قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 3 ب 18

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 3596

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الزعامة -> القانون الروماني -> المشترعون العظام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثامن عشر: القانون الروماني 146 ق. م إلى 192 م

الفصل الأول: المشترعون العظام

كان القانون أخص خصائص الروح الرومانية، وأبقى مظهر من مظاهرها وكانت رومة مضرب المثل في النظام كما كانت بلاد اليونان مضرب المثل في الحربة، ولقد أورثتنا رومة شرائعها، وتقاليدها الإدارية لتكون هي أسس النظام الاجتماعي، كما أورثتنا بلاد اليونان الدمقراطية والفلسفة اللتين كانتا أساس الحرية الفردية. وأهم ما يجب على الساسة ورجال الحكم هو أن يجمعوا بين هذين التراثين المختلفين المتنافرين ويوحدوا بينهما، ويؤلفوا من نغماتهما المتعارضة المنشطة نغماً مؤتلفاً منسجماً.

وإذ كان القانون هو أساس التاريخ الروماني وجوهره، فقد كان من المستحيل أن نفضل هذا عن ذاك، ومن أجل هذا لن يكون هذا الباب من أبواب الكتاب إلا مكملاً لما سبقه وما سيعقبه من تفصيلات، ولن يزيد على لبنات متفرقة في صرح الحضارة الرومانية. والدستور الروماني يشبه الدستور البريطاني- فلم يكن هذا الدستور طائفة من القواعد المخلدة التي يتقيد بها الناس، بل كان سلسلة متتابعة من السوابق ترشد وتوجه، ولكنها لا تمنع التغيير. فكلما زاد الثراء وتعقدت أساليب الحياة، أصدرت الجمعيات وأصدر الحكام والزعماء، قوانين جديدة، وسايرت الشرائع الإمبراطورية في نموها واتساع نطاقها، فكانت كلما امتدت رقعة الإمبراطورية لاحقتها القوانين إلى الحدود الجديدة، وتطلب تعليم رجال القانون، وإرشاد القضاة، وحماية المواطن من الأحكام الظالمة غير المشروعة، تطلب هذا تنظيم الشرائع وصياغتها في صورة مرتبة يسهل معرفتها والوصول إليها. وبينما كانت الاضطرابات التي حدثت عقب ثورات ابني جراكس وماريوس على أشدها قام ببليوس موسيوس اسكافولا Publius Mucius Scaevola (الذي ولي القنصلية في عام 133 ق. م) وابنه كونتس Quintus (وقد ولي القنصلية في 55 ق.م) وبذلاً جهوداً كبيرة لصياغة قوانين رومة صياغة يسهل فهمها. وكتب شيشرون، وكان من تلاميذ رجل آخر يدعى كونتس موسيوس اسكافولا (وقد ولي القنصلية عام 117 ق. م)، رسائل بليغة في فلسفة القوانين، ووضع مشروع قوانين مثالية يقصد بها الاحتفاظ بالثروة الطائلة التي جمعها وبالدين الذي خسره. وخلقت القوانين المتناقضة التي سنها ماريوس وصلاً، وسلطة بمبي المطلقة التي لم يكن لها مثيل من قبل، والشرائع الثورية التي وضعها قيصر، والدستور الجديد الذي وضعه أغسطس، خلقت هذه كلها مشاكل جديدة للعقول التي حاولت أن تجعل الشرائع المتمشية مع المنطق السليم، وأخذ المشترع النابه أنتستيوس لبيو Antistius Labeo يندد بما في القوانين من اضطراب وفوضى، ويعلن أن المراسيم التي أصدرها قيصر وأغسطس مراسيم باطلة لأنها مظهر لسلطة مغتصبة غير شرعية. ولم يكن في مقدور عقول الأفراد أو سلطة المحاكم أن تقبل هذه القوانين الجديدة إلا بعد أن وطدت الزعامة سلطتها باستخدام القوة أولاً وبسلطان العادة فيما بعد. ويعود الفضل إلى القرنين الثاني والثالث من التاريخ الميلادي في وضع القوانين الرومانية في الغرب في صورتها النهائية- وهو عملاً لا يقل خطراً عن صياغة العلم والفلسفة في بلاد اليونان. وفي هذا المجال أيضاً كان قيصر هو الذي حدد الهدف المقصود، ولكن الجهود الحقيقية التي بذلت لتحقيق هذا الهدف لم تبدأ بالفعل إلا في أيام هدريان (117 م)؛ فقد جمع هذا الإمبراطور- وهو أرقى الأباطرة كلهم تعليماً- حوله طائفة من فقهاء القانون وألف منهم مجلسه الخاص، وكلفهم أن يستبدلوا بمراسيم البريتورين المتناقضة "مرسوما خالداً" يلتزمه في المستقبل جميع القضاة في إيطاليا. ولعل الذي أوحى إلى هدريان بإصلاح شرائع رومة وتنسيقها هو إطلاعه في أثناء رحلاته الكثيرة على دساتير المدن اليونانية في آسية وإيطاليا؛ ذلك أن هذه المدن قد أنشأت على توالي الأيام طائفة راقية من القوانين التي تنظم شئونها البلدية، وإن كان اليونان بوجه عام لم يخرجوا بعد أيام صولون كتاباً في القانون يعد من الآيات الخالدة في هذا الموضوع. وواصل الأنطونيون خلفاء هدريان هذا التقنين، وكانت الشهرة النصف الرسمية التي تتمتع بها الفلسفة الرواقية مما جعل لليونان أثراً عميقاً في القوانين الرومانية. فقد أعلن الرواقيون جهرة أن القوانين يجب أن تتفق مع المبادئ الخلقية القويمة، وأن الجريمة كامنة في نية المرء لا في نتيجة عمله. وقد أمر أنطونيوس، وهو ثمرة من ثمار المدرسة الرواقية، أن يفسر الشك لمصلحة المتهم، وأن يظل الإنسان بريئاً حتى تثبت إدانته(1)- وهما مبدآن من أرقى المبادئ في قوانين البلاد المتحضرة.

وقد نبغ في فلسفة القانون عدد كبير من العباقرة جاء بعضهم في إثر بعض، وكان من أهم العوامل في هذا النبوغ مناصرة الأباطرة وتشجيعهم. ومن هؤلاء العباقرة سلفيوس يوليانس Salvius Julianus وهو روماني أفريقي المولد أظهر من الجد وغزارة العلم حين كان يعمل مستشاراً قانونياً للإمبراطور ما حمل مجلس الشيوخ على أن يقرر أن يكون مرتبه ضعفي المرتب المخصص لهذا المنصب عادة واشتهرت فتاواه بوضوحها وسلامة منطقها، و "خلاصته" عبارة عن مجموعة منظمة من القوانين المدنية. وكان هو الذي صاغ المرسوم البريتوري الدائم حين كان أشهر الأعضاء البارزين في مجلس هدريان. وهناك مشترع آخر يدعى جايوس Gaius لا نعرف عنه غير اسمه. وقد عثر نيبهر Neibuhr عام 1816 م على "أنظمته" مكتوبة على ورق وفوقها مقالات لجيروم Jerome، وهي الآن أكمل مرجع يعتمد عليه في دراسة القوانين التي سنت قبل عهد جستنيان. وقد صدرت هذه "الأنظمة" حوالي عام 161 م، ولم يكن يقصد بها أن تكون عملاً إنشائياً جديداً، بل كانت كتاباً مدرسياً أولياً للطلاب والدارسين. فإذا رأينا نحن أنها آية من آيات العرض المنظم، ففي وسعنا أن نتصور العقلية الجبارة التي كان يتمتع بها أولئك الرجال الذين تلخص هذه الرسالة كتبهم. وبعد ستين سنة من ذلك العهد أوصل بابنيان بولس Papinian Paulus وألبيان Alpian فقه القانون الروماني إلى ذروته؛ وبينما كان تنفيذ القوانين يخر صريعاً للعنف والفوضى صاغه هذان العالمان صياغة منطقية متسقة خالية من التناقض، ولم يلبث هذا العلم أن هوي بعدهما في غمرة الخراب الشامل.


الفصل الثاني: مصادر القانون

كما أن مصطلحات العلم والفلسفة مأخوذة في الأغلب الأعم من اللغة اليونانية فتكشف بذلك عن مصدر هذه العلوم، كذلك لغة القانون مأخوذة في معظمها من اللغة اللاتينية. وكان اللفظ الدال على القانون في هذه اللغة هو Ius أي العدالة أو الحق، أما كلمة Lex فقد كان معناها القانون الخاص. وقد وصف فقه القانون في مختصر جستنيان (533 م) بأنه علم وفن معاً "علم العدل وغير العدل" و "فن تدبير ما هو صالح ومقسط" وكانت كلمة Ius تشمل القانون غير المكتوب أو العادات المرعية التي تحوي القانون المكتوب نفسه، وكان هذا القانون المكتوب يتكون من Ius Civilen- أي "قانون المواطنين (الرومان)، Ius Gentium- أي "قانون الأمة". وكان القانون المدني وقانون المواطنين يسمى "القانون العام" إذا كان يتعلق بشئون الدولة والعبادة الرسمية، و "القانون الخاص" إن كان يبحث في العلاقات القانونية بين المواطنين بعضهم بعضاً.

