قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 2 ب 10

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 4499

قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> سيف الإسلام -> الخلفاء الراشدون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب العاشر: سيف الإسلام 632-1058

الفصل الأول: الخلفاء الراشدون 632-660

مات النبي ولم يعين من يخلفه من بعده، ولكنه كان اختار أبا بكر (573-634) ليؤم المسلمين في مسجد المدينة، واقتنع المسلمون بعد شيء من الاضطراب والتنافس بأن هذا التفضيل يجعل أبا بكر أحق الناس بأن يختار أول خليفة لهم .

ولم يكن لفظ خليفة في بادئ الأمر لقباً لأبي بكر، بل كان مجرد وصف له. وساء ذلك الاختيار علياً ابن عم محمد وزوج ابنته، وظل ستة أشهر ممتنعاً عن بيعة أبي بكر، وغضب لذلك أيضاً العباس عم النبي وعلي. ونشأ عن هذا الخلاف الأول أكثر من عشر حروب، كما نشأت عنه أسرة عباسية حاكمة، وانقسام اضطرب به العالم الإسلامي.

وكان أبو بكر وقتئذ في التاسعة والخمسين من عمره، وكان قصير القامة، نحيف الجسم، قوي البنية، قليل الشعر، أبيض اللحية حمراء الصبغة، بسيطاً في معيشته، متقشفاً، رحيماً في حزم، يعنى شخصياً بجميع شؤون الإدارة والقضاء جليلها وصغيرها على السواء، لا يهدأ له بال حتى يأخذ العدل مجراه، وظل يعمل ولا يتقاضى أجراً على عمله، وظل شديد التقشف حتى أقنعه الشعب بأن ينزل قليلاً عن تقشفه، ثم أوصى قبل وفاته بأن يعود إلى بيت مال المسلمين كل ما أرغم على أخذه منه. وحسبت قبائل بلاد العرب أن تواضعه ضعف. وإذا كان بعضها لم يتمكن الإسلام من قلوب أفرادها، ومنهم من اعتنقه كارهاً، فقد ارتد هؤلاء عنه، وأبوا أن يؤدوا الزكاة التي فرضها عليهم الإسلام. ولما أصر أبو بكر على وجوب أدائها زحفوا على المدينة، وجمع أبو بكر جيشاً في ليلة واحدة، وقاده بنفسهِ في مطلع الفجر، وبدد به شمل العصاة (632)، ثم أرسل خالد بن الوليد أشهر قواد المسلمين وأشدهم بطشاً، لقتال المرتدين في جزيرة العرب وإرغامهم على أداء الزكاة.

وربما كانت هذه الفتنة الداخلية من العوامل التي أدت إلى فتح العرب غربي آسية، ويلوح أن فكرة هذه المغامرة وهذا التوسع لم تكن تخطر ببال أحد من زعماء المسلمين حين تولى أبو بكر الخلافة. وحدث أن بعض القبائل العربية الضاربة في بلاد الشام رفضت المسيحية والخضوع للدولة البيزنطية، وصدت جيوش الإمبراطورية، وأرسلت تطلب النجدة من المسلمين، فأرسل إليها أبو بكر المدد، وعمل على نشر كراهية الدولة البيزنطية بين القبائل العربية. وكانت هذه فرصة مواتية لضم شتات العرب وتوحيد صفوفهم في حرب خارجية. وكان العرب-كما نعلم- قوماً ألفوا الحروب، فلبوا نداء أبو بكر لخوض غمارها وقد بدت في أول الأمر قصيرة الأجل. وسرعان ما أصبح بدو الصحراء المتشككون فيما مضى يضحون بحياتهم في سبيل نصرة الإسلام.

واجتمعت أسباب عدة عملت كلها على اتساع ملك العرب؛ فمن الأسباب الاقتصادية أن ضعف الحكومة النظامية في القرن السابق لظهور النبي قد أدى إلى انهيار نظم الري في جزيرة العرب(1)، فضعفت من جراء ذلك غلات الأرض الزراعية، وحاقت بالسكان المتزايدين أشد الأخطار، ولهذا فقد تكون الحاجة إلى أرض صالحة للزرع والرعي من العوامل التي دفعت جيوش المسلمين إلى الغزو والفتح(2). يضاف إلى هذا عدة أسباب: منها أن الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية قد أنهكتهما الحروب، وما حل بكلتيهما من الدمار على يد الأخرى، فكان ضعفهما مغرياً للعرب على غزو بلادهما، ولقد كانت الضرائب في ولايات الدولتين تزداد زيادة مطردة، والأداة الحكومية تزداد عجزاً عن تصريف شؤون الحكم وحماية الأهلين، كذلك كان للصلات العنصرية بين المسلمين وسكان بعض الولايات شأن غير قليل في هذا التوسع. فقد كان في الشام والعراق قبائل عربية لم تجد صعوبة في قبولها حكم العرب الغزاة أولاً، ثم اعتناق دينهم بعدئذ. يضاف إلى هذا عوامل دينية: منها أن اضطهاد بيزنطية لليعاقبة والنساطرة وغيرها من الشيع المسيحية قد أحفظ عليها قلوب أقلية كبيرة من السوريين والمصريين، بل تعداها إلى بعض الحاميات الإمبراطورية. ولما سار الفتح في طريقه زادت الأسباب الدينية قوة على قوتها؛ فقد كان قادة المسلمين من صحابة النبي المتحمسين، يصلون وهم يحاربون، ويصلون أكثر مما يحاربون، وقد بعثوا في قلوب أتباعهم على مر الأيام روحاً حماسية قوية اعتقدوا معها أن الموت في الجهاد يفتح لهم أبواب الجنة. وهناك فوق ذلك عوامل أخلاقية لها أيضاً شأنها في هذه الفتوح: ذلك أن المبادئ الأخلاقية المسيحية والرهبنة قد أضعفتا في بلاد الشرق الأدنى ذلك الاستعداد للقتال الذي كان من طبيعة العرب ومن تعاليم الإسلام. ولقد كانت جيوش العرب خيراً من جيوش الفرس والروم نظاماً وأحسن قيادة، يألفون المشاق وينالون جزاءهم من الفيء، لقد كان في وسعهم أن يحاربوا وبطونهم خاوية، ويعتمدوا على النصر في الحصول على طعامهم. ولكنهم لم يكونوا في حروبهم همجاً متوحشين، انظر إلى ما أوصاهم به أبو بكر: "أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، ولا بعيراً إلا لمأكله؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له؛ وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منه شيئاً فاذكروا اسم الله عليه؛ وتلقون قوماً قد محضوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً... اندفعوا باسم الله إلخ"(3).

ولم يكن الأعداء يخيرون بين الإسلام والسيف، بل كان الخيار بين الإسلام والجزية والسيف. وكانت هناك أخيراً أسباب حربية للغزو والفتح: ذلك أنه لما تضاعف عدد الجيوش العربية الظافرة ومن انظم إليها من المجندين كان لا بد من الزحف بهم إلى أرضين جديدة يفتحونها ليحصلوا منها على طعامهم وأجورهم إن لم يكن لغير ذلك من الأسباب. ونشأ من تقدمهم قوة هذا التقدم الدافعة، فكان كل نصر يتطلب نصراً جديداً، حتى أصبحت الفتوح العربية-التي كانت أسرع من الفتوح الرومانية، وأبقى على الزمان من الفتوح المغولية- أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله.

وحدث في أوائل عام 633، بعد أن بسط خالد بن الوليد "لواء السلم" على جزيرة العرب، أن دعته إحدى قبائل البدو الضاربة على حدود الجزيرة للانضمام إليها في محاربة بعض العشائر داخل حدود العراق، وقبل خالد وخمسمائة من رجاله للدعوة لأنهم لم يكونوا يطيقون التعطل أو الركون إلى السلم طويلاً، وانظم إليهم ألفان وخمسمائة من رجال القبائل، وغزوا أملاك الفرس. ولسنا نعلم هل وافق أبو بكر على هذه الحملة قبل الإقدام عليها أو لم يوافق، وسواء كان ذلك أو لم يكن فالظاهر أنه قبل ما أسفرت عنه من نتائج قبول الفلاسفة. واستولى خالد على الحيرة وأصاب فيها من الفيء ونال كل فارس منه ما أنطق أبا بكر بمقالته الشهيرة: "يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خرازيله، أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد؟"(4). ولقد أصبحت المرأة وقتئذ ذات شأن كبير في تفكير الظافرين ومغانمهم. وشاهد ذلك أنه بينما كان العرب يحاصرون حمص أثار قائد شاب من قواد العرب حماسة الجنود بأن وصف لهم جمال فتيات الشام، ولما استسلمت الحيرة اشترط خالد على أهلها أن تعطي سيدة تدعى كرامة إلى جندي عربي قال إن النبي قد وعده بها "فاشتد على أهل بيتها، وأهل قريتها ما وقعت فيه فاعظموا الخطر فقالت: لا تخطروه ولكن اصبروا ما تخافون امرأة بلغت ثمانين سنة؟ فإنما هذا رجل أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم، فدفعوها إلى خالد، فدفعها خالد إليه، ثم افتدت منه نفسها بألف درهم، وكانت تسوى أضعاف ذلك(5).

وقبل أن يستمتع خالد بثمار انتصاره في الحيرة بعث إليه الخليفة يأمره بالسير لإنقاذ قوة من العرب يتهددها جيش من الروم أكثر منها عدداً بالقرب من دمشق. وكان بين الحيرة ودمشق في الوقت شقة من الصحراء الجدباء الخالية من موارد الماء يقطعها المسافر في خمسة أيام. فجمع خالد الإبل؛ وسقاها الماء بوفرة؛ وكان الجند في أثناء زحفهم يأخذون الماء من بطون الإبل بعد ذبحها، ويسقون خيولهم لبنها. ولما أن وصل هو وجنوده إلى الجيش العربي الرئيسي المعسكر على ضفاف نهر اليرموك على بعد ستين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من دمشق كانت تلك المؤن قد نفدت. وهناك كما يقول المؤرخون العرب هزم 000،40 (000،25؟) من العرب 000،240 (000،50؟) من الروم في إحدى المعارك الفاضلة التي لا حصر لها في التاريخ (634). وهكذا قامر الإمبراطور هرقل ببلاد الشام كلها في معركة واحدة، فلما خسرها أصبحت تلك البلاد قاعدة الدولة العربية الآخذة في الاتساع.

