قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 3 ب 15

صفحة رقم : 3444

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الزعامة -> رومة العاملة -> الزراع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الخامس عشر: رومة العاملة 14-96م

الفصل الأوّل: الزراع

في العصر الفضي ظهر المرجع الروماني الهام في الزراعة وهو كتاب يونيوس كلوملا Junius Columella المسمى De Re Rustica. ومؤلفه من أصل أسباني فهو من الناحية شبيه بكونتليان ومارتيال وآل سنسكا. وكان يستغل عدة ضياع في إيطاليا ثم اتخذ مسكنه بعدئذ في رومة. ذلك انه وجد ان أحسن الأراضي قد شيدت عليها البيوت ذات الحدائق وسويت لتكون مسارح للأثرياء، وان التي تليها في الجودة قد غرست فيها بساتين الزيتون والكروم، ولم يبق للزراعة إلا أردأ الأراضي. ومن أقواله في هذا: "لقد وكلنا حرث أراضينا لأحط العبيد، وهم يقومون بعملهم قيام الهمج". وكان يرى أن أحرار إيطاليا يتدهورون في المدن على حين انه كان في مقدورهم أن يقووا أجسامهم وأخلاقهم بالعمل في الأرض، "فنحن نعمل في الملاعب ودور التمثيل ولا نعمل بين المزارع والكروم". وكان كلوملا يحب الأرض ويحس بأن أفلحها أعود على الناس من ثقافة المدن، ويقول في ذلك إن "الزراعة من أخوات الحكمة". وكان يغرى الناس بالعودة إلى الحقول بتجميل موضوعاته بالألفاظ اللاتينية المصقولة. وإذا تحدث عن الحدائق والأزهار بلغت حماسته الشعرية غايتها.

وتلك هي الفترة التي نطق فيها بلنى العالم الطبيعي بقبرية لم يكن موعدها قد حان: "إن الضياع الكبيرة قد خربت إيطاليا"، وذلك حكم أصدره غيره من الكتاب وهم سنكا، ولو كان، وبترونيوس، ومارتيال، وجوفناتل. فقد وصف سنكا مسارح الأنعام التي كانت أوسع رقعة من الممالك يزرعها عبيد مصفدون في الغلال. ويقول كالوملا ان بعض الضياع قد بلغت من السعة حداً يستحيل معه على مالكيها أن يطوفوا حولها راكبين. ويحدثنا بلنى عن ضيعة يعمل فيها 4117 من العبيد، و 7200 ثور، و 257.000 من الحيوانات الأخرى. نعم ان ما عمله أبنا جراكس، وقيصر، وأغسطس من توزيع الأراضي على الرومان قد زاد عدد صغار الملاك، ولكن معظم هؤلاء تركوا أملاكهم في أثناء الحروب التي قامت بعدئذ وابتاعها الأغنياء، ولما ان قللت الإدارة الإمبراطورية من أعمال السلب والنهب في الأقاليم ابتاع الأشراف بأموالهم ضياعاً كبيرة. وكان سبب انتشار المراعي والضياع الواسعة إن تربية الماشية وزراعة أشجار الزيتون والكروم كانت أكثر ربحاً من زراعة الحبوب والخضر، وأن أصحابها قد تبينوا ان المراعي إذا أريد أن تستغل على خير وجه وجب ان تكون متسعة المساحة موحدة الإدارة. فلما اشرف القرن الأول بعد الميلاد على الانتهاء كانت هذه المزايا قد أخذت في الزوال بسبب ما حدث من الزيادة في تكاليف العبيد، ومن النقص في إنتاجهم، ومن ضعف قدرتهم على الابتكار. وقد بدأ في هذه الأثناء الانتقال الطويل الأجل من استخدام العبيد إلى استخدام أقنان الأرض. وكان سبب ذلك أن السلام قلل من استرقاق أسرى الحروب، فعمد بعض ملاك الضياع الواسعة إلى تقسيمها أقساماً صغيرة لا يستخدمون في فلحها العبيد بل يؤجرونها إلى زراع أحرار يؤدون لهم في نظير ذلك مالاً وعملاً. وكان معظم (الأراضي العامة) التي تملكها الحكومة يستغل وقتئذ بهذه الطريقة، كما كانت تستغل بها أيضاً الأراضي الواسعة التي يمتلكها بلنى الأصغر الذي يصف مستأجريه بأنهم فلاحون أصحاء، أقوياء، طيبو القلوب، ثرثارون، وهو وصف ينطبق كل الانطباق على الفلاحين الإيطاليين في هذه الأيام، فقد بقوا على حالهم رغم ما حل بالبلاد من أحداث وما طرأ عليها من تغيير.

