بقية منها يؤديها الراشي متى طُلب إليه الأداء. وأستخدم ألفنسو المال الذي يأتيه من ضحيته في الانقضاض على طليطلة في عام 1085؛ أيقن المعتمد أن إشبيلية ستكون الفريسة الثانية. وكانت دويلات الأندلس وقتئذ قد أنهكتها حرب الطبقات وحروبها فيما بينها إلى حد عجزت معه عن مقاومة عدوها المشترك مقاومة مجدية؛ ولكن أسرة إسلامية جديدة قامت وقتئذ على الجانب الآخر من البحر المتوسط هي أسرة المرابطين وقد (أشتق اسمها من اسم أحد الأولياء الصالحين في الشمال الغربي من إفريقية). وكان الأساس الذي قامت عليه دولة المرابطين هو الاستمساك الشديد بالدين، ولم يكد يبقى فيها رجل غير جندي من جنود الله، ولم تجد جيوشها صعوبة في الاستيلاء على مراكش بأجمعها. وتلقى في ذلك الوقت مليكها يوسف بن تاشفين-وهو رجل يتصف بالشجاعة والدهاء-دعوة من أمراء الأندلس يستنجدون به من وحش قشتالة المسيحي الضاري. فعبر يوسف بجيشه مضيق جبل طارق، وتلقى المد من مالقة، وغرناطة، وإشبيلية، والتقى بجيش ألفنسو عند الزلاقة القريبة من بطليوس (1086). (بدجوز Badaioz). وبعث ألفنسو برسالة رقيقة إلى يوسف يقول فيها: "إن غداً (الجمعة) يوم عيد عندكم، ويوم الأحد عيد عندنا، ولهذا فإني أقترح أن تدور المعركة في يوم السبت". ووافق يوسف على هذا الاقتراح ولكن ألفنسو هجم على المسلمين في يوم الجمعة. وأظهر يوسف والمعتمد في الحرب كثيراً من ضروب البسالة، وأحتفل المسلمون بعيدهم بقتل عدد كبير من المسيحيين، ولم ينج ألفنسو وخمسمائة من رجاله من الموت إلا بشق الأنفس. ودهشت أسبانيا حين عاد يوسف إلى إفريقية دون أن يغنم شيئاً..

ولكنه عاد بعد أربع سنين. وكان سبب رجوعه أن المعتمد ألح عليه بأن يقضي على قوة ألفنسو الذي كان يحشد الجيوش ليهاجم المسلمين من جديد. والتقى يوسف بالمسيحيين في مواقع غير حاسمة، وبسط سلطانه على بلاد الأندلس الإسلامية. ورحب به الفقراء لأن من طبعهم على الدوام أن يفضلوا السيد الجديد على القديم، وعارضته الطبقات المتعلمة لأنه في نظرهم يمثل الرجعية الدينية، وابتهج رجال الدين بمقدمه. واستولى يوسف على غرناطة من غير مقاومة، وأكتسب محبة أهلها بإلغاء جميع الضرائب التي لا ينص عليها القرآن (1090). وعقد المعتمد وغيره من الأمراء فيما بينهم حلفاً لمقاومته، كما عقدوا حلفاً مقدساً! مع ألفنسو. وحاصر يوسف قرطبة وأسلمها إليه أهلها، ثم حاصر إشبيلية ودافع عنها المعتمد دفاع الأبطال، ورأى بعينيه ولده يقتل في الدفاع عنها، فحزن لموته حزناً هد ركنه واستسلم للمحاصرين ، ولم يحل عام 1091 حتى سقطت جميع الأندلس ماعدا سرقطة في يد يوسف بن تاشفين، وأصبحت أسبانيا الإسلامية ولاية تابعة لإفريقية.

وسيق المعتمد أسير حرب إلى طنجة، وتلقى وهو فيها رسالة من أحد شعرائها وهو الحصري حَوت أبياتاً من الشعر يثني فيها عليه ويسأله العطاء. ولم يكن الأمير المغلوب على أمره يملك من متاع الدنيا في ذلك الوقت أكثر من خمسة وثلاثين ديناراً بعث بها إلى الحصري وأعتذر له عن قلتها . ثم نقل المعتمد إلى أغمات القريبة من مدينة مراكش وعاش فيها بعض الوقت مكبلاً بالأغلال، فقيراً معدماً، ولم ينقطع عن قول الشعر حتى مماته (1095). ومن قصائده قصيدة خليقة بأن تنقش على قبره:


أرى الدنيا الدنية لا تواتى فأجمل في التصرف والطلاب



ولا يغررك منها حسن برد له علمان من ذهب الذهاب



فأولها رجاء من سرابٍ وآخرها رداء من تراب .