والقانون الروماني بوجه عام مأخوذ من خمسة مصادر: (1) ففي عهد الجمهورية كان المصدر النهائي للقانون هو إرادة المواطنين يعبرون عنها في الجمعيتين العشرية والمئوية بلفظ Leges وفي الجمعية القبلية بلفظ Plebisuta ("قررته العامة"). ولم يكن مجلس الشيوخ يقر اللجيس Leges إلا إذا عرضت على الجمعيتين مصحوبة بالمراسيم المقررة وعرضهما عليه موظف كبير في مرتبة أعضاء مجلس الشيوخ.وإذا ما اتفق مجلس الشيوخ والجمعية على إنفاذ قانون من القوانين أعلن باسم Senatus Populusque Romauns.

(2) ولم يكن لمجلس الشيوخ نفسه من الوجهة النظرية في عهد الجمهورية حق إصدار القوانين؛ أما قراراته المعروفة باسم "استشارات الشيوخ" Senayusconsulta فكانت من الناحية الرسمية توصيات إلى الحكام؛ ثم أضحت على مر الأيام توجيهات، ثم أوامر، ثم صار لها في عهد الجمهورية المتأخرة وفي عهد الإمبراطورية قوة القوانين. وكان مجموع القوانين التي أجازتها الجمعيتان ومجلس الشيوخ في خلال ستة قرون قليلاً إلى حد يدهش له من اعتاد السيل الجارف من الشرائع التي تصدرها الدول في الوقت الحاضر. وكانت الحاجة إلى القوانين الصغرى أوالخاصة تسدها الأوامر Edicta التي يصدرها موظفو المجالس البلدية. ذلك أن كل حاكم جديد للمدينة كان يصدر في بدء قيامه بمهام منصبه أمراً بريتورياً Edictum Praetorium يذيعه مناد في السوق العامة وينقش على أحد الجدران، ويعلن فيه المبادئ القانونية التي ينثوي الحاكم العمل بها والحكم بين الناس بمقتضاها في خلال السنة التي يتولى فيها منصبه. وكان في وسع القضاة المتنقلين Praelores Peregarini وحكام الولايات أن يصدروا أيضاً أمثال هذه القرارات. ولم يكن يسمح للبريتورين بمقتضى سلطة الحكم المخولة لهم أن يسفروا القوانين القائمة فحسب، بل كان لهم فوق ذلك أن يسنوا قوانين جديدة. وبهذه الطريقة كان القانون الروماني يجمع بين استقرار الشرائع الأساسية ومرونة الأحكام البريتورية. وإذا انتقل قانون أو انتقلت فقرة من فقراته من مرسوم بريتور إلى مرسوم البريتور الذي يليه مرات كثيرة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من القانون الأساسي المعروف باسم Ius Honorarium حتى حل "قانون المنصب" قبيل عهد شيشرون محل الجداول الاثني عشر، وأصبح هو النص الرئيسي للأوامر القانونية في رومة. على أن البريتور كثيراً ما كان يخالف المبادئ التي جرى عليها سابقه، ويصدر من الأحكام ما يناقضها كل المناقضة في بعض الأحيان؛ وبهذا أضيف الغموض في القوانين والتعسف في الأحكام إلى المساوئ الطبيعية التي لا يخلو منها أي نظام قضائي يتبعه بنو الإنسان؛ وهذا هو الغموض الذي أراد هدريان أن يقضي عليه حين عهد إلى يوليانس أن يجمع القانون الأساسي Ius Honorarium كله في مرسوم دائم لا يستطيع تغييره إلا الإمبراطور نفسه.

(4) وأصبحت قوانين الزعماء Constitutiones Principum نفسها في القرن الثاني مصدراً آخر من مصادر القانون. واتخذت هذه القوانين أربعة أشكال مختلفة (أ) فقد كان الزعيم يصدر مراسيم بوصفه كونه صاحب منصب في المدينة، وكانت هذه المراسيم نافذة في الإمبراطورية كلها، ولكن يلوح أنها كان يبطل مفعولها بعد وفاته. (ب) وكان لأوامره Decreta بوصفه قاضياً ما كان لغيرها من الأوامر من قوة القانون. (3) وكانت ردوده الإمبراطورية Rescripta أجوبة لما يوجه إليه من الاستعلامات. وكانت هذه الأجوبة تتخذ في العادة شكل رسائل Epistulae أو إجابات قصيرة Subscriptiones"تكتب تحت" سؤال أو ملتمس. وقد ضمت الرسائل الحكيمة الجامعة التي رد بها هدريان على ما يطلبه موظفو الحكومة من إرشادات إلى قوانين الإمبراطورية، وظلت نافذة المفعول بعد وفاته بزمن طويل. (4) وكانت عهود الأباطرة Mandata هي التوجيهات التي يصدرونها للموظفين، وقد تكون من هذه العهود على مر الزمن كتاب كبير من القانون الإداري.

(5) وكان من المستطاع في بعض الظروف الخاصة أن تسن القوانين الجامعة المعروفة باسم Responsa Prodentium. ولقد كان من أجمل المناظر بلا ريب أن يجلس العلماء الأعلام من المشترعين على كراسي في السوق العامة (أو في بيوتهم كما كان يحدث في العهود المتأخرة) ويصدروا فتاوي قانونية لكل من يريد استفتاءهم، وكانوا ينالون في بعض الأحيان على عملهم مكافآت من طريق غير مباشر. فكثيراً ما كان المحامون أو قضاة البلديات يأتون إليهم ليستشيروهم في مشاكلهم القانونية. وكانوا يفعلون ما يفعله كبار الحاخامات اليهود من التوفيق بين المتناقضات، ويحددون ما بين القوانين بعضها وبعض من فروق دقيقة، ويفسرون القانون القديم بما يلائم حاجات الحياة القائمة في وقتهم أو يلائم ظروفها السياسية، أو يوفقون بينه وبين هذه الحاجات والظروف. وقد أضحى لأجوبتهم المكتوبة بحكم العادة غير المكتوبة قوة لا تفوقها إلا قوة القوانين نفسها. وجعل أغسطس لهذه الفتاوي كل ما للقوانين من قوة إذا توافر فيها شرطان: أولهما أن يكون المشترعون قد تلقوا من الأمبراطور حق إصدار الفتاوي القانونية Ius Sespondenti وثانيهما أن ترسل الإجابة مختومة إلى القاضي المعروضة عليه القضية الصادرة فيها الفتوى. ولم يحل عصر جستنيان حتى أضحت هذه الإجابات أو الفتاوي القانونية مصدراً واسعاً للشرائع وآدابها، ومعينا لا ينضب استمد منه مختصره وكتاب قوانينه وكان عماداً لهما.


الفصل الثالث: قانون الأحوال الشخصية

يقول ماريوس المعروف بدقته إن القانون كله يتعلق إما بالأشخاص، وإما بالملك، وإما بالمرافعات(3). وكانت لفظ Persona في أول الأمر تعني قناع الممثل، ثم صار معناها بعدئذ العمل الذي يقوم به الإنسان في الحياة، ثم بات معناها آخر الأمر الشخص نفسه- وكأنما قصد بهذا التطور أننا لا نستطيع أن نعرف شخصاً ما، بل كل الذي نعرفه هو ما يقوم به من أعمال، أو ما يلبسه من قناع أو أقنعة.

