قصة الحضارة - ول ديورانت - م 4 ك 1 ب 2
صفحة رقم : 4158
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الدولة الببيزنطية في أوج مجدها -> انتصار البرابرة -> التخوم المهددة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثاني: انتصار البرابرة 325-476
الفصل الأول: التخوم المهددة
لم تكن بلاد الفرس إلا قطاعاً من تخوم يبلغ طولها عشرة آلاف ميل تتعرض فيها الإمبراطورية الرومانية المؤلفة من مائة أمة مختلفة للغزو في أية نقطة وفي أية ساعة على أيدي قبائل لم تفسدها الحضارة، ولكنها تطمع في ثمارها. وكان الفرس وحدهم مشكلة مستعصية على الحل، فقد كانوا يزدادون قوة لا ضعفاً؛ ولم يمض إلا قليل من الوقت حتى استعادوا كل ما كان دارا الأول يبسط عليه سلطانه قبل ألف عام من ذلك الوقت - إلا قليلاً منه. وكان في غرب بلادهم العرب، ومعظمهم من البدو الفقراء؛ ولو إن إنساناً في ذلك الوقت قد قال إن أولئك الأقوام الرحل الواجمين قد كتب لهم أن يستولوا على نصف الإمبراطورية الرومانية وعلى بلاد الفرس كلها لسخر من قوله هذا أحكم الساسة وأنفذهم بصيرة. وكان في جنوب الولايات الرومانية الإفريقية الأحباش، واللوبيون، والبربر، والنوميديون، والمغاربة، وكان هؤلاء كلهم يتربصون بالإمبراطورية الدوائر، وينتظرون على أحر من الجمر تداعي الحصون الإمبراطورية أو قوى البلاد المعنوية. ولاح أن أسبانيا ستظل رومانية آمنة من الغزو وراء جبالها المنيعة وبحارها التي لا يستطيع المغبرون اجتيازها؛ ولم يكن أحد يظن أنها ستصبح في هذا القرن الرابع ألمانية، وفي القرن الثامن بلاداً إسلامية. أما غالة فقد كانت وقتئذ تفوق إيطاليا اعتزازاً برومانيتها، كما تفوقها في النظام وفي الثراء، وفي الآداب اللاتينية من شعر ونثر؛ ولكنها كان عليها في كل جيل أن تدفع عن نفسها غارات النيوتون الذين كانت نساؤهم أعظم خصباً من حقولهم. ولم يكن في وسع الدولة الرومانية أن تستغني إلا عن حامية قليلة لتدفع بها عن بريطانيا غارات الاسكتلنديين والبكتيين من الغرب والشمال؛ وغارات أهل الشمال والقراصنة السكسون من الشرق أو الجنوب؛ فقد كانت شواطئ النرويج بجميع أجزائها معششاً لهؤلاء القراصنة، وكان أهلها يرون الحرب أقل مشقة من حرث الأرض، ويعتقدون أن الإغارة على السواحل الأجنبية عملاً شريفاً لذوي البطون الخاوية وفي أيام الفراغ. ويدعي القوط أن موطنهم الأول هو جنوبي السويد وجزائرها الصغرى، ولا يبعد أن يكون ذلك الموطن هو الإقليم المحيط بنهر الفستيولا Vistula؛ ولكنهم أياً كان موطنهم انتشروا باسم القوط الغربيين نحو نهر الدانوب الجنوب، واستقروا باسم القوط الشرقيين بين نهري الدنيستر Dniester والدون Don. وفي قلب أوربا -الذي تحده انهار الفستيولا والدانوب، والرين- كانت تجول قبائل قدر لها أن تغير خريطة أوربا وتبدل أسماء أممها: هي قبائل الثورنجيين Thuringians، والبرغنديين، والإنجليز، والسكسون، والجوت، والفريزيين Frisians، والجبيديين Gipidae، والكوادي Quadi، والوندال، والألماني، والسوفي Suevi، واللمبارد، والفرنجة. ولم يكن للإمبراطورية كلها -عدا بريطانيا- أسوار تصد تيار هذه الأجناس، وكل ما كان لها من هذا القبيل هو حصون أو حاميات في أماكن متفرقة على طول الطرق البرية أو مجاري الأنهار التي كانت في أطراف الدولة الرومانية. وكانت تفوق البلاد الخارجية عن حدود الدولة الرومانية في نسبة مواليدها: وتفوقها هي على هذه البلاد في مستوى معيشة أهلها، مما جعل الهجرة إليها أو الإغارة عليها قضاء محتوماً لا مفر لها منه في ذلك الوقت، كما أنهما الآن قضاء محتوم على أمريكا الشمالية.
ولعل من واجبنا أن نعدل بعض التعديل تلك الرواية التي تصف تلك القبائل الألمانية بأنها قبائل متبربرة. نعم إن اليونان والرومان حين أطلقوا على أولئك الأقوام لفظ برابرة Barbari لم يكونوا يقصدون بذلك الثناء عليهم، وأكبر الظن أن هذا اللفظ يقابل لفظ فرفارا Varavar في اللغة السنسكريتية، ومعناه الفظ الجلف، غير المثقف(1)؛ وهو شديد الصلة أيضاً بلفظ بربر Berber؛ ولكن اتصال الألمان مدى خمسة قرون بالحضارة الرومانية عن طريق التجارة والحرب كان لا بد أن يترك فيهم أثراً قوياً؛ وقبل أن يحل القرن الرابع بزمن طويل كانوا قد تعلموا الكتابة وأقاموا لهم حكومة ذات قوانين ثابتة.وكانت مبادئهم الأخلاقية من الناحية الجنسية أرقى منها عند الرومان واليونان إذا استثنينا منهم قبائل الفرنجة المروفنجيين؛ وكثيراً ما كانوا يفوقون الرومان في الشجاعة، وكرم الضيافة، والأمانة، وإن كانت تعوزهم رقة الحاشية ودماثة الخلق، وهما الحلتان اللتان يتصف بهما المثقفون. (لسنا ننكر أنهم كانوا قساة القلوب، ولكنهم لم يكونوا أشد قسوة من الرومان؛ وأكبر الظن أنهم قد روعهم أن يعرفوا أن الشريعة الرومانية كانت تجيز تعذيب الأحرار لتنتزع منهم الشهادات أو الاعترافات(3). وكانت نزعتهم فردية إلى حد الفوضى، على حين أن الرومان كانوا في الوقت الذي نتحدث عنه رُوِّضوا على حسن المعاشرة والميل إلى السلم. وكان أهل الطبقات العليا منهم يقدرون الآداب والفنون بعض التقدير، وقد اندمج منهم استلكو Stilicho، ورسمر Ricimer، وغيرهما من الألمان في الحياة الثقافية العليا التي كانت تسود المجتمعات في روما، وكتبوا أدباً لاتينياً أقر سيماكوس Simmachus أنه وجد فيه كثيراً من المتعة. وكان الغزاة بوجه عام -وخاصة القوط- يبلغون من الحضارة درجة تمكنهم من أن يعجبوا بالحضارة الرومانية ويعترفوا أنها أرقى من حضارتهم، ويسعون لاكتسابها لا لتدميرها؛ وظلوا قرنين من الزمان لا يطلبون أكثر من أن يسمح لهم بالدخول في بلاد الإمبراطورية والاستقرار في أراضيها المهملة؛ وطالما اشتركوا في الدفاع عنها بجد ونشاط. ولهذا فإنا إذا ما ظللنا نستخدم لفظ البراءة في حديثنا عن القبائل الألمانية في القرنين الرابع والخامس، فإنما نفعل ذلك بحكم العادة التي جعلت هذا اللفظ يجري به القلم، مع مراعاة هذه التحفظات والاعتذارات السالفة الذكر.
وكانت هذه القبائل التي تكاثر أفرادها قد دخلت بلاد الإمبراطورية في جنوب نهر الدانوب وجبال الألب بطريق الهجرة السلمية وبدعوة من الأباطرة في بعض الأحيان. وقد بدأ أغسطس هذه السياسة، فسمح للبرابرة أن يستقروا داخل حدود الإمبراطورية ليعمروا ما خلا من أرضها، ويسدوا ما في فيالقها من ثغرات بعد أن عجز الرومان عن تعمير أولاها وسد ثانيتها لقلة تناسلهم وضعف روحهم العسكرية. وجرى على هذه السنة نفسها أورليوس، وأوليان، وبروبوس. وقبل أن ينصرم القرن الرابع كانت كثرة السكان في بلاد البلقان وفي غالة الشرقية من الألمان. وكذلك كان الجيش الروماني، وكانت مناصب الدولة السياسية منها العسكرية في أيدي التيوتون. وكانت الإمبراطورية في وقت من الأوقات قد صبغت أولئك الأقوام بالصبغة الرومانية، أما في الوقت الذي نتحدث عنه فإنهم هم الذين بربروا الرومان(5)؛ فقد أخذ الرومان أنفسهم يرتدون ملابس من الفراء على طراز ملابس البرابرة، وأخذوا كذلك يرسلون شعورهم مثلهم، ومنهم من لبسوا السراويل، (البنطلون)، واستثاروا بذلك غضب الأباطرة، فأصدروا في غيظهم مراسيم بتحريم هذه الثياب. (397،416)(6). وجاءت القوة التي دفعت هذه القبائل إلى غاراتها الكبرى على الإمبراطورية الرومانية من سهول المغول النائية. وتفصيل ذلك أن الزيونج-نو Hsiung-nu أو الهيونج-نو Hung-nu أو الهون Hun - وهم فرع من الجنس الطوراني، كانوا في القرن الثالث الميلادي يحتلون الأصقاع الواقعة في شمال بحيرة بلكاش وبحر آرال. وكانت سحنتهم، كما يقول جرادنيس Jordanes هي أقوى أسلحتهم:
فقد كانت ملامحهم الرهيبة تلقي الرعب في قلوب أعدائهم؛ ولعلهم هم لم يكونوا أقدر على الحروب من هؤلاء الأعداء. فقد كان أعداؤهم يستول عليهم الفزع فيفرون من أمامهم لأن وجوههم الكالحة كانت تقذف الرعب في القلوب.. ولأنهم كانت لهم في مكان الرأس كومة لا شكل لها فيها ثقبان بدل العينين. وهم يقسون على أولادهم من يوم مولدهم، لأنهم يقطعون خدود الذكر بالسيف حتى يعودهم تحمل ألم الجروح قبل أن يذوقوا طعم اللبن، ولهذا فإنهم لا تنبت لهم لحى إذا كبروا وتشوه ندب جروح السيوف وجوههم. وهم قصار القامة، سريعو الحركة، خفاف مهرة في ركوب الخيل، بارعون في استعمال الأقواس والسهام، عراض الأكتاف صلاب الرقاب؛ منتصبو الأجسام على الدوام(7).