وكانت أساليب الزراعة وأدواتها لا تختلف اختلافاً جوهرياً عما كانت عليه منذ قرون، فقد احتفظ المحراث، والمجرفة، والمعزقة، والفأس، والمذراة، والمنجل بصورتها التي كانت عليها في تلك الأيام، ولم تكد تتغير في شيء. وكانت الحبوب تطحن في طواحين تديرها المياه أو الحيوانات. وكانت المضخات اللولبية والسواقي ترفع الماء من العيون أو الأنهار إلى قنوات الري. وكان يحفظون بخصب التربة بأتباع الدورة الزراعية، واستخدام المخصبات والنباتات التي تفيد الأرض كالفصفصة والبرسيم والشيلم والفول. وكانوا يتفننون في انتخاب البذور، وكان في وسعهم بعنايتهم وحذقهم أن يجنوا ثلاثة محاصيل أو أربعة في بعض الأحيان من حقول كمبانيا ووادي البو الخصبة الغنية. وكان في مقدورهم أن يحصلوا من زرعة واحدة من الفصفصة على أربعة محصولات أو ستة في كل عام لمدة عشرة أعوام. وكانوا يزرعون كل الخضر الأوربية المعروفة عدا أندرها، وكانوا يزرعون بعضها في البيوت الزجاجية ليتجروا فيها أثناء الشتاء. وكانت أشجار الفاكهة والنقل على اختلاف لا أنواعها كثيرة، لأن القواد والتجار الإطاليين، والتجار الأجانب، والأرقاء حملوا معهم إلى إيطاليا الكثير من أصنافها، فجاءوا بأشجار الخوخ من بلاد الفرس، والمشمش من أرمينية، والكرز من كراسس في إقليم بنتس (ومنها اشتق اسم هذه الفاكهة)، والكرم من سوريا، والبرقوق من دمشق، والخوخ والبندق من آسية الصغرى، والجوز من بلاد اليونان، والزيتون والتين من أفريقية.. واستطاع المهرة من زراع الأشجار أن يطعموا شجر القطلب (الأريوطس) بأغصان شجر الجوز، وشجر الدلب بأغصان الخوخ، وشجر الدردار بأغصان الكرز. ويذكر بلنى تسعة وعشرين نوعاً من شجر التين كانت تزرع في إيطاليا، ويقول كالوملا: "لقد عرفت إيطاليا بفضل عناية زراعنا كيف تنتج فاكهة العالم كله تقريباً". ثم نقلت هذه الفنون إلى غربي أوربا وشماليها. وجملة القول أن ألوان الطعام الكثيرة التي نأكلها قد تجمعت من رقعة واسعة من الأرض، وان لها من ورائها تاريخ طويل. وقد يكون هذا الطعام جزءاً من التراث الذي ورثناه من بلاد الشرق أو بلاد اليونان والرومان الأقدمين.

وكانت بساتين الزيتون كثيرة العدد، أما الكروم فلم يكن يخلو منها مكان، وكانت تدرج لها سفوح الجبال فتبدو ذات روعة وجمال. وكانت إيطاليا تخرج خمسين نوعاً من أنواع النبيذ المشهورة، وكانت رومة وحدها تحتسى منها خمسة وعشرين مليون جالون في كل عام، أي بمعدل نصف جالون لكل شخص من ساكنيها رجالهم ونسائهم وأطفالهم وعبيدهم كل أسبوع. وكان معظم النبيذ من إنتاج المنظمات الرأسمالية ـ أي بطرقة الإنتاج الكبير الذي تموله رومة. وكان الكثير مما تنتجه يصدر إلى خارج البلاد لك يتذوق البلاد التي يتشرب الجعة كألمانيا وغالة لذة النبيذ. وشرعت أسبانيا وأفريقية وغالة تزرع كرومها، واخذ زراع الكروم الإيطاليون يفقدون من البلاد التي يصدرون إليها نبيذهم أسبوعاً بعد أسبوع، ويغمرون سوقهم المحلية بأكثر مما تطيقه من النبيذ في إحدى أزمات الإنتاج الوفير التي عانتها رومة في الزمن القديم. وحاول دومتيان أن يخفف من أثر هذه الحال السيئة ، وأن يعيد زراعة الحبوب إلى حالها الأولى، فحرم غرس كروم جديدة في إيطاليا وأمر بأن تدمر نصف الكروم المزروعة في الولايات. وأثارت هذه الأوامر عاصفة من الاحتجاج الشديد، وعجزت الحكومة عن تنفيذها فكانت النتيجة ان نبيذ غالة وزيتون أسبانيا وأفريقية وبلاد الشرق أخذا يطردان الغلات الإيطالية من أسواق البحر الأبيض المتوسط وبدأ من ذلك الوقت اضمحلال إيطاليا الاقتصادي.

وخصص جزء كبير من أراضي شبه جزيرة إيطاليا للمراعي، فكانت الأرض غير الموفورة الخصب، وكان العبيد ذوو الأجور الرخيصة يستخدمان لتربية الماشية والضأن والخنازير، وكانوا يعون بتربيتها على الطريقة العلمية. وكانت الخيل تربى في الغالي للأغراض الحربية، وللصيد وألعاب الفروسية، وقلما كانت تستخدم لجر المركبات؛ وكانت الثيران تجر المحاريث والعربات، والبغال تحمل الأثقال على ظهورها؛ وكانت البقر والغنم والماعز تمد الأهلين بثلاثة أنواع من اللبن يصنع منه الإيطاليون وقتئذ كما يصنعون منه في هذه الأيام أصناف الجبن اللذيذ. وكانت الخنازير تربى في الغابات الغنية بالجوز وثمار البلوط. ويقول استرابون إن إيطاليا كانت تعيش في الغالب على لحم الخنازير التي تتربى في غابات البلوط الكثيرة في شمالي إيطاليا. وكان الدجاج يمد المزارع بالسماد المخصب والأسر الإيطالية بالطعام اللذيذ، كما كان النحل يمد الأهلين بالشهد الذي كان منذ القدم يستعمل بدل السكر. وإذا أضفنا إلى ما سبق بعض مساحات من الكتان والتيل،وقليلاً من صيد الحيوان، وكثيراً من سيد السمك، تكونت لدينا الصورة التي كان عليها الريف الإيطالي منذ ألف وتسعمائة عام والتي لا يزال محتفظاَ بها إلى اليوم.


