قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 - الخاتمة
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الخاتمة -> لِمَ سقطت رومة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخاتمة
الفصل الأول: لِمَ سقطت روما؟
يقول أحد العلماء النابهين في هذه الأيام "إن أعظم ما يواجه التاريخ من مشاكل مشكلتان. أولهما كيف نفسر قيام الدولة الرومانية، وثانيتهما كيف نفسر سقوطها"(1). ولعلنا نقرب من فهم هاتين المشكلتين إذا تذكرنا أن سقوط روما كقيامها لا يعزى إلى سبب واحد بل إلى كثير من الأسباب، وإن هذا السقوط لم يكن حادثاً واحداً بل كان عملية امتدت إلى أكثر من ثلاثمائة عام. والحق أن ثمة أمماً لم تدم حياتها بقدر ما استلزمه من الزمن سقوط روما.
والحضارة العظيمة لا يقضى عليها من الخارج إلا بعد أن تقضي هي على نفسها من الداخل. وشاهد ذلك أنا نجد الأسباب الجوهرية لسقوط روما في شعب روما نفسه، أي في أخلاقها، وفي النزاع بين طبقاتها، وفي كساد تجارتها، وفي حكومتها الاستبدادية البيروقراطية، وفي ضرائبها الفادحة الخانقة وحروبها المهلكة. ولقد كان الكتّاب المسيحيون شديدي الإدراك لهذا الضعف المتعدد الأسباب، فلقد بشر ترتليان حوالي عام 200، وهو جذلان، بما سماه ipsa clusula caeculi أي "نهاية عهد" - معتقداً أنه في أغلب الظن مقدمة لدمار العالم الوثني. ورد سبريان قبيل عام 250 على ما اتهم به المسيحيون من أنهم أصل ما حاق بالإمبراطوريّة من محن بأن هذه المحن ترجع إلى أسباب طبيعية:
"يجب أن تعلموا أن العالم قد شاخ، ولم يبقَ ما كان له قبل من قوة، وأنه يشهد بنفسه على اضمحلاله. وإن مقدار ما يسقط من المطر وما تشعه الشمس من دفء آخذان في النقصان، وكادت المعادن ينضب معينها، وقل ما ينتجه الزراع من غلة"(2). وما من شك في أن هجمات البرابرة، واستغلال العروق المعدنية الغنية الذي دام عدة قرون، قد أنقصا ما تخرجه روما من المعادن النفيسة؛ وأن ما حدث في إيطاليا الوسطى والجنوبية من تقطيع الغابات، وفعل التعرية والنحات، وإهمال قنوات الري الناشئ من نقص عدد الفلاحين، واضطراب الحكومات - ما من شك في أن هذا كله قد ترك إيطاليا أفقر مما كانت في سابق عهدها. بيد أن السبب الحقيقي لم يكن ناشئاً من أن التربة قد استنفدت قدرتها على الإنتاج، أو أن جو البلاد قد تغير، بل كان ما حاق بأهلها من إهمال وعقم سببهما ما حل بهم من ضيق وتثبيط للعزيمة.
وكانت الأسباب الإحيائية أهم من الأسباب السابقة وأعظم منها أثراً. فقد بدا نقص خطير في عدد السكان في الغرب بعد هدريان. ويشك بعض المؤرخين في هذا النقص، ولكن إسكان البرابرة بالجملة في ولايات الدولة على أيدي أورليوس، وفلنتنيا، وأورليان، وبروتس، وقسطنطين، لا يكاد يترك مجالاً للشك في حقيقة هذا النقص(3). ولما أراد أورليوس أن يسد ما حدث من النقص في جيشه جند العبيد، والمجالدين، ورجال الشرطة، والمجرمين؛ وهذا لا يحدث إلا إذا كان الخطر الذي يتهدد البلاد وقتئذ أشد من ذي قبل، أو أن السكان الأحرار كانوا أقل عدداً منهم في الأيام السابقة، والذي لا شك فيه أن غير الأحرار من السكان قد نقصوا عما كانوا عليه من قبل. ولهذا السبب أقفرت ضياع كثيرة وتركت أرضها بوراً، وخاصة في إيطاليا، حتى لقد عرضها برتناكس من غير ثمن على من يرضى أن يفلحها. ويتحدث قانون سنه سبتميوس سفيرس عن نقص الرجال hominum penuria(4). وقد ظل هذا النقص يجري في مجراه قروناً طوالاً في بلاد اليونان، وشاهد ذلك أن الأسقف ديونيشيوس يقول إن سكان الإسكندرية نقصوا في أيامه (250) إلى نصف ما كانوا عليه في الأيام السابقة، وكانت هذه المدينة في تاريخها السابق تفخر بكثرة مَن فيها من السكان. وكان يؤلمه أن "يرى الجنس البشري آخذاً في النقصان والتبدد المستمر"(5). ولم يكن يزداد في هذا الوقت إلا البرابرة والشرقيين في خارج الإمبراطوريّة وفي داخلها.