وكانت الحروب صناعتهم، ورعاية الماشية رياضتهم، وبلادهم كما ورد في أحد أمثالهم "هي ظهور خيلهم"(8). وتقدم أولئك الأقوام إلى الروسيا حوالي عام 355، مسلحين بالأقواس والسهام، مزودين بالشجاعة والسرعة، يدفعهم من خلفهم جدب بلادهم وضغط أعدائهم الشرقيين، فهزموا في زحفهم قبائل الألاني Alani، وعبروا نهر الفلجا (372؟)، وهاجموا في أكرانيا القوط الشرقيين الذين كادوا أن يصبحوا أقواماً متحضرين. وقاومهم إرمنريك Ermanaric المعمر ملك القوط الشرقيين مقاومة الأبطال، ولكنه هزم زمات بيده لا بيد أعدائه كما يقول بعض المؤرخين. واستسلم بعض القوط الشرقيين وانضووا تحت لواء الهون، وفر بعضهم متجهين نحو الغرب إلى أراضي القوط الغربيين الواقعة شمال الدانوب. والتقى جيش من القوط الغربيين بالهون الزاحفين عند نهر الدنيستر، فأوقع به الهون هزيمة منكرة، وطلب بعض من نجوا من القوط الغربيين إلى ولاة الأمور الرومان في البلاد الواقعة على نهر الدانوب أن يأذنوا لهم بعبور النهر والإقامة من مؤيزيا Moesia وتراقية. وأرسل الإمبراطور فالنز Valens إلى عماله أن يجيبوهم إلى طلبهم على شرط أن يسلموا أسلحتهم ويقدموا شبانهم ليكونوا رهائن عنده. وعبر القوط الغربيين الحدود، ونهب موظفو الإمبراطورية وجنودها أموالهم غير مبالين بما يجللهم عملهم هذا من عار. واتخذ الرومان الذين افتتنوا ببناتهم وغلمانهم، أولئك الغلمان والبنات عبيداً لهم وإيماء، ولكن المهاجرين استطاعوا بفضل الرشا التي نفحوا بها ولاة الأمور الرومان أن يحتفظوا بأسلحتهم. وبيع لهم الطعام بما يباع به في أيام القحط، فكان القوط الجياع يبتاعون شريحة اللحم أو رغيف الخبز بعشرة أرطال من الفضة أو بعبد، بل إن القوط قد اضطروا في آخر الأمر أن يبيعوا أطفالهم بيع الرقيق لينجوا من هلاك جوعاً(9). ولما بدت عليهم أمارات التمرد دعا القائد الروماني زعيمهم فرتجيرن Fritigern إلى وليمة وفي نيته أن يقتله؛ ولكن فرتجيرن نجا وأثار حمية القوط المستيئسين وحرضهم على القتال، فأخذوا ينهبون، ويحرقون، ويقتلون، حتى أصبحت تراقية كلها تقريباً خراباً يباباً تعاني الأمرين من جوعهم وغيظهم. وأسرع فالنز من بلاد الشرق لملاقاتهم والتحم بهم في سهول هدريانوبل Hadrianople، ولم يكن معه إلا قوة صغيرة معظم رجالها من البرابرة الذين كانوا في خدمة روما (378). وكانت النتيجة، كما يقول أميانوس "أشنع هزيمة حلت بجيوش الرومان منذ معركة كاني Cannae" التي حدثت قبل ذلك اليوم بخمسمائة وأربع وتسعين سنة(10). وفيها تفوق الفرسان القوط على المشاة الرومان، وظلت حركات الفرسان وفنونهم العسكرية من ذلك اليوم حتى القرن الرابع عشر هي المسيطرة على فن الحرب الآخذ في الاضمحلال. وهلك في هذه المعركة ثلثا الجيش الروماني، وأصيب فالنز نفسه بجرح بالغ، وأشعل القوط النار في الكوخ الذي آوى إليه، ومات الإمبراطور ومن كان معه محترقين بالنار. وزحفت الجموع المنتصرة إلى القسطنطينية، ولكنها عجزت عن اختراق وسائل الدفاع التي أقامتها ومنيكا أرملة فالنز. وأخذ القوط الغربيون، ومن انضم إليهم من القوط الشرقيين والهون الذين عبروا الحدود غير المحمية عند نهر الدانوب، يعيثون فساداً في بلاد البلقان من البحر الأسود إلى حدود إيطاليا.
الفصل الثاني: الأباطرة المنقذون 364-408
ولم تقفر الإمبراطورية في هذه الأزمة من الحكام القادرين. فقد نقل الجيش ومجلس الشيوخ تاج الإمبراطورية إلى فلنتنيان وهو جندي فظ مقطوع الصلة بالثقافة اليونانية يذكرنا بفسبازيان. وعين فلنتنيان أخاه الأصغر فالنز، بموافقة مجلس الشيوخ، أوغسطس وإمبراطوراً على الشرق، واختار هو لنفسه الغرب الذي كان يبدو أشد خطراً من الشرق. ثم أعاد تحصين حدود إيطاليا وغالة، وأعاد إلى الجيش قوته ونظامه، وصد مرة أخرى الغزاة الألمان إلى ما وراء نهر الرين، وأصدر من عاصمته ميلان تشريعات مستنيرة حرم فيها على الآباء قتل الأبناء، وأنشأ الكليات الجامعية، ووسع نطاق المساعدات الطبية الحكومية في روما، وخفض الضرائب، وأصلح النقد الذي انخفضت قيمته، وقاوم الفساد السياسي، ومنح جميع سكان الإمبراطورية حرية العقيدة والعبادة. وكان لهذا الإمبراطور عيوبه ونقاط ضعفه. من ذلك كان يقسو أشد القسوة على أعدائه؛ وإذا جاز لنا أن نصدق سقراط المؤرخ فإنه شرع الزواج باثنتين لكي يجيز لنفسه أن يتزوج جستينا(11)، التي غالت زوجته في ووصف جمالها له. ومع هذا كله فقد كان موته العاجل (375) مأساة كبرى حلت بروما. وخلفه ابنه جراتيان Gratian على عرش الإمبراطورية في الغرب، وسار فيها سيرة أبيه عاماً أو عامين، ثم أطلق العنان للهو والصيد، وترك أزمة الحكم إلى موظفين فاسدين عرضوا جميع المناصب والأحكام للبيع. لهذا خلعه القائد لكسموس عن العرش وغزا إيطاليا ليحاول تنحية فلنتنيان الثاني خلف جراتيان وأخيه غير الشقيق عن ولاية الملك، ولكن ثيودوسيوس الأول الأكبر الإمبراطور الجديد على الشرق زحف غرباً، وهزم الغاصب، وثبت الشاب فلنتنيان على عرشه في ميلان (388). وكان ثيودوسيوس من أصل أسباني، أظهر مواهبه الحربية ومهارته في القيادة أسبانيا، وبريطانيا، وتراقية. وكان قد أقنع القوط المنتصرين بالانضواء تحت لوائه بدل أن يحاربوه، وحكم الولايات الشرقية بحكمة وروية في كل شيء إلا في عدم تسامحه الديني؛ فلما تولى الملك روع نصف العالم بما اجتمع فيه من صفات متناقضة هي جمال خلقه، ومهابته، وغضبه السريع ورحمته الأسرع، وتشريعاته الرحيمة، وتمسكه الصارم بمبادئ الدين القويم. وبينا كان الإمبراطور يقضي الشتاء في ميلان حدث في تسالونيكي (سالونيكا) اضطراب كان من خصائص تلك الأيام. وكان سببه أن بُثريك Botheric نائب الإمبراطور في ذلك البلد قد سجن سائق عربة محبوب من أهل المدينة جزاء له على جريمة خلقية فاضحة، فطلب الأهلون إطلاق سراحه، وأبى بثريك أن يجيبهم إلى طلبهم، وهجم الغوغاء على الحامية وتغلبوا عليها، وقتلوا الحاكم وأعوانه ومزقوا أجسامهم إرباً، وطافوا بشوارع المدينة متظاهرين يحملون أشلاءهم دلالة على ما أحرزوه من نصر. ولما وصلت أنباء هذه الفتنة إلى مسامع ثيودوسيوس فاستشاط غضباً وبعث بأوامر سرية تقضي بأن يحل العقاب بجميع سكان تسالونيكي. فدعى أهل المدينة إلى ميدان السباق لمشاهدة الألعاب، ولما حضروا انقض عليهم الجند المترصدون لهم وقتلوا منهم سبعة آلاف من الرجال والنساء والأطفال، (390)(12). وكان ثيودوسيوس قد بعث بأمر ثان يخفف به أمره الأول ولكنه وصل بعد فوات الفرصة. وارتاع العالم الروماني لهذا الانتقام الوحشي وكتب الأسقف أمبروز Ambrose الذي كان يجلس على كرسي ميلان ويصرف منه على شؤون الأبرشية الدينية بالجرأة والصلابة الخليقتين بالمسيحية الحقه، كتب إلى الإمبراطور يقول إنه (أي الأسقف) لا يستطيع بعد ذلك الوقت أن يقيم القداس في حضرة الإمبراطور إلا إذا كفر ثيودوسيوس عن جرمه هذا أمام الشعب كله. وأبى الإمبراطور أن يحط من كرامة منصبه بهذا الإذلال العلني وإن كان في خبيئة نفسه قد ندم على ما فعل، وحاول أن يدخل الكنيسة، ولكن أمبروز نفسه سد عليه الطريق، ولم يجد الإمبراطور بداً من الخضوع بعد أن قضى عدة أسابيع يحاول فيها عبثاً أن يتخلص من هذا المأزق، فجرد نفسه من جميع شعائر الإمبراطورية، ودخل الكنيسة دخول التائب الذليل، وتوسل إلى الله أن يغفر له خطاياه (390). وكان هذا الحادث نصراً وهزيمة تاريخيين في الحرب القائمة بين الكنيسة والدولة.
ولما عاد ثيودوسيوس إلى القسطنطينية تبين أن فالنتنيان الثاني؛ وهو شاب في العشرين من عمره، عاجز عن حل المشاكل التي تحيط به. فقد خدعه أعوانه وجمعوا السلطة كلها في أيديهم المرتشية، واغتصب أربوجاست Arbogast الفرنجي الوثني قائد جيشه المرابط السلطة الإمبراطورية في غالة، ولما قدم فلنتنيان إلى فين ليؤكد فيها سيادته قتل غيلة (292). ورفع أربوجاست على عرش الغرب تلميذاً وديعاً سلس القياد يدعى اوجنيوس Eugenius وبدأ بعمله هذا سلسلة من البرابرة صانعي الملك. وكان أوجينوس مسيحياً: ولكنه كان وثيق الصلة بالأحزاب الوثنية في إيطاليا إلى حد جعل أمبروز يخشى أن يصبح يولياناً ثانياً. وزحف ثيودوسيوس مرة أخرى نحو الغرب ليعيد إلى تلك الأنحاء السلطة الشرعية ويردها إلى الدين القويم. وكان تحت لوائه جيش من الهون والقوط، والألاني، وأهل القوقاز، وأيبيريا، وكان من بين قواده جيناس Gainas القوطي الذي استولى فيما بعد على القسطنطينية، واستلكو الوندالي الذي دافع في المستقبل عن روما، وألريك القوطي الذي نهبها. ودارت بالقرب من أكويليا معركة دامت يومين، هزم فيها أربوجاست وأوجينوس (394)؛ فأما أوجينوس فقد ذبح بعد أن أسلمه جنوده، وأما أربوجاست فقد قتل نفسه بيده. واستدعى ثيودوسيوس ابنه هونوريوس Honorius وهو غلام في الحادية عشرة من عمره ليقيمه إمبراطور على الغرب، ورشح ابنه أركاديوس Arcadius البالغ من العمر ثماني عشر سنة ليكون إمبراطور معه على الشرق ثم مات بعدئذ في ميلان منهوكاً من كثرة الحروب (395) ولما يتجاوز الخمسين من عمره. وانقسمت بعد موته الإمبراطورية التي طالما وحدها، ولم يجتمع شملها مرة أخرى بعد ذلك الوقت إلا في فترة قصيرة تحت حكم جستنيان.
وكان ولدا ثيودوسيوس شخصين ضعيفين مخنثين، درجا في مهد الأمن والدعة الموهن للعزيمة، فلم يكونا خليقين بأن يوجها سفينة الدولة فيما يحيط بها من عواصف، وإن كانت أخلاقهما لا تقلان طيبة عن نواياهما. وسرعان ما أفلت زمام الأمور من أيديهما، وأسلما أعمال الدولة الإدارية والسياسة -إلى وزيرهما- إلى روفينوس Rufinus المرتشي الشره في الشرق، وإلى استلكو القدير المجرد من الضمير في الغرب. ولم يلبث هذا الشريف الوندالي أن زوج ابنته مارية Maria بهونوريوس في عام 398 راجياً أن يصبح بهذا الزواج جداً لإمبراطور وصهراً لآخر. ولكن هونوريوس أثبت أنه مجرد من العاطفة تجره من الفطنة، فكان يقضي وقته في إطعام الدجاج الإمبراطوري ويحبو هذا الدجاج بحبه وعطفه، حتى ماتت مارة عذراء بعد أن لبثت زوجة عشرة سنين(13).
وكان ثيودوسيوس قد جعل القوط يجنحون إلى السلم باستخدامهم في الحرب، وبتقديم معونة سنوية من المال لهم بوصفهم حلفاء له؛ ولكن خلفه قطع عنهم هذه المعونة، ولما جاء استلكو سرح جنوده الوط؛ وقام المحاربون المتعطلون يطلبون المال والمغامرات وهيأ لهم ألريك زعيمهم الجديد كليهما واستعان على ذلك بمهارة بزَّ بها الرومان في الحرب وفي السياسة على السواء، وقال لأتباعه إنه لا يدري كيف يَخضع القوطُ ذوو الأنفة والرجولة ويعملون أجزاء عند الرومان أو اليونان الضعفاء المنهوكين، بدل أن يعتمدوا على بسالتهم وقوة سواعدهم فيقتطعوا من الإمبراطورية المتداعية المحتضرة مملكة لهم؟ وقاد ألريك في السنة التي مات فيها ثيودوسيوس قوط تراقية كلهم تقريباً وزحف بهم على بلاد اليونان، واجتاز ممر ترموبيلي دون أن يلقي مقاومة، وذبح كل من لقي في طريقه من الرجال الذين في سن العسكرية، وسبى النساء، وخرب بلاد البلوبونيز، ودمر هيكل دمتر في إليوسيز، ولم يبق على أثينة إلا بعد أن افتدت نفسها بفدية استنفدت معظم ثروتها غير العقارية (393). وجاء استلكو لينقذها ولكنه وصل إليها بعد فوات الفرصة، فاستدرج القوط إلى موقع غير حصين، ولكن ثورة شبت في إفريقية اضطرته إلى أن يعقد معهم هدنة عاد بعدها إلى العرب. ثم وقع ألريك ميثاق حلف مع أركاديوس أجاز فيه ثانيهما للأول أن يستقر أتباعه من القوط في إبيروس، وبسط السلم لواءه بعدئذ على الإمبراطورية أربع سنين.
