قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 2 ب 12

صفحة رقم : 4597

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التعليم


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثاني عشر: الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية 632-1058

الفصل الأوَّل: التعليم

تدل الأحاديث النبوية على أن النبي كان يحث على طلب العلم ويعجب بهِ، فهو من هذهِ الناحية يختلف عن معظم المصلحين الدينيين فيقول: "مَن سلك طريقاً يطلب علماً سهل الله لهُ طريقاً إلى الجنة" "يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء"(1). ولقد كان اتصال العرب بالثقافة اليونانية في بلاد الشام مما أيقظ فيهم روح المنافسة العلمية القوية لليونان، ولم يمضِ إلا زمناً قليل حتى أصبح العالم والشاعر من أصحاب المكانة العليا في الإسلام.

وكان تعليم الأطفال يبدأ منذ اقتدارهم على الكلام. فكانوا من هذه اللحظة يعلمون النطق بالشهادتين " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فإذا بلغ الأطفال السادسة من العمر ألحق بعض أبناء الأرقاء، وبعض البنات، وجميع الأولاد، عدا أبناء الأغنياء (الذين كانوا لهم مدرسون خصوصيون) بمدرسة أولية ملحقة في العادة بأحد المساجد، وفي بعض الأحيان بجوار عين ماء عامة في الخلاء. وكان التعليم في هذه المدارس عادة بالمجان، فإن لم يكن فقد كان أجره تافهاً يستطيع أداءه جميع الناس، فقد كان المعلم يتناول من والد الطفل ما لا يزيد على مليمين في الأسبوع، أما باقي النفقات فكان يؤديها المحسنون الخيرون. وكان منهاج التعليم من هذا النوع في المدارس غاية في البساطة يشمل ما يكفي لأداء الصلاة، ويمكن الطفل من قراءة القرآن، ثم حفظ القرآن نفسه ومعرفة ما فيه من أحكام الدين، والقصص، ومبادئ الأخلاق، والشريعة الإسلامية. وتركت الكتابة والحساب للتعليم الأعلى من هذه الدرجة، وربما كان سبب ترك الكتابة أنها في الشرق فن يحتاج إلى تدريب خاص، فضلاً عن أن الكتبة، كما يقول المسلمون، يستطيع كل من يطلبهم أن يجدهم(3) وكان جزء صغير من القرآن يحفظ كل يوم عن ظهر قلب، ثم يتلى بصوتٍ عالٍ، وكان الهدف الذي يبغيه كل متعلم أن يحفظ القرآن كله عن ظهر قلب؛ والذين يصلون إلى هذا الهدف يُسَمّونَ بالحفّاظ وتكون لهم في البلاد مكانة عالية. وكان من يتعلم الكتابة؛ والرمي بالقوس، والسباحة هو عندهم "الرجل الكامل". وكانت طريقة التعليم هي المذاكرة، وأداته هي العصا، وكان العقاب المعتاد هو الضرب بعصا من جريد على باطن القدم. ومن أقوال هارون الرشيد لمعلم ولده الأمين:"ولا تمر بكَ ساعة إلا وأنتَ مغتنم فائدة تفيده إياه من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه: وقوَّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإذا أباهما فعليك بالشدة والغلظة"(4).

وكان التعليم الأولي يهدف إلى تقوين الأخلاق، والثانوي إلى معرفة العلم. وكان المعلم يجلس مستنداً إلى عمود أو جدار في مسجد، ويلقي دروساً في التفسير والحديث، والفقه، والشريعة. وحدث في وقت غير معروف أن وضعت الحكومة هذه "المدارس الثانوية" تحت إشرافها وتكلفت بالإنفاق عليها. وأضيف إلى المنهاج الديني الأساسي علم النحو، وفقه اللغة، والبلاغة، والأدب، والمنطق، والعلوم الرياضية، والفلك. وكان علم النحو يلقى اهتماماً خاصاً لأن اللغة العربية كانت تعد أقرب اللغات إلى الكمال، وكان استعمالها صحيحة أهم ما يمتاز به الرجل المثقف المهذب. وكان التعليم في هذه المدارس بالمجان. وكان المعلمون والطلاب يتناولون مرتباتهم ونفقاتهم في بعض الأحيان من الحكومة أو من أموال البر والصدقات(5) وكان شأن المعلم في هذه المدارس أعلى من شأن النصوص التي يعلمها ما عدا نصوص القرآن، فكان التلاميذ يدرسون الناس أكثر مما يدرسون الكتب، وكان الطلاب يجوبون أطراف البلاد الإسلامية ليقابلوا معلماً مشهوراً. وكان على كل طالب علم يريد أن تعلو مكانته في بلده أن يسافر إلى مكة، أو بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، ليستمع في واحدة منها أو أكثر من واحدة إلى كبار العلماء. وكان من الأسباب التي يسرت انتشار الأدب العربي في بلاد الإسلام المختلفة وجعلته أدباً دولياً واحداً أن لغة التعليم والأدب في جميع البلاد الإسلامية-مهما اختلفت أجناس أهلها-هي اللغة العربية، التي بلغت من سعة الانتشار ما لم تبلغه اللغة اليونانية. فلم يكن الزائر إذا دخل مدينة في أي بلد من بلاد الإسلام يخالجه شك في أنه يستطيع الاستماع إلى محاضرة علمية في مسجد المدينة الأكبر في أية ساعة من ساعات النهار تقريباً. وكان الطالب الجائل في كثير من الأحيان يجد في المدرسة المأوى والطعام مدة من الزمان، فضلاً عن التعليم المجاني(6). ولم تكن المدرسة تمنح درجات علمية، وكل ما كان يبتغيه الطالب أن يحصل على شهادة فردية من الأستاذ الذي حضر عليه تثبت كفايته فيما درسه. وكان الهدف الأعلى للطالب هو تحصيل الأدب بأوسع معانيه-العادات الحسنة، وسمو الذوق؛ وسرعة البديهة، والكياسة والظرف، والمعارف السهلة التي تكون في مجموعها صفات الرجل الكامل المهذب.

ولما فتح المسلمون سمرقند (712) أخذوا عن المسيحيين صناعة استخراج عجينة من الكتان وغيرها من النباتات ذات الألياف، ثم تجفيف هذه العجينة بعد صنعها رقائق رفيعة. ودخلت هذه الصناعة في بلاد الشرق الأدنى واستعملت فيه بدل رقائق الجلد في وقت لم يكن نبات البردي قد نسي فيه بعد. وافتتح أول مصنع للورق في بلاد الإسلام في بغداد عام 794 على يد الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد. ونقل العرب هذه الصناعة إلى صقلية وأسبانيا ومنهما انتقلت إلى إيطاليا وفرنسا. وقبل هذا نجد الورق مستخدماً في بلاد الصين منذ عام 105م، ثم نجده في مكة سنة 707، وفي مصر سنة 800، وفي أسبانيا سنة 950، وفي القسطنطينية سنة 1100، وفي صقلية سنة 1102، وفي إيطاليا سنة 1154، وفي ألمانيا سنة 1228، وفي إنجلترا سنة 1309(7). ويسّرَ هذا الاختراع تأليف الكتب في كل بلد انتقل إليه، ويقول اليعقوبي إنه كان في بغداد على أيامه (891) أكثر من مائة بائع للكتب، كانت حوانيتهم تستخدم، فضلاً عن بيع الكتب، لنسخها، وكتابة الخط المزخرف، كما كانت ندوات أدبية. وكان كثير من الطلاب يحصلون على أرزاقهم بنسخ المخطوطات، وبيعها لتجار الكتب، ونسمع في القرن العاشر الميلادي عن أناس يجمعون توقيعات العظماء وخطوطهم، وعن غواة للكتب يسعون لجمعها ويعرضون أثماناً عالية للمخطوطات النادرة(8). ولم يكن المؤلفون يحصلون على شيء من كتبهم؛ وكانوا يعتمدون في معاشهم على وسائل للرزق أثبت من هذه وأقوى أساساً، أو على هبات الأمراء أو الأثرياء. ذلك أن الأدب والفن كان يُقصد بهما إشباع ذوق طبقة الأشراف من ذوي المال أو الحسب والنسب.

وكانت في معظم المساجد مكتبات، كما كان في معظم المدن دور عامة للكتب تضم عدداً كبيراً منها، وكانت مفتحة الأبواب لطلاب العلم. وكان في مدينة الموصل عام 950 مكتبة عامة أنشأها بعض المحسنين، يجد فيها من يؤمونها حاجتهم من الكتب والورق، وبلغت فهارس الكتب التي اشتملت عليها مكتبة الري العامة عشر مجلدات. وكانت مكتبة البصرة تعطي رواتب وإعانات لمن يشتغلون فيها من الطلاب، وقضى ياقوت الجغرافي في مكتبتي مرو وخوارزم ثلاث سنين يجمع المعلومات التي يتطلبها كتابة معجم البلدان. ولما أن دمر المغول بغداد كان فيها ست وثلاثون مكتبة عامة(9)، فضلاً عن عدد لا يحصى من المكتبات الخاصة، ذلك أنه كان من العادات المألوفة عند الأغنياء أن يقتني الواحد منهم مجموعة كبيرة من الكتب. ودعا سلطان بخارى طبيباً مشهوراً ليقيم في بلاطه فأبى محتجاً بأنه يحتاج إلى أربعمائة جمل لينقل عليها كتبه(10). ولما مات الواقدي ترك وراءه ستمائة صندوق مملوءة بالكتب، يحتاج كل صندوق منها رجلين لينقلاه. "وكان عند بعض الأمراء كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما في دور الكتب الأوربية مجتمعة"(12). ولم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد آخر من بلاد العالم-اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منج هوانج-ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر. ففي هذه القرون الأربعة بلغ الإسلام ذروة حياته الثقافية. ولم يكن العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند يقلون عن عدد ما فيها من الأعمدة، وكانت إيواناتها تردد أصداء علمهم وفصاحتهم، وكانت طرقات الدولة لا تخلو من الجغرافيين، والمؤرخين، وعلماء الدين، يسعون كلهم إلى طلب العلم والحكمة؛ وكان بلاط مئات الأمراء يرددون أصداء قصائد الشعراء والمناقشات الفلسفية، ولم يكن أحد يجرؤ على جمع المال دون أن يعين بماله الآداب والفنون. وسرعان ما استوعب العرب ذوو البديهة الوقادة ثقافة الأمم التي فتحوا بلادها، وبلغ من تسامح المغلوبين أن أصبحت منهم الكثرة الغالبة من الشعراء، والعلماء، والفلاسفة الذين جعلوا اللغة العربية أغنى لغات العالم في العلوم والآداب. وإن كان العرب الأصليون أقلية صغيرة بين هؤلاء الفلاسفة، والعلماء، والشعراء.

وقد قوى علماء الإسلام في ذلك العهد دعائم الأدب العربي الممتاز بدراساتهم الواسعة للنحو الذي جعل اللغة العربية لغة النطق والقياس، وبما وضعوه من المعاجم التي جمعوا فيها ثروة هذه اللغة من المفردات في دقة ونظام، وبموسوعاتهم ومختصراتهم، وكتبهم الجامعة، والتي جمعت كثيراً من أشتات الآداب والعلوم لولاها لخسرها العالم، وبمؤلفاتهم في النصوص، والأدب، والنقد التاريخي. ولا حاجة بنا إلى ذكر أسماء هؤلاء العلماء الأعلام، وحسبنا أن نعترف بفضلهم ونمجد أعمالهم.

وأكثر من تحتفظ الذاكرة بأسمائهم من بين أولئك العلماء هم المؤرخون، لأننا مدينون لهم بما نعرفه عن تلك الحضارة التي لولاها لظلت غامضة غموض حضارة مصر الفرعونية قبل شمبليون. ومن هؤلاء المؤرخين محمد ابن إسحق (المتوفى عام 767) كاتب سيرة النبي؛ وقد راجعها وزاد عليها ابن هشام (763) فكانت أقدم كتاب عربي منثور ذا شأن عظيم وصل إلى أيدينا-إذا استثنينا من ذلك القرآن (الكريم) نفسه. وقد كتب العلماء الباحثون المجدون كتباً جامعة في سيرة الأولياء الصالحين، والفلاسفة، والوزراء، والمشترعين، والأطباء، والخطاطين، وكبار الحكام، والعشاق، والعلماء. وكان ابن قتيبة أحد علماء الإسلام الكثيرين الذين حاولوا كتابة تاريخ العالم، ولقد بلغ من الشجاعة درجة أوحت إليه أن يجعل نصيب الدين الذي ينتمي إليه لا يشغل من الكتاب إلا ذلك الحيز المتواضع الذي يجب ألا يزيد عليه تاريخ أية أمة أو أي دين في كتاب تاريخ جماع لأحداث الدهر الكثيرة. واخرج محمد بن النديم عام 987كتابه "فهرست العلوم" أرخ فيه لكل كتاب ظهر في اللغة العربية، مؤلفاً كان أو مترجماً، في كل فرع من فروع العلم، وأضاف إلى أسماء الكتب ترجمة نقدية لمؤلفيها، ذكر فيها فضائل كل مؤلف وعيوبهَُ. وفي وسع القارئ أن يحكم على ثراء الأدب الإسلامي أيامه إذا عرف أ، الكتب التي ذكرها-على ما نعلم-لم يبقَ منها الآن واحد في الألف(13).

وشبيه بليفي في الغرب أبو جعفر محمد الطبري (838-923) عند المسلمين(14). وكان أبو جعفر من أصل فارسي كما كان كثيرون من المؤلفين المسلمين، ولد في طبارستان الواقعة في جنوب بحر قزوين. وبعد أن ظل عدة سنين يطوف في بلاد العرب والشام ومصر، كما يطوف الفقراء من العلماء من أهل زمانه، استقر في بغداد واشتغل بالفضاء. ووهب أربعين عاماً من حياته لكتابة تاريخ عام سماه كتاب أخبار الأمم والملوك قص فيه تاريخ العالم من بدأ الخليقة إلى عام 913. والجزء الباقي إلى الآن من هذا الكتاب يشمل خمسة عشر مجلداً كبيراً، ويقول المؤرخون أن ما فقد منه يبلغ عشرة أمثال هذا الجزء الباقي. ويرى الطبري، كما يرى بوسويه Boussuet، يد الله في كل حادثة تقع في العالم، وقد ملأ الفصول الأولى من كتابه بعبارات تشهد له بالتقوى ولكنها خالية من المعنى كقولهِ "في امتحان الله تعالى أبانا آدم عليه السلام وابتلائه إياه بما امتحنه به من طاعته" وبأن الله أنزل على الأرض بيتاً مشيداً من الياقوت ليسكنه آدم، فلما أن عصى آدم ربه عاد فرفعه عن الأرض(16). ونهج الطبري نهج التوراة فيما كتبه عن تاريخ اليهود، وقال إن مريم العذراء ولدت المسيح (وإنها حملت به لأن جبريل نفخ في كمها)(17). وختم الجزء الأول من كتابه بصعود المسيح إلى السماء. أما الجزء الثاني فهو أقرب إلى العقل من الجزء الأول، وفيه يقص تاريخ فارس في عهد الساسانيين قصصاً مقبولا حياً، ذا روعة في بعض المواضع. ويتبع في طريقة إيراد الحوادث مرتبة حسب تواريخ وقوعها عاماً بعد عام، وهي في العادة مصنفة منقولة من راوٍ عن راوٍ قبله حتى يصل بها إلى من شاهدها بعينه، أو وقعت في أيامهِ. وفضل هذه الطريقة أنها تعنى بذكر المصادر؛ ولكن الطبري لا يحاول تنسيق الروايات المختلفة ليكون منها قصة موحدة متصلة، ولهذا فإن تاريخه يبقي أكداساً من ثمار الجهد المضني لا عملاً من أعمال الفن.

ويرى المسعودي، وهو أعظم من جاء بعد الطبري من المؤرخين، أن الطبري أعظم من سبقه منهم. كان أبو الحسن علي المسعودي من أصل عربي في بغداد، وجاب بلاد سوريا، وفلسطين، وبلاد العرب، وزنجبار، وفارس وأواسط آسية، والهند، وسرنديب (سيلان)، بل يقول هو إنه وصل إلى بحر الصين. وقد جمع ثمار رحلاته هذه في موسوعة تشمل على ثلاثين مجلداً، رآها علماء الإسلام أنفسهم، وهم المعروفون بغزارة مادتهم، أطول مما يطيقون؛ ثم نشر موجزاً لها كان هو الآخر أطول مما يجب، ولعله رأى آخر الأمر أن قراءه لا يجدون من الوقت الذي يصرفونه في القراءة مثل ما يجد هو منه ليصرفه في الكتابة، فاختصر كتابه مرة أخرى إلى الحد الذي نعرفه الآن وسماه بذلك الاسم الغريب "مروج الذهب ومعادن الجوهر". ودرس المسعودي جميع أحوال البلاد الممتدة من الصين إلى فرنسا من النواحي الجغرافية والنباتية، والحيوانية، والتاريخية، كما درس عادات أهلها، وأديانهم، وعلومهم، وفلسفتهم، وآدابهم، فكان في العالم الإسلامي كما كان بلني وهيرودوت في العالم الغربي. ولم يوجز المسعودي في كتابته إلى الحد الذي يجعلها عقيمة جافة، بل كان في بعض الأحيان يتبسط فيها، وينطلق على سجيتهِ، فلا يحاجز نفسه عن أن يروي بين الفينة والفينة قصة ممتعة مسلية. وكان متشككاً في بعض الشيء في الدين، ولكنه لم يفرض قط تشككه على قرائهِ. وقد لخص في آخر سنة من حياتهِ آراءه في العلم، والتاريخ، والفلسفة في كتاب الاستذكار لما مر في سائر الأعمار، وكتاب ذخائر العلوم وما في سائر الدهور. وقد أشار إلى تطور الكائنات من الجماد إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الإنسان(18). ولعل هذه الآراء قد جرته إلى المشاكل مع المحافظين من أهل بغداد، فاضطر على حد قوله إلى مغادرة المدينة التي ولد فيها وشبّ وترعرع، وجاء إلى القاهرة وهو آسف على فراق موطنه. وقال في هذا إن من طبيعة ذلك الزمان أن يفرق الناس جميعاً ويباعد بينهم... وإن الله يبارك للأمم إذا أحب أبناؤها مواطنهم، وإن من أمارات التقى والاستقامة أن يحن الإنسان إلى مسقط رأسهِ، ومن علامات النبل وكرم المحتد أن يبغض الانفصال عن داره وموطنه(19).

ووافته المنية في القاهرة بعد عشر سنين قضاها بعيداً عن بلدهِ.

وخير ما يقال عن هؤلاء المؤرخين أنهم يفوقون غيرهم في اتساع دائرة جهودهم، ونواحي نشاطهم، واهتمامهم، وأنهم يربطون الجغرافية بالتاريخ ربطاً موفقاً صحيحاً، وأنهم لا يفوتهم شيء مما يتصل ببني الإنسان، وأنهم يعلون علواً كبيراً على معاصريهم في العالم المسيحي. ولكنهم مع هذا كله كثيراً يضلون في دياجير السياسة، والحرب، والبلاغة اللفظية؛ وقلما يعنون ببحث العلل الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسانية التي تتحكم في الحوادث، وإن مجلداتهم الضخمة لتعزوها الطريقة البنائية المنتظمة، فلسنا نجد فيها إلا أكداساً من حقائق غير مرتبطة ولا متناسقة-عن الأمم، والحادثات، والشخصيات، وهم لا يرقون إلى مستوى بحث المصادر بحثاً دقيقاً نزيهاً، ولشدة تقواهم وتمسكهم بالدين كانوا يعتمدون اعتماداً كبيراً على الإجماع وتسلسل الروايات تسلسلاً قد تكون مصدره حلقة من حلقاته خاطئة أو مخادعة. ومن أجل هذا تهبط قصتهم في بعض الأحيان إلى مستوى أقاصيص الأطفال، وتمتلئ بالنذر، وأخبار المعجزات، وبالأساطير. وكما أن في وسع كثيرين من المؤرخين المسيحيين (مع استثناء جبن Gibbon على الدوام) أن يكتبوا تاريخ العصور الوسطى، بحيث يجعلون الحضارة الإسلامية كلها ذيلاً موجزاً للحروب الصليبية، كذلك اقتضب كثيرون من المؤرخين المسلمين تاريخ العالم قبل الإسلام فجعلوه كله يدور حول الاستعداد لرسالة النبي محمد. على أننا نعود فنسأل أنفسنا كيف يستطيع العقل الغربي أن يصدر على الشرق حكماً صحيحاً نزيهاً؟ إن اللغة العربية تفقد جمالها في الترجمة كما تفقد الزهرة جمالها إذا انتزعت من شجرتها، وإن الموضوعات التي تمتلئ بها صحائف المؤرخين المسلمين، وهي التي تبدو ذات روعة وجمال لبني أوطانهم، لتبدو مملة خالية من المتعة الطبيعية للقراء من أهل الغرب الذين لم يدركوا حتى الآن أن الصلات الاقتصادية بين الشعوب واعتماد بعضها على بعض يتطلبان أن يدرس كلاهما الآخر ويفهمه حق الفهم.


الفصل الثاني: العلوم

لم يدخر المسلمون في هذه القرون المجيدة من تاريخ الحياة الإسلامية جهداً في العمل على إيجاد هذا التفاهم الذي أشرنا إليه في الفصل السابق. فلقد أدرك الخلفاء تأخر العرب في العلم والفلسفة كما أدركوا ما خلفه اليونان من ثروة علمية غزيرة في بلاد الشام. لقد كان بنو أمية حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية، أو الصابئية، أو الفارسية، قائمة في الإسكندرية، وبيروت، وإنطاكية، وحران، ونصيبين، وغنديسابور لم يمسوها بأذى، وقد احتفظت هذه المدارس بأمهات الكتب في الفلسفة والعلم، معظمها في ترجمة السريانية. واستهوت هذه الكتب المسلمين العارفين باللغتين السريانية واليونانية، وما لبثت أن ظهرت ترجماتها إلى اللغة العربية على أيدي النساطرة المسيحيين أو اليهود. وشجع الأمراء من بني أمية وبني العباس هذه الاستدانة العلمية المثمرة، وأرسل المنصور، والمأمون، والمتوكل الرسل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن الهلنستية-وأرسلوهم في بعض الأحيان إلى أباطرة الروم أعدائهم الأقدمين-يطلبون إليهم أن يمدوهم بالكتب اليونانية، وخاصة كتب الطب أو العلوم الرياضية. وبهذه الطريقة وصل كتاب إقليدس في الهندسة إلى أيدي المسلمين. وأنشأ المأمون في بغداد عام 830 بيت الحكمة وهو مجمع علمي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة، وأنفق في إنشائه مائتي ألف دينار (نحو 950.000 ريال أمريكي). وأقام فيه طائفة من المترجمين وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال. ويقول ابن خلدون(20) إن الإسلام مدين إلى هذا المعهد العلمي باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت بها أرجاؤه والتي تشبه في أسبابها- وهي انتشار التجارة وإعادة كشف كنوز اليونان- وفي نتائجها- وهي ازدهار العلوم والفنون- نقول إنها تشبه في أسبابها ونتائجها النهضة الأوربية التي أعقبت العصور الوسطى.

ودامت هذه الأعمال، أعمال الترجمة المخصبة المثمرة، من عام 750 إلى 900، وفي هذه الفترة عكف المترجمون على نقل أمهات الكتب من السريانية، واليونانية، والفهلوية، والسنسكريتية. وكان على رأس أولئك المترجمون المقيمين في بيت الحكمة طبيب نسطوري هو حنين ابن إسحق (809-873). وقد ترجم وحده-كما يقول هو نفسه-إلى اللغة السريانية مائة رسالة من رسائل جالينوس ومدرسته العلمية، وإلى اللغة العربية تسعاً وثلاثين رسالة أخرى. وبفضل ترجمته هذه نجت بعض مؤلفات جالينوس من الفناء. وترجم حنين فضلاً عن تلك الرسائل السالفة الذكر كتب المقولات (ويذكره العرب باسم قاطيغورياس) والطبيعة، والأخلاق الكبرى لأرسطو،وكتب الجمهورية، وطيماوس، والقوانين لأفلاطون؛ وعهد أبقراط، وكتاب الأقرباذين لديوسقريدس Dioscorides. وكتاب الأربعة لبطليموس، وترجم العهد القديم من الترجمة السبعينية اليونانية. وكاد المأمون أن يفلس بين المال حين كافأ حنين على عملهِ هذا يمثل وزن الكتب التي ترجمها ذهباً. ولما ولي الخلافة المتوكل عينه طبيباً لبلاطهِ، ولكنه زج به سنة في السجن حين أبى أن يركب له دواء يقضي به على حياة عدو له مع أن الخليفة أنذره بالموت إن لم يفعل. وكان ابن إسحق بن حنين يساعد أباه في أعمال الترجمة، ونقل هو إلى اللغة العربية من كتب أرسطو كتب الميتافيزيقا، والنفس، وفي توالد الحيوانات وفسادها كما نقل إليها شروح الإسكندر الأفروديسي، وهو كتاب له أثر كبير في الفلسفة الإسلامية.

