قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 5 ج 28
صفحة رقم : 3975
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
الباب الثامن والعشرون
نمو الكنيسة
من 96 إلى 309م
الفصل الأول
المسيحيون
كانوا يجتمعون في حجراتهم الخاصة أو في معابد صغيرة، وقد نظموا أنفسهم على مثال المجامع اليهودية. وأطلقوا على كل جماعة منهم اسم "الإكليزيا" Ekklesia- وهو اللفظ اليوناني الذي كان يطلق على الجمعية الشعبية في حكومات البلديات- وكانوا يرحبون بالعبيد كما كان يرحب بهم في عبادات إيزيس ومثراس، ولم تبذل أية جهود لتحريرهم، ولكنهم كانوا يواسون بأن يقال لهم انهم سيعيشون في ملكوت يكون الناس فيه جميعاً أحراراً. وكان معظم اللذين اعتنقوا الدين الجديد في أول الأمر من الطبقات الدنيا بينهم عدد قليل من الطبقات الوسطى- الدنيا وعدد أقل من الأغنياء، ولكنهم مع هذا لم يكونوا من "سفلة الناس" كما يدعي سِلسس Celsus، بل كانوا يحيون في الغالب حياة نظام وجد، يمدون بعثات التبشير بالمال، ويجمعون الأموال لمساعدة الجماعات المسيحية الفقيرة. وقلما كانت تبذل في ذلك الوقت جهود لكسب سكان الريف، فلم يعتنق هؤلاء الدين
صفحة رقم : 3976
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
الجديد إلا آخر الأمر؛ كانت هذه الطريقة العجيبة هي السبب في أن أطلق لفظ البجانيين Pagani (أي القرويين أو الفلاحين) على سكان دول البحر الأبيض المتوسط قبل اعتناقهم المسيحية.
وكان يُسمح للنساء بالدخول في المجامع الدينية، وكان لهن بعض الشأن في أداء الواجبات الصغرى، ولكن الكنيسة كانت تطلب إليهن أن يحيين حياة التواضع والخضوع والعزلة حتى تستحي غير المسيحيات من حياتهن؛ فكن يُؤمرن بأن يأتين للصلاة والعبادة محجبات، لأن شعرهن يُعد من أكبر المغريات، وكان يخشى أن يفتتن به الناس والملائكة أنفسهم أثناء الصلاة(2)، بل أن القدّيس جيروم كان يرى أن يقص هذا الشعر كله(3). كذلك كان يُطلب إلى النساء المسيحيات ألا يستخدمن أدهان التجميل أو الحلي، وأن يتجنبن الشعر المستعار بنوع خاص، لأن بركة القس إذا نزلت على الشعر الميت المأخوذ من رأس لابسه صعب عليها أن تعرف أي رأس تباركه(4). وقد أصدر بولص أوامر صارمة لأتباعه فقال:
"لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذونا لهن أن يتكلمن... ولكن إذا كن يردن أن يعلمن شيئاً فليسألن رجالهن في البيت لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم في كنيسة".
"فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل، لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يُخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل، لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها من أجل الملائكة".
هذه هي النظرة اليهودية واليونانية لا النظرة الرومانية للمرأة؛ ولعلها كانت ثورة على الإباحية التي انزلقت إليها بعض النساء بإساءة استعمال ما أوتين من حرية، ومن حقنا حين نقرأ هذه النذر أن نعتقد أن النساء المسيحيات قد أفلحن في أن يكن فاتنات مغريات على الرغم من عطلهن من الحلي والعطور،
صفحة رقم : 3977
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
وبمعونة براقعهن، فمارسن بدهائهن ما كان لهن من سلطان في الزمن القديم. وقد وجدت الكنيسة للأرامل وغير المتزوجات من الناس أعمالاً كثيرة نافعة، فقد نظمتهن في جماعات "الأخوات" وعهدت إليهن القيام ببعض أعمال الإدارة أو الصدقات، وأنشأت على توالي الزمن طبقات مختلفة من الراهبات كانت أعمالهن الرحيمة أنبل ما تمثلت في المسيحية.
وقد وصف لوشيان حوالي عام 160 "أولئك البلهاء، المسيحيين، الذين يزدرون الأشياء الدنيوية ويرون أنها ملك مشترك بينهم جميعاً"(6). وجاء ترتليان بعد جيل واحد فأعلن أننا "نحن" (المسيحيين) "نشترك جميعاً في كل شيء عدا زوجاتنا"، وأضاف إلى ذلك قوله بتهكمه اللاذع: "فإذا وصلنا إلى هذه النقطة حللنا شركتنا، حللناها بالضبط عند النقطة التي يجعل غيرنا من الرجال اشتراكهم قوياً فعالاً"(7). وليس من حقنا أن نأخذ هذه الأقوال بحرفيتها؛ ذلك أن الشركة، كما يفهم من فقرة أخرى في أقوال ترتليان، لا تعني أكثر من أن كل مسيحي يجب عليه أن يسهم في رصيد الجماعة المشتركة بقدر ما تمكنه موارده. وما من شك في أن الاعتقاد السائد بأن النظام القائم في العالم سيقضى عليه بعد قليل قد جعل هذا التبرع سهلاً على المسيحيين؛ ولعل الأغنياء منهم قد اقتنعوا بأنهم يجب ألا يفاجئوا يوم القيامة وهم ملقون في أحضان المال. وكان بعض المسيحيين الأولين يعتقدون كما يعتقد الأسينيون أن الرجل الغني الذي لا يُشرك الناس فيما لا حاجة له به من ماله لص(9). وقد هاجم يعقوب "أخو الرب" الثروة بألفاظ تنم عن ثورة نفسية مريرة:
"هلم الآن أيها الأغنياء، ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ، وثيابكم قد أكلها العث، ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما... يأكل لحومكم كنار، ثم كثرتم في الأيام الأخيرة، هو ذا أجرة الفعلة الذي حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحاصدين قد دخل إلى أذني
صفحة رقم : 3978
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
رب الجنود.. أما اختار الله فقراء هذا العالم... ورثة الملكوت؟"(10). ويضيف إلى هذا أن الغني سيذبل كما تذبل الأزهار في حر الشمس اللافح(11).
وسرى فيما اعتاده المسيحيون من تناول وجبة الطعام المشتركة عنصر من عناصر الشيوعية؛ فقد كان المسيحيون الأولون يجتمعون كثيراً في عيد الحب Agape ويكون ذلك عادة في مساء يوم أحد السبوت. وكان العشاء يبدأ وينتهي بالصلاة وقراءة بعض فقرات من الكتاب المقدس، وكان القس يبارك الخبز والخمر. ويبدو أن المؤمنين كانوا يعتقدون أن الخبز والخمر كانا هما لحم المسيح ودمه، أو أنهما يُمثّلان لحمه ودمه(12). وكان عباد ديونيشس، وأئيس، ومثراس يؤمنون بما يشبه هذه العقائد في المآدب التي يأكلون فيها الأجساد المسحورة لآلهتهم أو رموز هذه الأجساد(13). وكانت آخر مراسم عيد الحب هذا هي "قبلة الحب" وكانت هذه القبلة في بعض المجتمعات يتبادلها الرجال فيما بينهم أو النساء فيما بينهن، لكن هذا القيد الثقيل لم يكن يراعى في البعض الآخر، ثم وجد كثيرون من المشتركين في هذا الحفل البهيج أن فيه من الملذات ما يأباه الدين، وندد ترتليان وغيره بما أدى إليه من الإباحية الجنسية(14). وكانت الكنيسة توصي بألا تفتح الشفاه في أثناء التقبيل، وألا تتكرر القبلة إذا أعقبتها لذة(15). وأخذ عيد الحب يختفي تدريجياً في القرن الثالث.
وفي وسعنا أن نصدق ما كان يعتقده الأقدمون من أن أخلاق المسيحيين الأولين كانت مثالاً يزدجر به العالم الوثني على الرغم من هذا الحادث السالف الذكر وأمثاله، وعلى الرغم من تشهير الوعاظ الذين كانوا يطلبون إلى المؤمنين أن ينشدوا الكمال. لقد استطاعت هذه المبادئ الأخلاقية السماوية أن تهذّب ما في الإنسان من غرائز حيوانية، وتضع له قانوناً أخلاقياً صالحاً للحياة، مهما يكن الثمن الذي تقاضته من حرية العقل والتفكير، وذلك بعد أن ضعفت الأديان
صفحة رقم : 3979
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
القديمة وزال ما كان لها من أثر ضئيل في تدعيم الحياة الخلقية، وبعد أن أخفقت المحاولات التي بذلتها الرواقية لإيجاد قانون أخلاقي قريب من القانون الطبيعي، فلم يكن لها أثر إلا في الصفوة المختارة من الناس. لقد كان الاعتقاد بحلول ملكوت الله ينطوي كذلك على الاعتقاد بوجود حاكم عادل مطلع على جميع أعمال البشر، يعلم ما تخبئه الصدور، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يستطيع أحد أن يفر منه أو يخدعه. يُضاف إلى هذه الرقابة القدسية رقابة أخرى من الناس بعضهم على بعض. ذلك أن الذنوب لم يكن من السهل إخفاؤها في هذه الجماعات الصغيرة، وأن المجتمع كان يوجه أشد اللوم علناً لمن يكشف أمرهم ممن يخالفون من أعضائه القانون الأخلاقي الجديد. وقد حرم على المسيحيين الإجهاض ووأد الأطفال وهما اللذان كانا يقضيان على عدد كبير من أفراد المجتمعات الوثنية، وسوى بينهما وبين القتل العمد(16). وكثيراً ما أنقذ المسيحيون الأطفال الذين تركوا في العراء ليقضوا نحبهم، وعمّدوهم، وربوهم مستعينين بما كان يقدم لهم من عون من مال الجماعة العام(17). كذلك حرمت الكنيسة على المسيحيين الذهاب إلى الملاهي، أو مشاهدة الألعاب العامة، أو الاشتراك في الحفلات التي تقام في الأعياد الوثنية، وإن لم تفلح في هذا بقدر ما أفلحت في تحريم الإجهاض ووأد الأطفال(18). وقصارى القول أن المسيحية أيدت وشددت ما كان لدى اليهود المتأهبين للقتال من صرامة أخلاقية. وكانت توصي بالعزوبة وبقاء البنات أبكاراً وتعد ذلك من المثل الأخلاقية العليا؛ ولم يكن بالزواج إلا لأنه مانع من الإباحية الجنسية، ولأنه وسيلة سخيفة لحفظ النسل. ولكن الزوج والزوجة كانا يشجعان على الامتناع عن العلاقات الجنسية(19). أما الطلاق فلم يكن يسمح به إلا إذا كان أحد الزوجين وثنياً وأراد أن يلغي زواجه بمن اعتنق المسيحية. وكانت الكنيسة تقاوم زواج الأرامل من النساء والرجال، وقد حرم اللواط وذم ذماً قل أن
صفحة رقم : 3980
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
يكون له مثيل في شدته في التاريخ القديم. وفي ذلك يقول ترتليان: "أما من حيث المسألة الجنسية فإن المسيحي يقنع بالمرأة"(20).
وكان كثير مما ورد في هذا القانون الأخلاقي الصارم يستند إلى قرب عودة المسيح إلى الأرض، فلما أن بدأ هذا الأمل يمحل، أخذت مطالب الجسد تقوى مرة أخرى، وضعفت الأخلاق المسيحية. وشاهد ذلك أن رسالة لا يُعرف كاتبها تسمى راعي هرماس (حوالي عام 110) تندد بعودة البخل، والخيانة، وأصباغ الشفاه، وصبغ الشعر، وتلوين الجفون، والسكر، والزنى بين المسيحيين(21). لكن الصورة العامة التي لدينا عن أخلاق المسيحيين في ذلك العهد تنطق بالتقوى، والوفاء المتبادل، والإخلاص بين الزوجين، والسعادة، والطمأنينة، والثقة، والإيمان. ولم يسع بلني الأصغر إلا أن يكتب إلى تراجان يقول إن المسيحيين يحيون حياة هادئة هي مضرب المثل في الصلاح(22). ويصفهم جالينوس بأنهم "قد سموا في تأديب أنفسهم" وفي... رغبتهم الشديدة في الوصول إلى مستوى خلقي رفيع يجعلهم في منزلة لا تقل عن منزلة الفلاسفة الحقيقيين(23). وقد قوى شعورهم بالخطيئة حين أخذوا يعتقدون أن البشر جميعهم قد تلوثوا بسقوط آدم، وأن العالم سينتهي عما قريب، ويحل اليوم الذي يحكم فيه على الناس بالعذاب السرمدي أو النعيم المقيم.