وبينما كان خالد يقود جيوشه إلى النصر في هذه المعركة، إذ وصلته رسالة تنبئه بوفاة أبي بكر ويأمره فيها عمر الخليفة الجديد أن يتخلى عن القيادة لأبي عبيدة. وأخفى خالد الرسالة عن المسلمين حتى انتهت المعركة. وكان عمر أبو حفصة ابن الخطاب (582-644) أكبر معين لأبي بكر وأعظم مشيريه، وكان قد بلغ من الشهرة درجة لم يجد معها أحد سبباً للاعتراض حين اختاره أبو بكر خليفة للمسلمين من بعدهِ. غير أن عمر نفسه كان يختلف عن صديقهِ أبي بكر كل الاختلاف. كان طويل القامة، عريض المنكبين، حاد الطبع شديد الانفعال، لا يتفق معه إلا في بساطتهِ وتقشفهِ، وفي أنه كان مثله أصلع الرأس يصبغ لحيته. وكانت صروف الدهر وتبعات الحكم قد أنضجت عقله فجعلته مزيجاً عجيباً نادراً من حدة الطبع والقدرة على الحكم الهادئ الصادق؛ ويحكى عنه أنه ضرب بدوياً من غير حق ثم ألح عليه-دون جدوى-أن يكيل له الضربات بقدر ما كاله هو له. وكان شديد التمسك بالدين يطلب إلى كل مسلم ألا يحيد قيد شعرة عن الفضيلة. وكان يحمل معه درة يضرب بها كل من يراه من المسلمين خارجاً على أصول الدين(6). وتقول بعض الروايات إنه ضرب ابنه حتى مات من الضرب لمعاقرته الخمر(7). ويقول المؤرخون المسلمون إنه لم يكن له إلا قميص واحد، وجلباب واحد رقعه عدة مرات، وإنه كان يعيش على التمر وخبز الشعير، ولا يشرب غير الماء، وإنه كان ينام على سرير من جريد النخل، وهو لا يكاد يكون أقل صلابة وخشونة من قميص الشعر، وإن همه كله كان منصرفاً إلى نشر الإسلام بالسلم وبالحرب. ويقال إن أحد ولاة الفرس جاء إلى عمر يعرض عليه ولاءه، فوجد فاتح الشرق نائماً على عتبة جامع المدينة؛ ولكننا لا نجزم بصحة هذه القصص وأمثالها.

وكان السبب الذي من أجله عزل عمر خالداً من القيادة أن "سيف الله" كثيراُ ما لوث شجاعته بقسوته. ونظر القائد الباسل إلى مسألة تنحيته نظرة ملؤها الشهامة، وما هو أجمل من الشهامة؛ فقد وضع نفسه تحت تصرف أبي عبيدة بلا قيد ولا شرط. وأوتي أبو عبيدة من الحكمة ما جعله يتبع مشورة خالد في شؤون الحرب، ويعارض قسوته بعد النصر. وكان العرب فرساناً مهرة لا يضارعهم في مهارتهم خيالة الفرس والروم، ولم يكن في أوائل العصور الوسطى إنسان أو حيوان يستطيع أن يقاوم صيحاتهم الحربية العجيبة، أو حركاتهم العسكرية المحيرة، أو سرعة كرهم وفرهم؛ وكانوا يحرصون عن أن يختاروا للنزال الأراضي المستوية التي توائم حركات الفرسان. واستولوا على إنطاكية في عام 636، وعلى بيت المقدس في عام 638، ولم ينتهِ عام 640 حتى كانت بلاد الشام في أيدي المسلمين، وقبل أن يختتم عام 641 كانوا قد أتموا فتح بلاد الفرس ومصر. ووافق البطريق سفرونيوس Sophronius على تسليم بيت المقدس إذا جاء الخليفة نفسه للتصديق على شروط التسليم، وقبل عمر هذا الشرط، وجاء من المدينة في بساطة أفخر من الفخامة، ومعه عدل من الحب وكيس من التمر، ووعاء ماء، وصحفة من الخشب. وخرج خالد وأبو عبيدة وغيرهما من قواد الجيش لاستقباله، فغضب حين أبصر ثيابهم المهفهفة، وعدد خيولهم المزركشة، وألقى بحفنة من الحصباء في وجوههم ولامهم على أنهم جاءوا يستقبلونه في ذلك الزي. وقابل سفرونيوس مقابلة ملؤها اللطف والمجاملة، ولم يفرض على المغلوبين إلا جزية قليلة، وأمن المسيحيين عل كنائسهم. ويقول المؤرخون المسيحيون إنه طاف مع البطريق ببيت المقدس، واختار في العشرة الأيام التي أقامها فيها موضع المسجد الذي سمي فيما بعد باسمهِ. ولما سمع أن أهل المدينة يخشون أن يتخذ بيت المقدس عاصمة للدولة الإسلامية عاد إلى عاصمته الصغيرة.

وما كاد الأمر يستتب للمسلمين في بلاد الشام وبلاد الفرس حتى أخذوا يهجرون من جزيرة العرب إلى الشمال والشرق، وكانت هذه الهجرة شبيهة بهجرة القبائل الجرمانية إلى الولايات الرومانية التي غزتها هذه القبائل، وشملت الهجرة الرجال والنساء.

وبفضل هذه الهجرة والتسري أصبح عدد العرب في بلاد الشام وفارس نصف مليون نسمة قبل أن يحل عام 644. ونهى عمر الفاتحين عن شراء الأرض وفلحها، وكان يرجو أن يبقوا في خارج جزيرة العرب طبقة عسكرية، تمدهم الدولة بما يكفيهم، لكي يحتفظوا بصفاتهم الحربية، غير أن أوامره في هذا قد أغفلت بعد موته، بل إنها كاد يقضي عليها سخاؤه في أثناء حياتهِ؛ ذلك أنه كان يوزع أربعة أخماس الفيء على الجيش، ويخص بيت المال بالخمس الباقي. ولم تلبث أقلية الرجال ذوي العقول الكبيرة أن جمعت معظم الطيبات من هذه الثروة العربية الآخذة في النماء، وأخذ أشراف قريش يشيدون القصور الفخمة في مكة والمدينة، فكان للزبير بيوت في عدة مدن مختلفة، وكان يمتلك ألف جواد، وعشرة آلاف عبد؛ وكان عبد الرحمن يمتلك ألف بعير، وعشرة آلاف رأس من الضأن، وأربعمائة ألف دينار (1.912.000 دولار) وكان عمر ينظر بحسرة وأسى إلى هذا الترف الذي أخذ مواطنوه يتردون فيه.

وطعنه مولى فارسي وهو يؤم الصلاة في المسجد (644)، ولم يستطع عمر وهو على فراش الموت أن يقنع عبد الرحمن بأن يكون خليفة من بعدهِ فعين ستة من زعماء المسلمين ليختاروا من يخلفه، فاختاروا من بينهم عثمان. وكان عثمان بن عفان شيخاً مسناً، طيب القلب، حسن النية، أعاد بناء مسجد المدينة وجمله، وأعان بماله جيوش المسلمين التي نشرت الإسلام في هيرات، وكابل، وبلخ، وتفليس، وفي ربوع آسية الصغرى حتى البحر الأسود، ولكنه لسوء حظه كان شديد الولاء لأشراف بني أمية الذين كانوا في أيام الإسلام الأولى ألد أعداء النبي، فأقبل بنو أمية على المدينة ليجنوا ثمار قرابتهم للخليفة، ولم يكن في وسعه أن يقاوم مطالبهم. ولم يلبث أن تولى بعض المناصب المجزية أكثر من عشرة منهم كانوا يسخرون من تزمت أتقياء المسلمين وبساطتهم. وانقسم المسلمون بعد أن هدأت سورة النصر أحزاباً متباغضة شديدة العداء، المهاجرون القادمون من مكة ضد الأنصار أهل المدينة، وأهل مكة والمدينة أصحاب السلطان ضد دمشق، والكوفة، والبصرة، وهي المدن الإسلامية الآخذة في النماء السريع، وبنو هاشم أهل النبي وعلي رأسهم علي ضد بني أمية وعلى رأسهم معاوية حاكم الشام وابن أبي سفيان ألد أعداء النبي في بداية الدعوة. وفي عام 654 أخذ رجل يهودي ممن اعتنقوا الإسلام يدعو في البصرة إلى عقيدة ثورية، مضمونها أن النبي سيبعث حياً على هذه الأرض، وأن علياً أحق الناس بالخلافة، وأن عثمان لا حق له فيها، وأن من اختاروه لها جماعة من الطغاة الخارجين على الدين. ولما طرد هذا الداعية من البصرة نزح إلى الكوفة، فلما أخرج من الكوفة انتقل إلى مصر حيث وجدت دعوته آذاناً صاغية واعتنقها كثيرون، وخرج من مصر إلى المدينة خمسمائة من المسلمين وطلبوا إلى عثمان أن يعتزل الخلافة، فلما أبى حاصروا بيته، ثم اقتحموا عليه حجرته وقتلوه وهو يتلو القرآن (656).

وفر زعماء بني أمية من المدينة وبايع بنو هاشم علياً خليفة للمسلمين. وكان علي في شبابه مثلاً أعلى للتواضع، والتقوى، والنشاط، والإخلاص للدين. وكان وقت أن بويع بالخلافة في الخامسة والخمسين من عمرهِ، أصلع الرأس، ممتلئ الجسم، لطيف المعشر، محسناً، كثير التفكير، متحفظاً في قولهِ؛ ولم يكن مرتاحاً لهذه المأساة التي عدت فيها السياسة على الدين، ولت فيها الدسائس محل الخشوع والإخلاص للإسلام والمسلمين. وطلب إليه أن يقتص من قتلة عثمان، ولكنه تباطأ فتمكنوا من الفرار؛ وطالب هو أن يعتزل من ولاهم عثمان مناصبهم، فأبى معظمهم؛ ولم يكتفِ معاوية برفض هذا الطلب بل نشر في دمشق قميص عثمان الملطخ بالدماء، وأصابع زوجته التي قطعت وهي تحاول الدفاع عنه. وظاهرت قريش معاوية، وكان بنو أمية هم المسيطرين وقتئذ عليها، وخرج على عليّ طلحة والزبير من أصحاب الرسول، وطالباهما أيضاً بالخلافة. وخرجت عائشة زوج النبي من المدينة إلى مكة وانضمت إلى الثوار. ولما أعلن مسلمو البصرة انضمامهم للثائرين استنجد عليّ بأهل الكوفة المضرسين بالقتال، ووعدهم أن يتخذها عاصمة الدولة إذا هم لبوا نداءه. فأجابوه دعوته والتقى الجيشان في جنوبي العراق في واقعة الجمل-وسميت كذلك لأن عائشة كانت تحرض الجند على القتال من هودجها على ظهر الجمل. وهُزم طلحة والزبير وقتلا، وردت عائشة إلى بيتها معززة مكرمة، ونقل عليّ العاصمة إلى الكوفة القريبة من موقع بابل القديمة.