ولم يحل عام 850 بعد الميلاد حتى كانت معظم الكتب اليونانية القديمة في علوم الرياضة، والفلك، والطب قد ترجمت إلى اللغة العربية. وعن طريق الترجمة العربية أطلق اسم المجسطي على كتاب بطليموس في الفلك، وبفضل الترجمة العربية دون غيرها بقيت للعالم المقولات 5،6،7 من المخروطات لأبولونيوس البرجاوي Apollonius of Perga وكتاب الحيل لهيرو الإسكندري وكتاب الخصائص الآلية للهواء والغازات لفيلون البيزنطي. ومن أغرب الأشياء أن المسلمين رغم ولعهم الشديد بالشعر والتاريخ قد أغفلوا الشعر اليوناني والمسرحيات اليونانية وكتب التاريخ اليونانية، فقد سار المسلمون في ركاب الفرس في هذه النواحي من النشاط العلمي والأدبي بدل أن يسيروا في ركاب اليونان. وكان من سوء حظ الإسلام والإنسانية عامة أن كتب أفلاطون وأرسطو نفسه لم يصل معظمها إلى أيدي المسلمين إلا في الصورة التي أصبحت عليها أيام الأفلاطونية الحديثة: فقد وصلت إليها كتب أفلاطون كما فسرها بورفيري Porphyry، ووصلت كتب أرسطو ممسوخة في صورة كتاب اللاهوت المعروف عند الإسلاميين بأوثولوجيا أرسطوطاليس، وقد ألفه رجل من أتباع الأفلاطونية الحديثة عاش في القرن الخامس أو السادس، ثم ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية على أنه كتاب أرسطو نفسه. ولم يكد العرب يتركون كتاباً من كتب أرسطو وأفلاطون إلا ترجموه إلى اللغة العربية، وإن كانت هذه التراجم غير دقيقة في كثير من المواضع؛ ولكن العلماء المسلمين حاولوا أن يوفقوا بين الفلسفة اليونانية والقرآن، ولجأوا إلى الشروح التي كتبها رجال الأفلاطونية الحديثة أكثر مما لجأوا إلى كتب الفلاسفة اليونان في صورتها الأصلية. ولهذا لم يصل من كتب أرسطو الحلقة إلى أيدي المسلمين إلا ما كان منها في المنطق وعلم الطبيعة.

وإن انتقال العلوم والفلسفة انتقالاً مستمراً من مصر، والهند، وبابل، عن طريق بلاد اليونان وبيزنطية، إلى بلاد الإسلام في الشرق وفي أسبانيا، ومنها إلى شمالي أوربا وأمريكا، نقول إن هذا الانتقال لمن أجل الحوادث وأعظمها شأناً في تاريخ العالم. لقد كانت علوم اليونان حية في بلاد الشام حين أقبل عليها العرب فاتحين، وإن كانت هذه العلوم قد ضعف شأنها بسبب ما أكتنفها قبلئذ من غموض وما ساد البلاد من فقر وفساد في الحكم. وكان الراهب سفيرس سبخت Severus Sobokht رئيس دير قنسرين إحدى مدن أعالي الفرات يكتب باليونانية رسائل في الفلك، ويذكر لأول مرة الأرقام الهندية في خارج بلاد الهند (662). لقد ورث المسلمون عن اليونان معظم ما ورثوه من علوم الأقدمين، وتأتي الهند في هذا في المرتبة الثانية بعد بلاد اليونان. ففي عام 773 أمر المنصور بترجمة السدهنتا وهي رسائل هندية في علم الفلك يرجع تاريخها إلى عام 425 ق.م. وربما كانت هذه الرسائل هي الوسيلة التي وصلت بها الأرقام "العربية" والصفر من بلاد الهند إلى بلاد الإسلام(21). ففي عام 813 استخدم الخوارزمي الأرقام الهندية في جداوله الرياضية؛ ثم نشر في عام 825 رسالة تعرف في اللاتينية باسم Algoritmi de numero Indorum "أي الخوارزمي عن أرقام الهنود". وما لبث لفظ الجورثم أو الجورسم أن أصبح معناه طريقة حسابية تقوم على العدّية العشرية. وفي عام 976 قال محمد بن أحمد في مفاتيح العلوم إنه إذا لم يظهر في العمليات الحسابية رقم في مكان العشرات وجب أن توضع دائرة صغيرة لمساواة الصفوف(22). وسمى المسلمون هذه الدائرة "صفراً" أي خالية ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية Cipher؛ وحور العلماء اللاتين لفظ صفر Sifr إلى Zephyrum ثم اختصره الطليان إلى Zero.

ويدين علم الجبر، الذي نجد أصوله في مؤلفات ديوفانتوس Diophantus اليوناني من رجال القرن الثالث، باسمه إلى العرب، الذين ارتقوا بهذا العلم الكاشف للخبايا الحلال للمعضلات. وأبرز الشخصيات في هذا الميدان العلمي هي شخصية محمد بن موسى (780-850) المعروف بالخوارزمي نسبة إلى مسقط رأسه في خوارزم (خيوة الحديثة) الواقعة شرقي بحر الخرز؛ وقد كتب الخوارزمي رسائل قيمة في علوم خمسة: كتب عن الأرقام الهندية، وجمع أزياجاً فلكية، ظلت قروناً كثيرة بعد أن روجعت في بلاد الأندلس الإسلامية هي المعمول بها في جميع البلاد الممتدة من قرطبة إلى شنغان في الصين؛ وهو الذي وضع أقدم الجداول المعروفة في حساب المثلثات، واشترك مع تسعة وثلاثين من العلماء في وضع موسوعة جغرافية للخليفة المأمون، وأورد في كتابه حساب الجبر والمقابلة حلولاً تحليلية وهندسية لمعادلات الدرجة الثانية. ولقد ضاع الأصل العربي لهذا الكتاب، لكن جرارد الكريمونائي Gerard of Cremona ترجمة في القرن الثاني عشر، وظلت ترجمته تدرس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر، ومنه أخذ الغرب كلمة الجبر وسموا بها ذلك العلم المعروف. واشتهر ثابت بن قرة (826-901)، فضلاً عما ترجمه من الكتب الكثيرة، بمؤلفاته في الفلك والطب، وأصبح أعظم علماء الهندسة المسلمين وارتقى أبو عبد الله البتاني (850-929) وهو رجل صابئي من الرقة يعرف عند الأوربيين باسم البتجنس Albategnus، بعلم حساب المثلثات إلى أبعد من مبادئه التي كان عليها في أيام هبارخوسن وبطليموس، وذلك حين استبدل المثلثات بالمربعات في حل المسائل، واستبدل جيب الزاوية بالقوس كما كان يفعل هبارخوس. وهو الذي صاغ في حساب المثلثات النسب بالصورة التي نستخدمها الآن في جوهرها.

واستخدم المأمون جماعة من الفلكيين ليرصدوا الأجرام السماوية ويسجلوا نتيجة هذه الأرصاد، وليحققوا كشوف بطليموس الفلكي، ويدرسوا كلف الشمس. واتخذوا كرية الأرض أساساً بدءوا منه بقياس الدرجة الأرضية بأن رصدوا موضع الشمس من تدمر وسنجار في وقت واحد. وتوصلوا من هذا الرصد إلى تقدير الدرجة بستة وخمسين ميلاً وثلثي ميل-وهو تقدير يزيد بنصف ميل على تقديرنا في الوقت الحاضر ومن هذه النتائج قدروا محيط الأرض بما يقرب من عشرين ألف ميل. ولم يكن هؤلاء الفلكيون يقبلون شيئاً إلا بعد أن تثبته الخبرة والتجارب العلمية، وكانوا يسيرون في بحوثهم على قواعد علمية خالصة، وكتب أحدهم -الفرغاني من أهل فرغانة وهي ولاية وراء جيحون (حوالي عام 860)-كتاباً في الفلك ظل مرجعاً تعتمد عليه أوربا وغربي آسية سبعمائة عام. وأوسع منه شهرة البتاني الذي ظل واحداً وأربعين عاماً يقوم بأرصاد فلكية اشتهرت بدقتها واتساع مداها. وقد وصل بهذه الأرصاد إلى كثير من "المعاملات" الفلكية تمتاز بقربها العجيب من تقديرات هذه الأيام-منها تقديره زيوح الاعتدالين بـ 54.5ً في العام، وميل مستوى الفلك بـ55َ23ْ(23). منهم أبو الوفا الذي كان يعمل تحت رعاية سلاطين بني بويه الأولين حكام بغداد والذي كشف (كما يقول سادلو Sadilot وإن كان قوله لا يزال مثاراً للجدل) الانحراف الثالث للقمر قبل أن يكشفه تيخو براهي Tycho Brahe بستمائة عام(24). وقد أقيمت للفلكيين المسلمين آلات غالية الثمن لم تقتصر على الإسطرلاب، والكرات ذوات الحلق التي كانت معروفة لليونان الأقدمين، بل كانت تشمل كذلك آلات لقياس الزوايا يبلغ نصف قطرها ثلاثين قدماً، وآلات سدس نصف قطرها ثمانون قدماً. وقد أدخل المسلمون. على الإسطرلاب تحسينات كثيرة، ووصل منهم إلى أوربا في القرن العاشر الميلادي، وظل شائع الاستعمال بين الملاحين حتى القرن السابع عشر. وقد صروه العرب وأبدعوا صنعه، حتى أصبح بفضلهم أداة علمية وتحفة فنية معاً.

وهذا الاهتمام العظيم بتصوير السماء قد فاقه اهتمامه بتصوير أقاليم الأرض لأن المسلمين كانوا يعيشون على فلح الأرض وعلى التجارة في أقاليمها المختلفة. فقد حمل سليمان التاجر-الذي عاش حوالي عام (851) وصفاً لرحلة سليمان هذا، كان هو أقدم وصف عربي لبلاد الصين، وكتبه قبل رحلات ماركو بولو Marco Polo بأربعمائة وخمسة وعشرين عاماً. وفي ذلك القرن نفسه كتب ابن خردذيه وصفاً لبلاد الهند، وسيلان، وجزائر الهند الشرقية، وبلاد الصين، ويبدو أنه اعتمد فيما كتب على رحلاته في تلك البلاد وما شاهده فيها بنفسهِ. ووصف ابن حوقل بلاد الهند وإفريقية، وكتب أحمد اليعقوبي، من أهل أرمينية وخرسان في عام 891 كتاب البلدان الذي وصف فيه الأقطار والمدن الإسلامية وكثيراً من الدول الأجنبية وصفاً خليقاً بالثقة. وزار محمد المقدسي جميع البلاد الإسلامية فضلاً عن بلاد الأندلس، ولاقى في أثناء رحلاته كثيراً من الشدائد، ثم كتب عام 985 كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وهو أعظم كتاب في معرفة جغرافية البلاد الإسلامية قبل كتاب البيروني عن الهند.

ويمثل أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (973-1048م) العالِم الإسلامي في أحسن صورة له. فقد كان البيروني فيلسوفاً، مؤرخاً، ورحالة، وجغرافياً، ولغوياً، ورياضياً، وفلكياً، وشاعراً، وعالماً في الطبيعيات-وكانت له مؤلفات كبيرة وبحوث عظيمة مبتكرة في كل ميدان من هذه الميادين. ومكان عند المسلمين كما كان ليبنتز، ويوشك أن يكون كما كان ليوناردو دافنشي، عند الغربيين. وقد ولد كما ولد الخوارزمي بالقرب من مدينة جنوى الحالية، وتمثل فيه كما تمثل في الخوارزمي زعامة موطنه في غرب بحر قزوين من الناحية العلمية في هذه الأعوام المائة من العصور الوسطى التي بلغ فيها العلم ذروته. وعرف أمراء خورازم وطبارستان فضله وأدركوا عظم مواهبه فأفردوا له مكاناً في بلاطهم. وسمع محمود الغرنوي بكثرة من كان في خوارزم من الشعراء والفلاسفة، فطلب إلى أميرها أن يبعث إليه بالبيروني، وابن سينا، وغيرهما من العلماء؛ وأدرك الأمير أن هذا الأمر واجب الطاعة (1018)، وسافر البيروني ليحيا حياة الجد والهدوء والعزة والكرامة في بلاد المليك المحارب فاتح الهند. ولعل البيروني قد دخل الهند في ركاب محمود نفسه، وسواء كان هذا أو لم يكن فقد أقام العالم الفيلسوف في الهند عدة سنين درس فيها لغة البلاد وآثارها القديمة، ثم عاد إلى بلاط محمود وأصبح فيه من أعظم المقربين لهذا الحاكم المطلق الذي لا يستطيع الكاتب رسم صورة صادقة له. ويقال إن رجلاً من شمالي آسية زار محموداً ووصف له إقليماً ادعى أنه رآه بعينهِ، وقال إن الشمس تظل فيه عدة أشهر لا تغيب أبداً. ولم يصدق محمود هذا القول، وغضب على الرجل وأوشك أن يزجه في السجن لجرأتهِ على المزاح معه وهو صاحب الحول والطول، فما كان من البيروني إلا أن شرح هذه الظاهرة شرحاً أقنع بهِ الملك وأنجى الزائر(26). وكان مسعود بن محمود من الهواة المولعين بالعلم فأخذ ينفح البيروني بالهدايا والأموال، وكثيراً ما كان البيروني نفسه يردها إلى بيت المال لزيادتها على حاجتهِ.

وكان أول مؤلفاته الكبرى رسالة علمية فنية عميقة تعرف باسم الآثار الباقية في التقاويم والأعياد عند الفرس، وأهل الشام، واليونان، واليهود، والمسيحيين، الصابئين، والزرادشتيين، والعرب، والكتاب دراسة نزيهة إلى درجة غير مألوفة، مبرأة إلى أقصى حد من الأحقاد الدينية. وكان البيروني يميل إلى مذهب الشيعة، وكان ذا نزعة تشككية خالية من المباهاة والادعاء؛ غير أنه ظل يحتفظ بقسط من الوطنية الفارسية، وأنحى باللائمة على العرب لقضائهم على ما كان في العهد الساساني من حضارة عظيمة(27). أما في ما عاد هذا فقد كان موقفه موقف العالم صاحب النظرة الموضوعية، المجد في البحث العلمي، النقادة للروايات المتواترة والنصوص (بما فيها نصوص الإنجيل)، المدقق، النزيه، ذي الضمير الحي في أحكامهِ، وكثيراً ما كان يعترف بجهلهِ، ويعد بأن يواصل بحوثه حتى تنكشف له الحقيقة. وقد قال في مقدمة الآثار الباقية مثل ما قال فرانسس بيكن في بعض كتبه "... بعد تنزيه النفس عن العوارض المردية أكثر الخلق، والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة، والتعصب، والتظافر، وإتباع الهوى، والتغلب بالرياسة، وأشباه ذلك.... وبغير ذلك، لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد".

وبينما كان مضيفه يغزو الهند ويدمر مدنها، كان البيروني يقضي السنين الطوال في دراسة شعوبها، ولغاتهم، وأديانهم، وثقافتهم، ومختلف طوائفهم. وأثمرت هذه الدراسة كتابة تاريخ الهند الذي نشره في عام 1030 والذي يعد أعظم مؤلفاته. وقد ميز فيه منذ البداية بين ما شاهده بعينهِ وما سمعه من غيره، وذكر أنواع الكذابين الذين ألفوا كتباً في التاريخ(28) ولم يخص تاريخ الهند السياسي إلا بحيز صغير في كتابه خص أحوال الهند الفلكية باثنين وأربعين فصلاً من فصوله وخص أديانها بأحد عشر. وكان من أهم ما سحر لبه البهاجافاد جيتا وأدرك ما بين تصوف الفدانتا، والصوفية، والفيثاغورية الحديثة، والأفلاطونية الحديثة من تشابه، وأورد مقتطفات من كتابات مفكري الهنود، ووازن بينها وبين مقتطفات شبيهة بها من كتابات فلاسفة اليونان، وفضل آراء اليونان عن آراء الهنود، وكتب يقول إن الهند لم ينبغ فيها رجل كسقراط، ولم تظهر فيها طريقة منطقية تطهر العلم من الأوهام(29). ولكنه رغم هذا ترجم إلى اللغة العربية عدداً من المؤلفات السنسكريتية، وكأنما أراد أن يوفي بدينهِ للهند فترجم إلى السنسكريتية كتاب أصول الهندسة لإقليدس و المجسطي لبطليموس.

وكادت عنايته تشمل جميع العلوم، فقد كتب عن الأرقام الهندية أوفى بحث في العصور الوسطى؛ وكتب رسالة عن الإسطرلاب، ودائرة فلك البروج، وذات الحلق، ووضع أزياجاً فلكية للسلطان محمود. ولم يكن يخالجه أدنى شك في كرية الأرض، ولاحظ أن كل الأشياء تنجذب نحو مركزها، وقال إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم، وحول الشمس مرة في كل عام، بنفس السهولة التي تفسر بها إذا افترضنا العكس(30). وقال إن وادي نهر السند ربما كان في وقت من الأوقات قاع بحر(31)، وألف كتاباً ضخماً في الحجارة وصف فيه عدداً عظيماً من الأحجار والمعادن من النواحي الطبيعية وشرح قيمتها التجارية والطبية. وعين الكثافة النوعية لثمانية عشر نوعاً من أنواع الحجارة الكريمة، ووضع القاعدة التي تنص على الكثافة النوعية للجسم تتناسب مع حجم الماء الذي يزيغه(32). وتوصل إلى طريقة لحساب تكرار تضعيف العدد دون الالتجاء إلى عمليات الضرب والجمع الطويلة الشاقة، كما تحدث في القصة الهندية عن مربعات لوحة الشطرنج وحبات الرمل. ووضع في الهندسة حلولاً لنظريات سميت فيما بعد باسمه. وألف موسوعة في الفلك، والتنجيم، والعلوم الرياضية؛ وشرح أسباب خروج الماء من العيون الطبيعية والآبار الارتوازية بنظرية الأواني المستطرقة(33). وألف تواريخ حكم السلطان محمود، وسبكتجين، وتاريخاً لخوارزم. ويطلق عليه المؤرخون الشرقيون اسم الشيخ، وكأنهم يعنون بذلك أنه شيخ العلماء. وإن كثرة مؤلفاته في الجيل الذي ظهر فيه ابن سينا، وابن الهيثم، والفردوسي لتدل على أن الفترة الواقعة في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر هي التي بلغت فيها الثقافة الإسلامية ذروتها، وهي التي وصل فيها الفكر في العصور الوسطى إلى أعلى درجاته.

ويكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علماً من العلوم؛ ذلك أن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة، والتجارب العلمية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان- على ما نعلم- على الخبرة الصناعية الفروض الغامضة. فقد اخترعوا الأنبيق وسموه بهذا الاسم، وحللوا عدداً لا يحصى من المواد تحليلاً كيميائياً، ووضعوا مؤلفات في الحجارة، وميزوا بين القلويات والأحماض، وفحصوا عن المواد التي تميل إليها، ودرسوا مئات من العقاقير الطبية، وركبوا مئات منها . وكان علم تحول المعادن إلى ذهب، الذي أخذه المسلمون من مصر هو الذي أوصلهم إلى علم الكيمياء الحق، عن طريق مئات الكشوف التي يبينوها مصادفة، وبفض الطريقة التي جروا عليها في اشتغالهم بهذا العلم وهي أكثر طرق العصور الوسطى انطباقاً على الوسائل العلمية الصحيحة. ويكاد المشتغلون بالعلوم الطبيعية من المسلمين في ذلك الوقت يجمعون على أن المعادن كلها تكاد ترجع في نهاية أمرها إلى أصول واحدة، وأنها لهذا السبب يمكن تحويل بعضها إلى البعض الآخر. وكان الهدف الذي يبغيه الكيمائيون هو أن يحولوا المعادن "الخسيسة" كالحديد، أو النحاس، أو الرصاص، أو القصدير إلى فضة، أو ذهب. وكان حجر الفلاسفة عندهم مادة-يدأبون على البحث عنها ولا يصلون إليها-إذا عولجت بها تلك المعادن العلاج الصحيح، حدث فيها التغير المطلوب. وكان الدم، والشعر، والبراز، وغيرها من المواد تعالج "بكواشف" متنوعة، وتعرض لعمليات التكليس، والتصعيد، وللضوء، والنار، علها أن يكون فيها ذلك الإكسير السحري(36). وكان الاعتقاد السائد أن الذي يستحوذ على هذا الإكسير يستطيع إذا شاء أن يطيل حياته. وكان أشهر الكيميائيين المسلمين جابر بن حيان (702-765) المعروف عند الأوربيين باسم جيبير Gebir. وكان جابر ابن حيان كوفي، اشتغل بالطب، ولكنه كان يقضي معظم وقته مع الأنابيق والبوادق. ويعزو إليه المؤرخون مائة من المؤلفات أو أكثر من مائة، ولكنها في الواقع من عمل مؤلفين مجهولين عاش معظمهم في القرن العاشر. وقد ترجم كثير من هذه المؤلفات التي لا يعرف أصحابها إلى اللغة اللاتينية. وكان لها الفضل في تقدم علم الكيمياء في أوروبا. وحل السحر بعد القرن العاشر محل الكيمياء كما حل محل غيرها من العلوم، وقضى ذلك العلم بعدئذ ثلاثمائة عام لا يرفع فيها رأسه.

وليس لدينا إلا القليل من بقايا علم الأحياء عند المسلمين في ذلك العصر. ومن هذه الآثار كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري الذي رجع فيه إلى مؤلفات ديوسقوريدس ولكنه أضاف فيه إلى علم الصيدلة عقاقير أخرى كثيرة. وقد عرف علماء الحياء المسلمون طريقة إنتاج فواكه جديدة بطريق التطعيم، وجمعوا بين شجرة الورد وشجرة اللوز ، وأوجدوا بذلك التطعيم أزهاراً نادرة جميلة المنظر(37). وشرح عثمان بن عمر الجاحظ (المتوفى سنة 869) نظرية في التطور شبيه بنظرية المسعودي فقال إن الحياة قد ارتفعت من الجماد إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ثم من الحيوان إلى الإنسان(38). واعتنق الشاعر الصوفي جلال الدين هذه النظرية، ولم يضف إليها إلا قولهِ إنه إذا كان هذا مستطاعاً في الماضي، فإن الناس في المرحلة الثانية سيصبحون ملائكة ثم يرقون إلى مرتبة الإله(39).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالِث: الطب

وما فتئ الناس في هذه الأثناء يحبون الحياة، وينفقون الأموال الطائلة في تأخير ساعة الموت، وإن كانوا دائمي الافتراء عليها والتنديد بها. ولم يكن العرب حين دخلوا بلاد الشام يعرفون الطب إلا معلومات بدائية، ولم يكن لديهم من الأدوات والأجهزة الطبية إلا القليل الذي لا يغني. فلما أن ازدادت الثروة نشأت في الشام وفارس طائفة من الأطباء، واسعة العلم، عظيمة المقدرة، أو استقدمت من بلاد اليونان والهند..وإذ كان المسلمون يستنكفون من تشريح الأجسام الحية أو جثث الموتى فإن علم التشريح عند المسلمين قد اقتصر على ما جاء في كتب جالينوس، أو على دراسة الجرحى من الناس؛ ومن أجل هذا كان أضعف فروع الطب الإسلامي هو الجراحة، وكان أقواها هو الطب العلاجي وخواص العقاقير الطبية. وقد أضاف العرب إلى علم الأقرباذين العنبر، والكافور، وخيار الشنبر، والقرنفل العطري، والزئبق، والسنالمكي، والمر، وأدخلوا في الأبنية مستحضرات طبية جديدة-منها أنواع الشراب، والحلاب، وماء الورد وما إليها. وكان من أهم الأعمال التجارية بين إيطاليا والشرق الأدنى استيراد العقاقير العربية. وكان المسلمون أول من أنشأ مخازن الأدوية والصيدليات، وهم الذين أنشئوا أول مدرسة للصيدلة، وكتبوا الرسائل العظيمة في علم الأقرباذين. وكان الأطباء المسلمون عظيمي التحمس في دعوتها إلى الاستحمام، وخاصة عن الإصابة بالحميات(46)، وإلى استخدام حمام البخار؛ ولا يكاد الطب الحديث يزيد شيئاً على ما وصفوه من العلاج للجدري والحصبة، وقد استخدموا التخدير بالاستنشاق في بعض العمليات الجراحية(47)؛ واستعانوا بالحشيش وغيره من المخدرات على النوم العميق(43)؛ ولدينا أسماء أربعة وثلاثين بيمارستانا كانت قائمة في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت(44)، ويلوح أنها أنشئت فيها خمسة أخرى في القرن العاشر الميلادي، ويحدثنا المؤرخون في عام 918 عن مدير لها في بغداد(45). وكان أعظم بيمارستانات بلاد الإسلام على بكرة أبيها هو البيمارستان الذي أنشئ في دمشق عام 706؛ وفي عام 978 كان به أربعة وعشرون طبيباً. وكان البيمارستانات أهم الأماكن التي يدرس فيها الطب؛ ولم يكن القانون يجيز لإنسان أن يمارس هذه الصناعة إلا إذا تقدم إلى امتحان يُعقد لهذا الغرض ونال إجازة من الدولة. كذلك كان الصيادلة، والخلاقون، والمجبرون يخضعون لأنظمة تضعها الدولة وللتفتيش على أعمالهم. وقد نظم علي ابن عيسى الوزير-الطبيب-هيئة من الأطباء الموظفين يطوفون في مختلف البلاد ليعالجوا المرضى (931)؛ وكان أطباء يذهبون في كل يوم إلى السجون ليعالجوا نزلاءها؛ وكان المصابون بأمراض عقلية يلقون عناية خاصة يعالجون علاجاً يمتاز بالرحمة والإنسانية. غير أن الوسائل الصحية العامة لم تلقَ في معظم الأماكن ما هي خليقة به من العناية، ودليلنا على ذلك أن أربعين وباء اجتاحت في أربعة قرون هذا البلد أو ذاك من بلاد الإسلام.

