قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 4 ج 23

صفحة رقم : 3769

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الإمبراطورية -> بلاد اليونان الرومانية -> أفلوطرخس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثالث والعشرون: بلاد اليونان الرومانية

الفصل الأول: أفلوطرخس

بذلت روما جهدها لكي تكون كريمة في معاملتها لبلاد اليونان، ولت تخفق في هذا الإخفاق كله؛ فهي لم تضع حاميات من الجند في ولاية آخية الجديدة، وكان ما فرضته عليها من الخراج أقل مما كان ينتزعه جباتها من أهلها قبل مجيء الرومان إليها، وتركت روما دول المُدن تحكم نفسها حسب دساتيرها وقوانينها القديمة، وجعلت لكثيرٍ منها: كأثينة، وإسبارطة، وبلاتية، ودلفي وغيرها "مدناً حرّة"، تتمتّع بحقوقها القديمة كلها عدا حقّها في أن تشنّ الحرب الخارجية أو حرب الطبقات. لكن بلاد اليونان كانت تتحرق شوقاً إلى حرّيتها، كما أن القواد الرومان، والمرابين، ورجال الأعمال الذين حذقوا أساليب شراء غلاّت البلاد بأبخس الأثمان وبيعها بأغلاها، هؤلاء كلّهم قد استنزفوا خيرات البلاد، ومن أجل هذا انضمّت إلى ثورة مثرداتس وعوقبت على انضمامها إليها أشد العقاب، فحوصرت أثينة حصاراً أهلك فيها الحرث والنسل، ونُهبت كنوز هياكل دلفي، وإليس، وإيدورس.

وبعد جيل من ذلك الوقت تقاتل قيصر وبمبي، ثم أنطونيوس وبروتس، على أرض اليونان، وجنّدوا أهلها في جيوشهم، واستولوا على محصولات البلاد وذهبها، وجبوا في عامين ضرائب عشرين عاماً، وتركوا الدائن خاوية على عروشها. وانتعشت آسية اليونانية تحت حكم أغسطس، ولكن بلاد اليونان نفسها ظلّت فقيرة، ولم يكن سبب فقرها هو الفتح الروماني بل كان هو الاستبداد الذي خنق أرواح الأهلين في إسبارطة، والحرية التي انحطّت حتى أصبحت فوضى في أثينة، وما جرّه على البلاد عقم الرجال وجدب التربة من وبال. ذلك أن أكثر أبنائها جرأة ومغامرة قد هجروها إلى الأراضي التي كانت أغنى منها وأحدث استقلالاً. وأدّى قيام دول جديدة في مصر، وقرطاجنة، وروما، وقيام الصناعة في بلاد الشرق الهلنستي إلى ترك مواطن الروح اليونانية القديمة خاوية مهجورة. وكانت روما تثقل اليونان بمديحها وتنهب روائع فنها: قد أخذ منها اسكورس Sckourus ثلاثة آلاف تمثال ليزين بها ملهاه، وأرسل كلجيولا زوج عشيقته ليُنقّب في بلاد اليونان عن التماثيل، ونهب نيرون وحده نصف ما في دلفي من روائع النحت، ولم يبسم الحظ لأثينة مرة أخرى إلا حين تولّى هدريان الملك.

وكانت إبيروس هي التي انصبّ عليها غضب روما أول الأمر في الحروب المقدونية، وأباحها مجلس الشيوخ إلى الجند ينهبونها ويعيثون فيها فساداً، وبيع من أهلها خمسة عشر ألفاً في سوق الرقيق، وبنى أغسطس عاصمة جديد لإبيروس فينيقوبوليس ليخلّد ببنائها انتصاره في أكتيوم القريبة منها. وما من شك في أن الحضارة قد وجدت فيها ملجأً ومعتصماً لأن "مدينة النصر" آوت إبكنتس، واستمعت إلى تعاليمه. وكان حظ مقدونية خيراً من حظ جارتها الوفية، فقد كانت هذه البلاد غنية بالمعادن والخشب، وزادت حياتها التجارية نشاطاً بفضل طريق اجناشيا Egnatie الذي كان يصلها هي وتراقة من ابلونيا ودير هكيوم إلى بيزنطية. وعلى هذا الطريق الرئيسي الذي لا يزال بعضه باقياً حتى الآن كانت تقوم أهم مُدن الولاية: إدسا، وبلا، وتسالونيكا. وكانت هذه المدينة الأخيرة التي كان اليونان يعرفونها باسمها القديم "نصر تساليا" عاصمة الولاية، ومركز مجالسها، وإحدى الثغور التجارية الهامة بين بلاد البلقان وآسية. أما تراقية الواقعة في شرقها فقد اختصّت نفسها بالزراعة، والرعي، والتعدين، ولكنها كانت تشتمل على مُدن كبيرة أهمّها سرديكا Serdica (صوفيا Sofia)، وفلبوبوليس Philippopolis عاصمتها، وأدريانوبل (أدرنة)، وبرنثس Perinthus، وبيزنطية (اسطنبول الحالية). وهنا على القرن الذهبي، كان التجار وصائدوا السمك يجمعون ثروة طائلة بينما كان اليونان الذين يقطنون من ورائها في الداخل يتقهقرون أمام البرابرة المعتدين. وكانت الحبوب الواردة من داخل البلاد تجيء إلى أرصفتها، كما كانت جميع تجارة سكوذيا والبحر الأسود تؤدي المكوس وهي مارة بها، ويكاد السمك لكثرته أن يقفز في الشباك وهو يجتاز مضيق البسفور. ولم يمضِ إلا قليل من الوقت حتى أدرك قسطنطين قيمة هذا الموقع العظيم وعرف أنه مفتاح العالم اليوناني - الروماني القديم.

وتخصصت تساليا الواقعة جنوب مقدونية في إنتاج القمح وتربية الجياد الجميلة. وقد وصف ديوكريسستم(1) جزيرة عوبية العظيمة التي أطلق عليها هذا الاسم (كما أطلق اسم يؤوشيا على الجزيرة المسماة بهذا الاسم) لما فيها من الماشية الحسنة الشكل، وصفها بأنها تعود إلى البربرية في القرن الثاني الميلادي. وقد تجمّعت في هذا الأقليم عدة عوامل كادت تمحو من الوجود الذين كانوا في يوم من الأيام شعباً زراعياً مطرد النماء والرخاء. وأهم هذه العوامل هي ما لاقاه الفقراء من عنت لتركز الأرض الزراعية والثروة في أيدي عدد قليل من الأسر، وما لاقاه الأغنياء من عنت لثقل الضرائب والفروض الدينية المطردة الزيادة، وقلّة النسل لأنانية الرجال وحبّهم الثراء أو لفقرهم المتقع. وكانت نتيجة هذا كله أن تُركت الأرض مراعي للماشية في داخل أسوار خلقيس وإرنريا نفسهما ولم تكن بؤوشيا قد فاقت مما حل بها من موت وما فُرض عليها من الضرائب الباهضة أيام حروب سلا. ويقول استرابون "إن طيبة ليست إلا قرية صغيرة"، قد انكمشت حتى لم تعد تشغل أكثر من الموضع الذي لم يكن قبل إلا قلعتها. على أن مائة عام من السلم قد أعادت بعض الرخاء إلى بلاتية، واحتفظت قيرونية التي كسب فليب سلا على سهولها إمبراطوريّتين عظيمتين ما يكفي من الروعة لاستبقاء أشهر رجل من أبنائها فيها. ويقول عنها هذا الابن - أفلوطرخس - إنها بلغت من الصغر حداً لا يجب أن تصغر عنه بتركه إيّاها. وإنّا لَنَجد في حياته الهادئة وتفكيره السار اللطيف ناحية مشرقة مبهجة من منظر نكد كئيب، كما نجد فيه هو نفسه رجلاً مهذباً من رجال الطبقة الوسطى مستمسكاً بفضائل العهد القديم، ينطوي قلبه على الإخلاص لبلده، والوفاء لأصدقائه، والحب لأبنائه.