وقد وجه كثير من المسيحيين همهم كله إلى العمل على أن يستقبلوا يوم الحساب الرهيب طاهرين من الدنس، فكانوا لذلك يرون في كل لذة من ملذات الحواس غواية من غوايات الشيطان، ولهذا أخذوا ينددون بعالم الجسم ويعملون لكبت الشهوات بالصوم وبكثير من أنواع التعذيب البدني، وكنوا ينظرون بعين الريبة إلى الموسيقى، والخبز الأبيض، والخمور الأجنبية، والحمّامات الدافئة، وحلق اللحية، ويرون في هذه الأعمال استهانة بإرادة الله الجلية الواضحة للعيان(24). واتخذت الحياة حتى عند المسيحي العادي نفسه لوناً أشد قتاماً
صفحة رقم : 3981
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
مما خلعته عليها الوثنية، إلا حينما كانت تعمل على استرضاء الآلهة السفلى لدفع أذاها. وانتقل إلى يوم الأحد المسيحي ما كان يراعى في السبت اليهودي من جد ووقار حين حل أولهما محل الثاني في القرن الثاني بعد الميلاد.
فقد كان المسيحيون يجتمعون في ذلك اليوم المعروف عندهم بيوم الرب، ليقيموا قداسهم الأسبوعي. فكان قساوستهم يتلون عليهم نُبَذاً من الكتاب المقدس، ويؤمونهم في الصلاة، ويلقون عليهم مواعظ في العقائد، والتعاليم الأخلاقية، والجدل الطائفي. وكان يسمح لأفراد الجماعة وخاصة النساء، في الأيام الأولى أن "ينطقوا" في أثناء الغيبوبة أو النشوة بألفاظ لا يستطيع أن يشرح معناها إلا المفسرون الصالحون؛ ولما أن أدت هذه الأعمال إلى كثير من التهيج والفوضى في شئون الدين، عمدت الكنيسة إلى عدم تشجيعها ثم منعتها آخر الأمر منعاً باتاً ووجد القساوسة أنفسهم مضطرين عند كل خطوة إلى كبح جماح الخرافات لا إلى خلقها.
وقبل أن يُختتم القرن الثاني كانت هذه الحفلات الأسبوعية قد اتخذت شكل القداس المسيحي. وأخذ هذا القداس ينمو نمواً بطيئاً بالاعتماد على صلاة الهيكل اليهودية، وعلى الطقوس اليونانية الخاصة بالتطهير، والتضحية البديلة، والاشتراك عن طريق العشاء الرباني في قوى الإله القاهرة للموت، حتى صار في آخر الأمر كومة من الصلوات، والمزامير، والقراءات، والمواعظ، والترتيلات، وما هو أهم من هذا كله وهو التضحية الرمزية بحمل الله للتكفير عن الخطايا، وهي التضحية التي حلّت في المسيحية محل القرابين الدموية في الأديان القديمة. واستحال الخبز والخمر اللذان كانا يُعدّان في الطقوس القديمة هدايا توضع على المذبح أمام الإله بفضل تدشين القساوسة له إلى جسم المسيح ودمه، وأصبحا يقدّما لله بوصفهما تكراراً بتضحية يسوع بنفسه على خشبة الصليب. ويلي هذا موكب مؤثر رهيب يشترك فيه العابدون في حياة منقذهم ومادته نفسيهما.
صفحة رقم : 3982
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
وكانت هذه فكرة خلع عليا طول الزمن قداسة، فلم يكن العقل الوثني في حاجة إلى شيء من التدريب لاستقبالها وإدماجها في "طقوس القداس الخفية" وبها أضحت المسيحية آخر الأديان الغامضة وأعظمها. لقد كانت هذه عادة حقيرة في منشئها(25)، جميلة في تطورها، وكان قبولها في المسيحية وسيلة من أحكم الوسائل التي سلكتها لتوائم بينها وبين رموز العصر وحاجات أتباعها؛ ولم يكن في طقوسها كلها طقس يماثل القداس في بعث الحماسة في النفس الوحيدة المقفرة، وتقويتها على مواجهة العالم الذي يناصبها العداء .
وكان (منح البركة) للخبز والخمر أحد الأسرار السبعة المسيحية المقدسة وهي الطقوس التي يعتقد الناس أنهم ينالون بها البركة الإلهية. وهنا أيضاً تستخدم الكنيسة شعر الرموز لتخفف به من أعباء الحياة الإنسانية وتعلّي مكانتها، وتجدد في كل مرحلة من مراحل الملحمة الإنسانية صلة الخالق بالمخلوق وهي الصلة التي تقويه على احتمال متاعب الحياة وآلامها. ولسنا نجد في القرن الأول الميلادي إلا ثلاث شعائر دينية يؤمن المسيحيون بقداستها: التعميد، والعشاء الرباني، ورسامة الكهنوت؛ ولكن سائر الشعائر كانت أصولها موجودة في عادات المجتمعات الدينية من ذلك الوقت البعيد. ويلوح أنه كان من عادة المسيحيين الأولين أن يضيفوا إلى التعميد "وضع الأيادي" على مَن يعمّدون، وبذلك يدخل الرسول أو القسيس الروح القدس في المؤمنين(28). ثم انفصل هذا العمل عن التعميد على توالي الأيام وأصبح هو تثبيت العماد(29).
ولما استبدل تعميد الأطفال شيئاً فشيئاً بتعميد الكبار شعر الناس بحاجتهم إلى التطهير الروحي بعد مرحلة الطفولة؛ فاستحال الاعتراف العام بالخطيئة اعترافاً خاصاً أمام القس، الذي يقول بأنه تلقى من الرسل أو خلفائهم من الأساقفة حق
صفحة رقم : 3983
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
"الربط والحل" أي فرض الكفارات وغفران الذنوب(30).
ولقد كان فرض الكفارات هذا من الأنظمة التي يمكن أن يساء استخدامها لسهولة نيل المغفرة؛ ولكنه مع هذا يمد المذنب بقوة تمكنه من إصلاح نفسه، ويوفر على النفوس القلقة متاعب الندم العصيبة.
وكان الزواج في تلك القرون لا يزال من النظم المدنية؛ ولكن الكنيسة أضافت إليه ضرورة الحصول على موافقتها، وأخذت تطالب الزوجين به، فرفعت الزواج بهذا العمل من عقد زمني يستطاع حله إلى عقد مقدس لا يستطاع نقضه. وقبل أن يحل عام 200 بعد الميلاد اتخذت عادة "وضع الأيادي" صورة "الرسامة الكهنوتية"، وبمقتضاها أصبح للأساقفة وحدهم حق رسامة القساوسة القادرين على إقامة القداس بصورته الصحيحة؛ ثم استمدت الكنيسة في آخر الأمر من رسالة يعقوب (5 : 14) "دهن المريض بالزيت المقدس بعد الموت" وهي البركة الأخيرة التي يتلقاها من القس حين يدهن في المسيحي المحتضر أعضاء الحس والأطراف، فيطهره مرة أخرى من الخطايا ويهيئه للقاء الله. ولو أننا حكمنا على هذه الشعائر بما كان يعزوه إليها القائمون بها والمؤمنون بقوتها، وأخذنا أقوالهم فيها بحرفيتها، لكان هذا منتهى السخف منا والجهالة، لكننا إذا أدركنا أنها تبعث في النفوس البشرية الشجاعة والإلهام، حكمنا من فورنا بأنها خير علاج للنفوس وأقربه إلى الحكمة.
وكانت طريقة الدفن المسيحية آخر ما تكرم به حياة المسيحي. ذلك أن من عقائد الدين الجديد عودة الحياة إلى الجسم والروح، ولهذا كان يُعنى بالميت أشد العناية، فيقوم قسيس بالخدمة الدينية للميت وقت دفنه، وتوضع كل جثة وحدها في قبر خاص؛ ثم أخذ المسيحيون حوالي عام 100 يتبعون العادات السوريّة والتسكانية القديمة فيدفنون موتاهم في سراديب- وأكبر الظن أن هذا لم يكن يقصد إخفائها بل كان رغبة منهم في الاقتصاد في الأمكنة
صفحة رقم : 3984
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
والنفقات، فكان العمال يحفرون طرقات طويلة تحت الأرض مختلفة البعد عن سطحها، توضع فيها أجسام الموتى في دياميس بعضها فوق بعض ممتدة على جانبي هذه الطرقات. وسار الوثنيون واليهود على هذه السنة نفسها، ولعلهم فعلوا هذا ليسهلوا مشقة الدفن ونفقاته على الجمعيات التي كانت تقوم بهذه المهمة. ويبدو لنا أن بعض هذه الطرقات قد جُعلَت ملتوية عمداً وقد يبعث هذا على الظن بأنها كانت تستخدم مخابئ في أوقات الاضطهاد، فلما أن علا شأن المسيحية وانتصرت على أعدائها زالت عادة دفن الموتى في السراديب، وأضحت الدياميس أماكن معظمة يحج إليها الناس؛ وقبل أن يحل القرن التاسع سدت السراديب ونسيها الناس، ولم تكشف إلا بطريق المصادفة عام 1578.
وهذه السراديب وما فيها من نقوش بارزة وظلمات وهي التي احتفظت بمعظم ما بقي لنا من الفن المسيحي الأول. فها هنا ظهرت في عام 180 الرموز التي أصبحت فيما بعد ذات شأن أيما شأن في المسيحية: اليمامة الممثلة للروح بعد أن تحررت من سجن الجسم؛ والفنقس Phoenix الذي عادت الحياة إلى رماده بعد احتراقه، وغصن النخلة شعار النصر، وغصن الزيتون رمز السلام. والسمكة وقد ضمت إلى شعائر المسيحية لان اسمها اليوناني i-ch-th-u-s يتكون من الحروف الأولى من العبارة Jesous Christos thou uios soter- "يسوع المسيح ابن الله، المنقذ"، وهنا أيضاً نجد تلك الفكرة الذائعة الصيت، فكرة الراعي الصالح، ممثلة تمثيلاً صريحاً على تمثال لعطارد يحمل معزى. وتتمثل في هذه الرسوم أحياناً رشاقة رسوم بمبي، ونشاهد ذلك في الأزهار، والكروم، والطيور التي كان يزدان بها قبر دومتيان. وهذه النقوش في العادة من أعمال صغار الصناع المغمورين الذين يفسدون وضوح الخطوط اليونانية والرومانية بالغموض
صفحة رقم : 3985
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
الشرقي. ذلك بأن المسيحية كانت في تلك القرون الأولى منهمكة في شئون الدار الآخرة انهماكاً يحول بينها وبين العناية بتزيين دار الدنيا. يضاف إلى هذا أنها سارت على السنة اليهودية سنة كراهية التماثيل، وخلطت بين التصوير وبين عبادة الأوثان، وذمت النحت والتصوير لأنهما في أكثر الأحيان يمجدان العرى، وكان من أثر هذه الآراء أن اضمحل الفن التشكيلي بنماء المسيحية، أما الفسيفساء فكانت أكثر انتشاراً، فكانت جدران الباسلقات وأماكن التعميد مرصعة برصائع من أوراق الأشجار وأزهارها وبخروف عيد الفصح، وصور من العهد القديم.وكان صور شبيهة بهذه تنقش نقشاً غير متقن على التوابيت. وكان المهندسون المعماريون في هذه الأثناء يعملون على تكييف الباسلقات اليونانية- الرومانية للوفاء بحاجات العبادات المسيحية؛ ولم تكن الهياكل الصغيرة التي كانت تضم الآلهة الوثنية نموذجاً صالحاً للكنائس المعدة لاستقبال الجماعات الكبيرة، أما صحن الباسلقات الرحب وطرقاتها فكانت صالحة لهذا الغرض، وكان قباءها قد أُعد لأن يكون هو المحراب؛ وفي هذه الأضرحة ورثت الموسيقى المسيحية على استحياء النغم، والوزن، والسلّم الموسيقي؛ وكان كثير من رجال الدين يعارضون في أن تغني النساء في الكنيسة، بل كانوا يعارضون في أن يغنين في أي مكان عام، لأن صوت النساء قد يثير رغبة دنسة في الرجل القابل للتهيّج على الدوام(31). لكن المجتمعين في الكنائس كثيراً ما كانوا يعبّرون بترانيمهم عن أملهم، وشكرهم، وبهجتهم؛ وأضحت الموسيقى على توالي الأيام أجمل الزينات، وأرقى الوسائل لخدمة الدين المسيحي.