وجهز معاوية في دمشق قوة أخرى لقتال عليّ. وكان معاوية خبيراً بشؤون الدنيا غير متزمت في الدين، وكان يرى في الدين بديلاً من الشرطة أقل منها نفقة ولكنه لا يصح أن يكون حائلاً بينه وبين الاستمتاع بطيبات الحياة. وكان من الأغراض التي يبتغيها بمحاربة عليّ أن يعيد إلى الأقلية المصطفاة من قريش السلطة والزعامة اللتين كانتا لها قبل أيام النبي. وأعاد عليَّ تنظيم قواه والتقت بجيش معاوية عند صفين على نهر الفرات (657). وكاد النصر يتم لعليّ لولا أن عمرو بن العاص قائد جيش معاوية رفع المصاحف على أسنة الرماح طالباً تحكيم "كتاب الله"، ولعله كان يعني بهذا إتباع الأوامر الواردة في القرآن (الكريم). ورضي عليّ بهذا الطلب إجابة لإلحاح جنوده، واختير الحكمان وحدد لهما ستة أشهر يفصلان خلالها في النزاع ويعود الجنود فيها إلى بيوتهم. ولكن بعض رجال عليّ خرجوا عليه في ذلك الوقت، وألفوا منهم جيشاً مستقلاً وسموا بالخوارج، وقالوا إن الخليفة يجب أن يختاره الشعب وأن يكون من حقه أن يعزله؛ وكان بعضهم فوضويين دينيين يرفضون كل حكومة ما عدا حكومة الله(9) وكانوا كلهم ينددون بما انغمس فيه حكام الإسلام الجدد من ترف وحب لمتاع الدنيا، وحاول عليّ أن يعيدهم إلى الانضواء تحت لوائه بالحجة والإقناع فلم يفلح، ثم استحالت تقواهم تعصباً، وعبروا عنها بأعمال اتسمت بالعنف والإخلال بالنظام، فلم يسع علياً إلا أن يعلن عليهم الحرب، ويشتت شملهم. واتفق الحكمان في الوقت المحدد لهما على أن يتنحى عليّ ومعاوية عن الخلافة، وأعلن ممثل عليّ خلعه، ولكن عمراً لم يخلع معاوية بل ثبته خليفة للمسلمين. وفي هذا الاضطراب هجم رجل من الخوارج على عليَّ بالقرب من الكوفة وطعنه في رأسه بسيف مسموم (661). وأصبح المكان الذي مات فيه عليَّ مزاراً مقدساً عند طائفة الشيعة التي تقدسه أعظم التقديس، واتخذت ضريحه مكاناً تحج إليه كما يحج سائر المسلمين إلى مكة نفسها. وبايع المسلمون في العراق الحسن بن عليّ بالخلافة، وزحف معاوية على الكوفة، فاستسلم له الحسن، وقرر له معاوية مالاً يعيش منه، وانسحب الحسن إلى مكة، ومات في الخامسة والأربعين من عمره (669)، فمن قائل إن الخليفة دس له السم، ومن قائل إن زوجة من زوجاته دفعتها الغيرة إلى أن تدسه له. وبايع المسلمون جميعاً معاوية على كره منهم، ولكنه أراد أن يضمن السلامة لنفسهِ، ورأى أن المدينة بعيدة عن مركز العالم الإسلامي والسلطة الإسلامية، فاتخذ دمشق مقراً للخلافة. وهكذا انتصرت الأرستقراطية القرشية على الهاشميين آل بيت النبي، واستحالت "الجمهورية" الدينية، وهي الحكومة التي كانت قائمة أيام الخلفاء الراشدين، ملكية دنيوية وراثية. وحل حكم الساميين في غرب آسية محل حكم الفرس والروم، وطهرت آسية من تلك السيطرة الأوربية التي ظلت قائمة فيها ألف عام، وشكلت بلاد الشرق الأدنى ومصر وشمالي أفريقية بالشكل الذي احتفظت به في جوهره ثلاثة عشر قرناً من الزمان.


الفصل الثاني: الخلافة الأموية 661-750

يجب علينا ألا نظلم معاوية. لقد استحوذ على السلطة في بادئ الأمر حين عينه الخليفة الفاضل النزيه والياً على الشام، ثم بتزعمه الثورة التي أوقد نارها مقتل عثمان، ثم بما دبره من الدسائس البارعة التي أغنته عن الالتجاء إلى القوة إلا في ظروف جد نادرة، ومن أقواله في هذا المعنى "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولم أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت" قيل: وكيف يا أمير المؤمنين؟ قال: "إذا مدوها خليتها وإن خلوها مددته"(10).

ولقد كان طريقه إلى السلطة أقل تخضباً بالدماء من طرق معظم من أسسوا أسراً حاكمة جديدة.

وكان يحس كما يحس كثيرون من المغتصبين أنه بحاجة إلى أن يحيط عرشه بالأبهة والمظاهر الفخمة، وتشبه في هذا بأباطرة الدولة البيزنطية، الذين تشبهوا هم أنفسهم بملك ملوك الفرس. وإن بقاء هذا الطراز من الحكومة الملكية الفردية من عهد قورش إلى يومنا ليوحي بصلاحيته لحكم الشعوب الجاهلة واستغلالها. وكان معاوية نفسه يشعر بأن حكمه هذا يبرره ما عاد على البلاد في أثنائه من الرخاء، وانقطاع النزاع بين القبائل، وما بلغته الدولة العربية الممتدة من نهر جيحون إلى نهر النيل من قوة وتماسك. وكان يرى ألا سبيل إلى اتقاء النزاع الذي لابد أن يحدث عند اختيار الخليفة إذا ما اتبع مبدأ الانتخاب، وما يؤدي إليه هذا النزاع من اضطراب وفوضى، إلا إذا استبدل به النظام الوراثي، فنادى بابنه يزيد وليَّاً للعهد، وأخذ له البيعة من جميع ولايات الدولة العربية.

ومع هذا فإنه لما مات معاوية (680) اشتعلت نار الحرب من أجل وراثة العرش، كما اشتعلت في بداية حكمه. فقد أرسل مسلمو الكوفة إلى الحسين بن عليَّ يَعِدُونَهُ بتأييد اختياره للخلافة إذا جاءهم واتخذ بلدهم مقراً لها. وخرج الحسين من مكة ومعه أسرته وسبعون من أتباعه المخلصين له. ولما أصبحت تلك القافلة على بعد خمسة وعشرين ميلاً في شمال الكوفة قابلتها قوة من جند يزيد بقيادة عبيد الله، وعرض حسين أن يسلم، ولكن من كانوا معه أبوا إلا القتال. وأصاب أحد السهام الأولى قاسماً ابن أخي الحسين وهو غلام في العاشرة من عمره، فمات بين ذراعي عمه، ثم سقط من بعده أخوة الحسين وأبناؤه، وبنو أعمامه، وأبناء أخوته واحداً بعد واحد، حتى لم يبقَ أحد ممن كانوا معه، واستولى الرعب والهلع وقتئذ على النساء؛ ولما حمل رأس الحسين إلى الكوفة أقبل عبد الله ينكثه بالقضيب؛ فقال له أحد الحاضرين: "ارفع قضيبك فطال والله ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع فمه على فمه يلثمه"(11) (680). وأقام الشيعة في كربلاء حيث قتل الحسين مشهداً عظيماً تخليداً لذكراه، ولا يزالون حتى اليوم يمثلون في كل عام مأساة قتله، ويظهرون في ذلك أشد الحزن والأسى، ويمجدون ذكرى عليّ وولديه الحسن والحسين. كذلك ثار على يزيد عبد الله بن الزبير، ولكن جنود يزيد السوريين هزموه وحاصروه في مكة، وسقطت الحجارة من مجانيقهم في فناء الكعبة، وأنكسر منها الحجر الأسود ثلاث قطع، واشتعلت النار في الكعبة نفسها، والتهمتها عن آخرها (683). ثم رفع الحصار عنها فجأة، فقد مات يزيد واحتيج إلى الجيش في دمشق. وأعقب موته سنتان سادت فيهما الفوضى وتولى الخلافة فيها ثلاثة من الخلفاء جاء بعدهم عبد الملك بن مروان ابن عم معاوية فقضى على هذا الاضطراب وأخمد الفتنة بشجاعة وقسوة، فلما استتب له الأمر حكم البلاد بكثير من الرأفة، والحكمة والعدالة. وأخضع قائده الحجاج بن يوسف أهل الكوفة وأعاد حصار مكة. ودافع عنها عبد الملك، وكان وقتئذ في الثانية والسبعين من عمره، دفاع الأبطال، وكانت أمه المعمرة تشجعه وتحرضه، ولكنه هُزم وقُتل، وحمل رأسه إلى أمه؛ وبعد أن ظل جسده مصلوباً بعض الوقت اُسلم إلى أمه (692). وفي سني السلم التي أعقبت هذا القتال، أخذ عبد الملك يقرض الشعر، ويناصر الأدب، ويُعنى بشؤون بيتهِ، ويربي أبناءه الخمسة عشر، وقد تولى الخلافة منهم أربعة.