الفصل الثاني: الصناع

لم يكن في الحياة الرومانية ـ ولعله لا يصح أن يكون فيها إذا صلحت الأحوال الاقتصادية ـ فرق جغرافي بين الزراعة والصناعة مثل ملا بينهما من فرق في هذه الأيام. ذلك ان الموطن الجغرافي القديم ـ سواء أكان كوخاً أم بيتاً صغيراً ذا حديقة أ مبيتاً كبيراً في ضيعة ـ كان مصنعاً يدوياً بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ بعمل فيه الرجال بأيديهم في صناعات هامة متعددة لا غنى لهم عنها، بينا تملاْ النساء البيت وما يجاوره بما لا يحصى من منتجات الفنون والصناعات. فهناك تستحيل الغابات ملاجئ ويتخذ منها الوقود والأثاث، وتذبح الماشية وينتفع بجلودها ولحومها، وتطحن الحبوب وتخبز، وتعصر الزيوت والخمور، ويعد الطعام ويحفظ، وينظف الصوف والتيل وينسجان، ويحرق الطين في بعض الأحيان وتصنع منه الآنية والآجر والقرميد، وتطرق المعادن وتصنع منها الأدوات. والحياة في الريف مليئة بالعمل المهذب المثقف المختلف الأنواع الذي لا يستمتع به إلا القليلون منه في عصرنا الحاضر عصر الحركة الواسعة والتخصص الضيق. ولم يكن تعدد الصناعات في المنزل الواحد دليلاً على أن الحال الاقتصادية في الريف فقيرة وبدائية، فقد كانت أكثر البيوت ثراءً أكثرها اعتماداً على نفسها واكتفاء بمنتجاتها، وكان أهلها يفخرون بأنهم ينتجون معظم ما هم في حاجة إليه. وكانت الأسرة في تلك الأيام منظمة من وحدات اقتصادية متعاونة متحدة الجهود في الأعمال الزراعية والصناعية التي تقوم بها في منزلها.

ولما أن تعهد صانع ما بالقيام بعمل لعدة أسر، وأقام لنفسه حانوتاً في موضع يسهل على هذه الأسر جميعها أن تصل إليه، لما فعل هذا أخذ اقتصاد القرية يكمل ما ينقص من اقتصاد الأسرة، ولكنه لم يحل محله. مثال ذلك أن الطحان أخذ يحمل الحبوب من عدة حقول ويطحنها لأصحابها؛ ثم أخذ بعدئذ يصنع لها الخبز، وقام آخر الأمر بتوزيعه. وقد عثر في أنقاض بمبي على أربعين مخبزاً، وكان لصناع الفطائر في رومة نقابة خاصة بهم. كذلك كان هناك متعاقدون يشترون محصول الزيتون على شجره ويجمعونه فيما بعد. على أن معظم الضياع ظلت تجمع زيتونها وتصنع خبزها بنفسها. وكانت ملابس الزراع والفلاسفة تغزل في البيوت، أما الأثرياء فكانت ثيابهم تعزل في البيوت كملابس الفقراء ولكنها كانت تمشط، وتنظف، وتبيض، وتفصل في أماكن معدة لهذه الأغراض. وكانت بعض المنسوجات الصوفية الرفيعة تنسج في مصانع خاصة، وكان الكتان الذي تصنع منها أشرعة السفن أو شباك الصيد ينسج في المصانع قماشاً رفيعاً تتخذ منه ملابس للسيدات ومناديل للرجال. وكان النسيج في بعض الأحيان يرسل بعدئذ إلى صباغ لا يقتصر عمله على تلوينه بل كان يطبع عليه رسوماً جملة كالتي نراها مطبوعة على الملابس المصورة على جدران بمبي، وتطورت دباغة الجلود فأصبحت لها مصانع خاصة بها، وان بقيت صناعة الأحذية يقوم بها الأفراد فيصنعون منها ما يطلب إليهم صنعه. وكان فيهم أخصائيون لا يصنعون إلا (شباشب) النساء.

وكانت الصناعات التي تستخرج موادها الغفل من باطن الأرض يقوم بها كلها تقريباً العبيد والمجرمون، وكانت مناجم الذهب والفضة في داشيا وغالة وأسبانيا، ومناجم الرصاص والقصدير في أسبانيا وبريطانيا،ومناجم النحاس في قبرص والبرتغال، ومناجم الكبريت في صقلية، والملح في إيطاليا،والحديد في إلبا، والرخام في لونا Luna وهيمتس Hymettus وباروس Paros، والحجر السماقي في مصر، كانت هذه كلها وغيرها من موارد الثروة التي تستخرج من باطن الأرض تمتلكها الدولة وتستغلها بنفسها أو تؤجرها لغيرها، وكانت مصدراً هاماً من مصادر الإيراد القومي؛ وحسبنا دليلاً على أهميتها أن فسبازيان كان يحصل من مناجم الذهب في أسبانيا وحدها على ما قيمته 44.000.000 دولار في كل عام. وكان البحث عن الثروة المعدنية من أهم أسباب الفتوح الاستعمارية، ومن أقوال تاستس في هذا المعنى أن ثروة بريطانيا المعدنية كانت "جزاء النصر" الذي ظفر به كلوديوس في حروبه. وكان الخشب والفحم النباتي أهم أنواع الوقود، وكان البترول معروفاً في كمجيني Commagene وبابل وبارثيا، وكان المدافعون عن ساموساتا Samosata يلقونه متقداً على مشاعل على جنون لوكلس، ولكننا لم نعثر على شاهد يدل على انه كان يستخدم وقوداً على نطاق تجاري . وقد عثر على الفحم الحجري في البلوبونيز وفي شمال إيطاليا، ولكن أكثر من كاوا يستخدمونه هم الحدادون. وكانت صناعة كبرتة الحديد لتحويله إلى فولإذ قد انتشرت من مصر إلى كافة أنحاء الإمبراطورية. وكان معظم صناع الحديد، والنحاس، والذهب، والفضة، يقومون بأعمالهم في مصاهر خاصة يعملون فيها بمساعدة صبي أو صبيين. وفي كابوا ومنتورني Menturnae وبتيولي Puteoli وأكويليا Aquileia وكومو Como وغيرها من البلاد انضمت عدة أفران ومصاهر وتكونت منها مصانع كبيرة. ويلوح ان مصانع كاوا كانت مشروعات رأسمالية ذات إنتاج ضخم، تعتمد على أموال تأتيها من خارجها.

