قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 3 ب 20

صفحة رقم : 3677

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الزعامة -> الحياة والفكر في القرن الثاني -> تاستس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب العشرون: الحياة والفكر في القرن الثاني 96-192 م

الفصل الأول: تاستس

لقد حررت سياسة نيرفا وتراجان عقل رومة المكبوت، وبعثت في أدب عهديهما روح التمرد الشديد على الطغيان الذي ولى ولكنه قد يعود إلى سابق عهده. ولقد عبر بلني في تقريظه عن هذا الشعور بترحيبه بأول الأباطرة الثلاثة حين جلس على العرش؛ وقلما كان جوفنال يتغنى بشيء آخر غير مديحهم، ولم يكن لتاستس أنبه المؤرخين من عمل إلا التنديد بالأيام الخوالي، والتشنيع بقلمه على ذلك القرن من الزمان. ولسنا نعرف متى ولد تاستس أو أين ولد، بل إننا لا نعرف إسمه الأول؛ وأكبر الظن إنه كان إبن كورنليس تاستس الذي وكل إليه الإشراف على إيرادات الإمبراطورية، في غالة البلجيكية. وبفضل ما ناله هذا الرجل من الرقي في المناصب الحكومية، ارتفعت الأسرة من طبقة الفرسان إلى طبقة الأرستقراطية الجديدة. وأول حقيقة مؤكدة عن هذا المؤرخ هي قوله: "اتفق أجركولا في عام قنصليته(78)... على أن يزوجني ابنته، التي كانت بلا ريب تتطلع إلى صلة أرقى من هذه"(2) وكان قد تلقى ما يتلقاه الناس عادةً من تعليم، وأتقن الفنون الخطابية الت يتجعل أسلوبه ذات بهجو ورواء، وحذق طريقة إيراد الحجج المؤيدة والمعارضة التي يمتاز بها ما في تواريخه من خطب. وكثيراً ما استمع إليه بلني الأصغر في المحاكم، وأعجب بفصاحته وألفاظه الجزلة وسماه أعظم خطباء رومة(3). وعُيّن تاستس بريتوراً في عام 88، وأصبح من ذلك الوقت عضواً في مجلس الشيوخ. وجدير بالذكر أنه يعترف على نفسه ذلك الاعتراف المخجل وهو أنه عجز عن مقاومة الاستبداد، وأنه انضم إلى الشيوخ الذين حكموا على زملائهم ضحايا دومتيان. ثم عينه نيرفا قنصلاً(97)، وعينه تراجان والياً على آسية. وما من شك في أنه كان خبيراً بشئون الإدارة، وأنه كان ذا تجارب عملية. ولقد كانت كتبه ثمرة تجارب حياته السابقة، ونتاج شيخوخته الخالية من الكد وعقله الناضج العميق.

وتسري في هذه الكتب كلها روح واحدة- هي كراهيته للأرستقراطية؛ فنراه في حواره عن الخطباء (إذا كان هذا كتابه بحق) يعزو اضمحلال البلاغة إلى ما أصيبت به الحرية من قمع، كما تراه في كتابه "الأجر كولا" Agricola- وهو أكمل تلك الرسائل ذات الموضوع الواحد التي قصر الأقدمون عليها السير- يروي بفخر وخيلاء ما قام به حموه، وهو قائد وحاكم، من جلائل الأعمال؛ ثم يقص في حقد وضغينة كيف فصله دومتيان من عمله وأهمله. ويبين في مقاله القصير عن مركز الألمان وأصلهم الفرق بين فضائل الشعب الحر المنبعثة عن الرجولة وبين إنحلال الرومان وجبنهم في عهد الطغاة المستبدين. وتاستس حين يثني على الألمان لأنهم يرون قتل الأطفال جريمة جريمة تجلل مقترفها العار، ولا يعلون من شأن العقم، لا يمدح الألمان في واقع الأمر بل يندد بالرومان. وهكذا نرى الهدف الفلسفي يفسد موضوعية البحث، ولكنه يدل على إتساع أفق الموظف الروماني الذي يمتدح قدرة الألمان على مقاومة رومة .

وكان نجاح هذه المقالات مما أغرى تاستس على أن يوضح مساويء الاستبداد ببيان جرائم الطغاة المستبدين بتفصيل خال من الرحمة. وقد بدأ عمله هذا بإيراد الجرائم التي كانت ر تزال حاضرة في ذاكرته، والجرائم التي يشهد بها كبار السن من أصدقائه- وهي التي وقعت في الفترة المحصورة بين عهد جلبا وموت دومتيان. ولما أن أقرت الأرستقراطية الشاكرة هذه التواريخ ووصفتها بأنها خير ما كتب في التاريخ من بعد ليفي Livy واصل قصته بأن وصف في الحوليات Annales حكم تيبيريوس، وكلجيولا، وكلوديوس، ونيرون. وقد بقيت لنا من الأربعين (أو الثلاثين في قول بعضهم) "كتاباً" من كتب التواريخ أربعة كتب ونصف كتاب، وكلها مقصورة على أحداث السنتين 69، 70 م؛ وأما الحوليات فقد بقي منها إثنا عشر كتاباً، وكانت عدتها في الأصل ستة عشر أو ثمانية عشر. وهذه الكتب حتى في هذه الصورة المبتورة تعد أقوى ما كتب في النثر الروماني؛ وفي وسعنا أن نرسم منها صورة غير واضحة لعظمة الكتابين كليهما وأثرهما في النفس. وكان تاستس يأمل أن يؤرخ أيضاً حكم أغسطس، ونيرفا، وتراجان، وأن يخفف من كآبة ما نشر من مؤلفاته بتخليد ذكرى سياسة هؤلاء الأباطرة الإنشائية. ولكن الأجل لم يمهله، وحكم عليه الخلف، كما حكم هو على الماضي، بأن نظر إليه من الناحية القاتمة دون غيرها.

ويرى تاستس أن "أهم ما يجب على المؤلف هو أن يحكم على أعمال الناس حتى ينال الطيب من هذه الأعمال ثواب الفضيلة، وحتى يكون ما توجهه محكمة الخلف إلى أعمال السوء من ذم وتقريع حائلاً بين المواطنين وبين سيء الأعمال"(6). ألا ما أعجب هذا الرأي الذي يجعل التاريخ يوم حساب، ويجعل المؤرخ إلهاً يحاسب الناس على أعمالهم. وإذا ما فهم التاريخ هذا الفهم استحال إلى مواعظ- أعني دروساً في الأخلاق وسيلتها ضرب أشد الأمثال رهبة- وأصبح كما يفترض تاستس خاضعاً لعلم البيان. إن من السهل على من يغضب أن يكون فصيحاً بليغاً، ولكن ليس من السهل عليه أن يكون عادلاً نزيهاً؛ ولهذا وجب ألا يقدم العالم الأخلاقي على كتابة التاريخ. ولقد كان تاستس قريب العهد بالمستبدين يحتفظ في ذاكرته بصورتهم، وهذا في حد ذاته يحول بينه وبين نظره إليهم في هدوء. ومن أجل هذا لم ير من أعمال أغسطس إلا قضاءه على الحرية، وظن أن كل ما كان للرومان من عبقرية قد قضى عليه يوم أكتيوم(7). ويبدو أنه لم يخطر بباله أن يخفف من حدة التهم التي يوجهها إلى الأباطرة، بذكر براعتهم الإدارية، ورخاء الولايات في عهد أولئك الطغاة الجبابرة. وما من أحد يقرأ تواريخه ثم يخطر بباله أن رومة كانت إمبراطورية كما كانت مدينة. وليس ببعيد أن "الكتب" التي ضاعت، كانت تلقي نظرة على الولايات وعالمها، أما الكتب الباقية فهي تجعل تاستس مرشداً مقرراً، لا يكذب قط ولكنه لا يسجل الحقيقة مطلقاً . وكثيراً ما يقتبس من المصادر التي يرجع إليها، سواء كانت هذه المصادر كتب تاريخ أو خطباً، أو رسائل، أو أوامر يومية، أو قرارات مجلس الشيوخ، أو أخبار الأسر القديمة؛ وتراه أحياناً يبحثها بحث الناقد الخبير. غير أنه لم يسمع في معظم الأحوال إلا قصص النبلاء المضطهدين، وهو لا يتصور قط أن حوادث إعدام الشيوخ وإغتيال الأباطرة لم تكن إلا أحداثاً عارضة في صراع طويل بين الملوك الفاسدين، القساة، الكفاة القادرين، وبين أرستقراطية منحلة، فاسدة، قاسية، عاجزة. وهو يفتتن بالشخصيات والحوادث البارزة، أكثر من إفتتانه بالقوى العاملة، والعلل، والأفكار، والتطورات؛ ويرسم أنبه الشخصيات وأكثرها ظلماً في التاريخ، ولكنه لا يدرك قط أثر العوامل الإقتصادية في الحوادث السياسية؛ ولا يهتم مطلقاً بحياة الناس وصناعاتهم، ولا بتيار التجارة، أو أحوال الناس العلمية، ولا بمنزلة المرأة، ولا بتقلب العقائد الدينية، ولا بروائع الأدب أو الفلسفة أو الفن. وفي كتب تاستس نرى سنكاً، ولو كان، وبترنيوس يموتون، ولكنهم لا يكتبون، ونرى الأباطرة يقتلون الخلق ولكنهم لا يشيدون. ولعل هذا المؤرخ الكبير كان مقيداً برغبات قرائه وسامعيه، وأكبر الظن أنه كان يقرأ أجزاء من كتبه- كما جرت به عادة ذلك الوقت- إلى أصدقائه الأشراف الذين يقول عنهم بلني إنهم كانوا يحتشدون لأستقباله؛ ولعله إذا سئل عن سبب إغفاله ما أغفل قال إن أولئك الرجال والنساء كانوا يعرفون الحياة الرومانية، وأحوال الصناعة، والأدب، والفن، وإنهم لذلك لم يكونوا في حاجة لم يكونوا في حاجة إلى من يذكرهم بها، وإن ما كانوا يحتاجون إلى سماعه مراراً وتكراراً هو قصة هؤلاء الأباطرة الأشرار المثيرة للشعور، وما كان يقوم به الشيوخ الصابرون من أعمال البطولة، وكفاح تبذله طبقتهم النبيلة ضد السلطة الغاشمة. وليس من حقنا أن نأخذ تاستس بما لم يقدم عليه، وكل ما من حقنا أن نفعله أن نأسف لضيق هدفه السامي وللقيود التي فرضها على عقله الجبار.