وكان الشخص الأول في القانون الروماني هو المواطن؛ وكان تعريفه عندهم هو أنه الشخص الذي ضم إلى إحدى القبائل الرومانية بحكم المولد أو التبني، أو العتق، أو المنحة من قبل الحكومة. وكان الذي ينطبق عليهم هذا التعريف ينقسمون ثلاث درجات: (1) المواطنين الكاملين الذين يتمتعون بالحقوق الأربعة: حق الاقتراع (Ius Suffrag()، وحق التوظف (Ius Honorum)، وحق الزواج من حرة بمولدها Ius Conub(، وحق الدخول في تعاقد تجاري يحميه القانون الروماني (Ius Commerc(). (2) "المواطنين الذين لا حق لهم في الاقتراع" وهم الذين يتمتعون بحق الزواج والتعاقد، ولكنهم لا حق لهم في الاقتراع، ولا في تولي المناصب. (3) المعاتيق الذين يتمتعون بحقي الاقتراع والتعاقد ولكنهم لا حق لهم في الزواج بحرة أو في تولي المناصب. وكان للمواطن الكامل المواطنية، فضلاً عن حقوقه السالفة الذكر، حقوق يضمنها له القانون الشخصي ولا يشاركه فيها سواه؛ كحق الأب على أبنائه (Patria Potestas)، والزوج على زوجته (Manus)، والمالك في ملكه ومنه عبيده (Dominium)، وحق الرجل الحر على غيره إذا تعاقد معه (Mancipium). وكان ثمة نوع آخر من الحقوق هو حق المواطنية الإمكانية أو حق الدخول في الحظيرة اللاتينية Latinitas أو Ius Lat(، تمنحه رومة للأحرار سكان المدن أو المستعمرات المفضلة ويعطيهم حق التعاقد ولكنه لا يعطيهم حق التزاوج بالروماتيات، وينال به كبار موظفيهم حقوق المواطنية الرومانية الكاملة حين تنتهي مدة توليهم مناصبهم. وكان لكل مدينة في الإمبراطورية مواطنوها وشروطها الخاصة لنيل حقوق المواطنية. وكان من المميزات الفذه لهذه الإمبراطورية أن الشخص يستطيع أن يكون مواطناً لعدة مدن في وقت واحد، وأن يستمتع فيها جميعاً بالحقوق المدنية. وكانت أثمن ميزة يستمتع بها المواطن الروماني هي حماية القانون لشخصه، وملكه، وحقوقه، وأمنه على نفسه من التعذيب أو العنف في أثناء المحاكمة. وكان من مفاخر القانون الروماني أنه يحمي الفرد من الدولة.

ويلي الأب المواطن الأهمية في نظر القانون. لقد كان انتشار القانون في الأقاليم التي كانت خاضعة في الأزمنة القديمة لسلطان العادة سبباً في إضعاف حقوق الآباء على الأبناء، ولكن في وسعنا أن نحكم على ما بقي له من سلطان إذا ذكرنا أنه حين خرج أولس فلفيوس Aulus Fulvius لينضم إلى جيش كاتلين Catiline استعاده أبوه وقتله. على أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن سلطان الأب على أبنائه أخذ يضعف كلما ازداد سلطان الحكومة على الأفراد؛ وإن المواطنية دخلت الأسرة حين غادرت الدولة. لقد كان الآباء هم الدولة في باكورة عهد الجمهورية، فكان رؤساء الأسر هم الذين يكونون الجمعية القبلية، وأكبر الظن أن رؤساء القبائل هم الذين كانوا يكونون مجلس الشيوخ. ثم ضعف نظام الحكم عن طريق الأسر والقبائل حين كثر عدد السكان واختلفت أصولهم، وأصبحت الحياة أكثر حركة وتعقيداً، وازدادت الصلات التجارية بين الناس فحل التعاقد والقانون محل القرابة والمكانة الاجتماعية والعادة(4). فنال الأبناء من آبائهم نصيباً أوفى من الحرية، كما ازدادت تحرر الزوجات من الأزواج والأفراد من الجماعات. وشاهد ذلك أن تراجان أمر بفصل ابن عن أبيه لأنه أساء معاملته، وأن هدريان سلب من الأب حقه في قتل أفراد أسرته ونقل هذا الحق إلى المحاكم، ومنع أنطونينس أباً من أن يبيع أبناءه عبيداً(5). وكانت العادة قد قصرت من زمن بعيد استخدام هذه السلطات القديمة على حوادث فردية نادرة. ذلك أن القانون ينزع على الدوام للسير ببطء خلف التطور الأخلاقي، لا لأن القانون عاجز عن التعلم بل لأن التجارب قد دلت على أن من المحكمة أن تجرب الأساليب الجديدة عملياً قبل أن توضع في صورة الشرائع.

وكانت المرأة الرومانية تحصل على حقوق جديدة كلما فقد الرجل حقوقاً قديمة، ولكنها كانت من المهارة بحيث تستطيع أن تستر حريتها بستار من القيود القانونية المطردة الزيادة. لقد كانت شرائع الجمهورية تفترض أنها "لا حق لها على نفسها Sui Iuris" مطلقاً بل أنها على الدوام خاضعة لولي من الذكور. وفي ذلك يقول جايوس: "توجب عاداتنا على النساء الرشيدات أنفسهن أن يبقين تحت الوصاية لخفة عقولهن"(6). ثم زال القسط الأكبر من هذه الوصاية في عهد الجمهورية المتأخر وفي عهد الإمبراطورية، وكان سبب زواله مفاتن النساء وقوة إرادتهن، واستجابة الرجال لهذه المفاتن وهيامهم بالنساء. فكان المجتمع الروماني من أيام كاتو الأكبر إلى أيام كمودس Commodus خاضعاً لسلطان النساء، وإن كان من الناحية القانونية مجتمعاً أبوياً، وكان يسوده كل ما كانت تمتاز به سيادتهن على إيطاليا في عهد النهضة أو الندوات الفرنسية في عهد آل بربون من ظرف ورشاقة. وأقرت قوانين أغسطس هذه الحقيقة الواقعة بعض الإقرار بأن رفعت الوصاية عن كل امرأة ولدت ثلاثة أبناء شرعيين(7). وأصدر هدريان مرسوماً يجعل من حق النساء أن يتصرفن في أملاكهن كيفما شئن بشرط أن يحصلن قبل ذلك على موافقة أوليائهن، ولكن الإجراءات الفعلية لم تلبث أن استغنت عن هذه الموافقة. ولم يكد يختتم القرن الثاني حتى كانت الولاية البشرية قد رفعت من الوجهة القانونية عن الحرائر من النساء متى تجاوزن الخامسة والعشرين من العمر.

وظل رضاء الأبوين إلى الوقت الذي نتحدث عنه واجباً في الزواج الشرعي(8). وكان الزواج الذي يتطلب احتفالاً دينياً Con Farreatio وقتئذ (60 م) مقصوراً على عدد قليل من الأسر التي يتألف من آبائها مجلس الشيوخ. وبقي الزواج بالشراء (Coemptio قائماً من حيث الشكل، فكان العريس يؤدي ثمن العروس بأن يزن في ميزان آساً أو سبيكة من البرنز أمام خمسة شهود بعد موافقة أبيها أو وليها(9). غير أن معظم الزواج أضحى وقتئذ زواجاً بالمعاشرة (Usus). وكانت الزوجة تتجنب الخضوع لحق زوجها في تملكها (Manus) بأن تغيب عن بيتها ثلاث ليال في كل عام، وبذلك تحتفظ بسيطرتها على أملاكها عدا بائنتها. بل إن الزواج في واقع الأمر كثيراً ما كان يسجل أملاكه باسم زوجته تهرباً من قضايا التعويض عن الأضرار أو العقاب على الإفلاس(10). وكان في وسع كل من الطرفين فسخ هذا الزواج الذي يتسلم فيه الزوج زوجته أو أملاكها Sine Manu متى أراد، أما ما عداه من أنواع الزواج فكان الزوج وحده هو الذي يحق له فسخه. وظل الزنى من الجرائم الصغرى إذا ارتكبه الرجل، أما إذا ارتكبته المرأة فكان يعد من الجرائم الكبرى ضد أنظمة الملكية والميراث، ولكن الزوج لم يبق له وقتئذ حق قتل زوجته إذا ضبطها متلبسة بجريمة الزنى، بل أعطى هذا الحق لأبيها اسماً وللمحاكم فعلاً. وكان عقابها هو النفي. وكان القانون يعترف بالتسري بدلاً من الزواج لا مصاحباً له، ولم يكن يجيز للرجل أن تكون له خطبتان في وقت واحد، ولم يكن أبناء السراري يعدون أبناء شرعيين أو يجعل لهم حق الإرث. ومن أجل ذلك كان اتخاذ السراري أمراً محبباً كل الحب للرجال الذين يتكالب عليهم من يسعون لأن يوصي لهم بأملاكهم. فاتخذ فسبازيان، وأنطونينس بيوس، وماركس أورليوس لهم سراري يعيشون معهن بعد أن ماتت أزواجهم(11).