وهذا الدين في جملته أعظم الأديان التي عرضت على بني الإنسان جاذبية؛ فهو يعرض نفسه دونما قيد على جميع الأفراد، والطبقات، والأمم؛ ولم يكن كالدين اليهودي مقصوراً على شعب بعينه أو على الأحرار في أمّة بعينها كما كانت الشعائر الرسمية في روما وبلاد اليونان، والمسيحية إذ تجعل الناس
صفحة رقم : 3986
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
جميعاً وارثين لانتصار المسيح على الموت تعلن المساواة التامة الأساسية بين جميع بني الإنسان، وتجعل كل الفروق في المراتب الدنيوية أموراً عارضة تافهة؛ وقد وهبت البائسين، والمحطمين، والمحرومين، واليائسين، والأذلاء، جميعاً فضيلة الرحمة التي لم يكن لهم بها عهد من قبل؛ كما وهبتهم العزة والكرامة التي ترفع من قدرهم وتعلي شأنهم، ووهبتهم فوق ذلك وحياً وإلهاماً ينبعث من صورة المسيح وقصته ومبادئه الأخلاقية؛ وأضاءت حياتهم بما تبعث فيهم من أمل في ملكوت الله المقبلة، وفي السعادة الدائمة بعد الموت؛ ووعدت أشد الناس دنيوياً بالعفو عن ذنوبهم وبقبولهم في الناجين من العقاب في الدار الآخرة، أما العقول التي أقلقها طول البحث في المشاكل المعقدة كمشاكل أصل الحياة ومصير الإنسان والشر والآلام، فقد جاءت إليها بمجموعة من العقائد الموحى بها من عند الله تستطيع أكثر النفوس سذاجة أن تجد فيها السلوى والراحة العقلية؛ وجاءت إلى الرجال والنساء الذين يحيون حياة الفاقة والكدح بمباهج العشاء الرباني والقداس، وهما من الشعائر التي تجعل كل حادثة كبرى في الحياة منظراً خطيراً في مسرحية الله والإنسان؛ وجاءت إلى الفراغ الخلقي الذي خلّفته الوثنية المحتضرة، وإلى فتور الرواقية وفساد الأبيقورية، وإلى العالم الذي أنهكته علل الوحشية، والقسوة، والظلم، والفوضى الجنسية؛ وإلى الإمبراطوريّة الجانحة إلى السلم، والتي بدت في غير حاجة إلى فضائل الرجولة القوية أو إلى آلهة الحرب، جاءت إلى هذه كلها بقانون أخلاقي جديد قائم على الاخوة، والرحمة، والتأديب، والسلام.
وبعد أن تشكّل الدين الجديد بحيث يفي بحاجات الإنسان أخذ ينتشر بين الناس بما أوتي من قدرة على الذيوع والانتشار، فكان كل مَن اعتنق هذا الدين ينصب نفسه داعياً له بحماسة لا تقل في قوتها عن حماسة الثوار. وكان طرق الإمبراطوريّة الرومانية، وأنهارها، وشواطئ بحارها، ومسالكها التجارية
صفحة رقم : 3987
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> المسيحيون
أهم العوامل التي عينت الخطوط الرئيسية لنماء الكنيسة المسيحية، فأتجه هذا النماء شرقاً من أورشليم إلى دمشق، والرها، ودورا، وسلوقية، وطشقونة؛ واتجه منها جنوباً عن طريق بصرى، وبطرا إلى بلاد العرب؛ وغرباً عن طريق سوريا، إلى مصر، وشمالاً عن طريق إنطاكية إلى آسية الصغرى وأرمينية؛ ومن إفسوس وترواس وراء بحر إيجة إلى كورنثة (كورنثوس) وتسالونيكي، وإلى درهكيوم وراء الطريق الإجناسي؛ ثم إخترق البحر الأدرياوي إلى برنديزيوم، أو عن طريق سلا وكربيدس إلى بتيولى وروما؛ وعن طريق صقلية ومصر إلى شمالي أفريقية، واخترق البحر الأبيض المتوسط أو جبال الألب إلى أسبانيا وغالة، ومنها إلى بريطانيا. ثم سار الصليب على مهل في أعقاب الحكم الروماني، وشق النسر الروماني، الطريق للمسيح؛ وكانت آسية الصغرى في ذلك الوقت حصن المسيحية الحصين، ولم يكد يحل عام 300 حتى كانت الكثرة الغالبة من سكان إفسوس وأزمير من المسيحيين(32). وعلا شأن الدين الجديد في شمالي أفريقية، فأضحت قرطاجنة وهبو مركزين رئيسيين للعلم والجدل المسيحيين، وفيهما وجد آباء الكنيسة اللاتينية العظام- ترتليان، وكبريان، وأوغسطين؛ وهنا اتخذت نصوص القداس اللاتينية وترجمة العهد القديم اللاتينية صورتيهما المعروفتين. وبلغ عدد الجالية المسيحية في روما قبيل آخر القرن الثالث نحو مائة ألف، وكان في وسع هذه الجالية أن تمد بمعونتها المالية غيرها من الجاليات، وكانت من عهد بعيد تطالب لأسقفها بالسلطة العليا على سائر الكنائس.
ويمكننا أن نقول بوجه عام إنه لم يحل عام 300 بعد الميلاد حتى كان ربع سكان الشرق وجزء من عشرين جزءاً من سكان الغرب من المسيحيين. وفي ذلك يقول ترتليان (حوالي 200): "يجهر الناس بأن الدولة مكتظة بنا، ذلك أن الخلائق على اختلاف سنهم، وأحوالهم، ومراتبهم، يهرعون إلينا، وينضوون تحت لوائنا. إنــــّا أبناء الأمس القريب ولكننا رغم هذا قد ملأنا العالم كله"(33).
صفحة رقم : 3988
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
الفصل الثاني
تنازع العقائد
لو أن عادات وعقائد مختلفة متناقضة لم تنشأ في مراكز المسيحية المتعددة المستقلة بعضها عن بعض إلى حد ما والخاضعة إلى تقاليد وبيئات مختلفة. لو أن هذا لم يحدث لكان عدم حدوثه أمراً شديد الغرابة. ولقد قدر للمسيحية اليونانية بنوع خاص أن يطغي عليها سيل من البدع الدينية بتأثير عادات العقل اليوناني الميتافيزيقية المولعة بالنقاش والجدل؛ وليس من المستطاع فهم المسيحية على حقيقتها إلا إذا عرفنا ما دخل فيها من هذه البدع، لأنها وإن غلبتها لم تسلم من بعض ألوانها وأشكالها.
وكان ثمة عقيدة مشتركة وحدت الجماعات المسيحية المنتشرة في أنحاء العالم: هي أن المسيح ابن الله، وأنه سيعود لإقامة مملكته على الأرض، وأن كل مَن يؤمن به سينال النعيم المقيم في الدار الآخرة. ولكن المسيحيين اختلفوا في عودة المسيح؛ فلما أن مات نيرون، وخرب تيطس الهيكل، ولما أن دمر هدريان أورشليم، رحب كثيرون من المسيحيين بهذه الكوارث وعدوها بشائر بعودة المسيح.
ولما أن هددت الفوضى الإمبراطوريّة في أواخر القرن الثاني، طن ترتليان وغيره أن آخرة العالم قد دنت(34)؛ وسار أحد الأساقفة السوريين على رأس قطيعه إلى الصحراء ليلتقي بالمسيح في منتصف الطريق، وأفسد أسقف آخر في بنطس نظام أتباعه بأن أعلن أن المسيح سيعود في خلال عام واحد(35). ولما لم تصدق كل هذه العلامات، ولم يعد المسيح، رأى عقلاء المسيحيين أن يخففوا من وقع هذه الخيبة بتفسير موعد عودته تفسيراً جديداً، فقيل في رسالة معزوة إلى برنابا
صفحة رقم : 3989
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
إنه سيعود في خلال ألف عام(36)، وقال أشد هؤلاء حذراً إن عودته ستكون حين ينقرض "جيل" اليهود أو شعبهم عن آخره، أو حين لا يبقى أحد من غير اليهود لم يصل إليه الإنجيل؛ أو كما يقول إنجيل يوحنا: إنه سيرسل بدلاً منه الروح القدس أو المقرِّى ؛ ثم نقل الملكوت آخر الأمر من الأرض إلى السماء، ومن حياة الناس في هذه الدنيا إلى الجنة في الدار الآخرة. بل إن الاعتقاد بعودة المسيح بعد ألف عام أصبح لا يلقى تشجيعاً من الكنيسة، وانتهى الأمر بأن صارت تقاومه وتحكم على القائلين به بالزيغ والضلال.
وملاك القول أن الاعتقاد بعودة المسيح الثانية هي التي أقامت صرح المسيحية، وأن الأمل في الدار الآخرة هو الذي أبقى عليها .
وإذا عضضنا النظر عن هذه العقائد رأينا أن أتباع المسيح قد انقسموا في الثلاثة القرون الأولى من ظهوره إلى مائة عقيدة وعقيدة. ولو أننا عمدنا إلى ذكر العقائد الدينية المختلفة التي حاولت أن تستحوذ على الكنيسة الناشئة ثم عجزت من الوصول إلى غرضها، والتي اضطرت الكنيسة إلى أن تصمها واحدة بعد واحدة بأنها كفر وسعي إلى الانشقاق والتفريق، لو أننا فعلنا هذا لكان ذلك جهلاً منا بالغرض من كتابة التاريخ.
صفحة رقم : 3990
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
وجدير بنا أن نشير هنا إلى الأدرية - أي طلب العلم الرباني (gnosis) عن طريق التصوف - لم تكن كفراً بالمسيحية بقدر ما كانت عقيدة منافسة لها. لقد نشأت هذه العقيدة المسيحية، وكانت تبشر بوجود المنقذ (Soter) قبل أن يولد المسيح(37). وأكبر الظن أن سمعان المجوسي السامري الذي عاب علية بطرس اتجاره بالرتب الكهنوتية كان هو نفسه مؤلف كتاب المعرض الأكبر الذي جمع فيه طائفة لا حصر لها من الأفكار الشرقية عن الخطوات المعقدة التي يستطيع بها العقل البشري أن يصل إلى العلم اللدنى بالأشياء كلها. وفي الإسكندرية امتزجت الأرفية، والفيثاغورية الجديدة؛ والأفلاطونية الجديدة بفلسفة فيلون العقلية ودفعت بسيليدس Basilides (117)، وفلنتينس Valentinus (160) وغيرهما إلى تكوين أنظمة عجيبة من "الفيض الرباني" "وإيونات" العالم المجسدة ؛ وأوجد بردسانس Bardesanes (200) في الرها اللغة السريانية الأدبية بوصفه هذه الإيونات شعراً ونثراً. وعرض ماركس الأدري The Guostic Mercus في غالة أن يكشف للنساء أسرار ملائكتهن الحارسة، وكان كل ما أوحى به إليهن إطراء لهن ونفاقاً، وقبل في نظير ذلك أن يستمتع بهن(38).