وهو لا يدعي قط أنه فيلسوف، ولذلك تراه يثني على أم أجركولا حين تحاول أن تثني عن الاشتغال بالفلسفة ولدها "الذي أصبح أشد تحمساً للفلسفة مما هو خليق بالروماني عضو الشيوخ(8)". ولقد كان خياله وفنه- كما كان خيال شيكسبير وفنه- أنشط وأكثر إبداعاً من أن يسمحا له بأن يفكر وهو هاديء في معنى الحياة وإمكانيتها. وهو يكثر من ذكر الفضائح التي يعوزها التثبت والتحقيق كما يكثر من ذكر الشروح والتعليقات التي توضح الحوادث وتنيرها، ولكننا يصعب علينا أن نجد في كتبه فكرة منسقة ثابتة عن الله، أو الإنسان، أو الدولة. فهو غامض غموض الحذر حين يكتب عن العقائد الدينية، ويوحي بأن من يقبل دين بلاده أعظم حكمة ممن يحاول أن يستبدل به العلم والمعرفة. وهو لا يصدق معظم المنجمين، والعرّافين، ولا يؤمن بالفأل ولا بالطيرة، ولا بالمعجزات، وإن كان يصدق بعضها. ذلك أن ظرفه وكما أدبه يحولان بينه وبين إنكار ما يؤكده الكثير من الناس. ويقول إن الحوادث تنزع بوجه عام إلى إثبات "أن الآلهة لا تهتم بالأخيار أكثر من إهتمامها بالأشرار"(10)، ويؤمن بوجودقوة مجهولة، وقد تكون قوة متقلبة الأطوار والميول، تدفع الناس والدول إلى مصائرها دفعاً لا حول لها أمامه ولا طول(11). وهو يأمل أن يكون أجركولا قد انتقل إلى حياة سعيدة، ولكن يتضح من أقواله أنه يشك في هذا؛ وهو يقنع بآخر ما تخادع به العقول الكبيرة نفسها- خلود الشهرة الطيبة(12).

وهو لا يواسي نفسه بشيء من الآمال الطوبية؛ وفي ذلك يقول: "إن الكثرة الغالبة من خطط الإصلاح يعتنقها الناس في بداية الأمر بحماسة وغيرة، ولكن سرعان ما تبلى جدتها، وتنتهي مشروعاتها إلى لا شيء"(14). وهو يعترف كارهاً بأن الأمور في أيامه خير مما كانت قبل، وإن كان هذا الخير قصير الأجل، ولكنه يرى أن لا شيء، حتى عبقرية تراجان نفسه، ستمنع عودة التدهور والإضمحلال(15)، وذلك لأن رومة قد استشرى فيها الفساد، حتى سرى إلى قلوب الناس، ففسدت نفوس الجماهير وبدلوا الحرية فوضى(16)، وأصبحوا رعاماً "مولعين بكل ما هو جديد، تتوق نفوسهم إلى التغيير، وهم على استعداد دائم لأن ينحازوا إلى جانب الأقوياء"(17). وهو يرثي إلى ما ينطوي عليه العقل البشري من خبث(18)، ويهزأ كما يهزأ جوفنال بالعناصر الأجنبية من سكان رومة. وهو لا يفكر قط في العودة إلى الجمهورية بعد أن سوأ سمعة الإمبراطورية، ولكنه يرجو أن يتمكن الأباطرة من التوفيق بين الزعامة والحرية(19). وهو يظن في آخر الأمر أن الأخلاق أعظم أهمية من الحكومة، وأن عظمة الشعب لا تقاس بما لديه من قوانين بل تقاس بما فيه من رجال.

وإذا كنا لا نجد مناصاً من أن نضع تاستس في مصاف أعاظم المؤرخين، رغم ما يثير دهشتنا من أننا نجد مواعظ ومسرحيات حيث كنا نبحث عن التاريخ، فما ذلك إلا لأن قوة فنه تعوضه عن ضيق نظرته. فنظرته قوية، وأحياناً عميقة، وهي دائماً واضحة، والصور التي يرسمها أكثر وضوحاً، وهي حين تخطو على مسرح التاريخ أكثر حيوية من أية صور أخرى في الأدب التاريخي. على أن هذه الصور نفسها لا تخلو من نقائص وعيوب. فتاتس يؤلف من عنده خطباً لشخصياته المختلفة ويؤلفها كلها بطريقته الخاصة وبنثره الفخم. فهو يصف جلباً بالبلاهة ثم ينطقه بما ينطق به الحكماء(20). وهو لا يرقى إلى ذلك الفن الصعب الذي يمكنه من أن يجعل شخصياته تنمو وتكمل على مر الأيام؛ فتيبير يوس مثلاً في بداية حكمه هو بعينه تيبيريوس في آخره، وإذا كان يبدو إنساناً رحيماً في البداية، فإن ذلك في رأي تاستس نفاق وخداع. وأهم ما يمتاز به تاستس هو روعة أسلوبه، فلسنا نجد كاتباً غيره قد قال كل ما قاله بمثل إحكامه. ولسنا نقصد من هذا أن عبارته كانت موجزة فهو على عكس هذا مسهب كثير الاستطراد، يشغل 400 صفحة من تواريخه لتدوين حوادث عامين اثنين. وتراه أحياناً يفرط في التركيز حتى يبلغ حد التكلف أو الغموض، وحتى تتطلب كل كلمة ثانية جملة تترجم بها؛ وكأن الأفعال وحروف العطف عنده ليست إلا عكازات للعقول الكليلة. وهذا الأسلوب هو النتيجة التي أدى إليها أسلوب سالست Sallust الموجز السريع، ونكات سنكا القصيرة المحكمة، والجمل القصيرة المتزنة التي كانت تعلم في مدارس البلاغة. وهو أسلوب، إذا كتب به كتاب طويل، ولم تتخلله فقرات أكثر من فقراته اعتدالاً، يثير عقل القاريء وينهكه، ولكنه مع ذلك يعود إليه ويزداد به افتناناً. وهذا الجفاف العسكري الذي يقتصد في الألفاظ أكثر مما يقتصد في الرجال، وهذا الازدراء بدعامات الجمل، وهذه المشاعر الثائرة، وهذا الوضوح في التصور، وهذا السيل الجارف من المفردات الجديدة، وهذه العبارات اللاذعة القاتلة التي لم تبل جدتها، هذه كلها تضفي على كتابات تاستس سرعة، ولوناً، وقوة، لم يضارعه فيها كاتب آخر من الكُتّاب الأقدمين. نعم إن اللون قاتم، والمزاج نكد، والسخرية لاذعة، والنغمة كلها نغمة دانتي مجردة من رقته وحنوه؛ غير أن الأثر الذي ينتج من هذا كله قوي عارم. وإن العنصر القصصي الذي يجمع بين المهابة والإثارة، والجزالة والعنف، ليحملنا على الرغم من تحفظنا وتمنعنا في هذا النهر العكر الأسود المليء بالتشنيع الخالي من الرأفة. فترى شخصية في أثر شخصية تظهر على مسرح الحوادث؛ ثم يقضى عليها؛ ومظهراً في أثر مظهر يدفع أمامنا حتى يبدو لنا أن رومة كلها قد دمرت، وأن كل من اشتركوا في الصراع قد هلكوا، وحتى لا نكاد نصدق حين نخرج من هذا الجو المليء بالرعب والهول، أن هذا العهد الاستبدادي المفعم بالجبن والفساد الخلقي قد أعقبه مجد الملكية أيام هدريان والأنطونينيين، وتأدب أصدقاء بلني الهاديء.