وحاول القانون أن يشجع الأبوة بين الأحرار، لكنه لم يفلح في ذلك إفلاحاً يستحق الذكر. وكان يحرم قتل الأبناء إلا إذا كانوا مشوهين أو مصابين بمرض مستعص على العلاج. وكان عقاب من يجهض حاملاً أن ينفى من البلاد وأن تصادر أملاكه، فإذا ماتت الحامل نتيجة لهذا العمل عوقب بالإعدام(12). على أنه كان في الاستطاعة الإفلات من هذه القوانين في ذلك الوقت كما يفلت من يرتكب هذه الجرائم الآن. وكان الأبناء أياً كانت سنهم يبقون تحت سلطان أبيهم إلا إذا باعهم عبيداً ثلاث مرات، أو تحرروا من سيطرته بحكم القانون، أو شغل الابن منصباً عمومياً، أو صار كاهناً، أو أصبحت إحدى بناته زوجة استولى زوجها عليها وعلى مالها، أو أضحت عذراء فستية. وإذا تزوج ابن في حياة أبيه كانت ولاية أبنائه لجدهم(3). وقد أعفت شريعة أغسطس مكاسب الابن من الجندية أو من توليه منصباً عاماً، أو كهنوتياً، أو من الاشتغال بإحدى المهن الحرة أعفتها من الخضوع إلى القانون القديم الذي كان يجعل هذه المكاسب كلها من حق الأب. وكان لا يزال من حق الأب أن يبيع ابنه (Mancipium)؛ ولكن حاله تلك كانت تختلف عن حال الرقيق فقد كان يحتفظ بما له من حقوق مدنية أما العبد فلم تكن له حقوق مدنية على الإطلاق، والحق أن القانون الروماني كان يتردد في أن يطلق عليه لفظ شخص Person، ثم خرج أخيراً من هذه الورطة بأن سماه "إنساناً غير شخصي"(14). ولم يبحث جايوس في أمره تحت عنوان قانون الأشخاص إلا لخطأ وقع فيه أدى إلى هذا الإنصاف غير المقصود؛ أما منطق الحوادث فكان يعد العبد من قبيل المتاع Res، فلم يكن يحق له أن يمتلك، أو يرث، أو يورث، ولم يكن يستطيع أن يتزوج زواجاً شرعياً، وكان أبناؤه كلهم يعدون أبناء غير شرعيين، كما أن أبناء الجارية كانوا يعدون كلهم عبيداً ولو كان أبوهم من الأحرار(15). وكان في وسع السيد أن يرتكب الفحشاه مع عبيده وجواريه من غير أن ينالوا منه تعويضاً قانونياً، ولم يكن في مقدور العبد أن يقاضي من يؤذيه من المحاكم، وكان الذي يحق له أن يقاضي من يتسبب في إيذاء العبد هو سيده. وكان لهذا السيد في عهد الجمهورية أن يضربه، ويسجنه، ويحكم عليه أن يقاتل الوحوش في المجتلد، ويعرضه للموت جوعاً، أو يقتله لسبب أو لغير سبب ومن غير أن تكون عليه رقابة إلا رقابة الرأي العام المكون من ملاك العبيد. وإذا أبق عبد ثم قبض عليه كان في مقدور سيده أن يكويه بالنار أو يصلبه؛ وكان أغسطس يفخر بأنه قبض على ثلاثين ألفاً من العبيد الآبقين، وأنه صلب كل من لم يكن له مالك يطلبه(16). وإذا ما استفز العبد عمل من هذه الأعمال أو غيرها فقتل سيده، قضى القانون بأن يقتل جميع عبيد القتيل؛ ولما أن قتل الوالي بدانيوس سكندس Pedanius Secundus في عام 61 وحكم على عبيده الأربعمائة بالإعدام، احتجت أقلية من أعضاء مجلس الشيوخ على هذا الحكم، وطلبت جماعة غاضبة في الشارع باستعمال الرأفة، ولكن المجلس أصر على تنفيذ القانون اعتقاداً منه أن السيد لا يكون آمناً على نفسه من عبيده إلا بمثل هذه القسوة(17).

ومما يذكر بالشكر للإمبراطورية أو للنقص في موارد العبيد- أن أحوالهم أخذت تتحسن تحسناً مطرداً في عهد الأباطرة. ومن مظاهر هذا التحسن أن كلوديوس حرم قتل العبد الذي لا يرتجى منه نفع، وأمر أن يصبح العبد المريض الطريد بعد شفائه حراً من تلقاء نفسه. وحرم قانون بترونيا Les Petronia، في عهد نيرون على الأرجح، على الأسياد أن يحكموا على العبيد بأن يقاتلوا في المجتلد إلا إذا وافق على ذلك موظف كبير. وأجاز نيرون للعبد الذي أسيئت معاملته أن يلجأ إلى تمثاله ويحتمي منه، وعين قاضياً لينظر في شكاوي أمثال هذا العبد- وكان ذلك تقدماً متواضعاً لرومة كأنه انقلاب ثوري، لأنه فتح أبواب المحاكم للعبيد. وقد جعل دومتيان خصي العبيد للأغراض الجنسية جناية، وحرم هدريان ملاك العبيد مما كان لهم من حق قتل عبيدهم دون موافقة الحكام، وأجاز أنطونينس بيوس للعبد الذي أسيئت معاملته أن يحتمي في أي معبد، وقرر أن يباع مثل هذا العبد إلى سيد آخر إذا أثبت أنه لحقه ضرر. وشجع ماركس أورليوس الأسياد على أن يعرضوا على المحاكم ما لحقهم من الأضرار على أيدي العبيد، بدل أن يقتصوا منهم بأنفسهم. وكان يرجو أن يحل القانون والحكمة بهذه الطريقة محل الوحشية والانتقام الفردي(18). وآخر ما نذكره من الإصلاحات أن مشترعاً عظيماً في القرن الثالث هو أبليان Uplian جهر بما لم يجرؤ على الجهر به إلا عدد قليل من الفلاسفة، وهو أن "الناس أكفاء بحكم قانون الطبيعة"(19). وقال غيره من المشترعين إن من القواعد المقررة أنه إذا كان ثمة شك في أن رجلاً ما حر أو عبد كانت الشكوك كلها مؤيدة لحريته(20).

على أن خضوع العبيد القانوني لسادتهم على هذا النحو لهو رغم هذه الملطفات كلها أسوأ وصمة يوصم بها القانون الروماني. وكانت آخر سوءات هذا القانون ما يفرضه من الضرائب والقيود على عتق العبيد حتى لقد كان كثيرون من الملاك يتملصون من قانون فوفيا كانينا Les Fufia Canina بأن يعتقوا عبيدهم من غير شهود رسميين أو احتفال قانوني، وإن كان هذا العتق لا يعطي المعتوق حقوق المواطنية بل كل ما يمنحه إياه هو أن يجعله لاتينياً. أما العبد الذي يعتق حسب الإجراءات القانونية فكان يصبح مواطناً يستمتع بالحقوق المدنية مقيدة ببعض القيود؛ لكن العادة كانت تتطلب منه أن يؤدي واجب التعظيم لسيده السابق كل صباح، وأن يقوم على خدمته إذا دعت الضرورة، وأن يعطيه صوته في كل انتخاب، وأن يؤدي إليه في بعض الحالات قسطاً من كل ما يكسبه من المال. وإذا مات المعتوق دون أن يوصي لأحد بماله، ذهب هذا المال من تلقاء نفسه إلى سيده السابق إن كان حياً؛ وإذا ما أوصي بماله وهو على قيد الحياة كان ينتظر منه أن يخص هذا السيد ببعضه(11). وقصارى القول أن المعتوق لم يكن يستنشق نسيم الحرية بحق إلا بعد أن يموت سيده، وتقام جنازته، ويواري التراب بالطرق التي جرى بها العرف والتقاليد المرعية. ومن واجبنا أن نضيف إلى الأقسام العامة من قانون لأحوال الشخصية السالف الذكر ذلك القسم الذي يطلق عليه في الشرائع الحديثة اسم خاص هو القانون الجنائي. لقد كان التشريع الروماني يحسب حساباً للجرائم التي تقع على لأفراد والدولة والهيئات الاجتماعية والتجارية بوصفها أشخاصاً معنويين. فأما الدولة فقد كان الاعتداء عليها يشمل خيانتها بالفعل أو بالقول، وعصيانها، والاعتداء على دينها الرسمي، والرشوة، وابتزاز الأموال أو الفساد في أعمالها الإدارية، أو سرقة أموالها؛ أو تقديم الرشا للقضاة أو المحلفين. ونستطيع أن نتبين من هذا الثبت لذي لا يحوي إلا عدداً قليلاً من الجرائم أن الفساد تمتد جذوره إلى أبعد العهود وأن فروعه في أكبر الظن ستظل تورق حتى المستقبل البعيد. أما الجرائم التي تقع على الأفراد فكان منها الإيذاء البدني، والغش، والفحش، والقتل؛ ويشير شيشرون في بعض أقواله إلى قانون اسكانتنيا Lex Scantinia الذي يعاقب على اللواط(22). وقاوم أغسطس هذه الجريمة بفرض غرامة على مرتكبها، وقاومها مارتيال بالهجاء، ودومتيان بالإعدام. ولم يعد الإيذاء البدني يعاقب عليه في ذلك الوقت بالقصاص كما هو وارد في الجداول الاثني عشر، بل كان يعاقب عليه بالغرامة. ولم يكن الانتحار جريمة، بل إنه قبل دومتيان كان يكافأ عليه في بعض الأحيان، فكان في مقدور الرجل المحكوم عليه بالإعدام إذا لجأ إلى الانتحار أن يضمن عادة تنفيذ وصيته وانتقال أملاكه لورثته دون أن توضع في سبيل ذلك العقبات. وكان القانون يترك له الحرية المطلقة في اختيار إحدى الطريقتين ليختم بها حياته.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: قانون الملكية

وكان أكبر قسم في القانون الروماني هو الخاص بشئون الملكية، والالتزامات، والتبادل، والتعاقد، والديون، ذلك أن الممتلكات العينية كانت هي حياة رومة، وكان ازدياد الثروة واتساع التجارة يتطلبان طائفة من القوانين أكثر تعقيداً إلى أبعد حد من قوانين العشرة الساذجة.