ترى ما سبب هذا النقص في عدد السكان؟ إن أكبر أسبابه هو تحديد النسل، وهو عملية كانت تلجأ إليها الطبقات المتعلمة أولاً، ثم سرت عدواها إلى الطبقات الدنيا المشهورة بكثرة أبنائها(6)؛ ولم يحل عام 100 بعد الميلاد حتى وصلت هذه العدوى إلى طبقات الزرّاع، كما يدل على ذلك امتداد المعونة الإمبراطوريّة إلى هذه الطبقة لتشجيعها على الإكثار من الأبناء، وقبل أن يبدأ القرن الثالث عمّت هذه العادة الولايات الغربية، وأدت إلى نقص السكان في غالة(7). وانتشرت عادة وأد الأطفال بازدياد الفقر على الرغم من أن القوانين كانت تعد هذا العمل جريمة(8). وربما كان الإفراط في الصلاة الجنسية قد أنقص الخصوبة البشرية؛ وكان الامتناع عن الزواج أو تأخير وقته هذا الأثر بعينه. يضاف إلى هذا أن عادة الاخصاء أخذت تزداد بسبب سريان العادات الشرقية في بلاد الغرب، وليس أدل على انتشار هذه العامة من بلنتيانس Plantianus رئيس الحرس البريتوري أمر باخصاء مائة غلام قدمهم هدية إلى ابنته بمناسبة زواجها(9).
ويلي تحديد النسل في أسباب نقص السكان ما كان ينشأ عن الأوبئة والثورات والحروب من بشرية. وقد قضت الأوبئة التي اجتاحت البلاد في أيام أورليوس، وجلينس، وقسطنطين على عدد كبير من السكان؛ ولم تكد تنجو أسرة واحدة في الإمبراطوريّة كلها من الوباء الذي تفشى فيها بين عامي 260 و 265؛ ويقال إن خمسة آلاف كانوا يموتون في روما نفسها كل يوم، وإن هذه الحال دامت أسابيع كثيرة(10). وقد شرع بعوض كمبانيا يتغلب على الآدميين الذين غزوا المستنقعات البنتية، وأخذت الملاريا تضعضع قوى الأغنياء والفقراء على السواء في لاتيوم وتسكانيا. ولقد كان لمجازر الحروب، والثورات، وربما كان لعادات منع الحمل، والإجهاض، ووأد الأطفال، أثر في نقص القدرة على النسل فضلاً عن أثرها في تقليل عدد السكان؛ ذلك بأن أقدر الرجال كانوا أكثرهم تأخيراً لوقت الزواج، وأقلهم نسلاً، وأقصرهم آجالاً. وكانت معونة الدولة سبباً في ضعف الفقراء، كما كان الترف سبباً في ضعف الأغنياء، والسلم الطويلة الأجل سبباً في حرمان الطبقات كلها في شبه الجزيرة من الروح العسكرية والفنون الحربية. وكان الألمان الذين أخذوا من ذلك الوقت يسكنون شمالي إيطاليا ويكثر عددهم في الجيش، أصح أجساماً وأمتن أخلاقاً ممن بقي على قيد الحياة من سكان البلاد الأصليين. ولو أن الزمان سمح لهذا الجنس الجديد أن يمتزج بالسكان الأصليين على مهل لكان من الجائز أن يتثقف بثقافة الرومان ويبعث النشاط والقوة في الدم الإيطالي؛ ولكن الزمان لم يكن كريماً إلى هذا الحد. يضاف إلى هذا أن سكان إيطاليا كانوا قد اختلطوا من زمن بعيد بأجناس شرقية، وأضعف من الجنس الروماني جسماً وإن جاز أن تكون أرقى منه عقلاً. ولم يكن في مقدور الألمان الذين أخذوا يتكاثرون بسرعة أن يفهموا الثقافة الرومانية؛ فلم يقبلوها، ولم ينقلوها إلى غيرهم من الشعوب؛ وكان الشرقيون الذين يتناسلون هم أيضاً بسرعة يميلون إلى تدمير هذه الثقافة، أما أصحابها الرومان فقد ضحوا بها في سبيل الراحة التي يجلبها العقم؛ وقصارى القول أن روما لم يغلبها على أمرها غزو البرابرة لها من خارجها بل غلبها تكاثر البرابرة في داخلها.