وكان في بغداد وحدها عام 931 ثمانمائة وستون طبيباً مرخصاً(46). وكانت أجورهم ترتفع بنسبة قربهم من بلاط الخلفاء. فقد جمع جبريل بن بختيشوع طبيب هارون الرشيد، والمأمون، والبرامكة ثروة يبلغ مقدارها 88.800.000 درهم أي نحو (7.104.000 دولار أمريكي). ويحدثنا المؤرخون أنه كان يتقاضى من الخليفة مائة ألف درهم نظير حجامته مرتين في العام. ومثل هذا المبلغ لإعطائه مسهلاً كل نصف عام(47). وقد نجح في علاج الشلل الهستيري في جارية بأن تظاهر بأنه سيخلع عنها ملابسها أمام الناس. وجاء بعد جبريل في بلاد الإسلام الشرقية عدد من الأطباء كل منهم بعد الآخر، نذكر منهم يوحنا ابن ماسويه (777-857)، الذي درس التشريع بتقطيع أجسام القردة، ومنهم حنين بن إسحق، المترجم، صاحب كتاب العشر مقالات في العين، وهو أقدم كتبا دراسي منظم في طب العيون؛ وعلي بن عيسى أعظم أطباء العيون المسلمين، وقد ظل كتابه تذكرة الكحالين يدرس في أوربا حتى القرن الثامن عشر.

وأشهر أطباء هذه الأسرة الرحيمة على بكرة أبيها هو أبو بكر مجمد الرازي (844-926) اشتهر بين الأوربيين باسم رازيس Rhases. وكان أبو بكر كمعظم كبار العلماء والشعراء في وقتهِ فارسياً يكتب بالعربية. وكان مولده في بلدة الري القريبة من طهران، ودرس الكيمياء بنوعيها، والطب في بغداد، وألف 131 كتاباً نصفها في الطب، ضاع معظمها. ومن أشهر كتبه كتاب الحاوي وهو كتاب في عشرين مجلداً، ويبحث في كل فرع من فروع الطب. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية وسمي Liber cntinens، وأغلب الظن أنه ظل عدة قرون أعظم الكتب الطبية مكانة، وأهم مرجع لهذا العلم في بلاد الرجل الأبيض، وكان من الكتاب التسعة التي تتألف منها مكتبة الكلية الطبية في جامعة باريس عام 1394(48). وكانت رسالته في الجدري والحصبة آية في الملاحظة المباشرة والتحليل الدقيق، كما كانت أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين هذين المرضين. وفي وسعنا أن نحكم على ما كان لهذه الرسالة من بالغ الأثر واتساع الشهرة إذا عرفنا أنها طبعت باللغة الإنجليزية أربعين مرة بين عامي 1498، 1866. وأشهر كتب الرازي كلها كتاب طبي في عشر مجلدات يسمى كتاب المنصوري أهداه إلى أحد أمراء خرسان. وقد ترجمه جرار الكريمو إلى اللغة اللاتينية. وظل المجلد التاسع من هذا الكتاب وهو المعروف عند الغربيين باسم Nonus Almansoris متداولاً في أيدي طلاب الطب في أوربا حتى القرن السادس عشر. وقد كشف الرازي طرقاً جديدة في العلاج كمرهم الزئبق، واستخدام أمعاء الحيوان في التقطيب. وهدأ من حماس الأطباء لتحليل البول في عصر أقلب به الأطباء إلى تشخيص كل مرض بالفحص على بول المريض، دون أن يروه في بعض الأحيان. ولا تخلو بعض مؤلفاته القصيرة من ظرف ودعابة؛ ومن هذا النوع رسالته "في الطب الحاذق وليس هو من قدر على إبراء جميع العلل وإن ذلك ليس في الوسع" ورسالته الأخرى "العلة التي من أجلها ينجح جهال الأطباء والعوام والنساء في المدن في علاج بعض الأمراض أكثر من العلماء وعذر الطبيب في ذلك". ولقد كان الرازي بإجماع الآراء أعظم الأطباء المسلمين وأعظم علماء الطب السريري (الكلينيكي) في العصور الوسطى(49). ومات الرجل فقيراً في الثانية والثمانين من عمرهِ.

وقد علقت في مدرسة الطب بجامعة باريس صورتان ملونتان لطبيبين مسلمين هما: الرازي وابن سينا. وكان أبو علي الحسين بن سينا (980-1037) أعظم فلاسفة الإسلام وأشهر أطبائه، وتشهد سيرته التي كتبها بيدهِ-وذلك النوع من السير نادر في الأدب العربي-بكثرة ما كان يحدث في العصور الوسطى من تقلب في حياة العلماء والحكماء. فقد كان ابن سينا ابن أحد الصيارفة في بخارى، وتلقى العلم على معلمين خصوصيين، كان لهم أثر فيما ينطوي عليه عقله العلمي من نزعة صوفية. ويقول عنه ابن خلكان بشيء من المغالاة المألوفة عند المؤرخين العرب إنه لما بلغ عشر سنين من عمرهِ "كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهند والجبر والمقابلة"(50).

وقد تعلم الطب من غير مدرس، وأخذ وهو شاب يعالج المرضى من غير أجر وشفى وهو في السابعة عشر من عمرهِ نوح بن منصور أمير بخارى من مرضهِ، معين في منصب في بلاطهِ، وكان يقضي في الدرس ساعات طوالاً في مكتبة السلطان الضخمة. ولما قضي على سلطان السامانيين في أواخر القرن العاشر الميلادي لجأ ابن سينا إلى بلاط المأمون أمير خوارزم. ولما استدعى محمود الغزنوي ابن سينا والبيروني وغيرهما من جهابذة العلماء في بلاط المأمون، لم يطع ابن سينا أمره، وفر هو وزميل له من العلماء إلى الصحراء. وهبت عليهما عاصفة رملية مات فيها زميلهُ، ونجا ابن سينا ووصل إلى جرجان بعد أن قاسى كثيراً من الصعاب، وفيها عين في منصب في بلاط قابوس. ونشر محمود الغرنوي في بلاد الفرس صورة لابن سينا، ووعد من يقبض عليه بجائزة سخية، ولكن قابوس حماه من عيون الأمير. ولما قتل قابوس دعي ابن يسنا لعلاج همذان، وشفي الأمير على يديهِ فاتخذه وزيراً له، ولكن الجيش لم يرتح لحكمهِ، فقبض عليه ونهب بيتهُ، وأراد أن يقتله. واستطاع ابن سينا أن يفلت منهم ويختبئ في بيت صيدلي، وبدأ وهو في مخبئهِ يؤلف كتبهُ التي كانت سبباً في شهرتهِ. وبينما هو يدبر لنفسهِ أمر الفرار سراً من همذان قبض عليه ابن الأمير وزج به في السجن حيث قضى عدة أشهر واصل فيها التأليف. واستطاع مرة أخرى أن يفر من السجن، وتخفى في زي أحد رجال الطرق الصوفية، وبعد عدة مغامرات لا تتسع لها صحائف هذا الكتاب وجد له ملجأ في بلاط علاء الدولة البويهي أمير أصفهان، ورحب بهِ الأمير وكرمهُ، وهنا التفت حوله جماعة من العلماء والفلاسفة وأخذوا يعقدون مجالس علمية برياسة الأمير نفسه. ويستدل من بعض القصص التي وصلت إلينا أن فيلسوفنا كان يستمتع بملاذ الحب، كما يستمتع بملاذ الدرس. غير أن قصصاً تصوره لنا مكباً بالليل والنهار على الدرس، والتعليم، والشؤون العامة، وينقل لنا ابن خلكان نصائح له قيمة لا تبلى جدتها:


اجعل غذائك كل يــــوم مرة واحذر طعاماً قبل هضم طعام

واحفظ منيك ما استطعت فإنه ماء الحياة يراق في الأرحام


وأثرت حياة الكدح في صحتهِ فمات في السابعة والخمسين من عمرهِ وهو مسافر إلى همذان، حيث لا يزال قبره موضعاً للإجلال والتكريم. ولقد وجد ابن سينا في صروف حياته، في مناصبهِ أو في سجنهِ، متسعاً من الوقت لتأليف مائة كتاب بالفارسية أو العربية تحدث فيها عن كل فرع تقريباً من فروع العلم والفلسفة. هذا إلى أنه له قصائد من الشعر الجيد وصلت إلينا منها خمس عشرة قصيدة انزلقت واحدة منها إلى رباعيات عمر الخيام، ومنها قصيدته العينية في النفس وهبوطها إلى الجسم من عالم علوي ومطلعها:


هبطت عليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع

ومنها:

محجوبة عن كل مقلة عارفٍ وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كرهٍ إليكَ وربما كرهت فراقكَ وهي ذات تفجع

ولا يزال الطلاب في بلاد الشرق الإسلامي حتى اليوم يحفظونها عن ظهر قلب. وقد ترجم كتاب إقليدس في الهندسة ووضع عدة أزياج فلكية، وابتكر آلة شبيهة بالورنية المعروفة عندنا اليوم. وله دراسات مبتكرة في الحركة، والطاقة، والفراغ، والضوء، والحرارة، والكثافة النوعية. وله رسالة في المعادن بقيت حتى القرن الثالث عشر أهم مصادر علم طبقات الأرض عند الأوربيين. وقد كتب فيها عن تكوين الجبال كتابة تعد أنموذجاً للوضوح في العلم. فقد قال إن الجبال قد تنشأ من سببين مختلفين: فقد تكون نتيجة اضطرابات في القشرة الأرضية كما يحدث في أثناء الزلازل العنيفة، وقد تكون نتيجة لفعل المياه التي تشق لنفسها طريقاً جديداً بنحت الأودية. ذلك أن طبقات الأرض مختلفة في أنواعها؛ فمنها الهش ومنها تشق الصلب، والرياح والمياه تفتتان النوع الأول ولكنهما تتركان صخور النوع الثاني على حالها. وهذا التحول يحتاج إلى آجال طوال... ولكن وجود البقايا المتحجرة للحيوانات المائية في كثير من الجبال يدل على أن المياه هي أهم الأسباب التي أحدثت هذه النتائج(52).

ولابن سينا كتابان يشتملان على تعاليمهِ كلها أولهما كتاب الشفاء (شفاء النفس)، وهو موسوعة في ثمانية عشر مجلداً في العلوم الرياضية، والطبيعة، وما وراء الطبيعة، وعلوم الدين، والاقتصاد، والسياسة، والموسيقى؛ وثانيهما كتاب القانون في الطب، وهو بحث ضخم في وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، والعلاج، والأقرباذين، يتطرق من حين إلى حين إلى الموضوعات الفلسفية. وكتاب القانون حسن التنسيق يرقى في بعض الأحيان إلى درجة كبيرة في البلاغة، ولكن شغفه الشديد بالتصنيف والتمييز يصبح عنده آفة لا يجد لها دواء. ويبدأ المؤلف بتحذير لا يشجع على دراستهِ إذ يقول إن كل من يتبع تعاليمه ويريد أن يفيد منها يجب عليه أن يحفظ عن ظاهر قلب(52ا) هذا الكتاب الذي يحتوي ألف ألف كلمة. والطب في رأيهِ هو فن إزالة العقبات التي تعترض طريق عمل الطبيعة السوي. وهو يبحث أولاً في الأمراض الخطيرة فيصف أعراضها، وتشخيصها، وطرق علاجها. وفي الكتاب فصول عن طريق الوقاية والوسائل الصحية العامة والخاصة، والعلاج الحقن الشرجية، والحجامة، والكي، والاستحمام، والتدليك. وهو ينصح بالتنفس العميق، وبالصياح من حين إلى حين لتقوية الرئتين والصدر-واللهاة.ويلخص الكتاب الثاني ما عرفه اليونان والعرب عن النباتات الطبية. ويبحث الكتاب الثالث في بعض الأمراض وطبائعها، وفيه بحوث قيمة عن التهاب البلورا والدُّبيلة ، والنزلات المعوية، والأمراض التناسلية، وفساد الشهوة، والأمراض العصبية، بما فيها العشق، ويبحث الكتاب الرابع في الحميات، وفي الجراحة، وأدهان التجميل، ووسائل العناية بالشعر والجلد. وفي الكتاب الرابع-الخاص بعلم العقاقير الطبية-تعليمات مفصلة عن طرق طبخ سبعمائة وستين نوعاً من العقاقير. وحل كتاب القانون بعد أن ترجم إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر محل كتب الرازي وجالينوس، وأصبح هو الذي يعتمد عليهِ في دراسة الطب في المدارس الأوربية. وقد احتفظ فيها بمكانتهِ العالية، وظل الأساتذة يشيرون على الطلاب بالرجوع إليه في جامعتي منبلييه ولوفان إلى أواسط القرن السابع عشر.

وجملة القول أن ابن سينا أعظم من كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، والبيروني أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علمائها في البصريات، وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين فيها. تلك أسماء خمسة لا يعرف عنها العالم المسيحي في الوقت الحاضر إلا القليل، وإن عدم معرفتنا إياها ليشهد بضيق نظرتنا وتقصيرنا في معرفة تاريخ العصور الوسطى. وليس في وسعنا مع هذا أن نحاجز أنفسنا عن القول بأن العلوم العربية كثيراً ما تلوث بالأوهام شأنها في هذا شأن سائر العصور الوسطى وأن تفوقها كلها-عدا علم البصريات-يرجع إلى التركيب والبناء من النتائج التي تجمعت لديها أكثر من تفوقها في الكشوف المبتكرة أو البحوث المنظمة؛ لكنها مهما يكن قصورها في هذه الناحية قد نمت في علم الكيمياء الطريقة التجريبية العلمية، وهي أهم أدوات العقل الحديث وأعظم مفاخره. ولما أن أعلن روجر بيكن هذه الطريقة إلى أوربا بعد أن أعلنها جابر بخمسمائة عام كان الذي هداه إليها هو النور الذي أضاء له السبيل من عرب الأندلس، وليس هذا الضياء نفسه إلا قبساً من نور المسلمين في الشرق.

الفصل الرّابع: الفلسفة

لقد استعار الإسلام في الفلسفة، كما استعار في الطب، من بلاد الشام المسيحية ما خلفته بلاد اليونان الوثنية، ثم رد هذا الدين إلى أوربا المسيحية عن طريق الأندلس الإسلامية. وكانت هناك بطبيعة الحال عوامل كثيرة هي التي أدت مجتمعة إلى ثورة المعتزلة، وإلى فلسفات الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد. وكان للآراء الزرادشتية واليهودية عن الحشر والحساب بعض الأثر في الفلسفة الإسلامية؛ وكان الملاحدة المسيحيون قد أثاروا عجاج الجدل في بلاد الشرق الأدنى في صفات الله، وفي طبيعة المسيح وكلمة الله، وفي الجبرية والقدرية، والوحي والعقل. لكن العامل الذي كان له أكبر الأثر غي التفكير الإسلامي في آسية-كما كان له أكبر الأثر في إيطاليا أيام النهضة-هو كشف آثار اليونان الفكرية من جديد؛ فقد أدى هذا الكشف -وإن أتى عن طريق التراجم الناقصة المعيبة لنصوص مشكوك في صحتها-إلى ظهور عالم جديد: عالم كان الناس يفكرون فيه في كل شيء ولا يخشون أن يصيبهم أذى بسبب هذا التفكير، ولا تقيد عقولهم نصوص الكتب المقدسة، ولا يرون أن السماء والأرض وما بينهما قد خلقت عبثاً أو أنها وجدت بمعجزة من المعجزات التي لا تستند إلى قانون من قوانين العقل، بل يرون أنها تستند إلى قانون عام عظيم يحكمها جميعاً وتتضح آثاره في كل جزء من أجزاء الكون. وقد افتتن المسلمون بالمنطق اليوناني في صورته الكاملة الواضحة التي جاء بها كتاب أورغانون (الآلة الفكرية) لأرسطو بعد أن أتيح لهم الفراغ الذي لا بد منه للتفكير، ووجدوا فيهِ الأدوات التي يحتاجونها لتفكيرهم؛ وظل المسلمون ثلاثة قرون طوال يحاجون بالمنطق وتسلب لبهم بهجة الفلسفة المحببة كما سلبت لب الشباب في أيام أفلاطون. وسرعان ما أخذ صرح العقائد التعسفية يتصدع وينهار، كما انهارت العقائد اليونانية بتأثير بلاغة السوفسطائيين، وكما ضعفت العقائد المسيحية وتزعزعت قواعدها تحت ضربات أصحاب الموسوعات الفرنسيين وسخرية فلتير اللاذعة.

وكانت البداية التقريبية للعهد الذي نستطيع أن نسميه عهد الاستنارة الإسلامية هي الجدل الذي ثار حول موضوع عجيب هو موضوع خلق القرآن. ذلك أن عقيدة فيلون في الكلمة وقوله إنها حكمة الله الأبدية، وما جاء بهِ الإنجيل الرابع من أ، المسيح هو كلمة الله أو العقل القدسي: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيرهِ لم يكن شيء مما كان"(53)،وعقيدة المسيحيين العارفين وأتباع الأفلاطونية الحديثة الذين يجسدون الحكمة الإلهية يقولون إنها هي أداة الخلق الفعالة، وعقيدة اليهود في أزلية التوراة-كل هذه الآراء قد أوجدت عند المسلمين السنيين عقيدة مماثلة تقول إن القرآن كان على الدوام موجوداً في عقل الله، وإن نزوله على محمد كان هو دون غيره حادثاً في زمان معين، وكانت نشأة الفلسفة في الإسلام على يد المعتزلة الذين ينكرون قدم القرآن، وهم يجهزون باحترامهم لكتاب الله (الكريم) ولكنهم يقولون إنه إذا تعارض هو أو الحديث مع العقل وجب ألا يفسر تفسيراً حرفياً بل مجازياً، وأطلقوا على يد هذه الجهود التي يحاولون بها التوفيق بين العقل والدين اسم الكلام أي المنطق. وقد بدا لهم أن من السخف أن تؤخذ بحرفيتها العبارات الواردة في القرآن والتي تقول إن لله يدين وقدمين، وإنه يغضب ويكره، وقالوا إن تشبيه الله بالكائنات البشرية على هذا النحو الشعري، إذا كان يتفق مع أغراض النبي الأخلاقية والسياسية في أيام الرسالة، لا يمكن أن يقبله المتعلمون المستنيرون في أيامهم، وإن العقل البشري عاجز كل العجز عن معرفة طبيعة الله وصفاته، وكل ما يستطيعه أن يقبل ما جاء به الدين من إثبات وجود قوة روحية عليا هي أساس الحقائق عامة. وفضلاً عن هذا فقد كان المعتزلة يرون أن الخطر الشديد على أخلاق الناس وأعمالهم أ، يؤمنوا كما يؤمن عامة المسلمين بأن الحادثات كلها مقدرة تقديراً كاملاً من عند الله، وأن الله قد اختار منذ الأزل من سيثاب ومن سيعذب.

وانتشرت عقائد المعتزلة بهذه الصورة وبما أدخل عليها من الصور الأخرى التي يخطئها الحصر أثناء خلافة المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون؛ واعتنق هذه المبادئ العقلية الجديدة سِرَّاًً في بادئ الأمر عدد من العلماء والخارجين على الدين، ثم جهز بها رجال في ندوة الخلفاء المسائية، ثم وجدت من يدعو إليها في المحاضرات التي تلقى في المدارس والمساجد، بل تغلبت في أماكن متفرقة على غيرها من الآراء. وافتتن المأمون نفسه بهذه النزعة العقلية الآخذة في القوة، وبسط عليها حمايته، وانتهى الأمر بأن جعل عقائد المعتزلة مذهب الدولة الرسمي. ذلك أ، المأمون مزج بعض عادات الملكية الشرقية بآخر الآراء الإسلامية المستمدة من الثقافة اليونانية، وأصدر في عام 832 أمراً يفرض فيه على جميع المسلمين أن يعتقدوا بأن القرآن قد خلق في وقت بعينهِ، وأتبع هذا بأمر آخر يقضي بألا يعين قاضياً في المحاكم من لا يعلن قبولهُ لهذه العقيدة الجديدة أو أن تقبل فيها شهادتهُ، وصدرت بعد هذين القرارين قرارات أخرى تحتم قبول عقيدة حرية الإرادة، وعجز النفس البشرية عن رؤية الله رأى العين، وانتهى الأمر بأن جعل رفض هذه العقائد من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام.

وتوفي المأمون في عام 833، ولكن المعتصم والواثق اللذين توليا الخلافة بعده واصلا هذه الحملة الفكرية، وقاوم الإمام ابن حنبل هذا الاضطهاد الفكري وندد بهِ؛ ولما استدعي لمناقشته في أمر المبادئ الجديدة أجاب عن كل ما وجه إليه من الأسئلة بإيراد شواهد من القرآن تؤيد آراء أهل السنة، فضرب حتى أغمي عليهِ، وألقي في السجن؛ ولكنه أصبح في أعين المسلمين بسبب هذا التعذيب من الشهداء والأولياء الصالحين، وكان تعذيبه هذا من العوامل التي مهدت السبيل للانتفاض على الفلسفة الإسلامية.

وكانت هذه الفلسفة قد أخرجت في ذلك الوقت أول داعٍ كبير لها وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي الذي ولد في الكوفة عام 803 م. وكان والد الكندي من ولاة الأعمال في المدينة؛ وتلقى هو العلم فيها وفي بغداد، وذاعت شهرته في الترجمة، والعلم والفلسفة في بلاط المأمون والمعتصم، ونبغ مثل الكثيرين من أمثاله في مجد الإسلام الفكري في عدد كبير من العلوم، فدرس كل شيء، وكتب 265 رسالة في كل شيء-في الحساب والهندسة النظرية، والهيئة، والظواهر الجوية، وتقويم البلدان، والطبيعة، والسياسة، والموسيقى، والطب، والفلسفة... وكان يرى ما يراه أفلاطون من أنه ليس في وسع إنسان أن يصبح فيلسوفاً من غير أن يكون قبل ذلك عالماً في الرياضة؛ وحاول أن يبني علم الصحة، والطب، والموسيقى على نسب رياضية. وقد درس فيما درس ظاهرة المد والجزر، وبحث القوانين التي تحدد سرعة الأجسام الساقطة في الهواء، كما بحث ظاهرة الضوء في كتابهِ عن البصريات الذي كان له أكبر الأثر في روجر بيكن Roger Bacon. (وقد أدهش الكندي العالم الإسلامي برسالتهِ في الدفاع عن المسيحية) واشترك هو وزميل له في ترجمة كتاب أرسطو في الإلهيات (أوثولوجيا). وتأثر الكندي أشد التأثر بهذا الكتاب المنحول وسه كل السرور أن يوفق بين أرسطو وأفلاطون إذ يجعل كليهما من أتباع الأفلاطونية الجديدة. ذلك أن فلسفة الكندي نفسه هي الأفلاطونية الجديدة مصبوغة صبغة جديدة: فالنفس عنده ثلاث مراتب: الله، ونفس العالم الخلاقة، والنفس البشرية التي هي فيض من هذه النفس الثانية. وإذا استطاع الإنسان أنم يدرب نفسه على العلم الحق استطاع أن ينال الحرية والخلود. ويلوح أن الكندي قد حاول ما استطاع أن يبتعد عن آراء المعتزلة وأن يعتنق آراء أهل السنة، ولكنه أخذ عن أرسطو(56) التفرقة بين العقل الفاعل أي العقل الإلهي، وعقل الإنسان المنفعل الذي لا يعدو أن يكون هو القدرة على التفكير. ونقل ابن سينا هذا التفريق إلى ابن رشد الذي أثار بهِ العالم واتخذ حجة ضد القائلين بالخلود الفردي. وانتهى الكندي بالانضمام إلى المعتزلة، فلما قام عليهم أهل السنة صودرت كتبهُ، وكاد يقضى على حياتهِ، ولكنه نجا من هذه العاصفة، واسترد مكتبتهُ، وعاش حتى عام 873.

إن المجتمع الذي يرتبط فيه نظام الحكم، والقانون، والأخلاق بالعقيدة الدينية يرى كل خروج على تلك العقيدة تهديداً خطيراً للنظام الاجتماعي نفسه. ولقد عادت إلى النشاط من جديد جميع القوى التي طغى عليها الفتح العربي وهي الفلسفة اليونانية والمسيحية والغنوسطية والقومية الفارسية، والشيوعية المزدكية؛ وكان نشاطها عنيفاً، فأخذت تجادل في القرآن، وجهر شاعر فارسي بأن شعره أعلى منزلة من القرآن نفسه، فكان جزاؤه على قولهِ هذا قطع رأسهُ (784)(57)، وبدا أن صرح الإسلام القائم على القرآن قد أصبح وشيك الانهيار. غير أن عوامل ثلاثة في هذه الأزمة الشديدة جعلت النصر النهائي لأهل السنة: وهذه العوامل هي وجود خليفة محافظ مستمسك بدينهِ، واشتداد ساعد الحرس التركي، وولاء الناس الطبيعي لعقائدهم الموروثة. فلما أن تولى المتوكل على الله الخلافة في عام 847 استمد العون من الشعب ومن الأتراك. وكان الترك حديثي العهد بالإسلام، حاقدين على الفرس، غريبين عن الفكر اليوناني، فاندفعوا بكل ما فيهم من قوة لتأييد السياسة التي ترمي إلى نصرة الدين بحد السيف. فنقض المتوكل السياسة الحرة العنيفة التي جرى عليها المأمون، وألغى ما أصدره فيها من المراسيم، وأخرج المعتزلة وغيرهم من الملحدين عن مناصب الدولة والوظائف التعليمية، وحرم الجهر بالآراء المخالفة لآراء أهل السنة في الأدب والفلسفة، وسَنَّ قانوناً يحتم القول بأن القرآن أزلي غير مخلوق، واضطهِد الشيعة وهُدم مشهد الحسين في كربلاء (851). وجدد المتوكل الأمر المعزو إلى عمر بن الخطاب ضد المسيحيين، والذي وسعه هارون الرشيد حتى شمل اليهود (850)، ثم أهمل العمل بهِ بعد صدورهِ، جدد المتوكل هذا الأمر ففرض على اليهود والمسيحيين أن يلبسوا ثياباً من لون خاص تميزهم من غيرهم من أفراد الشعب، وأن يضعوا رقعاً ملونة على أكمام أثواب عبيدهم، وألا يركبوا غير البغال والحمير، وأن يثبتوا صوراً خشبية للشيطان على أبواب بيوتهم؛ وأمر بهدم جميع الكنائس والمعابد المسيحية واليهودية الجديدة، وحرم رفع الصليب علناً في المواكب المسيحية، ولم يسمح لمسيحي أو يهودي أن يتلقى العلم في المدارس الإسلامية. واتخذ رد الفعل في الجيل التالي صورة أقل عنفاً من هذه الصورة السابق وصفها. فقد قام جماعة من العلماء السنيين وجهروا في شجاعة بقبول حكم المنطق في الجدل القائم، وعرضوا أن يثبتوا بالرجوع إلى العقل صدق العقائد الأصلية. وهؤلاء المتكلمون (المناطقة) في الإسلام يشبهون الفلاسفة المدرسين في أوربا في العصور الوسطى، وقد حاولوا أن يوفقوا بين العقائد الدينية والفلسفة اليونانية كما حاول ابن ميمون ذلك في القرن الثاني عشر بالنسبة لليهود، وتومس أكوناس في القرن الثالث عشر بالنسبة للمسيحية. وظل أبو الحسن الأشعري (873-935) يعلم الناس مبادئ المعتزلة نحو عشر سنين في البصرة، ولكنه انقلب عليهم حين بلغ الأربعين من عمرهِ،وهاجمهم بسلاحهم هم أنفسهم، وهو سلاح المنطق، وسلط عليهم سيلاً جارفاً من الجدل القوي كان له أكبر الأثر في انتصار عقائد أهل السنة. وقد آمن أبو الحسن إيماناً قوياً بمبدأ الجبرية فقال إن الله قدر منذ الأزل كل عمل وكل حادث، وإنه عللها كلها، وإنه يعلو على القوانين والأخلاق، وإنه يصرف شؤون خلقه كما يشاء، فإذا بعث بهم جميعاً إلى النار فليس في ذلك خطأ قط(59).