وفي هذه السنين الأربع ألقى سينيسيوس القوريني، وهو أسقف نصف مسيحي ونصف وثني، خطاباً في القسطنطينية أمام حاشية أركاديوس المترفة وصف فيها في وضوح وقوة المشكلة التي تواجهها روما وبلاد اليونان والتي لا بد لها أن تختار فيها واحدة من اثنتين. وكان مما قاله في هذه الخطبة: كيف تستطيع الإمبراطورية البقاء إذا ظل أهلها يتهربون من الخدمة العسكرية، ويكلون الدفاع عنها إلى الجنود المرتزقة، تجندهم من الأمم التي تهدد كيانها؟ وعرض على الولاة الأمور أن يضعوا حداً للترف والنعيم، وأن يجيشوا جيشاً من أهل البلاد بالتطوع أو التجنيد الإجباري يدافع عنها وعن حريتها؛ وأهاب بأركاديوس وهونوريوس أن ينفضا عنهم غبار الخمول وأن يوجها ضربة قاصمة إلى جموع البرابرة الوقحين الذين في داخل الإمبراطورية، وأن يردوهم إلى مرابضهم وراء البحر الأسود ونهري الدانوب والراين. وصفق رجال الحاشية إعجاباً بما حواه خطاب سينيسيوس من عبارات منمقة بليغة، ثم عادوا من فورهم إلى ولائمهم(14) وكان ألريك في هذه الأثناء يرغم صناع الأسلحة في أبيروس على أن يصنعوا لرجاله القوط كل ما هم في حاجة إليه من الحراب والسيوف والخوذ والدروع.
وفي عام 401 غزا إيطاليا، بعد أن نهب كل ما مر ب في طريقه من البلاد، وهرع آلاف من اللاجئين إلى ميلان ورافنا، ثم فروا منهما إلى روما. واحتمى الزراع في داخل المدن المسورة، وجمع الأغنياء كل ما استطاعوا نقله من ثروتهم، وحاولوا وهم في شدة الذعر أن يعبروا البحر إلى كورسكا، وسردينية، وصقلية. وجرد استلكو ولايات الدولة من حامياتها ليجمع منها جيشاً يستطيع صد تيار القوط الجارف، وانقض به عليهم في بولنتيا Pollentia في صباح يوم عيد القيامة من عام 402 حين وقفوا أعمال النهب ليؤدوا الصلاة. ونشبت بين الجيشين معركة لم تكن فاصلة، ارتد على أثرها ألريك إلى روما التي لم تكن فيها من يدافع عنها، ولم يغادر إيطاليا إلا بعد أن نفحه هونوريوس برشوة سخية.
وكان الإمبراطور الوجل قد فكر أثناء زحف ألريك على ميلان أن ينقل عاصمته إلى غالة، أما الآن فقد أخذ يبحث له عن مكان آخر أعظم منها أمناً، فوجد ذلك المكان في رافنا، التي تجعلها المناقع والبحيرات الضحلة، منيعة من البر، والشواطئ الرقراقة مستعصية على العدو من جهة البحر. ولكن العاصمة الجديدة أخذت ترتجف من الخوف كالعاصمة القديمة حين زحف ردجيسيوس Radagaisus البربري بجيش تبلغ عدته مائتي ألف مقاتل من الألاني، والكوادي، والقوط الشرقيين، والوندال، وعبر بهم جبال الألب، وهاجم مدينة فلورنتيا الناشئة. وفي هذه العصيبة برهن استلكو مرة أخرى على براعته في القيادة، فهزم الجحفل المختلط بجيش أقل منه عدداً، وساق ردجيسيوس مكبلاً بالأغلال أمام هونوريوس، وتنفست إيطاليا الصعداء مرة أخرى، وعادت حاشية الإمبراطور، من أشراف وأميرات، وأساقفة، وخصيان، وطيور داجنة وقواد إلى ما ألفته من ترف، وفساد، ودسائس.
وكان أولمبيوس وزير الإمبراطور، يغار من استلكو ويرتاب في نواياه. فقد ساءه أن يتغاضى القائد العظيم، كما بدا له، عن هرب ألريك المرة بعد المرة. وخيل إليه أنه قد كشف ما بين القائد الألماني والغزاة الألمان من عطف كامن. واحتج على الرشا التي نفح بها ألريك أو وعد بها بناء على طلب استلكو. وتردد هونوريوس في إقصاء الرجل الذي لبث ثلاثة وعشرين عاماً يقود جيوش روما من نصر إلى نصر، والذي أنجى الغرب مما كان يتهدده من أخطار؛ فلما أن أقنعه أولمبيوس بأن استلكو يأتمر به ليجلس ابنه هو على العرش، وافق الشاب الوجل على قتل قائده، وأرسل أولمبيوس من فوره سرية من الجند لينفذوا قرار الإمبراطور. وأراد أصدقاء استلكو أن يقاوموا ولكنه أمرهم ألا يفعلوا ومد رقبته للسيف (408). وبعد بضعة أشهر من هذا الحادث عاد ألريك إلى إيطاليا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: ما كان يحدث في إيطاليا
كانت الدولة الرومانية الغربية في أواخر القرن الرابع تطالعنا بصورة معقدة مركبة من الانتعاش والاضمحلال، ومن النشاط والعقم الأدبي، ومن الأبهة السياسية والانحلال العسكري. وكانت غالة في هذه الأثناء تزدهر ويعمها الرخاء، وتنازع إيطاليا في جميع الميادين؛ فقد كان عدد الغاليين في الإمبراطورية عشرين مليوناً أو يزيدون من سكانها الذين يقربون من سبعين مليوناً، في حين أن الإيطاليين لا يكادون يبلغون ستة ملايين(15)؛ وأما من عدا هؤلاء وأولئك فكانت كثرتهم من الشرقيين الذين يتكلمون اللغة اليونانية. وقد استحالت روما نفسها منذ بداية القرن الثاني بعد الميلاد مدينة شرقية من الأجناس التي تسكنها. لقد كانت روما من قبل تعتمد في حياتها على الشرق كما كانت أوربا الحديثة تعتمد في حياتها على فتوحها ومستعمراتها إلى أواسط القرن العشرين، وكانت الفيالق الرومانية تستحوذ على غلات ولاياتها التي تزيد على عشرة، وتنتزع منها معادنها الثمينة التي كانت تنساب في قصور الظافرين وخزائنهم. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد انقضى عهد الفتوح وبدأ عهد التقهقر والتراجع، واضطرت إيطاليا إلى الاعتماد على مواردها البشرية والمادية التي اضمحلت اضمحلالاً ينذر بأشد الأخطار من جراء تحديد النسل، والقحط والوباء، والضرائب الفادحة، والإتلاف والحرب. ولم تزدهر الصناعة يوماً ما في شبه الجزيرة الصقلية؛ ولآن وقد أخذت تفقد أسواقها في الشرق وفي غالة، لم يعد في وسعها أن تعول سكان المدن الذين كانوا يحصلون على الكفاف من العيش بالكدح في الحوانيت وفي البيوت. وكانت الكجلييا Cellegia أو نقابات أصحاب الحرف تعاني الأمرين من جراء عجز أفرادها عن بيع أصواتهم في دولة ملكية مطلقة كان التصويت فيها نادراً. وكسدت التجارة الداخلية، وانتشر قطاع الطرق، وأخذت الطرق التي كانت من قبل مضرب الأمثال في العظمة تضمحل وتتحطم وإن ظلت وقتئذ أحسن من أي طريق في العالم كله قبل القرن التاسع عشر.
وكانت الطبقات الوسطى قبل ذلك الوقت عماد حياة المدن في إيطاليا؛ أما الآن فقد ضعفت هي الأخرى من جراء الانحلال الاقتصادي والاستغلال المالي؛ فقد كان كل ذي مال يخضع لضرائب مطردة الزيادة لإعالة بيروقراطية آخذة في الاتساع، وأهم ما تقوم به من الأعمال هو جباية الضرائب. وكان الهجاءون الفكهون حين يشكون من هذه الحال يقولون إن "الذين يعيشون على الأموال العامة أكثر عدداً من الذين يمدونهم بهذه الأموال(16). وكانت الرشا تستنفد الكثير مما يجبى من الضرائب؛ وسن ألف قانون وقانون لمقاومة اختلاس إيرادات الحكومة أو أملاكها، والكشف عن هذه الاختلاسات ومعاقبة مرتكبيها، وكان الكثير من الجباة يفرضون على البسطاء أكثر مما يجب أن يؤدوه؛ ويحتفظون بالزيادة لأنفسهم؛ وكان في وسعهم في مقابل هذا أن يخففوا الضرائب عن الأغنياء نظير جعل يأخذونه منهم(17).
وكان الأباطرة يبذلون غاية جهدهم لكي تراعى الأمانة في جبايتها؛ من ذلك أن فلنتيان الثاني عين في كل بلدة موظفاً يسمى "المدافع عن المدينة" ليحمي أهلها من حيل الجباة، وأعفى هونوريوس المدن التي كانت تعاني الأزمات المالية مما كان متأخراً عليها من الضرائب. ومع هذه فإن بعض سكان المدن -إذ صدقنا قول سلفيان Salvian- كانوا يفرون إلى خارج الحدود ليعيشوا تحت حكم الملوك البرابرة الذين لم يتعلموا بعد فن جباية الضرائب كاملاً؛ فقد بدا لهم أن عمال الخزنة أشد رهبة من العدو"(18). وكان من أثر هذه الظروف أن قلت الرغبة في النسل فأخذ عدد السكان في النقصان، وبقيت آلاف الأفدنة من الأراضي الصالحة للزراعة بوراً لا تجد من يفلحها، فنشأ من ذلك فراغ اقتصادي اجتمع إلى ما بقي في المدن من ثروة فأدى إلى اجتذاب البرابرة الذين كانوا في أشد الحاجة إلى تلك الأرض. ووجد كثيرون من أصحاب الأراضي الزراعية أنهم عاجزون عن أداء الضرائب أو الدفاع عن مساكنهم ضد الغزاة أو اللصوص، فتخلوا عن أملاكهم لمن هم أكبر منهم من الملاك أو أعظم قوة، وعملوا عندهم زراعاً (Coloni)، وأخذوا على أنفسهم يقدموا لسادتهم قدراً معيناً من غلة الأرض ومن العمل والوقت، وعلى أن يضمن لك أولئك السادة ما يكفيهم من العيش، ويحموهم في وقتي السلم والحرب. وبهذا كانت إيطاليا، التي لم تعرف فيما بعد الإقطاع بمعناه الكامل، من أوائل الأمم التي عدت أسس هذا الإقطاع. وكانت خطة شبيهة بهذه تحدث في مصر وإفريقية وغالة.
وكان الاسترقاق آخذاً في الزوال على مهل، وسبب ذلك ألا شيء في الحضارة الراقية يعدل أجر الرجل الحر أو مرتبه أو مكتسبة من حيث هو دافع اقتصادي للعمل والإنتاج. ولم يكن كدح الأرقاء مجزياً من هذه الناحية إلا حين يكثر عددهم؛ وكانت أعباء الاحتفاظ بهن قليلة؛ ولكن نفقات الحصول عليهم زادت حين لم تعد الفيالق الرومانية تنقل إلى بلادها ثمار النصر من الآدميين؛ يضاف إلى هذا أن فرار الأرقاء من سادتهم أصبح الآن أمراً يسيراً بسبب ضعف الحكومة؛ هذا إلى أنه كان لا بد من العناية بهم إذا مرضوا أو تقدمت بهم السن. ولما أن زادت تكاليف الأرقاء رأى سادتهم أن يحافظوا على الأموال التي استثمروها فيه بحسن معاملتهم له؛ ولكن أولئك الأسياد كان لا يزال لهم على عبيدهم حق الحياة والموت، وإن كان هذا الحق مقيداً ببعض القيود(19)، كما كان في مقدور السيد أن يستعين بالقانون للقبض على العبد الآبق، وأن يشبع شهوته الجنسية مع من يهوى منهم رجالاً كانوا أو نساءً؛ وهل أدل على هذا من أن بولينوس البلائي Paulinus of Pella كان يفخر بطهارة ذيله في شبابه حين "كبحت جماح شهواتي... فلم أستجيب لعشق امرأة حرة... واكتفيت بالإماء اللاتي كن في بيتي"(20). وكان معظم الأغنياء يعيشون الآن في بيوتهم الريفية بمنجاة من ضجيج المدن وغوغائها، غير أن الجزء الأكبر من ثروة إيطاليا كان لا يزال ينصب في روما؛ ولم تكن المدينة العظيمة، كما كانت من قبل، عاصمة الدولة، وقلّما كانت ترى الإمبراطور، ولكنها ظلت مركز الحياة الاجتماعية والذهنية في الغرب. وفي روما كانت أعلى درجات الطبقة الأرستقراطية الإيطالية الجديدة. ولم تكن هذه، كما كانت من قبل، طبقة وراثية، بل كانت طائفة يختارها الأباطرة بين الفينة والفينة على أساس الملكية العقارية. وكان أعضاء مجلس الشيوخ يعيشون بأعظم مظاهر الأبهة والفخامة وإن كان مجلسهم قد فقد بعض هيبته وكثيراً من سلطانه. وكانوا يشغلون بعض المناصب الإدارية الهامة ويظهرون فيها كثير من المقدرة والكفاية، ويقيمون الألعاب العامة على نفقتهم الخاصة. وكانت بيوتهم غاصة بالخدم مملوءة بالأثاث الغالي الثمن، وليس أدل على ذلك من أن طنفسة واحدة قد كلفت صاحبها ما قيمته أربعمائة ألف ريال أمريكي(21). وتكشف رسائل سيماركوس Symmacus وسيدنيوس Sidonius. كما يكشف شعر كلوديان عن الناحية الطيبة من حياة أولئك الأشراف الجدد، وما تمتاز به من نشاط اجتماعي وثقافي، وخدمة للدولة وولاء لها؛ وما كان بينهم من صداقة ورقة، وإخلاص متبادل بينهم وبين أزواجهم، وحب لأبنائهم وعطف عليهم.