وكان أعظم الملاحدة الأولين من غير الأدريين، ولكنه تأثر بآرائهم الدينية. وتتلخص قصة مرسيون Marcion وهو شاب ثري من أهل سينوب في أنه جاء إلى روما حوالي عام 140 معتزماً أن يتم ما بدأه بولس وهو تخليص المسيحية من اليهودية. وكان مما قاله مرسيون إن المسيح حسب رواية الأناجيل،
صفحة رقم : 3991
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
قد قال إن أباه إله رحيم، غفور، مُحب، على حين أن يهوه كما يصفه العهد القديم، إله غليظ القلب؛ صارم في عدله مستب، إله حرب؛ ولا يمكن أن يكون يهوه هذا أباً للمسيح الوادع. وتساءل مرسيون قائلاً أي إله خير تطاوعه نفسه بأن يقضي على البشر جميعاً بالشقاء لأن أباهم الأول أكل تفاحة، أو رغب في المعرفة أو أحب امرأة؟ إن يهوه موجود، وهو خالق العالم، ولكنه خلق لحم الإنسان وعظامه من المادة، ولهذا ترك روح الإنسان مسجونة في قالب من الشر، وأراد إله أكبر من يهوه أن يطلق هذه الروح من ذلك السجن فأرسل ابنه إلى الأرض؛ وظهر المسيح؛ وكان عند ظهوره في سن الثلاثين، في جسم طيفي غير حقيقي، وكسب بموته لخيار الناس ميزة البعث الخالص. ويقول مرسيون إن الأخيار هم الذين يفعلون ما فعله بولس فينبذون يهوه والشريعة اليهودية، ويرفضون الكتب العبرانية المقدسة، ويتجنبون الزواج، واللذات الجنسية جميعها، ويتغلبون على الجسم بالزهد الشديد. عمل مرسيون على نشر هذه الآراء بإصدار عهد جديد غير العهد المعروف يتكون من إنجيل لوقا ورسائل بولس. وأصدرت الكنيسة قراراً بحرمانه، وردت إليه المال الكثير الذي وهبه إليها حين جاء إلى روما.
وبينما كانت الشيعتان الأدرية والمرسيونية آخذتين في الانتشار السريع في الشرق والغرب ظهر زعيم جديد لشيعة ضالة أخرى في ميسيا Mysia. فقد قام في عام 156 رجل يدعى منتانس Montanus يندد بتعلق المسيحيين المتزايد بشئون هذا العالم وبازدياد سلطان الأساقفة المطلق على الكنيسة، وأخذ يطالب بالعودة إلى بساطة المسيحية الأولى وصرامتها، ويرد حق التنبؤ أو القول الملهم إلى أعضاء الجماعات المسيحية. وآمنت امرأتان تدعيان بريسلا Priscilla ومكسمليا Maximillia بأقواله، وأخذتا تنطقان في أثناء غيبوبتها الدينية بأقوال أصبحت النبوءات الباقية لهذه الشيعة. وكان منتانس نفسه يتنبأ في أثناء نشوته الدينية بنبوءات بلغ من فصاحتها أن أتباعه الفريجيين أخذوا يلقبونه بالجدي الذي وعد
صفحة رقم : 3992
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
به المسيح، ويلقونه بنفس الترحيب الحماسي الذي كان يصدر من أتباع ديونيشس. وكان مما تنبأ به أن ملكوت السموات قد دنت ساعتها، وأن أورشليم الجديدة التي يقول بها سفر الرؤيا ستنزل من السماء على سهل قريب بعد زمن قليل. ثم سار بنفسه إلى هذه الأرض الموعودة على رأس حشد من الناس بلغ من الكثرة درجة خلت معها بعض المُدن من سكانها. وحدث في هذا الوقت ما حدث في بداية عهد المسيحية فامتنع الناس عن الزواج وعن التناسل، وجعلوا متاعهم ملكاً مشاعاً بينهم، وعمدوا إلى التقشف والزهد استعداداً بمجيء المسيح(39). ولما اضطهد أنطونينس الحاكم الروماني المسيحيين في آسية الصغرى هرع مئات من أتباع منتانس إلى محاكمه سعياً منهم إلى الاستشهاد، ورغبة في الجنة. ولم يستطع أنطونينس أن يحاكمهم كلهم فاكتفى بإعدام بعضهم وطرد معظمهم وقال لهم: "أيها الخلائق التعساء! إذا كنتم تريدون الموت حقاً، فهل عدمتم الجبال وأجراف الصخر العالية؟"(40) وأعلنت الكنيسة أن تعاليم منتانس كفر وضلال؛ وأمر جستنيان في القرن السادس الميلادي بإبادة هذه الشيعة عن آخرها، فاجتمع بعض أتباع منتانس في كنائسهم، وأضرموا فيها النار، واحترقوا فيها أحياء(41).
أما الشيع الضالة الصغرى فقد كانت مما يخطئه الحصر، فمنها شيعة الزهّاد التي عمدت إلى قمع شهواتها بمختلف الوسائل، وقالت إن الزواج من الخطايا؛ ومنها شيعة المتخيلة (Docetists) القائلة بأن جسم المسيح لم يكن لحماً ودماً بل كان شبحاً أو خيالاً؛ ومنها الثيودوتية التي لم تكن ترى في المسيح أكثر من إنسان، والمتبنية ، وأتباع بولس السموساتي Samosata وكانت هاتان الطائفتان تعتقدان أن المسيح كان بمولده رجلاً عادياً ولكنه وصل إلى درجة الألوهية بكماله الخلقي؛ ومنها الظاهرية Modalists والسابلية
صفحة رقم : 3993
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
(أتباع سابليوس) القائلة بأن الأب والإبن والروح القدس ليست أقانيم منفصلة بل هي صور مختلفة يظهر فيها الله للإنسان، ومنها المنكرون وجود شخصية مستقلة للمسيح والقائلون إن ألوهيته ليست إلا قوة وهبت له. وهؤلاء كلهم يعتقدون أن الأب والإبن شخص واحد؛ واليعاقبة الذين يعتقدون أن للمسيح طبيعة واحدة؛ ومنها القائلون بأن للمسيح مشيئة واحدة، وتغلبت الكنيسة على هذه الشيع كلها بما كان لها من نظام خير من نظمها جميعاً؛ وبتمسكها الشديد بمبادئها، وبفهمها طبائع الناس وحاجاتهم أكثر منها.
وظهر في القرن الثالث خطر جديد في بلاد الشرق يهدد كيان المسيحية، ذلك أن شاباً صوفياً فارسياً يدعى ماني الطشقوني أعلن عند تتويج شابور (242) أنه المسيح المنتظر، وأن الإله الحق أرسله إلى الأرض ليقوّم حياة البشر الدينية والأخلاقية. وأخذ ماني عقائده من الزرادشتية، والمثراسية، واليهودية، والأدرية، فقسم العالم مملكتين متنافستين هما مملكتا الظلمة والنور؛ وقال إن الأرض تتبع مملكة الظلمة، وإن الشيطان هو الذي خلق الإنسان، ولكن ملائكة إله النور استطاعت بطريقة خفية أن تدخل إلى البشرية بعض عناصر النور وهي العقل والذكاء والتفكير. وقال ماني أن في النساء أنفسهن بصيصاً قليلاً من النور، ولكن المرأة هي خير ما صنع الشيطان، وهي عامله الأكبر في إغواء الرجل وإيقاعه في الذنوب. فإذا امتنع الرجل عن العلاقات الجنسية، والكلف بالنساء وعن السحر، وعاش عيشة الزهد، ولم يطعم إلا الأغذية النباتية، وصام عن الطعام بعض الوقت، فإن ما فيه من عناصر النور يتغلب على الدوافع الشيطانية، ويهديه إلى النجاة، كما يهديه النور الرحيم. وظل ماني ينشر دعوته بنجاح ثلاثين عاماً صلب بعدها بناء على طلب كهنة المجوس، وحشي جلده بالقش، وعلق على أحد أبواب مدينة السوس؛ وبعث استشهاده في الناس حماسة قوية، فانتشرت مبادئه في غربي آسية وشمالي أفريقية؛ واعتنقها أوغسطين مدى
صفحة رقم : 3994
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
عشرين عاماً، وعاشت بعد اضطهاد دقلديانوس، وفتوح المسلمين، وظلت تحيا حياة مضمحلة مدى ألف عام إلى أن ظهر جنكيزخان.
وكانت الأديان القديمة لا تزال هي أديان الكثرة الغالبة من سكان الإمبراطوريّة، فأما اليهودية فقد ضمت في مجامعها المتفرقة المطرودين من أتباعها بعد أن عضهم الفقر بنابه، وأخذت تنفس عن تقواها بترتيل التلمود؛ وظل السوريّون يعبدون بعل وإن أسموه بأسماء يونانية، كما ظل الكهنة المصريّون قائمين على خدمة آلهتهم الحيوانية الكثيرة بإخلاص وولاء؛ واحتفظت سيبيسل، وإيزيس، ومثراس، باتباعها إلى القرن الرابع؛ واستحوذت مثراسية جديدة على الدولة الرومانية في عهد أورليان، واستمرت النذور والقرابين ترسل إلى آلهة الرومان القديمة في هياكلها، وظل المبتدئون والطلاب يرحلون إلى اليوزيا، والمواطنون الذين يتطلعون إلى المراكز العليا في الدولة يؤدون مناسك دين الأباطرة في مختلف أنحائها، لكن هذه الأديان القديمة فقدت حيويتها، ولم تعد تثير في الناس ذلك الإخلاص القلبي الذي يبعث الحياة في الدين اللهم إلا في أماكن قليلة متفرقة؛ ولم يكن سبب هذا الضعف أن اليونان والرومان قد تركوا أديانهم التي كانت في يوم من الأيام إما جميلة محببة أو قوية صارمة؛ بل كان سببه أنهم فقدوا إرادة الحياة، وعمدوا إلى الإسراف في تحديد النسل إلى أبعد الحدود، أو إنهاك الجسم، أو الحروب المدمرة، فقل عددهم إلى الحد الذي أفقد الهياكل عبَّادها في الوقت الذي فقدت فيه الأرض زرّاعها.
وبينما كان أورليوس يقاتل المركمانهيين على ضفاف الدانوب في عام 178 حاولت الوثنية محاولة خطيرة أن تحمي نفسها من المسيحية، وكل ما نعرف عن هذه المحاولة مستمد من كتاب أرجم Origen المسمى ضد سلسس Againist Celsus وما فيه من عبارات نقلت في غير عناية من كتابه كلمة الحق لسلسس.
صفحة رقم : 3995
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
وكان سلسس هذا - وهو ثاني رجل نذكره في قصتنا بهذا الاسم - رجلاً من رجال الدنيا الذين يمتعون أنفسهم بنعيمها، ولم يكن من الفلاسفة، وكان يحس أن الحضارة التي يستمتع بها مرتبطة أشد الارتباط بالدين الروماني ولذلك أخذ على عاتقه أن يدافع عن هذا الدين بأن يهاجم المسيحية التي كانت وقتئذ أكبر أعدائه وأشدهم باساً. وعمد إلى دراسة الدين الجديد دراسة دهش من غزارتها أرجن العالم التحرير. ثم أخذ يهاجم ما في الكتاب المقدس من أمور لا تجوز، على حد قوله، إلا على بسطاء العقول، كما هاجم صفات يهوه، وما يعزى إلى معجزات المسيح من أهمية، وما بين موت المسيح وقدرته الإلهية من تناقص. وسخر من اعتقاد المسيحيين بالنار التي سيحترق بها العالم آخر الأمر، وبيوم الحساب، وبعقيدة البعث والنشور:
"من السخف أن تظن أنه حين يأتي الله بالنار، كما يفعل الطهاة، سيحترق بها سائر البشر ولا يبقى إلا المسيحيون - لا الأحياء منهم وحدهم، بل من ماتوا من زمن طويل، فيقوم هؤلاء من قبورهم في الأرض بأجسامهم التي كانت لهم قبل الموت. الحق أن هذا هو أمل الدود!... وليس في وسع المسيحيين أن يقنعوا بهذه العقائد إلا المغفلين، الأراذل، ضعاف العقول من العبيد والنساء والأطفال ماشطي الصوف، والأساكفة، والقصارين أجهل الناس وأسافلهم؛ وكل من هو مذنب آثم، أو أبله أضله الله سواء السبيل"(42).
وقد روع سلسس انتشار المسيحية، وعدائها للوثنية وازدراؤها إياها، هي أو الخدمة العسكرية، والدولة؛ وقال في نفسه: كيف تستطيع الإمبراطوريّة أن تحمي نفسها من البرابرة الذين يحومون حول أطرافها في جميع جهاتها إذا خضع أهلها لهذه الفلسفة المسالمة؟ وكان يرى أن من واجب المواطن الصالح أن
صفحة رقم : 3996
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنازع العقائد
يدين بدين بلاده والعصر الذي يعيش فيه، دون أن ينتقد علناً ما فيه من سخافات، لأن هذه السخافات لا أهمية لها، أما الشيء المهم حقاً فهو أن يكون للدولة دين يوحدها، ويعين على الخلق الكريم، ويثبت قواعد الولاء لها.