ولقد أخطأ تاستس في ازدرائه الفلسفة- ونعني بها مراعاة التناسب في كتابته. وإن عيوبه كلها لترجع إلى هذا النقص. ولو أنه استطاع أن يهذب قلمه، ويسيطر عليه، ويسخره لخدمة عقله الواسع، لوضع اسمه في مقدمة أسماء أولئك الرجال الذين بذلوا جهودهم ليخلدوا تراث البشرية، ويصوروا هذا التراث في صورة حية خالدة.


الفصل الثاني: جوفنال

ومما يؤسف له أن جوفنال يؤيد تاستس ويعزز أقواله. فالذي يكتبه ثانيهما عن الزعماء والشيوخ في نثر حاد نافذ في الصميم، ينشده أولاهما عن النساء والرجال في شعر لاذع قارص. كان دسيمس جونيوس جوفنالس Decimus Junius Juvenalis إبن أحد المعاتيق الأثرياء. وقد ولد في أكوينم Aquinum من أعمال لاتيوم Latium في عام 59. وجاء إلى رومة يطلب العلم، وأخذ يمارس في صناعة المحاماه "ليتسلى بها". وتدل أشعاره الهجائية على ما ينتاب الأذواق الريفية من دهشة وصدمة إذا ما إلتقت بصخب حياة المدن المنحلة. ولكن يبدو مع هذا أنه كان صديقاً لمارتيال، الذي تدل فكاهاته على أنه لم يكن من دعاة الأخلاق الفاضلة. وتقول إحدى الروايات غير الموثوق بصحتها إن جوفنال ألف قبل موت دومتيان بزمن قليل قصيدة هجائية فيما للراقصات من أثر في البلاط ووزعها على أصدقائه، ويقال إن باريس الممثل الهزلي الصامت أغضبه هذا فسعى يعمل على نفيه إلى مصر. ولسنا نستطيع أن نجزم بصحة هذه القصة، كما أننا لسنا واثقين من تاريخ عودة جوفنال إلى رومة. ومهما يكن من أمر فإنه لم ينشر شيئاً حتى مات دومتيان. وقد ظهر المجلد الأول من قصائده الهجائية الست عشرة في عام 101، ثم ظهر الباقي منها في أربعة مجلدات على فترات متقطعة في أثناء حياته الطويلة، وأكبر الظن أنها كانت ذكريات من عهد دومتيان الذي لم يعف الشاعر عما لحقه من أذى فيه، ولكن الحقد وهو السبب في وضوحها وقوتها وارتيابنا في صدقها ليوحي بأن سني "الأباطرة الصالحين" القليلة لم تمح المساوىء التي يندد بها. أو لعله قد اختار الهجاء لأنه من الأساليب التي تميز الرومان من غيرهم من الشعوب. وأنه وجد أمثلة يحتذيها، ومادة يقتبسها في كتابات لوسليوس، وهوراس، وبرسيوس؛ وصاغ سخطه وغضبه على أساس المباديء البيانية التي تعلمها في المدرسة. والحق أنا لا نعرف مقدار التقدم الذي خلعه على الصورة التي في ذهننا عن رومة الإمبراطورية، وما كان يجده الكُتّاب والشعراء من لذة في التشهير والسباب. ويتخذ جوفنال كل شيء موضوعاً لشعره. وهو لا يجد قط مشقة في أن يجد في كل شيء ناحية تتحمل الذم، ويظن "أننا قد وصلنا إلى الدرجة القصوى في الرذيلة، وأن من يأتون بعدنا لن يستطيعوا أن يتفوقوا فيها علينا" وهو صادق في هذا. ولقد كان أصل البلاء كله طلب الثروة بجميع الوسائل الطيب منها والخبيث. وهو يسخر من العالمة الذين كانوا في الأيام الخالية يحكمون الجيوش ويخلعون الملوك، ولكنهم أضحوا الآن يُشترون بالخبز والألعاب(23). وتلك عبارات من مئات العبارات التي خلدها جوفنال بقوته وحيويته. وهو يستنكر ذلك السيل المتدفق من الوجوه، والثياب، والأساليب، والروائح، والآلهة الشرقية؛ ويحتج على نزعة اليهود القبلية، وأقل من يحبه من الخلق هو "اليوناني القميء الشره" وهو السلالة المنحطة لشعب كان من قبل عظيماً ولكنه لم يكن قط شريفاً. وهو يظهر اشمئزازه من المخبرين، أشباه رجيلس Regulus الذي يصفه بلني، والذين يثرون بنقل ما ينطق به الأفراد من عبارات "غير وطنية"؛ ومن الذين يجرون وراء الوصايا فيحومون حول من لا أبناء لهم من الطاعنين في السن؛ ومن حكام الولايات الذين يعيشون طول حياتهم عيشة الترف بما يبتزونه من الأموال في أثناء حكمهم؛ ومن المحامين النابهين الذين يطيلون القضايا كما يطيل العنكبوت نسيجه الذي يتبرزه من بطنه؛ وأشد ما يعافه هو الإفراط في الصلات الجنسية والشذوذ الجنسي: الخليع المتهتك الذي إذا تزوج وجد أن عهره قد جعله ضعيفاً عاجزاً؛ ومن الشبان المنافقين الذين لا نستطيع أن نميزهم من النساء لتشبههم بهن في أخلاقهم، وتعطرهم، وشهواتهم؛ ومن النساء اللائي يعتقدن أن معنى التحرر أن يتشبهن في كل شيء بالرجال حتى لا تستطيع تمييزهن منهم.

وقد خص الجنس اللطيف بقصيدته الهجائية السادسة وهي أشد قصائده صرامة. نرى فيها بستيومس Postumus يفكر في الزواج، فيحذره جوفنال من التورط في هذا العمل، ثم يصور الشاعر نساء رومة ويصفهن بأنهن أنانيات، سليطات، مخرفات، مسرفات، كثيرات الشجار، متعجرفات، مغرورات، محبات للنزاع، زانيات، لا يكدن يتزوجن حتى يطلقن، ويستبدلن الكلاب المدللة بالأطفال"(24). ويخلص من هذا الوصف إلا أنه لاتكاد توجد في رومة كلها إمرأة خليقة بأن تكون زوجة. ويقول إن الزوجة الصالحة عصفور نادر، أندر من الغراب الأبيض. ويدهشه أن بستيموس يفكر في الزواج على حين أن هناك "حبالاً كثيرة للشنق، ونوافذ كثيرة عالية شاهقة يستطاع الوصول إليها؛ وعلى حين إن جسر إيميليوس لا يبعد عنه إلا قليلاً". حذار أن تتزوج، بل إبق عزباً، واخرج من مستشفى المجانين الذي يحطم الأعصاب والذي يسمونه رومة، وعش في بلدة إيطالية هادئة، تلتقي فيها برجال أشراف، وتأمن فيها على نفسك من المجرمين والشعراء، والمباني المنهارة، واليونان(27). واطرح المطامع وراء ظهرك، فإن الهدف لا يستأهل ما يبذل في الوصول إليه من جهود. ألا ما أطول الجهد، وما أقصر ما يعقبه من صيت. عش عيشة بسيطة، وازرع حديقتك، ولا تطلب أكثر مما يسد رمقك، ويطفيء ظمأك، ويرد عنك البرد والحر(28). وعود نفسك الرأفة، وأشفق على الأطفال، وكن ذا عقل سليم في جسم صحيح(29). والأبله وحده هو الذي يرجو طول الأجل. وليس من العسير علينا أن نفهم هذا المزاج. ذلك أن مما يسر له الإنسان أن يفكر في نقائص جيرانه وفي ضعة العالم وحقارته إذا قورن بأحلامنا. وإن مما يضاعف سرورنا ونحن نفكر هذا التفكير أن نرى هذه الآراء مصوغة في ألفاظ جوفنال التي جمعها من ألسنة الغوغاء في أزقة المدن وأشعاره السلسة السداسية الأوتاد، وفكاهته الساخرة، وأسلوبه البذيء. ولكن ليس من حقنا أن نأخذ بحرفية أقواله. لقد كان يكتب وهو غاضب، لأنه لم يشق طريقه في رومة بالسرعة التي كان يرجوها. وكان يحلو له أن يثأر لنفسه بأن يكيل الضربات قوية لكل من حوله مدفوعاً إلى ذلك بحقده الذي لم يدع في يوم من الأيام أنه حقد عادل. لقد كان معياره الخلقي عالياً وسليماً وإن كان قد لوثته أهواء المتحفظين وآراؤهم الخاطئة عن الماضي الطاهر الشريف. وفي وسعنا إذا استمسكنا بهذه المعايير، واتبعناها في غير رحمة واعتدال، أن ندين أي جيل من الناس في أي مكان. وقد أدرك سنكا قدم هذا اللهو فكتب يقول: "لقد كان أسلافنا يشكون، ولا نزال نحن نشكو، وسيظل أبناؤنا وأحفادنا يشكون، من فساد الأخلاق، ومن تمكن الشر من النفوس، ومن تردي الناس في مهاوي الخطايا كل يوم أكثر من الذي قبله، ومن أحوال الناس تنتقل من سيء إلى أسوأ منه(30). إن من وراء الفساد الخلقي الظاهر في كل مجتمع دائرة من الحياة السليمة يتسع نطاقها إتساعاً مستمراً ويكفي ما فيها من خيوط التقاليد، وأوامر الدين التي تحض على الخلق الصالح، وما تفرضه الأسرة من واجبات إقتصادية، وما تدفع إليه الغريزة من حب الأبناء والعناية بأمرهم، وما للمرأة ورجال الشرطة من رقابة، يكفي ما فيها من هذا كله لأن يجعلنا أمام الناس مؤدبين محتشمين عاقلين معتدلين. لقد كان جوفنال أعظم الهجائين الرومان، كما كان تاستس أعظم المؤرخين الرومان، ولكنا نخطيء إذا أخذنا الصورة التي يرسمانها على أنها صورة صحيحة، كما نخطئ إذا قبلنا من غير بحث وتمحيص المنظر الراقي الجذاب الجميل الذي يتراءى أمامنا ونحن نقرأ رسائل بلني.