ودام حكمه عشرين عاماً مهد فيها السبيل للأعمال العظيمة التي قام بها ابنه الوليد الأول (705-715). ففي عهده واصل العرب فتوحهم، فاستولوا على بلخ في عام 705، وعلى بخارى في عام 709، وفتحوا أسبانيا في عام 711، وسمرقند في 712. وفي الشرق حكم الحجاج البلاد بحزم وجد وقام فيها بأعمال إنشائية لا تقل عما لجأ إليهِ في هذا الحكم من قسوة: فقد جفف المستنقعات، وأصلح كثيراً من الأراضي وأعدها للزراعة، وأعاد فتح ما طمر من قنوات الري وأصلحها. ثم لم يقنع بهذه الأعمال فأحدث انقلاباً كبيراً في طريقة الكتابة باستعمال حركات الإعراب، وكان الحجاج مدرساً قبل أن يكون والياً. أما الوليد نفسه فكان مثلاً طيباً للحكام، يُعنى بشؤون الإدارة أكثر من عنايته بالحرب، ويشجع الصناعة والتجارة بفتح الأسواق الجديدة وإصلاح الطرق، ويُنشئ المدارس والمستشفيات-ومنها أول مستشفى معروف للأمراض المعدية-وملاجئ للشيوخ، والعجزة، والمكفوفين، ويوسع مساجد مكة والمدينة وبيت المقدس ويجملها، وينشئ في دمشق مسجداً أعظم من هذه المساجد وأفخم لا يزال باقياً فيها حتى اليوم. وكان يجد بين هذه المشاغل كلها متسعاً من الوقت يقرض فيه الشعر، ويؤلف الألحان الموسيقية، ويضرب على العود، ويستمع إلى غيره من الشعراء والموسيقيين، ويخصص من كل يومين يوماً للمنادمة(13).

وخلفه أخوه سليمان (715-717)، فأضاع المال والرجال في محاولة فاشلة للاستيلاء على القسطنطينية. وسلى نفسه بالطعام والنساء، ولم يذكره الناس بخير إلا لأنه أوصى بالخلافة لأبن عمه عمر بن عبد العزيز (717-720). واعتزم عمر أن يكفر في خلافته عن جميع ضروب الفساد التي ارتكبها أسلافه من خلفاء بني أمية. فجعل حياته كلها وقفاً على إحياء شعائر الدين ونشره فتقشف في لباسه، وارتدى الثياب المرقعة حتى لم يكن أحد يظن أنه هو خليفة المسلمين، وأمر زوجته بأن ترد إلى بيت المال ما أهداه إليها والدها من الحلي النفيسة فُصدعت بالأمر، وأبلغ أزواجه أن واجبات الحكم ستُشغله عن الالتفات إليهن وأذِن لم شئن منهن أن يفارقنه. ولم يلتفت إلى الشعراء، والخطباء، والعلماء الذين كانوا يعتمدون في معيشتهم على بلاط الخليفة، بل قرب إليه أتقى العلماء في الدولة وأتخذهم له أعواناً ومستشارين. وعقد الصلح مع الدول الأجنبية، وأمر برفع الحصار عن القسطنطينية وعودة الجيش الذي كان يحاصرها، واستدعى الحاميات التي كانت قائمة في المدن الإسلامية المعادية لحكم الأمويين. وبينما كان أسلافه من خلفاء الأمويين لا يشجعون غير المسلمين في بلاد الدولة على اعتناق الإسلام، حتى لا تقل الضرائب المفروضة عليهم، فإن عمر قد شجع المسيحيين، واليهود، والزرادشتيين على اعتناقه، ولما شكا إليه عماله القائمون على شؤون المال من هذه السياسة ستفقر بيت المال أجابهم بقولهِ: "والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا"(14). ولما أراد بعض مستشاريه أن يقفوا حركة الدخول في الإسلام بأن حتموا الختان على معتنقيه فعل عمر ما فعله القديس بولس من قبل، فأمرهم بالاستغناء عن الختان. ثم فرض قيوداً شديدة على من امتنعوا عن الإسلام، فحرم عليهم مناصب الدولة، ومنعهم من بناء معابد جديدة، ودامت خلافته أقل من ثلاث سنين مرض بعدها ومات.

وكان يزيد الثاني (720-724) يختلف كل الاختلاف في أخلاقه وعاداته عن عمر بن عبد العزيز. كان يزيد يحب جارية تُدعى حبيبة بقدر ما كان عمر يُحب الإسلام. وكان قد ابتاعها في شبابه بأربعة آلاف قطعة من الذهب، وأرغمه أخوه سليمان، وكان هو الخليفة في ذلك الوقت أن يردها إلى بائعها، ولكن يزيد لم ينس جمالها وحنانها؛ فلما ولي الخلافة سألته زوجته هل بقي له شيء في العالم يرغب فيه؟. فأجابها "حبيبة" فبعثت زوجته الوفية من فورها إلى حبيبة، وأهدتها إليه، وانزوت هي في مجاهل الحريم ويروى أنه بينما هو يلهو مع حبيبة في يوم من الأيام إذ ألقى أثناء لهوه ببذرة عنب في فمها، فاختنقت وماتت بين ذراعيه. وحزن عليها يزيد حزناً مات من أثره بعد أسبوع من وفاتها. وحكم هشام (724-743) الدولة سبعة عشر عاماً حكماً عادلاً سادت فيه السلم، وأصلح في خلاله الشؤون الإدارية، وخفض الضرائب، وترك بيت المال بعد وفاته مليئاً بالأموال. ولكن فضائل القديس قد تكون سبباً في القضاء على الحاكم: فقد منيت جيوش هشام بعدة هزائم، وثار نقع الفتنة في الولايات، وعم الاستياء العاصمة التي كانت تتوق إلى خليفة مبذر متلاف. وجاء من بعده خلفاء جللوا بالعار تلك الأسرة التي امتاز خلفاؤها الأولون بالقدرة والمهارة، فعاشوا عيشة الترف والفساد، وأهملوا شؤون الحكم. فكان الوليد الثاني (734-744) فاسد الخلاق، خارجاً على قواعد الدين، منغمساً في الشهوات البدنية، ولما سمع بنبأ وفاة عمه هشام سره النبأ أيما سرور، وقبض على ابن هشام نفسه، وصادر أموال أهل الخليفة المتوفى، وبدد أموال الخزانة بحكمه الفاسد، وهباته التي لا حد لها. ويروي عنه أعداؤه أنه كان يسبح في بركة من الخمر، ويشفي منها غلته وهو سابح فيها، وأنه ضرب القرآن بالنبال وهو يقول:

أتوعد كل جبار عنيد، فها أنا ذاك جبار عنيد. إذا لاقيت ربك يوم حشرٍ، فقل لله مزقني الوليد@ وقتل يزيد بن الوليد الأول هذا الخليفة المستهتر الماجن، وتولى الخلافة ستة أشهر ومات في عام 744. وخلفه على العرش أخوه إبراهيم، ولكنه لم يستطع حمايته، فخلعه أحد قوادهِ الأقوياء هو مروان الثاني، وحكم ست سنين مليئة بالمآسي، وكان هو آخر الخلفاء من بني أمية في الشرق.

وإذا نظرنا إلى أعمال الخلفاء من بني أمية من وجهة النظر الدنيوية حكمنا بأن هذه الأعمال قد عادت بالخير على الإسلام. فقد وسعوا حدود البلاد السياسية إلى مدى لم تبلغه قط فيما بعد. وإذا ما استثنينا بعض فترات مشئومة من تاريخهم فإنهم قد حكموا الدولة الجديدة حكماً منظماً حراً. لكن نظام الملكية المطلقة الوراثية أدى إلى ما يؤدي إليه عادةً في جميع البلاد، فتولى الخلافة في القرن الثامن خلفاء عاجزون أفقروا بيت المال، وتركوا شؤون الحكم للخصيان، وفقدوا السيطرة على النزعة الانفرادية العربية، التي حالت في أكثر الأوقات بين المسلمين وبين قيام دولة إسلامية موحدة. وقد ظل النزاع بين القبائل لم تنقطع أسبابه وإن استحال نزاعاً بين الأحزاب السياسية؛ فقد كان بنو هاشم وبنو أمية يكره بعضهم بعضاً، كأن أواشج القربة بينهم قد أضحت أشد وأقرب مما كانت في أيامهم السابقة. ونفرت بلاد العرب ومصر والفرس من سيطرة دمشق عليه؛ وأخذ الفرس يدعون أنهم أرقى من العرب، وأنهم لذلك لا يطيقون أن تحكمهم بلاد الشام، وقد كانوا من قبل لا يدعون أكثر من أنهم لا يقلون شأناً عن العرب. وساء أبناء النبي أن يروا بلاد المسلمين يتولى شؤونها خلفاء من بني أمية الذين كان منهم أشد أعداء النبي وآخر من آمنوا بهِ، وروعهم فساد أخلاق الخلفاء الأمويين، ولعلهم قد روعهم كذلك تساهلهم الديني، وكانوا يدعون الله أن يرسل من قبله من ينقذهم من هذا الحكم المذل.

ولم يكن ينقص هذه القوى المعادية إلا شخصية قوية مبدعة توجد صفوفها وتنطقها بمطالبها. وقيض لها هذا الزعيم في شخص أبي العباس السفاح حفيد أحد أعمام النبي، فتولى قيادتها من مكمن لها في فلسطين، ونظم الثورة في الولايات واستمال إليه الوطنيين الشيعة في بلاد الفرس فأيدوه أشد التأييد، حتى إذا كان عام 749 نادى بنفسه خليفة في الكوفة. والتقى جيش مروان الثاني بالثوار يقودهم عبد الله عم العباس على نهر الزاب، فهُزم مروان وجيوشه، وبعد عام من هزيمته استسلمت دمشق بعد أن ضُرب عليها الحصار، ثم قُبض بعدئذ على مروان وقُتل وحُمل رأسه إلى أبي العباس، ولكن الخليفة الجديد لم يكتفِ بهذا، وقال:


"لو يشربون دمي لم يروِ شاربهم ولا دماؤهم للغيظ ترويني"