وكانت صناعة البناء حسنة التنظيم عظيمة التخصص، فكان ":حاملو الأشجار" Dendrophoroi يقطعون الأشجار ويوردونها، و"صناع الخشب" Fabri lingaru يصنعون الأثاث، و "صانعو الأسمنت" Caementaru يخلطونه، و"المشيدون" Structures يضعون الأساس، و"القباءون" arcuaru يثبتون العقود، و"مقيموا الجدران" parieutaru يرفعون الحوائط، و "الطلاسون" يطلونها بالجص، والمبيضون albaru يطلونها بالجير، وصانعو الأدوات الصحية artifices plumbaru يصنعون من أدواتها وهي في الغالب أنابيب من الرصاص (plumbum)، وكان المبطلون marmoru يفرشون الأرض بالرخام، وفي وسعنا أن نتصور ما تؤدي إليه هذه الأعمال كلها من نزاع، وكان الآجر والقرميد يأتيان من معامل الفخار، وكان معظمها قد بلغ مرحلة المصانع الكبيرة، وكان تراجان، وهدريان، وماركس أورليوس يمتلكون عدداً منها ويجنن منها أرباحاً طائلة. وكانت قمائن أرتيوم Arretuim، وموتينا Mutina، وبيتولي وسرنتم، وبولنتيا Pollentiae تصنع أدوات الموائد العادية اللازمة لإيطاليا ولجميع الولايات الأوربية والأفريقية. ولم تكن هذه المنتجات الكثيرة ذات صبغة فنية راقية، بل كان أهم ما يعنى به أصحابها هو كثرة الإنتاج، ولذلك كانت الأدوات الخزفية التي امتلأت بها أسواق إيطاليا أقل جودة من منتجات أرتيوم السالفة الذكر. وكانت هناك أدوات متقنة ذائعة الصيت تصنع من الزجاج، وسنذكر شيئاَ عنها فيما بعد.

وليس من حقنا أن نعزو إلى إيطاليا القديمة وجود رأسمالية صناعية مستندين إلى ما نجده فيها من مصانع للزجاج، والآجر والقرميد، والفخار، والأدوات المعدنية. ذلك أن رومة نفسها لم يكن فيها إلا مصنعان كبيران أحدهما مصنع للورق والثاني مؤسسة للصباغة؛ وأكبر الظن ان المعادن والوقود لم يكن من الميسور الحصول عليها بكميات وفيرة، ون مكاسب السياسة كانت تبدو لأهل رومة أعظم شرفاً من أرباح الصناعة. أما في مصانع إيطاليا الوسطى فإن الصناع على بكرة أبيهم تقريباً وبعض المشرفين على المصانع كانوا من العبيد، وفي مصانع شمالي إيطاليا كان عدد غير قليل من الصناع أحراراً، وكان عدد العبيد لا يزال كبيراً إلى الحد الذي يحو لدون استخدام الآلات. ولم يكن من المنتظر أن يعمد المهملون المتراخون الذين لا مصلحة لهم في الإنتاج إلى الاختراع والابتكار، بل انهم كانوا يرفضون بعض الوسائل التي توفر المجهود العضلي خشية أن تنتشر البطالة بين الصناع، كما أن قدرة الشعب على الشراء كانت أضعف من أن تمول الإنتاج الكبير بالآلات ، أو تشجع عليه. ولسنا نفكر انه كان هناك بعض الآلات البسيطة بطبيعة الحال في إيطاليا ومصر والعالم اليوناني: كالمضاغط والمضخات اللولبية، والآلات الرافعة للمياه، ومطاحن الحبوب التي تجرها الحيوانات، وعجلات الغزل، والأنوال، والروافع، وعجلة الفخراني الدوارة... ولكن الحياة الإيطالية في الوقت الذي نتحدث عنه (69م) لم يكن فيها من الحركة الصناعية إلا بقدر ما كان في حياة الناس إلى ما قبل القرن التاسع عشر. ولم يكن مستطاعاً أن تزيد هذه الحياة على هذا القدر مادامت قائمة على الرقيق وعلى تركيز الثروة أشد التركيز. يضاف إلى هذا أن القانون الروماني لم يكن يشجع المنشآت الكبيرة لأنه كان يتطلب من كل شريك في أي مشروع صناعي أن يكون شريكاً مسئولاً من الوجهة القانونية، وكان يحرم قيام الشركات ذات "المسئولية المحدودة"، ولا يسمح بقيام الهيئات المساهمة الا لأداء الأعمال الحكومية. ولما كانت هذه القيود وأمثالها تحد من نشاط المصارف، فإنها قلما كانت تقدم رؤوس الأموال اللازمة لمشروعات الإنتاج الكبير، ولم يكن في وسع التطور الصناعي في رومة أو إيطاليا أن يبلغ في وقت من الأوقات ما بلغه في الإسكندرية أو في بلاد الشرق ذات الحضارة اليونانية.