الفصل الثالث: سيد روماني كامل

لما ولد في كومو Como سمي بلينيوس كاسيليوس سكندس Plinius Caecilius Secundus. وكان لأبيه ضيعة وقصر صغير ذو حديقة قرب البحيرة، وكان يشغل منصباً كبيراً في المدينة. وتيتم وهو صغير فتبناه وعلمه أولاً فرجينيوس روفس Virginius Rufus وإلى ألمانيا العليا، ثم عمه كيوس بلينيوس سكندس Caius Plinius Secundus مؤلف كتاب التاريخ الطبيعي. وتبنى هذا العالم المجد ابن أخيه وأورثه ملكه ثم مات بعد ذلك بقليل. وتسمى الولد باسم متبنيه كما جرت به العادة في تلك الأيام، وأدى ذلك إلى ارتباك في الأسماء ظل قائماً ألفي عام. وتلقى العلم في رومة على كونتليان، فنشأه على تذوق شيشرون، وإليه يرجع بعض الفضل في أسلوب بلني الشيشروني السلس. ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره قيد في جدول المحامين، وفي التاسعة والثلاثين اختير لإلقاء خطاب ترحيب بتراجان. وفي السنة نفسها عُيّن قنصلاً؛ وفي عام 103 عُيّن عرّافاً؛ وفي عام 105 عُيّن "حارساً على مجرى التيبر وضفتيه وعلى مجاري المدينة". ولم يكن يأخذ أجراً أو هدايا على أعماله القضائية، ولكنه كان واسع الثراء، في وسعه أن يكون كريماً عظيماً. وكانت له أملاك في إتروريا، وبنفنتم، وكومو، ولورنتم، وعرض ثلاثة ملايين سسترس ثمناً لملك آخر(31).

وكان يفعل ما يفعله كثيرون من أشراف ذلك الوقت فيتسلى بالكتابة: كتب أولاً مأساة يونانية، ثم عدة قصائد، كلها خفيفة الروح، وبذيئة في بعض الأحيان. ولما للامه بعضهم على هذا اعترف بخطئه ولكنه لم يرجع عنه، وعرض مرة أخرى أن "يندفع في تيار المرح، والفكاهة واللهو، ويندمج في روح أشد أنواع الأدب خلاعة وفجوراً"(32). ولما سمع الناس يثنون على رسائله، ألّف بعضها لينشر، ونشرها في فترات متقطعة بين عامي 97، 109. وإذ لم يكن ينشر هذه الرسائل للجمهور فحسب، بل كان يقصد أيضاً أن تستمتع بها الأوساط التي يصفها فيها، فقد تجنب وصف النواحي القاتمة من الحياة الرومانية، وأغفل المسائل الفلسفية والسياسية الواسعة لأن فيها من الجد أكثر مما يتفق مع غرضه. وتنحصر قيمة هذه الرسائل في صدقها وظرفها، وفيما تضفيه الخلق الروماني وعلى أساليب الأشراف من أضواء وردية براقة. ويكشف بلني عن نفسه بنصف الصراحة التي يكشف بها عن نفسه منتاني وبكل ما في كتابات منتاني من سلاسة التعبير. وهو يتصف بالغرور الذي يستطيع أي مؤلف أن يتحاشاه، ولكن صراحته في غروره هذا تجعله غروراً لا يكاد يسيء. انظر مثلاً إلى قوله: "إني لأعترف ألا شيء أقوى أثراً فيّ من الرغبة في أن يخلد اسمي"(33). وهو يقدر غيره كما يقدر نفسه، ويقول إن "في وسع الإنسان أن يثق بأن شخصاً ما يتصف بكثير من الفضائل إذا سمعه يعجب بفضائل غيره"(34). ومهما تكن عيوب بلني فإن مما يستريح له الإنسان بعد دراسة جوفنال وتاستس، أن يستمع إلى مؤلف يثني على بني جنسه. ولقد كان كريماً في أعماله كما كان كريماً في أقواله، لا يتردد قط في أن يفعل المعروف، ويقرض المال، أو يقدم الهدايا، ولا يضن بعمل الخيرات على إختلاف أنواعها، سواء كانت شخصية كالبحث عن زوج لأبنة أخ صديق، أو زيادة ثروة المدينة التي ولد فيها. ولما وجد أن كونتليان عاجز عن أن يقدم لأبنته بائنة تليق بمقام الرجل الذي ستتزوج به، بعث إليها بخمسين ألف سسترس، واعتذر في الوقت نفسه عن حقارة الهدية(35). ووهب رفيقاً قديماً له في الدراسة ثلثمائة ألف سسترس، ليمكنه من أن ينضم إلى طبقة الفرسان؛ ولما وجد أن إبنة صديق له حُمّلت بعد موت أبيها بديون باهظة أداها كلها عنها، وأقرض مبلغاً كبيراً إلى فيلسوف نفاه دومتيان وتعرض بذلك لبعض الخطر. ووهب كومو هيكلاً، ومدرسة ثانوية، ومعهداً للأطفال الفقراء، وحمّاماً للبلدية، وأحد عشر ألف سسترس لإنشاء مكتبة عامة.

وأكثر ما يسر له الإنسان من صفاته هو حبه لموطنه، أو إن شئت فقل لمواطنه، وهو لا يذم رومة، ولكنه يكون أسعد حالاً في كومو أو لورنتم بالقرب من البحيرة أو البحر. وأهم ما كان يعمله هناك هو القراءة وعدم القيام بعمل ما. وهو يحب حدائقه، وما وراءها من المناظر الجبلية؛ ولم يكن عليه أن ينتظر روسو ليعلمه حب الطبيعة. وهو يتحدث بمنتهى الحنان عن زوجته الثالثة كلبيرنيا Calpurnia فيصف طبعها الحلو، وعقلها الصافي، وابتهاجاً بنجاحه، وحبها لكتبه، ويعتقد أنها قد قرأتها كلها وأنها تحفظ الكثير من صحائفها عن ظهر قلب. وقد لّحنت قصائده وغنتها، وكان لها قصة خاصة من الرسل يأتونها بجميع ما يحدث من التطورات أثناء نظره في قضية هامة. ولم تكن هي إلا واحدة من نساء كثيرات طيبات في محيطه. فهو يحدثنا عما تتصف به في الفتاة الرابعة عشرة من عمرها من تواضع، وصبر، وشجاعة. وكانت هذه الفتاة قد خطبت من وقت قصير ولكنها ما لبثت أن عرفت أنها مصابة بداء عضال لا تشفى منه، فأخذت تنتظر منيتها وهي مبتهجة(36). ويحدثنا كذلك عن زوجة بمبيوس سترنينس Pompeius Saturninus التي كانت رسائلها لزوجها أناشيد حب ونماذج باللغة اللاتينية الظريفة(37)؛ وعن فانيا Fannia إبنة ثرازيا Thrasaea التي قاست آلام النفي دون أن تشكو أو تتململ لأنها دافعت عن زوجها هلفديوس، والتي مرضت قريباً لها في أثناء إصابته بمرض خطر، فأصيبت بذلك المرض وقضى على حياتها؛ ثم يقول فيها: "ألا ما أكمل فضائلها، وطهرها، واستقامتها، وشجاعتها!"(38).

وكان له مائة صديق، بعضهم من العظماء، وكلهم من خيار الناس، وقد انضم إلى تاستس في محاكمة ماريوس برسكس لخيانته وقسوته في أثناء ولايته على أفريقية. وصحح كلا الخطيبين خطبة صاحبه، وأثنى عليه أجمل الثناء. وأشاد تاستس بلني ورفعه إلى عنان السماء، حين قال إن عالم الأدب اعترف بهما زعيمي الكتاب في عصرهما(39). وكان يعرف مارتيال، ولكنه يعرف من بعيد معرفة الأرستقراط. واستصحب معه ستونيوس إلى بيثينيا، وساعده على التمتع بميزة من "له ثلاثة أبناء" دون أن يكون له إبن واحد. وكان محيطه يطن بهواة الأدب والموسيقى، وبمن ينشدون الشعر ويلقون الخطب على الجماهير. وفي ذلك يقول العالم بواسييه Boissier: "لست أعرف أن الأدب كان يحبه الناس في عصر من العصور بالقدر الذي كان يحبه به أهل ذلك العصر"(40). فقد كانوا يدرسون هومر وفرجيل على ضفاف الدانوب؛ وكانت البلاغة تزلزل نهري الرين والتيمز. لقد كان النصف الأعلى من ذلك المجتمع ظريفاً، أنيساً، محبوباً، غنياً بما فيه من أزواج متحابين، وآباء عاطفين، وسادة رحماء، وأصدقاء أوفياء، ومجاملات لطيفة. وقد جاء في إحدى الرسائل: "إني أقبل دعوتك للعشاء، ولكني أشترط عليك مقدماً أن تأذن لي بالخروج بعد قليل، وأن تكون مقتصداً فيما تقدمه إلي، وألا تجعل مائدتنا تزدحم إلا بالأحاديث الفلسفية، وحتى هذه دعنا نستمتع بها في نطاق محدد"(42).