وسمي أبو العباس بالسفاح أي سفاك الدماء لأنه أمر بأن يطارد أمراء بني أمية ويقتلوا أينما وجدوا، ليقضي بذلك على ما عسى أن يقوم به أفراد الأسرة الساقطة من فتن. ونفذ عبد الله، الذي عُين والياً على الشام، هذا الأمر، في يسر وسرعة، فأعلن عفواً عاماً عن الأمويين، وأكده لهم بدعوة ثمانين من زعمائهم إلى وليمة. وبينما هم على الطعام إذا أشار إلى جنودهِ في مخبئهم، فخرجوا عليهم ورموا رؤوسهم بالسيوف، ثم فرشت الطنافس فوق جثث القتلى، واستمرت المأدبة. واستبدل بزعماء الأمويين رجال من العباسيين جلسوا فوق جثث أعدائهم، يشنفون أسماعهم بأنين الموتى. وأخرجت جثث بعض الموتى من خلفاء بني أمية، وسيطت هياكلهم العظمية التي كادت أن تكون عارية من اللحم، وشنقت وحرقت، وذُرَ رمادها في الريح(15).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الخلافة العباسية (750-1058)

1- هارون الرشيد


وجد أبو العباس السفاح نفسه حاكماً لدولة واسعة الأرجاء تمتد من نهر السند إلى المحيط الأطلنطي، وتشمل بلاد السند (الشمال الغربي من الهند)، وبلوخستان وأفغانستان، والتركستان، وفارس، وأرض الجزيرة، وأرمينية، والشام، وفلسطين وقبرص، وكريت، (إقريطش)، ومصر، وشمالي أفريقية. ورفضت أسبانيا المسلمة الخضوع إليه، وخرجت بلاد السند عن طاعته في السنة الثانية عشرة من حكمه. ورأى السفاح أن دمشق تكرهه، وأنه لا يأمن على نفسه في مدينة الكوفة المشاكسة المضطربة، فنقل العاصمة إلى الأنبار الواقعة في شمال الكوفة. وكانت الكثرة الغالبة ممن رفعوه إلى العرش فرساً في ثقافتهم وأصولهم. وبعد أن ارتوى السفاح من دماء أعدائه اصطبغ بلاطه بشيء من الرقة ودماثة الأخلاق الفارسية، وجاءت من بعده طائفة من الخلفاء المستنيرين، استخدموا ثروة الدولة المتزايدة في مناصرة الفنون والآداب، والعلوم، والفلسفة حتى ازدهرت وأثمرت أينع الثمار؛ وبعد أن مضت مائة عام على بلاد الفرس، وهي في ذلة الخضوع غلبت غالبيها.

ومات السفاح بالجدري في عام 754، وخلفه أبو جعفر من أبيه ولقب بالمنصور. وكانت أمه جارية من البربر، وكانت أمهات جميع الخلفاء العباسيين السبعة والثلاثين إلا ثلاثة منهم جواري. وقد أدى إلى هذا ما جرى عليه الخلفاء من عادة اتخاذ السراري وجعل أبنائهم منهن أبناء شرعيين. وبهذه الوسيلة كان عدد أفراد الطبقة الأرستقراطية الإسلامية يزداد على الدوام بتأثير المصادفة وطابعها الديمقراطي، ومصائر الحب والحرب. وكان الخليفة الجديد في سن الأربعين، طويل القامة، نحيف الجسم، ملتحياً، أسمر البشرة، شديداً في معاملاته. ولم يكن أسير لجمال النساء أو مدمنا للخمر أو مولعاً بالغناء. ولكنه كان يناصر الآداب، والعلوم، والفنون، ويمتاز بعظيم قدرته، وحزمه، وشدة بطشه، وبفضل هذه الصفات ثبت دعائم أسرة حاكمة لولاه لماتت بموت السفاح. وقد وجه جهوده لتنظيم الأداة الحكومية، وبنى مدينة فخمة هي مدينة بغداد واتخذها عاصمة للدولة، وأعاد تنظيم الحكومة والجيش في صورتيهما اللتين احتفظا بهما إلى آخر أيام الدولة. وكان يشرف بنفسه على كل إدارة في دولاب الحكومة، وعلى جميع أعمال هذه الإدارات، وأرغم الموظفين المرتشين الفاسدين-ومنهم أخوه نفسه-على أن يردوا إلى بيت المال ما ابتزوه من أموال الدولة. وكان يراعي جانب الاقتصاد بل قل الحرص الشديد في إنفاق الأموال العامة، حتى نفر منه الأصدقاء، وأطلق عليه لشحه لقب "أبي الدواثق"(16). وقد أنشأ في بداية حكمه نظام الوزارة الذي أخذه عن الفرس، وكان له شأن عظيم في تاريخ العباسيين. وكان أول من شغل منصب الوزير في عهده خالد ابن برمك. وقد اضطلع بواجب خطير في حكم الدولة، وكان له شأن فيما وقع في أيام الدولة العباسية من أحداث جسام. وعمل المنصور وخالد على إيجاد النظام والرخاء اللذين جنى ثمارهما هرون الرشيد.

ومات المنصور بعد أن حكم البلاد حكماً صالحاً دام اثنتين وعشرين سنة وكان موته وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج. ولم يكن في وسع ابنه المهدي (775-785) إلا أن يسلك في حكمه سبيل الخير. وقد شمل عفوه جميع المذنبين إلا أشدهم خطراً على الدولة، وأنفق الأموال الطائلة في تجميل المدن وناصر الموسيقى والآداب، وأظهر في حكم البلاد كفاية ممتازة. وكانت بيزنطية قد انتهزت فرصة الثورة العباسية لاستعادة بعض الأقاليم التي فتحها العرب في آسية الصغرى، فسير عليها المهدي جيشاً بقيادة ابنه هرون لاسترداد هذه البلاد. وأخرج هرون الروم منها وردهم إلى القسطنطينية، وهدد تلك المدينة نفسها تهديداً اضطر الإمبراطورة إيرينية Irene أن تعقد معه صلحاً تعهدت بمقتضاه أن تؤدي للخليفة جزية سنوية مقدارها 70.000 دينار (832.000 دولار) (784). ومن ذلك الوقت أطلق المهدي على ابنه اسم هرون الرشيد. وكان قبل ذلك قد اختار ابناً آخر من أبنائه اسمه الهادي ولياً للعهد، فلما رأى ما امتاز به هرون من كفاية عظيمة طلب إلى الهادي أن ينزل عن حقه لأخيه الأصغر. وكان الهادي وقتئذ يقود جيشاً في بلاد الشرق فأبى أن يجيب أباه إلى طلبهِ، ورفض أن يطيع أمره بالعودة إلى بغداد. فخرج المهدي وهرون للقبض عليه، ولكن المهدي توفي في الطريق، وكان حين وفاته في الثالثة والأربعين من عمره. ورأى هرون اتباعه لنصيحة الوزير يحيى بن خالد البرمكي أن يبايع الهادي بالخلافة، على أن يكون هو ولياً للعهد، غير أنه كان في وسع عشرة من الدراويش أن يناموا على بساط واحد فإن ملكين لا تتسع لهما مملكة بأكملها كما يقول السعدي(17) في كتابه. فلم يعترف الهادي لأخيه بولاية العهد، وسجن يحيى، ونادى بابنه ولياً لعهده. ثم مات الهادي بعد زمن قصير (786)، وراجت إشاعة بأن أمه وكانت تفضل عليه هرون، كتمت أنفاسه بوسادة وضعتها على فمه. وارتقى هرون العرش، واتخذ يحيى وزيراً له، وبدأ أشهر حكم في تاريخ الإسلام.

وتصور لنا القصص-وخاصة ألف ليلة وليلة-هرون الرشيد في صور الملك المرح، المثقف، المستنير، العنيف في بعض الأوقات، الكريم الرحيم في أغلب الأحيان، الولع بالقصص الجميلة ولعاً يحمله على أن يسجلها ويحتفظ بها في ديوان محفوظات الدولة(18). وتبدو هذه الصفات كلها فيما كتبه عنه المؤرخون إذا استثنينا منه مرحه؛ ولعل السبب في ذلك أن هذا المرح قد أغضب المؤرخين. فهم يصورونه أولاً وقبل كل شيء في صورة الرجل الورع المتمسك، أشد التمسك بأوامر الدين، ويقولون إنه فرض أشد القيود على حرية غير المسلمين، وإنه كان يحج إلى مكة مرة كل عامين، وإنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة مع الصلوات المفروضة(19). ويقال إنه كان يشرب الخمر، ولكن هذا لم إلا سراً مع عدد قليل من خاصة أصدقائه(20). ويقال إنه تزوج من سبع نساء وكان له عدد من السراري رزق منهن بأحد عشر ولداً، وأربع عشرة بنتاً، كلهم وكلهن من الجواري عدا الأمين ابنه من الأميرة زبيدة. وكان كريماً سمحاً في أمواله على اختلاف أنواعها. من ذلك أنه لما أحب ولده المأمون إحدى فتيات قصر أبيه، أهداها إليه الخليفة، ولم يسأله ثمناً لها أن ينظم بعض أبيات من الشعر(21)، لأنه كان يحب الشعر أشد الحب، ويستمتع به استمتاعاً يحمله في بعض الأحيان على أن يثقل الشاعر الذي يعجب بشعره بالهدايا من غير حساب. من ذلك أنه أهدى الشاعر مروان على قصيدة مدحه بها خمسة آلاف قطعة من الذهب (750،23 دولار) ، وحلة ثمينة، وعشر جوار من بنات الروم، وجواداً كريماً(22). وكان أحب رفاقه إليه الشاعر الماجن أبو نواس. وكان كثيراً ما يغضب على أبي نواس لسفهه وسوء سيرته، ولكنه كان في كل مرة يصفح عنه لجودة شعره. وقد جمع حوله في بغداد عدداً عظيماُ من الشعراء، والفقهاء، والأطباء، والنحويين وعلماء البلاغة، والراقصات والراقصين، والفنانين، والفكهين المرحين. وكان ينقد أعمالهم وأقوالهم نقد العالم الخبير صاحب الذوق السليم، ويجزيهم عليها بسخاء، ويتلقى في نظير ذلك آلاف القصائد في مديحه والتغني بجوده. وكان هو نفسه عالماً وشاعراً، وخطيباً بليغاً. قوياً(23). ولسنا نعلم في التاريخ كله أن حاشية للملوك قد جمعت مثل ما جمعت حاشية الرشيد من ذوي العقول الراجحة النابهين. وكان يعاصره في غير بلاد الإسلام الإمبراطورة إيرينة في القسطنطينية، والملك شارلمان في فرنسا، ومن قبله بزمن قليل كان يجلس على عرش بلاد الصين تسوان دزونج Tsuan Tsung، ولكن هرون الرشيد بزهم جميعاً في الثراء، والسلطان، وأبهة الملك، والتقدم الثقافي الذي ازدان به حكمه. غير أن ولعه بالعلم والفن لم يلهه عن مهام الملك. فقد كان يشترك اشتراكاً فعلياً في تصريف شؤون الحكم، ونال شهرة واسعة بعدله في قضائه، وترك الخزانة عند وفاته عامرة بالمال فيها 48.000.000 دينار-على الرغم من أبهة الملك التي لم يسبق لها مثيل. وكان يقود جيوشه بنفسه في ميادين القتال، وقد احتفظ بتخوم البلاد سليمة آمنة. غير أنه كان يعهد بالشؤون الإدارية وبالخطط السياسية إلى وزيره الحكيم يحيى. فقد دعا إليه عقب جلوسه على العرش يحيى البرمكي وقال إنه يعهد إليه أمر جميع رعاياه ليحكمهم كما يشاء، ويولي من يشاء، ويصرف الأمور كما يرى، وأيد قوله هذا بأن أعطاه خاتمه(24). وكان هذا إفراطاً خطيراً في ثقته بالوزير، ولكن هرون كان يرى أنه، وهو لا يزال شاباً في الثانية والعشرين من عمره. لم يكمل استعداده بعد لحكم الدولة الواسعة التي آل أمرها إليه؛ وكان عمله هذا تعبيراً عن شكره لرجل كان أستاذاً ومربياً له يدعوه إذا دعاه بوالده، وقد ذاق عذاب السجن في سبيله.