وعجل الفساد الخلقي هذا الانحلال. ذلك أن صفات الرجولة التي نشأت من بساطة العيش وتحمل المشاق ودعمها إيمان قوي - نقول إن هذه الصفات قد أضعفها بهرج الثروة وحرية عدم الإيمان. فقد أوتى الناس من أهل الطبقتين الوسطى والعليا في ذلك الوقت الوسائل التي يتمكنون بها من إرضاء شهواتهم والخضوع لما يحط بهم من غوايات، لا يصدهم عن ذلك إلا ما عساه أن يكون لديهم من واجب مراعاة اللياقة الآداب العامة. وضاعف ازدحام المُدن بالسكان ضروب التعاقد والمشارطات العامة، ومنعت رقابة الحكومة والأمة من الامتداد إليها، وجاءت الهجرة بمائة أو نحوها من الثقافات التي لم يعد يهتم الناس بالتفريق بينها لكثرة ما بينها من فروق. وانحطت عند الناس معايير الخلق والجمال لتغلب طبقات الشعب وما أصبح لها من أثر كبير في البلاد، وتحررت الشهوات الجنسية من القيود في الوقت الذي ضاعت فيه الحرية السياسية.
ويقول عظيم المؤرخين: إن المسيحية كانت أهم أسباب سقوط الدولة الرومانية(11)، لأن هذا الدين، كما يزعم هو ومَن يسير على نهجه(12)، قد قضى على العقائد القديمة التي كانت هي الدعامة الخلقية للنفوس الرومانية؛ والدعامة السياسية للدولة الرومانية، ولأنه ناصب الثقافة القديمة العداء - فحارب العلم، والفلسفة، والأدب، والفن، وجاء بالتصوف الشرقي الموهن فأدخله في الرواقية الواقعية التي كانت من خصائص الحياة الرومانية، وحول أفكار الناس عن واجبات هذا العالم ووجههم إلى الاستعداد لاستقبال كارثة عالمية وهو استعداد مضعف للعزيمة؛ وأغراهم بالجري وراء النجاة الفردية عن طريق الزهد والصلاة، بدل السعي للنجاة الجماعية بالإخلاص للدولة والتفاني في الدفاع، وحطم وحدة الإمبراطوريّة حين كان الأباطرة العسكريون يكافحون للاحتفاظ بها، وشجع أتباعه على الامتناع عن تولي المناصب العامة أو أداء الخدمة العسكرية، وكان المبدأ الأخلاقي الذي يدعو إليه هو مبدأ السلام وعدم المقاومة، حين كان بقاء الإمبراطوريّة يتطلب تقوية الروح الحربية، وبهذا كله كان انتصار المسيح إيذاناً بموت روما.
