قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 2 ب 11

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 4536

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> أحوال البلاد الإسلامية -> الحال الاقتصادية


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الحادي عشر: أحوال البلاد الإسلامية (638-1058)

الفصل الأوَّل: الحال الاقتصادية

تنشأ الحضارة من عاملين أساسيين هما الأرض والعمل-ومن موارد الأرض الطبيعية تحولها رغبات الإنسان وجهوده وتنظيمه إلى ما فيه منفعته. فمن وراء المظاهر الخارجية لحاشية الملوك والقصور، والهياكل، والمدارس، والآداب، والترف، والفنون، ومن تحتها يقف الإنسان أحد العاملين الأساسيين في الحضارة، الإنسان الصياد يأتي بالصيد من الغاب؛ والحطاب يقطع الأشجار منها؛ والراعي يرعى قطعانه ويربيها؛ والفلاح يمهد الأرض، ويحرثها، ويزرعها، ويحصد غلاتها، ويعنى بالحدائق، والكروم، ويربي النحل، والدواجن الطيور؛ والمرأة تنهمك في مئات الصنائع اليدوية والأعمال المنزلية؛ والعامل ينقب عن المعادن في باطن الأرض، والبناء يقيم المنازل ويصنع المركبات والسفن؛ والصانع ينتج السلع والأدوات، والبائع الجائل، أو صاحب الحانوت، أو التاجر يجمع بين الصانع والمستهلك ويفرق بينهما، والمستثمر يمد الصناعات بأمواله المدخرة؛ والمدير المنفذ يسخر الجهود العضلية، والمواد الأولية، والعقول لإنشاء الخدمات وإيجاد السلع. أولئك هم العمال القلقون الصابرون رغم صبرهم الذين تركب على ظهورهم المتمايلة المتأرجحة حضارة العالم المزعزعة.

وكان هؤلاء كلهم جادين عاملين في بلاد الإسلام. فكان الرجال يربون الماشية والخيل، والإبل، والمعز، والفيلة، والكلاب؛ ويسطون على عسل النحل، ولبن الإبل، والمعز، والبقر، وينتجون مائة نوع من الحبوب، والخضر والفاكهة، والنقل، والأزهار. لقد جاء العرب إلى بلادهم بشجرة البرتقال من الهند في وقت ما خلال القرن العاشر الميلادي، وأدخلوا في بلاد الشام، وآسية الصغرى، وفلسطين، ومصر، وأسبانيا ثم انتقلت من هذه البلاد إلى جميع أنحاء أوروبا الجنوبية(1). كذلك نقل العرب زراعة قصب السكر، وصناعة السكر نفسه وتكريره من الهند ونشروهما في جميع أنحاء الشرق الأدنى، ومن تلك البلاد نقلها الصليبيون إلى أوطانهم(2)؛ وكان العرب أول من زرع القطن في أوروبا(3)، وقد استطاعوا إنتاج هذه المحاصيل من أرضين معظمها جدب قاحل بفضل وسائل الري النظم؛ ولم يجر الخلفاء في الميدان على سنتهم المألوفة من ترك الشؤون الاقتصادية للمشروعات الحرة، بل كانت الحكومة تشرف على قنوات الري الرئيسية وتتعهدها بالصيانة والتطهير، فأوصلت ماء الفرات إلى أرض الجزيرة، وماء دجلة إلى أرض فارس، وشقت قناة كبيرة بين النهرين التوأمين عند بغداد. وكان خلفاء الدولة العباسية الأولون يشجعون الأعمال الخاصة بتجفيف المستنقعات وتعمير القرى المخربة والضياع التي هجرها سكانها. وكان الإقليم المحصورة بين بخارى وسمرقند يعد في أثناء القرن العاشر "إحدى الجنات الأرضية الأربع"-وكانت الثلاث الأخرى هي جنوبي فارس، وجنوبي العراق، والإقليم المحيط بدمشق في بلاد الشام.

وكان الذهب والفضة، والحديد، والرصاص، والزئبق، والإثمد، والكبريت، وحجر الفتيلة (الأسبستوس)، والرخام، والحجارة الكريمة تستخرج كلها من باطن الأرض وكان الغواصون يستخرجون اللؤلؤ من الخليج الفارسي، واستخدم العرب النفط والقار في بعض أعمالهم، فقد وجد بين محفوظات هارون الرشيد ورق سجل فيها ثمن النفط والعشب اللذين استخدما في حرق جثة جعفر(4)، وكانت الصناعة لا تزال في مرحلة العمل اليدوي، يقوم بها الأهلون في البيوت والحوانيت، وينتظمون في طوائف. وقل أن تعثر في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت على مصانع بالمعنى الحديث، ولا نجد دليلاً واضحاً على ارتقاء الفنون الصناعية فوق المرحلة اليدوية والجهود العضلية إذا استثنينا الطواحين الهوائية. فالمسعودي أحد مؤرخي القرن العشر يقول إنه شاهد هذه الطواحين في فارس وبلاد الشرق الأدنى، مع أننا لا نجد أثراً لها في أوروبا قبل القرن الثاني عشر، ولعلها كانت هدية أخرى أهداها الشرق الإسلامي إلى أعدائه الصليبيين(5). وكان العرب على جانب كبير من المهرة الآلية الفنية، وشاهد ذلك أن الساعة المائية التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان قد صُنعت من الجلد والنحاس الأصفر المنقوش. وكانت تدل على الوقت بفرسان من المعدن يفتحون كل ساعة باباً يسقط منه العدد المطلوب من الكرات على صنجة، ثم ينسحبون ويغلقون الباب(6). وكان الإنتاج بطيئاً، ولكن الصانع في وسعه أن يُظهر مهارته فيما ينتجه من تحف وأدوات كاملة الصنع، وكاد يجعل من كل صناعة فناً. واشتهرت المنسوجات الفارسية، والشامية، والمصرية بجمالها الفني الرائع الذي كان يتطلب من الصناع مهارة وصبراً؛ فاشتهرت الموصل بنسج القطن الرفيع "الموصلين"، ودمشق بنسيج التيل "الدمقس"، وعدن بالصوف.

واشتهرت دمشق أيضاً بالسيوف المصنوعة من الصلب المسقى؛ وصيدا وصور بزجاجهما الذي لا يدانيه في رقته وصفائه، وبغداد بزجاجها وخزفها، والري بخزفها، وإبرها، وأمشاطها؛ واشتهرت الرقة بزيت الزيتون والصابون، وفارس بالروائح العطرية والطنافس. وبلغت بلاد آسية الغربية تحت حكم المسلمين درجة من الرخاء الصناعي والتجاري لم تصل إليها بلاد أوروبا الغربية قبل القرن السادس عشر(7).

وكانت أهم وسائل النقل البري هي ظهور الإبل، والخيل والبغال والرجال، لكن الحصان كان بوجه عام أثمن من أن يستخدم في حمل الأثقال، وفيه يقول أعرابي "لا تسمه حصاني، بل سمه ولدي؛ فهو في عدوهِ أسرع من الريح ومن طرفة العين...وقد بلغ من خفة قدمه أنه يستطيع أن يرقص فوق صدر حبيبتك ولا يؤذيها"(8). ومن اجل هذا كان الجمل "سفينة الصحراء" يحمل معظم تجارة العرب، وكانت قوافل يصل عدد جمالها إلى 4.700 جمل تخترق بلاد العالم الإسلامي. وكانت طرق كبرى تتشعع من بغداد وتمر بالري وسينابور، ومرو، وبخارى، وسمرقند، إلى كاشغر وحدود بلاد الصين؛ أو إلى البصرة فشيزار؛ أو إلى الكوفة فالمدينة، ومكة وعدن، أو إلى ساحل بلاد الشام مجتازة الموصل أو دمشق. وأنشئت النزل، والخانات، والمضايف، وصهاريج الماء في الطرق ليستقي منها المسافرون والدواب. وكانت التجارة الداخلية واسعة تنتقل في الأنهار والقنوات. وقد فكر هارون الرشيد في حفر قناة تربط البحرين المتوسط والأحمر في موضع قناة السويس وخططها، ولكن يحيى البرمكي لم يشجعه على حفرها لأسباب لا نعرفها ولعلها أسباب مالية(6). وقد أنشئت على نهر دجلة عند بغداد، حيث يبلغ عرضه 750 قدماً، ثلاثة جسور محملة علة قوارب.

وكانت تجارة عظيمة تمر بهذه الشرايين، وكان من المزايا الاقتصادية التي يستمتع بها غرب آسية أن حكومة واحدة تسيطر على هذا الإقليم الذي كان فيما مضى مقسماً بين أربع دول؛ فقد كان من آثار هذه الوحدة أن ألغت في داخلها جميع العوائد الجمركية وغيره من العوائق التجارية، هذا إلى أن العرب لم يكونوا كأشراف الأوربيين يسخرون من التجار ويزدرونهم، ولهذا لم يلبثوا أن انضموا إلى المسيحيين واليهود والفرس في نقل البضائع من المنتج إلى المستهلك بأقل ما يمكن من الربح لكليهما، فغصت المدائن والبلدان بوسائل النقل والمقايضة والبيع والشراء؛ وكان البائعون الجائلون ينادون على سلعهم أمام النوافذ الشبكية، والحوانيت تعرض بضائعها أو تتردد في أصداء المساومات، والموالد والأسواق تغص بالمتاجر والتجار والبائعين، والمشترين، والشعراء، والقوافل تربط الصين والهند بفارس والشام ومصر، وكانت الثغور أمثال بغداد، والبصرة، وعدن، والقاهرة، والإسكندرية، تبعث بالتجار يجوبون البحار. وظلت التجارة الإسلامية هي المسيطرة على بلاد البحر المتوسط إلى أيام الحروب الصليبية، تنتقل من الشام ومصر في أحد الطرفين إلى تونس، وصقلية، ومراكش وأسبانيا في الطرف الآخر، وتمر في طريقها ببلاد اليونان، وإيطاليا، وغالة. وانتزعت السيطرة على البحر الأحمر من بلاد الحبشة، وتجاوزت بحر الخرز إلى منغوليا، وصعدت في نهر الفلجا Yolga من أستراخان إلى نوفجرود؛ وفنلندة، واسكنديناوة، وألمانيا حيث تركت آلافاً من قطع النقود الإسلامية. ولما أن قدمت سفن صينية لزيارة البصرة رد العرب الزيارة بإرسال سفائنهم من الخليج الفارسي إلى الهند وسرنديب، ثم اجتازت المضيق الذي يفصل بينهما، وسارت بإزاء الساحل الصيني إلى خنفو (كنتون) واستقرت في هذا الثغر جالية إسلامية ويهودية في القرن الثامن الميلادي(10). ووصل هذا النشاط التجاري الذي بعث الحياة قوية في جميع أنحاء البلاد إلى غايته في القرن العاشر أي في الوقت الذي تدهورت فيه أحوال أوروبا إلى الدرك الأسفل، ولما أن اضمحلت هذه التجارة أبقت آثارها واضحة في كثير من اللغات الأوربية فأدخلت فيها ألفاظاً مثل Bazaa, Cravan, Magazine, Tariff .

وكانت الدولة تترك للصناعة والتجارة حريتهما وتساعدهما بإيجاد عملة ثابتة مستقرة إلى حد كبير. وكان الخلفاء الأولون يستخدمون النقود البيزنطية والفارسية حتى تولى الخلافة عبد الملك بن مروان فسك في عام 695 عملة عربية من الذهب هي الدينار وأخرى من الفضة هي الدرهم. ويصف ابن حوقل (حوالي 975) صكاً كان تعهداً بالدفع قيمته 42.000 دينار مصدراً إلى تاجر في مراكش. وقد اشتقت من كلمة صك الدالة على هذه الوثيقة الكلمة الإنجليزية Check وكن ذوو المال يستثمرون أموالهم في الأسفار البحرية والبرية، ومع أن الربا محرم في الإسلام فإن المشتغلين بالشؤون المالية لم يعدموا وسيلة لأداء جزء من الربح لأصحاب رؤوس الأموال نظير استخدامها في هذه الأعمال وما تتعرض له من الأخطار كما فعل الأوربيون فيما بعد.

وكان القانون يحرم الاحتكار ولكنه كان منتشراً رغم هذا التحريم، ولم يكد يمضي على موت عمر بن الخطاب مائة عام حتى جمع أفراد الطبقات العليا من العرب ثروات طائلة وعاشوا في ضياع مترفة يقوم بالعمل فيها مئات من الأرقاء(11) ويقال إن يحيى البرمكي عرض سبعة آلف درهم (560.000 دولار أمريكي) ثمناً لصندوق للآلئ مصنوع من الحجارة الكريمة، وإن صاحبه أبى أن يبيعه بهذا الثمن؛ وإن الخليفة المكتفي، إذا جاز لنا أن نصدق الأرقام التي يوردها مؤرخو العرب، ترك حين وفاته ما قيمته 20.000.000 دينار (94.500.000 دولار أمريكي) من الجواهر والعطور(12). ولما أن عقد هارون الرشيد لابنه المأمون على بوران نثرت جدتها على العريس بدرة من اللؤلؤ، ونثر والدها على المدعوين كرات من المسك تحتوي كل منها على وثيقة تعطي صاحبها الحق في عبد أو جواد، أو ضيعة، أو هدية أخرى(13)، ولما أن صادر المقتدر 16.000.000 دينار من ثروة ابن الجساس، بقيت لهذا الصائغ الشهير بعد ذلك ثروة طائلة. وكانت ثروة بعض التجار ذوي الصلة بالأقطار النائية وراء البحار لا تقل عن 4.000.000 دينار، وكان مئات التجار يملكون بيوتاً تتراوح نفقاته بين عشرة آلاف وثلاثين ألف درهم (142.500 دولار)(14).

وكان مركز العبيد في الطبقة الدنيا من بناء الدولة الاقتصادي. ولربما كان عددهم في الإسلام بالنسبة لعدد السكان أكثر من المسيحية حيث كان أرقاء الأرض يحلون محل العبيد. ويقول الرواة إن بيت الخليفة المقتدر كان يضم 11.000 من الخصيان، وإن موسى بن نصير قبض في إفريقية على 300.000 أسير، وفي أسبانيا على 30.000 "عذراء" وباع الجميع ي أسواق الرقيق؛ وإن قتيبة قبض في سجديان على 100.000 أسير. وخليق بنا أن نشير في هذا المقام إلى أن هذه الأرقام مبالغ فيها كثيراً هي عادة المؤرخين العرب، وإلى أن من واجبنا ألا نأخذها كما هي وقد عمل الإسلام على تضييق دائرة الاسترقاق وتحسين حال الأرقاء، فقصر الاسترقاق المشروع على من يؤسرون في الحرب من غير المسلمين وعلى أبناء الأرقاء أنفسهم. أما المسلم فلا يجوز أن يُسترق (كما لم يجوز في الدين المسيحي أن يسترق المسيحي). ولكن تجارة الرقيق نشطت على الرغم من هذا وكان قوامها من يقبض عيه في الغارات-كالزنوج من بلاد الشرق، ومن أواسط أفريقية، والأتراك أو الصينيين من التركستان، والبيض من الروسيا وإيطاليا، وأسبانيا. وكان للسيد من المسلمين حق الحياة والموت على عبده، ولكنه كان في العادة يحسن معاملته إلى حد لم يكن معه مركزه أسوأ من مركز العامل في المصانع الأوربية في القرن التاسع عشر، بل لعله كان أحسن حالاً من ذلك الصانع، لأنه كان آمن على حياته منه(15)، وكان الأرقاء يقومون بمعظم الأعمال الدنيا في المزارع، وبأكثر الأعمال اليدوية التي لا تحتاج إلى مهارة في المدن. وكانوا يعملون خدماً في البيوت، وكان من رجاهم خصيان ومن النساء جوارٍ في الحريم. وكانت كثر الراقصات، والمغنيات والممثلات من الجواري. وكان ابن الجارية من سيدها، وابن المرأة الحرة من عبدها، حراً من ساعة مولده. وكان يسمح للعبيد أن يتزوجوا وأن يتعلم أبناؤهم إذا أظهروا قدراً كافياً من النباهة. وإن المرء ليدهش من كثرة أبناء العبيد والجواري الذين كان لهم شأن عظيم في الحياة العقلية والسياسية في العالم الإسلامي، ومن كثرة من أصبحوا منهم ملوكاً وأمراء أمثال محمود الغرنوي والمماليك في مصر.

