قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 4 ب 21

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 3710

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الإمبراطورية -> إيطاليا -> المدن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الرابع: الإمبراطورية 146 ق.م.- 192 م

الباب الحادي والعشرون: إيطاليا

الفصل الأول: المُدن

فلنقف قليلاً عند هذا المجد المزعزع ونحاول أن ندرك أن الإمبراطوريّة كانت أعظم شأناً من مدينة روما؛ ذلك أننا قد أطلقنا الوقوف عند هذا المنظر الباهر الذي استحوذ على عقول المؤرخين كما خلب ألباب سكان الولايات، لكن الواقع الذي لا مناص من الاعتراف به أن حيوية الدولة العظيمة لم يعد مقرها في عاصمتها الفاسدة المحتضرة؛ بل إن ما بقي لهذه الدولة من قوة وحيوية، وكثيراً مما كان فيها من جمال، ومعظم ما كانت تحتويه من نشاط عقلي، إن هذا كله كان في الولايات وفي إيطاليا؛ ومن أجل هذا فلن نستطيع أن نكوّن لأنفسنا فكرة صحيحة عن روما، وعما قامت به من جلائل الأعمال في الإدارة والسلم، حتى نترك العاصمة نفسها ونطوف بالمدائن الألف التي كان يتكوّن منها العلم الروماني.

قال بلني الأكبر لما أن بدأ يصف إيطاليا: "ترى كيف أبدأ هذا العمل؟ ألا ما أكثر ما هنالك من بلدان!- ومنذا الذي يستطيع أن يحصيها كلها؟ وما أعظم شهرة كل بلد بمفرده!". لقد كان حول روما وجنوبها إقليم لاتبوم، الذي كان في بادئ الأمر أمها، ثم صار عدوها، ثم جنة من الضواحي والقصور يقيم فيها الرومان أصحاب المال والذوق السليم، وكان إلى جنوب العاصمة وغربيها نهر التمبر وطرق برية صالحة تربطها بالمرفأين المنافسين لها وهما يورتس Portus وأستيا على البحر الترهيني. وقد وصلت أستيا إلى أوج عزها في القرنين الثاني والثالث من التاريخ الميلادي، فكانت شوارعها غاصة بالتجار وصائدي السمك، ودور تمثيلها مزدحمة بهم. وكانت بيوتها ومساكنها ذات الشقق الكثيرة شبيهة كل الشبه بأمثالها في روما الحارة، وقد تحدث عنها سائح من فلورنس في القرن الخامس عشر حديث المعجب بثروتها وزينتها العظيمة. وتدل بعض الأعمال الباقية منها إلى اليوم، ويدل أحد المذابح البديع التصميم والذي نقشت عليه أزهار جميلة دقيقة، على أن سكانها التجار أنفسهم كانوا يدركون معنى الجمال الحق.

وكان إلى جنوبي أستيا على شاطئ البحر مدينة انتيوم Antium (أنزيو Onzio) حيث كان لأغنى الرومان، ولكثير من الأباطرة، وللمحبوبين من الآلهة قصور وهياكل تمتد إلى شاطئ البحر الأبي لتستقبل ما يسري فيه من نسيم عليل. وقد وجدت في خرائبها التي تمتد نحو ثلاثة أميال، تماثيل ذات روعة وجمال، منها تمثال المجالد البرغيزي وتمثال أباو بلفادير. وبالقرب منهما أثر باقٍ إلى اليوم كان يذكر "المواطنين العظام" الذين مضى عليهم الآن ثلاثة عشر قرناً من الزمان أنهم كانوا من عهد قريب يستمتعون برؤية أحد عشر مجالداً يموتون وهم يقاتلون عشرة دببة ضارية (2). وكان إلى شماليها ومن وراء التلال الساحلية مدينة أكوينم مسقط رأس جوفنال وأربينم Arpinum التي كانت تفخر بإبنيها ماريوس وشيشرون. وعلى بعد عشرين ميلاً من روما كانت تقوم مدينة برانستي Praeneste القديمة (بالسترينا القديمة Palestrina)، وكانت بيوتها الجميلة مشيدة على شرفات مدرجة على سفوح الجبل؛ وحدائقها تشتهر بورودها، وقمة جبلها يتوجها هيكل ذائع الصيت للإلهة فورتونا بريمجينيا Fortuna Primigenia التي كانت تحيط النساء برعايتها وقت المخاض، وتنال منهن المال نظير ما تنطق به من النبوءات. وكانت تسوكيولم Tusculum التي تبعد عشرة أميال عن روما غنية مثلها بالحدائق والقصور، وفيها وُلد كاتو الكبير، واحتفظ شيشرون بكتابه "المجادلات التسكيولاتية" ، وكانت أعظم ضواحي روما شهرة ضاحية تيبور (ترفولي) التي مد إليها هدريان قصره الريفي والتي قضت فيها زنوبيا ملكة تدمر سني أسرها.