ولا يخلو هذا الاتهام القاسي من بعض الحقيقة؛ فقد كان للمسيحية، على الرغم منها، نصيب في فوضى العقائد التي ساعدت على إيجاد ذلك الخليط من العادات التي كان لها نصيب في انهيار روما. ولكن نمو المسيحية وانتشارها كانا نتيجة لضعف روما أكثر مما كانا سبباً في هذا الضعف. ذلك أن تحطم قواعد الدين القديم قد بدأ قبل ظهور المسيح بزمن طويل؛ وقد وجه إليه إينيوس Ennius ولكريشيوس Lucretius هجمات أشد عنفاً من كل ما وجهه إليه أي مؤلف وثني بعدهما. أما الانحلال الخلقي فقد بدأ من وقت أن فتح الرومان بلاد اليونان، وبلغ أوجه في عهد نيرون، ثم صلحت أخلاق الرومان بعدئذ، وكان أثر المسيحية في الحياة الرومانية من الناحية الخلقية أثراً طيباً بوجه عام، وبناء على هذا نقول إن المسيحية قد نمت هذا النماء السريع لأن روما كانت وقتئذ في دور الاحتضار، فالناس لم يفقدوا إيمانهم بالدولة لأن المسيحية أبعدت عواطفهم عنها، بل فقدوه لأن الدولة كانت تنصر الثروة على الفقر، وتحارب لتستولي على العبيد، وتفرض الضرائب على الكدّح لتعين على الترف، ولأنها عجزت عن حماية الشعب من المجاعات؛ والأوبئة، والغزو الأجنبي، والفقر المتقع؛ فهل يلام الناس بعد ذلك إذا تحولوا عن قيصر الذي يدعو إلى الحرب إلى المسيح الداعي إلى السلم، ومن الوحشية التي لا يكاد يصدقها العقل إلى الإحسان الذي لم يسبق له مثيل، ومن حياة خالية من الأمل والكرامة إلى دين يواسيهم في فقرهم ويكرم إنسانيتهم؟ ألا إن نصيب المسيحية في القضاء على الدولة الرومانية لم يكن أكثر من نصيب غزو البرابرة لها. لقد كانت هذه الدولة قشرة فارغة حين قامت المسيحية في ربوعها، وحين داهمها غزو البرابرة.
ولقد ذكرنا في فصل سابق الأسباب الاقتصادية التي أدت إلى ضعف روما، لأنا رأينا أن ذكرها ضرورياً لفهم إصلاحات دقلديانوس، ولسنا نحتاج إلى أكثر من تلخيصها هنا تذكرة للقرّاء. نذكر اعتماد روما على الحبوب المستوردة من الولايات اعتماداً مزعزعاً لا تؤمن مغبته، وإنقطاع ورود العبيد وانهيار الضياع الكبيرة، وانحطاط وسائل النقل والأخطار التي تتعرض لها التجارة، وفقد رومة أسواق الولايات بسبب منافسة هذه الولايات نفسها لها، وعجز الصناعة الإيطاليّة عن تصدير ما يوازي واردات إيطاليا، وأدى إليه ذلك من انتقال المعادن الثمينة إلى الشرق؛ والحرب المدمرة بين الأغنياء والفقراء، وارتفاع نفقات الجيوش، والمساعدات التي تقدم للعجزة والفقراء، والأعمال العامة، والبيروقراطية المطردة الزيادة، وتثبيط خطط النابهين ذوي الكفاءات، والحاشية المتطفلة التي تؤدي عملاً من الأعمال، ونفاد رؤوس الأموال المستثمرة لما كان يفرض عليها من الضرائب التي تبلغ حد المصادرة، وهجرة رؤوس الأموال والعمال، واستخدام العبيد في الأعمال الزراعية، وفرض نظام الطبقات الصارم على الأعمال الصناعية؛ كل هذا قد قوض الأسس المادية للحياة الإيطاليّة حتى أضحت قوة روما في آخر الأمر شبحاً سياسياً يعيش بعد موتها الاقتصادي.