ولم يبلغ استغلال العمال في بلاد آسية الإسلامية من القسوة ما بلغه في البلاد الوثنية أو المسيحية، حيث كان الفلاح يكدح طوال ساعات النهار، ولا يكسب إلا ما يكفي لابتياع خرقة تستر حقوقه، أو إقامة كوخ يعيش فيه، أو الحصول على طعام لا يكاد يقيم أوده. وكان المتسولون كثيرين في البلاد الإسلامية ولا يزالون كثيرين فيها إلى الآن، ولا يزال الكثيرون منهم مخادعين مدعين؛ ولكن الآسيوي الفقير كان يحميه من الفاقة مهارته في العمل البطيء، وقل أن يوجد في الناس من يضارعه في تكييف نفسه لظروف التعطل عن العمل. وكانت الصدقات كثيرة متعددة، وكان في وسع الفقير إذا ضاقت به السبل أن ينام في أحسن بناء في المدينة-وهو مسجدها، ومع هذا كله فإن حرب الطبقات الأبدية لم تخمد جمرتها قط، وكان لهيبها يندلع من آن إلى آن في البلاد الإسلامية (778، 769، 808، 838) في ثورات عنيفة. وكانت هذه الثورات تستتر أحياناً بستار الدين لأن الدين والدولة كانا في البلاد الإسلامية شيئاً واحداً, وكان منهم شيع كالحزمية والمحيدة تعتنق آراء مزدك الفارسي الشيوعية؛ ومنهم شيعة أطلقت على نفسها اسم سرخ علم أي "العلم الأحمر"(16)؛ وقام في عام 772 رجل في خراسان يدعى هاشم المقنع وقال إن الله قد حل في جسمه، وإنه بعث ليعيد شيوعية مزدك. واجتمعت له حوله عدة طوائف، وهزم كثيراً من الجيوش التي أرسلت للقبض عليه، وظل ثلاثة عشر عاماً حاكماً على بلاد فارس، ثم قُبض عليه أخيراً (786) وأعدم. وأثار بابك الخزاني الفتنة نفسها في عام 838 وجمع حوله طائفة سميت المحمرة، واستولى بها على آزربيجان، وظلت قبضته اثنتين وعشرين سنة، وهزم عدة جيوش، وقتل (على يد قول الطبري) 225.500 جندي وأسر قبل أن يهزم. وأمر الخليفة نفسه جلاد بابك نفسه أن يقطع أطرافه طرفاً طرفاً، ثم خزق أمام قصر الخليفة، وحملوا رأسه إلى خراسان وطافوا به في مدنها(19)، ليذكر كل من يراه أن الناس كلهم يولدون غير أحرار وغير أكفاء.

وكانت أهم "حروب الأرقاء" في الشرق هي التي أثار عجاجها رجل عربي اسمه علي ادعى أنه من نسل علي بن أبي طالب زوج فاطمة بنت النبي. وتفصيل ذلك أن عددا ُ كبيراً من الزنوج كانوا يعملون في كسح السباخ بالقرب من البصرة، فأخذ علي هذا يذكر لهم سوء ما يلقون من المعاملة، ويحرضهم على أن يثوروا معه على ساداتهم، ويعدهم بالتحرر من الرق وبالثروة-وأن يكونوا هم مالكين للعبيد. وأثرت فيهم دعوته، فاستجابوا لها واستولوا على الزاد والعتاد، وهزموا الجيوش التي سيرت لقتالهم، وأنشأ لهم قرى مستقلة فيها قصور لزعمائهم، وسجون لأسرهم، ومساجد لصلواتهم (869). وعرض أصحاب العمل أن يؤدوا لعلي خمسة دنانير عن كل شخص من الثوار يعود إلى عمله إذا أقنعهم بهذه العودة، فأبى. وحاولت البلاد المحيطة بهم أن تخضعهم بمنع الطعام عنهم، ولكنهم حين نفدت مؤنهم هاجموا بلدة الأبلّة، وحرروا من فيها من الأرقاء وضموهم إلى صفوفهم ثم نهبوها وأشعلوا فيها النار (870). وتشجع علي بهذا النصر فهاجم عدة بلاد أخرى واستولى على الكثير منها، وسيطر على جنوبي إيران والعراق حتى دق أبواب بغداد نفسها. وتعطلت التجارة، وقل الطعام في العاصمة. وفي عام 871 استولى المهلبي قائد الزنوج على البصرة، وذبح ثلاثمائة ألف من أهلها وسبى الجنود الزنوج آلافاً من النساء واسترقوا آلافاً من الأطفال البيض بعضهم من بني هاشم أنفسهم-إذا صدقنا أقوال المؤرخين. وظلت نار الثورة مشتعلة عشر سنين، سيرت في خلالها عدة جيوش لتقليم أظافرها وعرض على من يفرون من صفوف الثوار المال والعفو، فخرج على علي كثيرون من رجاله، وانضموا إلى جيوش الحكومة. ثم حوصر من بقي منهم، وضُيقَ عليهم الخناق، وسُلط عليهم الرصاص المصهور و "النار اليونانية" وهي مشاعل من النفط الملتهب، وانتهى الأمر بأن دخل جيش يقوده الوزير الموفق إلى مدينة الثوار، وتغلب على ما لقيه من المقاومة، وقُتل علياً وحُمل رأسه إلى الوزير المنتصر. وسجد الموفق وضباطه شكراً لله على رحمته (883)(20). ودامت هذه الثورة أربعة عشر عاماً حاق فيها الخطر بجميع المقومات الاقتصادية والسياسية في البلاد الشرقية الإسلامية. وانتهز أحمد بن طولون والي مصر هذا الاضطراب فاستقل بأغنى ولايات الخلافة الإسلامية.


الفصل الثاني: الإيمان

يلي المال والنساء في شهوات الإنسان رغبته في النجاة من العذاب في الدار الآخرة فإذا امتلأت المعدة بالطعام، وأشبع الإنسان غريزته الجنسية وجد متسعاً من الوقت ينصرف فيه إلى الله.

ولقد كان المسلمون كثيري التفكير في ربهم، وكانت مبادئهم الأخلاقية وشريعته، وحكومتهم، قائمة كلها على أساس الدين. والإسلام أبسط الأديان كلها وأوضحها، وأساسه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ويتطلب الجزء الثاني من هذا الأساس الإيمان بالقرآن وبكل ما جاء به، ولهذا فإن المسلم المتمسك بدينه يؤمن كذلك بالجنة والنار، والملائكة والشياطين، والبعث، والقضاء والقدر، ويوم الحساب. وقواعد الإسلام بعد الشهادتين هي الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت. ويؤمن المسلم كذلك برسالة الأنبياء الذين سبقوا محمداً وبما نزل عليهم من الوحي "ولكل أمة رسول" (سورة يونس 48). ويعتقد بعض المسلمين أن عدد أولئك الرسل 224000، ولكن يبدو أن محمداً كان يرى أن، إبراهيم وموسى، وعيسى، هم وحدهم الذين نطقوا بكلمات الله. ولهذا فإن على المسلم أن يؤمن بالتوراة والإنجيل، ويعتقد أن ما ورد فيهما من وحي الله، فإذا ما اختلفا عن القرآن في شيء فعليه أن يعتقد أن سبب ذلك ما حدث فيهما من تغيير متعمد أو غير متعمد. وعليه أن يؤمن أيضاً بأن القرآن قد حل محل غيره من الكتب السماوية، وأن محمداً خير أنبياء الله ورسله. والمسلمون يعتقدون أن محمداً بشر من خلق الله، ولكن احترامه إياه لا يقل عن احترام النصارى للمسيح، وفي ذلك يقول أحد الصالحين من المسلمين الأقدمين إنه لو كان حياً في زمان النبي لما تركه يطأ الأرض بقدمه المباركة ولحمله على كتفيه أينما أراد.

والمسلمون الصالحون لا يطيعون ما ورد في القرآن وحده، بل يعملون أيضاً بالأحاديث والسنن النبوية التي احتفظ بها علماؤهم على مر الأجيال والقرون. ذلك أن المسلمين قد يواجهوا على مر الزمن مسائل خاصة بالعقائد، والعبادات، والأخلاق، والتشريع، لا يجدون لها جواباً صريحاً في القرآن. كذلك وردت في القرآن آيات متشابهات يخفى معناها على كثير من العقول وتحتاج إلى إيضاح. ولهذا كان من المفيد أن يعرف المسلمون ما فعله النبي أو الصحابة وما قالوه في أمثال هذه الموضوعات. ومن أجل ذلك وجه بعض المسلمين عنايتهم إلى جمع هذه الأحاديث، وامتنعوا عن تدوينها في القرن الأول من الهجرة . وأنشئوا مدارس لحديث في مختلف المدن يلقون فيها دروساً عامة في الحديث والسنن النبوية، ولم يكن من غير المألوف أن يسافر الواحد منهم من الأندلس إلى بلاد الفرس ليستمع إلى حديث منم أحد رواته. وبهذه الطريقة تجمعت طائفة من السنن الشفوية إلى جانب القرآن شبيهة بالمشنا والجمار اللذين تجمعا حول التوراة، وفعل البخاري بهذه الأحاديث في عام 78 ما فعل يهودا هاناسي بشرائع اليهود غير المكتوبة في عام 89، فقد واصل البحث عدة سنين طاف فيها بأنحاء العالم الإسلامي من مصر إلى التركستان حتى جمع نحو ستمائة ألف حديث اختار منها بعد تمحيصها ونقدها 7275 ونشرها في صحيحه منسوبة في سلسلة طويلة من الإسناد إلى أحد الصحابة أو إلى النبي نفسه.

تُلقي الكثير من أحاديث النبي ضوءاً جديداً على العقائد الإسلامية. نعم إن محمداً لم يقل قط إنه يأتي بمعجزات، ولكن ثمة أحاديث تروي بعض ما قام به من خوارق العادات: كيف أطعم عدداً كبيراً من الناس من طعام لا يكاد يكفي شخصاً واحداً، وكيف أخرج الشيطان من جسم بعض الناس, وكيف انزل الغيث وحجب المطر بصلاة واحدة، وكيف مَسَّ ضرع ماعز جافة فأدرت اللبن، وكيف شُفِيَ المرضى بلمس ثيابه أو شعر رأسه بعد قصه. وتحث بعض الأحاديث على حب الأعداء، وإن كانت آراء محمد في هذه الناحية أشد من آراء المسيح. وقد أخذت الصلاة الربانية من الإنجيل بعد أن أدخل عليها بعض التعديل كما يُعزى إلى محمد حديث يروي قصص الزراع، وضيوف العرس وعمال الكرم، وقصارى القول أن رواة الأحاديث قد وصفوا النبي بخير ما نجده في المسيحية من فضائل على الرغم من زوجاته التسع، يقول بعض النقاد المسلمين: إن كثيراً من الأحاديث قد دستها على النبي الدعاوة الأموية أو العباسية أو غيرهما. وقد اعترف ابن العوجاء الذي أعدم في الكوفة سنة 272 أنه وضع بنفسه أربعة آلاف حديث. وثمة عدد قليل من المتشككين الذين لا يصدقون معظم الأحاديث ومنهم من زيف بعضها وصاغها في صيغة الأحاديث الصحيحة.

ومع هذا كله فإن تصديق الأحاديث الواردة في إحدى المجموعات المتفق على صحتها، من الصفات التي يمتاز بها المسلمون المتمسكون بدينهم والذين يُطلق عليهم السنيين. ومن هذه الأحاديث حديث يسأل فيه جبريل النبي عن ماهية الإسلام فيجيبه النبي بأن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، فالصلاة، والزكاة، والصوم والحج هي الواجبات الأربعة المفروضة على كل مسلم، وهي مضافة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "أركان الإسلام الخمسة".

ولابد أن يسبق الصلاة الوضوء، وإذا كانت الصلاة تؤدى خمس مرات في اليوم فقد أصبحت النظافة من الإيمان بحق. فالإسلام كاليهودية يدعو إلى العناية بصحة الجسم وتقويم الخلق، وهما في هذه الناحية يعملان بالمبدأ القائل إن الإنسان لا يعقل الشيء المعقول إلا إذا كان له سند من الدين. وكان النبي يحذر المسلمين من إهمال الوضوء ويقول لهم إن الله لا يقبل الصلاة بلا وضوء؛ ويحث على تنظيف الأسنان قبل الصلاة، وإن لم يجعلها من فرائض الوضوء؛ أما تلك الفرائض فهي: غسل الوجه واليدين والقدمين (سورة المائدة 6) وعلى الجُنُب أن يستحم، وعلى المرأة التي خرجت من المحيض، أو الوضع، أن تتطهر قبل الصلاة. ويصعد المؤذن في بلاد الإسلام المئذنة عند طلوع الفجر، وفي منتصف النهار ووقت العصر، وعند غروب الشمس، وفي المساء، ويدعو المسلمين إلى الصلاة بقوله "الله أكبر، الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.

ألا ما أقوى هذه الدعوة، وما أشرفها من دعوة للقيام من النوم قبل مطلع الشمس، وما احسن أن يقف الإنسان عن العمل وقت الظهيرة، وما أعظم وأجل أن يتوجه الإنسان بروحه إلى الله جل جلاله في سكون الليل، وما أحلى وقع صوت المؤذن على الآذان، آذان المسلمين وغير المسلمين، وهم يدعون النفوس الحبيسة في الأجسام الأرضية من فوق آلاف المساجد أن تتوجه إلى واهب الحياة والعقل، وتتصل به ذلك الاتصال الروحي الجليل. ففي هذه الأوقات الخمسة يجب على كل مسلم في جميع بقاع الأرض أن يقف كل عمل أياً كان، ويتطهر، ويولي وجهه نحو مكة والكعبة ويقيم الصلوات القصيرة، بنفس الصورة التي يؤديها بها غيره من المسلمين، كلما انتقلت الشمس من مرحلة إلى مرحلة في حركتها الظاهرة حول الأرض.

فمن أمكنه وقته، وشاءت إرادته، ذهب إلى المسجد يؤدي الصلاة، والمساجد تظل في العادة مفتوحة الأبواب طوال النهار، يؤمها كل مسلم صالح أو زنديق ليتوضأ أو يصلي أو يستريح. وهناك تحت سقفها الظليلة كان المدرسون يعلمون التلاميذ، والقضاة يفصلون في الخصومات، والخلفاء يعلنون سياستهم أو أوامرهم، وكان الناس يجتمعون فيها ليتحدثوا في كل ما يعينهم، ويستمعوا إلى الأخبار ويفاوضوا في الأعمال التجارية والمالية في بعض الأحيان. ذلك أن المسجد كان كالبيعة عند اليهود، والكنيسة عند المسيحيين، مركز الحياة اليومية، والبيت العام للمجتمع كله. وفي يوم الجمعة قبل أن ينتصف النهار بنصف ساعة أو نحوها يقوم المؤذن ويصلي على النبي ويدعو لأسرته وإلى الصحابة، ويدعو المسلمين إلى الصلاة . ويستحب في هذا اليوم أن يستحم المصلون، ويلبسوا أثواباً نظيفة، ويتعطروا، قبل المجيء إلى المسجد، فإن لم يكونوا قد اغتسلوا فإن عليهم أن يتوضأوا في المسجد .