ونسي سلسس ما صبه على المسيحيين من إهانات، فدعاهم إلى أن يعودوا إلى الآلهة القديمة، وأن يعبدوا عبقرية الإمبراطور الحارسة، وأن يَنضَمّوا إلى سائر مواطنيهم في الدفاع عن الإمبراطوريّة التي يتهددها الخطر. غير أن أحداً لم يلقِ بالاً إلى هذه الدعوة؛ ولسنا نجد له ذكراً في الآداب الوثنية، وكان قسطنطين أكثر منه حكمة فأدرك أن الدين الميت لا يستطيع أن ينجي رومة.
صفحة رقم : 3997
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> أفلوطينس
الفصل الثالث
أفلوطينس
يضاف إلى هذا أن سلسس كان متقدماً عن العصر الذي يعيش فيه؛ فقد كان يطلب إلى الناس أن يتخلقوا بأخلاق السادة المهذبين المتشككين في وقت كانوا يعتزلون فيه مجتمعاً استبعد الكثيرين منهم إلى عالم متصوف يجعل من كل إنساناً إلهاً. وكان شعور الناس بهذه القوى التي لا تدركها الحواس، وهو الشعور الذي يقوم عليه الدين، قد أخذ ينتشر انتشاراً واسعاً ويتغلب على مادية العصر الذي كان يزدهي بما فيه، والذي كانت تسوده المادية والجبرية. وكانت الفلسفة في ذلك الوقت تتخلى عن تفسير التجارب الحسية التي هي ميدان العلوم الطبيعية، وتوجه همها كله إلى دراسة العالم الغير المنظور. وأنشأ الفيثاغوريون الجدد والأفلاطونيون الجدد من نظرية فيثاغورس في تناسخ الأرواح، وآراء أفلاطون في الأفكار الإلهية، نظاماً من الزهد أرادوا به أن يقووا الإدراك الروحي بأمانة الحواس الجسمية، وأن يعودوا بتطهير أنفسهم إلى صعود الدرج التي انحطت بها الروح من عالم السماوات وسكنت في جسم الإنسان.
وكان أفلوطينس أكبر الممثلين لهذه الفلسفة الدينية الصوفية. وكان مولده في ليقوبوليس عام 203م، أي أنه كان قبطياً مصرياً ذا اسم روماني وتربية يونانية. وعثر على الفلسفة في سن الثامنة والعشرين، وأخذ ينتقل من معلم إلى معلم دون أن يجد في أحد منهم بغيته حتى وجد طلبته في الإسكندرية، فقد كان فيها وقتئذ أمونيوس سكاس Ammenius Saccas وهو رجل مسيحي ارتد إلى الوثنية، وكان يحاول التوفيق بين المسيحية والأفلاطونية، كما فعل تلميذه أرجن من بعده. وبعد أن تتلمذ أفلوطينس على أمونيوس عشر سنين انضم إلى جيش موجه إلى بلاد
صفحة رقم : 3998
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> أفلوطينس
الفرس لعله يتلقى الحكمة عن المجوس والبراهمة أنفسهم. فلما وصل إلى أرض الجزيرة قفل راجعاً إلى أنطاكية، ثم ذهب إلى روما (244) وبقي فيها حتى توفي. وقد انتشر مذهبه الفلسفي وأصبح طراز ذلك العصر، فضمه الإمبراطور جالينوس Gallienus إلى حاشيته، ورضى أن يساعده أن ينشئ في كمبانيا مدينة أفلاطونية تحكم على مبادئ جمهورية أفلاطون. ولكن جالينوس رجع فيما بعد عن وعده، ولعله فعل ذلك ليوفر على أفلوطينس إخفاقه المخزي.
وأعاد أفلوطينس إلى الفلسفة سمعتها الطيبة بأن عاش معيشة القديسين وسط ترف روما ورذائلها؛ فلم يكن يعنى بجسمه، بل إنه "كان يستحي أن يكون لروحه جسد" على حد قول برفيري Porphyry(43). ومن الأدلة الناطقة باحتقاره جسده أنه أبى أن يقف أمام المصورين بحجة أن جسمه أقل أجزائه شأناً - وفي ذلك إشارة إلى الفن بأن يعنى بالروح لا بالجسم. وحرم على نفسه اللحم، ولم يأكل من الخبز إلا قليلاً. وكان بسيطاً في عاداته رحيماً في أخلاقه، ابتعد عن كل العلاقات الجنسية، وإن لم يذمّها. وكان تواضعه هو الخليق بالرجل الذي يرى الجزء في ضوء الكل. ولما حضر أرجن درسه علت وجه أفلوطينس حمرة الخجل وأراد أن يختم محاضرته فقال: "إن تحمس المحاضر يزول حين يحس بأن مستمعيه لا يجدون ما يتعلمونه منه"(44). ولم يكن أفلوطينس خطيباً مصقعاً، ولكن عنايته الشديدة بموضوعه، وإيمانه بما يحدّث عنه قد عوضاه خير العوض عن البلاغة، ولم يسجل آراءه الفلسفية كتابة إلا متأخراً وسجلها مع ذلك وهو كاره ولم يراجع قط مسودته الأولى، ولا تزال الإنباذات رغم ما بذله برفيري من عناية في نشرها أكثر المؤلفات اضطراباً في تاريخ الفلسفة .
صفحة رقم : 3999
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> أفلوطينس
لقد كان أفلوطينس ذا نزعة مثالية يعترف متفضلاً بوجود المادة، ولكنه يقول إن المادة في حد ذاتها هي إمكانية الشكل غير المتشكلة، وكل شكل تتخذه المادة تعطيه إياها طاقتها الداخلية أي النفس (Psyche)، والطبيعة هي مجموع الطاقة أو النفس التي تنتج كلية الأشكال في العالم؛ والحقيقة الدنيا التي تنتج الحقيقة العليا؛ أما الكائن الأعلى وهو النفس فينتج الأدنى - الصورة المجسدة. ونمو الإنسان الفرد من بداية خلقه في الرحم وتكون أعضائه البطيء عضواً بعد عضو حتى يكتمل نموه من عمل النفس أو المبدأ الحيوي الذي فيه؛ والجسم يتشكل تدريجاً بتوقان النفس أو توجيهها. ولكل شيء نفس - أي طاقة داخلية هي التي تخلق الصورة الخارجية، وليست خبيثة إلا لأنها لم تتلقَ الصورة الناضجة، فهي تطور وقف دون الكمال؛ والشر هو إمكانية الخير.
ولسنا نعرف المادة إلا عن طريق الفكر - عن طريق الإحساس، والإدراك، والتفكير. وليس ما نسميه مادة إلا مجموعة من الأفكار (كما قال هيوم فيما بعد)، وهي أكثر ما تكون شيء افتراضي مراوغ يضغط على أطراف أعصابنا ("إمكانية الإحساس الدائمة" التي يقول بها مل)؛ وليست الأفكار شيئاً مادياً؛ وما من شك في أن فكرة الامتداد في المكان لا تنطبق عليها؛ والقدرة على تحصيل الأفكار واستخدامها هي العقل؛ وهو قمة الثالوث البشري المكون من الجسم، والنفس، والعقل. والعقل مقدر محدد من حيث اعتماده على الإحساس؛ وهو حر لأنه أرقى صور النفس المبدعة المشكلة.
والجسد عضو النفس وسجنها معاً؛ والنفس تدرك أنها نوع من الحقيقة أرقى من الجسد؛ وتشعر بما لها من صلة بنفس أكبر منها وأوسع، أي بحياة وقدرة كونيتين من نوع ما؛ وهي حين تعمل لتبلغ بالفكر إلى حد الكمال تأمل أن تتصل مرة أخرى بتلك الحقيقة الروحية العليا التي سقطت منها على ما يبدو في أثناء كارثة أو محنة حدثت في بداية الخليقة. وهنا يستسلم أفلوطينس في بعض
صفحة رقم : 4000
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> أفلوطينس
ثوبات من تفكيره إلى الأدرية التي تقول إنه يرفضها، ويصف سقوط النفس درجة بعد درجة من السماء إلى الإنسان ذي الجسد؛ وهو على العموم يفضل الفكرة الهندية التي تقول إن النفس تنتقل من صور الحياة الدنيا إلى العليا أو من صورها العليا إلى الدنيا، حسب فضائلها ورذائلها، في كل صورة من صور الحياة تنتقل إليها. وهو يبدو في بعض الأحيان فيثاغورياً مازحاً، كما نراه في قوله: "إن الذين يسرفون في حب الموسيقى يصبحون في تجسدهم الثاني طيوراً مغردة، والفلاسفة الذين يتجاوزون الحد في التفكير يتحولون إلى نسور(46). وكلما كانت النفس أكثر رقياً كانت أكثر إصراراً في سعيها إلى أصلها القدسي، ومثلها في ذلك كمثل الطفل الذي ضل من أبويه أو كمثل الجائل المشتاق إلى العودة إلى وطنه. والنفس قادرة على أن تبلغ الفضيلة، أو الحب الحقيقي، أو الإخلاص إلى ربات الفن، أو الفلسفة التي تحتاج إلى صبر طويل؛ وستعثر على السلّم الذي نزلت عليه؛ وترقاه إلى ربها. فلتتطهّر النفس إذن، ولترغب رغبة صادقة في الجوهر غير المرئي، ولتفقد العالم عن طريق التأمل؛ ولعلها في لحظة من اللحظات التي تخفت فيها كل ضوضاء الحواس، وتنقطع المادة عن طريق أبواب العقل، ستحس فجأة بأنها مستغرقة في محيط الكينونة، في الحقيقة الروحية النهائية (وكتب ثورو وهو يطفو لاهياً على بركة من الدن يقول: "لقد فارقت الحياة في بعض الأحيان، وبدأت أكون")، ويقول أفلوطينس:
"فإذا حدث هذا ترى النفس الإلوهية إلى الحد الذي يحق لها أن تصل رؤيتها... وتشهد نفسها قد أضيئت؛ أي ملئت بنور عقلي؛ أو بعبارة أصح تدرك أنها ضياء خالص، غير مثقلة، نشيطة، خفيفة، تسير في طريقها إلى أن تكون إلهاً"(47).
ولكن ما هو الإله؟ يقول أفلوطينس إنه "هو" أيضاً ثالوث - من الوحدة (ben) والفكر (nous)، والنفس (psyche) و"من وراء
صفحة رقم : 4001
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> أفلوطينس
الكائن يوجد الواحد"، وفي خلال الفوضى الظاهرية البادية في التعدد الدنيوي تسري الحياة الموحِّدة. ولا نكاد نعرف عن هذا الواحد إلا أنه موجود، وكل صفة موجبة نصفه بها، أو ضمير متحيف نحله محله، تحديد له غير لائق به. وكل ما نستطيع أن نسميه به هو أنه، واحد، وأول، وخيّر، وأنه هدف رغبتنا العليا. وينشأ من هذه الوحدة العقل العالمي، وهو القابل عند أفلاطون للأفكار أي النماذج المشكلة، والقوانين المتحكمة في الأشياء؛ أو أنها أفكار الله أو عقل واحد، أو نظام العالم ومعقوليته. وإذ كانت هذه الأفكار تبقى مع أن المادة صور متغيرة من الأشكال التي تأتي وتروح، فإن هذه الأفكار هي الحقيقة الصحية الباقية. ولكن الوحدة والعقل، وإن أمسكا الكون وحفظاه من التفكك، لا يخلقانه، بل الذي يخلقه هو العنصر الثالث من عناصر الألوهية - أي العنصر الذي يبعث الحياة والذي يملأ الأشياء جميعاً ويكسبها قوتها وصورتها المقررة لها. ولكل شيء، من الذرة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، نفس تبعث فيه النشاط، هي في ذاتها جزء من النفس العالمية، والنفس الفردية ليست خالدة إلا من حيث هي باعثة الحياة أو الطاقة لا من حيث هي كائن متميز(49). وليس الخلود هو بقاء الشخصية، بل هو اندماج النفس في الأشياء التي لا تموت(50).