وأما الأسباب السياسية التي أدت إلى انهيار الإمبراطوريّة فترجع كلها إلى أصل واحد - هو أن الاستبداد المتزايد قضى على شعور الفرد بحقوق المدنية، وأنضب معيّن قدرته على القيام بأعباء الحكم. ولما عجز الروماني عن التعبير عن إرادته السياسية إلا بالعنف، فقد من أجل ذلك اهتمامه بشئون الحكم، وانهمك في أعماله، وفي متعه، وفي فيلقه، أو في نجاته الفردية. لقد كانت الوطنية والديانة الوثنية وثيقتي الارتباط إحداهما بالأخرى، وها هما الآن يقضى عليهما معاً(13). واستنام مجلس الشيوخ إلى الكسل والخمول، واعتاد الخضوع أو الارتشاء بعد أن ظل يفقد سلطانه ومكانته شيئاً فشيئاً بعد برتناكس، فانهار بذلك الحاجز الأخير الذي كان يستطيع إنقاذ الدولة من أخطار العسكرية والفوضى. وأما الحكومات المحلية التي عدا عليها الرقباء والجُباة فلم تعد تهوى رجالاً من الطراز الأول، وأدت مسئولية الموظفين في الولايات عن مجموع الضرائب المفروضة على أقاليمهم، وما تتطلبه مناصبهم العليا من نفقات لا تؤديها إليهم الدولة، وما تنتظره منهم من أموال، وخدمات، وأعمال بر وألعاب؛ وما يتعرضون له من أخطار الغزو الأجنبي وحروب الطبقات، أدت هذه كلها إلى تهرب المواطنين من المناصب تهرباً يشبه تهربهم من الضرائب، والمصانع، والمزارع، فكان الناس يتعمدون جعل أنفسهم غير صالحين لتولي المناصب بإنقاص الطبقة التي ينتمون إليها؛ ومنهم مَن كان يهاجر إلى بلدة غير بلدته، ومنهم مَن عمل زارعاً أو راهباً، وفي عام 313 وسع قسطنطين نطاق الإعفاء من مناصب البلديات حتى شمل القساوسة المسيحيين، كما أعفاهم من عدة أنواع من الضرائب، وهو الإعفاء الذي اعتاد الكهنة الوثنيون أن يتمتعوا به.
وما لبثت الكنيسة، بسبب هذا الإعفاء أن غمرتها موجة من طالبي الرسامة؛ وأخذت المُدن تشكو ما أصابها من نقص في الإيراد وفي اللائقين من أهلها أن يكونوا شيوخاً، حتى اضطر قسطنطين في آخر الأمر أن يصدر قانوناً يقضي بألا يقبل في الكهنوت أي رجل لائق لأن يشغل منصباً في حكومات البلديات(14). وكانت الشرطة الإمبراطوريّة تتعقب الفارين من المناصب العامة كما تتعقب مَن يتهربون من الضرائب أو الخدمة العسكرية، وتعود بهم إلى مدنهم وترغمهم على العمل في حكوماتها(15)، قد قررت في آخر الأمر أن يرث الابن مركز أبيه الاجتماعي، وأن يقبل المنصب العام الذي تؤهله إليه طبقته. إذا اختير له. وهكذا كمّل رق الوظيفة القيود الاقتصادية المفروضة على الطوائف المختلفة.
وخاف جلينس أن يثور عليه مجلس الشيوخ فأعفى أعضاءه من الخدمة في الجيش: ولما كانت الروح الحربية قد إنعدمت في إيطاليا فإن هذا القرار كان خاتمة الضعف العسكري في شبه الجزيرة؛ فكان إنشاء جيوش من أبناء الولايات ومن الجنود المرتزقة، والقضاء على الحرس البريتوري على أيدي سبتميوس سفيرس، وظهور قواد للجيش من بين أبناء الولايات، واستيلاؤهم على عرش الإمبراطوريّة، كان هذا كله سبباً في القضاء على زعامة إيطاليا، بل قُل على استقلال إيطاليا، قبل سقوط الإمبراطوريّة في الغرب بزمن طويل، ذلك أن جيوش روما لم تعد كما كانت من قبل جيوشاً رومانية، بل كان معظمها يتألف من أبناء الولايات وأكثرهم من البرابرة، ولم يكونوا يحاربون دفاعاً عن دينهم أو وطنهم، بل كانوا يقاتلون لنيل أجورهم، وهباتهم، ومغانمهم، وكانوا يهاجمون مُدن الإمبراطوريّة وينهبونها بنفس الحماسة التي يظهرونها في مواجهة الأعداء؛ وكان معظمهم من أبناء الفلاحين الذين يحقدون على الأغنياء وعلى المُدن لأن الأولين يستغلون الفقراء ولأن الثانية تستغل الريف؛ وكانت الحروب الداخلية تتيح لهم الفرصة لنهب المُدن نهباً لا يكاد يترك فيها شيئاً يدمره البرابرة الأجانب(16). ولما أصبحت المشاكل الحربية أعظم خطراً من الشئون الداخلية، اتخذت المُدن القريبة من الحدود مراكز للحكم؛ وأضحت روما مسرحاً للانتصارات، ومظهراً للعمائر الإمبراطوريّة، ومتحفاً للآثار والأنظمة السياسية. يضاف إلى هذا أن تعدد العواصم وانقسام السلطة حطما وحدة البلاد الإدارية، فلما أصبحت الإمبراطوريّة أوسع من أن يحكمها حكامها، ومن أن تحميها جيوشها، بدأت تتفكك.