وأثبت يحيى أنه أقدر الحكام في تاريخ العالم كله. لقد كان رجلاً بشوشاً، دمث الأخلاق، جواداً حكيماً، مجداً لا يمل من العمل؛ رفع دولاب الحكومة إلى أعلى درجات الكفاية، وثبت دعائم النظام، وأقر الأمن، ونشر لواء العدالة، وأنشأ الطرق، والجسور، والخانات، واحتفر قنوات الري، فعم الرخاء جميع ولايات الدولة، وإن كان قد فرض عليها ضرائب عالية ليملأ بها الخليفة وخزانته هو، ذلك أنه هو أيضاً قد حذا حذو سيده في مناصرة الآداب والفنون وقد عين ولديه الفضل وجعفر في منصبين كبيرين من مناصب الدولة، فسارا فيهما أحسن سيرة، وأثريا منهما ثراء عظيماً، فأنشأ القصور، وجمعا حولهما طائفة كبيرة من الشعراء، والندماء، والفلاسفة. وكان هرون يحب جعفر حباً أطلق ألسنة السوء في علاقتهما الشخصية، ويقال إن الخليفة أمر بأن تصنع له جبة ذات طوقين يلبسها هو وجعفر معاً فيبدوان كأنهما رأسان فوق جسم واحد، ولعلهما كانا في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية(25).

ولسنا نعرف بالدقة سبب النكبة المفاجئة التي قضت على سلطان البرامكة. فابن خلدون يقول إن سببها الحقيقي هو "أنهم كانوا قد قبضوا على ناصية الأمور كلها، وتصرفوا بأموال الدولة دون رقيب حتى أصبح الرشيد يطلب المبالغ الصغيرة فلا يجدها إلا بإذن من الوزير(26).

ولعل السبب أنه لما جاوز هرون سن الشباب، ولم يجد في الجري وراء الملاذ الجسمية والعقلية متنفساً لكفاياته ومواهبه، ندم على ما خص به وزيره من قوة وسلطان. وقد حدث أن أمر الخليفة جعفر بأن يقتل أحد الخارجين عليه، فتغاضى جعفر عن الأمر حتى تمكن الثائر من الهرب، ولم يغفر هرون له هذا الإهمال المحبب إلى النفوس. وهناك قصة من طراز قصص ألف ليلة وليلة تقول إن العباسة أخت الرشيد، أحبت جعفر، وأن الرشيد كان قد أقسم بأن يحتفظ بدماء بني هاشم الذي يجري في عروق أخواته صافية نقية لا يخالطها إلا دماء أشراف العرب، وجعفر كما نعلم من أبناء الفرس. وأجاز لهما الخليفة أن يتزوجا؛ على ألا يلتقيا إلا في حضوره. ولكن الحبيبين سرعان ما نقضا هذا العهد، وولدت العباسة لجعفر ولدين دون أن يعلم بذلك الرشيد، فقد اخفيا عنه وأرسلا إلى المدينة ليربيا فيها. وكشفت زبيدة زوج الرشيد هذا السر، وأفضت به إلى هرون. فبعث في طلب مسرور كبير الجلادين وأمره بقتل العباسة ودفنها في قصره، وأشرف هو بنفسه على تنفيذ هذا الأمر. ثم أمر مسرور أن يضرب عنق جعفر، وأن يأتي إليه برأسه، ونفذ مسرور أمر مولاه. ثم بعث إلى المدينة من يأتيه بولديه، وبعد أن تحدث طويلاً إلى الطفلين الوسيمين، وأبدى إعجابه بهما أمر بقتلهما (803). ثم سجن يحيى والفضل، وسمح لهما بأن يحتفظا بأسرتيهما وخدمهما، ولكنه لم يطلق سراحهما. ومات يحيى بعد عامين من مقتل ولده، كما مات الفضل بعد خمسة أعوام من مقتل أخيه، وصودرت جميع أموال البرامكة، ويقال إنها بلغت 30.000.000 دينار (124.500.000 دولار أمريكي).

ولم تطل حياة هرون بعد نكبة البرامكة. وظل وقتاً ما يخفف من حزنه وندمه بالعمل الكثير، ويقال إنه كان يرحب بمشاق الحرب نفسها. ولما أن امتنع نقفور الأول إمبراطور بيزنطية عن أداء الجزية التي وعدت إيرينة بأدائها، وجرؤ على المطالبة برد ما أدته الإمبراطورة منها رد عليه هرون بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. من هرون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، أما بعد، فقد تلقيت رسالتك يا ابن الكافرة، وسيكون الجواب كما تراه عيناك لا ما تسمعه أذناك والسلام"(27). وسار إلى ميدان القتال من فوره، واتخذ مقامه في الرقة ذات الموقع الحربي المنيع على حدوده الشمالية، ونزل إلى الميدان على رأس حملة قوية اخترق بها آسية الصغرى، وقذفت الرعب في قلب نقفور فلم يسعه إلا أن يعود إلى أداء الجزية (806) ورأى الرشيد أن يصطنع شارلمان ليرهب بهِ إمبراطور الروم...فأرسل إليهِ وفداً مثقلاً بالهدايا منها فيل وساعة مائية معقدة التركيب. ولم يكن هرون وقتئذ قد جاوز الثانية والأربعين من عمره، ومع هذا فإن ولديه الأمين والمأمون شرعا يتنافسان على الخلافة ويتطلعان إلى موته. وأراد هرون أن يخفف من حدة النزاع فقرر أن يرث المأمون الولايات الواقعة في شرق نهر دجلة، وأن يرث الأمين ما بقي من الدولة، فإذا مات أحد الاثنين آل ملكه إلى أخيه. ووقع الأخوان هذا العهد وأقسما على الكعبة أن يتقيدا به. ولكن حدث في ذلك العام نفسه أن شبت فتنة صماء في خراسان فسار هرون ومعه المأمون لتقليم أظافرها، مع أنه كان يشكو وقتئذ آلاماً شديدة في معدته. فلما بلغ بلدة طوس في شرقي إيران عجز عن الوقوف على قدميه. وجيء له وهو يحتضر بياشين أحد زعماء الثورة، وكان الخليفة قد برح به الألم حتى أفقده عقله فأخذ يؤنب القائد الأسير لأنه اضطره إلى الإقدام على هذه الحملة المهلكة، وأمر أن تقطع أوصاله وشهد بعينيه تنفيذ أمره(29). وفي اليوم الثاني توفي هرون الرشيد في سن الخامسة والأربعين (809).


2- اضمحلال الدولة العباسية

وواصل المأمون الزحف إلى مرو، وعقد اتفاقاً مع الثوار، أما الأمين فعاد إلى بغداد، ونادا بابنه الطفل الرضيع ولياً للعهد، وطالب المأمون بثلاث من الولايات الشرقية، ولما رفض المأمون طلبه أعلن الأمين عليه الحرب. وهزم طاهر قائد المأمون جيش الأمين وحاصر بغداد وكاد أن يدمرها تدميراً، وبعث برأس الأمين إلى المأمون جرياً على تلك العادة التي أضحت سنة متبعة. وكان المأمون وقتئذ في مرو فأمر بالمناداة به خليفة (813)، ولكن بلاد الشام وجزيرة العرب ظلت تقاومه لأنه ابن جارية فارسية ولم تتم بيعته خليفة على بلاد المسلمين ويدخل بغداد إلا في عام 818.

ويعد المأمون هو والمنصور والرشيد أعظم خلفاء بني العباس. نعم إن المأمون لم ينج من الخلتين اللتين شانتا هارون الرشيد، فكان في بعض الأحيان يستشيط غضباً مثله ويقسو كقسوته، ولكنه كان بوجه عام لين العريكة هادئ الطباع، جمع في مجلس الدولة ممثلين لجميع الأديان الكبرى في البلاد كلها - من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، وصابئين، وزردشتيين- وضمن لجميع رعاياه حتى أواخر أيامه حرية الدين والعبادة. وظلت حرية التفكير وقتاً ما هي السنة المألوفة في بلاط الخليفة. ويصف المسعودي مجلساً من المجالس العلمية التي كان يعقدها المأمون في آخر النهار فيقول:

"كان المأمون يجلس كل يوم للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء فإذا حضر الفقهاء، ومن يناظره من سائر أهل المقالات أدخلوا حجرة مفروشة، وقيل لهم: انزعوا إخفاقكم. ثم أحضرت الموائد وقيل لهم: أصيبوا من الطعام والشراب، وجددوا الوضوء فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فبخروا وطيبوا ثم خرجوا فاستدناهم حتى يدنوا منه ويناظرهم أحسن مناظرة وأنصفها وأبعدها عن مناظرة المتجبرين، فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس ثم تنصب الموائد الثانية فيطعموا وينصرفون"(30).