وقصارى القول أنه ليس في قصتنا كلها شخصية أظرف من شخصية أفلوطرخس القيرونيائي. وكان مولده في تلك البلدة حوالي عام 46م ووفاته فيها حوالي عام 126م. وكان يطلب العلم في أثينة حين كان نيرون يوالي انتصاراته في بلاد اليونان. وما من شك في أنه رحل إلى مصر وآسيا الصغرى، وطاف مرّتين بإيطاليا. وقد ألقى محاضرات باللغة اليونانية في روما، ويبدو أنّه خدم بلده في بعض الشؤون الدبلوماسية. وكان يحب العاصمة العظيمة، وآداب أشرافها الجدد، وحياتهم الرقيقة ويعجب بقانونها الصارم، ويقول مع انيوس إن روما قامت على دعائم من الأخلاق الطيبة العالية. وبينما هو يفكّر في أمر هؤلاء النبلاء الأحياء والموتى خطر له أن يوازن بين أبطال روما وأبطال اليونان. ولم يكن يقصد أن يكتب تاريخاً أو سيراً فحسب، بل كان يعتزم فوق هذا أن يعلّم الناس الفضيلة والبطولة بضرب الأمثلة من التاريخ، وحتى سيره المتماثلة Parallel Lives كانت في ذهنه دروساً في الأخلاق، ولهذا تراه على الدوام معلّماً لا يترك فرصة تمر دون أن يستخلص مغزى خلقياً من كل قصة، وما من أحد قد قام بمثل هذا العمل أجمل مما قام به هو. وهو يحذرنا في سيرة الاسكندر بقوله إنه يهتم بالأخلاق أكثر من اهتمامه بالتاريخ، ويأمل أنه حين يجمع بين عظماء الرومان وعظماء اليونان ويوازن بينهم يستطيع أن يبعث في نفوس قرائه دوافع للخلق الطيّب وللبطولة. وهو يعترف اعترافاً صريحاً لا يسعنا نعه إلا أن نعفو عن زلاته بأنه قد صلُحَ حاله لطول صحبته لأولئك الرجال الممتازين(3).

وليس من حقنا أن نتوقّع في كتاباته دقة المؤرخ الحق ونزاهته، فكتابه مليء بالأغلاط في أسماء الناس، والأمكنة، والتواريخ، وتراه أحياناً (إذا جاز لنا أن نصدر حكماً عليه) يُخطئ في فهم الحوادث، بل إنه لَيُقصّر في واجبين كبيرين من واجبات كل كاتب سِيسَر - وهما أن يبين أن أي شيء في أخلاق المترجم له وأعماله يرجع إلى الوراثة أو البيئة أو الظروف، وأن يتتبّع تطور أخلاقه خلال نموّه، وما يلقى عليه من التبعات وما يقع فيه من أزمات. بل إنّا لنخرج من كتاب أفلوطرخس كما نخرج من كتاب هرقليطس بأن خُلُق الإنسان مقدرٌ له. ومع هذا فما من إنسان قرأ كتاب "السير" ثم أحس بعد قراءته بما فيه من عيوب، ذلك بأن هذه العيوب تخفي كلها في روايته الواضحة، وحوادثه المثيرة، وقصصه الفاتنة الساحرة، وتعليقاته الحكيمة، وأسلوبه الجزل. وليس في صفحاته البالغ عددها ألفاً خمسمائة سحر واحد يحس القارئ أنه حشو لا ضرورة له، بل إن كل جملة من جمله لها شأنها معناها. وقد شهد بفضل الكتاب مائة من عظماء الرجال - منهم قواد عسكريون، ومنهم شعراء وفلاسفة، فقالت عنه السيدة رولان Roland "إنه مَرْبع النفوس العظيمة"(4). وكتب عنه منتاني يقول:

"إني لا أستطيع الاستغناء عن أفلوطرخس فهو كتاب صلواتي"(5). وقد استمدّ منه شكسبير كثيراً من قصصه، وإن رأيه في بروتس لَمُستمد عن طريق أفلوطرخس من أخلاق الأشراف الرومان الأقدمين. وكان نابليون يحمل كتاب "السير" أينما ذهب لا يكاد يفارقه أبداً. ولمّا قرأ هين Heine هذه التراجم لم يسعه إلا أن يقفز على ظهر جواد ويعدو به إلى فتح فرنسا. وقصارى القول أن بلاد اليونان لم تترك لنا كتاباً أثمن من هذا الكتاب. وبعد أن شاهد أفلوطرخس علم البحر الأبيض المتوسط عاد إلى قيرونية ورزق فيها بثلاثة أبناء وبنت واحدة، وألقى محاضرات، وألفَ كتباً وسافر إلى أثينة من حين إلى حين، ولكنه قضى معظم وقته في مسقط رأسه وعاش فيه عيشة أهله البسيطة وكان برى أن من الواجبات المفروضة عليه لبلده أن يجمع بين المنصب الرسمي والحياة العلمية حياة الدرس والتحصيل، واختاره مواطنوه مفتّشاً للمباني، ثم كبير حكّامها ثم بؤوتاركا Boeotarch أي عضواً في المجلس الوطني. وكان يرأس المواكب والاحتفالات البلدية، وأصبح في أوقات فراغه كاهنا في مهبط الوحي في دلفي، وكان هذا المنصب قد عاد إلى الوجود. وكان يرى أنه ليس من الحكمة أن يرفض الدين القديم لما فيه من عقائد لا يقبلها العقل، لأن أهم الأشياء في رأيه ليست العقيدة، بل هو التأييد الذي تستمدّه منها أخلاق الإنسان الضعيفة، وما توجده أعضاء الأسرة الأموات بين الأجيال المتعاقبة في الأسرة والدولة من روابط تبعث فيهما المزيد من القوة، وكان يعتقد أن نشوة العاطفة الدينية هي أعمق تجارب الحياة. ولقد كان بفضل تسامحه الديني وتقواه مجتمعين أن يضع أسس دراسة الدين المقارن في رسالته التي كتبها عن العبادات الرومانية والمصرية(6). ومما قالته هذه الرسالة أن الأرباب كلها مظاهر لكائن واحد أعلى، لا يحدّه زمان يجلّ عن كل وصف، بعيد عن الشؤون الدنيوية والزمنية بعدا يترك للأرواح الوسطى Daimones أن تخلق العالم وتنظم شؤونه. وكان يقول أيضاً بوجود أرواح خبيثة، يسيطر عليها ويرأسها شيطان هو مصر الفوضى جميعها وروحها، وأصل كل الخبائث وجميع ما لا ينطبق على العقل في الطبيعة وفي بني الإنسان.

ويرى أفلوطرخس أن من الخير أن يؤمن الإنسان بخلود الأشخاص - بجنة ينعم فيها الأخيار، ومطهر، وجحيم يعذّب فيه الأشرار. وكان من أسباب سلواه أن الإقامة في المطهر قد تطهّر أي إنسان مهما خبُث حتى نيرون نفسه، وأنه قلما يوجد في الناس من يعذبون عذاباً سرمدياً(7). وكان يندد بالخرافات ويرى أن أهولها شرٌ من الكفر نفسه، ولكنه يقبل العرافة والنبوءات واستحضار الأرواح ويؤمن بأن الأحلام تُنبئ عن المستقبل. ولم يكن يدعى أنه فيلسوف مبتدع، بل كان يقول عن نفسه، كما يقول أبوليوس وكثيرون غيره من فلاسفة ذلك العصر عن أنفسهم، إنه يأخذ آراءه عن أفلاطون ويوفّق بينها وبين زمانه. وكان يعيب على الأبيقوريين أنهم يستبدلون هول الفناء بالخوف من الجحيم، وينتقد عيوب الرواقية، ولكنه يرى ما يراه الرواقي من أن العمل بأوامر الله وإطاعة العقل شيء واحد (8).

وقد عني المتأخرون بجمع محاضراته ومقالاته وأسموها الآداب (Moralia) لأن معظمها مواعظ بسيطة لطيفة تبين ما تنطوي عليه الحياة من حكمة. وهي تبحث في كل شيء، من الحث على استبقاء كبار السن في المناصب العامة إلى البحث في أيهما أسبق الكتكوت أو البيضة. وأفلوطرخس مغرم بمكتبته، ولكنه يقرّ بأن الصحة الجيدة خيرٌ من الكتب القيّمة:

"من الناس من يدفعهم الشره فيهرعون إلى الحانات يلتهمون ما فيها كأنهم يستعدون لحصار... إن أقل الأطعمة ثمناً هي على الدوام أكثرها نفعاً... ولما عجز أردشير ممنون في أثناء تقهقره السريع عن أن يجد ما يأكله غير خبز الشعير والتين صاح قائلاً: "ما ألذ هذا الذي لم يكن لي من قبل!"... والنبيذ أفيد المشروبات على شريطة أن يكون في مناسبة سعيدة وأن يمزج بالماء... وأكثر ما يجب أن يخشاه الإنسان هو سوء الهضم الناشئ من أكل اللحوم لأنها تخمد العزيمة في أول الأمر، وتترك بعدئذ رواسب ضارة بالجسم. وخير ما يفعل الإنسان أن يعوّد جسمه عدم الحاجة إلى اللحم بالإضافة إلى غيره من الطعام، ذلك بأن الأرض تخرج كميات موفورة من أشياء كثيرة لا تفيد في التغذية فحسب، بل تفيد كذلك راحة ومتعة. أما وقد أصبحت العادة طبيعة ثانية طبيعية، فإن تعاطي اللحوم يجب أن يكون... دعامة وسنداً لغذائنا؛ وينبغي لنا أن نأكل غيرها من الأطعمة... التي هي أكثر منها موافقة للطبيعة، وأقلّ منها كلالة على شعلة التفكير التي توقد من مواد سهلة خفيفة إذا صحّ هذا التعبير(9".