وإلى شمال روما تقع إتروريا التي بُعثت في عهد الزعامة بعثاً جديداً متواضعاً، وفيها بلدة بروزيا Perusia التي خرّب أغسطس معظمها وجدد بناء بعضها، وجمّل فنانوه فيها قوسا تسكانيا قديماً وأنجبت أريتيوم Arretium ميسناس Maecenas وبعثت به إلى روما، وأخرجت خزفاً للعالم القديم، وكانت مدينة بيسي Pisae في ذلك الوقت قد عمرت طويلاً، وتعزو هذه المدينة اسمها ومنشأها إلى جماعة من المستعمرين اليونان جاءوا من بيزا Pisa في البلوبونيز وكانوا يكسبون عيشهم فيها بنقل الخشب في نهر أرنس Arnus. وقامت على هذا النهر نفسه على مسافة من هذه المدينة في اتجاه منبعه مستعمرة رومانية ناشئة تدعى فلورنتيا Florentia، يندر وجود مثلها بين المدن لأنها في أغلب الظن لم تقدّر مستقبلها حق قدره. وكان إلى الطرف الشمالي الغربي من أتروريا محاجر كررار Carrara التي كان ينقل أجمل رخام روما إلى ثغر لونا Luna ثم تحمله السفن إلى العاصمة. وكانت جنوي من زمن بعيد هي المرفأ الذي تصدر منه غلات شمالي إيطاليا الغربي. ونسمع من زمن بعيد، أي من عام 209 ق.م، أن القرطاجيين قد دمروا تلك المدينة في حرب تجارية ضروس، وأنها دُمرت بعد ذلك مراراً كثيرة ولكنها كانت في كل مرة تبعث بعثاً جديداً وتعود أكثر مما كانت رخاءاً وازدهاراً.

وعند قاعدة جبال الألب كانت أوغستا تورنورم Augusta Taurinorum التي أنشأها الغاليون التورينيون Touurini Gauls، والتي جعلها أغسطس مستعمرة رومانية؛ وفي مقدور الإنسان أن يرى الآن أرصفتها ومجاريها القديمة تحت أرض شوارع تورين، وقد بقي فيها من أيام أغسطس باب ضخم يذكرنا بأن المدينة كانت في يوم من الأيام حصناً يصد عن البلاد المغيرين عليها من الشمال. وهنا ينثني نهر بدوا (البو) الكسول الذي ينبع من جبال الألب الكتية Cottian ويجري نحو الشرق مائتي وخمسين ميلاً، ويقسم الجزء الشمالي من إيطاليا قسمين كانا يعرفان في عهد الجمهورية بغالة ما قبل ألبو وغالة ما وراء ألبو. وكان وادي ألبو أخصب أقاليم شبه الجزيرة كلها، وأكثرها سكاناً، وأعظمها رخاءاً.

وكان - عند سفح جبال الألب تلك البحيرات العظيمة - فربانس Verbanus (مجيوري Maggiori)، ولاريوس Larius (كومو Como)، وبانكس Benacus (جاردا Garda)، التي كانت روعتها متعة العين والنفس لتلك الأجيال ولا تزال كذلك لنا نحن في هذه الأيام. وكان يبدأ من كومم، مدينة بلني الأصغر طريق تجاري رئيسي يتجه جنوباً إلى مديولانم Mediolanum (ميلان). وقد استقر الغاليون في هذه المدينة في القرن الخامس قبل المياد، ثم أضحت في أيام فرجيل من الحواضر الكبيرة والمراكز التعليمية الهامة، وقبل أن يحل عام 286 صارت عاصمة الإمبراطوريّة الغربية بدل روما. وكانت فيرونا وقتئذ تسيطر على التجارة التي تعبر ممر برنر Brenner)؛ وقد بلغت من الثراء درجة أمكنتها من أن تنشئ لها مدرجاً (جدد حديثاً) يتسع لخمسة وعشرين ألفاً من النظارة. وقامت على نهر ألبو الملتوي مدينة بلاسنتيا Placentia (بياسنزا الحديثة Piacenza)، وكرمونا Cremona، ومنتوا Mantua وفرارا Ferrara - وكانت في أول أمرها رباطات على الحدود أقيمت لصد الغاليين.

وكان إقليم فنيشيا يقع شمال نهر ألبو وشرق الأديج Adige. وقد اشتق اسمه من الفنيتي Veneti، المهاجرين الأولين من إليريا Illyria. ويصف لنا هيرودوت كيف كان زعماء تلك القبائل يجمعون فتيات قراهم اللائي في سن الزواج، ويقدرون لكل فتاة ثمناً يتناسب مع جمالها، ويزوّجونها ممن يؤدي ذلك الثمن، ثم يتخذون تلك المهور بائنة مغرية للفتيات لمن كنّ أقل من هؤلاء جمالاً وفتنة(4). ولم تكن مدينة البندقية (Venice) قد نشأت بعد، ولكن مدناً كبيرة قامت عند بولا Pola على شبه جزيرة إستريا Istria؛ وترجستي Tergeste (تريستة Trieste) وأكويليا Aquileia، وبتفيوم Patavium و(بدوا Padua) تتوج رأس البحر الأدرياوي. وقد بقي في بولا من أيام الرومان قوس نصر ضخم، وهيكل ظريف، ومدرج لا يفوقه في الروعة إلا الأصل الذي بني على نمطه وهو الكاوسيوم. وكان يمتد إلى جنوب نهر ألبو سلسلة من المدن تبدأ من بلاسنتيا مخترقة بارما، وموتينا (مودينا)، وبونونيا Bononia (بولونيا)، وفافنتيا Faventia (فينزي Faenze) وتنتهي عند أرمنينم.

وهنا عند رميني Rimini يقوم جسر من الجسور التي لا حصر لها والتي أقامها المهندسون الرومان، وهو أكثر الجسور احتفاظاً بشكله الكامل القديم. وكان الطريق الفلاميني يمتد على هذا الجسر إلى المدينة مخترقاً قوساً يعادل الخلق الروماني في صلابته وسيطرته. ويتفرع منه طريق فرعي يصل بتونيا برفنا بندقية الأيام الرومانية. وقد شُيّد هذا الطريق على قوائم في المستنقعات التي لوثتها عدة أنهار تصب في البحر الأدرياوي. ويصف استرابون مدينة رافنا بأن "فيها شوارع واسعة مكونة من قناطر ومعدّيات"(5). وقد اتخذها أغسطس مقراً لأسطوله الأدرياوي، واتخذها كثير من الأباطرة مسكناً رسمياً لهم في القرن الخامس. وقد كان تفوق شمالي إيطاليا على سائر أجزائها في خصب التربة، وفي جوه الصحي المنشط الباعث على العمل، وفي موارده المعدنية، وفي صناعاته المختلفة المتنوعة، وتجارته النهرية القليلة النفقة، كان تفوقه في هذا كله مما سما به من الناحية الاقتصادية على وسط إيطاليا في القرن الأول الميلادي ومن ناحية الزعامة السياسية في القرن الثالث.