وقد جرت العادة أن تبقى النساء في بيوتهن حين يذهب الرجال إلى المساجد، خشية أن يشغل وجودهن وإن كنّ محجبات بعض الرجال عن التوجه بأرواحهم كلها إلى الله. ويترك المصلون أحذيتهم عند باب المسجد، ويدخلونه حفاة أو بالأخفاف أو الجوارب، فإذا حان موعد الصلاة وقفوا جنباً إلى جنب صفاً واحداً أو عدة صفوف، وولوا وجوههم نحو المحراب الذي يعين موضع القبلة أو اتجاه مكة. ويقوم الإمام ويعظ الناس بخطبة قصيرة ثم تقام الصلاة ويتلو الإمام آيات من القرآن، وكذلك يفعل المصلون أو يكتفون بتلاوة الفاتحة، ويؤدون الصلاة بشعائرها المعروفة من ركوع وسجود وتحيات. وليس في صلاة المسلمين أناشيد، أو مواكب، أو قداس، أو مقاعد مستأجرة، ذلك أن الدين والدولة شيء واحد عند المسلمين، ولهذا فإن الشؤون الدينية ينفق عليها من الأموال العامة. وليس الإمام كاهناً كالقس عند المسيحيين بل هو رجل عادي يكسب قوته بعمل دنيوي يؤديه، ويعين في المسجد فترة من الزمان، ويتقاضى أجراً قليلاً ليؤم المصلين ؛ فالدين الإسلامي لا يعترف بالكهانة والقساوسة. والمسلمون بعد صلاة الجمعة أحرار يستطيع من أراد منهم أن يؤدي عمله المعتاد كما يؤديه في أي يوم آخر. وحسبهم أنهم قد توجهوا إلى ربهم ساعة من الزمان تطهرت فيها نفوسهم وسمت فوق المشاغل الاقتصادية والمنازعات الاجتماعية، وتآلفت قلوبهم من حيث لا يشعرون باشتراكهم في هذه الشعائر العامة.

والواجب الثاني المفروض على المسلم هو أداء الزكاة. لقد كان النبي ينظر إلى الأغنياء كما ينظر إليهم المسيح، ويقول بعضهم إنه بدأ حياته مصلحاً اجتماعياً اشمأزت نفسه مما رآه من الفروق الواسعة بين ترف طائفة التجار من الأشراف وفقر عامة الشعب، ويبدو أن معظم أتباعه في أول الأمر كانوا فقراء.

وكان من أول ما قام به من الأعمال في المدينة أن فرض ضريبة سنوية مقدارها اثنان ونصف في المائة على جميع الأملاك المنقولة، لمعونة الفقراء . وكان في الدولة الإسلامية موظفون مختصون يقومون بجمع الزكاة وتوزيعها على أصحابها. وكان جزء من حصيلتها ينفق في بناء المساجد، وفي أداء نفقات الحكومة وتجهيز الجيش. ولكن الحرب كانت تأتي بالغنائم التي تزيد كثيراً من نصيب الفقراء. وما أكثر ما يُروى من قصص المسلمين الأسخياء الذين جادوا بأموالهم على الفقراء، فالحسن بن عليّ مثلاً يُروى عنه أنه قسم ماله بينه وبين الفقراء ثلاث مرات في حياته وأنه في مرتين وهبهم كل ما يملك. والواجب الثالث على المسلمين وهو صوم رمضان. ونقول هنا إن الخمر، والميتة، والدم، ولحم الخنزير، والكلب، محرمة بوجه عام على المسلمين، ولكن الإسلام من هذه الناحية أقل صرامة من اليهودية، فهو يبيح أكل الطعام المحرم عند الضرورة، وسُئل محمد مرة عن جبن لذيذ يحتوي على لحم محرم، فقال للسائل: "اذكروا اسم الله عليه وكلوا" . وكان يكره الزهد الشديد ويحرم الرهبنة على المسلمين (سورة الأعراف 32) فقد أحل للمسلمين أن يستمتعوا بالحلال من طيبات الحياة على شريطة ألا يسرفوا فيها. ولكن الإسلام كغيره من الأديان يدعو المسلمين إلى الصوم ليقوي بذلك إرادتهم من جهة ولتصح به أجسامهم من جهة أخرى. وكان النبي بعد أن أقام في المدينة بضعة أشهر قد رأى اليهود يصومون صومهم السنوي فأمر أتباعه أن يحذوا حذوهم لعله بذلك يستميلهم إلى الإسلام، فلما تبين أنه لم يستملهم إليه استبدل به صوم رمضان فإذا أهل هذا الشهر وعدته تسعة وعشرون يوماً في بعض السنين وثلاثون في بعضها الآخر أمسك المسلمون في أثناء النهار عن الطعام والشراب، والتدخين وعن الصلات الجنسية. وأبيح الإفطار للمرضى، والمسافرين المتعبين، والصغار، والشيوخ الضعاف، والحاملات والمراضع، ولما فرض الصيام في أول الأمر كان شهر رمضان في فصل الشتاء حين يقصر النهار، ولكن رمضان يقع في فصل الصيف كل ثلاث وثلاثين سنة، فيطول ويشتد الظمأ في حر البلاد الشرقية حتى يكوم أشبه شيء بالعذاب. ولكن المسلم الصالح يتحمل الصيام. ويفطر المسلمون أثناء الليل فيأكلون، ويشربون، ويدخنون، ويباشرون النساء حتى مطلع الفجر، وتظل المخازن والحوانيت مفتحة الأبواب طوال الليل يؤمها الجماهير ليأكلوا ويستمتعوا، والفقراء يعملون كعادتهم في أيام الصوم، أما الأغنياء ففي وسعهم أن ييسروا الأمر على أنفسهم بالنوم في أثناء النهار.

ويقضي الأتقياء الصالحون الليالي العشر الأخيرة من رمضان في المساجد فهم يعتقدون أن القرآن قد نزل على النبي في إحدى هذه الليالي، ولهذا فإن هذه الليلة عندهم خير من ألف شهر، وإذ كانوا لا يعرفون أي الليالي هي ليلة القدر فإن كثيراً من المسلمين يحبونها كلها. فإذا انقضى شهر رمضان احتفل المسلمون بعيد الفطر، فيستحمون، ويلبسون ثياباً جديدة، ويهنئ به بعضهم بعضاً، ويخرجون الزكاة، والهدايا ويزورون قبور الموتى. والواجب الرابع المفروض على المسلمين هو الحج. ولقد كان الحج إلى الأماكن المقدسة من السنن المألوفة في بلاد الشرق، فكان اليهود يأملون أن يروا صهيون في يوم من الأيام كما كان الصالحون من العرب عبدة الأوثان قبل النبي بزمن طويل يحجون إلى الكعبة، وأقر الإسلام هذه السنَّة القديمة، وكان هذا الإقرار من الأسباب التي ساعدت على انتشار الإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية. وبذلك أصبحت الكعبة، بعد أن طهرت من الأصنام، بيت الله. وفرض على كل مسلم (عدا المرضى والفقراء) أن يحجوا إليها، كلما استطاعوا ، ولكن سرعان ما فسر هذا بأنه يعني مرة في العمر، ولما أن انتشر الإسلام في أطراف العالم اقتصر أداء هذه الفريضة على قلة منهم، وفي مكة نفسها بعض المسلمين الذين لم يزوروا الكعبة قط.

وقد وصف دوتي Donghty، وصفاً لا يضارعه في روعته وصف سواه، منظر قافلة الحجاج وهي تجتاز الصحراء في حر الشمس اللافح، ولهيب الرمال المحرقة، وتتألف من سبعة آلاف من المؤمنين أو أقل أو أكثر من هذا العدد، راجلين أو ممتطين صهوة الجياد، أو ظهور الحمير، أو البغال، أو الهوادج الفخمة، ولكن كثرتهم الغالبة تهتز على ظهور الإبل، وتنحني بأجسامها في كل خطوة من خطواتها الطويلة... وتسجد خمسين مرة في كل دقيقة أرادت ذلك أو لم ترده في اتجاه مكة، مجتازة ثلاثين ميلاً في اليوم، وخمسين ميلاً في بعض الأحيان، حتى تصل إلى واحة تحط فيها رحالها لتستريح. وفي هذا السير الشاق يمرضن كثير من الحجاج ويتخلفون، ومنهم من يموتون فيتركون تنهشهم السباع المترصدة في الطريق، أو يحتضرون فيتركون ليموتوا على مهل، ويزور الحجاج في المدينة قبر النبي، ويشهدون قبر أبي بكر وقبر عمر في مسجد الرسول، ويعتقد بعضهم أن في جوار هذه القبور مكان احتفظ به لعيسى بن مريم.

فإذا أشرفت القافلة على مكة نصبت خيامها خارج أسوارها لأن البلدة نفسها حرم مقدس. ثم يستحم الحجاج ويحرمون فيلبسون أثواباُ بيضاء غير مخيطة، ويركبون أو يسيرون على أقدامهم مسافة طويلة، يبحثون عن مساكن لهم في أحياء المدينة . ويفرض عليهم طوال إقامتهم في مكة أن يمتنعوا عن جميع المنازعات، وعن العلاقات الجنسية، وعن كل ما هو حرام ، وتصبح البلدة المقدسة في أشهر الحج ملتقى المسلمين من كافة الأمم، والأجناس والطبقات، يشتركون كلهم على قدر المساواة في مناسك الحج وفي الصلاة، فإذا دخلوا المسجد الحرام الفسيح الجنبات شغلتهم نشوتهم الروحية عن ملاحظة المآذن الرفيعة التي فوق الجدران، وعما فيه من عقود وعمد. وعند بئر زمزم التي يقال عنها إنها أطفأت ظمأ إسماعيل يقفون خاشعين، ويشرب الحجاج من مائها مهما تكن حرارته ومهما يكن تأثيره، ومنهم من يحمل هذا الماء معه إلى وطنه ليشرب منه في بعض أيامه وحين تحضره الوفاة . ويصل الحجاج آخر الأمر، وكلهم عيون شاخصة يلهثون من التعب، إلى قلب المسجد، إلى الكعبة نفسها، وهي بناء صغير الحجم مضاء من داخله بمصابيح من الفضة معلقة في سقفه، ومكسوة جدرانها الخارجية بكسوة من الحرير الثمين، وفي أحد أركانه الحجر الأسود الشهير. ويطوف الحاج سبع مرات حول الكعبة، ويقبل الحجر الأسود أو يلمسه أو ينحني تعظيماً له. ومن الحجاج من يقضون الليلة كلها في داخل المسجد غير عابثين بما عانوا من شدة التعب والسهر، يجلسون على أبسطة يتحدثون، ويصلون ويفكرون في دهشة ونشوة في الغرض الذي جاءوا من أجله.

وفي اليوم الثاني يسعى الحجاج سبع مرات بين الصفا والمروة، وهما في خارج المدينة، إحياء لذكرى هاجر وهي تبحث عن الماء لتروي به ولدها. وفي اليوم السابع يخرج من يبغون "الحج الأكبر" إلى جبل عرفات الذي يبعد عن مكة مسيرة سبع ساعات- وهم يستمعون إلى خطبة تدوم ثلاث ساعات ، ثم يقفون وهم عائدون في منتصف الطريق ويقضون ليلة في المزدلفة، وفي اليوم الثامن يهرعون إلى منى ويرمون بالجمرات ثلاث علامات أو ثلاث أعمدة، اعتقاداً منهم أن إبراهيم قد رجم الشيطان بهذه الطريقة حينما حاول أن يثنيه عن ذبح ولده... وفي اليوم الثامن يضحون بحمل أو جمل أو غيرهما من الماشية ذات القرون، ويأكلون بعض لحومها ويوزعون الصدقات ، وهذا الحفل هو أهم شعائر الحج ويحيون به ما فعله النبي نفسه في مثل ذلك الوقت من حياته، والمسلمون في جميع أنحاء العالم يحتفلون بعيد الأضحى فينحرون الذبائح في مثل هذا اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ويوزعون اللحوم والصدقات تقرباً لله. وبعد هذا يحلق الحجاج شعورهم ويقصون أظافرهم ويدفنون هذه البقايا في الرمال، وبذلك ينتهي الحج الأكبر، ولكن الحجاج في العادة يزورون الكعبة مرة أخرى قبل أن يعودوا إلى مخيم القافلة. وهناك يعودون إلى حالتهم الأولى ويلبسون ثيابهم العادية ويبدءون رحلتهم الطويلة إلى أوطانهم مطمئني البال فخورين بما وفقوا إليه من عمل صالح.

ولهذه الفريضة العظيمة أغراض وفوائد كثيرة. فهي تقوي إيمان المسلمين واستمساكهم بدينهم، وتمكن الصلة بهذا العمل العاطفي الجماعي بين المسلم ودينه وبينه وبين إخوانه المؤمنين، شأنها في هذا شأن حج اليهود إلى أورشليم، وحج المسيحيين إلى هذه المدينة وإلى روما. فالحج وما ينطوي عليه من مناسك التقى والورع يجمع بين بدو الصحراء والفقراء وتجار المدن الأثرياء، وبين البربر وزنوج إفريقية، والشوام، والفرس، والأتراك، والتتار، والهنود المسلمين، والصينيين والمصريين، وغيرهم من الشعوب الإسلامية-يرتدون كلهم ثياباً بسيطة واحدة، ويتلون كلهم أدعية واحدة بلغة واحد وهي اللغة العربية ، ولعل هذا هو السبب في ضعف حدة الفوارق العنصرية في الإسلام. وقد يبدو لغير المسلمين أن الطواف حول الكعبة من الأعمال التي لا تنطبق على العقل. ولكن المسلم يبتسم حين يرى أمثال هذه العادة في الأديان الأخرى، ويهوله أن يرى المسيحيين في إحدى شعائرهم "يأكلون الله". فالمسلمون لا يفهمون في هذا الطواف إلا أنه رمز خارجي لصلة روحية وغذاء روحي. وفي الأديان كلها ما يبدو لغير أصحابها أنه مما يعز على الأفهام.

والأديان جميعها مهما يكن من نيل أصولها، لا تلبث أن تحشر فيها طائفة من الخرافات لا صلة بينها وبين مبادئها الأولى، وإنما تنشأ بطبيعتها من العقول التي خيم عليها وأنهكها تعب الجسم ورهبة الروح في كفاحها للخلود. لهذا نرى أن معظم المسلمين يؤمنون بالسحر ، وقلما يشكون في قدرة السحرة على التنبؤ بالغيب والكشف على الكنوز المخبوءة، وغرس الحب في النفوس وتعذيب الأعداء، وشفاء المرضى، واتقاء الحسد. ومنهم من يعتقد في قدرة البعض على مسخ الإنسان إلى حيوان أو نبات، أو الانتقال من مكان إلى مكان بوسائل معجزة خارقة. وتلك العقائد هي المحور الذي تدور عليه قصص ألف ليلة. ففيها ترى الأرواح في كل مكان تحتال بضروب السحر وغيره على الأحياء، وتستولد النساء غير الحريصات ما لا يشتهين من الأبناء ويلبس معظم المسلمين(3) كما يلبس نصف المسيحيين تمائم لترد عنهم ضروباً مختلفة من الشرور، ويعتقدون أن من الأيام ما هو سعد ومنها ما هو نحس، وأن الأحلام قد تنبئ عن المستقبل، وأن الله قد يتحدث إلى الإنسان في الأحلام. ويؤمن العامة في مختلف بلاد الإسلام كما يؤمن أمثالهم في مختلف البلاد المسيحية بالتنجيم؛ فقد رسمت خرائط السماء، ولم يكن الغرض من رسمها مقصوراً على معرفة اتجاه القبلة في المساجد وتحديد أيام الأعياد الدينية، بل كان يقصد منه فوق هذا وذاك اختيار الوقت المناسب لكل عمل خطير، ومعرفة طالع كل فرد، أي خلقه ومصيره كما تدل عليه النجوم التي كانت في السماء وقت مولده.