وهو يحذو حذو أفلاطون في الدعوة إلى تكافؤ الفرص للرجال والنساء على السواء، ويضرب أمثلة كثيرة للنساء المثقفات في الأزمنة القديمة (ولقد كان هناك نساء مثقفات في المحيط الذي يعيش فيه)؛ ولكنه ينظر إلى زنى الرجل بنفس السهولة التي ينظر بها إليه الرجل الوثني فيقول:

"إذا كان الرجل داعراً منهمكاً في ملذّاته وزلّ مع عشيقة أو خادمة، فلا يصحّ لزوجته أن تختاض لذلك أو تغضب، بل يجب أن تعتقد أن احترامه لها هو الذي دفعه إلى أن يشرك في فجوره امرأة غيرها)(10). ولكننا مع هذا إذا فرغنا من قراءة هذه المقالات الممتعة الساحرة أحسسنا بعد قراءتها، بأنا كنا في صحبة رجل رقيق القلب، طيب في جوهره، كامل في رجولته، لا يسوءنا قط أن أفكاره عادية. وإن اعتداله لهو الترياق الشافي من الهوى الفكري الذي يغلب على عصرنا الحاضر، وإن عقله المتزن، وفكاهته اللطيفة، وإيضاحاته الجذّابة لتدفعنا إلى القراءة دفعاً لا نقوى على مقاومته حتى في المواضع المبتذلة منها. وإن الإنسان لترتاح نفسه حين يجد فيلسوفا أوتي من الحكمة ما يكفي لإسعاده، وينصحنا بأن علينا أن نحمد الله على ما في الحياة من بركات ونعم عادية وألا نجعل دوامها سبباً في قلة ابتهاجنا بها:

"يجب علينا ألا ننسى تلك النعم وأسباب الراحة التي نشترك فيها مع الكثيرين من الناس، بل يجب... أن نبتهج لأننا نعيش، وأننا أصحاء الأجسام، وأننا نبصر ضوء الشمس... أليسَ من واجب الرجل الصالح أن يعدُّ كلَّ يومِ عيداً... ذلك بأن العالم هو أجلّ المعابد وأجدرها بسيدها. في هذا المعبد يدخل الإنسان وقت مولده، ولا تستقبله فيه تماثيل ساكنة من صنع الأيدي، بل تستقبله مخلوقات أظهرها العقل الإلهي لحواسنا... من بينها الشمس، والقمر، والنجوم، والأنهار التي لا تنفكّ تصبّ الماء العذب صبّاً، والأرض التي تخرج الطعام... وإذا كانت هذه الحياة هي أكمل إعداد لأسمى العبادات الدينية، فإن علينا أن نكون على الدوام ممتلئين غبطة وبهجة".


الفصل الثاني: صيف هندي

تتمثل في أفلوطرخس حركتان قامتا في عصره أولاهما العودة إلى الدين، وثانيتهما انتهاء النهضة اليونانية في الآداب والفلسفة. وعمت الحركة الأولى جميع بلاد اليونان، أما الثانية فكانت مقصورة على أثينة والشرق اليوناني. وازدهرت في هذه الأثناء ست مُدن من مدائن البلوبونيز، ولكنها لم تمد التفكير اليوناني إلا بالقليل: وهذه المُدن هي مدينة باتري Patrae التي ظلّت حية منتعشة خلال العصر الروماني والعصور الوسطى إلى أيامنا هذه بفضل التجارة الغربية وصناعة النسيج النشيطة. ومنها أولمبيا التي أَثرَت من أموال السيّاح الوافد غليها لزيارة تمثال زيوس الذي صنعه فدياس أو لمشاهدة الألعاب الأولمبية. ومن أكثر حوادث التاريخ اليونانية طرافة أن هذه المباريات التي كانت تقام مرّة كل أربع سنين، قد ظلّلت تقام من عام 776 ق.م حتى عام 394م حين منعها ثيودوسيوس Theodosius. كذلك ظلّ الفلاسفة والمؤرخون يفدون إليها كما كانوا يفدون في أيام برودكس وهيرودوت ليخطبوا في الجماهير المحتشدة لمشاهدة حفلات الألعاب. ويصف ديوكريسستم المؤلفين وهم يقرؤون "مؤلفاتهم السخيفة" للمستمعين العابرين والشعراء وهم ينشدون أشعارهم، والخطباء يمثلون الهواء بصخبهم والسوفسطائيين الكثيري العدد كأنهم طواويس تزهو بنفسها، وقد جاءوا لينفخوا ريحهم على الجماهير(12). وقد برهن ديوكريسستم بقوله هذا على أنه ليس أكثر صمتاً من سائر القادمين. ويصور إبكنتس النظارة وقد غصّت بهم المواقف غير المظللة وهم يتصببون عرقاً وتلفحهم الشمس أو يغرقهم المطر، ولكنهم لا يعبئون بهذا ولا ذاك في غمرة من الضجيج والعجيج التي كان ينتهي بها كل دور في اللعب أو شوط في السباق(13). وظلّت الألعاب القديمة النيميّة Nemean والبرزخية، والبيثية Pythian، والأثينية الجامعة تقام باستمرار، وأضيفت إليها ألعاب جديدة كالألعاب الهلينية الجامعة التي أقامها هدريان، وكان الكثير منها يشتمل على مباريات في الشعر أو الخطابة أو الموسيقى. فها هي ذي شخصية من شخصيات لوشيان تسأل: ألا نستطيع أن نسمع الموسيقى اليونانية القديمة في الاحتفالات العظيمة؟(14) وأدخلت الجالية الرومانية التي استوطنت كورنثا قتال المجالدين في هذه الألعاب وما لبث هذا القتال أن انتشر من مورنثا إلى غيرها من المُدن حتى تدنّس ملهى ديونيثس نفسه بهذه المذابح. واحتجّ كثيرون من اليونان - ديوكريسستم، ولوشيان، وأفلوطرخس - على هذا التدنيس، وتقدّم دمناكس Demonax، الفيلسوف الكلبي إلى الأثينيين يرجوهم ألا يسمحوا بهذه البدعة قبل أن يهدموا مذبح إلهة الرحمة في أثينة(15)، ولكن الألعاب الرومانية ظلّت تقام في بلاد اليونان حتى انتشر الدين المسيحي وكانت له السيادة في تلك البلاد.

وكانت إسبارطة وأرجوس لا تزالان يسري فيهما دم الحياة إلى حدٍّ ما، وأثرت أبدورس من مال زوّارها مرضى الأجسام والنفوس الوافدين إلى ضريح أسكلبيوس. ولم يَكَد يمضي على كورنثة، بعد أن أعاد قيصر بناءها، نصف قرن من الزمان حتى أضحت لحسن موقعها على البرزخ المسمى بإسمها أغنى المُدن في بلاد اليونان. وكان يسكنها خليط من الرومان، واليونان، والسوريين، واليهود، والمصريين انتزع معظمهم من بلادهم ومن أخلاقهم الأولى، وعرفوا بنزعتهم التجارية والأبيقورية، وبفسادهم الخلقي. وكان هيكل أفرديتي بنديوس القديم سوقاً ذات تجارة رائجة ومركزاً للدعارة الكورنثية. ويصف أبوليوس Apuleius حفلة راقصة فخمة شهدها في كورنثا مُثّلت فيها محاكمة باريس "ظهرت فيها فينوس عارية الجسم إلا من شعار حريري رقيق يغطّي خصرها النحيل الجميل، وحتى هذا الشعار كانت الريح تعبث به فتدفعه تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال"(16). وهكذا لم تغيّر كورنثا أساليبها منذ أيام أسبازيا.