ولم يرضَ أهل السنة كلهم بإخضاع الدين إلى هذا الجدل العقلي، ونادى كثيرون منهم بمبدأ "بلاكيف" أي أن من واجب الإنسان أن يؤمن دون أن يسأل كيف يكون هذا الإيمان(60)، وامتنع معظم علماء الدين عن الجدل في الموضوعات الأساسية ولكنهم اندفعوا يجادلون في التفاصيل الجزئية لعقيدة اتخذوا مبادئها الأساسية بداية يسلمون بها دون مناقشة. وهكذا هدأت موجة الفلسفة في بغداد، ولكنها ثارت في الوقت نفسه في العواصم الإسلامية الصغرى؛ فوهب سيف الدولة أبا نصر الفارابي بيتاً في بغداد، وكان الفارابي أول من نبغ وانتشر صيتهُ من العلماء الأتراك. كان مولده في فاراب إحدى ولايات التركستان، ودرس المنطق في بغداد على معلمين مسيحيين وقرأ كتاب الطبيعة لأرسطو أربعين مرة، وكتاب النفس مائتي مرة، ورمي بالزندقة في بغداد، وارتدى ملابس المتصوفة واعتنق مبادئهم، وعاش كما يعيش طير الهواء. ويقول عنه ابن خلكان إنه "كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأي مكسب ولا مسكن"(61).

وسأله سيف الدولة عما يكفيه من المال فقال الفارابي إنه يكفيه أربعة دراهم في اليوم "فأجرى عليه الأمير هذا القدر من بيت المال واقتصر عليها لقناعتهِ ولم يزل إلى أن توفي".

وقد بقي من مؤلفات الفارابي تسعة وثلاثون كتاباً كثير منها شروح لأرسطو وتعليقات على آرائهِ. وقد لخص في كتابهِ إحصاء العلوم علم عصره في الفلسفة، والمنطق، والرياضيات، والطبيعة، والكيمياء، والاقتصاد، والسياسة. وقد أجاب إجابة سلبية صريحة عن السؤال الذي أثار ثائرة الفلاسفة المسيحيين بعد قليل من ذلك الوقت وهو هل الكلي (أي الجنس، والنوع، والصفة) يوجد قائماً بنفسهِ منفصلاً عن الجزئي؟ وقد خدع كما خدع غيره بإلهيات أرسطو فبدل الاصطاغيري العنيد إلى رجل متصوف. وطال به العمر حتى هدأت ثورته العلمية واستمسك بقواعد الدين. وكان في شبابهِ قد جهر بنزعة لا إرادية متشككة(62)، ثم خطا في مستقبل حياته خطوات واسعة، فأعطانا وصفاً مفصلاً للخالق(63) مستعيناً على ذلك بالبراهين التي أوردها أرسطو ليثبت بها وجود الله، والتي استعان بها أكوناس بعد ثلاثة قرون من ذلك الوقت، فقال إن حدوث سلسلة من الحوادث العارضة لا يمكن إدراكها إلا إذا أرجعناها في النهاية إلى كائن لا بد من وجوده لوقوعها، وجود سلسلة من العلل يتطلب وجود علة أولى؛ وسلسلة من الحركات يتطلب محركاً أول غير متحرك؛ والتعدد يتطلب الوحدة.

وإن الهدف النهائي للفلسفة، وهو الهدف الذي لا يمكن بلوغه كاملاً، هو معرفة العلة الأولى، وخير طريق للوصول إلى هذه المعرفة هو تطهير النفس. وقد استطاع الفارابي، كما استطاع أرسطو أن يعنى بجعل أقواله عن الخلود غامضة غير مفهومة. ومات الرجل في دمشق عام 950 م.

ومن بين كتب الفارابي الباقية كلها كتاب واحد يدهشنا ما يدل عليهِ من قوة الابتكار ونعني به كتاب المدينة الفاضلة. ويبدأ الكتاب بوصف قانون الطبيعة بأنه كفاح واحد دائم يقوم بهِ كل كائن حي ضد سائر الكائنات؛ وهو في ذلك يشبه ما يقول هبز Hobbs من أن الأشياء كلها يحارب بعضها بعضاً؛ ثم يقول إن كل كائن حي يرى في آخر الأمر أن سائر الكائنات الحية وسائل يحقق بها أغراضه، ثم يعقب على هذا بقولهِ إن بعض الساخرين يستنتجون من هذا أن الرجل العاقل في هذا التنافس الذي لا مفر منه هو أقدر الناس على إخضاع غيره لإرادتهِ، وأعظمهم تحقيقاً لرغباتهِ كاملة. فكيف خرج المجتمع الإنساني إذن من هذا القانون قانون الغاب؟ وإذا ما أمعنا الفكر في أقوال الفارابي رأينا أنه كان بين المسلمين الذين بحثوا هذا الموضوع فلاسفة من طراز روسو وآخرون من طراز نتشة: فمنهم من قال إن المجتمع قام في بادئ الأمر على أساس نوع من الاتفاق بي أفراد على أن بقاءهم يتطلب قبول بعض القيود التي تعتمد على العادات والقانون؛ ومنهم من سخر من هذا "العقد الاجتماعي" وقال إن مثل هذا التعاقد لم يوجد قط في تاريخ العالم، وأكد أن المجتمع بدأ، أو أن الدولة بدأت، بإخضاع الأقوياء للضعفاء وتجنيدهم تحت سلطانها. ويضيف هؤلاء النتشيون أن الدولة نفسها أدوات للتنافس، وأن يقاتل بعضها بعضاً سعياً وراء سيادتها على غيرها، وسلامتها، وسلطانها، وثرائها؛ وأن الحرب طبيعية ولا مفر من وقوعها؛ وأن الذي سيسفر عنه هذا الصراع، لا بد أن يتمشى مع قانون الطبيعة الأزلي؛ وهو أن الحق الوحيد هو القوة. ويقاوم الفارابي هذه النزعة بأن يدعو إلى إقامة مجتمع على قواعد العقل، والوفاء، والحب، لا على أساس الحسد، والقوة، والخصام(64). ويختم بحثه خاتمة موفقة بالدعوة إلى إقامة ملكية على أساس العقيدة الدينية القوية(65). وأنشأ تلميذ لأحد تلاميذ الفارابي في بغداد عام 970 جمعية من العلماء-معروفة لنا باسم موطن منشئها-الجمعية السجستانية ، غرضها بحث المسائل الفلسفية. ولم تكن هذه الجمعية تسأل أعضائها عن أصلهم أو مللهم؛ ويبدو أنها صرفت همها كله إلى دراسة المنطق وفلسفة المعرفة؛ ولكن وجودها يدل على أن الرغبة في البحوث العلمية والعقلية لم تخبُ جذوتها في عاصمة الدولة الإسلامية. وأهم من هذه الجمعية شأناً، أو بالأحرى أعظم منها أثراً، جمعية أخرى من نوعها، ولكنها في واقع الأمر جمعية سرية من العلماء والفلاسفة، أنشئت في مدينة البصرة عام 983، ونعني بها جمعية إخوان الصفا . وكان سبب قيامها أن هؤلاء الإخوان روعهم ما شاهدوه من ضعف الخلافة الإسلامية، وفقر شعوبها، وفساد أخلاقهم؛ فتاقت نفوسهم إلى تجديد الإسلام من النواحي الأخلاقية، والروحية، والسياسية؛وخيل إليهم أن هذا التجديد إنما يقوم على مزيج من الفلسفة اليونانية والمسيحية، والتصوف الإسلامي، وآراء الشيعة السياسية، والشريعة الإسلامية. وكانوا يفهمون الصداقة على أنها تعاون بين ذوي الكفايات والفضائل المختلفة، تأتي فيها كل طائفة بما تحتاجه الجماعة كلها وما لا تجده عند الطوائف الأخرى. وفي اعتقادها أن الوصول إلى الحقيقة عن طريق اجتماع العقول أيسر من الوصول إليها عن طريق التفكير الفردي. ولهذا كانوا يجتمعون في السر ويبحثون في حرية تامة شاملة، وتفكير واسع الأفق، وتأدب جم، جميع مشاكل الحياة الأساسية. وأصدرت الجماعة في آخر الأمر إحدى وخمسين رسالة جمعت شتات أبحاثها كلها، وضمنتها خلاصة العلوم الطبيعية والدينية، والفلسفة. وأولع أحد مسلمي الأندلس أثناء تجواله في بلاد الشرق الأدنى حوالي عام 1000م بهذه الوسائل فجمعها واحتفظ بها.

ونجد في هذه الرسائل البالغة 1134 صفحة تفسيراً علمياً للمد والجزر، والزلازل، والخسوف والكسوف، والأمواج الصوتية، وكثير غيرها من الظواهر الطبيعية، كما نجد فيها قبولاً صريحاً كاملاً للتنجيم والكيمياء الكاذبة، ولا تخلو من عبث بالسحر وتلاعب بالأعداد. أما ما فيها من العقائد الدينية فهو شديد الصلة بالأفلاطونية الجديدة كما هو شأن الكثرة الغالبة من كتابات المفكرين المسلمين؛ فهم يقولون إنه عن الموجود الأول أي الله يصدر العقل الفعال، وعن هذا العقل يصدر عالم الأجسام والنفوس؛ وإن جميع الأشياء المادية توجدها النفس، وتعمل عن طريقها؛ وكل نفس تظل مضطربة قلقة حتى تتصل بالعقل الفاعل، أو نفس العالم، أو النفس الكلية، ويتطلب هذا الاتصال تطهير النفس تطهيراً كاملاً، والأخلاق هي الفن الذي تصل به النفس إلى هذا التطهير؛ والعلم والفلسفة والدين كلها وسائل لبلوغهِ. ويجب علينا في سعينا للتطهير أن ننسج على منوال سقراط في الأمور العقلية. وأن ننهج نهج المسيح في الإحسان إلى الخلق عامة، ونهج عليّ في نبلهِ وتواضعهِ. فإذا ما تحرر العقل عن طريق المعرفة، وجب أن يحس بحريتهِ في أن يؤول عبارات القرآن التي تتناسب مع فهم بدو غير متحضرين يسكنون الصحراء تأويلاً مجازياً(66). ويمكن القول بوجه عام أن هذه الرسائل الإحدى والخمسين أكمل ما وصل إلينا من تعبير عن التفكير الإسلامي في العصر العباسي، وإنها أعظم تناسقاً من جميع الرسائل في هذا التفكير. وقد رأى علماء بغداد أن هذه الرسائل من قبيل الإلحاد فحرقوها في عام 1150؛ ولكنها رغم هذا ظلت تتداولها الأيدي، وكان لها أثر شامل عميق في الفلسفة الإسلامية واليهودية- نشاهده في كتابات الغزالي وابن رشد، وابن جبرول، وهليفي(67)؛ وتأثر بها كذلك المعري الشاعر الفيلسوف، ولعلها كان لها أثر في ذلك الرجل الذي بز في حياته القصيرة ما في رسائل هذه الجماعة المتعاونة المؤتلفة من نزعة عقلية، وكان أكثر من أصحابها سعة في الأفق وعمقاً في التفكير ونعني به ابن سينا. ذلك أن ابن سينا لم يكفه أن يكون حجة في العلوم الطبيعية، ومرجعاً ذائع الصيت في الطب؛ وما من شك في أنه قد أدرك أن العالم لا يكمل علمه، إلا إذا أضاف إليه الفلسفة. ويحدثنا أنه قرأ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة من غير أن يفهمه ، وأنه حين استطاع آخر الأمر أن يدرك معناه بعد أن قرأ تعليق الفارابي عليه، سر لهذا سروراً عظيماً وحمد الله على هذا وخرج إلى الشارع ووزع الصدقات(68). وبقي ابن سينا مستمسكاً بفلسفة أرسطو إلى آخر أيامه. وقد سماه في كتاب القانون بالفيلسوف وهو اللفظ الذي أصبح في اللغة اللاتينية مرادفاً للفظ أرسطو نفسه. وقد فصل ابن سينا فلسفته في كتاب الشفاء ثم أوجزها في كتاب النجاة. وكان الرئيس ابن سينا ذا عقل منطقي، يصر على التعاريف والتحديدات الدقيقة. وقد أجاب عن السؤال الذي شغل علماء العصور الوسطى طويلاً وهو: هل الكليات (كالإنسان، والفضيلة، والاحمرار) توجد منفصلة عن الأشياء الجزئية المفردة فيقول: (1) إنها توجد "قبل الأشياء" في عقل الله وعلى نسقها توجد الأشياء، (2) وفي الأشياء بالصورة التي تتمثل فيها (3) وبعد الأشياء بأن تكون معاني مجردة في العقل البشري. ولكن الكليات لا توجد في العالم الطبيعي منفصلة عن الأشياء الجزئية المفردة. وبعد مائة عام من الجدل والخصام أجاب أبلار Abelard وأكوناس عن هذا السؤال هذا الجواب نفسه.

والحق أن ميتافيزيقية ابن سينا تكاد تكون خلاصة ما وصل إليه المفكرون اللاتين بعد مائتي عام من أيامهِ من توفيق بين المذاهب الفلسفية المختلفة في الفلسفة المدرسية. وهو يبدأ بشرح مفصل بذل فيه جهداً شاقاً لمذهب أرسطو والفارابي في المادة والصورة، والعلل الأربع، والممكن والواجب، والكثرة، والواحد،ويدهشه كيف تستطيع الكثرة الممكنة المتغيرة-كثرة الأشياء الفانية-أن تصدر عن الواحد الواجب الوجود الذي لا يتغير. وهو يفعل ما يفعله أفلاطون فيفكر في حل هذه المشكلة بافتراض وجود وسيط بينهما هو العقل الفاعل منتشراً في العالم السماوي، والمادي، والبشري، وهو النفس. ثم إنه وجد شيئاً من الصعوبة في التوفيق بين الانتقال من عدم الخلق إلى الخلق وبين صفة عدم التغير الملازمة لله، فينزع إلى الاعتقاد مع أرسطو بقدم العالم المادي، ولكنه يدرك أن هذا سيؤلب عليه جماعة المتكلمين فيعرض عليهم حلاً وسطاً كثيراً ما لجأ إليهِ الفلاسفة المدرسيون وهو: أن وجود الله سابق على وجود العالم سبقاً ذاتياً لا زمانياً، أي في المرتبة والجوهر والعلة؛ فوجود العالم يعتمد في كل لحظة من اللحظات على وجود القوة الحافظة له، وهي الله؛ ويقول ابن سينا إن كل الموجودات "ممكنة" حتى الأفلاك نفسها أي أنها ليست واجبة الوجود أو محتومة. وهذه الممكنات لا بد لوجودها من علة تتقدمها وتخرجها إلى الوجود، ولهذا لا يمكن تفسير وجودها إلا بإرجاعها بعد سلسلة من العلل إلى موجود واجب الوجود، أي واحد قائم بذاتهِ هو العلة الأولى لسائر الموجودات. والله وحده هو الموجود بذاتهِ، وإن وجوده اهو عين ماهيتهِ فهو واجب الوجود. ولولاه لما كان شيء مما يمكن أن يكون. ولما كان العالم كله ممكناً أي أن وجوده ليس بذاتهِ، فإن الله لا يمكن أن يكون مادة بل إنه بريء من الجسم، وهو العقل، واحد من كل وجه لا تركيب فيهِ. ولما كان في المخلوقات كلها عقل فلا بد أن يكون في خالقها عقل أيضاً. وهذا العقل الأول يرى كل شيء-الماضي والحاضر والمستقبل-لا في وقت ولا بالتتابع، بل يراه كله مرة واحدة. وحدوث هذه الأشياء هو النتيجة الزمنية لفكرة اللازمني. ولكن الأفعال والحوادث لا تصدر عن الله مباشرة، بل إن الأشياء تتطور بفعل غائي داخلي-أي أن لها أغراضاً ومصائر في ذاتها. ولهذا فإن الله لا يصدر عنه الشر، بل إن الشر هو الثمن الذي نؤديه نظير ما لنا من حرية الإرادة، وقد يكون الشر للجزء هو الخير للكل(69).

ووجود النفس يدل عليه التأمل الداخل المباشر. والنفس لهذا السبب عينه روحانية، فنحن لا ندرك أكثر من أنها كذلك، وأفكارنا منفصلة انفصالاً واضحاً عن أعضائنا. وهي مبدأ الحركة الذاتية والنماء في الجسم؛ وبهذا المعنى تكون للكواكب نفوس. والكون كله مظهر لمبدأ الحياة العام(70). والجسم وحده لا يستطيع أن يكون فاعلاً، بل إن سبب كل حركة من حركاته هو نفسه التي تحل فيه، ولكل نفس ولكل عقل قدر من الحرية والقدرة على الخلق والإبداع شبيهة بقدرة السبب الأول لأنها فيض منه. وتعود النفس الخالصة بعد الموت إلى الاتصال بالفعل الكلي، وفي هذا الاتصال تكون سعادة السعداء الصالحين(71).

وقد بذل ابن سينا كل ما يستطيع أن يبذله من الجهود للتوفيق بين الآراء الفلسفية وعقائد جمهرة المسلمين. فلم يكن مثل لكريشيوس يرغب في القضاء على الدين من أجل الفلسفة، ولم يكن كالغزالي في القرن الذي بعده يريد أن يقضي على الفلسفة من أجل الدين، بل هو يعالج كل مسألة مستنداً إلى العقل وحده، غير متقيد مطلقاً بالدين؛ ويحلل الوحي في ضوء قوانين الطبيعة(72)، ولكنه يؤكد حاجة الناس إلى الأنبياء ليبينوا لهم قواعد الأخلاق في صور من الاستعارات والمجازات تفهمها عقولهم وتتأثر بها. وبهذا المعنى يكون النبي رسول الله لأنه يضع الأسس التي يقوم عليها النظام الأخلاقي والاجتماعي(73). ومن أجل هذا كان النبي ينادي ببعث الأجسام، وكان في بعض الأحيان يصور الجنة تصويراً مادياً؛ والفيلسوف، وإن كان يشك في خلود الجسم، يدرك أنه لو أن النبي قد اقتصر على تصوير الجنة تصويراً روحياً محضاً لما استمع الناس إليه، ولما تألفت منهم أمة واحدة قوية منظمة. وأرقى البشر وأرفعهم درجة هم الذين يستطيعون أن يعبدوا الله عبادة تقوم على الحب الحر، وهو الذي لا ينبعث من الرغبة أو الرهبة، ولكن هؤلاء لا يكشفون عن هذه المرتبة السامية لعامة أتباعهم بل يكشفونها لمن كملت عقولهم وسمت نفوسهم(74).

وكتابا الشفاء والقانون لابن سينا هما أرقى ما وصل إليه التفكير الفلسفي في العصور الوسطى، وهما من أعظم البحوث في تاريخ العقل الإنساني. وهو يسترشد في كثير من بحوثهِ في الكتابين بأرسطو والفارابي، كما استرشد أرسطو في كثير من بحوثهِ بأفلاطون. غير أن هذا لا ينقص من قدره، ذلك أن نزلاء المستشفيات العقلية هم وحدهم المبدعون تمام الإبداع الذين لا يتأثرون بعقول غيرهم. وفي بعض أقوال ابن سينا ما يبدو لعقولنا المعرضة إلى الخطأ أنه سخف وهراء، ولكن هذا الحكم بعينهِ ينطبق أيضاً على أقوال أفلاطون وأرسطو، والحق أنه ليس ثمة سخيف لا نجده في صحف الفلاسفة. ولسنا نجد عند ابن سينا ما نجده عند البيروني من أمانة التشكك، وروح النقد، واتساع الأفق، وحرية العقل، وهو أكثر منه أخطاء، ذلك أ، البحوث التركيبية لا بد أن تؤدي هذا الثمن ما دامت الحياة على ما هي من قصر الأمد. ولقد بز الرئيس ابن سينا جميع أقرانه بوضوح أسلوبهِ، وحيويتهِ، وبقدرتهِ على جعل التفكير المجرد مشرقاً بعيداً عن السآمة والملل بما يبثه فيه من القصص الإيضاحية وأبيات الشعر التي لا نرى عليهِ مأخذاً في إيرادها، وباتساع مجاله الفلسفي والعلمي اتساعاً منقطع النظير. ولقد كان ابن سينا عظيم الأثر فيمن جاء بعده من الفلاسفة والعلماء، وقد تعدى هذا الأثر بلاد المشرق إلى الأندلس حيث شكل فلسفة ابن رشد وابن ميمون، وإلى العالم المسيحي اللاتيني وفلاسفته المدرسين؛ وإنا لندهش من كثرة ما نجده من آراء ابن سينا في فلسفة ألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، ويسميه روجر بيكن: "أكبر عميد للفلسفة بعد سطو"(75). ولم يكن أكوناس وهو يتحدث عنه بنفس الاحترام الذي يتحدث به عن أفلاطون مجاملاً قط كمألوف عادته حين يتحدث عن عظماء الرجال . وكاد أجل الفلسفة العربية في الشرق أن ينقضي بموت ابن سينا، ذلك أن نزعة السلاجقة السنية القوية، وارتياع رجال الدين من الآراء الفلسفية الجريئة، وانتصار نزعة الغزالي الصوفية، لم تلبث كلها أن قضت على كل تفكير. وإن مما يؤسف له أ، يكون علمنا بتلك القرون الثلاثة (750-1050) التي ازدهر فيها التفكير الإسلامي ناقصاً كل النقص. ويرجع سبب ذلك إلى أن آلافاً من المخطوطات العربية في العلوم، والآداب، والفلسفة لا تزال مخبوءة في مكتبات العالم الإسلامي. ففي اسطنبول وحدها ثلاثون من مكتبات المساجد، لم يرَ الضوء من مخطوطاتها إلا النزر اليسير، وفي القاهرة، ودمشق، والموصل، وبغداد ودلهي، مجموعات ضخمة، لم يعنَ أحد حتى بوضع فهارس لها ، وفي الأسكوريال بالقرب من مدريد مكتبة ضخمة لم يفرغ بعد من إحصاء ما فيها من مخطوطات إسلامية في العلوم، والآداب والشريعة، والفلسفة(77). وليس ما نعرفه من ثمار الفكر الإسلامي في تلك القرون الثلاثة إلا جزءاً صغيراً مما بقي من تراث المسلمين، وليس هذا الجزء الباقي إلا قسماً ضئيلاً مما أثمرته قرائحهم؛ وليس ما أثبتناه في هذه الصحف إلا نقطة من بحر تراثهم. وإذا كشف العلماء عن هذا التراث المنسي فأكبر ظننا أننا سنضع القرن العاشر من تاريخ الإسلام في الشرق بين العصور الذهبية في تاريخ العقل البشري.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامِس: التصوف والإلحاد

يلتقي الدين والفلسفة في أعلى درجاتهما في معنى وحدة الكون وفي تأمل هذه الوحدة. والنفس حين لا تسلك طريق البحث على منهاج العقل والمنطق، وحين تعجز عن الانتقال من الكثرة إلى الوحدة، ومن الحادث الفرد إلى القانون العام، قد يكون في وسعها أن تصل إلى هذه الرؤيا عن طريق اندماج النفس الفردية وتلاشيها في النفس الكلية. وحيث عجز العلم وعجزت الفلسفة، وحيث يرتد عقل الإنسان القاصر المحدود أمام اللانهائية خاسئاً وهو حسير، فإن الإيمان قد يسمو بالإنسان إلى ما بين عرش الله إذا أخذ نفسه بنظام صارم من الزهد، والتقشف، والتفاني في العبادة، والتجرد من كل رغبة أنانية، وإفناء الجزء في الكل إفناءً كاملاً.