لكن قس من مرسيلية عاش في القرن الخامس قد صور الحالة في إيطاليا وغالة بصورة أقل جاذبية من الصورة السابقة. فقد عالج سلفيان Salvian في كتابه "عن حكومة الله" (حوالي 450) نفس المشكلة التي أوحت إلى أوغسطين بكتابه "مدينة الله" وإلى أورسيوس Aorsius بكتابه "التاريخ ضد الوثنيين"-وهي كيف يستطاع التوفيق بين الشرور الناجمة من غزوات البرابرة وبين العناية الإلهية الرحيمة الخيرة؟ وقد أجاب سلفيان عن هذا السؤال بأن الآلام يقاسيها سكان الإمبراطورية إن هي إلا قصاص عادل لما كان متفشياً في العالم الروماني من استغلال اقتصادي، وفساد سياسي، واستهتار أخلاقي؛ ويؤكد لنا أنا لا نستطيع أن نجد بين البرابرة مثل ما نجده بين الرومان من ظلم الأغنياء للفقراء، لأن قلوب البرابرة أرق من قلوب الرومان؛ ولو أن الفقراء وجدوا وسيلة للانتقال لهاجروا بقضهم وقضيضهم ليعيشوا تحت حكم البرابرة(22). يواصل هذا الواعظ الأخلاقي وصفه فيقول إن الأغنياء والفقراء، والوثنيين والمسيحيين، في داخل الإمبراطورية كلهم غارقون في حمأة من الفساد لا يكاد التاريخ يعرف لها مثيلاً؛ فالزنى، وشرب الخمر قد أصبحا من الرذائل المألوفة في هذه الأيام، كما أضحت الفضيلة والاعتدال مثار السخرية ومبعث الآلاف من الفكاهات القذرة؛ وصار اسم المسيح لفظاً تدنسه أفواه الذين يسمونه إلهاً(23). ويمضي هذا التاستس Tacitus الثاني فيدعونا إلى أن ننظر إلى الفرق بين هذا كله وبين ما يتصف به الألمان من قوة وشجاعة، ومن مسيحية مليئة بالتقي خالية من التعقيد، ومن لين في معاملتهم للرومان المغلوبين، ومن ولاء متبادل بينهم، ومن عفة قبل الزواج، ووفاء بعده. لقد ذهل جيسريك Gaiseric الزعيم الوندالي إذ وجد حين استولى على قرطاجنة المسيحية أنه لا يكاد يخلو ركن فيها من بيت للدعارة، فما كان منه إلا أن أغلق هذه المواخير وخير العاهرات بين الزواج والنفي. وجملة القول أن العالم الروماني سائر إلى الانحطاط جسيماً، وقد فقد كل ما كان يتصف به من شجاعة أدبية، وترك الدفاع عنه إلى الأجانب المأجورين. ويختتم سلفيان هذا الوصف بقوله إن الإمبراطورية الرومانية "إما أن اكون قد ماتت وإما أنها تلفظ آخر أنفاسها"؛ وإذ كنا نراها في ذروة ترفها وألعابها، فإنها تضحك حين تموت Moritur et ridet(24).
تلك هي صورة مروعة، ظاهر فيها الغلو، لأن البلاغة قلّما تصحبها الدقة، وما من شك في أن الفضيلة قد توارت حياء في ذلك الوقت كما تتوارى الآن، وأفسحت الطريق للرذيلة، والبؤس، والسياسة، والجريمة. ويرسم أوغسطين صورة لا تقل عن هذه الصورة قتاماً يهدف بها إلى مثل هذه الغاية الأخلاقية؛ فهو يشكو من أن الكنائس كثيراً ما تخلو من المصلين لأن البنات الراقصات في دور التمثيل يجتذبن الناس منها بما يعرضنه من فتنتهن السافرة(25). وكانت الألعاب العامة لا تزال تشهد قتل الأسرى والمجرمين ليستمتع الناس بهذه المناظر البشعة في أعيادهم. وفي وسعنا أن نتصور ما في هذه المناظر من قسوة حين نقرأ ما يقوله سيماكوس من أنه أنفق ما قيمته 900.000 ريال أمريكي في إقامة حفلة واحدة، ومن أن المجالدين السكسون التسعة والعشرين الذين وقع الاختيار عليهم ليقاتلوا في المجتلد قد فوتوا عليه غرضه بأن خنقوا بعضهم بعضاً فانتحروا جميعاً قبل أن تبدأ الألعاب(26). وكان لروما في القرن الرابع 175 عيداً في العام، منها عشرة تقام فيها مباريات المجالدين، وأربعة وستون تعرض فيها ألعاب الوحوش، وما بقي منها بعد ذلك تعرض فيه مناظر في دور التمثيل(27). واغتنم البرابرة فرصة ولع الرومان بهذه المعارك الزائفة فانقضوا على قرطاجنة، وأنطاكية، وترير Trier حين كان الأهلون منهمكين في مشاهدتها في المدرجات أو حلبات اقتتال الوحوش(28). وحدث في عام 404 أن أقيمت في روما ألعاب للمجالدين احتفالاً بذكرى انتصار استلكو في بولنتيا نصراً مشكوكاً فيه. وحين بدأ الدم يراق قفز راهب شرقي يدعى تلمكس Telemachus من قاعدة النظارة إلى المجتلد ونادي بوقف القتال. ولكن النظارة استشاطوا غضباً فأخذوا يرجمونه بالحجارة حتى قتلوه؛ وأثر هذا المنظر في الإمبراطور هونوريوس فأصدر مرسوماً بإلغاء ألعاب المجالدين . أما السباق فقد بقي حتى عام 549 حين قضى عليه استنزاف الحروب القوطية لثروة المدن.
أما من الناحية الثقافية فلم تشهد روما منذ أيام بلني وتاستوس عصراً نشطت فيه الثقافة مثل ما نشطت في ذلك الوقت. لقد كان كل إنسان مولعاً بالموسيقى حتى لقد شكا أميانوس(29) من أنها قد حلت محل الفلسفة، وأنها قد "حولت الكتب إلى مقابر"؛ وهو يصف لنا أراغن مائية ضخمة، وقيثارات في حجم المركبات. وكانت المدارس كثيرة العدد، ويقول سيماكوس إن كل إنسان كان يجد الفرصة سانحة لتنمية ملكاته(30). وكانت "جامعات" الأساتذة الذين تؤدي لهم الدولة رواتبهم تعلم النحو، والبلاغة، والأدب، والفلسفة لطلاب جاءوا إليها من جميع الولايات الغربية، وذلك في الوقت الذي كان فيه البرابرة المحيطون بالدولة يدرسون فنون الحرب. إن كل حضارة ثمرة من ثمار شجرة الهمجية الصلبة وهي تسقط حين تسقط عند أبعد نقطة من جزع هذه الشجرة.
وجاء إلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوناً من الأنفس حوالي عام 365 يوناني سوري، كريم المحتد، وسيم الخلق، يدعى أميمانوس مرسلينوس الإنطاكي. وكان من قبل جندياً تحت قيادة أرسينوس Ursinus في أرض الجزيرة، واشترك بنشاط في حروب قنسطنطيوس ويوليان وجوفيان. وقد عاش هذا الرجل عيشة الجد والعمل قبل أن يشتغل بالكتابة. ولما عاد السلام إلى ربوع الشرق ارتحل إلى روما وأخذ على عاتقه إتمام العمل الذي بدأه ليفي وتاستوس، وذلك بكتابة تاريخ الإمبراطورية من عهد نيفا إلى عهد فالنز. وكتب بلغة لاتينية عسيرة معقدة، تشبه اللغة الفرنسية إذا ما كتبها ألماني؛ وكان من أسباب هذا العسر والتعقيد في كتاباته كثرة ما قرأه من كتابات تاستوس وطول الزمن الذي كان يتكلم فيه اللغة اليونانية. وكان هذا الرجل وثنياً سافراً، من المعجبين بيوليان، ومن الذين يزدرون الترف الذي كان يعزوه إلى أساقفة روما؛ ولكنه رغم هذا كله كان بوجه عام منزهاً عن الهوى فيما كتب، يمتدح كثيراً من فضائل المسيحية، ويلوم يوليان على تقييده الحرية العلمية، ويقول إن هذا خطأ يجب "أن يقضي عليه بالسكوت الأبدي"(31). وكان قد حصل من العلم أقصى ما يسمح وقت الجندي له بتحصيله. وكان يؤمن بالشياطين والسحر، ويقتبس من شيشرون أكبر المعارضين للقدرة على معرفة الغيب مما يؤيده به هذه العقيدة(32). ولكنه كان إلى حد كبير رجلاً شريفاً لا يداجي ولا يجامل، عادلاً مع جميع الناس وجميع الأحزاب؛ "لا أزين قصتي بالألفاظ الخداعة، أمين على الحقائق إلى أبعد حدود الأمانة"(33). وكان يكره الظلم، والبذخ، والمظاهر الكاذبة، ويجهر برأيه فيها أينما وجدت؛ وكان آخر المؤرخين اليونان والرومان الأقدمين، وكان كل من جاء بعده في العالم اللاتيني مجرد إخباريين.
لكن مكروبيوس Macerobius قد وجد في هذه المدينة نفسها، أي في روما، التي كانت أخلاقها في نظر أميانوس وضيعة متعاظمة فاسدة، مجتمعاً من الناس، يجملون ثراءهم باللطف والكياسة، والثقافة، ومحبة الناس. وكان مكروبيوس هذا في أول الأمر من رجال العلم مولعاً بالكتب وبالحياة الهادئة، لكننا نجده في عام 399 يعمل مبعوثاً للإمبراطور في أسبانيا. وقد أصبح تعليقه على كتاب شيشرون المسمى "أحلام سبيو" الوسيلة التي انتقل بها تصوف الأفلاطونية الجديدة وفلسفتها إلى عامة الشعب. وخير كتبه على الإطلاق هو كتاب الساترناليا Saturnalia أو عيد زحل الذي لا يكاد كتاب تاريخي في الخمسة عشر قروناً الأخيرة يخلو من مقتبسات منه. وهو مجموعة من (غرائب الأدب) أورد فيه المؤلف ما حصله من معلومات غير متجانسة في أيام جده ودراسته، ولياليه الطوال التي قضاها ينقب في بطون الأسفار. وقد تفوق في كتاباته على ألوس جليوس Oulus Gellius في الوقت الذي كان يسطو عليه، ذلك بأنه صاغ المادة التي أخذها عنه في صورة حوار خيالي بين رجال حقيقيين هم بروتكستاتوس Proetextatus وسيماخوس Symmachus، وفلافيان، وسرفيوس وغيرهم ممن اجتمعوا ليحتفلوا بعيد الساترناليا بالخمر الطيب، والطعام الشهي، والنقاش العلمي. وألقيت في هذا النقاش على الطبيب ديزاريوس Disarius أسئلة علمية منها: هل الطعام البسيط خير من الطعام المتعدد الألوان؟ ولم يندر أن ترى امرأة سكرى؟ ولم يسكر المسنون من الرجال على الدوام؟ هل طبيعة الرجال أقل أو أكثر حرارة من طبيعة الناس؟. ويدور النقاش حول التقويم، وفيه تحليل طويل لألفاظ فرجيل، ونحوه، وأسلوبه، وفلسفته، وسرقاته؛ وفيه فكاهات مأخوذة من جميع العصور، ورسالة عن الولائم الدسمة، والأطعمة النادرة. وتبحث في المساء مسائل أخف من هذه يتسلى بها هؤلاء العلماء منها: لم تحمر وجوهنا من الخجل وتصفر من الخوف؟-ولم يبدأ الصلع من أعلى الرأس؟ وأيهما أسبق من الآخر الفرخ أو البيضة؟
ونجد في مواضع متفرقة من هذا الخليط المهوش فقرات سامية كالتي يتحدث فيها بريتكستاتوس عن الرق فيقول: لن أقدر الناس بمراكزهم بل بآدابهم وأخلاقهم، لأن الثانية ثمرة طباعنا أما الأولى فهي نتيجة الصدفة.. وينبغي لك يا إفنجيلوس أن تبحث عن أصدقائك في منزلك لا في السوق العامة ولا في مجلس الشيوخ. عامل عبدك بالرفق والحسنى، وأشركه في حديثك، وأدخله أحياناً في مجالسك الخاصة. وقد عمل أباؤنا على محو الكبرياء من نفس السيد والخجل من نفس العبد بأن سموا الأول "والد الأسرة" وسموا الثاني "أحد أفراد الأسرة" وإن عبيدك ليبادرون إلى احترامك أكثر من مبادرتهم إلى خوفك(35).