فإذا انتقل الإنسان إلى أتكا عن طريق مجارا بدا الريف في فقر مدقع اجتمعت فيه عوامل التعرية، وتقطيع الغابات، واستنزاف الثروة المعدنية إلى الحروب، والهجرة، والضرائب الفادحة وقلّة النسل، فأحالته في عصر السلم الرومانية صحراء مجدبة. ولم يكن في أتكا كلّها إلا اثنتان من المُدن ذوات الرخاء: إليسيز التي كانت طقوسها الدينية الخفية تجتذب إليها الجماهير الغنية في كل عام، وأثينة المركز التعليمي والثقافي للعالم القديم. وكانت معاهدها ونظمها القديمة - المجلس، والجمعية، والأركونية - لا تزال تقوم بعملها، كما أن روما قد أعادت إلى مجلس الأريوبجس سلطته الأولى فجعلته مصدر الأحكام القضائية وحصن حقوق الملكية الحصين. وكان الحكام أمثال أنتيخوس الرابع، وهيرود الأكبر، وأغسطس، وهدريان ينافسون أصحاب الثراء أمثال هيرودس أتكس Herodes Atticus في هباتهم للمدينة، فأعاد هيرودس بناء الملعب العظيم بالرخام حتى لم يَكَد يُبقي منه شيئاً في بنتلكس، وأقام قاعة للموسيقى في أسفل الأكروبوليس. وتبرّع هدريان بالمال اللازم لإتمام بناء الأولمبيوم Olympieum، وشاد لزيوس، وكان وقتئذ على حافة القبر -بيتاً خليقاً به في عنفوان شبابه.

وفي هذه الأثناء كانت شهرة أثينة الفذة في الآداب، والفلسفة، والتعليم وعدم وجود مُدن أخرى تنافسها في هذه الميادين، قد جذبت إلى مدارسها عدداً جماً من الشبّان الأغنياء والطلاب الفقراء المحتاجين، وكانت جامعتها تضمّ عشرة كراسي للأساتذة يُنفق عليها من مال المدينة أو الإمبراطور، فضلاً عن جيش جرار من المحاضرين والمدرسين الخصوصيين. وكانت تلقى فيها دروس ومحاضرات في الأدب، وفقه اللغة، والبيان، والفلسفة، والرياضيات، والفلك، والطب، والقانون. وكانت تلقى عادة في مدارس التدريب الرياضي أو دور التمثيل، وأحياناً في المعابد أو البيوت. ولم يكن يراعى في منهاج هذه المواد بأجمعها، عدا الخطابة والقانون، أن يؤهّل الطالب لكسب عيشه، بل كان يهدف بدلاً من هذا إلى شحذ ذهنه، وتقوية إدراكه، وإمداده بقانون أخلاقي. وقد أثمرت هذه الدراسات ثمارها فأخرجت عدداً كبيراً من ذوي العقول النابغة، ولكنها أخرجت أيضاً آلافاً من الجدليين الذين لا همّ لهم إلا التلاعب بالألفاظ، والذي حوّلوا الفلسفة والدين إلى نظريات جدلية لا يُعرف لها أول ولا آخر.

وإذا كانت موارد أثينة تعتمد إلى حد كبير على طلابها، فقد كانت صابرة على نزقهم وطيشهم. كان الطلاب الجدد يوجّه إليهم مزاح عملي يسبب الأذى لغيرهم من المواطنين في بعض الأحيان، وكان طلبة الأساتذة المختلفين يتشيّعون لأساتذتهم، ويهاجم بعضهم بعضاً، وينشأ من ذلك شغب كثير شبيه بالشغب الذي يحدثه شباب هذه البلاد وتستخدم فيه العصي. وكان بعض الطلبة يحسبون أن في مقدورهم أن يتعلموا من العشيقات والمقامرين أكثر مما يتعلمون من جميع أساتذة الفلسفة، ويشير ألسفرون Alciphron إلى أن أولئك النسوة كنّ ينظرن إلى الأساتذة نظرتهنّ إلى منافسين لهنّ بلداء عاجزين(17). غير أنه كثيراً ما كانت تقوم بين الطلاب والأساتذة روابط قوية من الصداقة الطيبة الوفية، فكان الكثيرون من الأساتذة يدعون الطلاب إلى الطعام، ويرشدونهم إلى ما يقرؤون، ويعودونهم إذا مرضوا، ويحرصون على أن يبقى آباؤهم مخدوعين في مبلغ تقدمهم. وكان معظم المحاضرين يعيشون من الأجور التي يؤديها لهم طلبتهم، وكان عدد قليل من الأساتذة يتقاضون مرتبات من الدولة، فكان كل واحد من رؤساء المدارس الفلسفية الأربع يتقاضى عشرة آلاف درخمة (6000 ريال أمريكي) في السنة من الخزانة الإمبراطوريّة.

ومن هذه الدوافع نشأ عصر "السفسطائية الثانية" - الذي عاد فيه إلى الظهور الخطيب - الفيلسوف الذي يتنقّل من مدينة إلى مدينة كلما دعاه داعي الكسب، يلقي الخطب، ويعلّم التلاميذ، ويترافع في المحاكم عن المتقاضين، ويعيش في بيوت الأغنياء مستشاراً روحياً، ويكون أحياناً مبعوثاً مكرماً لدولة - مدينته. وازدهرت هذه الحركة في جميع أنحاء الإمبراطوريّة، وبخاصة في العالم اليوناني، في خلال الثلاثة القرون الأولى من التاريخ الميلادي، وقد وصفهم ديو بقوله إن الفلاسفة لم يكونوا وقتئذ يقلّون عددا عن الأساكفة(18). ولم يكن لهؤلاء السفسطائيين الجدد، كما لم يكن لإخوانهم الأقدمين، مبادئ مشتركة بينهم، وكانوا يصوغون تعاليمهم في عبارات بليغة، ويجذبون إليهم عدداً كبيراً من المستمعين، ويصلون في كثير من الأحيان إلى مراكز عالية في المجتمع، وينالون رضا الأباطرة، ويجمعون ثروات طائلة. وكانوا يختلفون عن السفسطائيين الأقدمين في أنهم قلّما كانوا يتعرّضون لشؤون الدين أو الأخلاق، بل كان همّهم منصرفاً إلى الشكل والأسلوب، والفن الخطاب والحذق فيه، أكثر من انصرافه إلى المسائل الكبرى التي زعزعت عقائد العالم ومبادئه الأخلاقية. والحق أن السفسطائيين الجدد كانوا من الأنصار المتحمّسين للدين القديم، ولقد احتفظ لنا فيلوستراتس Philostratus بتراجم زعماء السفسطائيين في ذلك العصر، وحسبنا أن نضرب مثلاً واحداً منهم. كان أدريان Adrian الصوري يدرس البيان في أثينة وارتقى حتى صار فيها أستاذ البيان للدولة. وكان يبدأ خطبته الافتتاحية بتلك العبارة الدالة على الفخر والكبرياء: "ها قد عادت الآداب مرة أخرى من فينيقية". وكان يأتي إلى محاضراته راكباً عربة تجرها جياد ذات عدّة من الفضة، وعليه ثياب تتلألأ فيها الجواهر، ولما زار ماركس أورليوس مدينة أثينة أحبّ أن يمتحن أدريان فطلب إليه أن يرتجل خطبة في موضوع صعب. واجتاز أدريان هذا الاختبار بنجاح جعل هدريان يخلع عليه كثيراً من أسباب التكريم، من ذهب، وفضة، وبيوت وعبيد. ولما ارتقى أستاذاً للبيان في روما، كانت محاضراته جذّبة مغرية إلى حد جعل أعضاء مجلس الشيوخ يؤجلون جلساته وجمهور السكان يتركون دور التمثيل، ويهرعون إلى سماعها مع أنه كان يلقيها باللغة اليونانية(19). وتلك خطة تكاد تؤذن بموت الفلسفة، فقد طغى عليها سيل البيان، وغادرها التفكير حين تعلّمت الكلام.

وكان في الطرف الآخر جماعة الكلبيين. ولقد وصفناهم في غير هذا المكان وصفنا ثيابهم الممزقة، وشعرهم الأشعث، ولحيتهم الكثّة، وجعبتهم وعكازهم، ونزولهم بالحياة إلى أبسط الأمور، وإلى الفحش في بعض الأحيان. وكانوا يعيشون معيشة الرهبان المتسولين، في ظل نظام كهنوتي فيه مبتدئون ورؤساء أعلون(30)، لا يتزوجون ولا يعملون، ويسخرون من تقاليد الحضارة ومظاهرها المصطنعة، ويشهّرون بالحكومات كلها على اختلاف أنواعها، ويرون أنها بأجمعها عديمة النفع، لا تعدو أن تكون تلصصاً سافراً، ويستهزئون بالنبوءات، و "الطقوس الخفيّة"، والأرباب. وكان الناس كلّهم يهجونهم، وخاصة لوشيان، فقد صبّ عليهم أقذع هجاء، ولكن لوشيان نفسه كان يعجب بدموناكس Demonax، الفيلسوف الكلبي المثقّف الذي خرج عن كل ثروته ليعيش في فقر فلسفي، والذي وهب حياته الطويلة التي دامت قرناً كاملاً (50-150م) لمساعدة غيره من الناس، وإزالة الخلاف بين المتباغضين والمُدن المتعادية، حتى لقد عظّمته أثينة رغم أنها كانت تسخر من كل شيء. ولما اتهم أمام محكمة أثينة بأنه يرفض تقريب القرابين للآلهة، برأته المحكمة حين قال إن الآلهة لا حاجة لها بالقرابين، وإن الدين لَيَنحصر في الحنو على جميع الخلق، وكان هذا هو كل ما دافع به عن نفسه.