وكان أكثر الرجال الذين يصفهم بلني من الأشراف الجدد الذين نشأوا في الولايات. ولم يكن هؤلاء ممن لا يقومون بعمل، لأنك لا تكاد تجد واحداً منهم لا يشغل منصباً عاماً أو لا يشترك في الإدارة البارعة التي كانت تدير شئون الإمبراطورية في عهد تراجان. وقد عُيّن بلني نفسه والياً على بيثينيا بعد أن كان بريتوراً في رومة ليعيد إلى بعض مدنها مقدرتها على أداء ديونها. وتشمل رسائله بعض الأسئلة الموجهة إلى الزعيم، ومعها إجابات تراجان السديدة. وهي تظهره بلني بمظهر الرجل الذي ينجز مهمته بمقدرة وأمانة، وشرف، وإن كانت تظهره أيضاً بمظهر الرجل الذي يعتمد على نصيحة الإمبراطور في كل صغيرة وكبيرة. وهو يرجو الإمبراطور في رسالته الأخيرة أن يغفر له إرساله زوجته المريضة في عربات البريد الإمبراطوري. ويختفي بلني بعد هذه الرسالة من ميدان الأدب والتاريخ، تاركاً وراءه ما يعوضنا عن فقده- صورة الروماني السميذع، لإيطاليا في أسعد أيامها.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: اضمحلال الثقافة

لو أننا أحطنا هذه الشخصيات البارزة بأضواء أقل من أضوائها لطمسناها وأخفيناها عن أعين الناظرين. ذلك بأنه لم يخلفها في الآداب اللاتينية الوثنية جبابرة أمثالها، لأن العقل قد بذل كل ما كان يدخره من جهد من عهد إنيوس إلى عهد تاستس حتى لم يبق لديه جهد مدخر. ولهذا فإنا نصدم أكبر صدمة حين ننتقل من عظمة كتابي التواريخ والحوليات إلى كتاب ستونيوس المزري المسمى حياة الرجال النابهين (110). ففي هذا الكتاب ينحط التاريخ حتى يصبح مجرد سير، وتنحط السير حتى تصير قصصاً. وتمتليء صفحات الكتاب بالنذر، والمعجزات، والخرافات. ولم يرفع الكتاب إلى منزلة الكتب الأدبية إلا الأسلوب الإليصاباتي الذي ترجمه به فليمون هليند Philemon Holland (1606). وأقل من هذا إثارة للاشمئزاز الانحدار من رسائل بلني إلى رسائل فرنتو. ولعل هذه الرسائل الأخيرة لم يكن يقصد نشرها، وليس من العدل لهذا السبب أن نفاضل بينها وبين رسائل بلني. لكننا يجدر بنا أن نقول إن بعضها قد أفسده جرى الكاتب وراء العبارات العتيقة، وإن كان في الكثير منها شيء من العطف الحقيقي الذي يشعر به المعلم نحو تلميذه. وقد أيد أولس جليوس Aulus Gellius حركة الرجوع إلى العبارات العتيقة في كتابه الليالي الأتكية (169)- وهو أكبر مجموعة من السخافات الحقيرة التافهة في الأدب القديم؛ ووصل أبوليوس Apuleius بهذه الحركة إلى غايتها في كتابه المسمى الحمار الذهبي. وقد جاء أبوليوس وفرنتو من أفريقية وربما كان من أسباب نشأة هذه الهواية أن الأدب اللاتيني في تلك البلاد لم يكن قد اختلف عن لغة الشعب والجمهورية بقدر اختلافه عن هذه اللغة في رومة. وكان فرنتو قوي الاعتقاد بأن من الواجب أن يقوى الأدب بلغة الشعب، كما يجدد الإنسان قوة النبات بتقليب الأرض عند جذوره. لكن الشباب لا يعود قط إلى حياة الرجل، أو الأمة، أو الأدب أو اللغة . لقد كانت النزعة الشرقية قد بدأت تدب في هذه الكتب، ولم يكن من المستطاع وقف سيرها. وكانت اللغة اليونانية العامية المنتشرة في الشرق الهلنستي ورومة المستشرقة تصبح شيئاً فشيئاً لغة الأدب، ولغة الحياة جميعاً. وقد اختارها تلميذ فرنتو ليكتب بها تأملاته، وكما اختار أبيان Appian، وهو يوناني اسكندري اتخذ رومة موطناً له، اللغة اليونانية ليكتب بها كتابه الواضح الساطع في تواريخ حروب رومة (حوالي 160)؛ وكذلك فعل كلوديوس إيليان Claudius Aelian. وهو رجل روماني المولد والدم، وكتب ديوكاسيوس، وهو رجل روماني من أعضاء مجلس الشيوخ، بعد نصف قرن من ذلك الوقت، تاريخاً لرومة باللغة اليونانية. ذلك أن زعامة الأدب قد أخذت وقتئذ تعود من رومة إلى الشرق اليوناني، على أن هذه العودة لم تكن عودة إلى الروح اليونانية الأصيلة، بل إلى الروح الشرقية، وإن كانت تستخدم اللغة اليونانية. لقد وجد في الأدب اليوناني بعد هذا الوقت جبابرة، ولكنهم كانوا قديسين مسيحيين. وكان اضمحلال الفن الروماني أبطأ من اضمحلال الآداب اليونانية. ذلك أن الكفاية الفنية قد طال عهدها وأخرجت طائفة قديرة من المباني، والتماثيل، والصور، والفسيفساء. ومن أمثلة تحف ذلك العصر رأس نيرفا المحفوظ في الفاتيكان، والذي يتمثل فيه الطابع الواقعي الواضح الذي نشاهده في الصور الفلافية؛ وعمود تراجان مثل من النقوش الرائعة رغم كثرة ما فيه من فجاجة. ولقد بذل هدريان جهوداً مضنية لأحياء الفن اليوناني القديم، ولكنه لم يجد من يغدق عليه ماله وعونه كما أغدق بركليز المال والعون على فدياس. يضاف إلى هذا أن الإلهام الذي كان يحرك بلاد اليونان بعد مرثون، ويحرك رومة بعد أكتيوم، كان معدوماً في عصر يكبل فيه الناس أنفسهم بالقيود، ويصطنعون القناعة ويجنحون للسلم. ومن أجل هذا نرى تماثيل هدريان النصفية تعوزها الصفات المميزة لشخصيته لما فيها من خطوط هلنستية ملساء؛ ورأساً بلوتيناً وسابينا جميلتان، ولكن النفس تشمئز من صور أنثينووس لما فيها من تفاهة مخنثة ناعمة. وأكبر الظن أن هدريان قد أخطأ إذ حاول العودة إلى الفن اليوناني القديم: فقد قضى بهذه المحاولة على ما كان يمتاز به فن النحت الغلافي والتراجاني من نزعة طبيعية وفردية دافعة قوية، كانت لها جذور متأصلة في التقاليد والأخلاق الإيطالية، وما من شك في أن شيئاً ما لا يستطيع أن يتضح إلا عن طريق تحقيق طبيعته الخاصة به. وقفز فن النحت اليوناني إلى قرب ذروته في عهد الأنطونينيين، بل إنه وصل في هذا العهد إلى درجة الكمال مرة واحدة على الأقل، وذلك في صورة فتاة مثل فيها رأسها المقنع وثيابها المتواضعة تمثيلاً رقيقاً ساحراً، وبخطوط غاية في القوة(43). وتكاد تضارعها في الجمال صورة فوستينا لماركس، وهي التي تثير من الشهوة ما يتفق مع لمزات التاريخ. وقد نحتت لأورليوس نفسه أو صبت له تماثيل لا تقل أشكالها عن ألف شكل تختلف من تماثيل الكبتول النصفي الذي يمثله شاباً مفكراً سليماً من المكر والخداع ولكنه شديد الحساسية،إلى تمثاله في هذه المجموعة نفسها والذي يمثله في صورة أستاذ ذي شعر ملتو ودروع سابغة. وليس ثمة سائح يجهل تمثال الإمبراطور أورليوس الفارس ذلك التمثال البرنزي الفخم الذي يشرف، من يوم أعاده ميكل أنجلو، على ساحة الكبتول. وبقي النقش البارز إلى آخر العهود فناً رومانياً محبوباً. وعادت في أيام هدريان العادة التسكانية والهلنستية، عادة حفر المناظر الاسطورية والتاريخية على التوابيت حين اتخذ الأمل في الخلود صورة شخصية بل صورة جسمية، وحل دفن جثث الموتى محل إحراقها. وتظهر إحدى عشرة لوحة باقية من أقواس النصر التي أقيمت لتخليد ذكرى حروب أورليوس الطراز الطبيعي في أكمل أشكاله: فليس في هذه اللوحات صورة واحدة لشخص قد رسم على أنه مثل أعلى للأشخاص، بل إن لكل فرد فيها خصائصه الفردية التي يمتاز بها من غيره، فصورة ماركس وهو يستقبل في غير فخر أو كبرياء خضوع أعدائه المغلوبين صورة يستثير صاحبها الحب، والمغلوبون لا يظهرون كأنهم برابرة همج بل يبدون في صورة رجال خليقين بكفاحهم الطويل في سبيل حريتهم. وقد أقام مجلس الشيوخ والشعب في عام 174 عمود أورليوس الذي لا يزال يزين الساحة التي يقيم فيها، وقد استلهم من أقاموه فكرته من عمود تراجان، فصوروا فيه الحروب المركمانية وأظهروا في فنهم هذا من العطف ما يشرف الغالبين والمغلوبين على السواء.