ولما تركت غالة وبريطانيا وشأنهما تحميان نفسيهما بمفردهما من الألمان والأسكتلنديين دون معونة من الحكومة المركزية اختارت كلتاهما (إمبراطورها) الخاص بها وخلعت عليه السلطة العليا والسيادة الكاملة؛ ثم انفصلت تَدْمُر عن الدولة في عهد زنوبيا، ولم تلبث أسبانيا وأفريقية أن خضعتا دون مقاومة تذكر إلى الفاتحين البرابرة؛ فلما جلس جلينس على العرش كان ثلاثون قائداً يحكمون ثلاثين إقليماً من أقاليم من الإمبراطوريّة حكماً يكاد يكون مستقلاً عن السلطة المركزية، وفي هذه المأساة المروعة، مأساة دولة عظيمة تتقطع أوصالها كانت الأسباب الداخلية هي العوامل الحقة الخفية، أما الغزاة البرابرة فلم يدخلوها إلا بعد أن فتح لهم ضعفها الأبواب وهيأ لهم السبل، وبعد أن أسلم ضعف الحكام الاحيائي، والخلقي، والاقتصادي، والسياسي، المسرح إلى الفوضى، واليأس، والاضمحلال.
ومن الأسباب الخارجية التي عجلت بسقوط الإمبراطوريّة الغربية توسع الهون أو الشى أونج - نو Hsiung.nu وهجرتهم في شمالي آسية الغربي. ذلك أنهم لما صدهم السور الصيني العظيم والجيوش الصينية في زحفهم نحو الشرق اتجهوا نحو الغرب حتى وصلوا في عام 355 إلى نهري الفاجا وجيحون. وضغطوا في زحفهم هذا على السرماتيين في الروسيا فاضطروهم إلى التحرك نحو البلقان؛ وتضايق القوط من هذا الزحف فتحركوا مرة أخرى على الحدود الرومانية، وسمح لهم بأن يعبروا الدانوب ويستوطنوا موئيزيا Moesia (376)؛ ولما أساء الموظفون الرومان معاملتهم في هذه الولاية، ثاروا عليهم، وهزموا جيشاً رومانياً كبيراً عند أدريانوبل (أدرنه) (378) وهددوا في وقت ما القسطنطينية نفسها.
وفي عام 400 قاد ألريك Alaric القوط الغربيين وعبر بهم جبال الألب وانقض على إيطاليا، وفي عام 410 استولوا على روما ونهبوها، وفي عام 429 قاد جيسيرك Gaiseric الواندال لفتح أسبانيا وأفريقية، وفي عام 455 استولوا هم أيضاً على روما ونهبوها، وفي عام 451 قاد أتلا Atilla الهون وهجم بهم على غالة وإيطاليا، فهزموا عند شالون Chalons، ولكنهم إجتاحوا لمبارديا. وفي عام 472 عين قائد بانوبي اسمه أرستيز Orestes ابنه إمبراطوراً وسماه رميولس اوغسطولس Romulus Augustulus؛ وبعد ست سنين من ذلك الوقت خلع الجنود البرابرة المرتزقون، الذين كانوا يسيطرون وقتئذ على الجيش الروماني، هذا "الأغسطس الصغير" وعينوا قائدهم أدوكر Odoacer ملكاً على إيطاليا، وأقر أدوكر بالسيادة للإمبراطور الروماني الجالس على العرش في القسطنطينية ورضي هذا الإمبراطور به ملكاً تابعاً له. وظلت الإمبراطوريّة الرومانية في الشرق قائمة حتى عام 1453، أما في الغرب فقد نفضت وقتئذ نفسها الأخير.