والفضيلة هي حركة النفس نحو الله، وليس الجمال مقصوراً على التناسق والتناسب كما ظن أفلاطون وأرسطو بل هو النفس الحية، أو الألوهية غير المنظورة التي في الأشياء، وهي غلبت الروح على الجسد، والصورة على المادة، والعقل على الأشياء، والفن هو تحويل هذا الجمال العقلي أو الروحي إلى وسط آخر. ويمكن أن تدرّب النفس على أن ترتفع من طلب الجمال في المادة أو في الصور البشرية إلى طلبه في النفس الخفية، وفي الطبيعة وسننها، وفي العلم، وما يكشف عنه من نظام دقيق بديع، وإلى طلبه آخر الأمر في الوحدة القدسية التي تؤلف بين
صفحة رقم : 4002
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> أفلوطينس
الأشياء كلها، بما فيها الأشياء المتنافرة المتعارضة، وتجعل منها نظاماً متناسقاً سامياً يثير الدهشة والإعجاب(51). والجمال والفضيلة شيء واحد في نهاية الأمر - وهما اتحاد الجزء مع الكل وتعاونه معه.
"ارجع إلى نفسك وتأمل، وإذا لم تجد نفسك جميلاً فافعل مع ذلك ما يفعله صانع التمثال... فهو يقطع هنا، ويصقل هناك، ويجعل هذا الخط أخف، وذاك أنقى، حتى ينشأ لتمثاله وجه جميل. فافعل أنت مثل فعله: واقطع كل شيء زائد وقوم كل معوج: ولا تنقطع عن نحت تمثالك حتى: ترى الطيبة الكاملة مستقرة في الحرم النقي الطاهر"(52).
إنا لنحس في هذه الفلسفة بما نحس به في المسيحية المعاصرة لها من جو روحاني - نحس بابتعاد العقول الغضة عن مطالب الحياة الدنيوية واتجاهها نحو الدين، وفرارها من الدولة إلى الله. وليس بعجيب أن يكون أفلوطينس وأرجن تلميذين وصديقين، وأن ينشئ كلمنت Clement أفلاطونية مسيحية في الإسكندرية وأفلوطينس هو آخر الفلاسفة الوثنيين العظام، وهو مسيحي بلا مسيح، مثله في هذا كمثل أبكنتس وأورليوس. ولقد قبلت المسيحية كل سطر من أسطره تقريباً، وما أكثر صحائف أوغسطين التي تردد نشوة هذا الصوفي الجليل. وعن طريق فيلون ويوحنا، وأفلوطينس، وأوغسطين، غلب أفلاطون أرسطو، وتعمق في أبعد أغوار اللاهوت الكنسي، وأخذت الثغرة القائمة بين الفلسفة والدين تضيق شيئاً فشيئاً، ورضى العقل مدى ألف عام أن يسير في ركاب الدين.
صفحة رقم : 4003
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
الفصل الرابع
حماة الدين
وهنا كسبت الكنيسة طائفة من المؤيدين كانوا أحصف عقول الإمبراطوريّة، منهم أغناثيوس أسقف إنطاكية الذي أنشأ أسرة قوية من "الآباء" جاءوا بعد الرسل، ووهبوا المسيحية فلسفة غلبوا أعداءها بحججها القوية. ومنهم جستين Justin الذي حكم عليه أن يلقى للوحوش لأنه أبى أن يرتد عن دينه، فكتب، وهو في طريقه إلى روما، عدداً من الرسائل تفيض إخلاصاً وحماسة، وتكشف عن الروح التي كان المسيحيون يلقون بها الموت:
"فليعلم جميع الناس أني أموت طائعاً في حب الله، إذا لم يحل أحد بيني وبين الموت. وأتوسل إليكم ألا تأخذكم بي رأفة أرى أنها في غير أوانها، بل اتركوني تنهشني السباع التي أستطيع أن أصل عن طريقها إلى الله... بل أغروا للوحوش بدلاً من هذا أن تلتهمني فلا تترك قطعة من جسدي، حتى إذا نمت نومي الأخير لا أكون كلاًّ على أحد من الناس... ألا ما أشد شوقي إلى الوحوش التي أعدّت لي... ألا فليكن من نصيبي النار والصليب [القتل صلباً]، وقتال الوحوش، والتقطيع والتمزيق، وتهشيم العظام، وبتر الأطراف، وتحطيم جسمي كله، وأقسى أنواع العذاب الشيطاني إذا كنت بهذه الطريقة أصل إلى يسوع المسيح".
وكتب كودراتس Quadratus، وأثيناجورس Athenagoras كثيرون غيرهما "دفاعاً" عن المسيحية، وكانوا يوجهون هذا الدفاع عادة إلى الإمبراطور. وكتب منوسيوس فلكس Minucius Felix حواراً رائعاً يكاد يضارع كتاب شيشرون في بلاغته، أجاز فيه لكاسليوس Caecilius
صفحة رقم : 4004
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
أن يدافع عن الوثنية دفاعاً قوياً، ولكنه جعل أكتافيوس يرد عليه بأدب جم كاد يقنع كاسليوس بأن يعتنق المسيحية. ولما جاء جستين Justin السامري إلى روما في عهد أنطونينس افتتح فيها مدرسة لتعليم الفلسفة المسيحية، وحاول في "دفاعين" بليغين أن يقنع الإمبراطور وهو "فرسمس Verissimus الفيلسوف" بأن المسيحيين مواطنون مخلصون، لا يتوانون عن أداء الضرائب، وأنهم إذا عوملوا معاملة الأصدقاء قد يصبحون عوناً عظيم القيمة للدولة. وظل عدة سنين ينشر تعاليمه دون أن يصاب بأذى، ولكن حدة لسانه خلقت له أعداء، ولهذا استطاع أحد الفلاسفة المنافسين له أن يغري ولاة الأمور في عام 166 بالقبض عليه هو وستة من أتباعه وإعدامهم على بكرة أبيهم. وبعد ست سنين من ذلك الوقت قام إيرينيوس Irenaeus أسقف ليون بحملة قوية يدعو فيها إلى وحدة الكنيسة، وذلك في كتابه المسمس معارضة الإلحاد Adversus Haeresse وهو حملة قوية على كافة ضروب الإلحاد. وقد قال إيرينيوس إنه لا سبيل إلى منع المسيحية أن تتفرق فتصبح ألف شيعة وشيعة إلا أن يرضى المسيحيون بالخضوع لسلطة واحدة تحدد لهم مبادئ دينهم - وتلك السلطة هي قرارات مجالس الكنيسة الأسقفية.
وكان أجرأ المدافعين عن المسيحية في تلك الفترة هو كونتس سبتميوس ترتليانس Quintus Septimius Tertnillianus القرطاجني. وكان مولده في تلك المدينة عوالي عام 160، وكان والده قائداً رومانياً على مائة، ولما شب درس البلاغة في نفس المدرسة التي تعلّم فيها أبوليوس Apuleius، ثم اشتغل بالمحاماة عاماً واحداً في روما. واعتنق المسيحية في كهولته وتزوج بمسيحية، ونبذ كل اللذائذ الوثنية ورُسم قساً (كما يقول جيروم). فلما تم له هذا استخدم جميع الفنون والأساليب التي عادت عليه من تعلم البلاغة للدفاع عن الدين المسيحي، وضم إليها حماسة الرجل المؤمن المهتدي إلى دينه. لقد كانت المسيحية اليونانية فلسفة لاهوتية صوفية، فلما اعتنق ترتليان دينه الجديد جعل المسيحية اللاتينية ديناً
صفحة رقم : 4005
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
أخلاقياً، قانونياً، عملياً. وكانت له قوة شيشرون وحدته، وفحش جوفنال في هجائه وسفاهته؛ وكان في مقدوره أحياناً أن ينافس تيطس في تركيز كل ما لديه من حقد وضغينة في عبارة واحدة. وكان إيرينيوس قد كتب باللغة اليونانية، فلما جاء منوسيوس وترتليان أصبحت الآداب المسيحية في الغرب لاتينية، وأصبح الأدب اللاتيني مسيحياً.
وبينما كان الحكام الرومان في قرطاجنة يتهمون المسيحيين بعدم الولاء للدولة ويحاكمونهم على هذه التهمة، وجه ترتليان في عام 198 إلى محكمة خيالية أبلغ رسائله من رسائله كلها وهي المعروفة باسم الدفاع Apologeticus، أكّد فيها للرومان أن المسيحيين "لا ينقطعون عن الدعاء لجميع الأباطرة، وسلامة الأسرة الحاكمة، ويطلبون إلى الله أن يهب البلاد جيوشاً باسلة، ومجلس شيوخ وفي أمين، وأن يمن على العالم بالهدوء"(54). وامتدح عظمة التوحيد، وقال إنه وجد أدلة عليه عند كتّاب ما قبل المسيحية! "انظروا إلى ما تشهد به النفس، ذاتها وهي بفطرتها مسيحية"(55) وبعد عام من ذلك الوقت انتقل بسرعة عجيبة من الدفاع المقنع إلى الهجوم العنيف، وأصدر كتابه المسمى في المسرح De Spectaculis وهو وصف ساخر للمسارح الرومانية التي قال عنها إنها حصون البذاءة، وللمدرّجات التي وصفها بأنها أكبر دليل على قسوة الإنسان على أخيه الأنسان، وختمها بذلك الوعيد المرير:
"وستشهدون مناظر أخرى - مناظر اليوم الخالد الأخير يوم الحساب... يوم يحترق هذا العالم الذي بلغ سن الشيخوخة، ويحترق أهله جميعاً في لهيب نار واحدة. ألا ما أوسع هذا المنظر في ذلك اليوم! وما أشد عجبي، وأعلى ضحكي، وأكثر ابتهاجي وطربي حين أرى هذا العدد الجم من الملوك - وكان يظن أنهم ينعمون في ملكوت السموات - يئنون ويتوجعون في أعماق الظلام! - الحكام الذين اضطهدوا اسم يسوع تذوب أجسامهم في لهب أشد حرارة من جميع
صفحة رقم : 4006
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
النيران التي أوقدوها... ضد المسيحيين! - وأرى حكماء وفلاسفة تعلوهم حمرة الخجل أمام تلاميذهم وهم يحترقون معاً!... وممثلي المآسي وهم الآن أعلى صوقاً في مأساتهم مما كانوا في أي يوم من أيام حياتهم، واللاعبين ذوي الأجسام اللدنة في أعماق النار، وسائقي المركبات تشوى لحومهم على عجلة اللهب!"(56).
وهذا الخيال المفرط في القوة يخرج صاحبه عن قواعد الدين السليم. ذلك أنه لما تقدمت بترتليان السن انقلب ما كان فيه أثناء شبابه من نشاط فيّاض يطلب به اللذة ويصرفه فيها، انقلب إلى تنديد شديد بجميع أسباب السلوى عدا سلوة الدين والأمل في نعيم الآخرة، فكان يخاطب المرأة بأوقح الألفاظ ويصفها بأنها "الباب الذي يدخل منه الشيطان" ويقول لها "من أجلكِ مات يسوع المسيح"(57).
وكان ترتليان في يوم من الأيام قد أحب الفلسفة، وألّف فيها، كتباً ككتاب في النفس De Anina حاول فيه أن يطبّق على المسيحية مبادئ الرواقية فيما وراء الطبيعة. أما الآن فقد نبذ كل تفكير منطقي منفصل عن الإلهام والوحي، وقصر أسباب بهجته على كان يحتويه دينه من أمور لا يصدقها العقل السليم. "لقد مات ابن الله: ذلك شيء معقول لا لشيء إلا أنه مما لا يقبله العقل. وقد دُفِن ثم قام من بين الموتى: وذلك أمر محقق لأنه مستحيل"(85). واستغرق الرجل في تزمت نكد مكتئب بلغ من أمره أن خرج وهو في الثامنة والخمسين من عمره على المبادئ السليمة للدين المسيحي، لأنها في رأيه ملوثة بالأساليب الدنيوية، واعتنق المبادئ المنتانية لأنه يراها تطبيقاً مستقيماً سليماً لتعاليم المسيح، وندد بجميع المسيحيين الذين يقبلون أن يكونوا جنوداً، أو فنانين، أو موظفين في الدولة، وبجميع الأساقفة الذين يغفرون خطايا المذنبين التائبين، وانتهى الأمر أن أطلق على البابا لقب "راعي الزانين" Pastor moechorum.