وكانت روح الإمبراطور هي التي ساعدت على تشكيل فن هذا الوقت وأخلاقه. ذلك أن الألعاب في أيامه كانت أقل قسوة، وأن القوانين كانت أكثر رعاية للضعفاء، وكان الزواج فيما يبدو أدوم وأرضى للزوجين. نعم إن الفساد الخلقي قد بقي كما كان في كل العهود، تجهر به القلة، وتخفيه الكثرة، ولكنه كان قد جاوز غايته في عهد نيرون، ولم يعد هو طراز الوقت المحبب، وأخذ الرجال والنساء يعودون إلى الدين القديم، أو يهبون أنفسهم لأديان جديدة، ووافقهم الفلاسفة على هذا وذاك. وغصت رومة وقتئذٍ بأولئك الفلاسفة، فمنهم من دعاهم أورليوس، ومنهم من رحب بمجيئهم، ومنهم من سمح لهم بالإقامة. وقد أفادوا كل الإفادة من كرمه وسلطانه، فازدحم بهم بلاطه، ونالوا منه المناصب والهبات، وألقوا ما لا يحصى من المحاضرات، وافتتحوا كثيراً من المدارس، ووهبوا العالم في شخص تلميذهم الإمبراطور مجد الفلسفة القديمة وانحلالها.


الفصل الخامس: الإمبراطور الفيلسوف

جلس ماركس أورليوس في خيمته قبل موته بست سنين ليصوغ أفكاره عن الحياة البشرية ومصيرها. ولسنا واثقين من أن كتابه المسي "إلى نفس" كان يقصد به أن تطلع عليه أعين الجماهير، ولكنا نرجح أن هذا كان قصده لأن الناس جميعاً، حتى القديسين، لا يسلمون من الغرور، ولأن أعظم رجل عامل مجد تمر به لحظات من الضعف يتمنى فيها أن يكتب كتاباً. ولم يكن ماركس مؤلفاً قديراً، وقد أضاع معظم ما علمه إياه فرنتو من اللغة اللاتينية لأنه أخذ يكتب باللغة اليونانية. هذا إلى أن تلك "الأفكار الذهبية" قد كتبت في الفترات التي تتخلل أسفاره، وحروبه، وما كان يقع في البلاد من فتن واضطرابات كثيرة. وليس لنا أن نلومه لأنه جعلها متقطعة غير منسجمة، ولأنه يعمد فيها إلى التكرار الكثير، ولأنها في بعض الأحيان مسئمة مملة، ولأن قيمة الكتاب لا تعتمد إلا على محتوياته- على رقته وصراحته، وعلى ما يكشفه دون وعي كامل منه عن نفسية تجمع بين الوثنية والمسيحية، وبين العصر القديم والعصر الوسيط.

وكان أورليوس يرى كما ترى كثرة فلاسفة زمانه أن الفلسفة ليست وصفاً نظرياً للانهاية، بل هي مدرسة لتعليم الفضيلة وطريقة للحياة. وقلّما كان يشغل باله في البحث عن حقيقة الله، وتراه يتحدث أحياناً كما يتحدث اللا أدريون، فيعترف أنه لا يعرف، ولكنه بعد أن يقر على نفسه هذا الإقرار يقبل دين آبائه وأجداده بتقوى الرجل الساذج، ويسأل نفسه قائلاً: "وماذا يعود على من حياتي في عالم خالٍ من الآلهة ومن قوة تصرف شئونه؟"(44) وكان إذا تحدث عن الله تحدث عنه تارةً بصيغة المفرد وتارةً بصيغة الجمع، وفي حديثه كل ما في سفر التكوين من عدم مبالاة. وهو يصلي ويقرب القرابين للآلهة القدامى، ولكنه في خبيئة نفسه يؤمن بألوهية الكون، ويتأثر أشد التأثر بنظام العالم وكلمة الله فيه، وهو يحس كما يحس الهنود باعتماد العالم والإنسان كل منهما على الآخر. ويثير عجبه نمو الطفل من بذرة صغيرة، لا تلبث أن تتشكل فتكون لها أعضاء، وقوة، وعقل، وأماني، وكل ذلك بقليل من الطعام(45). ويعتقد أننا لو استطعنا أن نفهم الكون على حقيقته لوجدنا فيه كل ما في الإنسان وقوة خالقة مبدعة ويقول: "إن الأشياء جميعها متشابكة بعضها ببعض، والرابطة التي بينها رابطة مقدسة.... وفي الأشياء العاقلة كلها عقل مشترك، وثمة إله واحد يسري في كل شيء، ومادة واحدة، وقانون واحد، وحقيقة واحدة... وهل يمكن أن يكون فيك أنت نظام واضح، وفي الكون كله اضطراب واختلال؟"(46). وهو يعترف بما يجده الإنسان من صعوبة في التوفيق بين الشر والألم والشقاء الذي يبدو أن الإنسان لا يستحقه، وبين وجود قوة مدبرة خيّرة، ولكنه يعقب على هذا بقوله إننا لا نستطيع أن نحكم على موضع عنصر أو حادثة في نظام الأشياء إلا إذا رأينا هذه الأشياء كلها، ومنذا الذي يدّعي أنه أوتي القدرة على أن ينظر إلى الأشياء هذه النظرة الجامعةويدرك علاقتها بعضها ببعض؟ ولهذا كان من السخف والوقاحة أن نحكم على العالم؛ وإنما تكون الحكمة في الاعتراف بعجزنا وفي العمل على أن نكون أجزاء متناسقة مع النظام العام للكون، وأن نحاول أن نستشف ما وراء جسم العالم من عقل، وأن نتعاون معه راضين مختارين. ومتى أدرك الإنسان هذه الفكرة أدرك أن "العدل في كل ما يحدث" أي أنه يحدث وفقاً لمنهج الطبيعة(47)، ولا يمكن أن يكون شيء يحدث وفقاً لمنهج الطبيعة شراً(48). وكل شيء طبيعي جميل في نظر من يفهم(49)؛ وكل شيء يقرره العقل العالمي العام أي المنطق الكامن في جميع الأشياء، وعلى كل جزء أن يرحب، في رضاء وابتهاج، بنصيبه المتواضع وبمصيره. "والاتزان" (وهو الذي أوصى به أنطونينس ساعة وفاته) هو أن يقبل الإنسان طائعاً مختاراً كل ما تحدده طبيعة المجموع كله"(50). "كل ما يوائمني يوائمك أيها الكون، وليس شيء يحدث في الوقت الذي يناسبك يحدث لي مبكراً عن موعده أو متأخراً عنه. وكل شيء تأتي به فصولك أيتها الطبيعة ثمرة ناضجة لي، كل الأشياء تصدر منك، وكل الأشياء مستقرة فيك، وكل الأشياء عائدة إليك(51). وكل ما للمعرفة من قيمة أنها أداة للحياة الصالحة. "وما الذي يرشد الإنسان ويهديه إذن؟ لا شيء إلا الفلسفة"(52)- على أن لا تكون منطقاً أو علماً، بل تدريباً على السمو الخلقي دائماً متصلاً "كن مستقيماً وإلا فلتقوم"(53). ولقد وهب الله الإنسان ديموناً أو روحاً داخلية- هي عقله. والفضيلة هي حياة العقل. "تلك هي مباديء النفس العاقلة، وهي تسري في الكون كله، وتشرف على شكله، وتمتد إلى الأبدية، وتحتضن التجدد الدوري لجميع الأشياء، وتدرك أن من سيخلفوننا لن يروا شيئاً جديداً، وأن من سبقونا لم يروا أكثر مما رأينا، بل إن من في الأربعين من عمره، إذا كان لديه شيء من الادراك، قد رأى بطريقة ما، وبفضل هذه الوحدة المتناسقة، كل ما كان وما سيكون"(54).

ويرى ماركس أم مقدماته تضطره إلى أن يكون من المتزمتين وهو يقول: "ليست اللذة طيبة أو نافعة"(55). وهو ينبذ الجسم وكل أعماله ويتحدث أحياناً كما يتحدث ماركس أنطونيوس.