ولما أن تورّطت الجمعية الأثينية في نزاع حزبي كان ظهوره فيها كافياً لفض النزاع، ولم يكن منه إلا أن غادرها دون أن ينطق بكلمة واحدة وكان من عادته في شيخوخته أن يدخل أي بيت من غير دعوة، ويُطعَم فيه وينام. وكان كل بيت في أثينة يسعى لأن ينال هذا الشرف(21). ويتحدّث لوشيان بعطف أقل من هذا العطف على برجرينس Peregrinns الذي جرّب المسيحية ثم خرج عليها وانضمّ إلى جماعة الكلبيين، وندد بروما، وحرّض بلاد اليونان جميعها على الثورة، وأدهش المجتمعين في أولمبيا بأن جمع محرقته بنفسه، وأوقد فيها النار، وقفز إليها، واحترق في لهيبها (165م (22". وبهذا الاحتقار للثراء وللحياة نفسها كان الكلبيون يمهّدون السبيل لرهبان الكنيسة المسيحية.

ولما أنشأ فسبازيان، وهدريان، وماركس أورليوس كراسي للفلسفة في أثينة، أغفلوا الكلبيين والمتشككة، ولم يعترفوا إلا بمدارس الفكر الأربع: الأكاديمية الأفلاطونية، واللوقيون الأرسطوطيلية، والرواقية، والأبيقورية. وكانت الأكاديمية قد وسّعت إيمان أفلاطون وافتخاره بالعقل الإنساني حتى استحال إلى الشك العام الذي قال به كرنيديز Carneades، فلما أن مات هذا الفيلسوف المتشكك عادت هذه المدرسة فمالت إلى النزعة الأصلية، ورجع أنتيخوس العسقلاني الذي كان يعلّم شيشرون في المجمع العلمي (79 ق.م) إلى آراء أفلاطون في العقل، والخلود، والله. وكانت الموقيون وقتئذ قد قصرت بحوثها على العلوم الطبيعية جرياً على سنّة ثيوفراسطس، أو على كتابة الشروح والتعليقات في ورع وخشوع على مؤلفات أرسطو. أما مدرسة أبيقور فكانت في هذا العصر الديني سائرة في طريق الاضمحلال، وقلّما كان أحد من الناس يجرؤ على الجهر بعقائدها دون أن يشفع ذلك الجهد بتحفظات دبلوماسية. وكانت ألفاظ أبيقوري، وكافر، ومسيحي، في معظم بلاد آسية كلها ألفاظاً مترادفة، تعبّر عن الهلع والدَنَسْ(22).

وقد كانت للفلسفة الرواقية الغلبة على سائر الفلسفات من قبل ذلك الوقت بزمن طويل، وكان ما اتصفت به صورها الأولى من صرامة وكمال قد خفّت حدّته على يدي بانيتيوس وبوسيدونيوس، وكلاهما من مواطني رودس.

فأما بانيتيوس Panaetius فإنه عاد إلى أثينة بعد موت سبيو (129 ق.م) وأصبح وقتئذ رئيس الاستوا Stoa، وعرّف الله بأنه روح مادية أو نفس مادي (pneuma)، يسري في الأشياء جميعها، ويظهر في الثبات في صورة قوة النماء، وفي الحيوان على هيئة النفس psyche وفي الإنسان على هيئة العقل logos وقد تطور هذا المذهب الغامض مذهب وحدة الله والكائنات إلى فلسفة أقرب إلى الفلسفة الدينية على أيدي خلفائه، واقتربت نظرية التأديب الأخلاقي الرواقية من الزهد الكلبي حتى أضحت الكلبية في القرن الميلادي ونيس بينها وبين الرواقية فارق إلا في ردائها المهلهل على حد قول أحد الكتاب. ونرى الحركتين كلتيهما تتقدمان نحو المسيحية على أيدي إبكتتس وماركس أورليوس.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: إبكتتس

وُلِدَ ابكتتس في هيرابوليس Hierapolis من أعمال فريجيا عام 50م، وكانت أمه جارية فكان هو لهذا السبب عبداً. ولم تُتَح له فرصة للتعلم لأنه صار يتنقل من سيد إلى سيد، ومن مدينة إلى مدينة، حتى وجد نفسه مملوكاً لإفروديتس Epaphroditus وهو معتوق ذو سلطة في بلاط نيرون، وكان ضعيف الجسم أعرج، ولعل سبب ضعفه وعرجه هو وحشية أحد أسياده، ولكنه عاش السبعين عاماً التي يعيشها الرجل العادي. وقد سمح له إفروديتس أن يستمع إلى محاضرات موسنيوس روفس، ثم حرره فيما بعد وما من شك في أن إبكنتس قد اشتغل معلماً في روما، لأنه كان بيم من فروا منها حين نفى دومتيان الفلاسفة. ثم استقر في نقوبوليس واجتذب إلى محاضراته فيها طلاباً من جميع الأنحاء منهم أريان النيقوميدي الذي أصبح فيما بعد حاكم طبدوكيا. وقد دون أريان عبارات ابكنتس، وأكبر الظن أنه دونها بطريقة الاختزال ثم نشرها بإسم "Diatribai" أي عبارات "ممسوحة" أو نسخ - وهي التي تُذكر الآن بين قوائم أحسن الكتب في العالم بعنوان أحاديث Discourses وليس هذا الكتاب رسالة ثقيلة مملة، بل هي حديث بسيط جيد، وفكاهة حلوة، تكشف في وضوح عن خُلق متواضع حنون، ولكنه خلق قوي صارم. وكان ابكنتس يستخدم سخريته اللاذعة للاستهزاء بنفسه وبغيره على السواء، ويسخر في مرح من أسلوبه الجاف الخالي من التنميق. ولم يشك قد حين سمع دمناكس الأعزب العجوز ينصح الناس بالزواج، وأراد أن يسخر منه فتقدّم إليه يخطب ابنته. وقد برر عدم زواجه بحجة أن في تعليم الفلسفة خدمة لا تقل عظمة عن ولادة "طفلين أو ثلاثة أطفال فُطَس الأنوف". واتخذ لنفسه في آخر أيامه زوجة تساعده على العناية بطفل أنجاه من الموت بسبب تعرضه لتقلبات الجو. وذاع صيته في جميع أنحاء الإمبراطوريّة في تلك الأيام، وكان هدريان يعدّه من بين أصدقائه.

وكان ابكنتس شبيهاً بسقراط في هذا وفي نواحٍ أخرى كثيرة، ولكنه لم يعنَ بالطبيعة أو بما وراء الطبيعة عناية تحمله على إنشاء نظام فكري، بل كان موضوعه الأوحد الذي يشغف به ويوجه إليه كل عنايته هو الحياة الصالحة. ومن أقواله في هذا المعنى: "ماذا يهمني من أن تكون الأشياء الموجودة على ظهر الأرض مكونة كلها من ذرات... أو من النار والتراب؟ أليس يكفيني أن أعرف حق المعرفة ما هو الطيّب وما هو الخبيث؟"(25). وليست الفلسفة في رأيه هي قراءة ما في الكتب من حكمة، بل هي تدريب الإنسان نفسه على اتباع الحكمة. وجوهر المسألة أن يشكل الإنسان حياته وسلوكه بحيث لا تتأثر سعادته بالظروف الخارجية إلا أقل التأثر. وهذا لا يتطلب منه أن يكون موقفه من الحياة موقف النُسّاك، بل إن "الابيقوريين، وأسافل الناس" ملومون لأنهم يحولون بين الناس وبين أداء الخدمات العامة، والرجل الصالح يقوم بنصيبه في الشؤون الدينية، ولكنه يرضى، وهو هادئ مطمئن، بجميع صروف الزمان: من فقر، وحرمان، وإذلال، وألم، ورق، وسجن، وموت. ويعرف كيف "يصبر وينبذ".