وكان تشجيع المأمون للفنون، والعلوم، والآداب، والفلسفة أكثر تنوعاً ودقة في عهد هارون، وكان لهذا التشجيع من الأثر أعظم مما كان له في عهد أبيه. فقد أرسل البعوث إلى القسطنطينية، والإسكندرية، وإنطاكية وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة كبيرة من المترجمين لنقل هذه الكتب إل اللغة العربية. وأنشأ مجمعاً علمياً في بغداد ومرصدين فيها وفي تدمر. وكان الأطباء والفقهاء، والموسيقيون، والشعراء وعلماء الرياضة والفلك يستمتعون كلهم بعطاياه، وكان هو نفسه يقرض الشعر، كما كان يقرضه أحد أباطرة اليابان في القرن التاسع عشر، وكما كان يقرضه كل مسلم شريف مهذب في ذلك الوقت.

ومات المأمون في سن مبكرة-في الثامنة والأربعين من عمره (833)-وإن كان قد طال أجله حتى أساء إلى نفسه. ذلك أنه ناصر بسلطته العليا حرية الرأي في الدولة مناصرة شوه بها السنين الأخيرة من حياته لأنها دفعته إلى اضطهاد أصحاب السنة. وكان أخوه أبو إسحق المعتصم، الذي تولى الخلافة من بعده، مثله ولم يكن في عبقريته. وقد أحاط هذا الخليفة نفسه بحرس خاص مؤلف من 4000 من الجنود الترك، شبيه بالحرس البريتوري الذي أحاط به الأباطرة الرومان أنفسهم، وأصبح هذا الحرس على مر الأيام في بغداد، كما أصبح الحرس البريتوري في روما، صاحب الأمر والنهي في أمور الدولة. وشكا سكان العاصمة من أن جنود المعتصم الأتراك يطوفون الشوارع فوق صهوة الجياد ويرتكبون الجرائم دون أن يعاقبوا على ما يرتكبون. وخشي المعتصم أن يثور عليه السكان فغادر بغداد وبنى لنفسه قصراً في سر من رأى على بعد ثلاثين ميلاً شمالي العاصمة. واتخذ ثمانية من الخلفاء هذه الضاحية مسكناً لهم ما بين عامي 836، 892، ودفنوا فيها بعد موتهم، وأقاموا على شقة يبلغ طولها عشرين ميلاً على ضفتي نهر دجلة قصوراً فخمة، ومساجد، وحذا حذوهم كبار موظفي الدولة، فشيدوا البيوت الفخمة، وزينوا جدرانها بالنقوش الجميلة، وأنشئوا فيها الفساقي والحدائق والحمامات. وأراد المتوكل أن يبرهن على صلاحه فانفق 700.000 دينار (3.325.000 دولار) على تشييد مسجد جامع وأنفق ما يقرب من هذا المبلغ في تشييد ضاحية له تعرف بالجعفرية أقام بها قصراً يُعرف "بقصر اللؤلؤة" وأحاطها كلها بالبساتين والجداول وقد جمع ما يحتاجه من المال لهذه المباني وما يتصل بها بأن زاد الضرائب، وباع وظائف الدولة لمن يؤدي اكبر ثمن لها، وأراد أن يستميل أهل السنة باضطهاد الخارجين عليها، وحرض ابنه حرسه التركي على قتله، وتولى الخلافة من بعده وتسمى بالمنتصر بالله.

وأفسدت العوامل الداخلية أحوال الخلافة قبل أن تقضي عليها القوى الخارجية: فقد أنهك قوى الخلفاء إدمانهم الشراب، وانهماكهم بالشهوات، واللهو، والترف، والبطالة، فجلس على سرير الملك طائفة من الخلفاء الضعفاء فروا من مهام الحكم إلى ملذات الحريم المضعفة للجسم والعقل. وكان لازدياد الثروة، واستمهاد الراحة، وانتشار التسري وتفشي اللواط، كان لهذه الرذائل من الأثر في طبقة الحكام لها في الخلفاء، وتعدى ذلك إلى الشعب نفسه، فضعفت صفاته الحربية. ولم يكن من طبيعة هذا الضعف وعدم النظام أن يخلق اليد القوية التي كانت البلاد في أشد الحاجة إليها لتجمع شتات هذا الخليط المتفرق المتباين من الولايات والقبائل. وكثيراً ما أسفرت العداوة العنصرية والإقليمية عن ثورات، فلم يكن العرب، والفرس، والسوريون، والبربر، والمسيحيون، واليهود، والأتراك، لم يكن هؤلاء جميعاً يجتمعون إلا على احتقار بعضهم بعضاً، وزاد الطين بلة أن الدين الذي كان من قبل يجمع شملهم ويوحد صفهم قد تفرق شيعاً، وزادت حدة الانقسامات السياسية والجغرافية، وكانت هي المعبرة عن هذه الانقسامات. وكان لإهمال وسائل الري أثر كبير في ضعف الدولة وفساد أحوالها. وذلك أن نظام الري هو مصدر حياة بلاد الشرق الأدنى وهلاكه معاً. فالقنوات التي تمد الأرض بالماء تحتاج على الدوام إلى الكثير من الحراسة والتطهير يعجز عنها الأفراد والأسر. فلما عجزت الحكومة عن تعهد هذه القنوات أو أهملتها، قلت موارد الطعام عن مجاراة نسبة ازدياد السكان، وكان لابد من أن يهلك الناس من الجوع حتى لا يختل التوازن بين هذين العاملين الأساسيين اللذين لهما شأن عظيم في تاريخ العالم. غير أن ما حل بالأهلين من فقر بسبب القحط والوباء لم يكن في معظم الأوقات ليغل أيدي جباة الضرائب أو يخفف من قسوتهم. فكان الفلاحون، والصناع، والتجار يرون مكاسبهم تذهب كلها للوفاء بنفقات الحكومة وأبهة الحكام، فانعدم الحافز للعمل والإنتاج، والتوسع فيهما، والمغامرة والإقدام. وانتهى الأمر بأن عجزت موارد الدولة عن الوفاء بحاجة الحكومة، وقلت الإيرادات، ولم يعد في وسع الحكام أن يؤدوا أجور الجند بانتظام، أو أن يسيطروا عليهم. ويضاف إلى هذا أن الترك قد حلوا محل العرب في القوات المسلحة، كما حل الألمان محل الرومان في جيوش روما، وكان رؤساء الجند الأتراك من عهد المعتصم إلى آخر أيام الدولة العباسية هم الذين يرفعون الخلفاء إلى العرش ويسقطونهم، ويأمرونهم، ويغتالونهم. وأصبحت قصور الخلفاء في بغداد مباءة للدسائس الدنيئة، والاغتيالات وسفك الدماء، مما جعل الخلافة العباسية في آخر أيامها غير خليقة بأن يبقى التاريخ على ذكرها.

وكان ضعف النشاط السياسي والقوة الحربية في عاصمة الدولة سبباً في تمزيق شملها وتقطع أوصالها. فأصبح الولاة يحكمون ولاياتهم دون أن يكون للخلفاء في العاصمة سلطان عليهم اللهم إلا سلطاناً اسمياً غير ذي بال. وأخذوا يعملون ليحتفظوا لأنفسهم بمناصبهم طول حياتهم، ثم لم يكتفوا بهذا بل عملوا على أن يرثها من بعدهم أبناؤهم. وكانت بلاد الأندلس قد أعلنت استقلالها عن الخلافة العباسية في عام 756، وحذت حذوها مراكش في عام 788، وتونس في 801 ومصر في 868. وبعد تسع سنين من ذلك العام الأخير استولى أمراء مصر على الشام، وحكموا الجزء الأكبر منها حتى عام 1076 وكان المأمون قد كافأ قائده طاهر بأن عينه حاكماً على خراسان وجعل ولايتها وراثية في أبنائه من بعده. وحكمت هذه الأسرة الطاهرية بلاد الفرس حكماً شبه استقلالي حتى حلت محلها أسرة الصفارين (872-903)، وفيما بين عامي 929، 944 استولت أسرة من الشيعة هي أسرة بني حمدان على شمالي الجزيرة والشام، ورفعوا من شأن حكمهم بأن جعلوا الموصل وحلب مركزين عظيمين من مراكز الحياة الثقافية في العالم الإسلامي. وكان سيف الدولة الحمداني (944-967) شاعراً بليغاً، اجتمع في بلاطه في حلب الفيلسوف الفارابي، والشاعر العظيم المتنبي أحب الشعراء الأقدمين إلى قلوب الأدباء العرب. واستولى بنو بويه أبناء أحد زعماء البلاد الجبلية المجاورة لبحر الخرز على أصفهان وشيراز، ثم استولوا آخر الأمر على بغداد نفسها في عام 945. وظل الخلفاء أكثر من مائة عام يأتمرون بأمرهم حتى لم يكن أمير المؤمنين أكثر من رئيس لأهل السنة من المسلمين، بينما كان الأمير البويهي الشيعي هو المسيطر على شؤون الدولة الآخذة رقعتها في النقصان. ونقل عضد الدولة أعظم أمراء بني بويه (949-983) عاصمته إلى شيراز وهي مدينة من أجمل مدن الإسلام، ولكنه كان ينفق المال بسخاء على غيرها من مدن مملكته، واستعادت بغداد أيامه وأيام من خلفوه من الأمراء بعض ما كان لها من المجد في أيام هارون الرشيد.

وفي عام 874 أقام أبناء سامان، وهو شريف من أتباع زرادشت، أسرة سامانية حكمت خراسان وما وراء نهر جيحون حتى عام 999. وفي عهد هذه الأسرة كانت بخارى وسمرقند مركزين للعلوم والفنون تنافسان فيهما بغداد نفسها، وإن لم يكن من عادتنا إذا ذكرنا هذا الإقليم أن نعده ذا شأن عظيم في تاريخ العلوم والفلسفة. وعادت اللغة الفارسية فيه إلى الحياة وأصبحت أداة للتعبير عن أدب راق عظيم. وبسط السامانيون رعايتهم على ابن سينا أعظم فلاسفة العصور الوسطى جميعها، وفتحوا له أبواب مكتبة بلادهم العظيمة الغنية بما فيها من المؤلفات، وأهدى الرازي أعظم أطباء العصور الوسطى إلى أحد الأمراء الأمراء السامانيين كتابه المنصوري وهو كتاب جامع ضخم في الطب. ثم استولى الأتراك في عام 990 على مدينة بخارى وقضوا في عام 999 على الأسرة السامانية. فقد كان المسلون في ذلك الوقت يحاربون ليقفوا زحف الأتراك نحو الغرب، كما ظل الرومان ثلاثة قرون يحاربون ليصدوا زحف العرب، وكما كافح الترك فيما بعد ليقفوا تيار المغول الجارف. ذلك أن ما ينشأ من تكاثر السكان من ضغط شديد على وسائل العيش يؤدي من حين إلى حين إلى هجرات ضخمة تطغى أهميتها على غيرها من حوادث التاريخ.