والدين الإسلامي ، وإن بدا للعالم الخارجي وحدة قوية شاملة خالية من الفروق في شعائره وعقائده، قد انقسم من أقدم العهود شيعاً لا تقل في عددها أو شدة اختلافها عن الشيع المسيحية. ومن هذه الشيع الخوارج ذوو النزعة الحربية المتزمتة الديمقراطية، ومنها المرجئة التي تعتقد أن المسلم لا يقضي عليه بالعذاب الدائم في الدار الآخرة، والجبرية التي تنكر حرية الإرادة، وتعتقد أن الإنسان مسير في كل شيء وفق ما قدر له منذ الأزل، والقدرية التي تؤمن بحرية الإرادة وتدافع عنها، ومنها غير هذه شيع كثيرة لا حاجة بنا إلى الوقوف عندها. وحسبنا أن نُحيّي فيها إخلاصها لمبادئها وسعة علمها. لكن منها فرقة كان لها شأن عظيم في التاريخ، تلك هي طائفة الشيعة. فهؤلاء قضوا على الخلافة الأموية. واستولوا على بلاد الفرس ومصر، والهند الإسلامية، وكان لهم أعظم الأثر في الأدب والفلسفة. ونشأت طائفة الشيعة على أثر مقتل عليّ وولده الحسين وأسرته، فقد قالت فئة قليلة من المسلمين إن الله وقت أن اختار محمداً نبياً له ورسولاً، قد أراد من غير شك أن يكون أبناؤه الذين ورثوا بعض فضائله وأغراضه الروحية هم الوارثين لزعامة الإسلام. ولهذا فهم يرون أن جميع الخلفاء ماعدا علياً، مغتصبون لا حق لهم في الخلافة. وقد اغتبطوا حين ولي عليّ الخلافة، وحزنوا لمقتله، وروعوا لمقتل الحسين. وأصبح عليّ والحسين بعد موتهما في رأيهم من أولياء الله الصالحين، وهم يعظمون ضريحيهما تعظيماً لا يفوقه إلا تعظيمهم للكعبة وقبر الرسول. ولعل طائفة الشيعة قد تأثرت بعقيدة الفرس واليهود والمسيحيين الخاصة بالمسيح المنتظر، وبفكرة البوذيين عن البدهستفاس-أي تجسد القديسين مراراً بعد موتهم-فقالت إن أبناء عليّ هم الأئمة الذين تتمثل فيهم الحكمة الإلهية. وهي ترى أن الإمام الرضا، ثامن أولئك الأئمة الذي يقوم ضريحه في مشهد بشمالي فارس "مجد العالم الشيعي". وقد حدث في عام 873 أن اختفى الإمام الثاني عشر محمد بن حسن وهو في الثامنة عشرة، فاعتقد الشيعة أنه لم يمت، ولكنه سيعود في الوقت المناسب ليعيدهم إلى السلطان الشامل والسعادة الدائمة.

وكانت الفرق الإسلامية المختلفة تشعر بعضها نحو بعض بعداء يفوق عداءها لمن يعيش في البلاد الإسلامية من الكفرة، شأنها في هذا شأن الفرق المختلفة في سائر الأديان . ولقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون واليهود، والصابئون، يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام. فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء فرضة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير (من 4.75 إلى 19 دولاراً أمريكياً). ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون سن البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية أو إن شئت فقل لا يقبلون فيها-ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنين ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم، وكان تسامح الحكام المسلمين معهم يختلف باختلاف الأسر الحاكمة، فكان الخلفاء الراشدون أشداء عليهم ، وكان الأمويون يعاملونهم باللين بوجه عام، والعباسيون يعاملونهم باللين تارة وبالقسوة تارة أخرى. وقد أخرج عمر بن الخطاب اليهود والمسيحيين من جزيرة العرب لأنها أرض الإسلام المقدسة، وتعزو إليه إحدى الروايات غير المؤكدة "عهداً" قيد فيه حقوقهم بوجه عام، لكن هذا العهد، إن كان قد عُقد، قد أغفل العمل به، وظلت الكنائس المسيحية في مصر تتمتع في أيام هذا الخليفة بالميزات التي منحتها إياها الحكومة البيزنطية قبل الفتح العربي.

وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين، إلا أنهم في عهدهم قد فُرضت عليهم عدة قيود ولاقوا شيئاً من الاضطهاد من حين إلى حين، غير أنهم مع هذا كانوا يُعاملون على قدم المساواة مع المسيحيين، وأصبحوا مرة أخرى يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وفي ممارسة شعائر دينهم في بيت المقدس، وأثروا كثيراً في ظل الإسلام وفي آسية، ومصر، وأسبانيا، كما لم يثروا من قبل تحت حكم المسيحيين. وكان المسيحيون في بلاد آسية الغربية، خارج حدود الجزيرة العربية، يمارسون شعائر دينهم بكامل حريتهم، وبقيت الكثرة الغالبة من أهل بلاد الشام مسيحية حتى القرن الثالث الإسلامي. ويحدثنا المؤرخون أنه كان في بلاد الإسلام في عصر المأمون أحد عشر ألف كنيسة، كما كان فيها عدد كبير من هياكل اليهود ومعابد النار. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين، وقد وجد الصليبيون جماعات مسيحية كبيرة في الشرق الأدنى في القرن الثاني عشر الميلادي ولا تزال فيه جماعات منهم إلى يومنا هذا. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية والذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطارقة القسطنطينية، وأورشليم، والإسكندرية، وإنطاكية، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين الذين لك يكونوا يجدون لنقاشهم ومنازعاتهم معنى يفهمونه، ولقد ذهب المسلمون في حماية المسيحيين إلى أبعد من هذا، إذ عين والي إنطاكية في القرن التاسع الميلادي حرساً خاصاً ليمنع الطوائف المسيحية المختلفة من أن يقتل بعضها بعضاً في الكنائس. وانتشرت أديرة الرهبان وأعمالهم في الزراعة، وفي إصلاح الراضي البور، وكانوا يتذوقون النبيذ المعصور من عنب الأديرة، ويستمتعون في أسفارهم بضيافتها، وبلغت العلاقة بين الدينين في وقت من الأوقات درجة من المودة تبيح للمسيحيين الذين يضعون الصلبان على صدورهم أن يؤموا المساجد ويتحدثوا فيها مع أصدقائهم المسلمين. وكانت طوائف الموظفين الرسميين في البلاد الإسلامية تضم مئات من المسيحيين، وقد بلغ عدد الذين رقوا منهم إلى المناصب العليا في الدولة من الكثرة درجة أثارت شكوى المسلمين في بعض العهود. فقد كان سرجيوس والد القديس يوحنا الدمشقي خازن بيت المال في عهد عبد الملك بن مروان، وكان يوحنا نفسه وهو آخر آباء الكنيسة اليونانية، رئيس المجلس الذي كان يتولى حكم دمشق. وكان المسيحيون في بلاد الشرق يرون أن حكم المسلمين أخف وطأة من حكم بيزنطية وكنيستها.

وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة، اعتنق الدين الجديد معظم المسيحيين، وجميع الزرادشتيين، والوثنيين إلا عدداً قليلاً جداً منهم، وكثيرون من اليهود في آسية، ومصر وشمالي أفريقية. فقد كان من مصلحتهم المالية أن يكونوا على دين الطبقة الحاكمة، وكان في وسع أسرى الحروب أن ينجوا من الرق إذا نطقوا بالشهادتين ورضوا بالختان. واتخذ غير المسلمين على مر الزمن اللغة العربية لساناً لهم، ولبسوا الثياب العربية، ثم انتهى الأمر بإتباعهم شريعة القرآن واعتناق الإسلام. وحيث عجزت الهلينية عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد والعبادات الإسلامية، وآمن السكان بالدين الجديد وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله إخلاصاً واستمساكاً أنسياهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدة من الصين، وأندونيسيا، والهند، إلى فارس، والشام، وجزيرة العرب، ومصر وإلى مراكش، والأندلس؛ وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث فيهم آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها، وأوحى إليهم العزة والأنفة، حتى بلغ عدد من يعتنقونه ويعتزون به في هذه الأيام نحو ثلاثمائة وخمسين مليوناً من الأنفس، يوحد هذا الدين بينهم، ويؤلف قلوبهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالِث: الشعب

كان العرب في عهد الأمويين طبقة عليا حاكمة تحصل على مقررات من الدولة. وكان جميع الذكور القادرين من أبناء العرب، يخضعون، في نظير هذه المزايا للخدمة العسكرية، يُدعون إليها في أي وقت من الأوقات. وكانوا بوصفهم الفاتحين يفخرون بدمهم النقي في زعمهم وبلغتهم العربية الفصحى. وكان العربي يحرص أشد الحرص على أن يضيف إلى اسمه اسم أبيه كعبد الله ابن الزبير مثلاً، وكان في بعض الأحيان يضيف إليه اسم قبيلته وموطنه الأصلي، فكان اسمه سيرة له مصغرة فيقول مثلاً: أبو بكر أحمد ابن جرير الأزدي. غير أن نقاء الدم لم يلبث أن أصبح أسطورة خرافية بعد أن اتخذ الفاتحون لهم جواري من أهل البلاد المفتوحة؛ وأدخلوا أبناءهم منهن في زمرة العرب؛ لكن الفخر بالدم والأصل ظل كما كان من قبل. وكان أفراد الطبقات العليا من العرب ينتقلون من مكان إلى مكان على ظهور الخيل، في أثواب من الحرير الأبيض، وسيوفهم مشرعة بأيديهم. أما العامة فكانوا يخرجون في سراويل منتفخة، وعمامات مطوية، وأحذية ذات أطراف رفيعة. واحتفظ البدوي بجلبابه الفضفاض، وشاله ومنطقته، وقد نهى النبي عن لبس السراويل الطويلة، ولكن بعض العرب نسوا أمره هذا، وكانت جميع طبقات الشعب تزدان بالحلي، وكانت الإناث يستهوين الذكور بصديرياتهن، ومناطقهن البرّاقة، ونُقبهن الواسعة الزاهية اللون. وكن يعقصن شعرهن على جباههن، أو يرسلنه على جانبي رؤوسهن، أو يجدلنه غدائر تنوس على ظهورهن؛ وكن أحياناً يكثرنه بخيوط سوداء من الحرير، وفي أغلب الأوقات يزينه بالجواهر والأزهار. وأخذن بعد عام 715 يغطين بالنقاب وجوههن أسفل عيونهن، وازداد انتشار هذه العادة تدريجاً بعد ذلك العام، وبهذا كان في وسع كل امرأة أن تكون فاتنة جذابة، لأن عيني المرأة العربية مهما يكن سنها جميلتان تسبيان العقول. والفتاة العربية تبلغ الحلم في سن الثانية عشرة وتصبح عجوزاً في سن الربعين، وهي بين هذه السن وتلك تلهم معظم الشعراء وتلد الأبناء.

والمسلم لا يحترم العزوبة، ولا يخطر بباله أن يمتنع عن إشباع الغريزة الجنسية، ولا يرى أن هذا الامتناع حال طبيعية أو مثالية. وقد كان لمعظم الصالحين من المسلمين زوجات وأبناء. وحدود الزواج أوسع في الإسلام منها في كثير من الأديان، وتفتح الشريعة الإسلامية منافذ كثيرة لإشباع الغريزة الجنسية؛ ولهذا قل البغاء في أيام النبي والخلفاء الراشدين. ولكن الانهماك في إشباع الغريزة الجنسية يتطلب عادة كثرة التنبيه، ولهذا لم تلبث الفتيات الراقصات أن أصبح لهن شأن كبير في حياة الرجال حتى أكثرهم أزواجاً. وإذا كان المقصود من الآداب الإسلامية أن تكون مقصورة على آذان الذكور وأعينهم، فإن منها ما لا يقل فحشاً عن حديث الذكور في البلاد المسيحية؛ فهذا الأدب يشتمل على طائفة كبيرة من الغزل، وقد عنيت كتب الطب عند المسلمين ببيان الأدوية المقوية للباء(42). والشريعة الإسلامية تجعل الإعدام من عقوبات الزنى واللواط، ولكن ازدياد الثروة خفف عقوبة الزنى فجعلها ثلاثين جلدة، وغض الحكام البصر في كثير من الحيان عن اللواط(43). ونشأت طائفة من المخنثين المحترفين تشبهوا بالنساء في ثيابهم وعاداتهم، يضفرون شعورهم، ويصبغون أظافرهم بالحناء ويرقصون الرقص الخليع(44). وعاقبهم سليمان بن عبد الملك بإخصاء من كان في مكة من المخنثين، وأبصر الهادي امرأتين تباشران عملية السحاق فأمر بقطع رأسيهما على الفور(45). ولكن اللواط والسحاق رغم ما فُرض عليهما من العقاب الصارم أخذا ينتشران انتشاراً سريعاً حتى كانا كثيري الحدوث في بلاط هارون الرشيد، وفي قصائد شاعره المحبوب أبي نواس ولما يمضِ على زمن الهادي إلا بضعة أعوام. ذلك أن الرجل الذي حالت التقاليد بينه وبين النساء قبل الزواج، وملهن بعده، عمد إلى العلاقات الجنسية الشاذة، والمرأة التي حجبها أهلها عن جميع الرجال زلت هي الأخرى فسقطت فيما سقط فيه الرجل.

وكان اتصال العرب بالفرس من أسباب انتشار الحجاب واللواط في البلاد الإسلامية. لقد كان العرب قبل الإسلام يخشون مفاتن المرأة ويعجبون بها على الدوام، وقد ثأروا لأنفسهم من خضوعهم الغريزي لها بإثارة الشكوك التي يثيرها الذكور عادة حول فضية المرأة وقوة عقلها. وقد نصح عمر قومه باستشارة النساء ومخالفة مشورتهن(46)، ولكن المسلمين في القرن الأول من التاريخ الهجري لم يحجبوا النساء، فقد كان الرجال والنساء يتبادلان الزيارات ويسيران في الشوارع جنباً إلى جنب، ويصليان معاً في المساجد(47). وكانت عائشة بنت طلحة زوج مصعب بن الزبير لا تستر وجهها من أحد فعابها مصعب في ذلك فقالت "إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما فيَّ من وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد"(48). ثم انتشر الحجاب ونظام الخصيان في أيام الوليد الثاني (743-744). وكان منشأ عادة عزلة النساء في بادئ الأمر تحريمهن على الرجال أيام الحيض والنفاس. وكان الزوج المسلم يدرك ما يتصف به الرجل في الشرق من شدة العاطفة وسرعة الانفعال، ويحس بالحاجة إلى حماية نسائه، ويرى أن يمنعهن من الغواية بحجزهن في البيوت، فحرم عليهن أن يسرن في الشوارع إلا مسافات قصيرة وهن محجبات، وكان في وسعهن أن تتزاورن، ولكن ذلك كان في العادة داخل هودج مسجف، ولم يكن أحد يراهُنَّ خارج البيوت أثناء الليل. وكان يفصلهن عن الرجال في المسجد ستر أو حظار أو رواق خاص، ثم انتهى الأمر بمنعهن منها منعاً باتاً(49)، وأصبح الدين الذي وصف في العالم المسيحي اللاتيني بأنه لابد منه للإناث، وأنه ضروري لهن لا يزيد عليه في ذلك إلا الغريزة الجنسية، نقول أصبح الدين في العالم الإسلامي، أو بالأحرى أصبحت العبادة العامة وقفاً على الذكور دون الإناث. وكان أشد من هذا قسوة عليهن، منعهن من التردد على الأسواق لقضاء حاجاتهن منها، فكن يبعثن إليها من يقضي حاجاتهن، وكان البائعات المتنقلات، وكن في العادة من النساء يأتين إليهن ليعرضن عليهن بضائعهن في داخل البيوت، وقلما كانت النساء يتناولن الطعام مع أزواجهن اللهم إلا عند الطبقات الدنيا، ومنع المسلم أن يرى وجوه النساء عدا وجوه أزواجه وإمائه، وأقاربه الدنين؛ وحتى الطبيب نفسه لم يكن يسمح له أن يرى من النساء غير الجزء المصاب من أجسامهن. وكان في هذا النظام مرضاة للرجل، فهو في البيت يتيح له أكبر فرص الاستمتاع، ويجعله في خارجه أبعد ما يكون عن الرقابة والمفاجأة. أما عن النساء أنفسهن، فإنا لا نجد حتى القرن التاسع عشر ما يدل على أنهن قد عارضن في العزلة أو في النقاب، بل كن يستمتعن بما في جناح الحريم من سِرَّية، وطمأنينة، وراحة، وكن يغضبن إذا فرط أزواجهن في واجب المحافظة على عزلتهن، ويرين في ذلك إهانة لهن(50)؛ وظلت الزوجات الشرعيات يضطلعن من سجنهن الظاهري بقسط موفور من مجريات الحوادث التاريخية، وكان للخيزران أم الرشيد، ولزوجته زبيدة في القرنين الثامن والتاسع قسط كبير من النفوذ والسلطان، وكانتا تستمتعان بكثير من الأبهة والسلطان.