الفصل الثاني: ما قامت به روما من جلائل الأعمال
إن تعليل سقوط روما لأيسر من تعليل طول حياتها- وأهم عمل قامت به روما هو أنها، بعد أن استولت على عالم البحر الأبيض المتوسط، تثقفت بثقافته، ووهبته النظام، والرخاء، والسلم مدى مائتي عام، وصدت عنه غارات البرابرة قرنين من الزمان، وأورثت الغرب قبل موتها تراث اليونان والرومان.
وليس لروما منافس قط في فن الحكم. نعم إن الدولة الرومانية قد ارتكبت آلافاً من الأخطاء السياسية، فقد أقامت صرحها على الجركية أنانية، وكهنوت ذي طقوس غامضة خفية، وأنشأت ديمقراطية من الأحرار ثم قضت عليها بالعنف والفساد، واستغلت ما فتحته من البلاد لتزود بخيراتها إيطاليا الطفيلية، فلما عجزت عن الاستغلال تقوضت دعائمها وانهارت، وخلفت في أماكن متفرقة في الشرق والغرب قفاراً وسمت هذا سلاماً. ولكنها أقامت وسط هذا الفساد كله نظاماً فخماً من الشرائع أمن الناس في أوربا كلها تقريباً على أنفسهم وأموالهم وكان باعثاً قوياً على الجد والمثابرة من أيام المشترعين العشرة إلى أيام نابليون. وشكلت حكومة انفصلت فيها السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، وظل ما فيها من ضوابط وموازين مصدراً ملهماً لواضعي الدساتير إلى عهد الثورتين الأمريكية والفرنسية. ولقد جمعت زمناً ما بين النظم الملكية والأرستقراطية والديمقراطية، ونجحت في عملها هذا نجاحاً أثنى عليه الفلاسفة، والمؤرخون، ورعاياها وأعداؤها على السواء. ووضعت أنظمة الحكم البلدي المحلي، وأمكنت نصف ألف مدينة من أن تستمتع بالحرية زمناً طويلاً، وأدارت شئون إمبراطوريتها في أول الأمر بشره وقسوة، ثم بدلتهما تسامحاً وعدالة رضيت بهما الدولة العظيمة رضاً لم تعرف له نظير فيما تلا ذلك من الزمان، وجعلت الصحراء تزدهر بالحضارة، وكفّرت عن ذنوبها بما بسطته على بلادها من سلم دائمة طويلة، وها نحن أولاء في هذه الأيام نبذل أعظم الجهود لنحيي السلم الرومانية في هذا العالم المضطرب.
في هذا الإطار الذي لم يسم عليه إطار غيره شادت روما صرح حضارة يونانية في أصلها، رومانية في تطبيقها ونتائجها، ولسنا ننكر أن انهماكها في شئون الحكم قد شغلها عن أن تنتج من الأعمال الذهنية مثل ما أنتجت بلاد اليونان؛ ولكنها استوعبت التراث الصناعي، والعقلي، والفني الذي تلقته عن قرطاجنة ومصر وبلاد الشرق، وقدرته أعظم التقدير، واستمسكت به اشد الاستمساك. ولسنا ننكر كذلك أن العلوم لم تتقدم على يديها، ولم تدخل شيئاً من التحسين الآلي على الصناعة، ولكنها أغنت العالم بتجارة كانت تسير في بحار آمنة، وأنشأت شبكة من الطرق الباقية حتى الآن أضحت شرايين يجري فيها دم الحياة الجياش. ولقد مرت فوق هذه الطرق، وفوق ألف من الجسور الجميلة إلى عالم العصور الوسطى والعالم الحديث أساليب الزراعة والصناعات اليدوية، والفنون، وعلم إقامة المباني التذكارية وأعمال المصارف والاستثمار، وتنظيم الأعمال الطبية والمستشفيات العسكرية، ونظام المُدن الصحي، وأنواع مختلفة من الفاكهة، أشجار النقل، ونباتات الحقول والزينة، التي جاءت بها من الشرق لتتأقلم في الغرب، وحتى سر التدفئة المركزية قد انتقل من الجنوب الدافئ إلى الشمال البارد. ولقد خلق الجنوب الحضارات ثم غليها الشمال على أمرها فدمرها أو استعارها من أهلها.