وكانت الملكية تجيء عن طريق الوراثة أو وضع اليد. وإذا كان الوالد يمتلك بوصفه وكيلاً عن الأسرة أو ولياً عليها، فقد كان الأولاد والأحفاد ملاكاً بالإمكانية أو "ورثة أنفسهم"(23) حسب النص الفذ الوارد في القانون. فإذا مات الوالد من غير أن يترك وصية ورث أبناؤه أملاك الأسرة من تلقاء أنفسهم، وورث أكبر الآباء من هؤلاء الأبناء حق الولاية على الأسرة. وكان عمل الوصايا القانونية يحاط بمئات من القيود، وكانت صياغتها تتطلب كما تتطلب في هذه الأيام سيلاً من اللغو والتكرار والألفاظ الطنانة الرنانة. وكان كل موص ملزماً بأن يترك جزءاً من أملاكه إلى أبنائه، وجزءاً آخر للزوجة إذا رزقت منه بثلاثة أبناء، وأجزاء أخرى (في بعض الأحيان) إلى اخوته وأخواته، وآبائه إن وجدوا. ولم يكن من حق أي وارث أن يستولي على جزء من التركة إلا بعد أن يتحمل نصيبه من جميع ديون المتوفي، وما عليه من الالتزامات القانونية. وكثيراً ما كان الروماني يجد نفسه متورطاً في وصية ملعونة على حد تعبيرهم، أو وصية حمراء إذا جاز هذا التعبير. وإن امرؤ هلك ليس له ولد ولم يترك وصية انتقلت أملاكه وديونه من تلقاء نفسها إلى أقرب "قريب ذكر من الصعب" أو من أولاد الظهور كما نقول نحن في هذه الأيام. ثم ألغى هذا التقييد بالعصب في عهد الإمبراطورية، وقبل أن يجلس جستنيان على العرش كان لأبناء البطون مثل ما لأبناء الظهور من حق في الإرث. وقد كان قانون قديم سن بإيعاز كاتو (169 ق.م) يحرم على كل روماني يملك 100.000 سسترس (أي ما قيمته 15.000 ريال أمريكي) أو أكثر أن يوصي بأي جزء من ثروته لامرأة. وكان قانون فكونيا Lex Voconia هذا لا يزال مدونا في كتب القوانين في أيام جايوس، ولكن الحب وجد له سبيلاً إلى التملص منه، فقد كان الموصي يوصي بأملاكه إلى وارث له حق الإرث، ثم يلزمه بأن ينقل هذه الأملاك قبل وقت معين إلى المرأة التي يريد أن يهبها تلك الأملاك. وبهذه الطريقة وأمثالها انتقل جزء كبير من ثروة رومة إلى أيدي النساء. يضاف إلى هذا أن الهبة كانت سبيلاً آخر إلى الفرار من قانون الوصية، غير أن الهبات التي كانت توهب قرب الوفاة كانت عرضة لأن تبحث بحثاً قانونياً دقيقاً، وأضحت في عهد جستنيان خاضعة لنفس القيود التي كانت مفروضة على الوصايا.

وكان الاستحواذ يجيء عن طريق الأيلولة أو الانتقال المترتب على قضية حكمت فيها بالمحاكم. فأما الأيلولة (Mancipatio أو التسليم باليد) فكانت الوسيلة إليها هي الهبة القانونية أو البيع أما شهود وبوجود كفتي ميزان يوضع فيهما سبيكة نحاسية رمزاً لهذا البيع. فإذا لم تصحبها هذه المراسم القديمة فإن القانون لا يقرأ أي انتقال للملك. وكانت هناك ملكية وسطى أو إمكانية يعترف بها القانون وتسمى حق وضع اليد على الملك أو استخدامه: فكان الذين يفلحون أراضي الدولة مثلاً من هذا الصنف "الجالسين" لا المالكين، فإذا ما ظلوا عامين يشغلون هذه الأراضي ولا ينازعهم فيها منازع أصبحوا ملاكا لها لا شك في ملكيتهم، وكانت لهم بحق الانتفاع أو بوضع اليد في لغة هذه الأيام. ولعل الحصول على الملك بعد شغله بهذه الوسيلة السهلة اللينة يرجع في أصله إلى عمل الأشراف الذين حصلوا به على الأراضي العامة(24). وبهذه الطريقة طريقة الملك بالانتفاع أو وضع اليد كانت المرأة التي تعاشر رجلاً عاماً كاملاً لا تغيب عنه فيه ثلاث ليال تصبح ملكاً له. وكان الإلزام هو م يفرضه القانون قسراً على شخص ما بأن يقوم بعمل من الأعمال. وكان الشخص يلزم بعمل ما إذا ارتكب جنحة أو تعاقد على القيام بهذا العمل. فأما الجنح، وهي الذنوب البسيطة التي تضر بالشخص أو بملكه، فكان يعاقب عليها في كثير من الأحيان بغرامة تؤدي إلى من وقع عليه الأذى تعويضاً عنه عما لحقه من الضرر. وأما العقد فكان اتفاقاً ينفذه القانون. ولم يكن يفرض في هذا التعاقد أن يكون مكتوباً؛ والحق أن الاتفاق الشفوي الذي كان يتم بالنطق بلفظ "أعد Spondeo" أمام أحد الشهود قد ظل حتى القرن الثاني بعد الميلاد يعد أكثر قداسة من أي تعهد مكتوب. ولم تعد كثرة الشهود ولا المراسم الوقورة التي كان لا بد منها في العهود السابقة لإتمام التعاقد القانوني ضرورية في الوقت الذي نتحدث عنه. ونشطت الأعمال المالية والتجارية حين اعترف القانون بكل اتفاق واضح- وكان هذا التعاقد يتم عادة بأن يسجل الطرفان ما اتفقا عليه في دفاتر حساباتهما Tabulae. غير أن القانون كان يحمي الأعمال المالية والتجارية أتم حماية، فكان يلفت نظر البائع والمشتري كليهما إلى آلاف الخدع التي تنشأ بطبيعتها في الحياة المتحضرة. من ذلك أن القانون كان يحتم على كل بائع ماشية أو عبيد مثلاً أن يكشف للمشتري عما في أجسامها أو أجسامهم من عيوب، وكان يعتبر مسئولاً عن هذه العيوب وإن قال إنه يجهلها(25).

وكان يعقد إما فلسفة، أو رهناً، أو وديعة، أو أمانة. وكان ما يعقد من قروض للاستهلاك يضمن عادة برهن بعض العقار أو المنقولات. وكان العجز عن أداء الدين يجعل من حق الراهن قانوناً أن يستولي على الملك المرهون. ولقد رأينا في الفصول السابقة أن هذا العجز في عهد الجمهورية الباكر كان يجيز للدائن أن يتخذ المدين عبداً له . وقد عدل قانون بوتليا Poetelia الذي صدر في عام 336 ق.م هذه القاعدة بأن أجاز للمدين أن يعمل حتى يؤدي دينه وهو محتفظ بحريته. وفي عهد قيصر كانت الأملاك المرهونة التي يعجز أصحابها عن فك رهنها تباع لأداء ما عليها من الديون من غير أن يضار المدين في شخصه. غير أن حالات من استرقاق المدينين ظلت تحدث إلى أيام جستنيان. أما العجز عن الأداء في الأحوال التجارية فقد خفف من آثاره قانون الإفلاس، الذي كان يجيز بيع أملاك المفلس للوفاء بديونه، ولكنه يترك له مما يحصل عليه بعدئذ ما يكفي لمعيشته. وكان أهم الجرائم التي ترتكب على الأملاك هو الإتلاف، والسرقة، والنهب- أي السرقة بالإكراه. وكانت قوانين الجداول الاثني عشر تحكم على السارق الذي يضبط بالضرب، ثم يجعل بعدئذ عبداً لمن سرق منه؛ فإذا كان السارق عبداً، ضرب ثم ألقى به من فوق الصخرة التربية Tarpeian Rock. فلما زاد استقرار الأمن خفف القانون البريتوري هذه العقوبات القاسية بأن فرض عليه أن يرد إلى المسروق منه ضعفي ما سرقه أو ثلاثة أضعافه أو أربعة أضعافه(26) ولقد كان قانون الملكية في صورته الأخيرة أكمل جزء من الشريعة الرومانية.