وقلما كان تعليم البنات يتعدى عند معظم الطبقات تلقيهن الصلاة، وقليلاً من سور القرآن، والفنون المنزلية. أما نساء الطبقات العليا فكن يتلقين تعليماً متسع الآفاق، يقوم به في العدة معلمون خصوصيون، ويتلقينه أحياناً في المدارس والكليات(51). وكن يتعلمن قرض الشعر، والموسيقى، وضروباً من أشغال الإبرة؛ ومنهن من تبحرن في العلوم واشتغلن بالتدريس. واشتهر عدد منهن في أعمال البر المستنيرة. وكن يربين على الخفر اللائق بعاداتهن؛ فإذا فوجئن في الحمام أسرعن بتغطية وجوههن وكن يدهشن عدم احتشام الأوربيات اللاتي يذهبن إلى المراقص وأنصاف صدورهن عارية، ويعانقن الكثيرين من الرجال أثناء الرقص؛ ويعجبن من رحمة الله الذي يمهل تلك النسوة الآثمات فلا يأخذهن بذنوبهن ويهلكهن لساعتهن(52).

وكانت شؤون الزواج يتولاها الآباء، كما يتولونها في معظم البلاد المتمدنة، فقد كان من حق الوالد أن يزوج ابنته لمن أراده هو لها أن تبلغ سن الرشد؛ أما بعد هذه السنن فكان لها أن تختار. وكانت البنات يزوجن في العادة قبيل سن الثانية عشرة، ويصبحن أمهات في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، ومنهن من كن يتزوجن في سن التاسعة أو العاشرة، كذلك كان الشبان يتزوجون عادة في سن مبكرة قد لا تزيد على الخامسة عشرة. وكان عقد الزواج ينص على أن يقدم الخطيب لخطيبته صداقاً يبقى لها طوال مدة الزواج وبعد الطلاق إن حدث. وقلما كان يسمح للعريس أن يرى وجه عروسه قبل الزواج. وكان يدخل بها بعد ثمانية أيام أو عشرة من عقده عليها، وليس الزواج في الحاجة إلى رجل من رجال الدين، ولكنه يصحبه دعاء قصير، ويصحبه في بعض الحيان موسيقى، ووليمة وبعض الهدايا، وإضاءة منزل العريس والشارع الذي هو فيه بالأنوار الساطعة. وبعد هذه الحفلات يدخل الزوج غرفة زوجته الخاصة ويرفع النقاب عن وجهها وهو يقول "بسم الله الرحمن الرحيم"(53).

فإذا لم يرتح العريس لعروسه بعد هذا الاختبار المتأخر، كان في وسعه أ، يعيد الزوجة إلى بيتها هي ومؤخر صداقها. وكان معنى تعدد الزوجات في الإسلام في أكثر الأحيان أن تتلو الواحد الأخرى، ولم يكن معناه الجمع بينهن في وقت واحد، ولم يكن يستطيع ذلك الجمع إلا ذوو الثراء(54). وكانت سهولة الطلاق تمكن المسلم من أن يكون له ما يشاء من الأزواج واحدة بعد واحدة، ويقال أن ابن الطيب، وهو صباغ في بغداد، عاش إلى ان بلغ الخامسة والثمانين من العمر، وتزوج من تسعمائة زوجة(56). وكان في وسع المسلم، فضلاً عن زوجاته، أن يكون له أي عدد من الجواري، وكان لهارون الرشيد عدد كبير منهن، وكان للمتوكل أكثر مما كان لهارون(57)، وكان بعض تجار الرقيق يعلمون الجواري الموسيقى والغناء، وفنون فتنة الرجال، ثم يبيعونهن بأثمان عالية قد تصل إلى مائة ألف درهم (نحو 80.000 دولار أمريكي)(58). ولكن ليس من حقنا أن نظن أن بيت الحريم كان ماخوراً خاصاً. فقد كانت الجواري يصبحن في أغلب الأحيان أمهات، يفخرن بمن يلدن من الأبناء، وبعدد الذكور منهم، ولدينا شواهد كثيرة على ما كان بين الرجل وجاريته من الحب الصادق الأكيد. وكانت الزوجات الشرعيات يرتضين هذا النظام ويرينه من الأمور الطبيعية، فقد أهدت زبيدة إلى الرشيد عشر جوارِ(59)؛ وكان البيت بمقتضى هذا النظام يحتوي من الأبناء بقدر ما تحتويه ضاحية لإحدى المدن الأمريكية. من ذلك أن أحد أبناء الولي الأول كان له ثمانون ولداً وعدد من البنات لم يذكره المؤرخون. واستتبع نظام الحريم وجود الخصيان، وإن كان هذا محرماً في الشريعة الإسلامية. واشترك المسيحيون واليهود في استيرادهم أو تهيئتهم، وكان الخلفاء، والوزراء، والكبراء يبتاعونهم بأثمان غالية، وسرعان ما أصبحت نواحٍ عدة من الحكومة الإسلامية خاضعة لنفوذ أولئك الخصيان المحدودي الكفاية. وكان من النتائج التي ترتبت على نظام الحريم في القرون الأولى التي تلت الفتوح الإسلامية أن منعت العرب من أن يمتصهم أهل البلاد المفتوحة، وأن تضاعف عددهم إلى الحد الذي كانوا في حاجة إليه لحكم دولتهم المطردة الاتساع. ولربما كان لهذا النظام أثره في قوة أقدر الرجال على الإخصاب؛ ولكن تعدد الزوجات أصبح بعد عصر المأمون مصدراً للانحطاط من الناحيتين الخلقية والاجتماعية، كما أصبح بعد أن أربت نسبة زيادة السكان على زيادة الطعام، من أسباب تزايد الفاقة والسخط بين الأهلين.

وكان مركز المرأة بعد الزواج هو الخضوع إلى زوجها خضوعاً مصدره تقديس الرابطة الزوجية. والشريعة تحرم عليها أن يكون لها اكثر من زوج واحد في وقت واحد، ولم يكن في وسعها أن تطلق نفسها منه إلا بمشقة كبيرة، ثم أنها لم يكن لديها سبيل لمعرفة خيانة زوجها، ولم تكن هذه الخيانات مما يُعبأ به كثيراً من الناحية الأخلاقية. أما خيانتها هي فكان عقابها الموت. ويدهشنا أن نعرف كم من حوادث الزنى قد ارتكبته النساء رغم هذا العقاب الصارم والتضييق الشديد. وكانت المرأة تسب وتبجل، وتحقر وتقمع وتحب في معظم الأحيان حباً مصحوباً بعاطفة قوية وحنان، يقول أبو العتاهية إنه يفضل زوجته عن كل متع الحياة وعن كل ما في العالم من ثراء(60). وأمثال هذا القول كثيرة وهي في بعض الأحيان صادقة. وكان مركز المرأة المسلمة يمتاز عن مركز المرأة في بعض البلاد الأوربية من ناحية هامة، تلك هي أنها كانت حرة التصرف فيما تملك لا حق لزوجها أو لدائنيه في شيء من أملاكها. وكانت في داخل بيتها الأمين تغزل وتنسج، وتطرز، وتدير بيتها، وتعنى بأبنائها، وتمارس بعض الألعاب، وتأكل الحلوى وتتحدث إلى أترابها، وتحيك الدسائس. وكان يُنتظر منها أن تلد لزوجها كثيراً من الأبناء ذوي الفائدة الاقتصادية في المجتمع الاقتصادي الأبوي، وكان ما تلقاه من إجلال يتناسب مع خصبها، وفي ذلك يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لحصير في ناحية البيت خيرٌ من امرأة لا تلد"(61). ومع هذا فإن الإجهاض ووسائل منع الحمل كانت كثيرة الانتشار في داخل البيوت. وكانت القابلات تنقل إلى النساء قديمها، كما كان الأطباء يعرضون عليهن حديثها. وقد أفرد الرازي (المتوفى سنة 924) في أحد كتبه فصلاً لموانع الحمل، وذكر أربعة وعشرين من الموانع الآلية والكيميائية(62). وأورد أبن سينا (980-1037) في كتاب القانون الذائع الصيت عشرين وصفة لمنع الحمل.

وليس ثمة فرق كبير بين المسلم والمسيحي في النواحي الخلقية الخارجة عن نطاق الناحية الجنسية. فالقرآن مثلاً يحرم الميسر والخمر تحريماً قاطعاً (سورة المائدة 90). ولكن بعض الميسر وكثيراً من الخمر ظلا باقيين في كلتا الحضارتين. وانتشر الفساد والرشوة في أعمال الحكم والقضاء في بلاد الإسلام في بعض العصور كما كانا منتشرين في بلاد المسيحية. ويبدو بوجه عام أن المسلم كان أرقى من المسيحي في خلقه التجاري(63)، وفي وفائه بوعده، وإخلاصه للمعاهدات التي يعقدها مع غيره(64)؛ ولقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية. والمسلمون شرفاء فيما يختص بعادة الكذب، فهم يبيحون الكذب إذا كان فيه نجاة من الموت، أو حسم لخصومة، أو إدخال السرور على زوجة، أو خدعة في الحرب لأعداء الدين(65). والآداب الإسلامية تجمع بين التكلف والبشاشة، وحديث المسلم ملئ بالتحية والمبالغة في التأدب. والمسلمون كاليهود يحيي بعضهم بعضاً، وينحني الواحد منهم لصاحبه ويصافحه ويقول له: "السلام عليكم، والرد الصحيح لهذه التحية "عليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، وإكرام الضيف من صفاتهم العامة، والدين الإسلامي يحث على نظافة الجسم وإن كانت النظافة عادة تتأثر بالدخل، فالفقراء يهملونها حتى تتراكم الأقذار على أجسادهم، اما الأغنياء فيتليفون، ويدرمون أظافرهم، ويتعطرون. والختان عادة متبعة عند جميع المسلمين وإن لم يرد ذكرها في القرآن، لأنها في رأيهم من أسباب المحافظة على الصحة، وكان الأولاد يختنون في سن الخامسة أو السادسة (66). وكانت الحمامات الخاصة من مميزات بيوت الأغنياء، ولكن الحمامات العامة كانت ولا تزال كثيرة في البلاد الإسلامية. فالمؤرخون يقولون إن بغداد كانت في القرن العاشر الميلادي تحتوي على 27.000 حمام(67). وكان العطر والبخور مألوفين بين الرجال والنساء، وقد اشتهرت بلاد العرب من أقدم الأزمان بالكندر والمر، وبلاد الفرس بزيت الورد والبنفسج والياسمين، وكان في كثير من البيوت حدائق غرست فيها أعشاب الزينة والأزهار وأشجار الفاكهة، وكانت الأزهار محببة للشعب وخاصة في فارس، وكانت يضفي على الحياة بهجة ومتعة.

بقي أن نعرف كيف كان هؤلاء الناس يروحون عن أنفسهم وما هي وسائل التسلية عندهم؟ لقد كان من أهم وسائل التسلية عندهم الأعياد والولائم، والصيد، ومغازلة النساء، والشعر، والموسيقى، والغناء، وكانت الطبقات الدنيا تضيف إليها قتال الديكة، والرقص على الحبال، والشعوذة، والسحر، ولعبة العرائس المتحركة (القرقوز...) ويدل كتاب القانون لابن سينا على أن المسلمين كان لديهم في القرن العاشر الميلادي كل ما عندنا تقريباً من الألعاب الرياضية: الملاكمة، والمصارعة، والعدو، والرمي بالنبال، وقذف الحراب، والحركات الرياضية الجسمية، والمثاقفة، وركوب الخيل، والحجف ، ورفع الأثقال، وأنواع مختلفة من لعبة الكرة والمضرب(68). وإذ كانت ألعاب الحظ محرمة، فقد كانت ألعاب الورق وكعوب النرد قليلة، وكانت (الطاولة) كثيرة الانتشار، وكان الشطرنج مباحاً، وإن كان النبي قد نهى عن صنع قطعة في صور الآدميين. وكان سباق الخيل منتشراً، يبسط عليه الخلفاء رعايتهم؛ ويحدثنا المؤرخون بأن أربعة آلاف جواد اشتركت مرة في سباق. وقد ظل صيد الحيوان مقصوراً على أرقى طبقات الأشراف، وكان عند المسلمين أقل عنفاً منه في أيام الساسانيين، وكثيراً ما أقتصر على الصيد بالبزاة أو الصقور. وكانت الحيوانات المصيدة تربى أحياناً وتدلل، وكان عند بعض الأسر كلاب، وعند بعضها قردة، وعند بعض الخلفاء آساد ونمورة يرهبون بها رعاياهم أو سفراء الدول الأجنبية.

وكان العرب حين فتحوا بلاد الشام قبائل قليلة الحظ من المدنية، شجعاناً إلى درجة التهور، كثيري العنف، سريعي الانفعال، متشككين. وكان الإسلام قد خفف من حدة هذه الصفات، ولكن معظمها لم يكن قد انمحى بعد، وأكبر الظن أن ما يحدثنا عنه المؤرخون عن ضروب القسوة التي كان يرتكبها بعض الخلفاء لم يكن يزيد في مجموعه على ما كان يرتكبه الملوك المسيحيون والبيزنطيون والمروفنجيون، وأهل الشمال، ولكنه رغم هذا مما يسربل بالغار كل حضارة. ومما يروى عن سليمان بن عبد الملك أنه في رحلة إلى مكة ليؤدي فريضة الحج، دعا رجال حاشيته ليجربوا سيوفهم في رقاب أربعمائة من الروم، أسِرُوا حديثاً في إحدى الحروب. وقبل رجاله الدعوة وضربت رقاب أربعمائة رجل، ليتسلى الخليفة بذلك النظر(69). ولما جلس المتوكل على العرش ألقى في السجن بوزير كان قد عامله مرة منذ بضع سنين بشيء من الاحتقار؛ ومنع السجين من النوم عدة أسابيع حتى كاد يذهب عقله، ثم سمح له أن ينام أربعاً وعشرين ساعة، فلما عادت إليه قوته بهذه الطريقة وضع بين ألواح من الخشب دقت فيها مسامير، منعته أن يتحرك ليقضي حاجته الطبيعية، وبقي على هذه الحال يعاني أشد الآلام حتى مات(70). ولا حاجة إلى القول بأن هذه الوحشية كانت من الأعمال الشاذة، أما المألوف فإن المسلم كان مثال الرقة، والإنسانية، والتسامح، وكان، إذا وصفنا أواسط الناس، سريع الفهم، حاد الذكاء، سريع التهيج، يسهل إدخال السرور إلى قلبه، والمرح على نفسهِ؛ يجد الرضا في البساطة، ويصبر على بلواه في هدوء، ويتلقى جميع حوادث الأيام بصبر، وكرامة، وشمم، وكبرياء. وكان المسلم إذا عقد النية على سفر طويل، أخذ معه كفنه المنسوج من الكتان، استعداداً منه في أي وقت للقاء ربه، فإذا أنهكه المرض والتعب وهو سائر في الصحراء، أمر رفاقه بأن يواصلوا سفرهم. ثم توضأ هو لآخر مرة، واحتفر لنفسهِ حفرة يتخذها قبراً له، ولف نفسه في كفنهِ، ونام في الحفرة، ينتظر أن توافيه منيته، وأن تغطي جسمه الرمال السافية(17).