الفصل الثالث: الحمالون

كانت المركبات ذات العجلات محرمة في رومة أثناء النهار من عهد قيصر إلى كومودس؛ وكان الناس وقتئذ يمشون أو يحملهم العبيد في كراسي أو هوادج، أما المسافات الطويلة فكانوا يقطعونها على ظهور الخيل أو في مركبات تجرها الجياد، وكان متوسط ما تقطعه المركبات العامة نحو ستين ميلاً في اليوم. وقد اجتاز قيصر مرة ثمانمائة ميل في ثمانية أيام، واجتاز الرسل الذين حملوا إلى جلبا في أسبانيا نبأ وفاة نيرون 332ميلاً في ست وثلاثين ساعة؛ وقطع تيبيروس في ثلاثة أيام واصل فيها السير راكباً ليلاً ونهاراً ستمائة ميل ليكون إلى جوار أخيه ساعة وفاته. وكان البريد العام الذي ينقل في العربات أو على ظهور الخيل في ساعات النهار والليل جميعها يسير بسرعة يبلغ متوسطها مائة ميل في اليوم. وكان أغسطس قد أنشأه على غرار نظام البريد الفارسي، لأنه وجد ألا غنى له عنه في تصريف شئون الإمبراطورية. وكان يطلق عليه لفظ البريد العام لأن مهمته هي خدمة المصلحة العامة بنقل الرسائل الرسمية. أما الأفراد فلم يكونوا يستطيعون الانتفاع به إلا في ظروف قليلة وبتصريح خاص تصدره الحكومة ويسمى دبلوما أي "مطويا مرتين" يبيح لحامله بعض الامتيازات، ويمكنه من الاتصال في الطريق ببعض أصحاب المقامات لدبلوماسية الكبيرة. وكان ثمة وسيلة أخرى للاتصال أسرع من هذه الوسيلة، وهي طريقة إرسال الرسائل بمصابيح مرفوعة على أعمدة ترسل إشارات بالضوء من نقطة إلى نقطة؛ وبهذا البرق البدائي عرفت رومة المضطربة القلقة نبأ وصول السفن التي تحمل الحبوب إلى بمبي. أما الرسائل غير الرسمية فكان ينقلها رسول خاص، أو ينقلها التجار أو الأصدقاء المسافرون. ولدينا من الشواهد ما يوحي بوجود شركات خاصة في عهد الإمبراطورية تتكفل بنقل بريد الأفراد.وكانت الرسائل الخاصة في ذلك الوقت أقل من مثيلاتها في هذه الأيام وأحسن منها. على أن نقل الأخبار في غربي أوربا وجنوبيها لم يكن في عهد قيصر أقل سرعة منه في أي وقت من الأوقات قبل مد السكك الحديدية. وشاهد ذلك ان الخطاب الذي أرسله قيصر من بريطانيا إلى شيشرون في عام 54 ق.م وصل إلى رومة في تسعة وعشرين يوماً، وان سير ربرت بيل لما سافر مسرعاً من رومة إلى لندن في عام 1834 احتاج إلى ثلاثين يوماً(20).

وكانت الطرق القنصلية من أهم العوامل في تسيير سبل الاتصال والنقل.وكانت هذه الطرق هي الوسائل التي ينفذ لها القانون الروماني، والأعصاب التي تصبح بها رغبات رومة إرادة الدولة بأجمعها. وقد أحدثت هذه الطرق في العالم القديم انقلاباً تجارياً من نوع الانقلاب الذي أحدثه إنشاء الطرق الجديدة في القرن التاسع عشر. وحسبنا شاهداً على عظمة هذه الطرق أن طرق أوربا في العصور الوسطى وفي العصور الحديثة ظلت إلى أيام استخدام البخار في النقل أقل شأناً من طرق الإمبراطورية الرومانية في عهد الأنطونيين. لقد كان في إيطاليا وحدها في ذلك الوقت 372 طريقاً رئيسياً، 12000 ميل من الطرق الكبرى المرصوفة، وفي الإمبراطورية بأجمعها 51.000 ميل من الطرق العامة المرصوفة، فضلاً عن شبكة أخرى من الطرق الثانوية. وكانت الطرق الكبرى تسير فوق جبال الألب إلى ليون، وبردو، وباريس، وريمس، وبولوني؛ وكانت طرق أخرى تجري إلى فينا، ومينز، وأجزبرج، وكولوني، وأوترخت، وليدن؛ وكان ثمة طريق يبدأ من أكويليا محازياً ساحل البحر الأدريادي، ويصل هذه المدينة عن طريق إجناشيا بسلانيك Thessalonica. وأقيمت جسور فخمة لتحل محل القوارب التي كانت تنقل الركاب والبضائع في عرض المجاري التي كانت تعطل سبل الاتصال في الزمن القديم. وكانت توضع عند كل ميل في الطرق القنصلية شواهد حجرية تبين المسافة بين كل شاهد والبلدة التي تليه. ولا تزال أربعة آلاف من هذه الشواهد باقية إلى يومنا هذا؛ ووضعت على مسافات معينة مقاعد يستريح عليها المسافرون المتعبون. وأنشئت بعد كل عشرة أميال محاط يستطيع من شاء أن يستأجر منها خيلاً، وأقيم بعد كل ثلاثين ميلاً نزل Mansio كان أيضاً مستودعاً للسلع وندوة وماخورا(21). وكانت نقط الاستراحة الرئيسية هي المدائن التي أنشئت فيها عادة فنادق جميلة تمتلكها وتديرها أحياناً الحكومات البلدية(22). وكان معظم أصحاب النزل يسرقون أموال النزلاء كلما تيسرت لهم أسباب السرقة، كما كان غيرهم من اللصوص يجعلون الطرق غير آمنة في أثناء الليل على الرغم من وجود حاميات من الجند في كل محطة. وكان في استطاعة المسافرين أن يبتاعوا كتباً للإرشاد تبين الطرق والمحاط، وأطوال ما بينها من المسافات(23). وكان الأثرياء الذين يستنكفون أن ينزلوا في النزل يحضرون معهم ما يلزمهم من الحاجيات، ويصطحبون العبيد وينامون في عرباتهم بحراسة رجالهم، أو في بيوت أصدقائهم، أو موظفي الحكومة المحليين.