"لا تقل عن شيء ما" "إني فقدته" بل قُل فقط "إنني رددته". هل مات لك طفل؟ لقد رُدّ. هل ماتت لك زوجة؟ لقد أُعيدت. "لقد اُغتصبت مني مزرعتي". حسن جداً هذه أيضاً قد رُدّت. وما دام الله قد وهبك إياها فاعتنِ بها على أنها ليست لك... "أسفي على أنني أعرج!" أيها العبد! أتؤنب الكون لأنك فقدت ساقاً حقيرة؟ ألا يليق بك أن تنزل عنها هبة خالصة للكون كله؟... وإذا أُرغمت على الخروج من بلدي منفيّا، فهل في مقدور أحد من الناس أن يمنعني أن أخرج مبتسماً هادئاً؟... "سألقيك في السجن". إنك لن تسجن إلا جسمي، وسأموت حتماً، فهل يجب إذن أن أموت شاكياً؟... تلك هي الدروس التي يجب أن تبدأها الفلسفة وتعيدها، وتدونها كل يوم، وتمارسها... ليست منصّة الخطابة وليس السجن إلا مكانين، أحدهما عالٍ والآخر منخفض، ولكن هدفك الأخلاقي يجب أن يكون واحداً في كلتا الحالين(27).

وفي مقدور العبد أن يكون حر الروح كديجين، وفي وسع السجين أن يكون حراً كسقراط، وقد يكون الإمبراطور عبداً كنيرون(28)، وليس الموت نفسه إلا حادثاً عارضاً في حياة الرجل الصالح، في وسعه أن يستعجله إذا تبين أن الشرّ يرجح كثيراً على الخير(29). وخليق به على أية حال أن يستقبله في هدوء، وأن يرى فيه جزءاً من حكمة الطبيعة المكنونة.

"لو أن سنابل الحب كان لها إحساس، فهل كانت ترجو ألا تُحصد؟... إني أُحبّ أن تعلم أنك لو عِشتَ أبد الدهر لكان عيشك هذا نقمة... إن السفينة تغرق، فماذا أفعل إذن؟ مهما استطعتُ أن أفعل... فسأغرق دون أن أخشى شيئاً أو أن أحجم أو أجدّف في حق الله. بل أعتقد أن من يولد لابد أن يهلك. ذلك أني جزء من الكل كما أن الساعة جزء من اليوم. عليّ أن أجيء كما تجيء الساعة، وأن أنقضي كما تنقضي(30)... يجب ألا تعُد نفسك أكثر من خيط واحد بين جميع الخيوط التي يتكون منها الثوب(31)... لا تسعَ لأن يكون ما يحدث لك يحدث كما تحب، بل أحِب أن يحدث ما حدث كما حدث، فإن فعلت وجدت الهدوء والطمأنينة"(32).

وكثيراً ما يتحدث ابكنتس عن الطبيعة بوصفها قوة غير ذات شخصية، ولكنه في كثير من الأحيان أيضاً يجعل لفكرته عن الطبيعة شخصية، وذكاء، وعاطفة حب. وترى الجو الديني الذي كان يسود عصره يغمر فلسفته ويحيلها تقوى مُستَسلمة شبيهة بتقوى الإمبراطور الذي قرأ فلسفته وردد صدى أفكاره بعد زمن قليل. فهو يتحدّث حديثاً بليغاً رقيقاً عن النظام الفخم الذي يسود الزمان والمكان، وعمّا في الطبيعة من خطط موضوعة، ولكنه ينتقل من هذا ليقول إن "الله قد خلق بعض الحيوانات لكي يؤكل وبعضها الآخر لكي يعمل في المزارع، وبعضها لكي يُخرج الجبن"(33)، وهو يعتقد أن العقل البشري نفسه أداة عجيبة لا يستطيع أن يوجدها إلا إله خالق، وأننا وقد وُجدت لنا عقول لابد أن نكون في الواقع أجزاء من العقل العالمي. ولو أننا استطعنا أن نرجع بأنسابنا إلى الإنسان الأول لوجدنا أنه من أبناء الله، فالله إذن أبونا جميعاً بالمعنى الحرفي للفظ الأبوة، والناس كلهم اخوة(34).

"لم يحجم من راقب تصريف شؤون العالم وفهمها وعرف أن أعظم المجتمعات وأوسعها هو نظام (سستيما Systema أي الوقوف الاجماعي) الخلق والله، وأن الله هو الذي انبعثت منه الأصول التي نشأت منها جميع الأشياء وخاصة الكائنات العاقلة، لم يحجم عن أن يُسمي نفسه مواطناً عالياً... أو بعبارة أصح: ابن الله؟ وإذا استطاع الإنسان أن يؤمن بهذا المبدأ بقلبه وروحه فأكبر ظني أنه لم تخالجه قط فكرة دنيئة أو غير شريفة... فلا تنسَ إذن وأنت تأكل، من أنت الذي يأكل، ومن هو الذي تغذيه، وإذا ما ضاجعت النساء، فأذكر من أنت الذي تفعل هذا... إنك تحمل الله معك... أنت أيها التعس المسكين، وإن كنت لا تعرف(35)!

ويحث ابكتتس طلابه في فقرة خليقة بأن يكتبها القديس بولص أن يسلموا إرادتهم لله في ثقة واطمئنان، وألا يقتصروا على هذا بل أن يكونوا فضلاً عن ذلك رُسُلاً لله بين بني الإنسان فيقول:

يقول الله: "اذهبوا وكونوا شهداء لي على الناس"(36)... وفكروا في المعنى الذي ينطوي عليه قولكم: "لقد بعثني الله إلى العالم لأكون جندياً من جنوده وشاهداً من شهوده، ولأُخبر الناس أن أحزانهم ومخاوفهم عبثٌ وبطلان، وأن الشر لا يمكن أيصيب الرجل الطيّب، حيّاً كان أو ميّتاً. والله يبعثني يوماً هنا ويوماً هناك، ويؤدبني بالفقر وبالسجن، لكي أكون شاهداً حقاً له بين الناس. وإذا ما قمت بهذه الرسالة، فهل يعنين أي مكان أكون فيه، أو من يكون رفاقي، أو ماذا يُقال عني؟ أجل ألا تكون فطرتي كلها منجذبة نحو الله، ونحو شرائعه ووصاياه"(37). أما هو نفسه فقد كان غموض الأشياء ولآلئها يملأنه رهبة وشكراً، وهو يترنم للخالق بتسبيحة وثنية تُعد من أروع الفقرات في تاريخ الأديان.

"أية لغة ترقى إلى الثناء على جميع أعمال العناية الإلهية؟... أفما كان خليقاً بنا، لو كانت لنا عقول، أن نصرف وقتنا كله في التغني بمجد الإله والتسبيح بحمده، والتحدث بنعمه؟ أليس من واجبنا ونحن نحفر الأرض ونفلحها، ونأكل من ثمارها، أن تلهجَ ألسنتنا بالثناء عليه؟ - وماذا بعد هذا؟ - أما وقد أصبحت كثرتكم الغالبة عمياء، أفلا يجب أن يكون هناك إنسان يؤدي هذا الواجب بدلاً منكم، وينوب عنكم جميعاً في التغنّي بمدح الله؟"(38).

إنا لنجد في هذه الفقرات تشابهاً عجيباً بينها وبين كثير من أفكار المسيحية الأولى وإن كنا لا نرى فيها كلمة واحدة عن الخلود، وإن كان في وسعنا أن نرجع بها جميعاً إلى عقائد الرواقيين والكلبيين. والحق أن ابكتتس لَيَتقدم أحياناً على المسيحية يتقدم عليها في تنديده بالاسترقاق، وفي وجوب تحريم عقوبة الإعدام، وفي مناداته بأن يُعامل المجرمون على أنهم مرضى يحتاجون إلى العلاج(39). وهو يدعو الناس إلى أن يحاسبوا ضميرهم في كل يوم من أيام حياتهم(40)، ويضع لهم قاعدة من نوع القواعد الذهبية: "لا تكُن سبباً في أن يتعذّب الناس بما لا تحب أن تتعذب به أنت"(41)، ويضيف إلى ذلك قوله: "إذا قيل لك إن إنساناً يتحدث عنك حديث السوء، فلا تُدافع عن نفسك بل قُل: إنه لو عرف سائر عيوبي لما ذكر هذه وحدها"(42). وهو ينصح الناس بأن يجزوا الإساءة بالإحسان، "وألا يردوا الشتم إذا شُتموا!"(44). وأن يصوموا من حين إلى حين، وأن "يمتنعوا عما يشتهون"(45). وتراه أحياناً يتحدّث عن الجسم باحتقار مزرٍ كالذي يتحدّث به عنه الناسك الذي لم يتطهر بعد من ذنوبه: "إن الجسم أقذر الأشياء جميعاً وأخبثها... ومن أغرب الأشياء أن نحبّ هذا الشيء ونؤدي له هذه الخدمات العجيبة في كل يوم. أنا أملأ هذا الكيس، ثم أفرغه، فهل ثمة عمل أكثر من هذا مشقة؟"(46).