وكانت ندوة شبيهة بهذه الندوة هي التي رحبت في عام 394 بأن ينضمم إليها شاعر شاءت الأقدار أن يتغنى بمجد روما في ساعة احتضارها. ولد كلوديوس كلوديانوس Claudius Claudianus كما ولد أميانوس، في بلاد الشرق، وكانت لغته الأصلية هي اللغة اليونانية. ولكنه تعلم اللاتينية بلا ريب في حداثة سنه، لأنه كان يكتب بها أسلوب سلس. وبعد أن أقام في روما زمناً قصيراً نزح إلى ميلان، واستطاع أن يجد له مكاناً في أركان حرب استلكو، ثم صار شاعراً غير رسمي لبلاط الإمبراطور هونوريوس، وتزوج سيدة ذات ثراء من أسرة شريفة. وكان كلوديوس يترقب أن تواتيه الفرصة الكبرى ولا يحب أن يموت وهو خامل الذكر. ولذلك كان يمدح استلكو بقصائد عصماء ويهاجم أعداءه بقصائد أخرى حوت أقذع الألفاظ. وعاد إلى روما في عام 400 ولقي منها أعظم آيات الشكر والترحاب حين مدح المدينة الخالدة في قصيدة "عن قنصلية استلكو" لا تقل روعة عن قصائد فرجيل نفسه: أيا قنصل الناس جميعاً، ويا من تضارع الآلهة في المنزلة، وأنت حامي المدينة التي لا تدانيها مدينة يحيط بها الهواء الذي على سطح الأرض، ولا تبلغ مداها العين، ولا يتصور جمالها الخيال، ولا يوفيها صوت مهما علا حقها من الثناء. إنها ترفع هامتها الذهبية تحت ما جاورها من النجوم، وتحاكي بتلالها السبعة السبع السموات العلي. هي أم الجيوش والشرائع التي عنت لجبروتها الأرض بأجمعها وكانت أقدم مهد للعدالة على ظهر الأرض. تلك هي المدينة التي نشأت نشأة متواضعة، ولكنها امتدت إلى القطبين وبسطت سلطانها من مكانها الصغير حتى بلغ مداه منتهى ما يصل إليه ضياء الشمس... فهي دون غيرها من البلاد قد فتحت صدرها لاستقبال من غلبتهم على أمرهم، وعاملت الجنس البشري معاملة الأم الرؤوم لا معاملة الحاكم المتغطرس، فحمته وخلعت عليها اسمها، ودعت من هزمتهم إلى مشاركتها في حقوق المواطنية، وربطت الشعوب البعيدة برباط المحبة. وبفضل حكمها السلمي أصبح العالم كله وطناً لنا، نعيش فيه أينما شئنا، وأصبح في مقدورنا أن نزور ثول Thule ونرتاد براريها التي كانت من قبل تقذف الرعب في القلوب، والتي أصبح ارتيادها الآن نزهة هينة، وبفضلها يستطيع كل من أراد أن يشرب من مياه الرون ويعب من مجرى نهر العاصي، وبفضلنا صرنا كلنا شعباً واحداً(36). وأراد مجلس الشيوخ أن يعبر لكلوديوس عن شكره واعترافه بفضله فأقام في سوق تراجان تمثالاً "لأجَلّ الشعراء" الذي جمع بين سلاسة فرجيل، وقوة هومر. وقضى كلوديان بعض الوقت يقرض الشعر في موضوعات تدر عليه المال، ثم وجه مواهبه وجهة أخرى فأنشأ قصيدته "اغتصاب بسبرين Brosperine" وقص فيها القصة القديمة وصور البر والبحر وأسبغ على تلك الصورة من رقيق النغم ما يعيد إلى الذاكرة روايات الحب اليونانية في العصر الذي ظهرت فيه أول مرة. وبلغه في عام 408 أن استلكو قد قتل غيلة، وأن الكثيرين من أصدقاء هذا القائد قد قبض عليهم وأعدموا. واختفى الرجل بعدئذ من ميدان التاريخ فلم نعرف باقي قصته. وبقيت في روما كما بقيت في الإسكندرية أقليات وثنية كبيرة العدد، وكان فيها حتى نهاية القرن الرابع سبعمائة هيكل وثني(37). ويبدو أن جوفيان وفلنتنيان الأول لم يغلقا الهياكل التي فتحها يوليان؛ فظل القساوسة الرومان حتى عام 394 يجتمعون في مجامعهم المقدسة، وظلت أعياد اللوبركاليا يحتفل بها بكل ما فيها من شعائر نصف همجية، كما ظلت الطريق المقدسة نتردد فيها بين الفينة والفينة أصداء خوار الأثوار التي تساق للضحية.
وكان أعظم الناس إجلالاً بين الوثنيين في روما في أيامها الأخيرة هو فتيوس بريتكستاتوس، زعيم الأقلية الوثنية في مجلس الشيوخ. وكان الناس جميعاً يعترفون بفضائله-باستقامته، وعلمه، ووطنيته، وحياته العائلية اللطيفة. ومن الناس من يقول إنه يماثل كاتو وسنسناتوس Cincinnatus؛ ولكن الزمان يذكر أكثر منه صديقه سيماخوس (345-410)، الذي ترسم رسائله صورة رائعة ساحرة للأرستقراطية التي كانت تظن نفسها مخلدة وهي تحتضر. وحتى أسرته نفسها قد بدت أنها من المخلدين: فقد كان جده قنصلاً في عام 364، وكان هو نفسه حاكماً في عام 384، وقنصلاً في عام 391. وكان ابنته بريتورا، وحفيده قنصلاً في عام 485 بعد وفاة جده، وكان اثنان من أحفاده قنصلين في عام 522. وكان هو ذا ثروة طائلة؛ فقد كانت له ثلاثة قصور ريفية بالقرب من روما، وسبعة أخرى في لاتيوم، وخمسة على خليج نابلي، فضلاً عن قصور أخرى مثلها في أماكن أخرى من إيطاليا؛ وبفضل هذه القصور "كان في وسعه أن يسافر من أقصى شبه الجزيرة إلى أقصاها ثم يأوي إلى منزله في كل مكان يحل به(38)". ولا يذكر لنا التاريخ أن أحداً من الناس كان يحسده على ثروته، لأنه كان ينفق منها بسخاء وينميها بحياة الدرس، والخدمة العامة، والأخلاق الفاضلة، وأعمال البر والإنسانية، التي لا تعرف فيها شماله ما تفعل يمينه. وكان من أصدقائه الأوفياء مسيحيون ووثنيون، وبرابرة رومان. ولعله كان يضع وثنيته قبل وطنيته؛ فقد كان يظن أن الثقافة التي يمثلها ويستمع بها وثيقة الصلة بالدين القديم، وكان يخشى أن يؤدي سقوط أيهما إلى سقوط كليهما. ويعتقد أن المواطن بإخلاصه للشعائر القديمة يحس أنه حلقة في سلسلة مترابطة متصلة أعجب اتصال-تمتد من رميولوس إلى فلنتنيان، وأن هذا الإخلاص يبعث في نفسه حب المدينة وحب الحضارة التي نشأت بفضل الأجيال المتعاقبة خلال ألف عام. وقد استحق كونتس أورليوس سيماخوس بفضل أخلاقه الطيبة أن يختاره مواطنوه ممثلاً لهم في آخر كفاحهم الرائع في سبيل آلهتهم.
وقد استطاع أمبروز أن يجعل الإمبراطور جراتيان مسيحياً متحمساً لدينه، وأغراه تحمسه للدين القديم أن يعلن على الملأ أن العقيدة النيقية فريضة واجبة على جميع الشعوب الخاضعة لحكمنا الرحيم"، وأن إتباع غيرها من العقائد "مفتونون مسلوبو العقول"(39)، وفي عام 382 أمر ألا تؤدي خزانة الإمبراطورية أو خزائن البلديات أية إعانات لإقامة الاحتفالات الوثنية، أو للعذارى الفستية أو الكهنة الوثنيين، ثم صادر الأراضي التي تملكها الهياكل، جماعات الكهنة، وأمر أتباعه بأن يرفعوا من قاعة مجلس الشيوخ في روما تمثال إلهة النصر الذي أقامه فيها أغسطس في عام 29 ق. م، والذي ظل اثنا عشر جيلاً من الشيخ يقسمون بين يديه يمين الولاء للإمبراطور؛ وانتدب مجلس الشيوخ وفدا برياسة سيماخوس يشرح لجراتيان قضية تمثال النصر هذا. ولكن جراتيان أبى أن يستقبل الوفد، وأمر ينفي سيماخوس من روما (382)؛ وفي عام 383 قتل جراتيان وبعث هذا الأمل في مجلس الشيوخ فأرسل وفداً إلى خليفته على العرش؛ وكانت الخطبة التي ألقاها سيماخوس بين يدي فلنتنيان الثاني آية من آيات الدفاع البليغ، وكان مما قاله فيها إنه ليس من الحكمة في شيء أن يقضي هذا القضاء العاجل المفاجئ على شعائر دينية ظلت طوال ألف عام مرتبطة أشد الارتباط باستقرار النظام الاجتماعي وبهيبة الدولة، ثم قال: "ماذا يهمنا، في آخر الأمر، أي طريق يسلكا إنسان ليصل به إلى الحقيقة؟ والحق أن في وسع الناس أن يصلوا إلى معرفة هذا السر العظيم من طريق واحد"(40).
وتأثر فلنتنيان الشاب بهذا القول، ويقول أمبروز إن من كان في المجلس الإمبراطوري من المسيحيين أنفسهم قد أشاروا على الإمبراطور بإعادة تمثال النصر إلى مكانه، ولكن أمبروز، وكان في ذلك الوقت غائباً في بعثة دبلوماسية الدولة، تغلب على المجلس برسالة قوية مليئة بالكبرياء والغطرسة أسلها إلى الإمبراطور. وعدد فيها حجج سيماخوس حجة بعد حجة، ثم دحضها كلها بما وهب من قوة وبلاغة. وقد حوت هذه الرسالة ما يعد في الواقع تهديداً للإمبراطور بإخراجه من حظيرة الدين إذا أجاب الوفد إلى طلبه، "وقد يكون في وسعك أن تدخل الكنيسة ولكنك لن تجد فيها قساً يستقبلك، أو أنك قد نجدهم فيها ليحرموا عليك دخولها"(41). وكان من أثر ذلك أن رفض فلنتنيان طلب مجلس الشيوخ.