ولم ينشأ على الساحل الشرقي في جزئه الممتد جنوبي أرمنينم وشمالي برنديزيوم إلا عدد قليل من المدن الهامة، وذلك لأن هذا الساحل صخري كثير العواصف قليل المرافئ. بيد أنه كان في أمبريا Umbria، وبسينم، وسمنيوم، وأبوليا، بلدان صغرى كثيرة لا يستطاع الحكم على ثرائها وفنها إلا بدراسة أنقاض بمبي، ومن هذه البلدان أسسيوم Assisum مسقط رأس بروبرتيوس والقديس فرانسيس؛ ومنها سرسينا Sarsina التي وُلد فيها بلوتس Blautus؛ وأمتيرنم Amiternum مسقط رأس سلست Sallust وسلمو Sulmo التي شهدت مولد أوفد، وفنوزيا التي شهدت مولد هوراس. ولم تشتهر بنفنتم بهزيمة برس فحسب بل اشتهرت كذلك بقوس النصر العظيم الذي أقامه فيها تراجان وهدريان. وقد قصّ هدريان في نقوشه الواضحة على هذا العمود قصة أعماله المجيدة في الحرب والسلم. وكانت برتديزيوم القائمة على الساحل الجنوبي الشرقي تشرف على طرق الاتصال في دنماشيا وبلاد اليونان والشرق. وعند "عقب" إيطاليا كانت تقوم مدينة دلماشيا وبلاد اليونان والشرق. وعند "عقب" إيطاليا كانت تقوم مدينة تارنتم، وكانت من قبل دولة - مدينة عزيزة الجانب، ولكنها لم تكن الوقت الذي نتحدث عنه إلا مشتى آخذاً في الاضمحلال لكبار الموظفين والأشراف الرومان. وفي جنوبي إيطاليا استولى أصحاب الضياع الكبيرة على معظم الأراضي وحولوها إلى مراعٍ للماشية؛ ففقدت المدن من كانت تعتمد عليهم من المزارعين، واضمحلت طبقاتها من التجار وأرباب الأعمال، وأفل نجم العشائر اليونانية التي كانت تنفق أموالها بسخاء في الأيام السابقة، وذلك بسبب تسرب القبائل الهمجية إليها وبسبب قيام الحرب البونية النائية، فاضمحل شأنها حتى لم تعد أكثر من بلدان صغيرة أخذت اللغة اللاتينية تحل فيها ببطيء بحل اللغة اليونانية. وفي "اصبع" إيطاليا كانت مدينة رجيوم Rhegium (رجيوم Reggio الحالية) ذات المرفأ الصالح. وقد أثرت هذه المدينة بفضل تجارتها مع صقلية وأفريقية. وعلى الشاطئ الغربي كانت تقوم فيليا Velia؛ ولعلها لم يكن من السهل عليها أن تذكر أيامها السالفة حين كان اسمها إيليا، وحين كان يتردد في جنباتها أصداء أشعار برمنيدز وزينون وأقوالهما المتناقضة الخبيئة. وقد بدلت الجالية الرومانية التي استعمرت بوسيدونيا اسم هذه البلدة فجعلته بيستم Paestum، ولا تزال تدهش زائرها بما فيها من هياكل فخمة. وكان أهلها اليونان في الوقت الذي نتحدث عنه قد أخذوا يذوبون في الدم "البربري" - الإيطالي في هذه المرة - الذي كان ينصب فيها من الريف القريب منها. ولم تبقَ الحضارة اليونانية حية في إيطاليا إلا في كمبانيا.

وكانت كمبانيا - المكونة من الجبال ومن الساحل المحيطين بنابلي - من الناحية الجغرافية جزءاً من سمنيوم. أما من الناحيتين الاقتصادية والثقافية فكانت عالماً مستقلاً بنفسه، لأنها كانت من الوجهة الصناعية أكثر تقدماً من روما، وكانت قوية من الناحية المالية، جمعت في رقعة صغيرة من الأرض حياة مليئة بالاضطرابات السياسية، والمنافسات الأدبية، والازدهار الفني، والألعاب العامة المثيرة. وكانت أرضها خصبة التربة تنتج أحسن الزيتون والكروم في إيطاليا، وكان يصدر منها النبيذ السرنتي Surrentine والفالرني Falernian الذائعا الصيت ولعل فارو Varro كان يفكر في كمبانيا وهو يتحدى العالم بقوله: "يا من ضربتم في أرضين كثيرة، هل رأيتم فيها أرضاً زُرعت أحسن من أرض إيطاليا؟... أليست إيطاليا مليئة بأشجار الفاكهة امتلاء يخيل معه إلى من يراها أنها كلها بستان واحد عظيم؟"(6). وفي طرف كمبانيا الجنوبي شبه جزيرة صخرية وعرة المنحدر تمتد ناتئة في البحر من سالرنم Salernum إلى سرنتم Surrentum. وكانت القصور الصغيرة منبثة بين الكروم والحدائق المغروسة على التلال، كما كانت تقوم بمحاذاة شاطئ البحر. وكانت سرنتم جميلة مثل سرنتو Sorrento في هذه الأيام، وقد لقبها بلني الأكبر بأنها "بهجة الطبيعة" التي حبتها بكل ما لديها من هبات(7)؛ ويبدو أنه لم يكد يتغيّر فيها شيء في خلال ألفي هام، وأكبر الظن أن أهلها لا يزالون محتفظين بعباداتهم القديمة، وأن آلهتهم في هذه الأيام هي آلهتهم في الأيام الخالية؛ ولا تزال أجراف الصخور تحصر البحر حصاراً لا آخر له.