ومن أقوال ابكتتس فقرات تنطق بتقى أوغسطين وفصاحة نيومن Newman؛ "تصرّف فيَّ يارب كما تشاء؛ إن عقلي منك وإليك؛ أنا ملك لك. ولست أطلب أن أعفى من شيء ترى أنت أنه خير. اهدني إلى حيث تريد، واكسني بما تشاء من الثياب"(47)، وهو يأمر أتباعه كما يأمرهم عيسى بألا يهتموا بأمر غد. "إذا كان الله خالقنا، وأبانا، ووليّنا - أفلا يكفي هذا لأن يردعنا الحزن والخوف! ويتساءل بعض الناس: من أين أطعَم إذا لم يكن عندي ما أطعمه؟ ولكن ماذا تقول عن الحيوانات، يكتفي كل منها بنفسه، ولا يعدم ما يصلح له من الطعام، ولا ينقصه ما يوائمه ويتمشى مع طبقته من أساليب الحياة؟".

وهل من عجب بعد هذا أن يثني عليه المسيحيون أمثال القدّيس يوحنا وكريستوم وأوغسطين، وأن يتّخذ كتابه "الموجز" بعد تغيير طفيف قاعدة لحياة النساء في الأديرة ومرشداً لهنّ؟(49). ومن يدري لعلّ أبكتتس قد قرأ أقوال عيسى في صورة ما وأنه قد اعتنق المسيحية على غير علمٍ منه.


الفصل الرابع: لوشيان والمتشككة

ومع هذا فقد كان في هذه المرحلة الأخير من مراحل الثقافة الهلنستية متشككة يعيدون إلى الأذهان شكوك بروتجوراس، وكان فيها لوشيان، يسخر من العقائد الدينية بوقاحة كوقاحة أرستبس، وبأسلوب لا يكاد يقل سحراً عن أسلوب أفلاطون. ولم تكن مدرسة بيرو Pyrrho قد ماتت بعد، وقد أعاد إينسديمس Aenesidemus النسوسي صياغة أقوالها الإنكارية بمدينة الاسكندرية في القرن الأول الميلادي، وذلك في "الأساليب" Tropoi العشرة أو المتناقضات التي تجعل المعرفة مستحيلة . وفي أواخر القرن الثاني صاغ سكستس إمبركس Sextus Empiricus، وهو رجل لا نعرف له تاريخاً ولا موطناً، فلسفة المتشككة في شكلها الأخير وضمنها عدة مجلدات هدامة بقيت منها حتى الآن ثلاثة. ويتخذ سكستس العالم كلّه عدوّاً له، ويُقسّم الفلاسفة أجناساً مختلفة، ويقضي عليهم واحداً بعد واحد، ويكتب بالقوة الخلقية بالجلادين، وبالترتيب الحسن والوضوح اللذين تمتاز بهما الفلسفة القديمة، ولا يخلو أسلوبه من الفكاهة الساخرة ومن فتات من المنطق الكئيب.

ويقول سكستس ان كل حجة يمكن معارضتها بحجة مساوية لها، ومن أجل هذا لن تجد في آخر الأمر شيئاً لا ضرورة له أكثر من التعليل والاستدلال لا يوثق به إلا إذا قام على أساس الاستقراء الكامل، ولكن الاستقراء الكامل مستحيل، لأننا لا نستطيع أن نتبيّن متى يظهر أمامنا "مثل سلبي"(51). وليست "العلّة" إلا سابقة منتظمة (كما يُكرر هيوم Hume)، والمعرفة كلها نسبية(52). كذلك لا يوجد خير أو شر موضوعي، فالمبادئ الأخلاقية تختلف باختلاف البلاد(53)، وللفضيلة في كل جيل تعريف يختلف عن تعريفها في كل جيل آخر. وانك لتجد في أقوال هذا الفيلسوف جميع الحجج التي أدلى بها في القرن التاسع عشر عن إمكان معرفة وجود الله أو عدم وجوده. كما تجد فيها جميع الأقوال المتعارضة بين قدرته العليا الخيّرة والآلام الدنيوية(54). ولكن سكستس أكمل لاأدرية من اللاأدريين، لأنه يؤكد أننا لا نستطيع أن نعرف أننا لا نعرف. ويقول أن اللاأدرية عقيدة(55)، ولكنه يواسينا بقوله أننا لسنا في حاجة إلى الحقيقة المؤكدة؛ وإن في الترجيح ما يفي بجميع أغراضنا العملية، وإن تعليق الحكم في المسائل الفلسفية بدل إزعاج العقل به يهبه الهدوء الناشئ عن عدم الاهتمام (Atarasia)(56): وإذا لم يكن ثمة شيء مؤكد فلنقبل عرف الزمان والمكان اللذين نعيش فيهما وعقائدهما، ولنعبد أربابنا القدامى متواضعين(57).

ولو أن لوشيان قد أوتي من الحَمَق ما جعله يقيّد عقله بالانتماء إلى طائفة خاصة من الفلاسفة لكان من طائفة المتشككة. وكان يكتب الفلسفة كما يكتبها فلتير الذي يشبهه في كل شيء إلا في عطف فلتير وحنانه، يكتبها بأسلوب بلغ من الإشراق والوضوح حداً لا يظن معه إنسان أنه يكتب الفلسفة. وكان مولده في سموساتا Samosata من أعمال كمجيني Commagene البعيدة، وكأنه قد وُلِد في هذا المكان بالذات ليدلنا على مدى انتشار الهلنستية. وقد قال عن نفسه: "أنا سوري من بلاد الفرات". وكانت لغته الأصلية هي السريانية، وأكبر الظن أن الدم الذي كان يجري في عروقه هو الدم السامي(58). ثم أُرسل ليتمرّن على النحت عند مثّال؛ ولكنه ترك النحت وأخذ يدرس البلاغة؛ وبعد أن أقام في إنطاكية يمارس صناعة المحاماة شرع يتجوّل في الطرقات كما يفعل "العالم المستقل"، يكسب عيشه بإلقاء المحاضرات، وخاصة في روما وغالة؛ ثم ألقى عصا التسيار في أثينة (عام 165م)، وأنجاه ماركس أورليوس الورع المتسامح من الفقر في آخر أيامه، وعيّن المتشكك غير المحترم في منصب رسمي في مصر، حيث مات في تاريخ غير معروف.

وقد أبقت الأيام على ستة وسبعين كتاباً من كتب لوشيان الصغيرة، وكثيٌ منها لا يقل حدة ومناسبة لأحوال هذا العصر عما كانت عليه حين كان يقرؤها على أصدقائه ومستمعيه قبل ثمانية عشر قرناً من الزمان. وقد أخذ يجرّب أفانين مختلفة من الكتابة حتى عثر أخيراً على أسلوب الحوار الممتع الظريف. وقد بلغ كتابه محاورات الحظيات من التحرر درجة جعلت له كثيرين من القرّاء، ولكنه كان في كتبه على الأقل أكثر انهماكاً في الآلهة منه في الحظيات؛ وهو لا يفرغ قط من الإساءة إليهن. وفي كتابه هذا على لسان منبس Menippus: "كُنتُ وأنا غلام أستمع إلى قصص هومر وهزيود عن الآلهة - الآلهة الزانين، الآلهة الجشعين النهّابين، الآلهة العنيفين المتنازعين، مرتكبي الفحشاء مع المحارم. ولم أكُن أجد في هذا كله مأخذاً، بل إني في واقع الأمر وجدتُ فيه متعة عظيمة؛ ولكني حين بلغت سن الرشد وجدت الشرائع تناقض أقوال الشعراء مناقضة تامة، فتحرّم الزنى والسلب والنهب".