وبذل الوثنيون في إيطاليا مجهوداً آخر في عام 393، فأعلنوا الثورة وخاطروا في سبيل غايتهم بكل شيء. وكان ثيودوسيوس قد أبى أن يعترف بالإمبراطور يوجنيوس نصف الوثني، فرأى هذا الإمبراطور أن يستعين بوثني الغرب في دفاعه عن نفسه، فأعاد تمثال النصر إلى مكانه. وتباهى بقوله إنه حين تم له النصر على ثيودوسيوس سيربط خيله في الكنائس المسيحية. وسار نقوماكس خوس فلافيانوس Nicomachus زوج ابنة سيماخوس، على رأس جيش ليساعد به يوجنيوس، فقاسمه الهزيمة وانتحر. وزحف ثيودوسيوس على روما، وأرغم مجلس الشيوخ على أن يعلن إلغاء الوثنية بجميع أشكالها (394). ولما نهب ألريك روما حسب الوثنيون أن ما أصاب هذه المدينة التي كانت من قبل سيدة العالم من إذلال كان نتيجة غضب الآلهة الذين تخلت عنهم. وفككت حرب الأديان هذه وحدة الشعب. وحطمت قواه المعنوية، ولما أن وصل إليهم سيل الغزو الجارف لم يجدوا وسيلة يواجهونه بها إلا تبادل اللعنات والصلوات المتنافرة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: تيار البرابرة الجارف
عقب أولمبيوس على الأمر القاضي بقتل استلكو بأمر آخر يقضي بقتل آلاف من أتباعه ومنهم رؤساء فيالقه البربرية. وكان ألريك يتحين الفرصة السانحة له وراء جبال الألب، فوجد في هذا فرصته السانحة ولم يدعها تفلت من يده؛ فقال إن الربعة الآلاف من الأرطال الذهبية التي وعد الرومان بأدائها إليه لم تصله بعد، وقال إنه في نظير هذا المال يرضى أن يقدم أنبل الشباب القوطي ضماناً لولاته في مستقبل الأيام. فلما رفض هونوريوس طلبه اجتازا جبال اللب ونهب أكويليا وكرمونا، وضم إليه ثلاثين ألفاً من الجنود المرتزقة الذين أغضبهم قتل زعمائهم، وزحف بطريق فلامنيوس حتى وصل إلى أسوار روما (408). ولم يلق في هذا الزحف مقاومة اللهم إلا من راهب واحد قال له إنه قاطع طريق، فرد عليه إلريك بجواب حيره إذ قال له إن الله نفسه قد أمره بهذا الغزو. وارتاع مجلس الشيوخ كما ارتاع في أيام هنيبال، ودفعه الروع إلى ارتكاب أعمال وحشية. فقد ظن أن أرملة استلكو كانت تساعد ألريك فأمر بقتلها؛ ورد ألريك على هذا بقطع كل الطرق التي يمكن أن يصل منها الطعام إلى العاصمة، وسرعان ما أخذ الناس يموتون فيها من الجوع، وشرع الرجال يقتل بعضهم بعضاً، والنساء يقتلن أبنائهن ليتخذنهم طعاماً. وسار وفد من أهل المدينة إلى ألريك ليسأله عن شروط الصلح، وهددوه بأن ألف ألف من الرومان على استعداد لمقاومته، فتبسم ضاحكاً من قولهم وأجابهم "كلما ازداد سمك القش كان حصده أيسر". ثم رق قلبه فرضى أن ينسحب إذا أعطى كل ما في المدينة من ذهب وفضة، وكل ما تحتويه من ثروة منقولة قيمة. ولما سأله المبعوثون: "وأي شيء بعد هذا يبقى لنا؟" أجابهم في ازدراء: "حياتكم". وآثرت روما أن تمضي في المقاومة؛ ولكن الجوع اضطرها أن تطلب شروطاً جديدة للاستسلام؛ فقبل ألريك منها 5000 رطل من الذهب وثلاثين ألف رطل من الفضة، وأربعة آلاف قباء من الحرير، وثلاثة آلاف من جلود الحيوان، وثلاثة آلاف رطل من الفلفل. وفي هذا الوقت عينه فر عدد لا يحصى من البرابرة الأرقاء من أسيادهم الرومان وانضموا تحت لواء ألريك. وكأن الأقدار شاءت أن تعوض الرومان عن هذه الخسارة، ففر من جيش ألريك قائد قوطي يدعى ساروس Sarus وانضم إلى هونوريوس، وأخذ معه قوة كبيرة من القوط، وهاجم بها جيش البرابرة الرئيسي. وعد ألريك هذا العمل نقضاً للهدنة التي وقعها الطرفان، فعاد إلى حضار روما. وفتح أحد الأرقاء أبواب المدينة للمحاصرين؛ وتدفق منه القوط، واستولى العدو على المدينة الكبرى لأول مرة في ثمانمائة عام (410). ولبثت ثلاثة أيام مسرحاً للسلب والنهب بلا تمييز بين أماكنها أو أهلها اللهم إلا كنيستي القديسين بطرس وبولس فلم يمسسهما أحد بسوء، وكذلك نجا اللاجئون الذين احتموا فيهما. غير أنه لم يكن من المستطاع السيطرة على من كان في الجيش البالغ عدده أربعين ألف مقاتل من الهون والأرقاء. فذبح مئات من أغنياء المدينة، واغتصبت نساؤهم ثم قتلن، وبلغ من كثرة القتلى أن لم يعد من المستطاع دفن الجثث التي امتلأت بها الشوارع. ووقع في أيدي الغزاة آلاف من الأسرى بينهم أخت لهونوريوس غير شقيقة تدعى جلا بلاسيديا Galla Placidia. وأخذ الفاتحون كل ما وقع في أيديهم من الذهب والفضة؛ وصهرت التحف الفنية للاستيلاء على ما فيها من معادن نفيسة، وحطم العبيد السابقون روائع فني النحت والخزف وهم فرحون مغتبطون انتقاماً منهم لما كانوا يعانونه من فقر وكدح، هما اللذان أثمرا هذا الجمال وهذه الثروة. ثم أعاد ألريك النظام وزحف بجيشه جنوباً ليفتح صقلية؛ ولكنه أصيب بالحمى في هذه السنة عينها ومات بها في كوسنزا Cosenza. وحول الأرقاء مجرى نهر بوسنتو Busento ليفسحوا مكاناً آمناً رحباً ينشئون فيه قبره، ثم أعيد النهر إلى مجراه الأصلي، وقتل العبيد الذين بهذه الأعمال مبالغة في إخفاء المكان الذي دفن فيه.
واختير أتلف Atilf (أدلف Adolf) صهر ألريك ليخلفه في ملكه ورضى الملك الجديد أن يسحب جيشه من إيطاليا إذا تزوج بلاسيديا Placidia، وأعطى القوط بوصفهم أحلاف روما المتعاهدين معها غالة الجنوبية بما فيه نربونة Narbonne وطُلوشة (طولوز)، وبردو، ولتكون مملكة لهم يحكمونها مستقلة استقلالاً ذاتياً. ورفض هونوريوس الشرط الخاص بالزواج، لكن بلاسيديا قبلته، وأعلن الزعيم القوطي أنه لا يبغي تدمير الإمبراطورية، بل يريد المحافظة عليها وتقويتها، وسحب جيشه من إيطاليا، وأنشأ مملكة للقوط الغربيين في غالة مستعيناً على إنشائها بمزيج من الدهاء السياسي والقوة الحربية. وكانت هذه المملكة من الوجهة النظرية خاضعة للإمبراطورية، وتخذ طلوشة عاصمة لها (414). وقتل الزعيم القوطي بعد سنة واحدة، واعتزمت بلاسيديا من فرط حبها له أن تعيش من بعده أرملة طول حياتها ولكن هونوريوس وهبها للقائد قنسطنطيوس. ولما مات قنسطنطيوس (421) وهونوريوس (423) أصبحت بلاسيديا وصية على ابنها فلنتنيان الثالث، وحكمت الإمبراطورية الغربية ثلاثين عاماً حكماً يشرف بنات جنسها.
وكان الوندال حتى في أيام ناستون، أمة قوية كثيرة العدد تمتلك الأجزاء الوسطى والشرقية من روسيا الحالية. وكانوا قبيل حكم قسطنطين قد زحفوا جنوباً إلى بلاد المجر، ولما بدد القوط الغربيون شملهم في إحدى الوقائع الحربية، طلب الباقون منهم أن يؤذن لهم بعبور الدانوب ودخول الإمبراطورية الرومانية. ووافق قسطنطين على طلبهم هذا، وظلوا سبعين عاماً يتكاثرون ويتضاعف عددهم في بنونيا Pannonia. وأثارت انتصارات ألريك حميتهم؛ ولما سحبت الدولة فيالقها من وراء جبال الألب لتدافع بها عن إيطاليا، تفتحت لهم أبواب الغرب واستهوتهم بثروته، حتى إذا كان عام 406 زحفت جموع كبيرة من الوندال، والألاني، والسيوفي وعبرت نهر الرين وعاثت فساداً في بلاد غالة، ونهبوا مينز Manz وذبحوا كثيراُ من أهلها، ثم تحركوا شمالاً إلى بلجيكا، ونهبوا مدينة تيير Tier العظيمة وأحرقوها. ثم أقاموا الجسور على نهري الموز Meause والآين Aisne ونهبوا ريمس Reims، وأمين Amiens، وأراس Arras، وتورناي Tournai، وواصلوا الزحف حتى كادوا يبلغون بحر المانش. ثم اتجهوا نحو الجنوب وعبروا نهري السين Scine واللوار Loire ودخلوا أكوتانيا Aquitaine وصبوا غضبهم الوحشي على جميع مدنها تقريباً ما عدا طلوسة، التي دافع عنها إكسبريوس Exuperius دفاع الأبطال. ووقفوا عند جبال البرنس، ثم ولوا وجههم نحو الشرق ونهبوا نربونة، وشهدت غالة من التخريب والتدمير الكامل ما لم تشهد له مثيل من قبل. وفي عام 409 دخلوا أسبانيا وكان عددهم وقتئذ نحو مائة ألف. وكان الحكم الروماني في تلك البلاد قد أثقل كاهل أهلها بالضرائب، وأدخل فيها إدارة منظمة، وجمع الثروة في ضياع واسعة، وجعل الكثرة الغالبة من سكانها عبيداً، أو رقيق الأرض، أو أحراراً يعانون ويلات الفقر المدقع. ولكن أسبانيا كانت بفضل ما فيها من استقرار وسلطان للقوانين أعظم ولايات الإمبراطورية رخاء، وكانت مريدة، وقرطاجنة، وقرطبة، وأشبيلية، وطركونه Tarragona من أغنى مدائن الإمبراطورية وأعظمها ثقافة. وانقض الوندال والسيوفي والألاني على هذه الشبه الجزيرة التي كانت تبدو آمنة حصينة، وأعملوا فيها السلب والنهب عامين كاملين حتى لم ينجح فيها مكان من جبال البرنس إلى جبل طارق، بل إن فتوحهم امتدت إلى سواحل إفريقية الشمالية. وأدرك هونوريوس أنه عاجز عن حماية الأراضي الرومانية بالجيوش الرومانية، فأغرى القوط الغربيين بالمال الوفير ليردوا إليه أسبانيا. وقام ملكهم القدير واليا Wallia بهذا العمل بعد عدة وقائع حربية أحكم خططها (420)، فارتد السويفي إلى شمالي أسبانيا، كما ارتد الوندال إلى إقليم الأندلس (Andalusia) الذي لا يزال يسمى باسمهم حتى اليوم، وأعاد ولاية أسبانيا إلى حوزة الإمبراطورية، وكشف بذلك عما في أخلاق ساسة الرومان من غدر ونكث بالعهود.
وكان الوندال لا يزالون يتوقون إلى الفتح والخبز، فعبروا البحر إلى أفريقية (429). وإذا جاز لنا أن نصدق بروكبيوس Procopius(43)، وجردانيس Jordanes قلنا إنهم جاءوا إليها بدعوة من بنيفاس Boniface حاكم أفريقية الروماني ليستعين بهم على منافسه إيتيوس Eetius الذي خلف استلكو، لكن هذه القصة لا تعتمد على مصدر موثوق به. ومهما يكن من أمرها فإن ملك الوندال كان قادراً على خلق هذه الخطة. وكان جيرسيك ملك الوندال ابناً غير شرعي لعبد رقيق، وكان أعرج لكنه قوي الجسم، متقشفاً زاهداً، لا يهاب الردى في القتال، يلتهب غيظاً إذا غضب، ويقسو أشد القسوة على عدوه ولكنه عبقري لا يغلب في شؤون الحرب والمفاوضة. ولما نزل غلى أفريقية انضم إلى من كان معه من الوندال، والآلاني، من جند، ونساء، وأطفال المغاربة الأفريقيين الذي ظلوا عهوداً طوالاً حانقين على الحكم الروماني، كما انضم إليهم الدناتيون Donatist المارقون الذين كانوا يقاسون أشد أنواع الاضطهاد من المسيحيين أتباع الدين القويم. ورحب هؤلاء وأولئك بالغزاة الفاتحين وبالحكم الجديد. ولم يستطع بينفاس أن يحشد من سكان شمالي أفريقية الروماني البالغ عددهم ثمانية ملايين إلا عدداً ضئيلاً يساعد جيشه الروماني. ولما هزمته جحافل جيسريك هزيمة منكرة تقهقر إلى هبو Hippo حيث أثار القديس أوغسطين الطاعن في السن حمية السكان فهبوا يدافعون عن بلدهم دفاع الأبطال، وقاست المدينة أهوال الحصار أربعة عشر شهراً كاملة (430-431)، انسحب بعدها جيسريك ليلقي جيشاً رومانياً آخر، وأوقع به هزيمة منكرة اضطر على أثرها سفير فلنتنيان إلى أن يوقع شروط هدنة يعترف فيها باستيلاء الوندال على فتوحهم في أفريقية. وحافظ جيسريك على شروط الهدنة حتى غافل الرومان وانقض على قرطاجنة الغنية واستولى عليها دون أن يلقي أية مقاومة (439). وجرد أشراف المدينة وقساوستها من أملاكهم ونفاهم أو جعلهم أقنان أرض. ثم استولى على كل ما وجده من متاع سواء منه ما كان لرجال الدين أو لغيرهم من الأهلين، ولم يتردد في الالتجاء إلى التعذيب للوقوف على مخابئه.