وأكبر الظن أن الأسفار في عهد نيرون كانت أكثر منها قبل أن نولد نحن، رغم ما كان يعترضها من الصعاب. وفي ذلك يقول سنكا: "إن كثيرين من الناس كانوا يركبون البحار مسافات طويلة ليشاهدوا منظراً بعيداً"(24). ويحدثنا أفلوطرخس عن الخبابين الذين يقضون خير أيام حياتهم في النزل وفي القوارب"(25). وكان الرومان المتعلمون يهرعون جماعات إلى بلاد اليونان ومصر وآسية اليونانية، وينقشون أسماءهم على الآثار التاريخية، ويرتادون الأجواء ومنابع المياه المفيدة للعلاج والصحة، أو يأتون لمشاهدة المجموعات الفنية في الهياكل، أو يسافرون للدرس على مشهوري الفلاسفة والخطباء والأطباء؛ وما من شك في انهم كانوا يسترشدون بيوسنياس كما نسترشد نحن ببدكر(26).

وكانت هذه الرحلات الطويلة تتضمن عادة رحلة بحرية على ظهر سفينة أو أكثر من السفن التجارية التي تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، متتبعة عشرات العشرات من طرق الملاحة التجارية. وقد وصف جوفنال هذه الطرق بقوله: "انظر إلى الموانئ والبحار تجدها غاصة بالسفن وعلى ظهرها من الخلائق أكثر ممن على الأرض"(27). وكانت الثغور التي تنافس رومة في عظمتها، وهي بتيولي، وبورتس، وأستيا، تحوي كثيراً من دور الصناعة تبنى المراكب وفيها القيارون يجلفطونها والعمال يضعون فيها صابورات من الرمال، والحمالون يفرغون الحبوب في أكياس، والوازنون يزنونها، والملاحون يسيرون القوارب الصغيرة بين السفن الكبرى والبر، والغواصون يغوصون في البحر لينتشلوا ما يسقط فيه من البضائع. وكانت خمس وعشرون سفينة من سفن الحبوب وحدها تجر إلى نهر التيبر في كل يوم من أيام العمل، فإذا أضفنا إليها ناقلات حجارة البناء والمعادن، والزيت، والخمور، وعشرات المئات من المواد الأخرى تكونت لدينا صورة من النهر الغاص بالمتاجر وما يصحب شحنها وتفريغها من ضجيج الآلات، ورجال الأهوسة، والحمالين، والخازنين، والتجار، والسماسرة، والكتبة.

وكانت السفن تسير بالأشرعة يساعدها صف أو صفوف من المجاديف، وكانت في ذلك الوقت أكبر حجماً في العادة من ذي قبل، فأثينوس Atheaeus يصف سفينة من ناقلات الحبوب بأنها كانت 420 قدماً في الطول و 57 في العرض(29)، ولكن هذا الحجم كان حجماً شاذاً كل الشذوذ. وكان لبعض السفن ثلاث أسطح، وكانت حمولة الكثير منها 250 طناً، وحمولة بعضها ألف طن من البضائع. ويحدثها يوسفوس عن سفينة تحمل ستمائة رجل ما بين راكب وبحار(30)، وقد حملت سفينة أخرى مسلة مصرية في حجم المسلة المقامة في سنترال بارك Central Park بنيويورك، ومعها 300 ملاح، و 1300 راكب، و 93000 بشل من القمح، ومقادير من الكتان، والفلفل، والورق، والزجاج(31). على أن السفر بالسفن بعيداً عن السواحل كان لا يزال معرضاً للأخطار، كما وجد القديس بولس في أسفاره. ولم يكن يجرؤ على عبور البحر الأبيض المتوسط فيما بين نوفمبر ومارس إلا عدد قليل من السفن، وكانت الرياح الموسمية تجعل السفر في وسط الصيف مستحيلاً من جهة الشرق. وكانت الأسفار بالليل وكثيرة في تلك الأيام، وكان في ميناء ذي شأن منارة صالحة، وكادت القرصنة أن تختنق من البحر الأبيض المتوسط، وقد جدد أغسطس في القضاء عليها ومنع الطعام عن الولايات التي تثور عليها بوضع أسطولين حربيين كبيرين في رافنا من ثغور البحر الأدرياوي وميسينم Misenum على خليج نابلي، فضلاً عن أساطيل أصغر منها في عشر نقط أخرى متفرقة في أنحاء الإمبراطورية. وفي وسعنا أن نقدر قول قيصر عن "فخامة السلم الرومانية" إذا ذكرنا أننا لم نسمع شيئاً قط عن هذه الأساطيل مدى فرنين كاملين.

ولم تكن مواعيد السفر محددة مضبوطة لأن سير السفن كان يتأثر بعوامل الجو وبالأغراض التجارية. أما الأجور فكانت منخفضة، فقد كان أجر السفر من أثينة إلى الإسكندرية مثلاً درهمين (أي 1,20 ريال أمريكي)، ولكن المسافرين كانوا يبتاعون طعامهم، والراجح ان معظمهم كانوا ينامون على سطح المركب. وكانت سرعة السفن معتدلة اعتدال أجورها، وكانت تختلف باختلاف الريح، ويلغ متوسطها ستة أميال بحرية في الساعة.