صفحة رقم : 4007
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
لكن الكنيسة ازدهرت في أفريقية على الرغم من هذه الأفعال، فقد قام فيها أساقفة مخلصون من طراز سبريان Cyprian رفعوا أربشية قرطاجنة إلى درجة من الغنى والنفوذ لا تقل عما بلغته روما. أما في مصر فقد كان نماء الكنيسة أبطأ منه في قرطاجنة، وقد اختفت مراحله الأولى من التاريخ فأصبحنا لا نعرف عنها شيئاً. غير أننا نسمع فجأة في أواخر القرن الثاني عن مدرسة لتعليم أصول الدين بالسؤال والجواب قائمة في مدينة الإسكندرية قرنت المسيحية بالفلسفة اليونانية، وأخرج للعالم أبوين من أعظم آباء الكنيسة هما كلمنت وأرجن. وكان كلاهما واسع الاطلاع على الآداب الوثنية، محباً لها على طريقته الخاصة. ولو أن الروح التي كانت تغمرهما سادت في ذلك الورق لما كان لانفصال الثقافة القديمة عن المسيحية ما كان له من أثر مُتلف شديد.
ولما بلغ أرجينيز ادمنتيوس Origenes Adamantius السابعة عشرة من عمره (202) قُبض على والده بتهمة أنه مسيحي، وحُكم عليه بالإعدام. وأراد ابنه أن يشاركه في السجن وفي الاستشهاد، ولم تستطع أمه أن تمنعه من ذلك إلا بإخفاء ملابسه كلها، فأخذ يبعث إلى أبيه رسائل يشجعه فيها على احتمال مصيره؛ وقد جاء في إحدى هذه الرسائل: "إحذر أن ترجع عن آرائك من أجلنا"(60). وأُعدم الوالد ووقع عبء كفالة الأم والأطفال الصغار على الشاب. وبعث ما شاهده من استشهاد كثيرين من المسيحيين في نفس أرجن مزيداً من التقى والإيمان، فعمد إلى حياة الزهد والتقشف، وأكثر من الصوم، وأقلل من ساعات النوم، وافترش الأرض، ومشى حافياً، وعرض نفسه للبرد والعري، وأخيراً عمد إلى خصي نفسه إطاعة للآية الثانية عشرة من الإصحاح التاسع عشر من إنجيل متّى بعد أن تزمّت في تفسيرها أشد التزمّت. وفي عام 203 خلف كلمنت في رياسة
صفحة رقم : 4008
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
المدرسة الأفريقية. ومع أنه لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من العمر فقد اجتذب إليه علمه وبلاغته كثيرين من الطلبة وثنيين ومسيحيين على السواء، وطبقت شهرته جميع أنحاء العالم المسيحي.
ويقدر بعض القدامى عدد "كتبه" بستة آلاف، وكان الكثير منها بطبيعة الحال نبذاً وجيزة، وحتى على هذا الاعتبار قال فيها جيروم متسائلاً: "مَن منا يستطيع أن يقرأ كل ما كتب؟"(62). ولقد قضى أرجن عشرين عاماً هائماً يحب الكتاب المقدس، واستخدم طائفة كبيرة من المختزلين والنساخين يضعون في أعمدة متوازية النص العبري للعهد القديم، وإلى جواره ترجمة يونانية حرفية لهذا النص، وفي خانة أخرى ترجمة يونانية له منقولة عن الترجمة السبعينية، وفي رابعة أكويلية، وخامسة سيماكوسية، وسادسة ثيودوتية .
ثم أخذ يوازن هذه التراجم المختلفة بعضها ببعض، واستعان بمعرفته باللغة العبرية فأخرج للكنيسة ترجمة سبعينية مصححة؛ ولكن هذا لم ينقع غلته فأضاف شروحاً بعضها غاية في الإسهاب إلى سفر من أسفار الكتاب المقدس. ويحتوي كتابه المبادئ الأولى Peri archon أول عرض فلسفي منظم للعقيدة المسيحية؛ وفي كتابه الشذرات Stromateis أخذ على عاتقه أن يثبت جميع العقائد المسيحية بالرجوع إلى كتابه الفلاسفة الوثنيين. وأراد أن يخفف عن نفسه عبء هذا الواجب الثقيل فاستعان بالطريقة الرمزية الاستعارية التي استطاع بها الفلاسفة الوثنيون أن يوفّقوا بين أقوال هومر وبين ما يقبله العقل المنطقي، والتي وفق فيلون بين اليهودية والفلسفة اليونانية.
ومن أقوال أرجن في هذا المعنى أن من وراء المعنى الحرفي لعبارات الكتاب
صفحة رقم : 4009
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
المقدس طبقتين من المعاني أكثر منه عمقاً - هما المعنى الخلقي والمعنى الروحي - لا تصل إليهما إلا الأقلية الباطنية المتعلمة. وكان يرتاب في صحة ما ورد في سفر التكوين إذا فهم بمعناه الحرفي؛ ويفسر ما كان يلقاه بنو إسرائيل من يهوه من معاملة غير طيبة أحياناً بأن ما وصفت به هذه المعاملة إنما هو رموز؛ وقال إن القصص الواردة في الكتاب المقدس والتي تقول إن الشيطان صعد بعيسى إلى جبل عالٍ وعرض عليه ملكوت الأرض ليست إلا أساطير(63). ويضيف إلى ذلك إن هذه القصص قد اخترعت في بعضٍ لكي توضح بعض الحقائق الروحية(64). ويقول متسائلاً:
"أي رجل عاقل يصدق إن اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، وأن المساء والصباح، قد كانت كلها من غير شمس أو قمر أو نجوم؟ وأي إنسان تصل به البلاهة إلى حد الاعتقاد أن الله قد زرع جنة عدن كما يزرع الفلاح الأرض، وغرس فيها شجرة الحياة... حتى إذا ما ذاق إنسان ثمرتها نال الحياة؟"(65).
وإذا ما واصل أرجن أقواله اتضح لقارئه أنه رواقي، وفيثاغوري حديث، وأفلاطوني حديث؛ وأدري، وأنه مع هذا كله مُصرْ على أن يكون مسيحياً. ولو أننا طلبنا إلى رجل مثله أن يترك الدين الذي نشر فيه ألف كتاب وتخلى من أجله عن رجولته لكلفناه ضد طباعه. ولد درس أرجن، كما درس أفلوطينس على أمونيوس سكاس Ammonius Saccas وإنا ليصعب علينا أحياناً أن نفرق بين فلسفة وفلسفتهما. فالله عند أرجن ليس هو يهوه، بل هو الجوهر الأول لجميع الأشياء. وليس المسيح هو الإنسان الآدمي الذي يصفه العهد الجديد، بل هو العقل الذي ينظم العالم؛ وهو بهذا الوصف خلقه الله الآب، وجعله خاضعاً له(66). والنفس عند أرجن، كما هي عن أفلوطينس تنتقل في مراحل وتجسدات متتالية قبل أن تدخل الجسم، وهو تنتقل بعد الموت في مراحل متتالية
صفحة رقم : 4010
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
مثلها قبل أن تصل إلى الله. وجميع الأنفس التي أطهرها تتعذب زمناً ما في المطهر ولكنها كلها تنجو آخر الأمر، وسيكون بعد "اللهب الأخير" عالم آخر ذو تاريخ طويل، ثم عالم ثالث، ورابع... كل واحد منها خير من سابقه، وهذه العوالم الكثيرة المتتالية ستحقق على مهل الخطة التي رسمها الله(67).
ولسنا نعجب إذا رأينا دمتريوس، أسقف الإسكندرية، ينظر بعين الريبة إلى هذا الفيلسوف النابه الذي تزدان به أبرشيته والذي يراسل الأباطرة. وقد أدت هذه الريبة إلى أن رفض دمتريوس أن يرسمه قسّاً بحجة أن الخصاء يجعله غير أهل للكهنوت. ولكن أسقفين فلسطينيين رسماه أثناء سفره في بلاد الشرق الأدنى. واحتج دمتريوس على هذا العمل وقال إن فيه اعتداء على حقوقه، وعقد مجمعاً من رجال الدين الذين كانوا تحت رياسته، وألغى هذا المجمع رسامة أرجن ونفاه من الإسكندرية، فانتقل إلى قيصرية وواصل عمله في التدريس، وكتب فيها دفاعه الشهير عن المسيحية المسمى ضد سلسس Contra Celsum (248)، وقد بلغ من كرمه أن أقر بقوة الحجج التي أدلى بها سلسس؛ ولكنه رد عليها بقوله إن كل صعوبة، وكل فكرة بعيدة عن المعقول، في العقيدة المسيحية يقابلها في الوثنية آراء أصعب منها وأبعد منها عن العقل، ولم يستنتج من هذا أن كلتا العقيدتين باطلة، بل استنتج دين أن الدين المسيحي يعرض أسلوباً للحياة أنبل مما يستطيع أن يعرضه محتضر يدعو إلى عبادة الأصنام.
وامتد اضطهاد ديسيوس للمسيحيين حتى توصل إلى قيصرية في عام 250، وقُبض علىأرجن؛ وكان وقتئذ في الخامسة والستين من عمره؛ ومد على العذراء، وقُيد بالأغلال، ووُضع في عنقه طوق من الحديد، وبقى في السجن أياماً طوالاً. ولكن الموت عاجل ديسيوس أولاً وأُطلق سراح أرجن، غير أن حياته لم تطل بعد ذلك أكثر من ثلاث سنين، لأن التعذيب ألحق أشد
صفحة رقم : 4011
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> حماة الدين
الضرر بجسمه بعد أن هد الزهد المتواصل قواه، ومات فقيراً كما كان حين بدأ يعلم الناس، ولكنه كان أعظم المسيحيين شهرة في زمنه.
ولما أن ذاعت بدعه، ولم تعد سراً مقصوراً على عدد قليل من تلاميذه، رأت الكنيسة أن لابد لها أن تتبرأ منه، وطعن البابا أنستيسيوس في عام 400 في آرائه التجديفية. ولعنه مجلس القسطنطينية، وأصدر عليه قرار الحرمان في عام 553. لكننا لا نكاد نجد عالماً مسيحياً ممن جاءوا بعده بعدة قرون لم يغترف من بحر علمه الفياض، ولم يعتمد على كتبه؛ وأثّر دفاعه عن المسيحية في عقول المفكرين الوثنيين كما لم يؤثر فيها "دفاع" آخر قبله. وبفضله لم تعد المسيحية دين سلوى وراحة للنفوس فحسب، بل أضحت فوق ذلك فلسفة ناضجة كاملة النماء، دعامتها الكتاب المقدس، ولكنها تعتز باعتمادها على العقل.
صفحة رقم : 4012
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنظيم السلطة الدينية
الفصل الخامس
تنظيم السلطة الدينية
لعل للكنيسة عذرها في الطعن على أرجن وحرمانه. ذلك أن تفسيراته الرمزية لم تجعل من المستطاع إثبات أي شيء فحسب، بل إنها فضلاً عن ذلك قضت بضربة واحدة على قصص أسفار الكتاب المقدس وعلى حياة المسيح الأرضية، وأعادت للفرد حقه في الحكم في الوقت الذي كانت تقول فيه إنها تدافع عن الدين. يضاف إلى هذا أن الكنيسة، وقد رأت نفسها وجهاً لوجه أمام حكومة قوية، أحسّت بحاجتها إلى الوحدة، ولم يكن في وسعها أن تأمن على نفسها إذا رضيت أن تمزقها إلى مائة شيعة صغرى كل ريح تهب عليها من عقل رجل من أتباعها، أو من عقل زنديق خارج عليها، أو نبي مشغوف، أو ابن نابه. وكان سلسس نفسه قد قال ساخراً: إن المسيحيين "تفرقوا شيعاً كثيرة، حتى أصبح هم كل فرد منهم أن يكون لنفسه حزباً"(68). واستطاع إيرينيوس أن يحصي في عام 187 عشرين شيعة مختلفة من المسيحيين، وأحصى إيفانيوس في عام 384 ثمانين؛ وكانت الأفكار الأجنبية تتسرب إلى العقيدة المسيحية في كل نقطة من نقاطها، وأخذ المؤمنون المسيحيون ينضمّون إلى هذه الشيع الجديدة. وأحسّت الكنيسة أن عصر شبابها التجريبي يوشك أن ينتهي، وأن نضجها سيحل بعد قليل، وأن عليها أن تحدد مبادئها، وأن تعلن على الناس شروط العضوية فيها. وكان لابد لذلك من ثلاث خطوات ليست فيها واحدة سهلة: وضع قانون عام مستمد من الكتاب المقدس، وتحديد العقائد، وتنظيم السلطة.