ويرجع التصوف الإسلامي إلى أصول كثيرة: منها نزعة الزهد عند الفقراء الهندوس، وغنوطسية ومصر والشام، وبحوث الأفلاطونية الجديدة عند اليونان المتأخرين، وتأثير الرهبان المسيحيين الزاهدين المنتشرين في جميع بلاد المسلمين وقد وجدت في العالم الإسلامي، كما وجدت في العلم المسيحي، أقلية تقية تعارض في تكييف الدين حسب وسائل العالم الاقتصادي ومصالحه؛ فكانوا ينددون بترف الخلفاء، والوزراء، والتجار، ويدعون المسلمين أن يعودوا إلى بساطة أبي بكر وعمر بن الخطاب. وكانوا يرفضون فكرة وجود وسيط أياً كان بينهم وبين الله؛ وحتى فروض الصلاة الصارمة نفسها كانت تبدو لهم عقبة تحول بينهم وبين تلك المرتبة التي تسمو فيها الروح بعد أن تتطهر من جميع مشاغلها الدنيوية حتى تشاهد ذات الله العلية. فإذا سمت فوق هذه المرتبة استطاعت أن تتحد مع ذات الله نفسها. وازدهرت حركة التصوف في بلاد الفرس بنوع خاص ولعل سبب ازدهارها فيها فربها من بلاد الهند، كما ازدهرت في جنديسابور بتأثير الديانة المسيحية وتقاليد الأفلاطونية الجديدة التي وضعها فلاسفة اليونان بعد أن فروا من أثينة إلى فارس في عام 529. وكلمة صوفي التي تطلق على معظم الزهاد المسلمين مشتقة من ثياب الصوف البسيطة التي كانوا يرتدونها . وكانت طوائف الصوفية تضم كثيرين من المؤمنين بمبادئها المتحمسين لها، ومن كبار الشعراء، والقائلين بوحدة الوجود، والزهاد، والمشعوذين، والكثيري الزوجات. وكانت مبادئهم تختلف باختلاف الأوقات والبيئات؛ ويقول ابن رشد إن الصوفيين يعتقدون أن معرفة الله مستقرة في قلوبنا، بعد أن نتخلى عن الشهوات الجسمية والانقطاع إلى الله(78).

ولكن كثيرين من الصوفيين حاولا أن يصلوا إلى الله عن طريق الأشياء الخارجية أيضاً، فقالوا أن كل ما نراه في العالم من كمال وجمال سببه حلول الله فيه. ويقول أحد الصوفية إنه لا يسمع صوت الحيوان، أو حفيف أوراق الشجر، أو خرير الماء، أو تغريد الطير، أو هبوب الريح، إلا أحس أنها كلها شواهد على وحدانيتهِ وأنه سبحانه لا شبيه له(79). والحق أن الصوفي يعتقد أن هذه الأشياء المتفرقة إنما توجد بما فيها من القوة الإلهية، وأنها إنما وجدت لما هو كامن فيها من روح الله. وعلى هذا فالله هو كل شيء، وهم لهذا لا يكتفون بالقول بأنه لا إله إلا الله، بل يضيفون إلى هذا أنه لا موجود بحق سواه(80). وعلى هذا فكل نفس هي الله؛ والصوفي الكامل يجهر في غير مواربة بأنه "هو نفس الذات الإلهية". ويقول أبو زيد (حوالي عام 900): "إني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني" . ويقول الحسين ابن منصور الحلاج:


أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا



فإذا أبصرتني أبصرتـــه وإذا أبصرته أبصرتنا



إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود... أنا الحق


وقُبض على الحلاج لمغالاتهِ في عقيدتهِ الصوفية، وضُرب مائة سوط وألقي به في النار حتى مات (922). ويدعي أتباعه أنهم شاهدوه وتحدثوا إليه بعد أن خمدت أنفاسهُ على هذا النحو إلى حين، واتخذه كثيرون من الصوفية وليهم وحاميهم. ويعتقد الصوفي كما يعتقد الهندوسي أن نظاماً صارماً من التطهير لا بد منه لكي ينكشف عنه الغطاء ويرقى إلى عالم الفيض والإلهام. والتطهير يكون بضروب من التفاني في الطاعات، والتأمل والنظر والتدبر، والصلاة، وإطاعة المريد لأستاذهِ الصوفي أو معلمهِ، والتجرد الكامل من جميع الشهوات البدنية، بما فيها التجرد من شهوة النجاة، والاتحاد الصوفي مع الله. والصوفي الكامل يحب الله لذاتهِ لا رغبةً في ثواب ولا خوفاً من عقاب. وفي ذلك يقول أبو القاسم إن المعطي خير من العطية(83). والصوفي عادةً يتخذ هذا النظام وسيلة يصل بها إلى معرفة الأشياء معرفة حقيقية، ومنهم من يتخذه نهجاً يرتفع بهِ إلى درجة من الكرامة تجعل له سلطاناً على الطبيعة، ولكنه يكاد يكون على الدوام سبيلاً إلى الاتحاد مع ذات الله. ومن فنيت نفسه فناءً تاماً في هذا الاتحاد يسمى عندهم الإنسان الكامل(84). ويعتقد الصوفية أن من وصل إلى هذه المرتبة أصبح فوق كل القوانين، وغير ملزم حتى بأداء فريضة الحج. وفي ذلك يقول أحد المتصوفة إن كل العيون تتجه نحو الكعبة أما عيوننا فتتجه نحو وجه الحبيب(85).

وظل الصوفية يعيشون في الدنيا كسائر الناس حتى منتصف القرن الحادي عشر، وكانوا أحياناً يعيشون مع أسرهم وأبنائهم. بل إنهم كانوا لا يرون للعزوبة قيمة كبرى من الناحية الأخلاقية. وفي ذلك يقول أبو سعيد إن الولي الحقيقي يسير بين الناس، ويأكل وينام معهم، ويشتري ويبيع في الأسواق، ويتزوج، ويشترك مع الناس في مجالسهم، ولا ينسى الله لحظة واحدة(86).

ولم يكن هؤلاء الصوفية يمتازون عن غيرهم بشيء سوى بساطة حياتهم، وتقواهم وخشوعهم، وهم يشبهون من هذه الناحية طائفة الكويكرين المسيحيين. وكانوا من حين إلى حين يجتمعون حول شيخ من الأتقياء الصالحين أو يجتمعون جماعات للصلاة والدعوة المتبادلة إلى التقى والصلاح. وقد بدأت منذ القرن العاشر مجالس الذكر التي أصبح لها شأن عظيم عند الصوفية المتأخرين. ومنهم عدد قليل اعتزلوا العالم وعذبوا أنفسهم، وإن كان الزهد في ذلك الوقت من الأمور النادرة، وكان يلقى كثيراً من المقاومة. وكثر الأولياء من بين الصوفية بعد أن لم يكن لهم وجود في بداية الإسلام. ومن أوائل هؤلاء رابعة العدوية من أهل البصرة (717-801). وكانت في شبابها جارية اشتريت بالمال ولكن سيدها أعتقها لأنه شاهد هالة من النور فوق رأسها وهي قائمة للصلاة. وأبت رابعة أن تتزوج وعاشت عيشة الزهد، وإنكار الذات، وفعل الخير. وسئلت في يوم من الأيام "هل تكرهين الشيطان؟"، فأجابت: "إن حبي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان". ومما يروى عنها تلك المناجاة الصوفية الذائعة الصيت: "إلهي! إن كنتُ عبدتكَ خوف النار فاحرقني بالنار، أو طمعاً في الجنة فحرّمها عليَّ، وإن كنتُ لا أعبدكَ إلا من أجلكَ فلا تحرمني من شاهدة وجهكَ؛ إلهي! كل ما قدرَّتهُ لي من خير في هذه الدنيا أعطه لأعدائكَ، وكل ما قدرته لي في الجنة امنحه لأصدقائكَ، لأني لا أسعى إلا إليكَ وحدكَ" .

ولنختر من بين الصوفية وهم كثيرون واحداً من الأولياء الصالحين هو الشاعر أبو سعيد بن أبي الخير (967-1049). ولد هذا الرجل في ميهنة من أعمال خراسان واتصل بابن سينا؛ ويروى عنه أنه قال في هذا الفيلسوف إن ما يراه ابن سينا يعرفه هو(88). وقد أولع في صباه بالأدب البذيء، ويقول عن نفسهِ إنه حفظ عن ظهر قلب ثلاثين ألف بيت لشعراء الجاهلية. ولما بلغ السادسة والعشرين من عمرهِ سمع في يوم من الأيام درساً لأبي عليّ يدور حول قوله تعالى "قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون". ويقول أبو سعيد إنه ما كاد يسمع هذه الآية حتى فُتح في قلبهِ باب الإيمان وكأنما انتزع من نفسهِ فجمع كتبهُ كلها وأحرقها ثم آوى إلى ركن في بيتهِ، وجلس فيهِ سبع سنين يذكر فيها اسم الله. ولقد كان تكرار لفظ الجلالة عند الصوفية المسلمين سبيلاً محببة إلى "الفناء" ويقصدون بهِ انتقال الصوفي عن نفسهِ في حال وجده. وزاد أبو سعيد على هذا عدة أساليب من الزهد والتقشف، فلم يلبس إلا قميصاً واحداً، ولم يتكلم إلا عند الضرورة القصوى، ولم يذق الطعام إلا وقت الغروب. ولم يكن طعامهُ إلا كسرة من الخبز، ولم يرقد على فراش لينام، وحفر في جدار بيتهِ حفرة، لا تزيد حين يقف فيها على طولهِ وعرضهِ، وكثيراً ما كان يحبس نفسهُ فيها. ويسد أذنيه لكيلا تصل إليهما أصوات من الخارج. وكان في بعض الليالي يربط نفسه بحبل ويتدلى برأسهِ في بئر، ويتلو القرآن كله قبل أن يخرج إلى سطح الأرض-هذا إذا صدقنا قول أبيه عنه. وقد عكف على خدمة غيره من الصوفية، فكان يتسول لهم، وينظف لهم خلواتهم وفضلاتهم. ويقول عن نفسهِ إن امرأة صعدت إلى سقف المسجد وهو فيه وألقت عليه الأقذار، ولكنه مع ذلك ظل يسمع صوتاً يناديه "أليس الله بكافٍ عبدهُ؟". ولما بلغ الأربعين من عمرهِ وصل إلى مرتبة الإشراف الكامل وبدا يخطب الناس، والتف حوله كثيرون من الأتقياء المخلصين، ويؤكد لنا هو أن بعض مستمعيه كانوا يلطخون وجوههم بروث حماره لتحل عليهم بركته(89). وقد ترك أثره في التصوف بأن أنشأ خانقاه للدراويش ووضع لها طائفة من قواعد جعلتها نموذجاً لأبناء الطائفة في القرن الذي بعده.

وكان أبو سعيد يعلم الناس، كما علمهم القديس أوغسطين، أن رحمة الله، لا أعمال العبد الصالحة، هي سبيل النجاة؛ ولكنه كان يعني بالنجاة، التحرر الروحي، ولم يفهمها على أنها دخول الجنة، ويقول إن الله يفتح للإنسان باباً بعد باب التوبة ثم يأتي بعدها باب اليقين فإذا بلغه تقبل السباب والتحقير وعلم علم اليقين مصدره... ثم يفتح له الله بعدئذ باب الحب، ولكنه لا ينفك يقول في نفسهِ "أحب"... ثم يفتح له باب التوحيد... وعنده يدرك أن الله كل شيء منه وإليه... ويعرف أنه غير محق في قوله "أنا" أو "لي"... لأن الرغبات تتساقط عنه فيتخلى عنها ويهدأ باله... لأن الإنسان لا يفر من نفسهِ إلا إذا قتلها. إن نفسكَ تبعدك عن الله، وتقول إن فلاناً وفلاناً يتوعداني في الشر... وهذا قد أحسن إليَّ-كل هذا شرك بالله، فليس شيء يعتمد على المخلوقات، بل يعتمد كل شيء على الخالق. إن عليكَ أن تعرف هذا، فإذا قلته فاثبت عليهِ... والثبات معناه أنكَ إذا قلتَ "واحداً" فلا تقل "اثنين" أبداً... قل الله واثبت على هذا القول(90).

وتظهر هذه العقيدة الهندية-الإمرسونية في بعض الأقوال المنسوبة إلى أبي سعيد وإن كانت نسبتها إليه مشكوكاً فيها!

وسألته: "لمن يكون جمالك؟" فقال: "لي" لأنه لا موجود سواي؛ أنا الحب، والمحبوب، والحب كلها في واحد، أنا الجمال، والمرأة، والعينان اللتان تريان(91).

وإذا لم يكن عند المسلمين، كما كان عند المسيحيين، كهانة تثبت لهؤلاء الأبطال الصالحين قداستهم، فقد خلع عليهم الشعب نفسه هذه القداسة، ولم يحلّ القرن الثاني عشر الميلادي حتى غلبت عواطف الشعب الطبيعية، ما نهى عنه الدين من تقديس الأولياء الصالحين واعتبار هذا التقديس ضرباً من الوثنية. وكان من أوائل هؤلاء الأولياء الصالحين إبراهيم ابن أدهم (القرن الثامن؟)، وهو الذي يسميه لي هنت Leigh Hunt في قصيدة له مشهورة أبو أبن أدهم Abou Ben Adhem. ويغزو خيال العامة إلى هؤلاء الأولياء قوى خارقة فيقولون إنهم قد كُشف عن أعينهم الغطاء فأصبحوا يرون ما لا يراه عامة الناس، ويقرؤون الأفكار، ويتبادلون الخواطر والمشاعر مع الناس، بل إنهم يبالغون في مقدرتهم فيقولون إن في وسعهم أن يبتلعوا النار والزجاج دون أن يصيبهم في ذلك أذى، وأن يخترقوا النيران من غير أن يحترقوا بها، وأن يمشوا على الماء، ويطيرون في الهواء، ويجتازوا المسافات الشاسعة في غمضة عين. ويروي أبو سعيد حالات من قراءة الأفكار لا تقل غرابة عن أغرب ما يروى من نوعها في هذه الأيام(92). وهكذا يحدث على توالي الأيام أن الدين الذي يظن بعض الفلاسفة أنه من صنع القساوسة والكهان، يتشكل ثم يتشكل بتأثير حاجات الناس وعواطفهم وخيالهم، حتى يصبح التوحيد الذي يجئ به الأنبياء ثم يكون هو بعينه الشرك الذي يعتقده عامة الشعب.

وقبل المسلمون من أهل السنة الصوفية في حظيرة الدين الإسلامي، وأفسحوا لهم مجالاً كبيراً في عقائدهم وأقوالهم. ولكن هذه الخطة الحكيمة لم تمتد إلى الطوائف المارقة التي تخفي ستار العقائد الدينية آراء سياسية ثورية، أو تدعوا إلى الفوضى الأخلاقية والقانونية. وبين هذه الطوائف الثورية التي مزجت في عقائدها الدين بالسياسة طائفة "الإسماعيلية". ويذكر القارئ ما قلناه قبل من أن الشيعة يقولون إن على رأس كل جيل من أبناء علي إلى الجيل الثاني عشر إماماً أو زعيماً، وإن هذا الإمام يختار من يخلفه في هذه الزعامة. وعلى هذا الأساس عين الإمام السادس جعفر الصادق ابنه إسماعيل خليفة له من بعده. ويقال إن إسماعيل هذا أدمن الخمر، فخلعه جعفر عن الإمامة وأختار بدله موسى الإمام السابع (حوالي عام 760). ورأى بعض الشيعة أن بيعة إسماعيل لا يجوز نقضها وقالوا إنه هو أو ابنه محمد هو الإمام السابع وآخر الأئمة. وظلت طائفة "الإسماعيلية" هذه نحو مائة سنة قليلة الخطر لا يؤبه بها، حتى تزعمها عبد الله بن ميمون القداح وأرسل المبشرين يدعون إلى عقيدة الطائفة في بلاد الإسلام. وكان يطلب إلى المبتدأ قبل الدخول إلى الطائفة أن يقسم بألا يفشي شيئاً من أسرارها، وأن يطع الزعيم الأكبر للطائفة في كل ما يأمره به. وكانت تعاليمهم قسمين أحدهما باطني وآخر ظاهري. وكان يقال لمن يدخل في مذهبهم إنه بعد أن يمر بتسعة مراحل ترفع عنه جميع الحجب، وينكشف له التعليم أو العقيدة الخفية (الله هو كل شيء) فيصبح فوق كل عقيدة وكل قانون. وفي المرتبة الثامنة يقال له إن الكائن الأعلى لا يمكن أن يعرف عنه شيء، وإن أحداً لا يستطيع أن يعبده(93)؛ وقد انظم إلى الطائفة الإسماعيلية كثيرون من فلول الحركات الشيوعية، دفعهم إلى هذا ما تقول به من أن مهدياً سيظهر في وقت من الأوقات، ويبسط على الأرض عهداً من المساواة، العدالة، والحب الأخوي. وقد أوضحت هذه الطائفة الأخوية العجيبة قوة ذات شأن عظيم في الإسلام سيطرت في وقت من الأوقات على شمالي إفريقية ومصر، وأسست الخلافة الفاطمية، وقامت في أواخر القرن التاسع بحركة كادت تقضي على الخلافة العباسية.

ولما مات عبد الله القداح في عام 874 تولى زعامة الإسماعيلية فلاح عراقي اشتهر باسم حمدان قرمط، وبعث فيها من النشاط ما جعل الناس في آسية يسمون أتباعها في وقت من الأوقات بالقرامطة نسبة إليه. وكان يرمي إلى القضاء على قوة العرب، وإعادة الدولة الفارسية؛ وضم إليه خفية آلافاً من المؤيدين، والأعوان، وفرض عليهم أن يخرجوا من خمس أملاكهم ليصبح ملكاً عاماً للجماعة. ودخل للمرة الثانية عنصر من عناصر الثورة الاجتماعية في تلك الحركة التي كانت في ظاهر أمرها نوعاً من الصوفية الدينية. فكان القرامطة يقولون بشيوعية الملك والنساء(94)، وقد نظموا العمال في طوائف للحرف، ونادوا بالمساواة بين كافة الناس، وأخذوا يفسرون القرآن تفسيراً مجازياً لا يتقيدون فيه بأقوال أهل السنة. وكانوا يتحللون من الشعائر الدينية ومن الصيام، ويسخرون من البلهاء الذين يعبدون الأضرحة والحجارة(95). وبلغ من أمرهم أن أقاموا في عام 899 دولة مستقلة على الشاطئ الغربي للخليج الفارسي، وهزموا جيش الخليفة في عام 900، وأفنوه عن آخره، ولم ينج من القتل جندي واحد. وفي عام 902 اجتاحوا بلاد الشام ووصلوا إلى أبواب دمشق، وفي عام 924 نهبوا البصرة ثم الكوفة؛ وفي عام 930 نهبوا مكة نفسها، وقتلوا ثلاثين ألفاً من المسلمين، وعادوا بكثير من الغنائم، منها كسوة الكعبة، والحجر الأسود . غير أن هذا الغلو وهذه الانتصارات استنفذت قوة تلك الحركة؛ واتحد الناس لمقاومة دعوتها التي كانت تهدد الملك والنظام العام؛ ولكن مبادئها وأساليبها العنيفة انتقلت في القرن التالي إلى إسماعيلية ألموَت ، وهم المعروفون بالحشاشين.


الفصل السَّادِس: الأدب

لقد كان في الحياة والدين في الإسلام مواقف أشبه ما تكون بالمسرحيات، أما الأدب الإسلامي فقد خلا من هذا الصنف من صنوف الكتابة، وهو صنف يبدو أنه غريب على العقلية السامية، كذلك خلا ذلك الأدب كما خلا غيره من آداب العصور الوسطى من الروايات القصصية؛ فقد كان معظم الكتابات مما يستمع إليه الناس لا مما يقرؤون وهم صامتون، ولم يكن في وسع من يهتمون بنتاج الخيال أن يرقوا إلى الدرجة التي يستطيعون أن يركزوا فيها عقولهم ذلك التركيز الذي لا بد منه لكتابة القصة المعقدة المتصلة بالحلقات. أما القصص القصيرة فكانت قديمة قدم الإسلام نفسه أو قدم آدم أبي البشر، وكان أكثر المسلمين سذاجة ينصتون إليها في حماسة الأطفال وتشوقهم، أما العلماء فلم يكونوا يحسبونها أدباً، وكانت أشهر هذه القصص القصيرة قصص بيدبا، وقصص ألف ليلة وليلة. وقد نقلت القصص الأولى من الهند إلى فارس في القرن السادس، وترجمت إلى اللغة الفهلوية، ومنها ترجمت إلى اللغة العربية في القرن الثامن. م فقد أصلها السنسكريتي، وبقيت الترجمة العربية، ومنها نقلت إلى ما يقرب من أربعين لغة أخرى.

يحدثنا المسعودي (المتوفى عام 597) في مروج الذهب عن كتاب فارسي يدعى هزاز أفسانة أو ألف قصة وعن ترجمته العربية ألف ليلة وليلة؛ وهذه على ما نعلم أول مرة ذكر فيها كتاب ألف ليلة وليلة. وخطة الكتاب كما يصفها المسعودي هي الخطة التي نجها في كتاب ألف ليلة وليلة العربي. وكان هذا الإطار المحتوي على سلسلة من القصص معروفاً من قديم الزمن في بلاد الهند، وكان عدد كبير من هذه القصص متداولاً في العالم الشرقي، ولربما كانت كل مجموعة منها تختلف في محتوياتها عن غيرها من المجموعات، ولسنا واثقين أن أية قصة في المجموعة المعروفة لنا الآن كانت من القصص التي تحتويها المجموعة التي يحدثنا عنها المسعودي. وحدث بعد سنين قلائل من عام 1700 أن أرسل مخطوط غير كامل، لا يمكن تتبع تاريخه إلى ما قبل عام 1536، من بلاد الشام إلى المستشرق الفرنسي أنطوان جالان Antoine Galland، وافتتن هذا المستشرق بخيال القصص الغريب، وبما فيها من وصف لحياة المسلمين الداخلية، ولعله افتتن أيضاً بما فيها من بذاءة، فأصدر في باريس عام 1704 أولى تراجمها إلى اللغات الأوربية Les mille et une nuits. ونجح الكتاب نجاحاً فوق ما كان يتوقع له، وترجم إلى جميع اللغات الأوربية، وشرع أطفال جميع الأمم يتحدثون عن السندباد البحري، وعن مصباح علاء الدين، وعن علي بابا واللصوص الأربعين. وخرافات بيدبا، وقصص ألف ليلة أكثر ما يقرأه الناس من الكتب في العالم كله إذا استثنينا الكتاب المقدس (وهو أيضاً كتاب شرقي) .

والنثر الأدبي في الكتب الإسلامية صورة من الشعر. ذلك أن المزاج العربي ينزع إلى الشعور القوي، والآداب الفارسية تميل إلى الكلام المزخرف، واللغة العربية التي كانت في الوقت الذي نتحدث عنه يتكلم بها أهل البلدين تدعو إلى جعل النثر مقفى لتشابه أواخر الألفاظ طوعاً لقواعد الصرف؛ ولهذا فإن النثر الأدبي كثيراً ما يكون مسجوعاً؛ وكان الوعاظ، والخطباء، والقصاصون، يلجأون إلى النثر المسجع، وبهذا كتب بديع الزمان الهمذاني (المتوفى عام 1008) مقاماته-وهي قصص كان يرويها لجماعات مختلفة عن وغد أفاق أوتي من الذكاء الفكاهة أكثر مما أوتي من الأخلاق الطيبة. وكانت عقول أهل الشرق الأدنى في ذلك الوقت تتأثر بما يصل إليها عن طريق الأذن، شأنهم في هذا شأن جميع الناس قبل اختراع الطباعة، وكان الأدب عند معظم المسلمين لا يعدو أن يكون قصيدة تنشد أو قصة تروى؛ وكانت القصائد تُكتب لكي تُقرأ بصوتٍ عالٍ أو تُغنى، وكان كل شخص في بلاد الإسلام من الخليفة إلى الفلاح يطرب لسماعها. وقلما كان هناك شخص لا يقرض الشعر-كما كانت الحال عند طبقة السموراي في بلاد اليابان. وكان من ضروب التسلية العامة لدى الطبقات المتعلمة أن يكمل شخص بيتاً من الشعر بدأه غيره، أو يتم مقطوعة بدأها زميله، أو ينافس مناظراً له في ارتجال مقطوعة غنائية أو نكتة شعرية. وكان الشعراء ينافس بعضهم بعضاً في ابتداع ضروب معقدة من الأوزان والقوافي، وكان كثيرون منهم يقفون أواسط الأبيات الشعرية وأواخرها، وكثرت ضروب الأوزان والقوافي في الشعر العربي وكان لها بالغ الأثر في نشأة القافية في الشعر الأوربي.

ولم تضارع حضارة من الحضارات ولم يضارع عصر من العصور-لا نستثني من هذا التعميم حضارة الصين في أيام لي بو، ودوفو، ولا حضارة فيمار Veimar حين كان فيها "مائة مواطن وعشرة آلاف شاعر"-الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية في عدد شعرائها وتراثهم. وقد جمع أبو الفرج الأصفهاني (897-967) في أواخر ذلك العصر كثيراً من أشعارهم في كتاب الأغاني. وحسبنا دليلاً على غنى الشعر العربي وتنوعه أن نعرف أن هذا الكتاب يتكون من عشرين مجلداً. وكان الشعراء ينشرون الدعايات المختلفة، والناس يخشون هجومهم اللاذع، والأغنياء يبتاعون مديحهم بيتاً بيتاً، والخلفاء يجزون الشعراء بالمناصب العالية وينفحونهم بالهبات السخية إذا قالوا فيهم قصائد من الشعر أو مجدوا أعمالهم أو مدحوا قبائلهم. ويحكى أن هشاماً أراد مرة أن يتذكر قصيدة من القصائد فأرسل في طلب حماد الشاعر الراوية، وكان من حظهِ أنه يذكر القصيدة بأكملها، فلما أنشدها لهشام أجازه بجاريتين وبخمسين ألف دينار(97)، وأكبر ظننا أن أحداً من شعراء هذه الأيام لن يصدق هذه القصة. وبعد أن كان الشعر العربي ينشد لبدو الصحراء، أضحى الآن يوجه إلى قصور الخلفاء ورجال حاشيتهم، وأصبح الكثير منه متكلفاً، أكثر ما يعنى به هو الشكل، شديد التأنق إلى حد التفاهة، كثير المجاملة خالياً من الإخلاص؛ ولهذا نشبت معركة بين أنصار القديم وبين أنصار الحديث، وأخذ النقاد يشكون وهم متألمون قائلين إنه لم يوجد شعراء عظماء إلا قبل عهد النبوة(98).