وقد لا يستطيع المسافر في بعض الأحيان أن يجتاز البحر الأدريادي إلا في يوم كامل، وكمان يلزمه أحياناً ثلاثة أسابيع من بترى Patrae إلى برنديزيوم كما فعل شيشرون. وكان في وسع الطراد السريع أن يقطع 230 ميلاً بحرياً في أربع وعشرين ساعة(32). وإذا ما صلحت الريح استطاع الإنسان أن يبسافر من صقلية إلى الإسكندرية أو من قادس إلى أستيا في ستة أيام، ومن يودكة Ytica إلى رومة في أربعة(33).

وكانت أطول الرحلات وأكثرها تعرضاً للخطر الرحلة البحرية التي تستغرق ستة أشهر من عدن في بلاد العرب إلى بلاد الهند، وذلك لأن الرياح الموسمية كانت تضطر السفن إلى ملازمة السواحل الغاصة بالقراصنة في الطريق كله؛ وقد استطاع ملاح يوناني من أهل الإسكندرية في وقت ما قبل سنة 50 ميلادية أن يبين بالرسم أوقات هبوب الرياح الموسمية، ويعرف ان في مقدوره في بعض الفصول أن يعبر المحيط الهندي في طريق مستقيم وهو آمن. وكان هذا الكشف يعادل في أهميته بالنسبة لهذا البحر أهمية عبور كولومبوس المحيط الأطلنطي؛ ذلك أن السفن قد استطاعت بعد هذا العمل أن تسير من الثغور المصرية الواقعة على البحر الأحمر إلى بلاد الهند في 40 يوماً. وحدث حوالي 80م ان كتب بحار آخر من أهل الإسكندرية غير معروف اسمه كتاباً عن " الطواف بالبحر الأريتزي". وكان بمثابة دليل للتجار الذين يتجرون بين ثغور ساحل أفريقيا الشرقي والهند. وكان غيره من الملاحين في ذلك الوقت قد سار في المحيط الأطلنطي إلى بلاد غالة، وبريطانيا، وألمانيا، بل انهم وصلوا إلى اسكنديناوة وروسيا(34). ولسنا نعرف في تاريخ الإنسانية قبل ذلك ان البحر قد حمل من السفن أو من البضائع و من الخلق ما حمله في تلك الأيام.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: المهندسون

كانت السفن والطرق التي تحمل عليها البضائع، والقناطر التي تربط الطرق بعضها ببعض، والموانئ والأحواض التي تستقبل السفن، والقنوات المبنية التي يجري فيها الماء النقي إلى روما، والمصارف التي تنصرف فيها مياه المستنقعات الريفية وأقذار المدن، كانت هذه كلها من عمل المهندسين الرومان واليونان والسوريين يساعدهم آلاف من العمال الأحرار وجنود الفيالق والعبيد. وكانوا يرفعون الأحمال أو الحجارة الثقيلة، أو يجرونها بوساطة البكرات أو القوائم الخشبية العمودية تديرها الروافع التي يدفعها فيها الحيوانات أو الآدميون(35).وقد أقاموا على شاطئ التيبر الغدار جدراناً ذات درجات ثلاث حتى لا ينكشف الطين في قاع النهر إذا انخفض ماؤه . وقد أنشئوا ميناءً مزدوجاً عند أستيا لكلوديوس ونيرون وتراجان، وافتتحوا موانئ أصغر منها في مرسيليا وبتيولي، وميسينم، وقرطاجنة وبرنديزيوم ورافنا؛ وجددوا أعظم موانئ الإمبراطورية كلها في الإسكندرية. وقد جففوا البحيرة الفوسية، واستصلحوا أرضها للزراعة وذلك بأن شقوا لها نفقاً يخترق جبلاً من الصخر الصلب، وأنشأ تحت الأرض في روما مصارف من الأسمنت المتحجر للآجر والقرميد قاومت البلي مئات السنين، وجففوا مناقع كمبانيا حتى أصبحت صالحة للسكنى، ويدل ما عثر عليه فيها من آثار على أن قصوراً فخمة كثيرة أقيمت فيها ، وقاموا بتنفيذ المشروعات العامة المدهشة التي خفف بها قيصر وغيره من العباقرة التعطل في البلاد وجملوا بها روما.