وكان جيسريك لا يزال وقتئذ في شرخ الشباب، وكان إدارياً قديراً أعاد تنظيم أفريقية وجعل منها دولة ذات ثراء عليه المال الوفير، ولكن أسعد أوقاته كان هو الوقت الذي يشتبك فيه في القتال. وقد أنشأ له أسطولاً ضخماً، نهب به سواحل أسبانيا، وإيطاليا، وبلاد اليونان. وكان يفاجئ تلك البلاد حتى لم يكن أحد يدري أي الشواطئ سترسو فيها سفنه المثقلة بالفرسان، ولم تنتشر القرصنة في غرب البحر المتوسط طوال أيام الحكم الروماني دون أن تلقى مقاومة كما انتشرت في تلك الأيام. واضطر الإمبراطور في آخر الأمر أن يعقد الصلح مع ملك البرابرة ليحصل بذلك على القمح الذي تطعم منه رافنا وروما، ولم يكتف بذلك بل وعده أن يزوجه إحدى بناته. وكانت روما في هذه الأثناء لا تزال تضحك وتلعب لاهية عما سيحل بها بعد قليل من دمار. وكانت ثلاثة أرباع قرن انقضت مذ دفع الهون أمامهم البرابرة الغزاة بعبورهم نهر الفلجا. ثم تباطأ بعد ذلك زحف الهون نحو الغرب فكان هجرة على مهل، وكان أشبه بانتشار المستعمرين في القارة الأمريكية منه بفتوح ألريك وجيسريك. وما لبثوا أن استقروا بعدئذ شيئاً فشيئاً في داخل بلاد المجر، وبالقرب منها، وأخضعوا لحكمهم كثيراً من القبائل الألمانية.
ومات روا Rua ملك الهون حوالي عام 433 وأورث عرشه بليدا Baleda وأتلا Atilla ابني أخيه. ثم قتل بليدا- بيد أتلا كما يقول بعضهم- حوالي عام 444، وتولى أتلا (ومعنى اللفظ باللغة القوطية الأب الصغير) حكم القبائل المختلفة الضاربة شمال نهر الدانوب من الدن إلى الرين. ويصفه جردانس المؤرخ القوطي وصفاً لا نعرف مقدار ما فيه من الدقة فيقول:
هو رجل ولد في هذا العالم ليزلزل أقدام الأمم، هو سوط عذاب سلط على الأرض، روع سكان العالم أجمع بما انتشر حوله من الشائعات في خارج البلاد، وكان جباراً متغطرساً في قوله، يقلب عينيه ذات اليمين وذات الشمال، يظهر في حركات جسمه ما تنطوي عليه نفسه من قوة وكبرياء. وكان في الحق أخاً غمرات محباً للقتال، ولكنه يتمهل فيما يقدم عليه من أعمال، وكان عظيماً فيما يسدي من نصح، غفوراً لمن يرجو منه الرحمة، رؤوفاً بمن يضع نفسه تحت حمايته. وكان قصير القامة، عريض الصدر، كبير الرأس، صغير العينين، رقيق شعر اللحية قد وخطه الشيب. وكان أفطس الأنف، أدكن اللون، تنم ملامحه على أصله(46).
وكان يختلف عن غيره من البرابرة في أنه يعتمد على الختل أكثر من اعتماده على القوة. وكان يحكم شعبه باستخدامه خرافاته لتقديس ذاته العليا، وكان يمهد لانتصاراته بما يذيعه من القصص المبالغ فيها عن قسوته، ولعله هو الذي كان ينشئ هذه القصص إنشاء، حتى لقد سماه أعداؤه المسيحيون آخر الأمر "بسوط الله"، وارتاعوا من ختله ارتياعاً لم ينجهم من إلا القوط. وكان أمياً لا يستطيع القراءة أو الكتابة، ولكن هذا لم ينقص من ذكائه الفطري. ولم تكن أخلاقه كأخلاق المتوحشين، فقد كان ذا شرف، وكان عادلاً، وكثيراً ما أظهر أنه أعظم كرماً وشهامة من الرومان. وكان بسيطاً في ملبسه ومعيشته، معتدلاً في مأكله ومشربه، يترك الترف لمن هم دونه ممن يحبون التظاهر بما عندهم من آنية فضية وذهبية، وسروج، وسيوف وأثواب مزركشة تشهد بمهارة أصابع أزواجهم، وكان لأتلا عدد كبير من أولئك الأزواج ولكنه كان يحتقر ذلك الخليط من وحدة الزواج والدعارة الذي كان منتشراً عند بعض الطوائف في رافنا وروما. وكان قصره بيتاً خشبياً ضخماً أرضه وجدرانه من الخشب المسوى بالمسحج، ولكنه يزدان بالخشب الجميل الصقل والنحت، فرشت فيه الطنافس والجلود ليتقي بها البرد، وكانت عاصمة ملكه قرية كبيرة أغلب الظن أنها كانت في مكان بودا Buda الحالية؛ وقد ظل بعض المجريين حتى هذا القرن يطلقون على هذه المدينة إتزلنبرج Etzelnburg أي مدينة أتلا.
وكان في الوقت الذي نتحدث فيه عنه (444) أقوى رجل في أوربا، وكان ثيودوسيوس الثاني إمبراطور الدولة الشرقية، وفلنتنيان إمبراطور الغرب يعطيانه الجزية يشتريان بها السلام، ويتظاهرون أمام شعوبهما بأنها ثمن لخدمات يؤديها أحد أقيالها. ولم يكن أتلا، وهو قادر على أن ينزل إلى الميدان جيشاً خمسمائة ألف مقاتل، يرى ما يحول بينه وبين السيادة على أوربا كلها وبلاد الشرق بأجمعها. ففي عام 441 عبر قواده وجنوده نهر الدانوب، واستولوا على سرميوم Sirmium، وسنجديونوم Singidiunum (بلغراد) ونيسوس Naissus (نيش) وسرديكا Sardica (صوفيا)، وهددوا القسطنطينية نفسها. وأرسل ثيودوسيوس الثاني جيشاً لملاقاتهم، ولكنه هزم، ولم تجد الإمبراطورية الشرقية بداً من أن تشتري السلم برفع الجزية السنوية من سبعمائة رطل من الذهب إلى ألفي رطل ومائة. وفي عام 447 دخل الهون تراقية، وتساليا، وسكوذيا، (جنوبي روسيا) ونهبوا سبعين مدينة وساقوا آلافاً من أهلها أرقاء. وأضيفت السبايا إلى أزواج المنتصرين، ونشأ من ذلك جيل اختلطت فيه دماء الفاتحين والمغلوبين ترك آثاراً من الملامح المغولية في الأقاليم الممتدة من الشرق حتى بافاريا Bavaria، وخرجت غارات الهون بلاد البلقان تخريباً دام أربعة قرون، وأتى على نهر الدانوب حين من الدهر لم يعد فيه كما كان طريق التجارة الرئيسي بين الشرق والغرب، واضمحلت لهذا السبب المدن القائمة على شاطئيه.
ولما أن استنزفت أتلا دماء الشرق بالقدر الذي ارتضاه ولى وجهه نحو الغرب وتذرع لغزوه بحجة غير عادلة. وخلاصة تلك الحجة أن هونوريا Honoria أخت فلنتنيان الثالث كانت قد نفيت إن القسطنطينية بعد أن اعتدى على عفافها أحد رجال التشريفات في قصرها. وتلمست هونوريا أية وسيلة للخلاص من النفي فلم تر أمامها إلا أن تبعث بخاتمها إلى أتلا وتستجيره ليساعدها في محنتها، واختار الملك الداهية، الذي كانت له أساليبه الخاصة في الفكاهة، أن يفسر إرسال الخاتم بأنه عرض منها للزواج بها، فطالب من فوره بهونوريا وبنصف الإمبراطورية الغربية بائنة لها، ولما احتج وزراء فلنتنيان على الطلب أعلن أتلا الحرب. هذا هو السبب الظاهري، أما السبب الحقيقي فهو ان مرسيان Marcian الإمبراطور الجديد في الشرق أبى أن يستمر على أداء الجزية وان فلنتنيان قد حذا حذوه.
وفي عام 450 زحف أتلا ومعه نصف مليون رجل على نهر الرين، ونهبوا تريير ومتز Metz وأحرقوها وقتلوا أهلها. فقذف ذلك الرعب في قلوب غالة كلها فقد علموا أن الغزاة ليس على رأسهم جندي متمدين كقيصر، أو مسيحي -ولو كان من أتباع أريوس- مثل ألريك أو جيسريك، بل كان الزاحف عليهم هو الهوني الرهيب، سقوط الله المبعوث لعذاب المسيحيين والوثنيين على السواء لما هنالك من فرق شاسع بين أقوالهم وأعمالهم. وجاء ثيودريك الأول Theadoric I ملك القوط المعمر لينقذ الإمبراطورية من محنتها وانضم إلى الرومان بقيادة إيتيوس، والتقت الجيوش الضخمة في حقول قطلونيا Catalaunia بالقرب من ترويس، ودارت بينها معركة من أشد معارك التاريخ هولاً، جرت فيها الدماء انهاراً، حتى ليقال إن 162.000 رجل قد قتلوا فيها من بينهم ملك القوط البطل المغوار؛ وانتصر الغرب في هذه المعركة نصراً غير حاسم، فقد تقهقر أتلا بانتظام، وأنهكت الحرب الظافرين، أو لعلهم كانوا منقسمين على أنفسهم في خططهم، فلم يتعقبوا أتلا وجنوده ولهذا غزا إيطاليا في العام التالي.
وكانت أول مدينة استولى عليها في زحفه هي أكويليا Aquileia، وقد دمرها تدميراً قضى عليها قضاء لم تقم لها بعده قائمة حتى اليوم، أما فرونا Verona وفبسنزا Vicenza فقد عوملنا بشيء من اللين والرحمة واشترت بافيا وميلان نفسيهما من الغزاة بتسليم كل ما فيهما من ثروة منقولة. وبعد هذا فتحت الطريق إلى روما أمام أتلا؛ وكان جيش إيتيوس قليل العدد لا يقوى على أية مقاومة جدية، ولكن أتلا تباطأ عند نهر البو، وفر فلنتنيان الثالث إلى روما، ثم أرسل إلى ملك الهون وفداً مؤلفاً من البابا ليو الأول واثنين من أعضاء مجلس الشيوخ. وما من أحد يعلم ما جرى حين اجتمع هذا الوفد بأتلا. وكان ليو رجلاً مهيب الطلعة، يعزو إليه المؤرخون معظم ما أحرزه الوفد من نصر لم ترق فيه دماء. وكل ما يذكره التاريخ عن هذا النصر أن أتلا قد ارتد لأن الطاعون فشا بين جنوده، ولأن مئونتهم كانت آخذة في النفاد، ولأن مرسيان كان المدد من الشرق (452).
وقاد أتلا جحافله فوق جبال الألب وعاد بها إلى عاصمته في بلاد المجر، متوعداً إيطاليا بالعودة إليها في الربيع التالي إذا لم ترسل إليه هونوريا، ليتخذها زوجة له. وقد استعاض عنها في هذه الأثناء بشابة تدعى إلديكو Ildico ضمها إلى نسائه. وكانت هذه الفتاة هي الأساس التاريخي الواهي لقصة Krienhild المسماة نِبل أنجليد Nibelungenlied. واحتفل بزفافها له احتفالاً أثقلت فيها الموائد بالطعام والشراب. ولما أصبح الصباح وجد أتلا ميتاً في فراشه إلى جانب زوجته الشابة، وكان سبب موته انفجار أحد الأوعية الدموية، فكتم الدم الذي تدفق منه نفسه وقضى عليه (453)(47). وقسمت مملكته بين أولاده، ولكنهم عجزوا عن المحافظة عليها، فقد دبت الغيرة بينهم ورفضت القبائل التي كانت خاضعة لأبيهم أن تظل على ولائها لهؤلاء الزعماء المتنازعين، ولم تمض إلا بضع سنين حتى تقطعت أوصال الإمبراطورية التي كانت تهدد بإخضاع اليونان والرومان والألمان والغاليين لحكمها، وتطبع وجه أوربا وروحها بطابع آسية، ومحيت اليونان من الوجود.