وتفيض الآداب المسيحية في القرن الثاني بالأناجيل، والرسائل، والرؤى،
صفحة رقم : 4013
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنظيم السلطة الدينية
و"الأعمال". ويختلف المسيحيون أشد الاختلاف من حيث قبولهم هذه الكتابات على أنها تعبير صادق عن العقيدة المسيحية أو رفضها. فقد قبلت الكنائس الغربية مثلاً سفر الرؤيا، أما الكنيسة الشرقية فهي بوجه عام ترفضه. وهذه الكنائس الشرقية تعترف بالأناجيل، كما يقول به العبرانيون، وبرسائل يعقوب، أم الكنيسة الغربية فترفضهما. ويذكر كلمنت الإسكندري ضمن الكتب المقدسة رسالة كتبت في أواخر القرن الأول الميلادي اسمها تعاليم الرسل الاثني عشر.
ولما نشر مرسيون "عهداً جديداً" اضطرت الكنيسة إلى العمل لتحديد ما تعترف به وما لا تعترف به من الأناجيل. ولسنا نعرف متّى حددت أسفار العهد الجديد التي نعرفها الآن واعترف بها- أي اعترف بصحة نسبتها لأصحابها وبأنها موحى إليهم بها؛ وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن هتامة لاتينية كشفها مراتوري Muratori في عام 1740 وسميت باسمه، ويرجع الباحثون تاريخها إلى عام 180 تقريباً نفترض أن التحديد تم قبل ذلك الوقت.
وتكرر اجتماع المجالس والمجامع الكنسية تكراراً متزايداً في القرن الثاني؛ واقتصرت في القرن الثالث على الأساقفة؛ وقبل أن يُختتَم ذلك القرن اعترف بأن هذه المجالس هي الفصيل الأخير في العقيدة المسيحية "الكاثوليكية" أي العامة. وتغلب الدين القويم على البدع الدينية لأنه أشبع حاجة الناس إلى عقيدة محددة تخفف من حدة النزاع وتهدئ الشكوك، لأنه كان مؤيداً بسلطان الكنيسة.
وكانت مشكلة التنظيم تنحصر في تحديد مركزها هذا السلطان. فقد يبدو أن المجامع الدينية المتفرقة، بعد أن ضعف سلطان الكنيسة الأصلية في أورشليم، أخذت تمارس السلطات مستقلة عن هذه الكنيسة وعن بعضها، بعضاً، إلا إذا أنشأتها جماعات أخرى أو كانت تحت حماية هذه الجماعات. لكن
صفحة رقم : 4014
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنظيم السلطة الدينية
كنيسة روما كانت تدعي أن الذي أنشأها هو الرسول بطرس وتستشهد بقول عيسى: "أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات"(69). لكن بعضهم يقول إن هذه العبارة مدسوسة عليه، وإنها تورية لا يلجأ إليها إلا شكسبير. غير أنه يحتمل مع هذا أن بطرس، إن لم يكن هو الذي أوجد الجالية المسيحية في روما، كان يعظها ويخطب فيها، وأنه عين لها أسقفها(70). وقد كتب إيرنيو (187) يقول إن بطرس: "عهد إلى لينس Linus بمنصب الأسقفية". ويؤيد ترتليان (200) هذه الرواية، ويهيب سبريان (252) أسقف قرطاجنة المنافسة الكبرى لروما بجميع المسيحيين أن يقبلوا زعامة كرسي الأسقفي(71).
ولم يترك الأساقفة الأولون الذين تربعوا على "عرش بطرس" أثراً في التاريخ. ويبرز من بينهم ثالثهم البابا كلمنت مؤلف رسالة باقية إلى الآن أرسلها حوالي عام 96 إلى كنيسة كورنثة يدعو أعضاءها إلى نبذ الشقاق والمحافظة على النظام(72). وهذه الرسالة يتحدث أسقف روما، بعد جيل واحد من موت بطرس، إلى مجمع ديني بعيد حديث من له سلطان عليه. وكثيراً ما كان الأساقفة الآخرون يتحدون سلطان أسقف روما وحقه في الإشراف على قراراتهم وإن كانوا يعترفون "بأولوية" هذا الأسقف خليفة بطرس ووارثه. وكانت الكنائس الشرقية تحتفل بعيد القيامة في اليوم الرابع عشر من شهر نيسان العبري أياً كان ذلك اليوم في الأسبوع، أما الكنائس الغربية فقد أجّلت ذلك العيد إلى يوم الأحد التالي لهذا التاريخ.
صفحة رقم : 4015
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنظيم السلطة الدينية
ولما زار بوليكارب Polycarp، أسقف أزمير، مدينة روما حوالي عام (156)حاول أن يقنع أنتسيتس Anticetus، أسقف روما، بأن يحتفل بعيد القيامة في اليوم الذي تحتفل به فيه الكنيسة الغربية، لكنه لم يفلح في محاولته. ولما عاد إلى بلده رفض إقتراحاً، عرضه عليه البابا، يقضي بأن تقبل الكنيسة الشرقية التاريخ الغربي. وكرر البابا فكتور (190) طلب أنتسيتس وصاغه في صيغة الأمر، فأطاعه أساقفة فلسطين وعصاه أساقفة آسية الصغرى، فما كان من فكتور إلا أن بعث برسائل إلى المجامع الدينية المسيحية يحرّم فيها الكنائس التي عصت أمره؛ واحتج كثيرون من الأساقفة في الشرق وفي الغرب نفسه على هذا الإجراء الاستبدادي، ويبدو أن فكتور لم يصر على تنفيذ رغبته.
وكان زفرينس Zfephyrinus الذي خلفه (202-218) "رجلاً ساذجاً غير متعلم"(73)، ولهذا رفع إلى رياسة الشمامسة رجلاً كان ذكاؤه أقل باعثاً للريبة من أخلاقه، ليساعده في إدارة شئون أسقفية روما الآخذة في الاتساع. ويقول أعداء كالستس Callistus إنه بدأ حياته عبداً، ثم صار من رجال المال والمصارف، واختلس الأموال المودعة عنده فحكم عليه بالأشغال الشاقة، ثم أطلق سراحه؛ وأثار شغباً في أحد المجامع الدينية فحكم عليه بالعمل في مناجم سردينية؛ ولكنه هرب منها بأن احتال على وضع اسمه في ثبت مَن أعفي عنهم، وقضى عشر سنين يعيش في أنتيوم Antium عيشة قاسى من هدوئها أشد الآلام. ولما عهد إليه زفرينس العناية بالمقبرة البابوية نقلها إلى طريق أبيا Appia في السرداب المسمى باسمه، ولما مات زفرينس واختير كالستس Callistus بابا أعلن هبوليتس Hippolytus وغيره من القساوسة أنه لا يصلح لمنصبه، وأقاموا كنيسة وبابوية غير كنيسته وبابويته (218). وزادت الخلافات المذهبية هوة الشقاق: ذلك أن كالستس كان يرى أن يعاد إلى حظيرة الكنيسة مَن ارتكبوا بعد تعميدهم
صفحة رقم : 4016
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنظيم السلطة الدينية
خطيئة يعاقب عليها بالإعدام، (كالزنى، والقتل، والردة) ثم أعلنوا توبتهم. أما هبوليتس فكان يرى أن هذا التساهل مضر أشد الضرر بالدين، وكتب دحضاً لجميع البدع مع تأكيد هذه البدعة بنوع خاص؛ فما كان من كالستس إلا أن أعلن حرمانه، وأنشأ للكنيسة إدارة حازمة، وثبّت دعائم سلطة كرسي روما الأسقفي على جميع العالم المسيحي.
وانتهى انشقاق هيبوليتس في عام 235؛ ولكن قسيسَين هما نوفاتشس Novatus في قرطاجنة ونوفاتيان Novatian في روما- أعادا هذه البدعة في أيام البابا كرنليوس Cornelius (251-253)، فأقاما كنائس منشقة محرمة تحريماً قطعياً على الذين يرتكبون الذنوب بعد التعميد. أخرج مجلس قرطاجنة برياسة سبريان Cyprian، ومجلس روما برياسة كرنليوس هاتين الشيعتين المنشقتين من الكنيسة المسيحية. وكانت استعانة سبريان بكرنليوس سبباً في تقوية البابوية؛ لكن الشقاق دب بين الكنيستين بعد قليل، وكان سببه أن البابا استيفن (254-257) قرر أن لا ضرورة لتعميد مَن يعتنقون المسيحية من الطوائف غير المؤمنة، فعقد سبريان مَجمعا ينياد من أساقفة أفريقية تولى رياسته بنفسه ورفض هذا القرار. وفعل استيفن ما فعله كاتو من قبل فأعلن حرمان أولئك الأساقفة على بكرة أبيهم وشن عليهم حرباً شعواء؛ ولكن موته العاجل سكن هذا النزاع إلى حين، وحال دون انشقاق كنيسة أفريقية القوية.
وظل كرسي روما يزداد قوة على قوة في كل عقد من العقود التالية رغم تجاوزه حقوقه في فترة ونكوصه في فترة أخرى؛ وكان ثراؤه وكثرة أصدقائه العامة مما رفع مكانته؛ وكان العالم المسيحي بأجمعه يستشيره في كل ما يصادفه من المشاكل الخطيرة؛ وكان هو يقدم من تلقاء نقسه على تحريم البدع والضلالات ومقاومتها، وعلى تحديد ما يجب الاعتراف به من الأسفار المقدسة.
صفحة رقم : 4017
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنظيم السلطة الدينية
لكنه كان ينقصه العلماء الأعلام، فلم يكن فيه رجال يفخر بهم أمثال ترتليان، وأرجن، وسبريان؛ وكان يعنى بالتنظيم أكثر ما يعنى باللاهوت، فكان يبني ويحكم، ويترك الكتابة والكلام لغيره. وعصاه سبريان ولكن سبريان هو الذي نادى في كتابه الكنيسة الكاثوليكية الموحدة بأن كرسي بطرس أو مقره هو مركز العالم المسيحي وأعلى مكان فيه، وأعلن إلى العالم مبادئ التضامن، والإجماع، والثبات التي كانت ولا تزال أساس الكنيسة الكاثوليكية وعمادها(74). وقبل أن ينتصف القرن الثالث كان مركز البابوية ومواردها المالية قد بلغا من القوة حداً جعل ديسيوس يقسم أنه يفضل أن يكون في روما إمبراطور ثانٍ ينافسه على أن يكون فيها بابا(75). وهكذا أصبحت عاصمة الإمبراطوريّة عاصمة الديانة المسيحية.
وأمدّت روما المسيحية بالنظام كما أمدّتها اليهودية بمبادئها الخلقية وكما أمدّتها بلاد اليونان بفلسفتها الدينية. وقد دخلت هذه كلها في بناء الدين المسيحي مع ما دخله وما امتصه من الأديان المعارضة. ولم يكن كل ما أخذته الكنيسة من روما هو العادات والمراسم الدينية التي كانت سائدة في روما قبل قيام المسيحية- كالبطرشيل وغيره من ثياب الكهنة الوثنيين، واستعمال البخور والماء المقدس في التطهير، وإيقاد الشموع ووضع ضوء دائم لا ينطفئ أمام المذبح، وعبادة القديسين، وهندسة الباسلقا، وقوانين روما التي اتخذتها أساساً للقانون الكنسي، ولقب الحبر الأعظم Pontifex Maximus الذي أُطلق على كبير الأساقفة مضافاً إلى اللغة اللاتينية التي أَوضحت في القرن الرابع الأداة الخالدة النبيلة للشعائر الكاثوليكية؛ بل كان أهم من هذا كله نظام الحكم الواسع الذي أمسى بعد عجز السلطة الزمنية صرح الحكم الكنسي، فلم يلبث الأساقفة، لا الحكام الرومان، أن صاروا هم مصدر النظام ومركز القوة والسلطان في
صفحة رقم : 4018
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> شباب المسيحية -> نمو الكنيسة -> تنظيم السلطة الدينية
مدائن الإمبراطوريّة؛ وكان المطارنة وكبار الأساقفة أكبر عون لحكام الولايات إن لم يكونوا قد حلوا محلهم، كما حل مجمع الأساقفة محل جمعيات الولايات. وسارت الكنيسة الرومانية في الطريق الذي سارت فيه قبلها الدولة الرومانية، ففتحت الولايات، وجملت العواصم، وثبتت دعائم النظام والوحدة على طول الحدود. وقصارى القول أن روما قضت نحبها وهي تلد الكنيسة، واكتمل نمو الكنيسة بأن ورثت التبعات الملقاة على روما ورضيت أن تضطلع بها.