والحب والحرب أكثر مواءمة للشعر من الموضوعات الدينية، وقلما كان شعر العرب صوفي النزعة (وإن كان هذا الحكم لا يصدق على شعر الفرس)؛ فقد كان الشاعر العربي يفضل أناشيد القتال، والعاطفة، والانفعالات النفسية؛ ولما أن اختتم قرن الفتوح الإسلامية أخذ الشعراء يستمدون وحيهم من النساء أكثر مما يستمدونه من الموضوعات الحربية والدينية، وأخذ شعراء الإسلام يصفون مفاتن المرأة-شعرها العطر، وعينيها الشبيهتين بالدرتين، وشفتيها القرمزيتين، وأطرافها الفضية؛ وظهرت في الصحراوات وفي المدينتين المقدستين القصائد الغنائية؛ وأصبح الأدب في عرف الفلاسفة والشعراء يعني أدب الحب وسلوك المحبين. وانتقل هذا المعنى عن طريق مصر وإفريقية إلى صقلية وأسبانيا، ومنهما إلى إيطاليا وبروفانس Provence في فرنسا، وانطلقت الألسن وجادت القرائح بالشعر الموزون المقفى.

واشتهر الحسن بن هانئ باس أبي نواس-لغدائره التي كانت تنوس على كتفيهِ. وكان مولده في بلاد الفرس، ثم رحل إلى بغداد، ونال الحظوة عند الخليفة الرشيد، ولعله اشترك معه في واحدة أو اثنتين من المغامرات التي تعزى إليهما في كتاب ألف ليلة وليلة. وكان أبو نواس مولعاً بالخمر والنساء والغناء.

وكثيراً ما أغضب الخليفة بإدمانهِ الخمر جهرة، وبزندقتهِ ودعارتهِ؛ كثيراً ما سجنه ثم أطلقه، وتاب أبو نواس شيئاً فشيئاً واستمسك آخر الأمر بأهداب الفضيلة، وانتهى بأن كان يحمل المسبحة والقرآن معه أينما سار. ولكن أكثر ما كانت تحبه مجامع العاصمة هو أغانيه التي وصف فيها الخمر والفساد:


يا سليمان! غنني ومن الراح فاسقني



فإذا ما دارت الزجا جة خذها واعطني



ما ترى الصبح قد بدا في إزار مُبَيّي



عاطني كأس سلوة عن أذان المؤذن




تكثر ما استطعت من الخطايا فإنك بالغ رباً غفوراً



ستبصر إن قدمت عليه عفواً وتلقى سيداً ملكاً كبيراً



تعض ندامة كفيك مما تركت مخافة النار السرورا


وكان في بلاط صغار الأمراء والسلاطين أيضاً شعراؤهم-فكان في بلاط سيف الدولة شاعر لا تكاد تعرف عنه أوربا شيئاً، ولكن العرب يحسبونه خير شعرائهم على الإطلاق. واسم هذا الشاعر أحمد بن الحسين، ولكنه يشتهر عند المسلمين باسم المتنبي-أي مدعي النبوة. وقد ولد هذا الشاعر في الكوفة عام 915، وتلقى العلم في دمشق، ثم أدعى النبوة، فقبض عليه وأطلق بعدئذ سراحه، أقام في بلاط أمير حلب. وكان كأبي نواس مستهتراً بالدين لا يصوم ولا يصلي ولا يقرأ القرآن(101)، ومع أنه لم يكن يرى أن الحياة ترقى إلى المستوى اللائق بهِ، فإنه كان يستمتع بها استمتاعاً يصرفه عن التفكير في الخلود. وقد أشاد بانتصارات سيف الدولة في شعر واسع جمع بين قوة المعنى وجمال اللفظ إلى حد أصبح معه هذا الشعر واسع الانتشار بين قراء العربية متعذر الترجمة إلى اللغة الإنجليزية. ومن هذا الشعر بيته المشهور الذي كان سبباً في هلاكهِ وهو.


الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم


وذلك أن جماعة من اللصوص هاجمته، وأراد هو الفرار، فذكره غلامه بهذا البيت وما يحويه من تفاخر؛ وأراد المتنبي أن يصدق فعله قوله؛ فحارب ومات مثخناً بجراحهِ(965)(102). وبعد ثمان سنين من ذلك العام ولد في معرة النعمان القريبة من حلب أبو العلاء المعري أعجب شعراء العرب على الإطلاق. وفقد أبو العلاء بصره في سن الرابعة على إثر إصابته بالجدري، ولكنه جد في طلب العلم، وحفظ عن ظهر قلب ما أعجبه من المخطوطات التي وجدها في دور الكتب، وطاف بأنحاء العالم الإسلامي ليستمع إلى المشهورين من العلماء، ثم عاد إلى مسقط رأسه. وكان دخله السنوي خلال الخمسة عشر عاماً التي أعقبت عودته لا يزيد على الثلاثين ديناراً، أي ما يعادل اثني عشر ريالاً أمريكياً في الشهر، يشاركه فيها خادمه ومرشده. وأذاعت قصائده شهرته في العالم الإسلامي، ولكنه كاد يهلك من الجوع لأنه أبى أن يلجأ إلى المديح. وزار بغداد في عام 1008 وأكرم الشعراء والعلماء وفادته، ولعله تأثر في العاصمة بآراء بعض المتشككة، وهي الآثار التي تتخلل بعض قصائده. وعاد منها إلى المعرة في عام 1010 وأصبح فيها من الأغنياء، ولكنه ظل إلى آخر أيامه يحيا حياة الحكماء البسيطة الخالية من جميع مظاهر النعيم. وكان المعري نباتياً إلى أقصى حد، لا يكتفي بالامتناع عن لحم الحيوان والطير بل يمتنع كذلك عن اللبن، والبيض، وعسل النحل؛ فقد كان يرى الاستيلاء على هذه الأطعمة من الحيوان هو النهب بعينهِ. ولهذا السبب أيضاً أبى أن يتخذ شيئاً من اللباس من جلد الحيوان، وعاب على النساء لبس الفراء، وأشار بلبس الأحذية الخشبية(103). ومات المعري في الرابعة والثمانين من العمر، ويقول أحد أتباعه المخلصين إن مائة وثمانين شاعراً ساروا في جنازتهِ، وإن أربعة وثمانين من العلماء رثوه على قبرهِ(104).

وأعظم ما يشهر به في بلاد الغرب هو قصائده القصيرة البالغ عددها 1592 قصيدة والمعروفة باللزوميات. ولم يتحدث أبو العلاء في هذه القصيدة عن النساء والحرب كما كان يتحدث عنها زملاؤه الشعراء، بل عمد في جرأة إلى الحديث عن أهم الموضوعات الأساسية في الحياة: هل نتبع الوحي أو العقل؟- وهل الحياة خليقة بأن يحياها الإنسان؟-هل ثمة حياة بعد الموت؟- هل يوجد إله؟...ويجهر الشاعر من حين إلى حين بإيمانه؛ ولكنه يقول محذراً إن هذا الجهر هو احتياط مشروع من الاستشهاد الذي لا يرغب فيه:


إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همي


وهو يعيب في أقواله الأمانة العلمية المطلقة ويقول:


لا تخبرن بكهن دينك معشراً شطراً وإن تفعل فأنت مغرر


والمعري بصريح العبارة متشائم، لا أدري، يؤمن بالعقل دون الوحي:


يرتجي الناس لوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء



كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء



...................



هل صح قول من الحاكي فنقبله أم كل ذاك أباطيل وأسمار



أما العقول فآلت أنه كذب والعقل غرس له بالصدق إثمار .


وهو يندد بعلماء الدين الذين يسخرونه لمآرب الإنسان الدنيئة، والذين يملئون المساجد بالرعب حين يخطبون، ولكنهم ليسوا في مسلكهم خيراً من الذين يحتسون الخمر في الحانات على نغمات المغنين.


لا تطيعن قوماً ما ديانتهم إلا احتيال على أخذ الإتاوات



إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء



كذب يقال على المنابر دائماً أفلا يميد لما يقال المنبر



رويدك قد غرزت وأنت حر بصاحب حيلة يعظ النساء



يحرم فيكم الصهباء صبحاً ويشربها على عمد مساء



تحساها فمن مزج وصرف يعمل كأنما ورد الحاء



طلب الخسائس وارتقى في منبر يصف الحساب لأمة ليهولها



ويكون غير مصدق بقيامة أضحى يمثل في النفوس ذهولها


ومن أقواله أن أحط الناس في وقته هم الذين يشرفون على الأماكن المقدسة في مكة. فهم لا يتورعون عن أن يرتكبوا أي إثم في سبيل المال، وينصح مستمعيه بأن لا يضيعوا أوقاتهم في الحج(109) وأن يقنعوا بعالم واحد.


وفي بطحاء مكة شر قوم وليسوا بالحماة ولا الغيارى



وإن رجال شيبة سادنيها إذا راحت لكعبتها الجمارى



قيام يدفعون الناس شفعاً إلى البيت الحرام وهم سكارى



إذا أخذوا الزوائف أولجوهم وإن كانوا اليهود أو النصارى


وما حجى إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في ذراها



وما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب



لا حس للجسم بعد الروح نعلمه فهل تحس إذا بانت عن الجسد (110)



ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا



تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبك (111)


ويصل آخر الأمر إلى هذه النتيجة.


وإن جعلت بحكم الله في خزف يقضي الطهور فأنني شاكر راضي (112)


وهو يؤمن بوجود إله حكيم قادر على كل شيء، ويعجب من الطبيب الذي ينكر وجود الخالق بعد أن درس التشريح.


عجبي للطبيب يلحد في الخا لق من بعد درسه التشريحا(113)


لكنه حتى في هذه النقطة يثير بعض الصعاب فيقول:


وما فسدت أخلاقنا باختيارنا ولكن بأمر سببته المقادر



لا ذنب للدنيا فكيف نلومها واللوم يلحقني وأهل نحاسي



عنب وخمر في الإناء وشارب فمن الملوم أعاصر أم حاسي


ويقول في سخرية شبيهة بسخرية فلتير.


رأيت سجايا الناس فيها تظالم ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما(114)


ثم ينفجر غضبه كما ينفجر غضب ديدرو Diderot فيقول:


أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكر من القدماء



أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا وبادوا وماتت سنة اللؤماء(115)


وساءه ما بدا له من كذب الناس وقسوتهم فاعتزل الناس وغلب عليه التشاؤم، فكان عند المسلمين شبيهاً بتيمن الأثيني . ويرى أن لا أمل في إصلاح الناس لأن شرور المجتمع ناشئة من طبائع الخلق:


كتب الشقاء على الفتى في عيشه وليبلغن قضاءه المحتوما



فما أذنب الدهر الذي أنت لائم ولكن بنوا حواء جاروا وأذنبوا



رب متى أرحل عن عالمي فأنت بالناس خبير عليم



رب متى أرحل عن هذه الدنيا فقد أطلت المقام


ولهذا فإن خير ما يفعله الإنسان أن يعتزل العالم ويعيش وحيداً لا يلقى إلا صديقاً واحداً أو اثنين، وأن يحيا كما يحيا الحيوان الوديع بعيداً عن الخلق. ويقول: لقد كان أفضل من هذا لو أن الإنسان لم يولد لأنه إذا ولد قاسى العذاب والمحن يبسط عليه الموت لواء السلام(117):


وما العيش إلا علة برؤها الردى فخلي سبيلي أنصرف لطياتي



والعيش داء وموت المرء عافية إن داءه يتوارى شخصه حسما



والعيش سقم للفتى منصب والموت يأتي بشفاء السقام



على الموت يجتاز المعاشر كلهم مقيم بأهليه ومن يتغرب



وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي فتأكل من هذه الأنام وتشرب



كأن هلالاً لاح للطعن فيهم حناه الردى وهو السنان المجرب



كأن ضياء الفجر سيف يسله عليهم صباح في المنايا مذرب


وليس في وسعنا أن ننجو من منجل الموت، ولكن في وسعنا أن نفوت عليه

غرضه بألا تلد له أطفالاً. وفي ذلك يقول أبياتاً من الشعر لا تفترق عن أقوال المؤمنين أشد الأيمان بأقوال شوبنهور:


وإذا أرتم للبنين كرامة فالحزم أجمع تركهم في الأظهر


وقد عمل هو بهذه النصيحة، وكتب بنفسه قبريته وهي أشد القبريات مرارة وأكثرها إيجازاً وأعظمها حكمة:


هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد


ولسنا نعرف كم من المسلمين كانوا يشاركون المعري في تشككه؛ ذلك أن عودة العقائد السنية القوية بعد أيامه كانت أشبه برقابة مقصودة أو غير مقصودة على ما انحدر إلى الأجيال التالية من أدب ذلك العصر، وقد يؤدي بنا هذا إلى الاستخفاف بما كان في العصور الوسطى من تشكك في العالم الإسلامي كما حدث في العالم المسيحي. وبلغ الشعر العربي عند المتنبي والمعري ذروتهما، فلما انقضى عهدهما علا شأن البحوث الدينية وسكن الفلسفة، فصبغ هذا وذاك الشعر العربي صبغة جديدة تتسم بعدم الإخلاص، وتَصَنُّع العاطفة، وتكلف الأناقة اللفظية في قصائد غثة تدور حول شؤون بلاط الأمراء. وفي هذا الوقت عينه كانت نهضة الفرس، وبعثها، وتحررها من حكم العرب تثير حمية الأمة وتخلق فيها نهضة حقة. ولم تكن اللغة الفارسية قد استسلمت للغة العربية استسلاماً كلياً بل بقيت يتحدث بها الشعب؛ فلما حل القرن العاشر أخذت هذه اللغة تثبت وجودها بالتدريج، وتعود كما كانت لغة الحكم والأدب. وكانت بذلك مظهراً لاستقلال الأمة الثقافي في عهد الأمراء الساسانيين والغزنويين. وظلت سائرة في ذلك الطريق حتى أضحت هي اللغة الفارسية الجديدة في هذه الأيام، بعد أن استمدت ثروة طيبة من الألفاظ العربية، وبعد أن استخدمت الخط العربي الجميل. وكان من أعظم مظاهر هذه النهضة الحديثة عمائرها الفخمة وشعرها العظيم. وأضاف شعراء إيران إلى القصيدة والقطعة، وإلى شعر الغزَل المثنوى أو الشعر القصصي أو الرباعيات. وما لبث كل شيء في فارس-من وطنية، وعاطفة، وفلسفة، ولواط، وصلاح-أن عبّر عنه الشعر.

وبدأت هذه النهضة بالرودكي (المتوفى عام 954) الذي كان يرتجل الشعر وينشد الأغاني، ويعزف على القيثار في بلاط السامانيين ببخارى. وفي هذا البلد نفسه، وبعد جيل من ذلك الوقت طلب الأمير نوح بن منصور إلى الشاعر الدقيقي أن يصوغ الخدينامة أو كتاب الملوك شعراً. وكان دانشوار (حوالي عام 651) قد جمع في هذا الكتاب قصص بلاد الفرس القديمة. وما كاد الدقيقي يتم كتابه ألف بيت حتى طعنه أحد عبيده المقربين طعنة قضت على حياتهِ، وقام الفردوسي بالعمل بعد وأتمه وأصبح هومر بلاد الفرس.

وولد أبو القاسم منصور (أو الحسن) في مدينة طوس (قرب مشهد) حوالي عام 934، وكان والده يشغل منصباً إدارياً في بلاط السامانيين، وخلف لولدهِ بيتاً ريفياً في بزاعة بالقرب من طوس. وكان أبو القاسم يقضي وقت فراغه في البحث عن الآثار القديمة. واسترعى كتاب الخدينامة انتباهه فاعتزم أن يحوّل هذه القصص النثرية إلى ملحمة قومية، وسمي كتاب الشاهنامه، أي كتاب الملوك، واتخذ له حسب عادة تلك الأيام اسماً مستعاراً هو الفردوسي، ولعله اشتق ذلك الاسم من غياض ضيعتهِ. وأتم الفردوسي ملحمته في صورتها الأولى بعد خمس وعشرين سنة من الكدح المتواصل، ثم سافر إلى غزنة (999؟) راجياً أن يهديها إلى أميرها محمود الرهيب.

ويؤكد لنا أحد شعراء الفرس الأقدمين أنه كان في غزنة "أربعمائة شاعر لا يفارقون مجالس السلطان محمود". ولو صح هذا لكان وجود هؤلاء الشعراء عقبة كأداء في سبيل الفردوسي، لكنه مع هذا أفلح في استرعاء اهتمام الوزير فجاء بالمخطوط الضخم إلى السلطان. وتقول إحدى الروايات إن محموداً هيأ للشاعر مسكناً مريحاً في قصرهِ، وأمده بقدر ضخم من المادة التاريخية، وأمره أن يضمها إلى ملحمتهِ. وتجمع كل الروايات التي وصلتنا من هذه القصة على اختلاف صورها أن محموداً وعده أنت يعطيه ديناراً ذهبياً (4.70 دولارات) نظير كل بيت من القصيدة في صورتها الجديدة. وظل الفردوسي يكدح زمناً لا نعرف طوله؛ بلغت بعد القصيدة (حوالي عام 1010) صورتها النهائية، واشتملت على 60.000 بيت وجيء بها إلى السلطان. وأوشك محمود أن يبعث إلى الفردوسي المبلغ الموعود، ولكن بعض بطانته استكثروا العطاء، وأضافوا إلى هذا قولهم إن الفردوسي زنديق شيعي ومعتزل. واستمع لهم محمود وبعث للشاعر بستين ألف درهم فضي (30.000 ريال أمريكي). وغضب الشاعر وأراد أن يظهر غضبه واحتقاره فقسم المبلغ بين خادم حمام وبائع شراب ثم فر إلى هراة، حيث اختفى ستة أشهر في حانوت بائع كتب، حتى يئس من العثور عليه عمال محمود الذين أمرهم بالقبض عليه. ثم لجأ الفردوسي إلى شهريار أمير شيرزاد في طبرستان، ونظم قصيدة يهجو فيها محموداً هجواً لاذعاً. وخشي شهريار غضب السلطان فابتاع القصيدة بمائة ألف درهم وأتلفها. وإذا جاز لنا أن نصدق هذه الأرقام، ونعتقد بصحة تقديرنا إياها بنقود هذه الأيام، حكمنا من فورنا أن الشعر كان من أكثر الأعمال إدراراً للربح في فارس في العصور الوسطى. وانتقل الفردوسي بعدئذ إلى بغداد وكتب فيها قصة شعرية طويلة هي قصة يوسف وزليخا، ثم عاد إلى طوس وكان قتئذ شيخاً في السادسة والسبعين من العمر. وبعد عشر سنين من عودتهِ سمع محموداً بيتاً من الشعر فأعجب بقوة معناه وجزالة لفظه، فسأل عن قائلهِ، ولما علم أنه من شعر الفردوسي ندم على أنه لم يكافئ الشاعر بما وعده بهِ، وأرسل إليه قافلة من الإبل تحمل ما قيمته ستين ألف دينار من النيلج، ومعها رسالة اعتذار منه، ولما دخلت القافلة مدينة طوس التقت فيها بجنازة الشاعر (1020؟).

وتعد الشاهنامة من أعظم الأعمال في الآداب العالمية في حجمها إن لم تكن في غيرهِ. وإن من النبل بحق أن يترك شاعر الموضوعات التافهة، والأعمال اليسيرة، ويقضي خمسة وثلاثين عاماً من حياتهِ يروي فيها قصة بلده في 120.000 بيت من الشعر-فكانت القصيدة بذلك أطول من الإلياذة والأوديسة مجتمعتين. فها هو ذا شيخ طاعن في السن جن جنونه بوطنهِ، وشغف حباً بكل ما حوته سجلاته من تفاصيل، خرافة كانت أو حقيقة. وتصل الملحمة إلى نصفها قبل أن يصل بها الشاعر إلى العصور التاريخية. ويبدأها بالشخصيات الأسطورية الواردة في الأبستاق، ويحدثنا عن جيومرث، آدم الديانة الزرادشتية، ثم عن جمشيذ العظيم حفيد جيومرث "الذي حكم العالم 700 سنة... والذي سعد العالم بحكمهِ، ولم يكن يعرف في أيامه موت ولا حزن ولا ألم". ولكن جمشيذ بعد أن مرت به بضعة قرون "باض الشيطان في رأسهِ وفرخ ولوى جيدهُ عن طاعة ملاك الرقاب، متعرضاً بغمط نعمة لقاصمة العقاب" "وظن أنه ليس على ظهر الأرض سواه، وادعى أنه إله، وبعث بصورته لكي يعبدها الناس"(121). ونصل أخيراً إلى بطل الملحمة رستم بن زال أحد أمراء الإقطاع في تلك الأيام. ولا بلغ رستم من العمر خمسمائة عام وقع زال في هوى جارية شابة فولدت منه أخاً لرستم. ويخدم رستم ثلاث ملوك وينجيهم من الموت، ثم يهجر حياة القتال حين تبلغ سنه أربعمائة عام. ويطول عمر جواده الأمين الرخش كما يطول عمر سيده أو ما يقرب منه، ويكاد يبلغ من البطولة ما بلغه، ويلقى هذا الجواد من الفردوسي الحب والدعابة اللذين يلقاهما الجواد الأصيل من كل فارسي. وفي الشاهنامة قصص حب جميلة، وفيها بعض ما في شعر شعراء الفروسية الغزليين في أوربا في العصور الوسطى من تعظيم للنساء. فيها صور ساحرة للنساء البارعات الجمال- منها صورة للملكة سوذابة التي كانت تتحجب حتى لا يرى جمالها، والتي كانت تسير مع الرجال كما تسير الشمس خلف السحاب(122). ولكن الحب ليس له شأن كبير في حياة رستم، لأن الفردوسي يرى أن عاطفة الحب الأبوي والنبوي يمكن أن تكون أعظم وقعاً في النفوس من عاطفة الحب الجنسي. بيد أن رستم يقع أثناء إحدى حروبه البعيدة في حب فتاة تركية تدعى تهمينة، ثم تحتفي عن عينه فلا يقف على أثرها، ثم تربي ابنها سهراب والحزن يملأ قلبها الكبرياء يرفع رأسها بين أترابها، وتحدث الشاب عن أبيه العظيم الذي لا تعرف مقره، ويلتقي الأب والابن في حرب بين الترك والفرس، ويقف كلاهما ليقاتل الآخر دون أن يعلما حقيقة أمرهما. ويعجب رستم بشجاعة الصبي الوسيم، ويعرض عليه أن يحفظ عليه حياته؛ فيرفض الغلام هذا العرض بازدراء، ويقاتل قتال الأبطال، ويصاب بجرح مميت. ويقول وهو يحتضر إن أشد ما يحزنه أنه لم يرَ أباه رستم، ويدرك المنتصر أنه قتل ابنه. ويعدو جواد سهراب بغير فارس حتى يدخل معسكر الترك ويصل الخبر إلى والدته في منظر من أجمل مناظر الملحمة:


تئن وتجأر جهد الحزين وينتابها الغشى في كل حين



أطالت بكاء ابنها والنحيبا فأجرت من الناس دمعاً سكوبا


وخرت على الأرض جمراً خمد كأن بها دمعاً قد جمد



وعادت ترجع تحنانها وتذكي على الابن أحزانها



وجاءت إلى طرفه الطائر إلى زينة الزمن الناظر



فلزَّتْ إلى رأسه صدرها يرى الناس في عجب أمرها



وجاءت لحلته في كمد تعانقها كأبنها المفتقد


والقصة كلها غاية في الوضوح يتنقل القارئ فيها تنقلاً سريعاً من حادثة إلى حادثة، ولا يحس بوحدتها إلا حين بوجود الوطن المحبوب في كل سطر من سطورها وإن كان لا يبصره بعينه. ونحن، الذين لا نجد لدينا من الفراغ ما كان يجده الناس قبل أن تخترع تلك الوسائل الكثيرة التي توفر عليهم أوقاتهم، لا نجد متسعاً من الوقت نقرأ فيه كل أبيات القصيدة وندفن فيها كل ملوكها؛ ولكن هل منا من قرأ كل سطر من أسطر الإلياذة أو الإنياذة، أو المسلاة المقدسة، أو الفردوس المفقود؟ إن هذه الملاحم القصصية لا يستطيع قراءتها إلا الذين أتوا القدرة على هضمها. أما نحن فبعد أن نقرأ مائتي صفحة من صفحات الشاهنامة نمل من قراءة أخبار انتصارات رستم على الشياطين، والوحوش، والسرة، والأتراك. ولكن سبب هذا الملل أننا لسنا إيرانيين، لم نسمع إلى أنغام الشعر الفارسي الأصيل الرنانة العذبة، ولا نتأثر بها كما يتأثر بها الفرس الذين أطلقوا اسم رستم على ثلاثمائة قرية في ولاية واحدة من بلادهم. وقد احتفل العالم المتمدن في آسية وأوربا والأمريكيتين في عام 1934 بالعيد الألفي للشاعر الذي ظل كتابه الضخم غذاء لروح الشعب الإيراني مدى ألف عام.