الفصل الخامس: قانون المرافعات

كان الرومان أكثر الشعوب القديمة ميلاً إلى التقاضي، على الرغم مما امتاز به قانون المرافعات عندهم من تعقيد فني وغموض محير مربك كان خليقاً بألا يشجعهم على الالتجاء إلى المحاكم. وما من شك في أنهم لو شهدوا إجراءاتنا القضائية لبدت لهم هي الأخرى طويلة مضللة؛ وكلما رجعنا في الحضارة إلى الوراء زادت القضايا طولاً؛ ولقد كان في وسع أي روماني، كما سبق القول، أن ينصب نفسه مدعياً في المحكمة الرومانية، وكان يطلب إلى المدعي والمدعى عليه والحاكم في عهد الجمهورية، حين كان يتولى الأشراف الحكم فيها، أن يسيروا على نهج معين يسمى الإجراء القانوني، إذا حاد أحدهم عنه قيد شعرة بطلت المحاكمة. وفي ذلك يقول جايوس: فإذا قاضى شخص آخر لأنه قطع كرومة ثم أطلق عليها في قضيته اسم "كروم" خسر القضية، فقد كان يجب عليه أن يسميها "أشجاراً" لأن اللفظ الوارد في الجداول الاثني عشر هو الأشجار لا الكروم بصفة خاصة(27). وكان كل من طرفي النزاع يودع لدى الحاكم مبلغاً من المال Sacramentum يضيع على من يخسر القضية، ويصبح من حق دين الدولة، وكان من الواجب على المدعي عليه أن يقدم كفالة تضمن بها المحكمة حضوره أمامها فيما بعد. فإذا تم هذا أحال الحاكم النزاع إلى رجل يختاره من ثبت يحتوي أسماء الرجال الذين يصح لهم أن يكونوا قضاة. وكان القاضي في بعض الأحيان يصدر حكماً تمهيدياً يوجب على أحد الطرفين المتقاضيين أو كليهما أن يقوم بعمل من الأعمال أو يمتنع عن القيام به، وإذا خسر المدعي عليه القضية كان من حق المدعي أن يستولي على أملاكه أو يقبض عليه حتى ينفذ الحكم.

وفي عام 150 ق.م ألغى قانون إيبوتيا الإجراءات المعقدة القديمة واستبدل بها إجراءات أخرى أقل منها تعقيداً؛ فلم يصبح من الضروري إتباع مراسم معينة أو النطق بألفاظ خاصة؛ وصار من حق المتقاضين أن يشتركوا مع الحاكم في تحديد الشكل الذي يعرض به النزاع على القاضي، ثم يصدر الحاكم بعدئذ إلى القاضي تعليمات بالحقائق الموضوعية والمسائل القانونية التي يتضمنها النزاع. وكانت هذه إحدى الوسائل التي وضع بها الحاكم أو البريتور "القانون البريتوري" فيما بعد. وجدت في القرن الثاني بعد الميلاد طريقة ثالثة للحكم في القضايا غير العادية، كان للحاكم بمقتضاها أن يفصل بنفسه في القضية. وقبل أن يختتم القرن الثالث اختفت الإجراءات السالفة الذكر عن آخرها وأصبح الحاكم هو الذي يصدر الأحكام بطريقة عاجلة، وكان ذلك الحاكم مسئولاً أمام الإمبراطور وحده مديناً له بمنصبه، فكان هذا إيذاناً بقيام الملكية المطلقة.

وكان في وسع المتقاضين أن يعرضوا بأنفسهم قضاياهم ثم يصدر البريتور أو القاضي حكمه فيها دون معونة المحامين إذا شاء المتقاضيان هذا؛ غير أنه لما كان القاضي في كثير من الأحيان رجلاً غير مدرب تدريباً مهنياً ولم يدرس القانون دراسة خاصة، ولما كانت العقبات الفنية تعترض المتقاضين في كل خطوة في القضية، فإن المتنازعين كانوا يلجئون في العادة إلى محامين ليترافعوا عنهم Avocati وإلى أخصائيين قانونيين Pragmatici وإلى مستشارين قانونيين Iurisconsulti وفقهاء قانونيين Iurisprudentes. ولم تكن المواهب القانونية تنقص الرومان، فقد كان كل أب يعز أبناءه يتوق إلى أن يرى ابنه محامياً، وكان القانون وقتئذ كما هو الآن الطريق الموصل إلى المناصب العامة. فنرى أحد الأشخاص في كتاب لبترونيوس يعطي ابنه طائفة من الكتب ذات الظهور الحمراء "ليتعلم قليلاً من القوانين" لأن "القانون يأتي بالمال"(28). وكان طالب القانون يبدأ بدراسة المبادئ القانونية على معلم خاص، ثم يشهد في المرحلة الثانية الاستشارات التي تعرض على أعلام فقهاء القانون، ويتمرن بعدئذ عند محام يترافع في القضايا. وأنشأ بعض المستشارين القانونيين في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد مدارس Stationes في أحياء مختلفة من مدينة رومة يعلمون فيها القانون أو يصدرون فيها فتاوي قانونية. ويشكو أميانس Ammianus من ارتفاع الأجور التي كان يفرضها هؤلاء الفقهاء، ويقول إنهم كانوا يتقاضون ثمن تثاؤبهم نفسه، ويحلون قتل الأم إذا أدى العميل أجراً كافياً(29). وكان هؤلاء المعلمون يسمون "أساتذة القانون"؛ ويلوح أن لفظ أستاذ Professor قد أطلق عليهم لأنه كان يطلب إليهم أن يعلنوا Profiteri عزمهم على أن يعلموا وأن يحصلوا بعدئذ من السلطات العامة على ترخيص بممارسة هذا العمل.(30).

وكان لابد أن يوجد بين المحامين الكثيرين الذين يمارسون مهنتهم عدد منهم لا يتورعون عن بيع علمهم لأغراض صغيرة(31)، وعن قبول الرشا لكي يعرضوا قضايا موكليهم عرضاً ضعيفاً، وعن البحث عن ثغرات في القانون يبررون بها أية جريمة، وعن إثارة النزاع بين الأغنياء، وعن إطالة القضايا إلى أطول أجل يمكنهم من سلب أموال المتقاضين(33)، وأن يزلزلوا المحاكم أو السوق العامة بأسئلتهم الإرهابية وعباراتهم الموجزة البذيئة. ومنهم من اضطرهم التنافس على القضايا إلى العمل على نيل الشهرة بالهرولة في الشوارع وبأيديهم أضابير من الوثائق وبأصابعهم خواتم مستعارة، ومن خلفهم خدم وأتباع، ومصفقون مأجورون ليصفقوا لهم وهم يخطبون(34). وقد بلغ من كثرة الأساليب التي اخترعت للتملص من قانون سنسيوس Cincius القديم الخاص بأجور المحامين أن اضطر كلوديوس أن يجعل الحد القانوني الأعلى لهذه الأجور عشرة آلاف سسترس لكل قضية، وأن يجعل من حق المتقاضيين قانوناً أن يستردا ما زاد على هذا القدر(35). لكن هذا القيد كان يسهل الإفلات منه. فنحن نسمع أن محامياً في أيام فسبازيان جمع ثروة تبلغ 300.000.000 سسترس (نحو 30.000.000 ريال أمريكي)(36). غير أنه كان يوجد وقتئذ، كما يوجد في كل عصر من العصور، محامون وقضاة يضعون مواهبهم الصافية المنظمة في خدمة الحق والعدالة من غير نظر إلى الأجور، وكانت شهرة فقهاء قانون العظام الذين لا يعلو اسم على أسمائهم في تاريخ القانون، تطغى على نقائص أولئك المحامين الأدنياء.