الفصل الخامس: سقوط روما
توفيت بلاسيديا في عام 450، وانفرد فلنتنيان بالملك يخبط فيه خبط عشواء، وكان من اوخم أخطائه عاقبة أن استمع إلى نصيحة بترونيوس مكسموس فقتل إيتيوس الذي وقف زحف أتلا عند ترويس كما استمع هونوريوس إلى أولمبيوس فقتل استلكو الذي وقف زحف ألريك عند يولتثيا. ولم يكن لفلنتنيان ولد ذكر ولم يرتح إلى رغبة إيتيوس في أن يزوج ابنه بودوشيا Budocia ابنة فلنتنيان. وانتابت الإمبراطور نوبة جنونية من الغضب فأرسل في طلب إيتيوس، وذبحه بيده (454). وقال له رجل من رجال الحاشية: "مولاي، لقد قطعت يمينك بشمالك" ولم تمض على هذا العمل بضعة أشهر حتى استطاع بترونيوس أن يغري رجلين من أتباع إيتيوس بقتل فلنتنيان، ولم يهتم أحد بتعقب القاتلين لأن القتل كان قد اصبح من عهد بعيد البديل الوحيد للانتخاب. واختار بترونيوس نفسه للجلوس على العرش، وأرغم يودكسيا Eudsxia أرملة فلنتنيان على ان تتزوجه؛ كما أرغم بودوشيا على أن تتزوج ابنه بلاديوس. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال بروكبيوس(48)، فإن يودكسيا استعانت بجيسريك، كما استغاثت هونوريا قبل ذلك بأتلا. وكان لدى جيسريك من الأسباب ما يجعله يلبي هذه الاستغاثة: فقد أصبحت روما غنية مرة أخرى على الرغم من انتهاب ألريك لها، ولم يكن الجيش الروماني بالجيش القوي الذي يستطيع الدفاع عن إيطاليا. وأبحر ملك الوندال بأسطول قوي لا يغلب (455)، ولم يقف أحد بينه وبين أستيا Ostia وروما إلا بابا أعزل ومعه بعض قساوسة روما. ولم يقو البابا ليو في هذه المرة على إقناع الفاتح بالارتداد عن روما، وكل ما استطاع أن يحصل عليه منه هو وعده بأن يمتنع عن ذبح السكان وتعذيبهم وإحراق المدينة. وأسلمت المدينة أربعة أيام كاملة للجند ينهبون فيها ويسلبون؛ ونجت الكنائس المسيحية، ولكن كل ما كان باقياً في المعابد من كنوز نقل إلى سفن الوندال، وكان من بين هذه الغنائم المناضد الذهبية، والماثلات ذات الشعب السبع، وغيرها من الآنية المقدسة التي جاء بها تيتوس Titus من هيكل سليمان إلى روما منذ أربعة قرون. ونهب كذلك كل ما كان في القصر الإمبراطوري من المعادن الثمينة، والحلي، والأثاث وكل ما كان باقياً في بيوت الأغنياء من أشياء ذات قيمة واتخذ آلافاً من الأسرى عبيداً، وفرق بين الأزواج وزوجاتهم، وبين الأبناء وآبائهم، وأخذ جيسريك الإمبراطورة يودكسيا وابنيهما معه إلى قرطاجنة؛ وزوج يودوسيا ابنه هونريك Huneric؛ وأرسل الإمبراطورة وبلاسيديا (صغرى ابنتيهما) إلى القسطنطينية استجابة لطلب الإمبراطور ليو الأول. ولم يكن انتهاب روما على هذا النحو في واقع الأمر تخريباً لا يراعي فيه عرف أو قانون، بل كان يتفق مع الشرائع القديمة للحروب. لقد ثأرت قرطاجنة لنفسها من قسوة روما عليها في عام 146 وكانت في انتقامها هذا رقيقة رحيمة.
وضربت الفوضى وقتئذ أطنابها في إيطاليا. ذلك أن خمسين عاماً من الغزو والقحط والوباء قد تركت آلاف الضياع مخربة، وآلاف الأفدنة بوراً؛ ولم يكن هذا لأن تربتها أنهكت من الاستغلال، بل لأن هذا الأراضي أعوزها الرجال؛ وأخذ القديس أمبروز (حوالي عام 420) يرثي لخراب بولونيا Bologna ومودينا Modena، وبياسنزا Piacenza ونقص عامرها، ووصف البابا جلاسيوس Gelassius (حوالي 480) أقاليم واسعة في شمالي إيطاليا بأنها تكاد تكون مقفرة من الآدميين.
ونقص سكان روما نفسها من مليون ونصف إلى ثلاثمائة ألف في قرن واحد(49)؛ واختص الشرق وقتئذ دون غيره بجميع المدائن الكبرى في الإمبراطورية. وهجر الناس الكمبانيا Campagna المحيطة بروما والتي كانت من قبل ملآى بالضياع الخصبة والقصور الصغيرة ولجأوا إلى المدن المسورة ليحتموا فيها من غارات العداء؛ وانكمشت المدن نفسها فلم تعد تزيد مساحة أرضها على أربعين فداناً أو نحوها كي تكفي موارد أهلها تسويرها وحمايتها من العداء؛ وكثيراً ما كانت السوار يبنى على عجل من أنقاض دور التمثيل والباسلقات والهياكل التي كانت من قبل بهجة المدن الإيطالية وسبب رونقها. على أن روما قد بقي فيها قليل من الثروة حتى بعد جيسريك، وانتعشت هي وغيرها من المدن الإيطالية فيما بعد تحت حكم ثيودريك واللمباردين: ولكن الفقر العام الذي حل في عام 470 بالحقول والمدن، وبأعضاء مجلس الشيوخ والعامة على السواء، سحق أرواح الشعب الذي كان من قبل عظيماً وأذل نفسه، فملك عليه اليأس والاستسلام قلبه، وتشكك في الآلهة كلهم عدا بريابوس Priapus واستولى عليه وجل كوجل الأطفال جعله يهاب تبعات الحياة، وجُبْنٌ غاضب ثائر يندد بكل استسلام ويفر من جميع الواجبات الحربية، وكان يصحب هذا الانحطاط الاقتصادي والحيوي عفن ينخر سوسه في جميع طبقات الشعب، في أرستقراطية في وسعها أن تخدم لكنها عاجزة عن أن تحكم، وفي رجال الأعمال المنهمكين في مكاسبهم الشخصية انهماكاً يحول بينهم وبين العمل لإنقاذ شبه الجزيرة، وفي قواد ينالون بالرشوة أكثر مما يستطيعون نيله بقوة السلاح، وبيروقراطية متشعبة متخمة خربت رواتبها خزائن الدولة، وفسدت فساداً مستعصياً على العلاج وقصارى القول أن جذع هذه الشجرة العظيمة قد تعفن، وآن لها أن تسقط.
وتوالت على عرش الإمبراطورية في السنين الخيرة من حياتها طائفة من الأباطرة ليس فيهم من هو فوق المتوسط. فقد أعلن القوط في غالة قائداً لهم يدعى أفتوس Avitus إمبراطوراً (455)، ولكن مجلس الشيوخ أبى أن يقره، فاستحال أسقفاً؛ ولم يدخر ماجوريان Magorian (456-461) جهداً في إعادة النظام، ولكن رئيس وزرائه رسمر Ricimer القوطي الغربي أنزله عن العرش. وكان سفيروس (461-466) آلة صماء في يد رسمر يفعل ما يشاء، وكان أنثيميوس Antheimus (467-472) فيلسوفاً نصف وثني لا يرضى بالغرب؛ فما كان من رسمر إلا أن ضرب عليه الحصار وقبض عليه وأمر بقتله وحكم أوليبريوس Olybrius برعاية رسمر شهرين (472)؛ ثم مات ميتة غريبة في ذلك الوقت إذ كانت ميتة طبيعية. وسرعان ما خلع جليسريوس (473)، وظلت روما عامين يحكمها يوليوس نيبوس Julius Nepos. وبينا كانت هذه الأحداث جارية في إيطاليا، انقض عليها خليط آخر من البرابرة -الهرولي Heruli، والإسكيري Sciri، والروجي Rug( وغيرهم من القبائل التي كانت من قبل تعترف بحكم أتلا. وقدم في الوقت نفسه بنونيائيٌّ Pnnonian يدعى أرستيز Orestes فخلع نيبوس، وأجلس ابنه رميولوس (الملقب أوغسطولس استهزاء به) على العرش (475). وطلب الغزاة الجدد إلى أن يعطيهم ثلث إيطاليا، فلما أبى ذبحوه وأجلسوا قائدهم أدوسر Odoacer على العرش بدل رميولوس (476)، ولم يكن هذا القائد -وهو ابن إدكون وزير أتلا- مجرداً من الكفايات. وقد بدأ بأن جمع مجلس الشيوخ المرتاع، وعن طريقه عرض على زينون Zeno الإمبراطور الجديد في الشرق أن تكون له سيادة على جميع الإمبراطورية على شرط أن يحكم أدوسر إيطاليا بوصفه وزيراً له، ورضى زينون بهذا العرض وانتهت بذلك سلسلة الأباطرة الغربيين.
ويبدو أن أحداً من الناس لم ير في هذا الحادث "سقوطاً لروما" بل بدا لهم على عكس هذا أنه توحيد مبارك للإمبراطورية وعودتها إلى ما كانت عليه في عهد قسطنطين. وقد نظر مجلس الشيوخ في روما إلى المسألة هذه النظرة، وأقام في روما تمثالاً لزينون، ذلك أن اصطباغ الجيش، والحكومة، والزراع، في إيطاليا بالصبغ الألمانية قد ظل يجري زمناً بلغ من طوله أن بدت معه النتائج السياسية تحولاً عديم الشأن على سطح الحياة القومية. أما الحقيقة التي لا نزاع فيها فهي أن أدوسر كان يحكم إيطاليا بوصفه ملكاً عليها دون أن يعبأ بزينون. ذلك أن الألمان قد فتحوا في واقع الأمر إيطاليا، كما فتح جيسريك أفريقية، وكما فتح القوط الغربيون أسبانيا، وكما كان الإنجليز والسكسون يفتحون بريطانيا: والفرنجة يفتحون غالة، ولم يعد للإمبراطورية العظمى في الغرب وجوب.
وترتب على فتوح البرابرة هذه نتائج لا حصر لها، لقد كان معناها من الناحية الاقتصادية تحول الحياة من المدن إلى الريف. ذلك أن البرابرة كانوا يعيشون على الحرث، والرعي، والصيد، والحرب، ولم يكونوا قد تعلموا بعد العمال التجارية المعقدة التي تنتعش بها المدن، وكان انتصارهم إيذاناً بالقضاء على الصبغة المدنية للحضارة الغربية قضاء دام سبعة قرون. وأما من الوجهة العنصرية فإن هجرات البرابرة المتعددة أدت إلى امتزاج جديد بين العناصر البشرية -وإلى دخول دم ألماني غزير في إيطاليا، ودم غالي في أسبانيا، ودم أسيوي في روسيا والبلقان وبلاد المجر. ولم يعِد هذا الامتزاج للقوة والنشاط إلى الإيطاليين أو الغاليين بطريقة خفية معجزة الدرك، بل إن ما حدث لم يزد على إفناء الأفراد والسلالات الضعيفة بسبب الحروب وغيرها من ضروب التنافس، وعلى اضطرار كل إنسان لأن ينمي قوته. وحيويته، وشجاعته، وصفات الرجولة التي طمس معالمها طول الاستسلام إلى الأمن والسلام؛ وعلى تأثير الفقر في عودة أساليب للحياة أصح وأكثر بساطة من الأساليب التي ولدها ترف المدن واعتماد الأهلين على الرزاق التي تقدمها لهم الحكومة.
وأما من الوجهة السياسية فقد أحلت الفتوح صورة دنيا من الملكية محل صورة عليا منها. فقد زادت من سلطان الأفراد وقللت من سلطان القوانين ومن اعتماد الناس عليها لحمايتهم. واشتدت النزعة الفردية وازداد العنف. وفي الناحية التاريخية حطمت الفتوح الهيكل الخارجي لذلك الجسم الذي تعفن من الداخل، وأزالت من الوجود، بوحشية يؤسف لها، نظاماً من الحياة، شاخ ووهن وبلي، وفقد كل قدرة على التجدد والنماء، رغم ما كان فيه من فضائل النظام والثقافة، والقانون؛ وبهذا أصبح من المستطاع أن تبدأ حياة جديدة غير متأثرة بالماضي. فانمحت إمبراطورية الغرب ولكن دول أوربا الحديثة قد ولدت- لقد دخل إيطاليا قبل المسيح بألف عام غزاة من الشمال، أخضعوا أهلها لسلطانهم، وامتزجوا بهم وأخذوا عنهم حضارتهم، وبنوا وإياهم في خلال ثمانية قرون حضارة جديدة. وبعد المسيح بأربعمائة عام تكررت العملية نفسها، ودارت عجلة التاريخ دورة كاملة، وكانت البداية هي نفسها النهاية، ولكن النهاية كانت على الدوام بداية.