الفصل الرّابع: الحكومة

كانت الحكومة الإسلامية في الثلاثين السنة التي تلت وفاة النبي جمهورية ديمقراطية من الوجهة النظرية بالمعنى الذي كان مفهوماً من هذه العبارة في الزمن القديم، وهو أن يشترك جميع الذكور الراشدين في اختيار رأس الدولة وتحديد سياستها. أما من الناحية العملية فقد كان الذين يختارون أمير المؤمنين ويرسمون سياسة الدولة فئة قليلة من أعيان المدينة. ولم يكن ينتظر شيء غير هذا بطبيعة الحال، ذلك أن الناس يختلفون في ذكائهم وفي ضمائرهم، ولهذا فإن الديمقراطية في أحسن صورها لا بد أن تكون نسبية، ولا محيص من أن تنشأ صورة ما من صور الألجركية في المجتمعات التي لا تتيسر فيها سبل الاتصال والتي تقل فيها نسبة المتعلمين. وإذ كانت الحرب والديمقراطية لا تجتمعان معاً، فإن اتساع رقعة البلاد الإسلامية قد ساعد على قيام حكم الفرد، لأن وحدة الرياسة والإسراع في اتخاذ القرارات لا بد منها لقيام السياسة الحربية الاستعمارية. ولهذا أضحت الحكومة في عهد الأمويين ملكية صريحة، الخلافة فيها إما وراثة وإما أن تقررها قوة السلاح. كذلك كان منصب الخليفة من الوجهة النظرية منصباً دينياً أكثر مما كان منصباً سياسياً. فقد كان الخليفة قبل كل شيء رئيس مجتمع ديني هو مجتمع المسلمين، وكان واجبه الأول الدفاع عن الدين، ولهذا كانت الخلافة حكومة دينية خاضعة لحكم الله عن طريق الدين. لكن الخليفة لم يكن بابا أو قساً، ولم يكن في مقدوره أن يصدر قرارات جديدة في الشؤون الدينية. ومع هذا فقد كان من الوجهة العملية ذا سلطان مطلق لا يحد منه برلمان، ولا طبقة وراثية من الأشراف، ولا هيئة من رجال الدين، بل كان الذي يحد من هذا السلطان هو القرآن وحده-وكان في وسع من يستخدمهم من العلماء ويؤدي لهم أجرهم أن يفسروه له كما يريد. وكان ثمة قدر من تكافؤ الفرص في هذه الحكومة المطلقة. ذلك أنه كان في مقدور أن إنسان أن يرقى إلى أعلى المناصب إلا إذا كان أبواه كلاهما من الأرقاء.

وأدرك العرب أنهم قد تغلبوا على مجتمعات مضمحلة ولكنها حسنة التنظيم فاستعانوا في بلاد الشام بنظام بيزنطية الإداري، وفي بلاد فارس بنظام الساسانيين، وكان لا بد أن تسير الحياة في الشرق الأدنى على النسق القديم، بل أن الثقافة اليونانية الشرقية نفسها قد تخطت حاجز اللغة وانتعشت مرة أخرى في العلوم والفلسفة الإسلامية. ونشأ في عهد العباسيين طراز معقد من الحكومة المركزية، والإقليمية، والمحلية، تسيره طائفة من الموظفين لا تتأثر إلا قليلاً باغتيال الجالسين على العرش، أو بالثورات التي تحدث في داخل القصر. وكان على رأس النظام الإداري الحاجب أو رئيس التشريفات، ولم يكن عمله من الوجهة النظرية يتعدى الإشراف على الحفلات في القصر، ولكنه استطاع من الوجهة العملية أن يستحوذ على كثير من السلطة بتحكمه فيمن يدخلون على الخليفة. وكان يليه في مرتبته، ولكن يفوقه في السلطان (بعد الخليفة المنصور) الوزير، وهو الذي يعين موظفي الحكومة، ويشرف عليهم، ويرسم سياسة الدولة ويسيرها. وكان أهم الدواوين ديوان الخراج، والحسابات، والشرطة، والبريد، والنظر في المظالم وهو الذي أصبح بمثابة محكمة ترفع إليها الأحكام القضائية والإدارية. وكان يلي الجيش في الأهمية عند الخليفة ديوان الخراج حيث كان الجباة يضارعون جباة الدولة البيزنطية في عنادهم وشدتهم، وكانت أموال طائلة تنتزع من الاقتصاد القومي لإقامة نظام الحكم والإنفاق على الحكام. وكان إيراد بلاد الخلافة كل عام في عهد هارون الرشيد يزيد على 530.000.000 درهم ( نحو 42.400.000 ريال أمريكي) فضلاً عما أضيف إليه في ذلك الوقت من ضرائب عينية لا يحصى عديدها(72). ولم يكن ثمة دَيْن قومي، بل حدث عكس هذا في عام 786 إذ كان في الخزانة رصيد يبلغ 900.000.000 درهم.

وكان البريد العام، كما كان في عهد الفرس والرومان؛ لا يخدم إلا الحكومة وكبار الأشخاص، وكان أهم ما يستخدم فيه هو نقل الأخبار والأوامر بين عاصمة الدولة والولايات، ولكنه كان إلى هذا يتخذ وسيلة للتجسس من قبل الوزير على الحكام المحليين. وكان ديوان البريد يصدر أدلة مكتوبة ليستعين بها التجار والحجاج، تحوي أسماء محاط البريد المختلفة، وبعد كل واحد منها عن الآخر، وكانت هذه الأدلة أساس علم تقويم البلدان عند العرب، وكان الحَمَام يدرب ويستخدم في نقل الرسائل-وكان هذا أول استخدام له معروف في التاريخ (837). وكانت الأخبار فوق هذا ينقلها المسافرون والتجار، وكان في بغداد ألف وسبعمائة "امرأة عجوز" يعملن جاسوسات. غير أن الرقابة مهما اشتدت لا يمكن أن تحول بين الشرقيين والغربيين وبين ابتزاز الأموال العامة أو الارتشاء. فقد كان الولاة في بلاد العرب، كما كانوا في بلاد الرومان، يرون أن سني خدمتهم يجب أن تعوضهم عما أنفقوه من المال ليرتقوا به سلم المناصب، وما يلاقونه من المحن حين يغادرون المنصب. وكان الخلفاء في بعض الأحيان يرغمونهم على أن يردوا ما اغتصبوه، أو يبيعون حق إرغامهم إلى الحكام الذين يخلفونهم، وبهذه الطريقة انتزع يوسف بن عمر 76.000.000 درهم من الولاة الذين تولوا حكم العراق قبله. وكان الولاة يتناولون مرتبات عالية، ولكن منهم أيضاً من تأثروا بسخاء الأسخياء، وقد ورد في أحد الأحاديث أن النبي نفسه كان يرى أن اثنين على الأقل من بين كل ثلاثة قضاة سيحشرون في النار(73).

وكان المفروض أن الشريعة التي تحكم بها الدولة المترامية الأطراف مستمدة من نصوص القرآن. ذلك أن القانون والدين كانا عند المسلمين، كما كانا عند اليهود، شيئاً واحداً. فكل جريمة خطيئة، وكل خطيئة جريمة، ولذلك كان فقه القانون عند المسلمين فرعاً من علوم الدين. فلما أن زادت الفتوح من التبعات الملقاة على الشريعة الإسلامية ونشأت حالات جديدة لم ينص عليها القرآن وضع بعض المشرعين المسلمين أحاديث لمواجهة تلك الحالات صراحة أو ضمناً، وبهذا أصبح الحديث مصدراً ثانياً من مصادر التشريع الإسلامي ، وكان من المصادفات الغريبة المتكررة أن هذه الأحاديث تردد أصداء المبادئ والأحكام والشرائع الرومانية والبيزنطية، وتردد أكثر من ذلك مبادئ المشنار وجمار اليهود وأحكامهما(74). وكانت الزيادة المطردة في هذه الأحاديث التشريعية الكثيرة مما رفع من شأن مهنة القضاء في البلاد الإسلامية، وخلع على الفقهاء الذين يفسرون القانون أو يطبقونه من السلطان والتعظيم ما لا يقل عما كان لطبقة الكهنة والقساوسة عند غير المسلمين.وقد عل هؤلاء ما عله أمثالهم ي فرنسا في القرن الثاني عشر، فقد تحالفوا مع الملكية، وأيدوا حكم العباسيين المطلق، ونالوا جزاءهم على هذا التأييد.

ونشأت في البلاد الإسلامية السنية أربعة مذاهب: أولاها مذهب أبي حنيفة ابن ثامت (المتوفى عام 767) وقد أحدث انقلاباً كبيراً في الشريعة الإسلامية باتباع مبدأ العباس في تفسير القرآن. وهو يرى أن القانون الذي سن أول الأمر لأهل الصحراء يجب ألا يؤخذ بحرفيته بل بروحه إذا أريد تطبيقه على مجتمع صناعي أو حضري. وعلى هذا الأساس أجاز أبو حنيفة قروض الرهن ويشبه هذا ما فعله هلل في فلسطين قبل ذلك العهد بثمانية قرون. ومن أقوال أبي حنيفة في هذا المعنى إن القاعدة القانونية تختلف عن قواعد النحو والمنطق، فهي تمثل سنة عامة تتغير بتغير الظروف التي أوجدتها(75). وخرج من بين أهل المدينة المحافظين عالم آخر لا يجيز هذه الفلسفة الحرة التقدمية في التشريع، وهو مالك بن أنس (715-795). وقد أقام مالك مذهبه بعد دراسة واسعة لألف وسبعمائة من الأحاديث التشريعية، ويقول إنه لما كانت كثرة هذه الأحاديث قد صدرت في المدينة، فإن إجماع أهل المدينة هو الذي يجب أن يؤخذ به تفسير الحديث والقرآن. ويرى محمد الشافعي (767-820) الذي عاش في بغداد والقاهرة ألا يقتصر هذا الحق على أهل المدينة، وأن الإجماع في كل بلاد الإسلام هو المحك الأخير للشرائع والسنة والحقيقة. ويرى أحمد بن حنبل أن هذا المقياس غامض وأوسع مما ينبغي، وأنشأ مذهباً أساسه أن القرآن والحديث وحدهما يجب أن يكونا أساس التشريع. وندد بمذهب المعتزلة العقلي في الفلسفة، وألقى به المأمون في السجن لتمسكه الشديد بمذهب أهل السنة، ولكنه استمسك بآرائه بشجاعة عظيمة كان من أثرها أن خرجت بغداد على بكرة أبيها تشيع جنازته لما أن وافته منيته.

غير أن ما بين المذاهب الإسلامية الأربعة، التي يعترف بها أهل السنة في الإسلام، من الاتفاق في التفاصيل لا يقل عما بينها من الاختلاف في المبادئ، وذلك على الرغم من هذا الجدل الطويل الذي ظل قائماً مائة عام. فهي كلها تؤمن بأن الشريعة الإسلامية من عند الله، وبأن كل شريعة خليقة بأن يحكم بها الجنس البشري الذي لا يخضع بفطرته للقانون، ويجب أن تكون أصولها منزلة من عند الله. وهي كلها تسرف في وضع تفاصيل قواعد السلوك والشعائر الإسلامية إسرافاً لا يجاريها فيه إلا الدين اليهودي، وقد عنى المشرعون بكثير من التفاصيل كطريقة استعمال السواك، وسنن الزواج، وما يليق وما لا يليق من ثياب الرجال والنساء، والطريقة الصحيحة لتصفيف الشعر، ويروى أن أحد الفقهاء لم يأكل البطيخ قط لأنه لم يجد في القرآن أو الحديث ما يعرف من الطريقة الصحيحة التي يأكله بها(76). ولقد كان من شأن كثرة ما يسن من القوانين أن تحول بين تطور المجتمع الإسلامي، ولكن اختلاف الآراء في القانون الواحد وتجاوز منفذي القانون عن مخالفته في بعض الأحيان قد وفقا بين قسوة التشريع من جهة وقسوة الحياة وتطورها من جهة أخرى. غير أنه رغم هذا، ورغم انتشار مذهب أبي حنيفة وما فيه من تسامح وحرية، فإن النزعة الغالبة على الشرائع الإسلامية هي النزعة المحافظة والاستمساك القوي بالسنن استمساكاً يعطل التطور الحر للأنظمة الاقتصادية، والآداب الشخصية والتفكير .

ولا يسعنا إلا أن نسلم-مع هذه التحفظات-بأن الخلفاء الأولين من أبي بكر إلى المأمون قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم، وأنهم كانوا من أقدر الحكام في التاريخ كله. ولقد كان في مقدورهم أن يصادروا كل شيء، أو أن يخربوا كل شيء، كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين؛ لكنهم لم يفعلوا هذا بل اكتفوا بفرض الضرائب. ولما أن فتح عمرو مصر أبى أن يستمع إلى نصيحة الزبير حين أشار عليه بتقسيم أرضها بين العرب الفاتحين، وأيده الخليفة في هذا الرأي وأمره أن يتركها في أيدي الشعب يتعهدها فتثمر(77). وفي زمن الخلفاء الراشدين مسحت الأراضي، واحتفظت الحكومة بسجلاتها، وأنشأت عدداً كبيراً من الطرق وعنيت بصيانتها، وأقيمت الجسور حول الأنهار لمنع فيضانها، وكان العراق قبل الفتح الإسلامي صحراء جرداء فاستحالت أرضها بعده جناناً فيحاء، وكان كثير من أرض فلسطين قبيل الفتح رملاً وحجارة فأصبحت خصبة، غنية، عامرة بالسكان(78). وما من شك في أن استغلال المهرة والأقوياء للسذج والضعفاء بقي في عهد الحكومات الإسلامية كما يبقى في عهود كل الحكومات، ولكن الخلفاء قد أمنوا الناس إلى حد كبير على حياتهم وثمار جهودهم، وهيئوا الفرص لذوي الواهب، ونشروا الرخاء مدى ستة قرون في أصقاع لم تر قط مثل هذا الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم انتشر التعليم، وازدهرت العلوم، والآدابـ والفلسفة، والفنون ازدهاراً جعل الغبية مدى خمسة قرون أرقى أقاليم العالم كله حضارة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامِس: المدن

يجدر بنا قبل أن نتحدث عن الرجال الذين أنشئوا هذه الحضارة وميزوها من غيرها من الحضارات، ونصف أعمال هؤلاء الرجال، أن نصور لأنفسنا البيئة التي كانوا يعيشون فيها. إن الحضارة ريفية في أصولها وقواعدها، ولكنها مدنية في صورتها، إذ لابد أن يجتمع الناس في المدن حتى يستمع بعضهم إلى بعض وينبه بعضهم بعضاً.