وكانت المحاكم التي تنظر في قضايا المذنبين على درجات تختلف من المحاكم ذات القاضي أو الحاكم الواحد إلى الجمعيات الوطنية ومجلس الشيوخ والإمبراطور. وكان في وسع البريتور أن يختار بطريق القرعة بدل القاضي الواحد محلفين لا حد لعددهم، ولكنهم يكونون في العادة 51 أو 71 محلفاً ومن بين الثمانمائة والخمسين اسماً من أسماء طبقة الشيوخ أو الفرسان المدونة في ثبت المحلفين، وكان من حق المدعي والمدعى عليه أن يقدما ما شاءا من الاعتراضات على هذا الاختيار. وكانت محكمتان خاصتان تعقدان بصفة دائمة، إحداهما محكمة العشرة رجال Decemviri وتنظر في أحوال الأفراد المدنية، والثانية محكمة المائة Centumviri وتنظر في قضايا الملك والميراث. وكانت المرافعات أمام هذين النوعين من المحاكم علنية يباح حضورها للجمهور، لأنا نرى بلني الأصغر يصف الجمهور الكبير الذي حضر ليستمع إليه وهو يترافع أمام المحكمة الثانية(37). ويشكو جوفنال(38) وأبوليوس Apuleius(39) من الارتشاء وكثرة التأجيل في هذه المحاكم، ولكن غضبهما نفسه يوحي بأن ما يشكوان منه كان من العيوب الاستثنائية القليلة.

وكانت المحاكمات تمتاز بنصيب من الحرية في القول والفعل قل أن نجد له نظيراً في محاكم هذه الأيام. وكان في وسع عدد من المحامين أن يحضروا مع كل طرف من طرفي النزاع؛ منهم من تخصص في تحضير البينات، ومنهم من تخصص في عرضها على المحكمة. وكان كتبة مختلفون Norarii، Actuarii، Scribea يسجلون المرافعات، وكان بعضها يسجل بطريقة الاختزال. ويصف مارتيال بعض أولئك الكتبة بقوله: "ومهما تكن السرعة التي تقال بها الألفاظ، فإن أيديهم أسرع منها"(41). ويصف أفلوطرخس الطريقة التي كان المختزلون يدونون بها خطب شيشرون، والتي كانت تضايقه في أكثر الأحيان. وكان الشهود يعاملون حسب السوابق التي خلع عليها طول العهد ثوباً من الوقار، والتي يصفها كونتليان بعبارته التي لا يعلو عليها وصف آخر فيقول:

"إذا أريد الفحص عن شهادة شاهد فإن أول ما تجب مراعاته هو صنف هذا الشاهد نفسه. ذلك أن الشاهد الجبان يستطاع إرهابه، والشاهد الأبله يمكن التفوق عليه في الدهاء، والرجل الغضوب يمكن استثارته، والرجل المغرور يستطاع تملقه. أما الشاهد الذكي الأريب الرابط الجأش فيجب إبعاده على الفور لأنه خبيث عنيد أو... إذا كان في حياته الماضية ما يعاب عليه، فإن شهادته يستطاع نقضها بما يمكن مجابهته به من التهم الفاضحة"(42). وكان في وسع المحامي أن يدلي بما شاء من الحجج. فكان يستطيع أن يطلع المحكمة على ما لديه من صور خاصة بالجريمة المزعومة، مرسومة على القماش أو الخشب؛ وكان في مقدوره أن يمسك طفلاً بين يديه وهو يناقش نقطة من النقط؛ وكان يحق له أن يكشف عما في جسم جندي متهم من ندوب وما في جسم عميله من جروح. وقد ابتدعت الدفوع لمقاومة مفعول هذه الأسلحة؛ فها هو ذا كونتليان يحدثنا عن حيلة لجأ إليها محام جاء خصمه بأطفال موكله إلى المحكمة ليوضح بهم مرافعته، فما كان منه إلا أن ألقى بينهم بنرد، فزحف الأطفال على أرض المحكمة، وأفسدوا بذلك على المحامي ختام قضيته(43). وكان من المستطاع تعذيب العبيد إذا كانوا أحد طرفي الخصومة لانتزاع الشهادة منهم، ولكن الشهادة المنتزعة بهذه الطريقة لم تكن تقبل ضد مالكيهم. وقد أصدر مرسوما يحرم فيها تعذيب العبيد لانتزاع إقرار منهم بجريمتهم، إلا إذا لم يفلح معهم كل ما عدا ذلك من الوسائل، على أن يتبع في هذا التعذيب أدق الإجراءات المرسومة له، ونبه المحاكم إلى أن الشهادة المنتزعة بالتعذيب لا يستطاع الوثوق بها على الإطلاق. على أن التعذيب القانوني ظل رغم هذا من الوسائل التي يلجأ إليها، واتسع نطاقه في القرن الثالث حتى شمل الأحرار(44). وكان المحلفون يعطون أصواتهم بإيداع ألواح ذات علامات خاصة في وعاء، وكانت أغلبيتهم المطلقة تكفي لإصدار القرار. وكان في وسع من يخسر القضية في كثير من الأحيان أن يستأنف الحكم أمام محكمة أعلى درجة من المحكمة التي أصدرته، وكان في مقدوره أن يستأنفه أمام الإمبراطور نفسه إذا أمكنته موارده من ذلك.

وكان القانون هو الذي يحدد العقوبات فلم تكن تترك لاختيار القضاة أنفسهم. وكانت هذه العقوبات تختلف باختلاف منزلة المحكوم عليه، وكان أقساها ما يوقع على العبيد، فقد كان بالاستطاعة أن يحكم على العبد بالصلب، أما المواطن فلم يكن يستطاع صلبه؛ ولم يكن يستطاع جلد المواطن الروماني، أو تعذيبه، أو قتله دون أن يستأنف حكم القتل أمام الإمبراطور، ويتضح ذلك لكل من يطلع على سفر أعمال الرسل. وكانت العقوبات تختلف في الجريمة الواحدة باختلاف منزلة المذنب وهل هو من "ذوي الشرف" Honestiores أو من "المنحطين Humiliores؛ كما كانت تختلف في حال الرجل الحر المولد والمحرر، والمفلس وغير المفلس، والجندي والمدني. ولما كانت قيمة العملة تتغير أسرع من تغير العقوبات المقررة في القانون فقد نشأ عن ذلك التغير السريع بعض الشذوذ والتناقض. من ذلك أن الجداول الاثني عشر كانت تفرض غرامة مقدارها خمسة وعشرون آساً (وكانت في الأصل خمسة وعشرين رطلاً من النحاس) على من يضرب رجلاً حراً؛ فلما انخفضت قيمة الآس بسبب غلاء الأسعار إلى ما يعادل 6|100 من الريال الأمريكي أخذ لوسيوس فراتيوس Lucius Veratius يصفع الأحرار على وجوههم، ومن ورائه عبد يعد خمسة وعشرين آساً لكل من يتلقى الصفعة(45). وكانت بعض الجرائم يعاقب عليها بفرض "الصمت" على من يرتكبها. وكان يقصد بالصمت في الغالب منع المحكوم عليه من الحضور في القضايا بشخصه أو أن ينيب عنه من يمثله؛ وأشد من هذا العقاب أن يفقد المجرم حقوقه المدنية Capitis Drminutiso. وكان فقدان هذه الحقوق يتدرج من فقد الأهلية للميراث، إلى الطرد من البلاد، إلى الاسترقاق. وكان الطرد أقسى صورة من صور النفي: فقد كان المطرود يقيد بالأغلال، ويحجز في مكان حقير، وتنتزع منه كل أملاكه. أما النفي Exilium فكان أخف من الطرد، فقد كان يسمح فيه للمنفى أن يعيش حراً في أي مكان يشاء خارج إيطاليا؛ ويختلف الطرد والنفي عن الأبعاد، ذلك أن الإبعاد- كما حدث لأوفد- لم يكن يتضمن مصادرة المال، وكل ما في الأمر أن المبعد كان يرغم على الإقامة في بلدة معينة، بعيدة في العادة عن رومة. وقلما كان يلجأ إلى السجن ليكون عقوبة دائمة، ولكن كان في الاستطاعة أن يحكم على الرجال بالاشتغال في الأعمال العامة، أو في المناجم أو المحاجر التي تستغلها الدولة. وكان في وسع الرجل الحر المحكوم عليه بالإعدام في عهد الجمهورية أن ينجو من العقاب إذا أخرج من رومة أو من إيطاليا؛ وازدادت أحكام الإعدام في عهد الإمبراطورية في عددها وقسوتها، فكان أسرى الحرب، والمحكوم عليهم بالإعدام من غير الأسرى في بعض الأحيان، يلقون في جب تليان ليموتوا من الجوع وفتك الحشرات القارضة والقمل في السراديب المظلمة وسط الأقذار التي لا يستطيعون إزالتها(46). وفي مثل هذه الأماكن مات ججورتا وسيمون بن جيوفا Simon Ben- Giova البطل الذي دافع عن أورشليم ضد تيتس، وفي مثلها كما تقول الرواية المتواترة: عذّب القديسان بطرس وبولس قبل أن يصلبا، وكتبا آخر رسائلهما إلى العالم المسيحي الناشئ.