وكان في مواجهة هذا اللسان البارز في البحر جزيرة كبريا Capraea (كابري Cpri) تلاطمها الأمواج من جميع الجهات. وكان بركان فيروف المطل على الشاطئ الجنوبي للخليج يرسل دخانه في السماء، بينما كانت بمبي وهركيولانيم ترقدان تحت طبقات الحمم. ثم تلي هاتين المدينتين نيوبوليس Neopolis "المدينة الجديدة" أكثر بلاد إيطاليا اصطباغاً بالصبغة اليونانية في عهد تراجان. وفي وسعنا أن نتبين من كسل نابلي في هذه الأيام مدى انهماكها القديم في الحب واللهو والفن. لقد كان أهلها إيطاليين، ولكن ثقافتهم، وعاداتهم، وألعابهم كانت كلها يونانية. وكان فيها هياكل وقصور، وملاهٍ جميلة؛ وكانت تقام فيها مرة في كل خمس سنين مباريات في الموسيقى والشعر نال أستاتيوس في واحدة منها جائزة. وفي الطرف الغربي من الخليج كان ثغر بتيولي Puteoli (بزيولي Puzzuoli الحديثة) التي إشتُقَّ اسمها من رائحة بركها الكبريتية (8). وقد ازدهرت هذه المدينة بفضل تجارة روما وبفضل مصنوعاتها الحديدية، وخزفها، وزجاجها. وكان فيها مدرج تدل ممراته التي تحت الأرض والباقية إلى هذا اليوم على الطريقة التي كان يصل بها المجالدون والوحوش إلى المجلد وعلى الجانب الآخر من مرفأ بتيولي كانت تتلألأ قصور بايا Baiac التي يزيد بهاءها وجاذبيتها قيامها بين الجبال والبحر. هنا كان يلهو قيصر وكلجيولا ونيرون، وهنا كان الرومان المصابون بداء الرئة يأتون ليستحموا في مياه عيونها المعدنية. وكانت المدينة تجني فوائد كثيرة من اشتهارها بالقمار وبالفساد الخلقي؛ وها هو ذا فارو Varro يقول إن فتياتها كنّ مُلكاً مُشاعاً، وإن كثيرين من فتياتها كانوا بنات(2)، وكان كلوديوس يرى أن شيشرون قد جلله عار لا يمحى أبد الدهر لأنه سافر مرة إلى هذه البلدة(10). ويقول سنكا متسائلاً: "أتظن أن كاتو كانت تحدثه نفسه بأن يقيم في قصر مليء بأسباب اللهو والسرور، يستطيع وهو فيه أن يحصي عدد من يمر به أمام عينه من النساء القاصرات اللائي يملأن القوارب والسفن الكثيرة الأنواع المطلية بكافة الألوان، والورود التي تتمايل حول البحيرة؟"(11).

وعلى بعد بضعة أميال قليلة شمال بايا، في فوهة بركان خامد، كانت بحيرة أفيرنس Avernus تبعث في الجو دخاناً كبريتيا بلغ من قوته أن وصفته الأساطير بقولها أنه ما من طائر يطير فوقه ويبقى حياً. وكان بالقرب من الكهف الذي شقّ إنياس طريقه السهل إلى الجحيم كما جاء في ملحمة فرجيل.

وفي شمال البحيرة كانت مدينة كومي Cumae القديمة، وقد أخذت تحتضر في ذلك الوقت بعد أن قامت إلى جانبها غبنتها مدينة نيوبوليس التي كانت أكثر منها جاذبية، ولوجود مرفأين بجوارها أكثر أمناً من مرفئها وهما بتيولي وأستيا، ولتقدم الصناعة في كبوا Capua. وكانت كبوا تبعد عن شاطئ البحر في الداخل نحو خمسين ميلاً وتقوم في إقليم خصيب كان ينتج في بعض الأحيان أربع غلات في العام(12)؛ ولم يكن في إيطاليا كلها ما يضارع ما فيها من مصانع البرنز والحديد. وقد جازتها روما على مساعدتها هنيبال جزاء أضر بها قرنين من الزمان عجزت فيهما عن أن تفيق من كبوتها، ووصفها شيشرون في خلالها بأنها "مسكن من ماتوا سياسياً"(13). وظلت كذلك حتى أعادها قيصر إلى سابق عهدها بأن جاء إليها بآلاف من المستعمرين الجدد؛ وأضحت في أيام تراجان مدينة مزدهرة مرة أخرى.

لقد يبدو لنا أن هذه المدن الكبرى التي كانت قائمة في إيطاليا القديمة والتي سردناها على القارئ سرداً سريعاً ليست أكثر من أسماء. ولشد ما نخطئ إذ نظنّ أنها مجرد ألفاظ على خريطة، أو لا نحس أنها كانت مساكن صاخبة لرجال مرهفي الحس يجدُّون في طلب الطعام والشراب والنساء والذهب.

والآن فلنرفع الرماد عن إحدى المدائن الرومانية لنقف في آثارها التي احتفظت بها بأعجب الوسائل عن مجرى الحياة في تلك الشوارع القديمة.