ولقد كانت البلدان الإسلامية جميعاً تقريباً غير كبيرة في سعتها لا يزيد سكان الواحد منها على عشرة آلاف ومنها ما يقل عامرها عن ذلك، يحشرون في رقعة ضيقة لها أسوار تحميها من الغارات والحصار، مظلمة شوارعها مليئة بالتراب والوحل، ذات بيوت صغيرة مطلية بالجص ومحوطة بجدران متصلة ترد عنها الأبصار. وكان جلال المدينة كله محصوراً في مسجدها، ولكن كانت تقوم في أماكن متفرقة من الأقطار الإسلامية مدن كبيرة ارتقت فيها الحضارة الإسلامية إلى أعلى درجات الجمال والمعرفة والسعادة. وكانت مكة والمدينة، ولا تزالان، في نظر المسلمين مدينتين مقدستين، لأن في أولهما الكعبة التي كان العرب يقدسونها في الزمن القديم، كما أن فيها مسقط رأس الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولأن الثانية هي المكان الذي هاجر إليه وأقام فيه. وقد جدد الوليد الثاني بناء مسجد المدينة الصغير وجعله مسجداً فخما ذا روعة وجمال. وأرسل إمبراطور بيزنطية بناء على طلب الوليد، وفي نظير ثمانين ألف دينار، أربعين حملاً من أحجار الفسيفساء، كما استقدم الوليد ثمانين من مهرة الصناع من مصر وبلاد اليونان، حتى لقد شكا المسلمون من أن مسجد نبيهم كانت تشيده أيدي المسيحيين غير المسلمين. واتخذت المدينتان في عهد الأمويين، وعلى الرغم من وجود الكعبة ومسجد النبي فيهما، مظهراً من الترف الدنيوي لو رآهما الخلفاء الأولون لاستشاطوا غضباً، وما من شك في أن هذا المظهر قد ادخل السرور على قلوب قريش المنتصرين. فأما ثراء المدينة فسببه أن مغانم الحرب قد صبت فيها صباً، وأن معظمها قد وزع على الأهلين، وأما ثراء مكة فسببه أن الحجاج كانوا يجيئون إليها من كافة أنحاء العالم الإسلامي، في جموع مطردة الزيادة، ويحملون معهم من الهدايا ما لم يكن يصل إليها من قبل. ونشطت بذلك التجارة وراجت زواجاً عظيماً، وأصبحت المدينتان مركزين للثراء، وللراحة، والمرح، والطرب. وقامت فيهما القصور والبيوت الريفية ذات الحدائق في ضواحيهما يسكنها الأشراف وتعج بالخدم والعبيد، وكثرت فيها السراري، وجرت فيها الخمر المحرمة في الإسلام، فأخذ المغنون يطربون سكانها بالأنغام الحزينة والشعراء ينشدون أناشيد الحرب والحب. وفي المدينة كانت السيدة سكينة ابنة الشهيد الحسين ترأس ندوة من الشعراء والساسة والعلماء في الشريعة الإسلامية، وكان ذكاؤها، وجاذبيتها، وذوقها هي المستوى الذي يصبو إليه الناس في جميع بلاد الإسلام. وتزوجت سكينة أكثر من مرة، وكانت في بعض الأحيان تشترط على من يطلب الزواج منها أن تكون حرة في عقد مجالسها العلمية والأدبية(79). ذلك أن النزعة الأموية- نزعة الاستمتاع بمباهج الحياة-كانت قد غلبت في أقدس مركزين من مراكز الإسلام نزعة التقشف والتزمت التي اتصف بهما أبو بكر وعمر.

وكان مدينة بيت المقدس هي الأخرى مدينة مقدسة عند المسلمين. وقد أصبح العرب من القرن الثامن الميلادي يؤلفون الكثرة الغالبة من سكانها. وأراد الخليفة عبد الملك بن مروان أن يكون فيها مسجد للمسلمين لا يقل فخامة عن كنيسة القبر المقدس حين جددت بعد أن دمرها كسرى أبرويز، فاستخدم خراج مصر في تشييد عدة صروح تعرف عند المسلمين باسم الحرم الشريف، وشيد في الطرف الجنوبي من المدينة (691-694) المسجد الأقصى. وقد دمر زلزال هذا المسجد في عام 746، ثم أعيد بناؤه في عام 785، وأدخلت عليه فيما بعد تعديلات كثيرة، ولكن القبلة لا تزال كما كانت في أيام عبد الملك، كما أن معظم العمد مأخوذ باسلقا جستنيان التي كانت قائمة في أورشليم. ويرى المقدسي أن بيت المقدس أجمل من المسجد الأموي العظيم المقام في دمشق، ويقول المسلمون إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد التقى فيهِ بإبراهيم، وموسى، وعيسى، وأنه صلى فيه معهم، وانه رأى بالقرب منه الصخرة (التي يعتقد بنو إسرائيل أنها سرة الدنيا) والتي أراد إبراهيم أن يضحي عندها بإسحق ، والتي تلقى عندها موسى تابوت العهد، والتي شاد عندها سليمان وهيرود هيكلهما. ويعتقد بعض المسلمون أن النبي صعد عندها إلى السماء، وأن الإنسان لو أوتي إيماناً قوياً لأبصر في الصخرة أثار قدميه. ولما أن استولى عبد الله بن الزبير على مكة في عام 684 وعلى ما يدخل فيها من إيراد الحج أراد عبد الملك أن يجتذب إلى الشام أموال الحج، وأن يحج الناس إلى الصخرة بدل أن يحجوا إلى الكعبة، فأقام صناعه على هذا الحجر التاريخي (691) "قبة الصخرة" الشهيرة على الطراز البيزنطي-السوري، وسرعان ما أضحت هذه القبة "رابعة عجائب العالم الإسلامي" (والثلاث الأخرى هي مساجد مكة والمدينة ودمشق). ولم يكن هذا البناء في أول امره مسجداً، بل كان حرماً مقدساً حول الصخرة؛ وقد أخطأ الصليبيون مرتين حين أطلقوا عليه اسم "مسجد عمر". ويبلغ ارتفاع القبة 112 قدماً، وهي قائمة على بناء ذي ثمانية أضلاع مشيد من الحجارة المربعة. ويبلغ محيط هذا البناء 528 قدماً. والقبة نفسها مصنوعة من الخشب ومغطاة من الخارج بالنحاس الأصفر المذهب ذي النقوش البارزة. وللبناء أربعة أبواب جميلة-عتباتها مصفحة بالبرونز-تؤدي إلى الداخل الذي تقسمه صفوف من العمد المتخذة من المرمر المصقول، متتالية ومتحدة في المركز، إلى أشكال مثمنة الأضلاع كل منها أصغر من الذي في خارجه. وهذه العمد الفخمة من الآثار الرومانية القديمة، وتيجانها بيزنطية الطراز. وتمتاز الأجزاء التي بين العقود بما فيها من قطع الفسيفساء، التي تصور أشجاراً لا تقل في جمالها عن تصوير كوربية Qourbet. وأجمل من هذا على جماله فسيفساء الجزء الأسفل من القبة. وعلى الطنف التي فوق العمد الخارجية نقش بالخيط الكوفي ذو حروف صفراء على قطع من القرميد زرقاء، أمر به صلاح الدين في عام 1187، وهو مثل جميل رائع من هذه الزخرفة المعمارية الفذة. وتحيط العمد بهذه الصخرة الضخمة غير المنتظمة الشكل التي يبلغ محيطها مائتي قدم. وقد وصفها المقدسي بقوله:

"فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة، وتلألأت المنطقة، ورأيت شيئاً عجيباً. وعلى الجملة لم أر في الإسلام ولا سمعت أن في الشرق مثل هذه القبة"(80).

وقد أخفق عبد الملك فيما كان يسعى من إحلال هذه الصخرة عند المسلمين محل الكعبة، ولو أنه نجح فيما كان يبتغيه لأضحى بيت المقدس مركز الأديان الثلاثة التي كانت تتنافس في الاستحواذ على روح الإنسان في العصور الوسطى.

ومع هذا كله فإن بيت المقدس لم يكن عاصمة ولاية فلسطين، بل نالت الشرف بلدة الرملة. وكانت في الأماكن التي تشغلها الآن قرى صغيرة فقيرة مدن زاهرة في عهود الإسلام الأولى. ومن تلك المدن عكا التي كتب عنها المقدسي في عام 985 يقول إنها مدينة كبيرة واسعة الرقعة. وكتب الإدريسي في عام 1124 عن صيدا إنها مدينة مترامية الأطراف تحيط بها الحدائق والأشجار، ووصف اليعقوبي في عام 891 مدينة صور بأنها بلدة جميلة مشيدة على صخرة، بارزة في البحر، ويقول ناصر خسرو في عام 1047 إن فيها خانات ترتفع خمس طبقات أوست، وإن فيها قدراً كبيراً من الثروة معروضاً في أسواقها النظيفة(81) وكان لطرابلس القائمة في شمالها مرفأ أمين جميل يتسع لألف سفينة. واشتهرت طبرية بياسمينها وبعيونها الحارة. وكتب ياقوت الرحالة المسلم في عام 1224عن الناصرة يقول: "فيها كان مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام!... وكان أهلها عيروا مريم فيزعمون أنه لم تلد قط عذراء طفلاً" .

ويصف اليعقوبي بعلبك بأنها أجمل بلدان الشام، ويضيف المقدسي إلى هذا أنها بلدة عظيمة الثراء. وكانت إنطاكية ثانية مدن الشام لا يفوقها في عظمنها إلا دمشق وحدها. وقد امتلكها المسلمون من عام 635 إلى عام 964، ثم استولى عليها البيزنطيون من ذلك التاريخ الأخير حتى عام 1084. ويعجب الجغرافيون المسلمون بكنائسها الكثيرة الفخمة، وبما في بيوتها الجميلة من شرفات عالية، وبحدائقها وبساتينها الغناء، ويقولون إن الماء يدخل في كل بيت من بيوتها. وكانت طرسوس من كبريات المدن؛ ويقدر ابن حوقل (978) عدد الذكور من سكانها بمائة ألف، وقد استعادها نقفور إمبراطور الروم في عام 965، وهدم جميع ما فيها من المساجد، وحرق جميع المصاحف، وكانت حلب بلدة غنية لوقوعها عند ملتقى طريقين من طرق القوافل. ويصفها المقدسي بأنها مدينة غنية مبنية بالحجارة، ذات شوارع تظللها الأشجار، وتقوم على جانبها الحوانيت ويؤدي كل شارع منها إلى باب من أبواب المسجد وكان في هذا المسجد محراب اشتهر بما فيه من عاج وخشب محفور، ومنبر تبتهج العين لرؤيته وكان بالقرب منه خمسة مدارس، وبيمارستان، وست كنائس مسيحية. وكتب اليعقوبي في عام 891 يقول إن حمص أكبر مدن الشام، وكتب الاصطرخي في عام 590 يقول إن شوارعها وأسواقها كلها تقريباً مرصوفة بالحجارة. ويقول المقدسي إن نساؤها ذوات جمال رائع وبشرة رقيقة(83).

ولما اتسعت الدولة العربية نحو الشرق رؤى أن من مصلحتها أن تكون عاصمتها في موضع أقرب إلى وسطها من مكة أو بيت المقدس. وقد أحسن بنو أمية إذ اختاروا دمشق عاصمة لدولتهم-وكانت هذه المدينة ذات تاريخ قديم حين أقبل عليها العرب فاتحين. وكان يلتقي عندها خمسة أنهار، تجعل الإقليم الذي من خلفها "جنة الشرق" بحق، وتمد بالماء مائة فسقية، ومائة حمام عام، ومائة وعشرين ألف بستان(84)، ثم تجري نحو الغرب إلى "وادي البنفسج" الذي يبلغ طوله اثني عشر ميلاً وعرضه ثلاثة أميال. ويقول الإدريسي إن "مدينة دمشق من أجل بلاد الشام وأحسنها مكاناً، وأعدلها هواء، وأطيبها ثرى، وأكثرها مياهاً، وأغزرها فواكه، وأعمها خصاً، وأوفرها مالاً وأكثرها جنداً .

وفي قلب هذه المدينة وبين سكانها الذين يبلغون نحو مائة وأربعين ألفاً يقوم قصر الخليفة الذي شاده معاوية الأول، والذي يلمع فيه الذهب والرخام، وتتلألأ في أرضه وعلى جدرانه الفسيفساء، والذي تلطف جوه الفساقي والشلالات التي يتدفق منها الماء على الدوام. وفي الناحية الشمالية من المدينة يقوم مسجدها العظيم وهو واحد من اثنين وسبعين وخمسمائة مسجد في المدينة، والأثر الوحيد الباقي من دمشق الأموية. وكان موضعه في أيام الروم يزدان بهيكل لجوبتر، ثم أقام ثيودوسيوس الأول على أنقاضه كنيسة يوحنا المعمدان (379). وعرض الخليفة الوليد الأول على المسيحيين حوالي عام 705 أن يعدل بناء الكنيسة حتى تصبح جزءاً من مسجد جديد يريد بناءه في ذلك المكان، ووعدهم بأن يعطيهم أرضاً ومواد في أي مكان يختارونه ليقيموا فيه كنيسة جديدة. ولكن المسيحيين احتجوا على هذا العمل وحذروه من عاقبته، وقالوا إنه قد ورد في كتبهم أن من يجرؤ على هدم الكنيسة سيموت مختنقاً؛ ولكن الوليد لم يأبه بهذا التحذير وكان هو البادئ بهد الكنيسة بيديه. ويقول المؤرخون أن جميع خراج الأرض في الدولة كلها قد خصص مدى سبع سنين لتشييد هذا المسجد، هذا إلى المال الكثير الذي أعطي للمسيحيين لينشئوا بهِ كنيسة جديدة. وجيء بالصناع والفنانين من الهند، وفارس، والقسطنطينية، ومصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، وكان من استخدم في بنائه من العمال اثني عشر ألف عامل، أتموه في ثمان سنين. والرحالة المسلمون مجمعون على أنه أفخم بناء في بلاد المسلمين، ويرى المهدي والمأمون من الخلفاء العباسيين-وليس منهما من يحب الأمويين أو دمشق-أنه لا يضارعه بناء غيره في جميع أنحاء العالم. ويتكون البناء من سور محصن، في داخله صفوف من العمد تحيط بصحنه الواسع المرصوفة أرضه بالرخام. ويقوم المسجد نفسه في الجهة الغربية من هذا المكان المتسع، وهو مشيد من الكتل الحجرية المربعة وتشرف عليه أربع مآذن-منها واحدة هي أقدم ما شيد من المآذن في الإسلام. وكان تخطيط المسجد وزخرفته على الطراز الروماني، وما من شك في أنهما قد تأثرا بطراز صوفيا. وكان السقف والقبة_ ويبلغ طول قطرها خمسين قدماً-مكفتين بصفائح الرصاص. أما داخل المسجد الذي يبلغ طوله 429 قدماً فيشتمل على صفين من العمد المنحوتة من الرخام الأبيض تفصل صحنه عما يحيط به من الطرقات. وتيجان هذه العمد كورنشية الطراز مكفتة بصفائح الذهب. ومن فوقها عقود مستديرة أو على شكل حذاء الفرس.

وهذا الطراز الثاني من العقود أول ما اقيم من نوعه في بلاد الإسلام . وأرض المسجد من الفسيفساء وقد غطيت بالطنافس، كما غطيت جدرانه بالفسيفساء المصنوعة من الرخام الملون وبالقاشاني المطعم بالميناء، وفي داخل المسجد ستة حواجز جميلة من الرخام تقسم داخله إلى عدة إيونات. وفي أحد جدرانه المتجهة نحو مكة محراب مرصع بالذهب والفضة والحجارة الكريمة، ويدخل الضوء إلى المسجد من أربعة وسبعين شباكاً من الزجاج الملون ومن اثني عشر ألف قنديل. ويصفه أحد الرحالة بقولهِ: "لو أن رجلاً من أهل الحكمة اختلف إليه سنة لأفاد منه كل يوم صفة وعقدة أخرى" .