الفصل السّابع: الفن

لما فتح العرب بلاد الشام لم تكن لديهم من الفنون سوى الشعر. ويقال إن النبي حرم فني النحت والتصوير أنهما من قبيل عبادة الأوثان-كما نهى عن الموسيقى، ولبس الحرير الثمين: والتحلي بالذهب والفضة أنهما من أسباب التنعم المؤدي إلى الانحلال؛ ومع أن العرب أخذوا يتحللون شيئاً فشيئاً من هذا التحريم، فإن الفن الإسلامي في ذلك العهد الأول كان ينحصر في فنون العمارة، والخزف، والزركشة. يضاف إلى هذا أن العرب أنفسهم كانوا إلى عهد قريب بدواً أو تجاراً، ولم يكونوا ذوي براعة فنية ناضجة؛ وكانوا يعترفون بقصورهم في هذا الميدان، ولذلك لجأوا إلى الأشكال والتقاليد الفنية المتبعة في بيزنطية، ومصر، والشام، وبلاد العراق، وإيران، والهند، فعدلوها بما يوائم طبيعتهم، كما لجأوا إلى الفنانين والصناع من أهل تلك البلاد. من ذلك أن نقوش قبة الصخرة في بيت المقدس وعمارة مسجد الوليد الثاني في دمشق كانت بيزنطية خالصة. وفيما يلي هذه البلاد من جهة الشرق اتخذ العرب حليات القرميد التي كانت متبعة في بلاد آشور وبابل القديمة، كما اتخذوا أشكال الكنائس الأرمنية النسطورية، وبعد أن دمر المسلمون في بلاد الفرس كثيراً من الأعمال الساسانية الأدبية والفنية تنبهوا إلى مزايا مجموعات العمد، والأقواس المستدقة والعقود، والنقوش المكونة من أوراق النبات والأشكال الهندسية التي أثمرت آخر الأمر طراز الزخرفة العربي المعروف. ولم تكن هذه النتيجة تقليداً محضاً، بل كانت تركيباً بارعاً من أشكال مختلفة لا ينقص من شأنها ما أخذه المسلمون عن غيرهم من الأمم. وتخطى الفن الإسلامي الذي انتشر من قصر الحمراء في الأندلس إلى التاج محال في الهند كل حدود الزمان والمكان، وكان يسخر من التمييز بين العناصر والأجناس، وأنتج طرازاً فذاً ولكنه متعدد الأنواع، وعبّر عن الروح الإنسانية بأناقة موفورة فياضة لم يفقها شيء من نوعها حتى ذلك الوقت.

ويكاد فن العمارة الإسلامية، كمعظم فنون العمارة في عصر الإيمان، أن يكون كله فناً دينياً خالصاً. ذلك أن مساكن البشر كانت تقام ليقضوا فيها حياتهم الدنيوية القصيرة الأجل؛ أما بيوت الله، فكانت من داخلها على الأقل، نماذج من الجمال الخالد. غير أننا مع هذا نسمع عن قناطر، وقنوات لجر مياه الشرب، وفساقي، وخزانات لمياه الري، وحمامات عامة، وقلاع، وأسوار ذات أبراج وإن لم يبقَ من آثار هذه كلها إلا القليل. وقد أقامها مهندسون معماريون كان الكثيرون منهم في القرن الأول بعد الفتوح الإسلامية من المسيحيين، ولكن كثرته الغالبة كانت فيما بعد من المسلمين. ولما جاء الصليبيون إلى بلاد المسلمين وجدوا مباني حربية ممتازة في حلب، وبعلبك، وغيرها من مدن الإسلام في الشرق، وعرفوا هناك فوائد الأسوار ذات المزاغل، وأخذوا عن أعدائهم كثيراً من الأفكار التي أقاموا على أساسها حصونهم وقلاعهم المعدومة النظير، ولقد كان قصر إشبيلة، وقصر الحمراء في قرطبة حصنين وقصرين معاً.

ولم يبقَ من قصور بني أمية إلا القليل. ومن هذا القليل الباقي بيت بريفي في قصير عمرة بالصحراء الواقعة في شرق البحر الميت، وتكشف بقاياه عن حمامات ذات قباب، وجدران ذات مظلمات. ويؤكد لنا المؤرخون أن قصر عضد الدولة في شيراز كان يحتوي على ثلاثمائة وستين حجرة واحدة منها كل يوم من أيام السنة، وقد طليت كل حجرة بطلاء مكون من مجموعة فذة من الألوان، وخصصت منها واحدة للمكتبة، وكانت حجرة رحبة يبلغ ارتفاعها طابقين، ذات بواك وعقود، ويقول عنها أحد مؤرخي الإسلام المتحمسين إنه لم يكن ثمة كتاب في أي موضوع من الموضوعات لا تحتوي المكتبة نسخة منه(124). ولسنا نشك في أن للخيال أكبر نصيب فيما وصفت به شهرزاد مدينة بغداد، ولكنه وصف يصور ما كانت عليه فخامة النقوش في داخل القصور أصدق تصوير(125). وكان لأغنياء المسلمين بيوت في الريف وقصور في المدن. وكانت لهم في المدن نفسها حدائق كبرى، أما بيوتهم في الريف فكانت حدائقها "جنات" حقة-فيها بساتين ذات عيون، وجداول، وفساق، وبرك مبطنة بالقرميد، وأزهار نادرة، وظلال، وأشجار فاكهة ونُفل، وكانت تحتوي عادة على سرادق يستمتع فيه أهل القصر بالهواء الطلق، دون أن يضايقهم وهج الشمس. وكان الدين في فارس دين أزهار؛ فقد كانت تحتفل بأعياد الورد احتفالات تحوي جميع مظاهر الأبهة والفخامة، وطبقت شهرة ورد شيرزاد وفيروز آباد جميع أنحاء العالم، وكانت الورود ذوات المائة من الأوراق من الهدايا التي يحمدها لمهديها الخلفاء والملوك(126).

وكانت بيوت الفقراء وقتئذ، كما هي الآن، أبنية مستطيلة الشكل؛ مقامة من اللبن الملتصق بالطين، سقفها خليط من الطين، وأعواد النبات، وغصون الأشجار، وجريد النخل، والقش. وكانت البيوت الأرقى من هذه نوعاً تشتمل على فناء داخلي مكشوف، ذي فسقية، وشجرة في بعض الأحيان؛ وكانت تحتوي أحياناً على طائفة من العمد الخشبية، ورواق مسقوف بين الفناء والحجرات. وقلما كانت البيوت تبنى على الشارع أو تطل عليه، لأنها كانت حصوناً للعزلة، تقام للأمن والسلام؛ وكان لبعضها أبواب سرية، يهرب منها سكانها من فورهم إذا هوجموا أو أريد اعتقالهم، أو يدخل منها الحبيب سراً(127).

وكان في كل بيت من البيوت، عدا بيوت الفقراء، أجنحة خاصة بالنساء، لكل منها في بعض الأحيان فناء مستقل. وكانت بيوت الأغنياء خالية من أنابيب الماء، الذي يحمل إليها من خارجها كما تحمل الفضلات منها. وكانت بعض البيوت الحديثة الطراز تؤلف من طابقين تتوسط الواحد منهما حجرة لجلوس الأسرة عامة تعلوها قبة، وفي الطابق الثاني منها شرفة تطل على فناء البيت. ولم يكن بيت من البيوت عدا أفقرها يخلو من مشربية من الخشب تدخل الضوء، وتمنع حرارة الشمس، وتمكن من بداخل البيت أن يطلوا على خارجهِ دون أن يراهم من بالخارج. وكثيراً ما كانت هذه المشربيات متقنة النحت، وكانت هي النماذج التي صنعت على غرارها الستر الحجرية أو المعدنية التي ازدانت بها القصور والمساجد فيما بعد. ولم تكن بالبيت مدفأة ثابتة في جدرانهِ، بل كان يدفأ بموقد نحاسي متنقل يحرق فيه الفحم الخشبي. وكانت الحجرات تجصص وتطلى عادة بألوان متعددة. وكانت الأرض تفرش بطنافس من نسيج اليد، وقد يكون عليها كرسي أو كرسيان، ولكن المسلمين كانوا يفضلون أن يتربعوا فوق الطنافس. وكانت أرض الحجرة ترتفع بجوار الجدران في ثلاث نواح منها بقدر قدم، أو ما يقرب منه ليتكون من ذلك ديوان يفرش بالوسائد. ولم تكن في هذا النوع من البيوت حجرة خاصة بالنوم، وكان فرش النوم مكوناً من حشية تطوى في أثناء النهار وتوضع في مكان خاص كما يفعل أهل اليابان في هذه الأيام. وكان أثاث البيت بسيطاً: يتألف من بضع مزهريات، وآنية المطبخ، ومصابيح، وكوة للكتب في بعض الأحيان.

وكان حسب المسلم التقي الفقير أن يكون المسجد جميلاً، وكان ينفق في تشييدهِ جهده ماله. ويجمع في فنونه وصناعاته ويضعها كالطنفسة بين يدي الله، وكان في وسع الناس أن يستمتعوا بهذا الجمال وبتلك العظمة: وكان المسجد يقام عادة بالقرب من سوق المدينة يسهل الوصول إليه من كافة أنحائها. ولم يكن عادة فخماً ذا روعة وبهاء من خارجهِ. وإذا استثنينا واجهته الأمامية فإنه لم يكن يسهل تمييزه في بعض الأحيان من المباني المجاورة له، وقد يكون أحياناً ملتصقاً بها التصاقاً، وقلما كان يشيد من مواد أفخم من الآجر المطلي بالمصيص. وقد حدد شكله الغرض الذي أقيم من أجلهِ: فكان يتألف من بهو رباعي الشكل يتسع للمصلين، ومن حوض أوسط ونافورة للضوء، تحيط بها إيواناته ذات البواكي لوقاية المصلين وإظلالهم، وليتلقوا فيها الدروس، وفي ناحية الصحن المتجهة إلى مكة كان يقوم بناء المسجد الأصلي، وهو في العادة قسم مسور من الرواق.وكان هذا القسم أيضاً ذا شكل رباعي يمكن المصلين من أن يقفوا صفوفاً متراصة متجهين أيضاً إلى مكة. وقد يكون فوق هذا الصرح قبة، تكاد تبنى في جميع الأحوال من الآجر، تبرز كل طبقة منها عما تحتها بمقدار قليل نحو الداخل وتطلى بالجص لإخفاء هذا البروز(128). وكان الانتقال من القاعدة الرباعية إلى القبة المستديرة يتم كما يتم في العمارة الساسانية أو البيزنطية بأن تتوسطها في القبة عدة أكتاف مثلثة الشكل بين عقدين متعامدين، أو سلسلة من العقود الحجرية الصغيرة تقام عليها جوانب القبة. وأهم ما تمتاز به عمارة المساجد هو المئذنة من الزجورات-الصرح-البابلي وبرج الجرس في الكنائس المسيحية، وأخذ الهنود المسلمون الشكل الأسطواني من بلاد الهند، وتأثر مسلمو إفريقية في تخطيطها بمنارة الإسكندرية ذات الأركان الأربعة(129). وليس ببعيد أن تكون الأبراج ذات الأركان الأربعة في المساحة التي أقيم عليها الهيكل القديم في دمشق، ذات أثر في شكل المئذنة(130)، وكانت في هذا العهد الأول بسيطة خالية في أغلب الأحيان من الزخرف، ولم تصل إلا في القرون المتأخرة إلى ما وصلت إليه من الدقة والارتفاع، أو نحو ما احتوته من الشرفات الرقيقة الهشة، والبواكي الزخرفية، والسطوح القاشانية، التي أنطقت فرجسون Fergusson بقولهِ "إنها أعظم الأبراج رشاقة في عمارة العالم كله"(131).

وقد احتفظ المسلمون لداخل المسجد بأبهج الزخارف وأجملها وأكثرها تنوعاً، احتفظوا لهذا الداخل بالفسيفساء وقطع القرميد البراقة لأرض المسجد ومحرابه؛ وبالزجاج ذي الأشكال والألوان البديعة لنوافذهِ ومصابيحه، وبالطنافس الغالية والبسط الفخمة تفرش على أرضه للصلاة؛ وبألواح الرخام الجميل الألوان تثبت على الأجزاء السفلى من الجدران؛ وبالأفاريز الجميلة ذات الكتابة العربية حول المحاريب والطنف؛ وبالنقوش الجميلة في الخشب أو العاج أو المصنوعة من المعدن في الأبواب، والسقف، والمنابر، والسجف... أما جسم المنبر نفسه فكان يصنع من الخشب تبذل أعظم العناية في نحتهِ ونقشهِ وتطعيمه بالعاج والأبنوس. وبالقرب من المنبر توجد الدكة المقامة على عمد صغيرة وعليها نسخة من كتاب الله. وكان الكتاب نفسه بطبيعة الحال أنموذجاً لجمال الخط وروعة الفن الدقيق. ويجاور المنبر القبلة وهي جزء داخل في جدار المسجد لعله مأخوذ من القباب في الكنائس المسيحية. وقد أفرغ الصناع والفنانون كل جهودهم في تزيين هذا المحراب حتى كان يضارع المذبح أو المحراب المحيط به في الكنائس والهياكل. فجملوه بالقاشاني والفسيفساء، وصور أوراق الشجر وأزهاره، والنقوش البارزة، والأنماط الجميلة، ذات الألوان البديعة من الآجر، والجص، والرخام، والطين المحروق، والقاشاني.

وأكبر الظن أننا مدينون بما بلغه فن الزخرفة من عظمة وفخامة إلى تحريم الساميين تمثيل صور الإنسان والحيوان في الفن! فكأن الفنانين المسلمين أرادوا أن يعوضوا هذا التحريم فاخترعوا هذا الفيض الغامر من الأشكال غير البشرية أو الحيوانية، وأخذوا ما كان منها موجوداً عند غيرهم. فبحث الفنان في أول الأمر عن منفذ لمواهبهِ الفنية في الأشكال الهندسية-الخط، والزاوية، والمربع، والمكعب، والكثير الأضلاع، والمخروط، والشكل اللولبي، والقطع الناقص، والدائرة، والكرة؛ وكرر هذه الأشكال كلها وركب منها مئات التراكيب، وأنشأ منها الدوامات، والأربطة، والخطوط المتشابكة المتداخلة، والنجوم. ولما انتقل إلى الأشكال النباتية عمد إلى المواد المختلفة، فصور من مختلف المواد، تيجاناً، وكروماً، وأزهار البشنين، والكُنْكُر، وخوص النخل وجريده. فلما جاء القرن العاشر مزج هذه كلها فأنشأ منها الزخرف العربي الذائع الصيت، وأضاف إليها كلها حلية فذة كبرى هي الكتابة العربية. ذلك أنه عمد في العادة إلى الحروف الكوفية فأطالها إلى أعلى أو مدها على الجانبين، أو نمقها بالذيول والنقاط، حتى استحالت الحروف الهجائية على يديه تحفة فنية ذات روعة وجمال. ولما تحلل الناس من بعض الشيء من القيود والمحرمات الدينية أدخل الفنان أنواعاً جديدة من الزينة بأن رسم طير السماء، وحيوان الحقل، أو ابتدع أشكالاً عن الحيوانات المختلفة لا وجود لها إلا في مخيلته. واستطاع بفطنتهِ وشغفهِ بالزينة أن يسمو بكل شكل من أشكال الفن-الفسيفساء، والنقوش الصغيرة على العاج ونحوه، والخزف، والأقمشة، والبسط. وكان النقش في كل حالة تقريباً تؤلف بين أجزائه وحدة منظمة، تسيطر عليها صورة رئيسية، أو موضوع رئيسي. ينمو ويتطور من الوسط إلى الأطراف أو من البداية إلى النهاية، كما يفعل المؤلف بالموضوع الموسيقي. ولم يكن الفنان المسلم يرى أن أية مادة مهما قست تستعصي على فنهِ؛ ولهذا أصبح الخشب، والمعدن، والآجر، والجص، والحجر، والقرميد، والزجاج، والقاشاني-أصبحت هذه كلها وسائل يستخدمها لإظهار ما في خيالهِ من صور وأشكال فنية مجردة لم يسمُ إلى مستواها فن آخر من قبل لا نستثني من ذلك الفن الصيني نفسه.

واستعانت العمارة الإسلامية بهذا الفن الزخرفي فأقامت في جزيرة العرب،وفلسطين، والشام، وأرض الجزيرة، وفارس والتركستان، والهند، ومصر، وتونس، وصقلية، ومراكش، والأندلس-أقامت في هذه البلاد كلها عدداً لا يحصى من المساجد جمعت بين القوة والمتانة في خارجها، والرشاقة والرقة في داخلها، نذكر منها مساجد المدينة، ومكة، وبيت المقدس، والرملة ودمشق، والكوفة والبصرة، وشيراز ونيسابور، وأردبيل، ومسجد جعفر في بغداد، ومسجد سر من رأى العظيم، ومسجد زكريا في حلب، ومسجد ابن طولون والجامع الأزهر في القاهرة، ومسجد تونس الكبير، ومجلس سيدي عقبة في القيروان، والمسجد الأزرق في قرطبة-وليس في مقدورنا إلا أن نكتفي بذكر أسمائها لأن مئات المساجد التي بنيت في ذلك الوقت لم يبقَ منها ما يمكن تمييزه إلا عشرة أو نحوها، أما سائرها فقد عدا عليه الزمان فدمره بفعل الزلازل أو الإهمال أو الحروب.

وقد كشف في العصر الحديث في بلاد الفرس وحدها-وهي جزء صغير من بلاد الإسلام-عن صروح فخمة لم يكن يدور بخلدنا أنها توجد في تلك البلاد؛ وكان كشف آثارها من الحادثات الكبرى في إزاحة الستار عن الماضي المجهول وإن كان هذا الكشف قد جاء بعد أوانه بزمن طويل؛ لأن كثيراً من روائع العمارة الفارسية قد عبثت به قبل ذلك الكشف يد الزمان فلم تبقِ منه شيئاً. وحسبنا أن نذكر في هذا المقام أن المقدسي يصف في فارس مساجد لا تقل روعة عن مساجد المدينة ودمشق ويقول إن مسجد نيسابور ذا العمد الرخامية. والصفائح الذهبية، والجدران ذات النقوش المحفورة الكثيرة كان من عجائب الزمان؛ وإنه لم يكن في خرسان أو سجستان من المساجد ما يضارع في جماله مسجد هيراة(132). وفي وسعنا أن نصور لأنفسنا صورة غامضة مما بلغته العمارة الفارسية في القرنين التاسع والعاشر من روعة ووفرة، بدراسة النقوش الجصية البارزة، والعمد والتيجان المحفورة الباقية، من محراب مسجد نايين الجامع المخرب، والمئذنتين الجميلتين الباقيتين في دمغان. وقد بقي من مسجد أردستان (1055) محراب وباب جميلان، كما كشف فيه عن كثير من العناصر التي تجلت فيما بعد في العقود القوطية المستدقة، والأكتاف المركبة، والأقبية المتقاطعة، والقبة المضلعة(133). وكانت المادة التي شيدت منها هذه المساجد والكثرة الغالبة من المساجد والقصور الفارسية هي الآجر، شأنها في ذلك شأن المباني القديمة في سومر وأرض الجزيرة، وسبب ذلك ندرة الحجارة وكثرة ما تتطلبه من النفقات، ووفرة الطين والنيران؛ لكن الفنان الفارسي قد حول طبقات الآجر بفضل ما أدخله عليها من ضوء والظل والنماذج الفنية الجديدة، والأوضاع الفنية المختلفة، حول هذه الطبقات إلى أنواع من الزخرف لم تعرف هذه المادة القليلة الشأن نظيراً لها من قبل. وقد كسا الخزاف الفارسي الآخر في أماكن خاصة، كمداخل المساجد والمنابر والمحاريب، بطبقة الفسيفساء متعددة الألوان، وبالقرميد الزاهي البراق؛ ولما أقبل القرن الحادي عشر زاد السطح البراق لألاء وبهاء بطبقة من القاشاني الملون اللامع. وهكذا خدم المسجد كل فن في بلاد الإسلام. نزل إلى هذه الخدمة من العلياء وكسب بها فكراً وكبرياء.

وإذ كان قد حرم على المثال أن ينحت التماثيل خشية أن يعود الناس إلى عبادة الأوثان، فقد وجه جهوده إلى الزخرفة بالنقوش البارزة. فأتقن نحت الحجارة، وشكل الجص باليد قبل أن يجف، وصاغ منه أشكالاً كثيرة مختلفة. وقد بقي أنموذج رائع من هذه العمائر، وهو القصر الشتوي الذي بدأه الوليد الثاني عام 734 بالصحراء الشرقية إلى نهر الأردن وتركه دون أن يتمه. وكان حول سطح الواجهة من أسفل إفريز من الحجر المنحوت ذو جمال بارع يتكون نقشه من مثلثات وأزهار الورد يحيط بها إطار من الأزهار، والفاكهة، والطير، والحيوان، والنقش العربي. وقد نقل هذا النقش الرائع إلى برلين في عام 1904 ونجا من الدمار في أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان النجارون يجملون النوافذ، والأبواب، والستر الخشبية، والشرفات، والسقف، والمناضد، وكراسي المصاحف، والمنابر، والمحاريب، ويبدعون في نقشها إبداعاً يستطيع الإنسان أن يراه في لوحة وجدت في تكريت ونقلت إلى المتحف الفني في نيويورك. كذلك كان الصناع المشتغلون بنحت العاج والخشب يزينون بفنهم المساجد، والمصاحف، والأثاث، والآنية، والأشخاص أنفسهم، ويجملونها بمصنوعاتهم المنحوتة والمطعمة. غير أنه لم يصلنا من مصنوعات ذلك العصر إلا قطعة واحدة هي طابية من قطع الشطرنج (توجد الآن في المتحف الأهلي بفلورنس) ويقال إنها إحدى قطع الشطرنج الذي أهداه هرون الرشيد إلى شارلمان في القرن التاسع الميلادي(124). كذلك أخذ صانعوا المعادن المسلمون عن الساسانيين هذا الفن الدقيق، وصنعوا من النحاس والشبه مصابيح، وأباريق، وجفاناً، وجراراً، وكيزاناً، وأقداحاً، وأطساتاً، ومواقد؛ وصبوها في صور الآساد، والأفاعي، وآباء الهول، والطواويس، واليمام؛ ونقشوا عليها في بعض الأحيان رسوماً بديعة نشاهد مثلاً منها في المصباح الشبيه بالقماش المخرم والمحفوظ في معهد الفن بمدينة تشكاجو. ومن الصناع من كانوا يحشون الرسوم المحفورة بالفضة والذهب، ويبدعون المصنوعات المعدنية "الدمشقية" أي المزخرفة بفن الدمشقيين وإن لم يكن قد نشأ في مدينتهم(135). وكانت السيوف الدمشقية تصنع من الفولاذ المسقى المزين بالنقوش البارزة أو المطعم بالرسوم العربية، أو الحروف الهجائية، أو غيرها من الأشكال المتخذة من خيوط الذهب أو الفضة. وقصارى القول أن صناع المعادن المسلمين قد يراعوا في هذا الفن براعة ليس بعدها زيادة لمستزيد.

ولما انتهى عصر الفتوح الإسلامية واستقر المسلمون في البلاد المفتوحة وأخذوا عنها ثقافتها ألفوا أنفسهم في صناعة الفخار الوارثين لتقاليد خمسة في هذا الفن هي التقاليد المصرية، والإغريقية-الرومانية، والعراقية، والفارسية، والصينية. ونقول الصينية لأن سار Sarre، كشف في سر من رأى فخاراً من عهد أسرة تانج ومعه قطعة من الخزف الصيني الرقيق؛ وكانت الأواني الفارسية-الإسلامية في عهدها الأول منقولة نقلاً لا خفاء فيه عن نماذج صينية. ونشأت مراكز صناعة الفخار في بغداد وسامرا ، والري، وكثير غيرها من البلدان. ولم يحل القرن العاشر الميلادي حتى كان صانعوا الفخار من الفرس يصنعون كل أنواع الآنية الفخارية ما عدا الخزف الصيني، ويصنعونه في الشكل لا حصر لها تبدأ من المباصق اليدوية الصغيرة إلى المزهريات الضخمة المهولة، التي تتسع في القليل لأحد "اللصوص الأربعين"(136) ويتبين الإنسان من خير المصنوعات الفخارية الفارسية دقة التصوير، وبراعة في التلوين، وحذقاً في الصناعة لا تسمو عليها إلا الصناعتان الصينية واليابانية؛ وظلت ستة قرون لا تضارعها صناعة أخرى في جميع الأقاليم الممتدة جنوب هضبة البامير وغربها(137). وكان هذا الفن من أحب الفنون إلى الفرس وأكثرها مواءمة لهم؛ وكان أهل الطبقة العليا منهم يحرصون أشد الحرص على جميع روائعه، وكثيراً ما أخذ عنه الشعراء أمثال أبي العلاء المعري وعمر الخيام تشبيهات واستعارات في أقوالهم الفلسفية. ويحدثنا الكتاب عن مأدبة أقيمت في القرن التاسع ارتجلت فيها قصائد، وأهديت إلى الآنية التي كانت تزدان بها المائدة(138).