الفصل الثاني: بمبي

كانت بمبي إحدى البلدان الصغرى في إيطاليا، وقلما يرد لها ذكر في الآداب اللاتينية إلى إذا ذكر حساء سمكها المتبّل، وكرنبها، ودفنها تحت الرماد البركاني، وقد أنشأها الإسكانيون Oscans، ولعلها تضارع روما في قدم عهدها؛ وسكنها مهاجرون من اليونان، واستولى عليها سلا، وجعلها مستعمرة رومانية، ودمر بعضها زلزال في عام 63م. وكان بناؤها لا يزال يجدد في الوقت الذي دمرها بركان فيزوف مرة أخرى. فقد ثار هذا البركان في اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس عام 79م. وقذف من فوهته رماداً وصخوراً في الهواء وعلته ألسنة من اللهب. وانهمر فوقها مطر غزير فاستحالت المواد التي قذفها البركان سيلاً جارفاً من الطين والحجارة حط على بمبي وهركيولانيم، فلم تمضِ إلا ست ساعات حتى غطاها بطبقة يبلغ سمكها ثماني أقدام أو عشر. وظلت الأرض تزلزل والمنازل تتداعى طوال ذلك النهار والليلة التي أعقبته. فدفن النظارة تحت أنقاض دور التمثيل(14)، واختنق مئات من الأهلين بالتراب والدخان، وثارت الأمواج فحالت بين من حاولوا النجاة بطريق البحر. وكان بلني الأكبر وقتئذ يتولى قيادة الأسطول الغربي عند ميسينم Misenum القريبة من بتيولي وتأثر قلبه باستغاثة أهل البلدة وطلبهم النجدة، كما تأثر برغبته في مشاهدة هذه الظاهرة عن كثب، فركب سفينة صغيرة ونزل منها إلى البر على الشاطئ الجنوبي للخليج، وأنجى عدداً من الاشخاص؛ وبينما كانت تلك الجماعة تغدو خوفاً من البَرَد والدخان اللذين كانا يتقدمان نحوها، خارت قوى العالم الشيخ، فسقط في الطريق وقضى نحبه . وفي صباح اليوم التالي انظمت زوجته وابن أخيه إلى الجماعة اليائسة التي كانت سائرة بإزاء الساحل تحاول الفرار من الموت، وكانت ثورة البركان وقتئذ لا تزال مستمرة، وقد غطت السماء من نابلي إلى سرنتم بالحجارة والرماد حتى استحال النهار ليلاً حالك السواد. واستولى الهلع على الفارين الذين افترقوا في هذا الظلام الدامس عن أزواجهم وأبنائهم، فعلا صراخهم وعويلهم وزادوا الموقف هلعاً ورعباً. وأخذ بعضهم يستغيث بمختلف الآلهة لتنجيهم من هول الكارثة، وبعضهم ينادي بأن الآلهة كلها قد هلكت، وأن نهاية العالم التي طالما تنبأ بها الناس قد حلّت(16). ولما صفت السماء آخر الأمر في اليوم الثالث كانت الحمم البركانية وما اختلط بها من الطين قد غطّت كل شيء في بمبي إلى أعلى السقف، وحتى كانت هركيولانيم قد اختفت عن آخرها من الوجود.

وأكبر الظن أن ألفين أو نحوهما من سكان بنبي البالغ عددهم عشرين ألفاً قد قضوا نحبهم في هذه الكارثة؛ وقد حفظ الرماد البركاني أشكال عدد من الموتى؛ ذلك بأن الأمطار وأحجار الخفاف التي سقطت عليها غطتها بطبقة سميكة صلبت حين جفت، ولما ملئ فراغ هذه القوالب العاجلة خرجت منه أشكال بشعة. وعاد قليلون ممّن نجوا إلى أنقاض المدينة يبحثون فيها عن بعض ما فقدوه من النفائس، ثم تركوا هذا الموضع فيما بعد فغطته الأتربة على مر الأيام. وفي عام 1709 إتحفر قائد نمساوي حفرة في موضع هركيولانيم، ولكن الرواسب التي فوق المدينة والتي كان سمكها في بعض المواضع يبلغ ستين قدماً بلغت من السمك درجة جعل أعمال الحفر تسير ببطء شديد وتتكلّف نفقات باهظة. أما بمبي فقد بدأ الكشف عنها في عام 1749، وظل حتى الآن يجري في فترت متباعدة. وقد كشف الآن عن الجزء الأكبر من المدينة، فظهر عدد كبير من البيوت، والأدوات، والنقوش، فاستطعنا أن نعرف عن بمبي القديمة من بعض النواحي أكثر مما نعرفه عن روما القديمة.

وكان محور حياة المدينة هو السوق العامة، شأنها في هذا شأن سائر المدن الإيطاليّة. وما من شك في أن هذه السوق كانت في الزمن القديم ملتقى الزُّراع، وحاصلاتهم في "يوم السوق"، وكانت تقام فيها الألعاب، وتمثل فيها المسرحيات، وقد أقام فيها الأهلون أضرحة لآلهتهم، فشادوا ضريحاً لجوبتر في أحد طرفيها وضريحاً لأبلو في الطرف الآخر، وبالقرب من هذا الضريح الأخير أنشأوا ضريحاً لفينوس (زهرة) بمبيانا Pompeiana راعية المدنية وحاميتها. ولكن أهل المدينة لم يكونوا قوماً متدينين، فقد شغلتهم الصناعة، والسياسة، والألعاب، والصيد فلم تترك لهم وقتاً للعبادة، وكانوا إذا عبدوا عظمة عضو التذكير واتخذوه أهم الرموز لطقوسهم الديونيشية(17). ولما أن زادت الشؤون الاقتصادية والحكومية في مقدارها وخطرها، وعلت قيمتها، قامت أبنية عظيمة حول السوق إتخذت مراكز للأعمال الإدارية، وللمساومات، والمفاوضات، وتبادل السلع. وفي وسعنا أن ندرك مما نعرفه عن المدن الإيطاليّة الحديثة كيف كانت الشوارع المجاورة للسوق تعج بالبائعين الجائلين، ويعلو فيها ضجيج البائعين والمشترين، وعجيج الصناعات بالنهار والمرح بالليل. وقد عثر المنقبون في خرائب الحوانيت على بعض النُّقل، والعيش، والفاكهة، المتفحمة أو المتحجرة التي لم تجد من يشتريها. وفي الشوارع على مسافة من السوق كانت الحانات، ومحال الميسر، وبيوت الدعارة، كل منها يحاول أن يجمع هذه كلها فيه.