وتحيّر منبس فذهب إلى الفلاسفة يستوضحهم الأمر، ولمنهم كانوا مشغولين بأنفسهم يحاول كل منهم أن يُفند حجج غيره، فلم يدوه إلا حيرة واضطراباً، ولم يرَ بداً من أن يصنع له جناحين ويطير بهما إلى السماء، ويفحص عن الأمر بنفسه. واستقبله زيوس أحسن استقبال، وأكرم وفادته، وسمح له أن يراقب مجرى الأمور من فوق أولمبس. وكان زيوس نفسه يستمع إلى الصلوات وهي تأتي إليه من "صف من الفتحات لها أغطية كأغطية الآبار... وكان من بين الخلق الذين يعملون في البحار رجل يطلب ريحاً شمالية وآخر يطلب ريحاً جنوبية. وكان الزارع يدعوه ليرسل إليه المطر، والقصّار يدعوه أن يرسل إليه الشمس. وخُيّل إلى الرجل أن زيوس قد تحيّر في أمره، لا يعرف أي دعاء يستجيب له، فامتنع عن الحكم امتناع العلماء الحقيقيين، وأظهر من التريّث والاتزان ما هو خليق ببيرو نفسه"(59). ثم يرفض الإله بعض المطالب، ويستجيب لبعضها الآخر، ثم ينظم طقس اليوم: فيرسل المطر إلى سكوذيا، والثلج إلى بلاد اليونان، والعواصف إلى البحر الأدرياوي، و"يصرخ صرخة تبعث بعشرين مكيالا من البَرَد إلى كبدوكيا". ويغضب زيوس من الآلهة السمجة الغربية التي تسللت إلى مجمع آلهته؛ فيصدر أمراً يقول فيه إن جبل أولمبس قد ازدحم بالآلهة الأجنبية المتعددة الأجناس حتى ارتفع ثمن الرحيق الذي نشربه، وأخرجت منه الآلهة القديمة، التي هي دون غيرها، الآلهة الحقة؛ ولهذا فإن لجنة من سبعة ستُشَكّل لتنظر في مطالب الآلهة. وفي كتاب التحقيق مع زيوس يسأله فيلسوف أبيقوري: هل الآلهة هي الأخرى خاضعة للأقدار؟ فيجيب جوف الظريف بقوله: نعم. فسأله الفيلسوف: "ولِمَ إذا يُقرّب الآدميون لك القرابين؟. وإذا كان القدر هو المسيطر على الآدميين والأرباب، فلِمَ نكون مسؤولين عن أعمالنا؟"، فيردّ عليه زيوس بقوله: "يتبين لي أنك كنت مع تلك الجماعة اللعينة جماعة السفسطائيين"(60)؛ وفي زيوس تراجودس Zeus Tragoedus ترى الإله مكتئباً ساخطاً لأنه يرى جمعاً محتشداً في أثينة يستمع إلى داميس Damis الأبيقوري ينكر وجود الآلهة واهتمامها بالخلق، بينما يؤكد ذلك تمكليز Timocles الرواقي. ثم ينهزم تمكليز ويفر من الميدان؛ وييأس زيوس من مستقبله، ولكن هرمس يواسيه بقوله: "لا يزال في الأرض كثيرون من المؤمنين، هم الكثرة الغالبة من اليونان، أواسط الشعب وسفلته، والبرابرة على بكرة أبيهم"(61). ولم يتهم لوشيان بالكفر لقوله هذا، وفي ذلك دليل إما على روح التسامح التي كانت تسود ذلك العصر وإما على قرب زوال الآلهة اليونانية من الوجود. وكان لوشيان يتشكك في قيمة البلاغة والفلسفة تشككه في الدين القديم. ففي إحدى محاورات الموتى يأمر كارون Charon أحد البلغاء، وهو ينقله إلى الدار الآخرة، "أن تثير ما بلغك من طول الجمل الذي لا آخر له، ومن والطباق والمقابلة والعبارات المتوازنة" - وإلا غرق القارب حتماً(62). وفي هرموتمس Hermotimus ترى طالباً يبدأ دراسة الفلسفة متحمساً لها راجياً أن يستعيض بها بعض الاستعاضة عن الإيمان، ولكنه يصطدم مما يتصف به المعلمون المتنافسون من غرور وشره، ويتركه هؤلاء المعلمون عارياً ذهنياً وخلقياً، لأن كل فريق منهم يقضي وقته في دحض حجج الفريق الآخر، ولهذا "سأبتعد عن الفيلسوف كما أبتعد عن الكلب" على حد قوله في ختام حديثه(63). ويعرف لوشيان نفسه الفلسفة بأنها محاولة "للوصول إلى مرتفع تتطلّع منه إلى جميع الجهات"(64). وتبدو له الحياة من هذا المرتفع كأنها خليط مهوش سخيف، وأو جوقة مضطربة مختلّة النظام، يتحرّك فيها الراقصون ويصرخون كلٌّ كما يريد حتى يطردهم رئيس الفرقة من فوق المسرح واحداً بعد الآخر(65). ويصور في "كارون" منظر البشر، كما تراهم عين فوق عين الآدميين من قمة سماوية عالية، صورة حالكة السواد: صورة خلائق يفلحون الارض، ويكدحون، ويتنازعون، ويتقاضون في المحاكم، وُرابون، ويَغشّون ويُغشّون. ويجرون وراء الذهب أو اللذة. وفوق رؤوسهم سحابة من الرمال والمخاوف، والحمق، والكره، ومن فوق هذه كلها تعتزل الأقدار خيط الحياة لكل ذرة بشرية؛ فإنسان يرتفع من بين جمهرة الناس ثم يسقط إلى الحضيض، وكل إنسان يسحبه بدوره رسول من رسل الموت. ويبصر كارون جيشين يقتتلان في أرض البلوبونيز، فيُعلّق على قتالهم بقوله: "ما أشدّ حمق هؤلاء! إن كلاً منهم لا يعرف أنه وإن كسب البلوبونيز وحده لن يكون له آخر الأمر إلا قدم واحدة من الأرض"(66). ولوشيان لا يحابي أحداً شأنه في هذا شأن الطبيعة نفسها، فهو يهجو الأغنياء لشرههم، والفقراء لحسدهم، والفلاسفة لشراكهم، والآلهة لعدم وجودهم. ويختم حديثه في آخر الأمر بما يختم به فلتير حديثه وهو أنه ينبغي للإنسان أن يزرع حديقته. فمنبس Menippus يجد تيرسياس Teiresias في الدار السفلى ويسأله: ما خير أنواع الحياة؟ فيجيبه النبي الشيخ بقوله:

إن حياة الرجل العادي خير أنواع الحياة، ومن اختارها كان أكثر الناس فطنة؛ وإياك وسُخف المجادلات فيما وراء الطبيعة والبحث في أصول الأشياء وغاياتها؛ ولا تحسبن هذا المنطق كلّه إلا هراء في هراء، ولا تسعَ إلا لغاية واحدة وهي كيف تعمل ما تجده يدك لتعمله؛ وسِر في طريقك دون أن تنفعل قط وعلى فمك ابتسامة على الدوام(67).

وقصارى القول أن التفكير اليوناني في القرنين الأولين من التاريخ الميلادي تغطي عليه النزعة الدينية على الرغم من لوشيان وآرائه. لقد خسر الناس قبل ذلك العهد إيمانهم وعمدوا إلى المنطق؛ أما في الوقت الذي نتحدّث عنه فقد كانوا يخسرون المنطق ويعودون سراعاً إلى الإيمان. ذلك أن الفلسفة اليونانية كانت قد أتمّت دورتها مبتدئة باللاهوت البدائي، ثم انتقلت منه إلى تشكك السفسطائيين الأولين، ثم إلى كثر دمقريطس، فمداهنة أفلاطون ومحاولته التوفيق بين النزعتين، فنزعة أرسطو الطبيعية، فعقيدة وحدة الله والكون التي كانت تنادي بها الستوا، فالعودة إلى فلسفة التصوّف والاستسلام والتقوى. أما المجمع العلمي فقد انتقل من أساطير مؤسسة النفعية عن طريق تشكك كرنيديز Carneedes إلى خشوع أفلوطرخس القائم على العلم. ولا يلبث أن يبلُغ الذروة في رؤى بلوتنس السماوية. لقد نسي الناس كشوف فيثاغورس العلمية العظيمة، ولكن فكرته عن التجسّد بدأت وقتئذ تحيا حياة جديدة، فكان الفيثاغوريون الجدد ينقبون فيما تنطوي عليه الأعداد من أسرار خفية، ولا ينقطعون يوماً واحداً عن اختبار الضمير الإنساني ويدعو الله أن ينتقلوا بعد أقصر فترة مستطاعة من التجسّد إلى الاتحاد المبارك مع الله بعد أن يمروا بالمطهر - إن كان لابد لهم أن يمروا به(68). وكانت الرواقية تبعد شيئاً فشيئاً عن أن تكون فلسفة الأشراف المفتخرة المستهزئة، وقد وجدت آخر المعبرين عنها وأفصحهم لساناً في عبد من العبيد. وكان إيمانها باللهيب الذي سوف يحرق العالم آخر الدهر، ونبذها كل ملاذ الجسد، واستسلامها في خضوع ومذلة إلى إرادة الله الخفية، كان هذا كله يمهّد السبيل إلى اللاهوت المسيحي والمبادئ الخلقية المسيحية. وملاك القول أن المزاج الشرقي كان وقتئذ يستحوذ على القلعة الأوربية.