"ألا فانظروا إلى حقارة الأشياء وسرعة فنائها؛ إن ما كان بالأمس قطعة صغيرة، سيصبح غداً جثة أو رماداً.... وما أكثر شقاء الجسم الذي يجتازها به!... قلبها ظهراً لبطن تر أية حياة هي(56). والعقل في رأيه يجب أن يكون حصناً محرراً من الشهوات الجسمية، والغضب، والحقد؛ ويجب أن يكون منهمكاً في عمله انهماكاً لا يكاد يلاحظ معه تقلبات الحظوظ أو سهام العداوات. "إن قيمة كل إنسان تعدل بالضبط قيمة ما يشغل به نفسه من الأشياء"(57). وهو يسلم كارهاً بأن في هذا العالم أشراراً، ويقول إن الطريقة التي يجب أن يتبعها الإنسان معهم هي أن يذكر أنهم أيضاً رجال، وأنهم الضحايا العاجزون لأخطائهم التي ارتكبوها مدفوعين بجبرية الحوادث والظروف(58). "وإذا أساء إليك إنسان، فالضرر واقع عليه، ومن واجبك أن تعفو عنه"(59). وإذا أحزنك وجود الأشرار من الناس، ففكر في العدد الكثير من الأخبار الذين إلتقيت بهم، وفيما يمتزج في الأخلاق غير الكاملة من فضائل كثيرة(60). والناس كلهم إخوة، أخياراً كانوا أو أشراراً، وكلهم أبناء الله ينتسبون إليه، والهمجي البشع نفسه مواطن في الوطن العام الذي ننتمي كلنا له. "فأنا بوصفي أورليوس تكون رومة وطني، وبوصفي رجلاً يكون وطني هو العالم كله"(61). ترى هل هذه فلسفة خيالية غير عملية؟ كلا، إن الأمر على عكس هذا تماماً ولا شيء أقوى أو أشد متعة من الفطرة الطيبة، إذا لازمها الاخلاص(62). إن الرجل الصالح حقاً لا تؤثر فيه مصائب الدهر، ومهما يصبه من الشر لا يسلبه نفسه:

"هل هذا (الشر) الذي أصابك يمنعك أن تكون عادلاً، كريماً، معتدلاً، حصيف الرأي... متواضعاً، حراً؟... ولنفرض أن الناس قد لعنوك، أو قتلوك، أو مزقوك إرباً! فماذا تستطيع هذه الأشياء أن تفعل لتمنع عقلك أن يبقى طاهراً، حكيماً، متزناً، عادلاً؟ وإذا وقف الإنسان بجوار نبع رائق صاف ولعنه، فإن النبع لا يقف عن إرسال الماء النظيف، وإذا دنه أو رمى فيه الأقذار، فسرعان ما يلقى بها إلى خارجها ولا يتدنس بها مرةً أخرى... ولا تنس كلما أصابتك كارثة أن تطبق هذا المبدأ القائل: إن ذلك ليس شقاء حل بك، بل إن الصبر عليه صبر الكرام هو السعادة بعينها... ألا ما أقل الأشياء التي إذا حصل عليها الإنسان استطاع أن يحيا حياة هادئة مطمئنة تشبه حياة الأرباب(63)".

بيد أن حياة ماركس لم تكن تتصف بالهدوء؛ فلقد اضطر أن يقتل الألمان وهو يكتب هذا "الانجيل الخامس"، وأن يلقى الموت آخر الأمر دون أن يجد عزاء في الابن الذي سيخلفه، وألا يكون له أمل في أن يحظى بالسعادة بعد مماته، لأن النفس والجسم على السواء، على حد قوله، يعودان إلى عناصرهما الأولى: "فكما أن تبدل الأجسام وانحالها، يفسحان المكان لأجسام أخرى كتب عليها الموت، فكذلك تتبدل الأرواح التي تنتقل إلى الهواء وتتبدد... وتتوزع في عقل العالم الأصلي وتخلي مكانها إلى أرواح جديدة(64)... لقد وجدت أنت بوصفك جزءاً من كل... وسوف تفنى في ذلك الذي أخرجك... وهذا أيضاً هو ما تريده الطبيعة... فاجتز إذن هذه الفترة القصيرة من الزمن حتى تصل هادئاً إلى الطبيعة، واختم رحلتك وأنت راض، وليكن مثلك كمثل حبة الزيتون تسقط حين تنضج، وتبارك الطبيعة التي أخرجتها، وتثني على الشجرة التي حملتها(65)".


الفصل السادس: كمودس

ولما أقبل ضابط الحرس يسأل ماركس وهو على فراش الموت عن كلمة السر لذلك اليوم أجابه بقوله: "إذهب إلى الشمس المشرقة؛ أما شمسي فهي غاربة". وكانت الشمس المشرقة وقتئذ في التاسعة عشرة من العمر، وكانت هي فتى متين البنية قوي الجسم، جريئاً، لا يصده شيء عما يريد، وليس له وازع من خلق أو خوف. ولقد كان الإنسان يتوقع أن يرى فيه أكثر مما يرى في ماركس، القديس العليل، وأن يراه أكثر مما يراه ماركس ينهج سياسة الحرب إلى النصر أو الموت. لكن الذي حدث أنه عرض من فوره الصلح إلى الأعداء. وكان ما عرضه من الشروط أن ينسحبوا من الأراضي المجاورة لنهر الدانوب، وأن يسلموا معظم أسلحتهم، ويعيدوا جميع الأسرى والفارين من الرومان، وأن يؤدوا إلى رومة جزية سنوية من الحبوب، وأن يقنعوا ثلاثة عشر ألفاً من جنودهم بالتطوع في الفيالق الرومانية(66). ولامته رومة كلها على فعلته هذه ما عدا الشعب. فأما قواده فقد استشاطوا غضباً لأنه سمح للفريسة الواقعة في الشرك أن تفلت منه لتقاتلهم مرة أخرى. على أن قبائل أراضي الدانوب لم تسبب قط متاعب للإمبراطورية في عهد كمودس.

والحق أن الزعيم الشاب، وإن لم يكن جباناً خوار العود، كان قد شهد كفايته من الحروب، وكان في حاجة إلى السلم ليستمتع بالحياة في رومة. فلما عاد إلى عاصمة ملكه انتهر مجلس الشيوخ، وأثقل العامة بالعطايا التي لم يعهدوا مثلها من قبل- فوهب كل مواطن 725 ديناراً. ولما لم يجد في السياسة ميداناً يظهر فيه شدة بأسه عمد إلى صيد الوحوش في الضياع الإمبراطورية، وبرع في استعمال السيف والقوسبراعة اعتزم معها أن يظهرها أمام الجماهير. فغادر القصر وعاش في مدرسة المجالدين فترة من الزمان، وأخذ يسوق المركبات في مباريات السباق، ويصارع الحيوانات والرجال في المجتلد(67). ولا حاجة إلى القول بأن من كانوا يتبارون معه كانوا يحرصون على أن يكون هو الفائز؛ ولكنه لم يكن يبالي أن يخرج بمفرده قبل الفطور ليقاتل فرس نهر، أو فيلاً، أو نمراً لا يعبأ قط بالملوك(68). وقد بلغ من إتقانه الرماية أن استطاع في استعراض واحد قتل مائة نمر بمائة سهم. فكان يترك النمر يهاجم مجرماً من المحكوم عليهم بالإعدام. ثم يرميه بسهم فيقتله، ويترك الرجل سليماً يواجه الموت مرة أخرى(69). وقد أمر أن تسجل هذه الأعمال المجيدة في صحيفة الحوادث اليومية، وأصر على أن يؤدى إليه من خزانة الدولة أجر على كل صراع من الألف الصراع التي قام بها.

ولقد كان المؤرخون أمثال تاستس، اللذين لا بد لنا من الرجوع إليهم في هذا الموضوع، ينظرون إلى هذه الأعمال بعين الأشراف الحانقين، ويحكمون عليها حسب تقاليدهم؛ ولهذا فإنا لا نعرف كم من العجائب التي يروونها تاريخ صحيح، وكم منها أملته الرغبة في التشهير به والثأر منه. فهم يؤكدون لنا أن كمودس كان يسكر ويقامر، ويبدد أموال الدولة، وأن في حريمه ثلثمائة إمرأة وثلثمائة غلام، وأنه يحلو له أن يكون إمرأة في بعض الأحيان، أو في القليل أن يلبس ثياب النساء حتى في الألعاب العامة نفسها. وقد رووا لنا عنه قصصاً من القسوة لا يقبلها عقل. فيقولون مثلاً إن كمودس أمر أحد كهنة بلونا Bellona أن يبتر ذراعه ليبرهن بقطعها على تقواه، وإنه أرغم بعض النساء اللائي نذرن أنفسهن لخدمة إيزيس أن يضربن صدورهن بثمارالبلوط المخروطية حتى يمتن، وإنه كان يقتل الرجال بلا تمييز بينهم بهراوة هرقل التي كان يمسكها بيده، وإنه جمع المقعدين وقتلهم بسهامه واحداً بعد واحد...(70) ويلوح أن إحدى عشيقاته كانت مسيحية، وأنه عفا من أجلها عن بعض المسيحيين الذين حكم عليهم بالعمل في مناجم سردينية.