ولو لم يحرص أهل بمبي على أن ينقشوا عواطفهم على جدران المباني العامة لما استطعنا أن نتخيل ما كانت عليه حياتهم من حدة ومضاء. وقد نُقلت ثلاثة آلاف من هذه النقوش. وأكبر الظن أن آلافاً أخرى لم يتح لها البقاء، وقد اكتفى ناقشوها في بعض الأحيان بذكر أسمائهم وفحشهم الجريء، الذي لا يزال الناس يجبون أن يفعلوه؛ ودوّن بعضهم الأوامر التي كانوا يصدرونها إلى أعدائهم مؤملين أن يطيعها هؤلاء الأعداء كقول واحد منهم "من ساميوس Samius إلى كورنليوس Cornelius: إشنق نفسك". ومن النقوش ما هو رسائل حب كثيراً ما تكون شعراً: فقد كتبت رميولا Romula تقول إنها "وقفت هنا مع ستفيلس Stephylus"، وكتب شاب متيّم: "وداعاً يا فكتوريا؛ في وسعكِ أياً كان مكانكِ أن تعطسي أحسن عطسة"(18).

وليست الحوادث العامة أو القرابين الخاصة المنحوتة أو المرسومة على الجدران بأقل عدداً من هذه الرسائل، فترى المُلاّك يعلنون أيام عطلتهم، والذين فقد لهم متاع يعلنون عن فقده، ونقابات أرباب الحرف وغيرها من الجماعات تعلن عن تأييد المرشحين الذين يؤمل نجاحهم في حملات الانتخابات البلدية؛ فها هم أولاء "صائدوا السمك يرشحون بوبديوس روفس Popfdius Rofus ليكون إيديلا Aedile" و "قاطعوا الأخشاب وبائعوا الفحم النباتي يطلبون إليكم أن تنتخبوا مارسلينس"(19)، وها هي ذي بعض النقوش الخشنة تعلن عن ألعاب المجالدة، وبعضها الآخر يمتدح شجاعة مشهوري المجاهدين مثل سلادس Celadus، وها هي ذي "العذارى تتحسّر" أو تهيم بأحد الممثلين المحبوبين _ "أي أكتيوس Actius، يا حبيب الشعب عجل بالعودة!"(20). لقد كانت بمبي تعيش لكي تتلذذ، فقد كان فيها ثلاثة حمامات عامة وساحة للتدريب الرياضي، ودار تمثيل صغيرة تتسع لألفين وخمسمائة من النظارة، وأخرى كبيرة تتسع لخمسة آلاف، ومدرج يستطيع عشرون ألفاً أن يستمتعوا فيه بآلام الموت يقاسيها غيرهم من الناس بدلاً منهم. وها هو نقش يقول: "يسقتل في بمبي في الرابع والعشرين، والخامس والعشرين، والسادس والعشرين، من نوفمبر ثلاثون زوجاً من المجالدين: قدمهم حاكما المدينة، وسيكون هناك صيد؛ مرحباً بك يا ميوس Maius مرحى يا باريس! " وكان ميوس هذا أحد حاكمي المدينة، أما باريس فكان كبير المجالدين.

وتدل آثار داخل المنازل على أن الأهلين كانوا يحيون حياة مفعمة بالنعيم تجملها الفنون المختلفة. فأما البيوت فتكاد تكون خالية من النوافذ والتدفئة فيها نادرة، ولا تظهر الحمامات إلا في منازل الأغنياء، وكان لبعض الدور بركة في حديقة محاطة بألعاب وكانت أرض الحجرات تصنع من الإسمنت أو الحجر أو من الفسيفساء أحياناً، وقد نقش رجل صريح من طلاب المال على ارض داره هذه العبارة: "مرحبا بالكسب"، ونقش آخر "الكسب لذّة"(21). ولم يعثر إلا على القليل من الأثاث فقد كان كله تقريباً من الخشب، ولهذا لم يبقَ منه شيئاً يذكر، غير أن عدداً كبيراً من النضد، والأسرة، والكراسي، ومصابيح الرخام أو البرنز قد نجت من التلف، وفي وسع الإنسان أن يرى في متحفي بمبي ونابلي مجموعة متنوعة من الأدوات المنزلية، من أقلام، ومحابر، وموازين، وأدوات المطبخ، والزينة، والآلات الموسيقية.