ولم تخترع روما نظم التربية، ولكنها أنمتها ووسعتها إلى حد لم يُعرف له مثيل من قبل، وأمدتها بمعونة الدولة، ووضعت المنهاج الذي ظل باقياً يعذبنا في أيام شبابنا. وفي العمارة لم تخترع الأقواس أو العقود أو القباء، ولكنها استخدمتها بجرأة وفخامة جعلت بعض الطرز من عمائرها أرقى من جميع نظائرها إلى هذه الأيام؛ ولقد أخذت الكنائس الكبرى في العصور الوسطى جميع عناصرها من الباسلقا الرومانية. ولم تخترع روما التماثيل، ولكنها وهبتها قوة واقعية، قلما سما إليها اليونان أصحاب هذه النزعة؛ ولم تبتدع الفلسفة ولكن لكريشيوس وسنكا هما اللذان وجدت فيهما الأبيقورية والرواقية صورتيهما النهائيتين المصقولتين أعظم صقل. ولم تنشئ الأنماط الأدبية إنشاء، لا نستثني من ذلك الهجوا نفسه، ولكن مَن منا يستطيع أن يقدر حق التقدير ما كان لشيشرون من أثر في فنون الخطابة، والمقالة، وأسلوب النثر، أو أثر فرجيل في دانتي، أو تسو Tasso في ملتن... أو ليفي وتاستس في كتابة التاريخ، أو هوراس وجوفنال في دريدن، وسوفت، وبوب؟. وقد أضحت لغتها بفضل ما دخل عليها من مسخ يثير الإعجاب لغة إيطاليا، ورومانيا، وفرنسا، وأسبانيا، والبرتغال، وأمريكا اللاتينية، أي لغة نصف عالم الرجل الأبيض؛ وقد ظلت تلك اللغة حتى القرن الثامن عشر اللغة الدولية للعلم والتبحر في الدرس، والفلسفة في بلاد الغرب. وكانت هي المعين الذي اغترفت منه مفردات دولية سهلة لعلمي الحيوان والنبات. ولقد بقيت حية في الطقوس المنغمة والوثائق الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، ولا تزال تكسب بها تذاكر الأطباء، وتتردد كثيراً في المصطلحات القانونية؛ ودخلت عن طريق اللغات الرومانسية مثل (royal yegal, reyalis، و pessant, pagan, paganus؛ لتزيد من اللغة الإنجليزية ومرونتها. وملاك القول أن ما ورثناه من الرومان يظهر أمامنا آلاف المرات في كل يوم.
ولما أن فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد بناء الدين الوثني القديم، انتقل إليه لقب الحبر الأعظم pontifex meximus، وعبادة الأم العظمى، وعدد لا يحصى من الأرباب التي بثت الراحة والطمأنينة في النفوس، والإحساس بوجود كائنات في كل مكان لا تدركها الحواس، وبهجة الأعياد القديمة أو وقارها، والمظاهر الخلابة للمواكب القديمة التي لا يعرف الإنسان بدايتها، نقول ان هذه كلها انتقلت إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها، وأسرت روما الأسيرة فاتحها، وأسلمت الإمبراطوريّة المحتضرة أزمة الحكم والمهارة الإدارية إلى البابوية القوية، وشحذت الكلمة المواسية بقوة سحرها ما فقده السيف المفلول من قوته؛ فحل مبشرو الكنيسة محل جيوش الدولة، وأخذ هؤلاء يجوبون الآفاق في جميع الجهات متتبعين الطرق الرومانية، وعادت الولايات الثائرة بعد أن اعتنقت المسيحية إلى الاعتراف بسيادة روما. وحافظت العاصمة القديمة على سلطانها، خلال الكفاح الطويل الذي دام في عصر الإيمان، ومازال ينمو هذا السلطان، ينمو ويقوى حتى خيل إلى العالم في عصر النهضة أن الثقافة القديمة قد انبعثت من قبرها، وأن المدينة الخالدة أضحت مرة أخرى مركز حياة العالم وثرائه وقمة تلك الحياة وذينك الثراء والفن. وقد احتفلت روما في عام 1963 بمضي 2689 عاماً على تأسيسها، وكان في وسعها أن تعود بنظرها إلى ما تمتاز به حضارتها من استمرار رائع في تاريخ الإنسانية. ألا ليتها تعود إلى حياتها الماضية.
شكراً لك أيها القارئ الصبور