ويوحي إخلاص هذه السيدة لكمودس بأن هذا الرجل، الذي كان أشد وحشية من الوحوش الضارية، لم يكن مجرداً من عناصر طيبة غفل عن ذكرها التاريخ. وكان خوفه من الاغتيال يدفعه، كما كان يدفع أسلافه، إلى أقسى ضروب الوحشية. من ذلك أن عمته لوسلا Lucilla ائتمرت به لتقتله، فلما كشف المؤامرة أمر بقتلها، كما أمر بقتل عدد كبير جداً من ذوي المقامات العالية، ثبت عليهم الاشتراك في المؤامرة أو حامت حولهم شبهة الاشتراك فيها. وقد بلغ من عدد القتلى أنه لم يكد يبقي على قيد الحياة أحد من ذوي المكانة في أيام ماركس. وعاد المخبرون إلى نشاطهم ومكانتهم بعد أن كادوا يختفون من رومة قرناً كاملاً، وساد المدينة عهد جديد من عهود الارهاب. وعيّن كمودس برنيس Perennis رئيساً للحرس البريتوري وأسلمه أزمة الحكم ثم استسلم هو (على حد قول الرواة) إلى الفسق والفجور، وحكم برنيس البلاد حكماً حازماً ولكنه كان حكماً صارماً خالياً من الرحمة؛ فنظم حكماً للإرهاب قتل فيه جميع معارضيه. وظن الإمبراطور أن برنيس يعتزم اغتصاب العرش لنفسه، فأسلم هذا السيجانس الثاني إلى مجلس الشيوخ. وتورط المجلس نفسه في طائفة من أعمال الانتقام المتأجج الخالي من الرحمة. وخلف برنيس في رياسة الحرس البريتوري معتوق يدعى كليندر Cleander(185)، وبزه في الفساد والقسوة، فكان أي منصب من المناصب يناله من يؤدي نظيره رشوة طيبة، وكان من المستطاع إلغاء أي حكم تصدره أية محكمة والحصول على حكم يناقضه. وقد أعدم بأمره الشيوخ والفرسان بعد أن اتهموا بالخيانة أو بانتقاد أعماله، فلما ضاق الشعب به ذرعاً حاصر الغوغاء في عام 190 القصر الذي كان يقيم فيه كمودس وطلبوا إعدام كليندر. وأجابهم الإمبراطور إلى ما طلبوا، وعيّن ليتس Laetus بدلاً منه. وظل ليتس يصرف الأمور ثلاث سنين أيقن بعدها أن منيته قد دنت، فقد وقع في يده مصادفة ثبت بأسماء المحكوم بإعدامهم، وكان يحوي أسماء أنصاره وأصدقائه ومارسيا Marcia. فلما كان آخر يوم من عام 192 قدّمت مارسيا لكمودس كأساً من السم، ولما أبطأ مفعول السم، خنقه اللاعب الذي كان قد أبقاه في الحمّام ليثاقفه، وكان وقتئذ شاباً في الحادية والثلاثين من العمر.

ولنعد إلى الوراء قليلاً فنقول إن رومة حين مات ماركس كان قد بلغت أوج عظمتها وبدأت في الاضمحلال. فقد امتدت حدودها إلى ما وراء نهر الدانوب؛ ووصلت إلى إسكتلندة، والصحراء الكبرى، وجبال القوقاز، وروسيا، وأبواب بارثيا؛ وكانت قد وهبت هذا الخليط المضطرب من الشعوب والأديان وحدة، إن لم تكن في اللغة والثقافة، فقد كانت في القليل وحدة في الاقتصاد والتشريع. وقد صاغت منها مجموعة عظيمة من الأمم المرتبطة برباط واحد؛ وكان تبادل السلع يجري في داخلها حراً موفوراً بدرجة لم يكن لها نظير من قبل؛ وظلت قرنين من الزمان تصد البرابرة عن هذه الدولة العظيمة وتهبها الأمن والسلام. وكان عالم الجنس الأبيض ينظر إليها على أنها مركز العالم كله، وأنها المدينة الخالدة القادرة على كل شيء. ولم يشهد العالم في عصر من العصور السابقة مثل ما شهده فيها من الثراء، والعظمة والسلطان. وفي وسط هذا الرخاء الذي كانت مظاهرة تتألق في رومة خلال هذا القرن الثاني كانت تنبت جميع بذور الأزماتالتي قضت على إيطاليا في القرن الثالث. وكانت لماركس اليد الطولى في خلق هذه الأزمات لأنه رشح كمودس للجلوس على العرش من بعده، ولأن ما خاضه من الحروب زاد السلطة تركيزاً في يدي الإمبراطور. فقد احتفظ كمودس في زمن السلم بالسلطات التي وضعها أورليوس في يده زمن الحرب. فذوي غصن الاستقلال الفردي والمحلي، والابتكار والأنفة بسبب نماء سلطان الدولة واتساع دائرة اختصاصها، ونضبت موارد ثروة الأمم بما فرض عليها من الضرائب التي أخذت أعباؤها تزداد زيادة مستمرة على مر الأيام، لكي تقاوم بها بيروقراطية تضاعف نفسها، وبسبب حروب العدوان التي ما فتئت الدولة تثير عجاجها للدفاع عن نفسها. وأخذت ثروة إيطاليا المعدنية تتناقص(7)، وقضت الأوبئة والمجاعات على الكثيرين من أهلها، وظهر عجز نظام الزراعة باستخدام الأرقاء، وأقفرت خزانة الدولة من الأموال وانحطت قيمة العملة بسبب الزيادة المطردة في نفقات الحكومة وفي إعانة العجزة والمساكين. وأخذت الصناعات الإيطالية تخسر أسواقها في الولايات لمنافسة الولايات نفسها لهذه الصناعة، ولم توضع قط سياسة اقتصادية حكيمة لتعوض البلاد عن التجارة الأجنبية الكاسدة بتوزيع قوة الشراء في داخل البلاد على نطاق أوسع من ذي قبل. وبينما كان هذا يحدث في إيطاليا نفسها كانت الولايات قد أخذت تفيق مما أصابها من جراء انتزاع ثروتها على أيدي صلا، وبمبي، وقيصر، وكاسيوس، وبروتس، وأنطونيوس؛ فعاد إليها حذقها القديم، وازدهرت صناعاتها، وأخذت ثروتها الجديدية تعين بالمال العلم والفلسفة والفن. وسد أبناؤها ما حدث في الفيالق من فراغ، وعقدت أولوية هذه الفيالق للقواد من أهلها؛ وما لبثت جيوش الولايات أن وضعت إيطاليا تحت رحمتها وعينت قوادها أباطرة، وانقضى عهد الفتوح وانقلبت الآية وأخذ المغلوبون من ذلك الحين يبتلعون الغالبين.

وكأنما أدرك عقل رومة هذه النذر والمشاكل، فاستسلم في أواخر أيام الأنطونيين إلى عهد من الكلل الثقافي والروحي. وكان حرمان الجمعيات الشعبية أولاً ثم مجلس الشيوخ بعدئذ من سلطانها حرماناً يكاد أن يكون كاملاً قد ذهب بالحافز الذهني الذي ينبعث من النشاط السياسي الحر، ومن الشعور الواسع الانتشار بالحرية والسلطان. وإذ كانت السلطة كلها تقريباً قد تركزت في يد الزعيم فقد ألقى المواطنون عليه التبعة كلها تقريباً، فانزوى عدد متزايد منهم في أسرهم، وقصروا جهودهم على شؤونهم الخاصة؛ وأصبح المواطنون ذرات، وأخذ المجتمع يتمزق من داخله إرباً في الوقت الذي لاح فيه أن الوحدة على أتم ما تكون. وخاب رجاء الناس في الملكية، كما خاب رجاؤهم من قبل في الدمقراطية، وكثيراً ما كانت "أفكار" أورليوس "الذهبية" أفكاراً من الرصاص، يزيدها ثقلاً ظنه أن مشاكل رومة مستعصية على الحل، وأن البرابرة الذين يتضاعف عددهم بلا انقطاع لن تستطيع سلالة عظيمة جانحة إلى السلم أن تصمد لهم زمناً طويلاً. وأخذت الرواقية، التي بدأت عهدها بالدعوة إلى القوة، تدعو الآن إلى الاستسلام للمقادير، وعقد الفلاسفة كلهم تقريباً الصلح مع الدين. وبعد أن ظلت الطبقات العليا أربعمائة عام تتخذ الرواقية بديلاً من الدين، أطرحت هذه الطبقات الآن ذلك البديل، وأدارت الفئة الحاكمة ظهرها إلى الفلاسفة وولت وجهها شطر مذابح الآلهة. على أن الوثنية هي الأخرى كانت تلفظ آخر أنفاسها. فقد كانت كإيطاليا تنتعش بفضل المعونة الحكومية، فلما امتنعت عنها هذه المعونة أوشكت قواها أن تخور؛ لقد غلبت هي الفلسفة، ولكن أرباضها أخذت قبل ذلك العهد تستمع في خشوع إلى أسماء الآلهة الغازية. وكان هذا العصر عصر البعث للولايات والنصر المؤزر الذي يتجاوز حدود العقل للمسيحية.