ونواحي البقايا الفنية التي كشفت في بمبي أو بالقرب منها بأن الأشراف الذين يسكنون في القصور الصغيرة ذات الحدائق لم يكونوا هم وحدهم الذين يستمتعون بالمميزات الثقافية للحياة، بل كان يشاركهم فيها تجار المدينة. فقد كشفت في هركيولانيم مكتبة خاصة كانت تحتوي على 1756 مجلداً أو ملفاً، ولا داعي هنا لأن نعيد ما قلناه من قبل عن كؤوس البسكوريالي Boscoreale أو المناظر الرائعة والنساء الرشيقات المصورة على جدران منازل بمبي. ولقد كان في كثير من المساكن تماثيل ذات روعة، وكان في السوق العامة وحدها مائة وخمسون تمثالاً. وقد عثر في هيكل جوبتر على رأس لهذا الإله قد يكون فدياس نفسه هو الذي سوّاه؛ فأنت ترى فيه القوة والعدالة ماثلتين في ثنايا الشعر الغزير واللحية الكثة. وكان في هيكل أبلو تمثال لدينان ثقب مؤخر رأسه حتى يستطيع كاهن مختبئ أن يتحدث بالنبوءات. وقد عثر في أحد قصور هركيولانيم الصغيرة على طائفة من التماثيل والأدوات البرنزية كانت من الكثرة بحيث امتلأت بها حجرة ذائعة الصيت في متحف نابلي. وأكبر الظن أن روائع هذه المجموعة - عطارد المستريح، ونارسس أو ديونيش، والساتير السكران وإله الحقول الراقص - كانت يونانية بأصلها أو بصنعها؛ وهي تكشف عن حذق في الصنع، وعن السرور غير المحتشم البادي في الجسم الصحيح السليم، وهما الخاصتان الماثلتان في الفن البركستيلي. ومن هذه التماثيل تمثال نصفي من البرنز لأحد الدلالين في مدينة بمبي ويدعى ل. كاسليوس أيوكندس L.Caacilius Iuoundus الذي وجدت حساباته منقوشة على 154 لوحاً من الشمع عثر عليها في داره بمدينة بمبي. ويظهر في هذا التمثال الرأس الأصلع والوجه الصارم غير المجرد من الحنو. في هذا التمثال تمتزج الخشونة بالذكاء، والحكمة بالثآليل الجلدية؛ وهو من صنع مثال معاصر - ولعله مثال إيطالي - أظهر فيه شخصية صاحبه على حقيقتها وبأحسن ما تظهر الشخصيات. والحق أن الإنسان لتستريح نفسه لوجود هذه الشخصية الواقعية إلى جانب ما يحيط بها في متحف نابلي من تماثيل الآلهة والإلهات الخالية وجوهها من الغضون، والتي تكاد تنطع معارفها الملساء الوديعة المستكنة لتخبرنا بأن أصحابها لم يعيشوا قط على ظهر الأرض.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: نظام البلديات وحياتها

ولم تكن الحياة الخاصة والعامة، حياة الأفراد وحياة الجماعات، أحد وأقوى ما كانت في إيطاليا القديمة؛ غير أن حوادث هذه الأيام تبلغ من الخطر ومن استنفاد الجهود حداً لا نستطيع معه أن نولي تفاصيل نظام البلديات في عهد القياصرة كثيراً من عنايتنا، ومن أجل هذا لم تعد نظم الحمم المختلفة المميزة أو الحقوق السياسية المتتابعة التي كان الأهلون يعضون عليها بالنواجذ، لم تعد هذه أو تلك جزءاً من ذلك الماضي الحي الذي هو موضوع بحثنا ومثار اهتمامنا.

لقد كان من الخصائص الأساسية للإمبراطورية الرومانية تتألف من مجموعة من دول- المدن تحكم نفسها بنفسها إلى حدٍ ما، وتضم كل منها في مؤخرتها أرضين واسعة تمتلكها وتسيطر عليها، مع أن الإمبراطوريّة كلها كانت مقسمة إلى ولايات. وكان معفي الوطنية في هذه الإمبراطوريّة حب الشخص لمدينته أكثر مما تعني حبه للإمبراطورية. وكان الأحرار في كل مدينة يقنعون في الأحوال العادية بممارسة حقوقهم السياسية المحلية البحتة؛ وقلما كان الذين نالوا المواطنية الرومانية من غير أهل روما يذهبون إلى تلك العاصمة ليعطوا أصواتهم في الانتخابات؛ ولم يكن اضمحلال الجمعيات العامة في العاصمة مصحوباً باضمحلال مماثل له في مُدن الإمبراطوريّة ما تدل على هذا بمبي نفسها. وكان لمعظم البلديات الإيطاليّة مجالس شيوخ Curia- ولمعظم المدن الشرقية مجالس boule' تشريعية- تسن قوانينها وجمعيات comitia ekklesia تختار حكامها؛ وكان ينتظر من حاكم المدينة أن يهب مدينته مبلغاً كبيراً من المال Snmma Honoraria (والكلمة الثانية مشتقة من Honas بمعنى المنصب) نظير تفضلها عليه بأن يكون حاكماً لها، وقد جرت العادة أيضاً أن يتبرع من حين إلى حين ببعض المال للأغراض أو الألعاب العامة. وإذ كان المنصب لا ينال عليه صاحبه أجراً فإن ديمقراطية الأحرار- أو أرستقراطية الأحرار- قد استحالت في كل مكان تقريباً الجركية يتولاها ذوو المال والجاه.