وقد امتاز صانعوا الفخار في سامرا وبغداد في ذلك القرن بصنع الفخار اللامع أو لعلهم هم ابتدعوه ابتداعاً. وكانت النقوش التي تحليه ترسم بأكسيد معدني على طبقة من الطين المزجج، ثم يعرض الإناء بعدئذ إلى نار ثانية مدخنة مكتومة تحول الصبغة إلى طبقة معدنية رقيقة، وتكسب الطلاء بريقاً متعدد الألوان. وبهذه الطريقة أخرج الصناع أواني ذات لون واحد جميل، وأخرى ذات ألوان متعددة أجمل منها خضراء ذهبية، وبنية داكنة، وصفراء، وحمراء، تتدرج بعضها تدرجاً لا يكاد الإنسان يحسه ولا تقل عن المائة عداً وكذلك طبق هذا الفن نفسه فن الطلاء البراق على قطع القرميد التي كانت تستخدم للزينة في فن العراق القديم، فكانت ألوان هذه المربعات الكثيرة وما تتألف منها من وحدات متناسقة مما أكسب مداخل مئات المساجد ومحاريبها وكثيراً من جدران قصور العظماء روعة منقطعة النظير. وورث المسلمون في صناعة الزجاج-وهو الفن الشديد الاتصال بصناعة الفخار-كل ما امتاز به أهل مصر والشام من حذق وبراعة، فقد لونوا المصابيح بظلال من الألوان البراقة المتعددة، وزينوها بالرصائع والنقوش، ورسوم النبات والأزهار؛ ولعل أهل الشام قد ابتدعوا في ذلك الوقت فن طلاء الزجاج بالميناء، وهو الفن الذي بلغ ذروة مجده في القرن الثالث عشر.

وإذا ما ذكرنا سعة انتشار فني التصوير والنحت في الكنائس الكاثوليكية الكبرى وهي التي لا تكاد تخلو من آثارهِ واحدة منها، وذكرنا في الوقت نفسه أهمية هذين الفنية في نشر العقائد والقصص المسيحية، إذا ما ذكرنا هذا وذاك دهشنا لعدم وجود نظيريهما في الإسلام. نعم إن القرآن قد حرم النحت (سورة المائدة الآية 89) ولكنه لم يقل شيئاً عن التصوير، غير أن حديثاً يعزى إلى عائشة يقول إن النبي قد نهى أيضاً عنه(139). ولهذا فإن الشريعة الإسلامية عند الشيعة وعند أهل السنة على السواء تحريم التصوير وإقامة التماثيل جميعاً. ولهذا التحريم نظير في الوصية الثانية وفي التعاليم اليهودية. ولعل من أسباب هذا التحريم الاعتقاد أن الفنان حين يخرج مثالاً للكائنات الحية إنما يدعي لنفسهِ ما هو حقوق الخالق جل جلاله. ومن علماء الدين من يتساهلون في هذا فيجيزون تصوير الجماد. ومنهم من يتغاضون عن تصوير الحيوان أو الإنسان على الأشياء التي لا تستعمل إلا في الأغراض الدنيوية. وكان بعض خلفاء بني أمية لا يعبئون قط بهذا التحريم؛ وشاهد ذلك الوليد الأول زين قصره الصيفي في قصير عمرة حوالي عام 712 بمظلمات هلنستية صور فيها رجالاً يطاردون الوحوش. وبنات يرقصن، ونساء يغتسلن، وهو جالس فوق عرشه يشاهد هذا كله(140). وكان خلفاء بني العباس يجهرون بتقواهم، ولكن كانت لهم قصور حوت في حجراتهم الخاصة جدراناً مزينة بالصور؛ وقد استأجر المعتصم فنانين، أغلب الظن أنهم مسيحيون، ليصوروا على جدران قصرهِ في سامرا مناظر صيد. ورجال دين، وبنات عاريات يرقصن؛ وأجاز المتوكل، وهو الذي كان يضطهد الملحدين، المصورين من أهل بيزنطية أن يضيفوا إلى هذه المظلمات مظلماً آخر يمثل رهباناً مسيحيين وكنيسة مسيحية(141).

وزين محمود الغزنوي قصره بصور تمثله هو وجيوشه، وفيلته؛ وغطى ابن مسعود، قبل أن يخلعه الأتراك السلاجقة عن عرشهِ بزمن قليل، جدران حجرات قصره في هراة بمناظر قائمة على أسس مأخوذة من كتب الفن الشهواني الفارسي أو الهندي(142). وتروي إحدى القصص أن اثنين من رجال الفن أخذا يتباريان في بيت أحذ الوزراء في التصوير الواقعي؛ فعرض أحدهما أن يصور فتاة راقصة تبدو كأنها خارجة من باطن الجدار؛ وعرض الثاني أن يقوم بعمل أشق من هذا-وهو أن يصورها بحيث تبدو وهي تهم بدخول الجدار. ونجح كلاهما في إبراز فكرته نجاحاً حمل الوزير على أن يخلع عليهما خلعاً سنية ويهبهما كثيراً من الذهب(143). وفي وسعنا أن نذكر كثيراً من الشواهد الدالة على أن المسلمين قد خالفوا أمر التحريم؛ وحسبنا أن نقول إنا نجد في بلاد الفرس بنوع خاص حيوانات وأناسي مصورة بكثرة يطرب لها الرائي، وممثلة بجميع أنواع فنون التصوير. ولكن التحريم رغم هذا كله، يؤيده الشعب تأييداً وصل من القوة إلى درجة أن كان بعض أفراده يشوهون روائع الفن أو يتلفونها، قد عاق نمو فن التصوير الإسلامي، حتى اقتصر الكثير منه على التحلية المجردة، وكاد يمنع تصوير الأشخاص (وإن كنا نسمع عن وجود أربعين صورة لابن سينا)، وترك الفنانين يعتمدون كل الاعتماد على مناصرة الملوك أو الأشراف.

ولم يبقَ من صور الجدران في ذلك العصر إلا صور قصير عمرة؛ وهي تكشف عن خليط غريب مجدب من القواعد الفنية البيزنطية والأنماط الساسانية. وكأن المسامين أرادوا أن يعوضوا هذا النقص فارتفعوا بالرسوم الصغرى على العاج ومثله إلى درجة الجمال لا تعلوا عليها درجة أخرى في التاريخ كله. وقد وجد هذا الفن تراثاً متعدد الأنماط بنى عليه، وأخرج منه ثماراً مختلفة، ونعني بذلك التراث البيزنطي، الساساني، والصيني؛ وكان تزيين المخطوطات الإسلامية بالرسوم الصغيرة في العصور الوسطى فناً اختصت به طبقات الأشراف القليلة العدد، شأنه في هذا شأن موسيقى الحجرات في أوربا الحديثة؛ فقد كان الأغنياء وحدهم هم الذين يستطيعون الاحتفاظ بالفنان الفقير المخلص لفنه فقراً وإخلاصاً أنتجا هذه الروائع التي تتطلب كثيراً من الجهد والأناة. وهنا أيضاً أخضع التزيين تمثيل الكائنات الحية لسلطانه؛ فأغفل الفنان عن قصد قواعد المنظور، وخرج على الشكل الذي اتخذ أنموذجاً له، فكان يعمد إلى موضوع أو شكل مركزي-قد يكون شكلاً هندسياً أو زهرة واحدة-ويتبسط فيه ويتوسع ويخلق منه مائة صورة مختلفة حتى لتكاد كل إصبع من الصفحة بما في ذلك إطارها تمتلئ بالخطوط المرسومة بدقة متناهية كأنها قد حفرت حفراً. وكان في وسع الفنان أن يزين الكتب غير الدينية بصور الرجال والنساء والحيوان، في مناظر الصيد واللهو والحب، ولكن طراز التزيين كان هو بعينهِ على الدوام، كان هو الصورة المكونة من خطوط دقيقة، ومن ألوان مؤتلفة منسجمة يفنى بعضها بعض، ومن المجرد الهادئ البالغ أقصى درجات الكمال، والذي يهدف إلى متعة العقل المطمئن المستريح.

وكان الخط العربي الجميل جزءاً لا يتجزأ من فن التنميق؛ ولسنا نجد مثالاً آخر لاجتماع الكتابة والتصوير تآخيهما على هذا النحو إلا في بلاد الصين البعيدة. لقد كانت الحروف الكوفية في موطنها الأول، بلدة الكوفة نفسها، حروفاً سمجة ذات زوايا، وأركان محددة فجة، ولكن الخطاط كسا هذه العظام العجاف بالحركات وعلامات الإمالة والنقط وحروف المد ورسوم صغير متخذة من أوراق النبات؛ فلما ارتقى الخط الكوفي إلى هذه الدرجة من الجمال أصبح كثير الاستعمال في تزيين المباني نفسها. أما الكتابة الدارجة فكان الخط النسخ فيها أكثر جاذبية من الخط الكوفي؛ وكانت حروفه المستديرة وكان امتداد الأفقي المتعرج كان هذان في حد ذاتهم وسيلة للزينة في غنى عن الإضافات الأخرى. وليس في خطوط العالم كله سواء كانت مكتوبة باليد أو مطبوعة ما يضارع هذا الخط في جمالهِ؛ ولم يحل القرن العشرين حتى كانت الغلبة على الخط الكوفي في تزيين المباني أو الخزف، والكثرة الغالبة من الكبت الإسلامية التي وصلت إلينا من العصور الوسطى مكتوبة بخط النسخ؛ ومعظم هذه من المصاحف لأن كتابة القرآن كانت في حد ذاتها من الأعمال الصالحة التي يثاب عليها صاحبها؛ وكان تزيينها بالصور تعد انتهاكاً لحرمتها، ولكن كتابتها بالخط الجميل كانت تعد من أشرف الفنون. وبينما كان رسامو الصور الصغيرة على العاج أو غيره صناعاً يستأجرون بأجر قليل، كان الخطاطون يبحث عنهم في جميع أنحاء البلاد ويغدق عليهم الملوك والأمراء الهدايا والأموال، وكان منهم هم أنفسهم ملوك وساسة. وكانت الرقعة المكتوبة بيد أحد هؤلاء الفانين كنزاً لا يقدر بمال، وكان في البلاد منذ القرن العاشر طائفة من المولعين بجمع الكتب يعيشون ويتحركون ويقضون حياتهم كلها بين ما جمعوه من المخطوطات الجميلة المكتبة على الرق بالمداد الأسود، والأزرق، والبنفسجي، والأحمر، وبالذهب الإبريز. ولم يصل لنا إلا عدد قليل من كتب ذلك العصر، وأقدمها كلها نسخة من القرآن موجودة في دائرة الكتب المصرية بالقاهرة يرجع تاريخها إلى عام 784. وإذا ذكرنا بعد ذلك أن هذه الكتب كانت تجلد بأعظم أنواع الجلد ليناً ومتانة، وأنه قد بذل في تجليدها من حسن الذوق ومن المهارة ما لا زيادة بعده لمستزيد، وأن الجلد المغلفة به كان في كثير من الأحيان يزدان بأجمل الرسوم وأدقها، إذا ذكرنا هذا حق لنا أن نقول دون أن نتهم بالمغالاة إن الكتب الإسلامية من بداية القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر هي أجمل ما رأته العين من الكتب في العالم كله. وهل منا من لا يطمع في أن تنشر كتبه بهذا الرونق وتلك الفخامة؟

وقد اجتمعت الفنون كلها في تزيين الحياة الإسلامية والسمو بها إلى ذروة الجمال، فامتزجت أشكال الرسوم الدقيقة بالخط الجميل في المنسوجات، وطبعت بالنار على الفخار؛ وأقيمت على مداخل المباني والمحاريب. وإذا كانت حضارة العصور الوسطى لم تفرق بين الصانع الماهر والفنان، فلم يكن ذلك ليحط من شأن الفنان، بل كان يرفع من قدر الصانع الماهر، وكان الهدف الذي تبتغيه كل صناعة أن تصبح فناً من الفنون الجميلة. لقد كان الناسخ يخرج منسوجات عادية يستعملها عامة الناس وتبلى بعد قليل، مثله في هذا كمثل صانع الفخار سواء بسواء؛ ولكنه كان في بعض الأحيان يعبر عن حذقه وصبره، كما يصور أحلامه، في الأثواب، والسجف، والطنافس، وأغطية الفراش، والنسيج المطرز، الحرير المشجر، يخرجه ليبقى عدة أجيال وقد أبدع نقشه، وصبغه بالألوان الزاهية المحبوبة في بلاد الشرق. لقد كانت المنسوجات البيزنطية، والقبطية، والساسانية، والصينية ذائعة الصيت حين فتح المسلمون بلاد الشام، وفارس، ومصر، والتركستان؛ وما اسرع ما تعلم المسلمون صناعات تلك البلاد، فلم يمضِ إلا قليل من الوقت حتى أخرجت المصانع الإسلامية المنسوجات الحريرية التي نهى النبي عن لبسها، وأخرجتها بكثرة، ولبسها النساء والرجال وهم يدعون الله أن يغفر لهم خطاياهم الجسمية والروحية. وكانت حلة الشرف أثمن ما يستطيع الخليفة أن يخلعه على من يؤدي له خدمة جليلة؛ وسرعان ما أصبح المسلمون كبار تجار الحرير في العالم كله في العصور الوسطى. وكانت أقمشة التفتاه الحريرية تبتاع لملابس السيدات غي أوربا، واشتهرت شيراز بالأقمشة الصوفية، كما اشتهرت بغداد بأقمشة الستائر، والمظلات، والحرير المموج، وخوزستان بالأقمشة المنسوجة من وبر الجمال وشعر الماعز، وخراسان بأغطية الهوادج، وصور بالطنافس، وبخارى بسجاجيد الصلاة، وهراة بالحرير المنقوش بخيوط الذهب. ولقد عدا الدهر على هذا كله فلم يبقَ لنا منه مثال واحد، وكل ما نستطيعه هو أن نتصور ما كانت عليه هذه المنسوجات من الرونق والفخامة بالنظر إلى ما كان منها في القرون التالية، وبدراسة ما وصفها به الكتاب المعاصرون لها. وقد وجدت في المحفوظات الباقية من أيام هرون الرشيد مذكرة جاء فيها "400.000 قطعة من الذهب ثمن حلة وهبت لجعفر بن يحيى الوزير"(144).


الفصل الثامِن: الموسيقى

كانت الموسيقى في أول الأمر محرمة في الإسلام تعدّ من الآثام، شأنها في ذلك شأن النحت(145). نعم إنه لم ينص على تحريمها في القرآن، ولكن حديثاً مشكوكاً في صحتهِ يعزو إلى النبي أنه لخوفهِ من عاقبة أغاني النساء الخليعات ورقصهن قال ما معناه إن الآلة الموسيقية كمؤذن الشيطان يستفز من استطاع إلى عبادته. وكان علماء الدين وأتباع المذاهب الأربعة ينفرون من الموسيقى لأنها تثير الشهوات، ولكن منهم من قال متسامحاً إنها ليست إثماً في ذاتها. أما الناس، وهم أحكم في مسلكهم منهم في عقائدهم، فكان يجري على ألسنتهم مجرى الأمثال أن "الخمر كالجسد والسماع كالروح والسرور ولدهما"(146). وقد رافقت الموسيقى كل مرحلة من مراحل الحياة الإسلامية وملأت آلاف الليالي العربية بأغاني الحب والحرب والموت؛ فكانت قصور الأمراء وكثير من بيوت العظماء تستخدم المغنين ليطربوا أهلها بقصائد الشعراء أو بقصائدهم هم أنفسهم، وفي ذلك يقول مؤرخ قدير صائب الحكم على هذه الأمور قولاً خليقاً بأن يثير الدهشة: إن المنزلة التي بلغتها الموسيقى بجميع فروعها عند العرب لتزري بمنزلة هذا الفن في تاريخ أي بلد آخر(147)". نعم إن الأذن الغربية لا تستطيع بغير مران طويل أن تقدر خصائص الموسيقى العربية-ونعني بتلك الخصائص تفضيلها حسن الإيقاع على انسجام الألحان، وتقسيم النغمات إلى أثلاث لا إلى أنصاف، وما في تكوينها وتوقيعها من نظارة وبهجة هي من مميزات بلاد الشرق. وقد تبدو لنا نحن الغربيين تكراراً بسيطاً، محزناً مملاً، غريباً مستهجناً غير منتظم. لكن الموسيقى الأوربية نفسها تبدو للعربي ناقصة في عدد نغماتها، وفي دقة هذه النغمات؛ مولعة إلى حد الإسفاف بالتعقيد الذي لا خير فيهِ، وبالأصوات الناشزة الشديدة الارتفاع. وإن ما في الموسيقى العربي من رقة تبعث على التفكير لتؤثر في نفس المسلم أعمق التأثير. ويحدثنا السعدي عن غلام يغني بنغمة محزنة مؤثرة تستوقف الطائر في كبد السماء(148). ويصف الغزالي النشوة بأنها الحالة التي يبعثها الاستماع إلى الموسيقى(149). وقد أفرد أحد المؤلفين العرب فصلاً في كتابهِ للحديث عن الذين فقدوا وعيهم أو ماتوا وهم يستمعون إلى الموسيقى الإسلامية، وقد استعان بها الدراويش في أذكارهم وشعائرهم وإن كان الدين نفسه قد ندد بها في أول الأمر.

وبدأت الموسيقى الإسلامية بالألحان والأشكال الساميَّة القديمة، ثم تطورت على ضوء صلاتها بالتقاسيم اليونانية الآسيوية النشأة وتأثرت تأثراً قوياً بالموسيقى الفارسية والهندية. وقد أخذت إحدى العلامات وكثير من القواعد الموسيقية عن اليونان؛ وللكندي، وابن سينا، وإخوان الصفا، كتابات مطولة في هذا الموضوع؛ وكتاب الفارابي في الموسيقى أشهر ما ألف في العصور الوسطى في النظريات الموسيقية وهو يضارع أي كتاب وصل إلينا من المصادر اليونانية إن لم يفقه(150). وقد وضع المسلمون منذ القرن السابع السلم الموسيقي (ويبدو أن ذلك لم يكن معروفاً في أوربا قبل عام 1190)(151)-وكانت علاماتهم تدل على طول الزمن الذي تمتد إليه كل نغمة وعلى مقاماتها(152).

وكان عند العرب آلات موسيقية تبلغ المائة عدّ أشهرها العود، والقيثارة، والبندور، والسنطير، والناي، ويقويها في بعض الأحيان البوق، والدف، والصنج، والرق، والطبل. وكان العود على أنواع وأحجام كثيرة لا تقل عن الأثني عشر؛ وكان الكبير منها يسمى القيثارة. وعن العرب أخذت كلمتا Iute, Guilar. وكان القوس يستعمل للعزف على بعض الآلات الوترية، وكان الأرغن بنوعيهِ الهوائي والمائي معروفاً عند العرب؛ وقد اشتهرت بعض المدن الإسلامية كإشبيلية بصنع الآلات الموسيقية الدقيقة التي لا تضارعها آلات أخرى مما كان يصنع وقتئذ في بلاد الإسلام(152). وكان يقصد بالموسيقى الآلية كلها تقريباً أن تصحب الغناء أو أن تكون مقدمة له. وكان يقتصر في العادة على استخدام أربع آلات أو خمس في وقت واحد، ولكننا نقرأ أيضاً عن فِرَق موسيقية كبيرة العدد(153)، وتقول إحدى الروايات المتواترة إن سريج الموسيقى من أهل المدينة أول من استعمل القضيب(154).

وكانت منزلة الموسيقيين عند المسلمين منحطة إذا استثنينا مشهوري الفنانين وذلك على الرغم من ولع المسلمين بهذا الفن ولعاً يبلغ حد الجنون. وشاهد ذلك أننا قلما نرى من أفراد الطبقات العليا من نزل من عليائهِ فدرس هذا الفن الفاتن الذي يسلب العقول. ومن أجل هذا كانت الموسيقى في بيوت الأغنياء من عمل القيان، ومن المشرعين فئة تقول إن شهادة الموسيقى لا تقبل في المحكمة(155). وكذلك كان الرقص عنهم يقتصر على الجواري يدربن عليه ويستأجرون له؛ وكان في كثير من الأحيان رقصاً شهوانياً، وفي كثير منها فنياً. وقد أقام الخليفة الأمين حفلة راقصة دامت طوال الليل رقص فيها عدد كبير من الفتيات وغنّين. ولما اتصل العرب باليونان والفرس ارتفعت منزلة الموسيقيين عندهم، وكان الخلفاء الأمويون والعباسيون يغدقون الهبات على كبار الموسيقيين في أيامهم؛ فها هو ذا سليمان بن عبد الملك يعرض جوائز تبلغ عشرين ألف قطعة من الفضة (10.000 دولار أمريكي) لمباراة بين الموسيقيين في مكة. وهاهو ذا الوليد الثاني يعقد مباريات في الغناء كانت الجائزة الأولى في واحدة منها 300.000 قطعة من الفضة (150.000 دولار أمريكي)(156)، وربما كانت هذه الأرقام مبالغاً فيها كعادة أهل الشرق. وقد دعا المهدي إلى بلاطهِ مغنياً مشهوراً من أهل مكة، ودعا هارون الرشيد إلى بلاطهِ إبراهيم الموصلي وأعطاه 150.000 درهم (75.000 دولار أمريكي) ورتب له عشرة آلاف شهر ووهبه 100.000 نظير أغنية واحدة. وقد بلغ من حب هرون للموسيقى أن شجع تلك الموهبة في أخيهِ لأبيهِ، الشاب إبراهيم ابن المهدي-على الرغم من تقاليد طبقته-لأن إبراهيم كان له صوت غاية في القوة يبلغ مداه ثمان طبقات. وإن الزمن ليتضاءل في خيالنا وتضيق دائرته إلى أقصى حد عندما نسمع أنه قام بحركة ابتداعية في الموسيقى العربية مضادة للنزعة الإتباعية نزعة إسحق بن إبراهيم الموصلي. وكان المأمون يقول عنه أنه لم يغنّ لي قط إلا شعرت بأني قد اتسع ملكي(159).

والقصة الآتية التي يرويها مخارق تلميذ إبراهيم الموصلي تصور لنا المجتمع الإسلامي بصورة مبهجة، وتظهر ما كان للموسيقى الإسلامية من أثر قوي في نفس المسلم؛ ولسنا في حاجة إلى تصديقها لكي نحس بمغزاها، قال:

تطفلت تطفيلة قامت على أمير المؤمنين المعتصم بمائة ألف درهم، فقيل له كيف ذلك؟ قال: شربت معه ليلة إلى الصبح، فلما أصبحنا قلت له: يا سيدي إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فأخرج الرصافة فأتنسم إلى وقت انتباه أمير المؤمنين قال نعم، وأمر البوابين أن يتركوني؛ فخرجت أتمشى فإذا بجارية كأن الشمس تشرق من وجهها فتبعتها، ورأيت معها زنبيلاً فوقفت على صاحب فاكهة فاشترت منه سفرجلة بدرهم، ورمانة بدرهم وكمثراية بدرهم وانصرفت. فتبعتها، فالتفتت فرأتني فقالت يا ابن الفاعلة إلى أين تريد؟ قلت خلفك يا سيدتي؛ فقالت ارجع يا ابن الزانية لئلا يراك أحد فيقتلك. فتأخرتُ ومشيتُ من بعيد وهي تمشي أمامي، ثم التفتت فرأتني فشتمتني شتماً قبيحاً. ثم جاءت إلى باب كبير فدخلتْ فيه وجلستُ أنا بحذاء الباب، وقد ذهب عقلي، ونزلت عليّ الشمس، وكان يوماً حاراً، فما لبثت أن جاء فَتَيان كأنهما بدران على حمارين؛ فلما وصلا إلى الباب استأذنا فأذن لهما، فدخلا، ودخلتُ معهما، فظنا أن صاحب المنزل قد دعاني. وجيء بالأكل فأكلنا وغسلنا أيدينا، ثم قال لنا صاحب المنزل: هل لكما في فلانة؟ قالوا: إن تفضلت. فاستدعى تلك الجارية، فخرجت صاحبتي ووراءها وصيفة تحمل عودها، فوضعته في حجرها وغنت، فشربوا وطربوا، فقالوا: لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. ثم غنت صوتاً آخر فشربوا وطربوا وهي تلحظني وتشكّ فيَّ، فقالوا: لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. ثم غنت صوتاً ثالثاً فطربوا وشربوا، فقالوا لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. فلم ألبث أن قلتُ: يا جارية شدي يدك فشدت أوتارها وخرجت عن إيقاعها الذي تقول عليه. فاستدعيتُ بدواة وقضيب وغنيتُ الصوت الذي غنته الجارية أولاً، فقاموا إليَّ وقبلوا رأسي. (قال الراوي) وكان مخارق أحسن الناس صوتاً وكان يوقع بالقضيب توقيعاً عجيباً. ثم غنيتُ الصوت الثاني والثالث فكادت عقولهم تطير. فقالوا بالله من أنتَ يا سيدي؟ فقلتُ: أنا مخارق. فقالوا ما سبب مجيئك؟ قلت: طفيلي أصلحكم الله، وأخبرتهم بخبري، فقال صاحب البيت لصديقيهِ: أما تعلمان أني أعطيت في الجارية ثلاثين ألف درهم فامتنعت عن بيعها؟ قالا: بلى. قال: هي له. قال صديقاه: علينا عشرون ألف درهم وعليكَ عشرة آلاف. قال مخارق فملكوني الجارية وجلستُ عندهم إلى العصر وانصرفتُ بها (وبغيرها من الأثواب الغالية والهدايا الأخرى الثمينة التي أهدوها إليَّ)، وكلما مرت بالمواضع التي شتمتني فيها أقول لها: يا مولاتي: أعيدي كلامك؛ فتستحي مني فأحلف عليها لتعيدنه فتعيده حتى وصلنا إلى باب أمير المؤمنين (فقيل لي إنه انتبه وطلبك في منازل أبناء القواد فلم يجدكَ وتغيظ عليكَ غيظاً شديداً)، فدخلتُ عليهِ ويدي في يدها فلما رآني سبَّني وشتمني، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: لا تعجل. وحدثته القصة فضحك وقال: نحن نكافئهم عنك. فأحضَرَهم وأمرَ لكل واحد منهم بثلاثين ألف درهم ولي بعشرة آلاف .