وفي عام 962 غزا جماعة من المغامرين الأتراك القادمين من التركستان بلاد الأفغان. وكان يقودهم عبد محرر يدعى البتجين، واستولوا على غزنة وأقام فيها أسرة غزنونية. وخلف البتجين سبكتكين (976-997)؛ وكان أولاً مولى من مواليه، ثم زوج أبنته. وقد مد حدود ملكه حتى شمل بيشاور وبعض خراسان، ثم استولى أبنه محمود (998-1030) على جميع بلاد الفرس من الخليج الفارسي إلى نهر جيحون، وبعد سبعة عشر معركة حامية امتازت بضروب من القسوة أضاف البنجاب إلى ملكه، كما أضاف كثيراً من أموال الهند إلى خزائنه. ولما أتخمه النهب، وضاق ذرعاً بالتعطل الناشئ من تسريح جنوده، أخ ينفق بعض ماله، ويستخدم بعض رجاله، في تشييد مسجد غزنة وهو المسجد الكبير الذي يقول فيه أحد المؤرخين المسلمين: (العتبي-أبو النصر محمد في كتابه اليميني أو الرسالة اليمينية): "وأمام هذا البيت مقصورة بتعاريج عليها منصوبة تسع ثلاثة آلاف متى شهدوا الفرض أخذوا أماكنهم فيها صفوفاً وأقبلوا على انتظار الأذان عكوفاً، وأضيف إلى المسجد مدرسة فيحاء تشمل بيوتها من بساط الأرض إلى مناط السماء على تصانيف الأئمة الماضين من علوم الأولين والآخرين...ينتابها فقهاء دار الملك وعلماء التدريس والنظر في علوم الدين، على كفاية ذوي الحاجة، فمنهم من يهمهم جراية وافرة، ومعيشة حاضرة. وقد اقتطع من دار الإمارة إلى البيت الموصوف طريق يفضي إليه في أمن ابتذال العيون اللوامح واعتراض الرجال من بين صالح وطالح فيركب إليه وقور سكينة وشمول طمأنينة(31)". واستقدم محمود إلى هذه المدرسة وإلى بلاطه كثيراً من العلماء منهم البيروني، وكثيراً من الشعراء ومنه الفردوسي صاحب الشاهنامة أعظم قصيدة في الأدب الفارسي؛ وقد أهداها إليه عن كره منه. وكان محمود في ذلك الوقت أعظم رجال العالم كله من نواح عدة، ولكن مملكته انتقلت بعد سبع سنين من وفاته إلى أيدي الأتراك السلاجقة.

ونحن نخطئ إذا صورنا الترك في صورة أقوام همج، فمن حقهم علينا ـأن نقول إنهم حين أغاروا على بلاد الإسلام كانوا قد اخذوا ينتقلون من طور الهمجية إلى طور الحضارة، شأنهم في هذا شأن الفيالق الألمانية التي غزت بلاد الإمبراطورية الرومانية. لقد اخذ الأتراك الساكنون في شمالي آسية الوسطى يتحركون نحو العرب من إقليم بحيرة بيكال، وكانوا قد نظموا أنفسهم في القرن السادس الميلادي جماعات يتزعم كلاً منها خان أو شاغان. وكانوا يصهرون الحديد الذي يستخرجونه من جبالهم، ويصنعون منه أسلحة صلبة كصلابة قوانينهم التي لم تكن تكتفي بجعل الإعدام جزاء الخيانة والقتل، بل كانت تجعله أيضاً عقاباً على الزنى والجبن. وكان خصب نسائهم يفوق قتلى حروبهم، ولم يحل عام 1000م حتى كان فرع من أولئك الأتراك يسمون السلاجقة نسبة إلى زعيمهم سلجوق قد سيطروا على ما وراء نهر جيحون وعلى بلاد التركستان. وظن محمود الغرنوي أن في مقدوره أن يقف زحف هذه القوة التركية المنافسة له، فقبض على أحد أبناء سلجوق وسجنه في الهند (1092). ولكن هذا العمل لم يفت في عضد السلاجقة بل أثار ثائرتهم فزحفوا بقيادة زعيمهم طغرل بك المحنك الشديد البأس واستولوا على معظم بلاد الفرس، ثم شرعوا يمهدون السبيل لتقدمهم في المستقبل، فأرسلوا وفداً إلى الخليفة القائم بأمر الله في بغداد ليبلغه أنهم يعتنقون الإسلام. وكان الخليفة يرجوا أن ينقذه هؤلاء المحاربون البواسل من سيطرة بني بويه، فأرسل إلى طغرل بك يدعوه لمعونته. ولبى طغرل الدعوة فأقبل في عام 1055، وفر بنو بويه من بغداد. وتزوج القائم بابنة أخي طغرل وخلع عليه لقب "ملك الشرق والغرب" (1085). وأخذت الأسر الصغيرة في غربي آسية الإسلامي تسقط أسرة بعد أسرة أمام السلاجقة وتعترف بسيادة بغداد عليها. ولقب الحكام السلاجقة أنفسهم بلقب سلطان ولم يتركوا للخليفة إلا الزعامة الدينية، ولكنهم بعثوا في الأداة الحكومية حيوية جديدة وكفاية لم تكن لها قبل مجيئهم، كما بعثوا في الإسلام قوة جديدة من الإيمان الصادق السليم. ولم يفعل السلاجقة ببلاد الإسلام ما فعله المغول بعد مائتي عام من ذلك الوقت، فهم لم يخربوا البلاد التي فتحوها، ولم يمضِ عليهم إلا قليل من الوقت حتى أشربوا روح الحضارة التي أقبلوا عليها، وألفوا من الأشلاء المتناثرة للدولة المحتضرة إمبراطورية جديدة، وبعثوا فيها من القوة ما استطاعت به أن تصمد لذلك النزاع الطويل بين المسيحية والإسلام، الذي نطلق عليه اسم الحروب الصليبية، وتخرج منه ظافرة منتصرة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: أرمينية (325-1060)

امتدت فتوح الأتراك السلاجقة إلى أرمينية في عام 1060م. لقد ظلت هذه البلاد البائسة قروناً طوالاً مطمعاً للإمبراطوريات الكبيرة المتنافسة التي أنشبت فيها مخالبها، لأن جبالها حالت بينها وبين اتحادها للدفاع عن نفسها، بينما كانت وديانها طرقاً ميسرة بين بلاد النهرين والبحر الأسود. واقتتلت بلاد الفرس واليونان لامتلاك هذه الطرق للانتفاع بها ي التجارة والحرب، واجتازتها جنود أكسانوفون العشرة الآلاف، واحتربت من أجلها روما وفارس وبيزنطية والإسلام، والروسيا وبريطانيا. ولكن أرمينية ظلت مستقلة من الوجهة الفعلية رغم ما حاق بها من الضغط الخارجي أو السيطرة الخارجية محتفظة بما لها من نشاط اقتصادي قوي في التجارة والزراعة، ومن استقلال ثقافي أثمر فيها دينها الخاص وآدابها وفنونها. وكانت هي أولى الأمم التي جعلت المسيحية دين الدولة الرسمي (303). وانحازت إلى جانب اليعاقبة في الجدل الذي قام حول طبيعة المسيح، وأبت أن تعترف بأنه يجوز عليه من أسباب الضعف ما يجوز على الجسم البشري. وانفصل الأساقفة الأرمن في عام 491 عن الكنيستين اليونانية والرومانية وأنشئوا لهم كنيسة أرمنية مستقلة لها رئيسها الخاص.وظلت الآداب الأرمنية تُكتب باللغة اليونانية إلى أوائل القرن الخامس بعد الميلاد حين اخترع الأسقف مسروب حروفاً هجائية خاصة بها وترجم التوراة إلى اللغة الأرمنية، وأصبح للبلاد من ذلك الحين أدب أرمني غزير معظمه أدب ديني وتاريخي.

وظلت تلك البلاد خاضعة بالاسم إلى سلطان الخلفاء من عام 642م إلى عام 1046، ولكنها كانت طوال هذه المدة صاحبة السيادة على نفسها مستمسكة بمسيحيتها. وأقامت أسرة البرجتوني Bagrtuni في القرن التاسع الميلادي أسرة حاكمة اتخذت رئيسها لقب "أمير الأمراء"، وأنشأت لها عاصمة في آني Ani، وظلت البلاد في عهدها أجيالاً عدة تنعم بالتقدم والسلام النسبي وكان أشوت Ashot الثالث (952-977) أميراً محبوباً، شاد كثيراً من الكنائس، والمستشفيات والأديرة، والملاجئ، ولم يكن يجلس للطعام (كما يقول الرواة) إلا إذا كان الفقراء معه على مائدته. وبلغ رخاء البلاد غايته في عهد ابنه جاجيك Gegik الأول (وما اغرب ما تبدو أسماؤنا نحن للأرمن)، فقد كثرت فيها المدارس، وأثرت المدن بفضل انتشار التجارة، وازدانت بأعمال الفن، وأصبحت قارص مركزاً للأدب وعلوم الدين والفلسفة تنافس فيها آني. وكان في هذه المدينة الثانية قصور فخمة، وكنيسة كبرى (حوالي عام 980)، جمعت بين الطرازين الفارسي والبيزنطي؛ فكان فيها مجاميع من العمد والأكتاف، والعقود المستديرة والمستدقة في أعاليها، إلى غير هذه من الخصائص التي دخلت فيما بعد في الفن القوطي، ولما أن دمر زلزال قبة أيا صوفيا بالقسطنطينية في عام 989 عهد إمبراطور بيزنطية إلى تاردات Tardat مهندس كنيسة آني أن أعيد بناؤها، وكان ذلك واجباً من أشق الواجبات وأعظمها خطورة(32).