وظلت البلديات مائتي عام من عهد أغسطس إلى عهد أورليوس في رخاء وازدهار. ولسنا ننكر أن الكثرة الغالبة من أهلها كانت من الفقراء بطبيعة الحال؛ فقد تكفلت الطبيعة والمميزات المختلفة بإيجاد هذه الحال ولكن التاريخ لم يحدثنا قط عن عهد من العهود، قبل هذا العهد أو بعده، فعل فيه الأغنياء للفقراء قدر ما فعله أغنياء هذه المدائن لفقرائها: ذلك أن نفقات إدارة المدينة كلها تقريباً، وما يلزم من المال لتمثيل المسرحيات، وغير ذلك من ضروب التسلية، والألعاب، وتشييد الهياكل، ودور التمثيل، والملاعب؛ ومدارس التدريب الرياضي، والمكتبات العامة، الباسلقات، والقنوات التي تنقل ماء الشرب للمدن، والقناطر والحمامات، وتجميل هذه كلها بالأقواس والأروقة ذات العمد، والصوَر والتماثيل، كانت كلها يتحملها ذوو اليسار. وقد ظل الوطن طوال المائتي عام الأولى من عهد الإمبراطوريّة يدفع أولئك الأقوام إلى التنافس فيما بينهم للقيام بهذه الأعمال الخيرية تنافساً أدى في بعض الأحيان إلى إفلاس عدد من الأسر التي كانت تمولها، أو المدن التي تتكفل بها بعد إقامتها من مال الأغنياء. وقد جرت العادة في أيام القحط أن يبتاع الأغنياء الطعام ويوزعوه من غير ثمن على الفقراء، وكانوا في بعض المناسبات يقدمون لجميع المواطنين؛ ولجميع السكان أحياناً، زيتاً أو خمراً بالمجان، أو يقيمون لهم وليمة عامة، أو يهبونهم قدراً من المال. وخلّدت النقوش الباقية إلى الآن كثيراً من هذا السخاء. فها هو ذا مثر من أصحاب الملايين يهب مدينة ألتينم في فنيشيا 1.600.000 سسترس لإقامة حمامات عامة، وها هي ذي سيدة تشيد هيكلاً ومدرجاً في كسينم Casinum؛ وها هو ذا ديسميوس تلس Decimius Tullus يهب تركوينياي Tarquinii حمامات تكلّفت 5.000.000 سسترس؛ وها هي ذي كرمونا Cremona التي دمرها جنود فسبازيانلا تلبث أن يعاد بناؤها من تبرعات المواطنين. وتذكر النقوش إسمي طبيبين قدما كل ما يملكان هبات لنلمثلي. وفي أستيا التي كانت مزدحمة بالسكان دعا لوسليوس جمالا Lucilius Gemala جميع أهلها إلى الطعام ورصف فيها طريقاً طويلاً واسعاً، ورمم سبعة هياكل أو أعاد بناءها وأعاد بناء حمامات البلدية، ووهب خزانتها ثلاثة ملايين سسترس(22).

وكان من عادة بعض الأغنياء أن يقيم الواحد منهم وليمة يدعو إليها قسماً كبيراً من المواطنين في عيد ميلاده أو لمناسبة إنتخابه إلى منصب عام، أو زواج إبنته، أو ارتداء إبنه الطوغة، دليلاً على بلوغه سن الرشد، أو تدشين بناء أهداه إلى المدينة. وكانت المدينة تجزي هذا المحسن على إحسانه بأن تعينه في منصب عام، أو تقيم له تمثالاً، أو تمتدحه بقصيدة أو نقش. ولم يكن الفقراء يشعرون بالذلّة حين ينالون هذه العطايا كلها، ذلك بأنهم كانوا يتهمون الأغنياء بأنهم لم يحصلوا على هذا المال الذي يفعلون به الخير إلا من طريق الاستغلال، ومن أجل هذا كانوا يتطلبون الاقتصاد في المباني الجميلة والتماثيل، ويلحون في تخفيض ثمن الحبوب والإكثار من الألعاب(23).

وإذا أضفنا إلى هبات الأفراد، ما كان يهبه الأباطرة للمدن، وما كان يقام فيها بأموالهم من مبانٍ، وما يقدمونه لها من مال لتخفيف ما يحل بها من الكوارث، فضلاً عن الأعمال العامة والمناصب التي كانت تحوّل من خزائن البلديات، إذا فعلنا هذا بدأنا نحس بفخامة المدن الإيطاليّة في عهد حكومة الزعامة. لقد كانت شوارعها مرصوفة، وكان فيها مجارٍ لنقل المياه القذرة، وشرطة لحماية الأمن، وكثير من وسائل الزينة، وخدمة طبية مجانية للفقراء من أهلها، وماء نقي نظيف يصل إلى الدور في أنابيب نظير أجر قليل، وطعام يقدم للفقراء بثمن بخس. وكانت الحمامات في معظم الأحوال مباحة من غير أجر يُنفَق عليها من هبات المحسنين، والمال يقدم للأسر الفقيرة مساعدة لها على تربية الأبناء والإكثار منهم؛ وكانت المدارس ودور الكتب تُنشَأ للتعليم والمطالعة، والمسرحيات تُمثَّل، والحفلات الموسيقية تقام، والألعاب تُنظَّم لتُنافس بها تلك المدن روما غير عابئة بما تنفقه فيها من مال. ولم تكن حضارة المدن الإيطاليّة حضارة مادية بالقدر الذي كانت عليه في العاصمة؛ فقد كانت هذه المدائن تتنافس في إقامة المدرجات، ولكنها أقامت كذلك هياكل فخمة، يضارع بعضها أحسن ما كان منها في روما(24)، وجعلت شهورها مرحة بما كانت تقيمه من أعياد دينية ذات بهجة. وكانت تنفق بسخاء على الأعمال الفنية، وتنشئ القاعات الرحبة للمحاضرات، وللشعراء، والسفسطائيين، والخطباء، والفلاسفة، والموسيقيين. وكانت تيسّر لمواطنيها أسباب الصحة، والنظافة، والتنزه، والحياة الثقافية القوية. ومنها، لا من روما، خرج عظماء المؤلفين اللاتين، وعدد كبير من أحسن ما في متاحفها من روائع النحت كتمثال نيكي (العدالة) في متحف نابلي، وتمثال بروس (الحب) في سنتومسلا Centumecella، وتمثال زيوس في أتركولي Atricolic. وكانت تقوم بحاجيات عدد من السكان، لا يقلّون عن عددهم قبل هذا القرن، في المدن التي قامت مكانها وتؤمنهم من مصائب الحرب تأميناً منقطع النظير.

وقصارى القول أن القرنين الأول والثاني من التاريخ الميلادي قد شهدا ذروة مجد شبه الجزيرة العظيمة.