الفصل السادس: قانون الأمم

وكانت أعقد المشاكل التي واجهها القانون الروماني أن يكيف نفسه، وهو قانون الدولة السيدة ذات العقلية الممتازة، بحيث لا يتعارض مع القوانين السائدة أو العادات المرعية في الأراضي التي أخضعتها رومة لسلطانها بقوتها العسكرية أو مهارتها السياسية. وكان عدد كبير من هذه الدول الخاضعة لرومة أقدم منها، وكان لها من تقاليدها التي تفخر بها ومن أساليبها الخاصة التي تحرص عليها وتعتز بها ما يعوضها عما فقدته من قوتها العسكرية. وقد استطاعت رومة أن تتغلب على هذه المشكلة بمهارة فائقة، فقد عينت في بادئ الأمر بريتوراً يختص بشئون الأجانب Praetor Peregrinus القاطنين في رومة ثم القاطنين في إيطاليا، ثم في الأقاليم الخارجية، وجعل من حقه أن يوفق بين القانون الروماني والقانون المحلي توفيقاً دائماً. ولقد نشأ من القرارات التي يصدرها البريتورون، وحكام الولايات، والإيديلون على مر الزمن قانون الأمم الذي كان يطبق على الإمبراطورية بأجمعها، والتي كانت تحكم بمقتضاه.

ولم يكن "قانون الأمم" قانوناً دولياً، أي أنه لم يكن طائفة من الالتزامات والأحكام ارتضه الدول بوجه عام لتحديد علاقاتها بعضها ببعض. لقد كان في العهد القديم قانون دولي إذا لم تفهم من هذا اللفظ بمعناه في الزمن القديم معنى أدق كثيراً مما نفهمه منه في هذه الأيام. فقد كانت بعض العادات العامة تراعى ويتقيد بها في السلم والحرب- كالحماية المتبادلة للتجار والدبلوماسيين الدوليين، ووقف القتال لدفن الموتى، والامتناع عن استخدام السهام المسمومة، وما إلى هذا. وكان فقهاء القانون الروماني يصفون قانون الأمم هذا ius gentium بأنه قانون عام يشمل الأمم جميعها، ولكن هذا لم يكن إلا من قبيل التفاخر الوطني الكاذب. على أنه لم يكونوا يعزون إلى رومة أكبر من نصيبها الحق فيه. فقد كان في واقع الأمر قوانين محلية كيفت بحيث تتفق مع السيادة الرومانية، وكان الغرض منها أن يستطاع بها حكم شعوب إيطاليا والولايات التابعة للدولة الرومانية من غير أن يعطى لأهلها حق المواطنية الرومانية وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في القانون المدني. وبمثل هذه الدعوى الكاذبة حاول الفلاسفة أن يقولوا إن قانون الأمم هو "قانون الطبيعة". وكان الرواقيون يعرفون قانون الطبيعة بأنه قانون أخلاقي متأصل في الإنسان بفعل "العقل الفطري". وكانوا يعتقدون أن الطبيعة نظام من نظم العقل، قوامه المنطق والترتيب المحكم الكامن في الأشياء جميعها. وهذا الترتيب المحكم الذي ينمو في المجتمع من تلقاء نفسه، ثم يصل إلى مستوى الوعي في الإنسان، هو القانون الطبيعي، وقد عبر شيشرون عن هذا الوهم بعبارة ذائعة الصيت فقال: "إن القانون الصحيح هو العقل الحق المتفق مع الطبيعة، والذي يدخل في نطاقه العالم بأسره، والسرمدي الذي لا يتبدل... وليس من حقنا أن نقاوم ذلك القانون أن نبدله، وليس في مقدورنا أن نلغيه، ولا نستطيع أن نتحرر مما يفرضه علينا من التزامات بالتشريع أياً كان، ولسنا في حاجة إلى أن ننظر في خارج أنفسنا لنبحث عن شرح له أو توضيح. وهذا القانون لا يختلف في رومة عنه في أثينة، ولا في الحاضر عنه في المستقبل... وهو قانون صحيح ثابت عند جميع الأمم وفي جميع الأحقاب... ومن عصاه فقد أنكر نفسه وأنكر طبيعته"(47).

ذلك وصف كامل لمثل أعلى أخذ يزداد قوة حين جلست الرواقية على العرش في عهد الأنطونيين. وما زال البيان يرفع من شأنه حتى بلغ على يديه ذلك المبدأ الواسع المدى القائل بأن ما بين الطبقات من فروق ومميزات أمور عارضة اصطناعية. ولم يكن ثمة إلا خطوة واحدة بين هذا المبدأ وبين الفكرة المسيحية القائلة بأن الناس في حقيقة أمرهم أكفاء. غير أن جايوس عرف قانون الأمم بأنه ليس أكثر من "القانون الذي شرعه العقل الفطري بين البشر جميعاً" كان يعتقد خطأ أن الأسلحة الرومانية هي الإرادة الإلهية، ذلك أن القانون الروماني كان هو منطق القوة وهدفها الاقتصادي؛ ولم تكن القوانين العظمى المدنية والأممية إلا القواعد التي يخلع بها الفاتح الحكيم النظام، والاطراد، والقداسة الزمنية على تلك السيادة القائمة على قوة الفيالق. نعم إن هذه القوانين كانت طبيعية، بمعنى أنه كان من الطبيعي أن يستخدم الأقوياء الضعفاء وأن يسيئوا استخدامهم.

لكن هذا الصرح المهيب من أداة الحكم التي يطلق عليها اسم القانون الروماني كان فيه شيء من النبل. وإذا كان لا بد أن يكون الحكام هم الأقوياء فإن من الخير أن تكون القواعد التي يفرض بها سلطانه واضحة صريحة، وبهذا المعنى يكون القانون هو استقرار القوة واستقامتها. ولقد كان من الطبيعي أن ينشئ الرومان أعظم نظام قانوني في التاريخ كله. ذلك أنهم كانوا يحبون النظام وأنهم كانت لديهم الوسائل التي تمكنهم من فرضه على الناس، وقد فرضوا على مئات من الأمم المختلفة المشارب و الأجناس التي كانت تتخبط في دياجير الفوضى والاضطراب سلطاناً وسلاماً، لا ننكر أنهما لم يبلغا حد الكمال ولكنهما كانا في واقع الأمر جليلي القدر عظيمي الأثر. ولقد كان لغير رومة من الدول التي قامت قبلها قوانين، ونشأ فيها مشترعون أمثال حمورابي وصولون سنوا طائفة مكتملة من التشريعات الإنسانية الرحيمة، غير أنه لم يوجد قط شعب غير الرومان أفلح فيما أفلحوا هم فيه من تنسيق الشرائع وتوحيدها وتقنينها، وهي أعمال كانت الشغل الشاغل لأصحاب العقول الجبارة في رومة من عهد أبناء اسكافولا Scaavola إلى جستنيان.

وقد يسرت مرونة قانون الأمم انتقال القانون الروماني إلى الدول الأخرى في العصور الوسطى وفي عصرنا الحاضر. وكان من محاسن الصدف أنه بينما كانت الفوضى التي أعقبت غارات البرابرة تقضي على التراث القانوني في غربي أوربا، كان قانون جستنيان، وموجزه، ونظمه تجمع وتصاغ في القسطنطينية في ظل الاستقرار والثبات النسبيين السائدين في شرقيها. وبفضل هذه الجهود، وعشرات الوسائل الأقل منها شأناً، وأساليب الحياة الصامتة الدائبة، دخل القانون الروماني في الشرائع الدينية التي سنتها الكنيسة في العصور الوسطى، وكانت هي الوحي الملهم لعقول المفكرين في عصر النهضة، وأضحت هي الأساس التي قامت عليه قوانين إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا، وألمانيا، وبلاد المجر، وبوهيميا، وبولندة، بل واسكتلندة، وكوبك، وسيلان، وأفريقية الجنوبية من بلاد الإمبراطورية البريطانية. ولقد استمد القانون الإنجليزي نفسه، وهو الصرح القانوني الوحيد الذي يضارع القانون الروماني في اتساع المدى، قواعد العدالة، والقوانين البحرية، والولاية، والإرث من القانون الروماني. وإذا أحصينا أثمن ما ورثناه من العالم القديم قلنا إنه هو العلوم والفلسفة اليونانية، والمسيحية اليهودية اليونانية، والديموقراطية اليونانية الرومانية، والقانون الروماني.