وسمح لأحد سفراء اليونان أن يدخل المسجد فلما شاهده التفت إلى رفاقه وقال لهم: "لقد قلت لأعضاء مجلس الشيوخ في بلادي إن سلطان العرب سيزول عما قريب، أما الآن وأنا أرى كيف كانوا يشيدون عمائرهم فقد علمت علم اليقين أن سلطانهم سيدوم أحقاباً طوالاً" . وإذا اتجه الإنسان من دمشق نحو الشرق واجتاز الصحراء وصل إلى الرقة على نهر الفرات حيث كان يقيم الخليفة هارون الرشيد؛ فإذا عبر نهر دجلة وصل إلى الموصل، وعلى مسافة منها اتجاه الشمال الشرقي أيضاً تقع مدينة تبريز التي بلغت ذروة مجدها بعد ذلك العهد الذي نتحدث عنه. وإلى شرقها تقوم مدينة طهران (وكانت لا تزال وقتئذ بلدة صغيرة)، ثم تليها دامغان وبعدها-في شرف بحر الخرز-تقع جرجان. وكانت هذه البلدة الأخيرة في القرن العاشر الميلادي قاعدة إحدى الولايات الإسلامية، واشتهرت وقتئذ بمن كان فيها من الأمراء المثقفين، أشهرهم كلهم شمس المعالي قابوس، الشاعر العالم الذي استضاف ابن سينا في بلاطه، والذي ترك وراءه مدفناً له على شكل برج ضخم يعلو الجو 167 قدماً يعرف باسم جنبادي قابوس، وهو البناء الوحيد الذي بقي حتى الآن من تلك المدينة التي بلغت في أيامه درجة عظيمة من الرخاء وكثرة السكان. وعلى الطريق الشمالي المتجه نحو الشرق تقوم مدينة نيسابور، التي لا يزال الناس يرددون اسمها في شعر عمر الخيام، وتليها مشهد المدينة المقدسة عند المسلمين الشيعة؛ ثم مرو التي كانت في وقت ما قاعدة لإحدى الولايات الكبرى؛ ثم بخارى وسمرقند-وكانتا في العادة بعيدتين على منال أيدي الجباة. وعلى سلاسل الجبال الجنوبية تقع مدينة غزنة. ويحدثنا الشعراء عن قصور أميرها محمود الغرنوي الفخمة، وعن أبراجها العالية التي تطاول قمر السماء. ولا يزال يقوم فيها حتى اليوم "برج النصر" الذي شاده السلطان محمود، وبرج آخر أجمل منه شاده محمود الثاني, وكان الإنسان إذا رجع نحو الغرب في القرن الحادي عشر التقى بنحو عشرة مدينة زاهرة في إيران-هيراة، شيراز (ذات الحدائق الغناء الذائعة الصيت والمسجد العظيم)، ويزد، وأصفهان، وكاشان، وقزوين، وقوم وهمذان، وكرمنشاه، وسامانا؛ ثم التقى في العراق بمدينتي البصرة والكوفة العامرتين بالسكان. وكان السائح يشاهد في كل مكان يمر به قباباً براقة، وآذن متلألئة، ومدارس، ودوراً للكتب، وقصوراً، وحدائق، وبيمارستانات، وحمامات، وأزقة ضيقة مظلمة حيث يسكن الفقراء. ثم يصل المسافر آخر الأمر إلى بغداد التي يتغنى بها الشاعر الأتوري في شعر فارسي يقول:

طوبى لك يا بغداد مدينة العلم والفن، التي لا يستطيع إنسان أن يجد بين مدن العالم كله مدينة أخرى تناظرها، إن أرباضها لتنافس في جمالها قبة السماء الزرقاء، وإن مناخها ليضارع نسيم السماء الذي يبعث الحياة في الأجسام، وأحجارها تضارع في تلألؤها الماس والياقوت...وإن شواطئ دجلة ومن عليها من الفتيات الحسان لتفوق بلخ؛ وجناتها المليئة بالحور العين لتعدل في ذلك كشمير، وآلاف القوارب ترقص وتلألأ فوق الماء تلألؤ أشعة الشمس في الهواء(59).

وكان في موقع بغداد مدينة بابلية قديمة، وهي لا تبعد كثيراً عن موقع بابل القديمة، وقد عثر في عام 1848 تحت مجرى نهر دجلة على قطع من الآجر منقوش عليها اسم نبوخذنصر. وازدهرت المدينة القديمة في عهد الملوك الساسانيين، ثم أنشئت فيها بعد الفتح الإسلامي عدة أديرة مسيحية، معظمها للنساطرة. ويحدثنا المؤرخون أن الخليفة المنصور عرف من رهبان تلك الأديرة أن هذا الموقع معتدل الجو في الصيف، وخالٍ من البعوض الذي يكثر في البصرة والكوفة. ولعل الخليفة قد رأى أن من الحكمة أن يبتعد عن هاتين المدينتين المساكستين، اللتين كانتا في ذلك الوقت البعيد غاصتين بالصعاليك الثوريين، وما من شك في أنه وجد في موقعهما هذا ميزة حربية، فهو أمين في داخل البلاد، ولكنه على اتصال مائي بجميع المدن الكبرى القائمة على النهرين عن طريق نهر دجلة والقنوات الكبرى المتصلة بهِ؛ وعن طريق هذا النهر والقنوات يتصل أيضاً بالخليج الفارسي وبجميع ثغور العالم. من أجل هذا كله نقل مقره هو من الهاشمية كما نقل دواوين الحكومة من الكوفة إلى بغداد، وأحاط ذلك الموقع بثلاثة أسوار دائرية وخندق، واستبدل ببغداد اسمها القديم ومعناه "هبة الله" اسماً جديداً هو مدينة السلام، واستخدم مائة الف من العمال في بناء أربعة قصور عظيمة من الآجر له ولأهلة ولدواوين الحكومة. وكان يقوم في وسط المدينة قصر الخليفة المسمى "بالباب الذهبي" نسبة إلى بابه المذهب أو "القبة الخضراء" نسبة إلى قبته البراقة. ثم شاد المنصور في خارج أسوار المدينة على الضفة الغربية لنهر دجلة مسكناً صيفياً له عرف باسم "قصر الخلد"، وكان هرون الرشيد يقيم في هذا القصر معظم أيامه. وكان في وسع من يقيم في هذين القصرين أن يرى من نوافذهما مئات السفن تفرغ على أرصفة النهر أحمالها التي جاءت بها من نصف العالم المعروف. وفي عام 768 أنشأ المنصور قصراً ومسجداً على ضفة النهر الشرقية الفارسية لكي يستطيع ولده المهدي أن يتخذ له في القصر مسكناً مستقلاً، وسرعان ما نشأت حول هذين الصرحين ضاحية جميلة هي ضاحية الرصافة التي كان يصلها بالمدينة المستديرة جسران قائمان على قوارب. وكان معظم الخلفاء الذين جاءوا بعد المأمون يقيمون في هذه الضاحية، ولهذا فإنها سرعان ما فاقت مدينة المنصور نفسها في اتساعها وثرائها، وكان الناس بعد الرشيد إذا ذكروا بغداد فإنما يعنون بها الرصافة نفسها. وكانت شوارع ضيقة ملتوية، أنشئت على هذا النحو لتقي الأهلين من وهج الشمس وتقوم على جانبيها الحوانيت الصاخبة، تمتد من القصور الملكية إلى أحياء الأثرياء، وكان لكل طوائف الصناع شارعها الخاص أو سوقها الخاص أو سوقها الخاصة-فهذا حي بائعي العطور، وذاك حي صانعي السلال، وهنا حي صانعي الأسلاك، وهناك حي الصيارفة مستبدلى النقود، وذاك حي البزازين، وهذا حي الوراقين وما إلى ذلك. وكانت بيوت الأهلين تقوم فوق هذه الحوانيت ومن ورائها. وكانت كل المساكن تقريباً ما عدا مساكن الأغنياء مقامة من اللبن، تبقي صاحبها حياً ولكنها لا تدوم كثيراً بعده. وليس لدينا إحصاء لسكان المدينة موثوق بهِ، والراجح أنهم كانوا يبلغون 800.000، وإن كان بعض المؤرخين يقدرونهم بمليونين(90). ومهما يكن عددهم فإن المدينة كانت في القرن العاشر الميلادي أكبر مدن العالم على الإطلاق، مع جواز استثناء القسطنطينية من هذا التعميم. وكان فيها حي للمسيحيين مزدحم بهم، تقوم فيه كنائس، وأديرة، ومدارس؛ وكان لكل من النساطرة، واليعاقبة، والمسيحيين أصحاب العقيدة الصحيحة، أمكنة عبادتهم الخاصة بهم. وقد جدد هارون بناء مسجد أقامه المنصور ووسعه، ثم جدد المعتمد بناء هذا المسجد نفسه وزاد مساحته. وما من شك في أن مئات من المساجد قد شيدت ليتعبد فيها سكان المدينة.

وبينما كان الفقراء يواسون أنفسهم في حياتهم الشاقة بأملهم في نعيم الدار الآخرة، كان الأغنياء يستمتعون على الأرض بنعيم الجنة. ذلك أنهم شادوا في بغداد أو بالقرب منها عشرات المئات من القصور الفخمة، والبيوت ذات الحدائق، والدور التي تبدو بسيطة من الخارج ولكنها كانت في الداخل "لازورداً وذهباً". وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه من الفخامة من وصف لها بقلم أبي الفداء لا يكاد يصدقه العقل يقول فيهِ إن قصر الخليفة في بغداد قد فرشت على أرضه 22.000طنفسة، وعلقت على جدرانه 38.000 قطعة من القماش المزركش و12.500 قطعة من الحرير(91). وكانت قصور الخليفة وأسرته ومساكن الوزير ورؤساء دواوين الحكومة تشغل في المدينة الشرقية مساحة قدرها ميل مربع . وبدأت منذ أيام جعفر البرمكي هجرة الطبقة الموسوة إلى بغداد حين شاد لنفسه في الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة قصراً فخماً كانت عظمته من أسباب هلاكه. وقد حاول جعفر أن يتقي حسد هارون الرشيد فأهدى هذا القصر إلى المأمون، وقبل الرشيد الهدية لابنه، ولكن جعفر ظل يعيش وينعم في القصر الجعفري" إلى آخر أيام حياته. ولما أخذت قصور المنصور وهارون تنهار، أقيمت في مكانها قصور أخرى. وقد أنفق المعتمد على قصره المعروف "بقصر المعروف" (892) 400.000 دينار (أي ما يقرب من 1.900.000 ريال أمريكي). وفي وسعنا أن نتصور سعة هذا القصر إذا ذكرنا أنه كان في اسطبلاته 9000 من الإبل والبغال(92). وشاد المكتفي بجواره " قصر التاج" (902)؛ وكان هذا القصر هو وحدائقه يمتد على رقعة من الأرض مساحتها تسعة أميال مربعة. وشاد المقتدر "بهو الشجرة" وكان سبب تسميته بهذا الاسم أنه كان في البركة الموجودة بحديقته شجرة من الفضة والذهب، على أوراقها وأغصانها الفضية تجثم طيور من الفضة، تنطق ألسنتها بأناشيد آلية. وبز سلاطين آل بويه جميع أولئك الخلفاء فأنفقوا 13.000.000 درهم في بناء قصر المعزية. وهكذا تعددت القصور وزادت فخامة، حيى إذا استقبل المقتدر في عام 917 سفراء اليونان بهرتهم قصور الخليفة ودواوين حكومته البالغ عددها ثلاثة وعشرين قصراً، وإيواناتها ذا العمد الرخامية، وما بسط على أرضها وجدرانها من طنافس وأقمشة مزركشة كبيرة يخطئها الحصر تكاد تغطي كل مكان في الأرض والجدران، وعشرات المئات من السياس ذوي الحلل البراقة. وسروج الخيول الفضية ذات الأغطية المطرزة بخيوط الذهب والفضة، وما في الحدائق الواسعة المختلفة أنواع الحيوان البري والأليف، وما للخلفاء من قوارب لا تقل عن القصور أبهة وفخامة تجري في نهر دجلة وتنتظر أهواء الخليفة.

وكانت الطبقات العليا تعيش في وسط هذا النعيم عيشة الترف، واللهو، والقلق، والدسائس. فكان رجالها يذهبون إلى الميدان ليشاهدوا سباق الخيل أو لعب الجحفة، ويحتسون الخمر المعتقة المحرمة، ويأكلون الطعام المبتاع من أقاصي البلاد بأغلى الأثمان، ويرتدون هم ونساؤهم أثواب الحرير المختلف الألوان المطرز بخيوط الفضة والذهب، ويعطرون ثيابهم، وشعرهم، ولحاهم، ويستنشقون رائحة العنبر والكندر، ويزينون رؤوسهم، وآذانهم، ورقابهم، ومعاصمهم، وسيقانهم بالحلي الثمينة. ويقول شاعر يتغزل في فتاة إن رنين خلاخيلها قد سلبه عقله(93). ولم تكن النساء في العادة يحضرن مجتمعات الرجال، وكان يحل محلهن الشعراء، والمطربون، والسمار الفكهون، وما من شك في أنهم كانوا يتحدثون عن الحب؛ وكانت الجواري الغيد يرقصن حتى يصبح الرجال أسرى لهن. وفي المجتمعات التي كانت أكثر من هذه أدباً كان الناس يستمعون إلى أناشيد الشعراء أو إلى آيات القرآن الكريم. ومنهم من أنشئوا ندوات فلسفية كإخوان الصفا، ويحدثنا المؤرخون عن نادي قائم حوالي عام 790 مؤلف من عشرة أعضاء، واحد من السنيين، وآخر من الشيعة، وثالث من الخوارج، ورابع من المانوية ؛ ومن شاعر غزلي، وفيلسوف مادي، ومسيحي، ويهودي، وصابئي، وزرادشتي. ويقول المؤرخون إن اجتماعات هؤلاء الأعضاء كان يسودها روح التسامح المتبادل، والفكاهة الحلوة، والنقاش الهادئ الذي يمتاز بالأدب والمجاملة . ويكن القول بوجه عام إن المجتمع الإسلامي كان مجتمعاً ذا أدبٍ راقٍ إلي أقصى حدود الرقي؛ وما من شك في أن الشرق من عهد قورش إلى لي هونج تشانج قد فاق الغرب في الرقة الكياسة؛ وكان من المظاهر التي تشرف بها الحياة في بغداد أن الفنون العلوم التي لا يحرمها الإسلام كانت كلها بلا استثناء تجد فيها من يشجعها ويأخذ بناصرها، وأن المدارس على اختلاف درجاتها كانت كثيرة العدد منتشرة في جميع الأنحاء، وأن الهواء كان يردد أصداء الشعراء.

ولا يحدثنا المؤرخون بالشيء الكثير عن حياة الدهماء، وكل ما نستطيع أن نفترضه هو أنهم كانوا يعملون على بقاء هذا الصرح الفخم بخدماتهم وكدحهم.

فبينا كان الأغنياء يلهون الآداب، والفنون، والفلسفة، والعلم، كان عامة الشعب السذج يستمعون إلى المغنين في الشوارع، أو يعزفون على أعوادهم وينشدون أغانيهم. وكان يسير بين الفينة والفينة موكب عرس يبدل من ضجيج الشوارع ورائحتها، وكان الناس في أيام الأعياد يتزاورون، ويتبادلون الهدايا، ويعنون كل العناية باحتساب قيمة ما يتبادلانه منها، ويطعمون في تلك الأيام بشهية أقوى من شهية الذين يطعمون في صحاف الذهب. وحتى الفقير نفسه كان له حظ في جلال الخليفة وفخامة المسجد، ولم يكن محروماً من دريهمات من دنانير الخوارج الذي كان يرد إلى بغداد. وكان يسير فخوراُ معتزاً بأنه ابن العاصمة الكبيرة، وكان في قرارة نفسه يعد نفسه واحداً من سادة العالم وحكامه.