وكانت الطرق القنصلية من أقل أعمالهم مشقة، ولكنها لم تكن تنقص عن طرق هذه الأيام. وكانت سعتها تختلف من ستة عشر إلى أربع وعشرين قدماً ولكن بعض هذا العرض كان يشغله بالقرب من روما ممرات جانبية مرصوفة بألواح حجرية مستطيلة الشكل. وكانت تسير مستقيمة إلى أهدافها مضحية بالنفقات العاجلة في سبيل اقتصاد دائم؛ وأقيمت على المجاري التي لا حصر لها قناطر كثيرة النفقات، فإذا وصلت إلى المستنقعات اخترقتها فوق قباب مقامة على جدران من الآجر والحجارة، وكانت تصعد فوق الجبال الوعرة وتنحدر على سفوحها دون أن تستخدم النفق، وسارت بمحاذاة الجبال أو الجسور العالية تحميها الجدران القوية. واختلفت المواد التي ترصف بها باختلاف الأماكن التي تمر بها. وكانت الطبقة السفلى تصنع في العادة من الرمل ويتراوح سمكها بين أربع بوصات و ست، أو من الملاط بسمك بوصة واحدة. ثم تقام فوق هذه الطبقة أربع طبقات من البناء: الأولى وسمكها قدم وتبنى من الحجارة يمسكها الأسمنت أو الطين، تليها طبقة ثانية سمكها عشر بوصات من الأسمنت القوي، ثم طبقة ثالثة سمكها ما بين اثنتي عشر وثمان عشر بوصة وتتألف من عدة طبقات من الأسمنت المقوى أيضاً، فوقها الطبقة الرابعة وتتخذ من حجر الصوان أو الحمم البركانية الكثيرة الأضلاع والتي يختلق قطر كل منها بين قدم واحد وثلاث أقدام، وسمكها بين ثمان بوصات واثنتي عشر بوصة. وكان يسوون الوجه الأعلى لهذه القطع، وكانت مواضع اتصالها بعضها ببعض لا تكاد تتبينها العين. وكانت الطبقة العليا تصنع في بعض الأحيان من الأسمنت المقوى، وفي الطرق القليلة الأهمية كانت تصنع من الحصباء؛ وفي بريطانيا كانت من حجر الصوان المخلوط بالأسمنت فوق طبقة من الحصباء. وكان سمك الطبقات السفلى كبيراً إلى حد جعل المهندسين لا يعنون كثيراً بتصريف الماء الجوفي. ويمكننا أن نقول عن هذه الطرق بوجه عام إنها أطول الطرق أعماراً في التاريخ كله، ولا يزال بعضها يستخدم إلى اليوم، ولكن منحنياتها الشديدة التي صنعت لسير البغال والعربات الصغيرة جعلتها غير صالحة لوسائل النقل الحديث.

وكانت القناطر التي تحمل هذه الطرق نمإذج طيبة لتضافر العلم والفن، ولقد ورث الرومان عن مصر البطليموسية أصول الهندسة المائية واستخدموها على نطاق بلغ من السعة حداً لم يسبقهم أحد إليه من قبل، وبقيت الأساليب التي نقلت عنهم لم يطرأ عليها تغيير إلى هذه الأيام. وقد وضعوا الأسس وأشادوا الأرصفة تحت الماء كما كانت تشاد هذه وتلك في أقدم العهود. وكانوا يدفعون في أنواع المجاري اسطوانات مزدوجة مملوءة بمواد البناء، وقد أحكموا إغلاق كل منهما ونزحوا الماء مما بينهما، وغطوا الجزء المعرى بالحجارة أو الجير، وأقاموا الرصيف المطلوب إقامته على هذا الأساس. وقد أقيمت على نهر التيبر قبالة روما تسعة جسور بعضها قديم مقدس كجسر سبليسيوس الذي لم يكن يجوز استخدام المعادن فيه، وبعضها كجسر فبريسيوس متقن البناء اتقاناً أبقاه صالحاً للاستعمال إلى هذه الأيام. وعن هذه الجسور نقلت العقود الرومانية لتستخدم في البناء مئات المئات من القناطر فوق المجاري في العالم الذي يسكنه البيض.

وكان بني يظن أن قنوات المياه المبنية أعظم أعمال الرومان، وفي ذلك يقول: "إذا فكر لإنسان في مقدار ما يصل إلى المدينة من الماء للأغراض العامة والخاصة التي يخطئها الحصى وإذا شاهد القنوات المشيدة العالية التي لا بد أن تحتفظ بالعلو والتدرج المطلوبين، والجبال التي لا بد من اختراقها، والمنخفضات التي لابد من ملئها-لم يسعه إلا أن يحكم أن الأرض كلها ليس فيها ما هو أعجب وأعظم من هذه الأعمال"(38). وكانت أربع عشرة قناة من هذا النوع يبلغ مجموع أطوالها 1300 ميل وتخترق النفق وتسير فوق عقود فخمة، كانت هذه القنوات تحمل إلى روما من عيون بعيدة ما لا يقل عن 300.000.000 جالون من الماء في كل يوم، ينال منها كل فرد في روما ما يناله أي إنسان في مدننا الحديثة(39). على أن هذه المباني الضخمة لم تكن تخلو من عيوب. فقد كانت أنابيب الرصاص تخرق وتتطلب الإصلاح المرة بعد المرة، وأصبحت هذه القنوات كلها غير صالحة للاستعمال قبل نهاية عهد الإمبراطورية الغربية. ولكننا إذا ذكرنا أنها كانت تحمل إلى المباني، والمساكن، والقصور، والفسافي، والحدائق، والبساتين، والحمامات العامة التي يستحم فيها آلاف الناس مجتمعين، وان ما بقي بعد ذلك من الماء كان يكفي لإنشاء بحيرات صناعية للمعارك الحربية، إذا ذكرنا هذا كله بدأنا ندرك أن رومة كانت احسن الحواضر القديمة إدارة، وأنها كانت من خير المدن المزودة بما تحتاج إليه من الضروريات والكماليات، رغم ما كان فيها من فساد، وما كان ينتابها من رعب في كثير من الأحيان.

وكان يشرف على مصلحة المياه في ختام القرن الأول الميلادي سكستس يوليوس فرنتينس الذي جعلته كتبهم أشهر مهندسي الرومان الأقدمين. وكان قبل أن يتولى هذا المنصب قد عمل بريتوراً، ووالياً على بريطانيا، وتولى القنصلية مراراً عدة. وكان كالحكام الإنجليز في هذه الأيام يجد متسعاً من الوقت لتأليف الكتب وحكم الولايات، فقد نشر كتباً في العلوم الحربية لا يزال ختامه باقياً إلى هذه الأيام ، وترك لنا وصفاً بقلمه لعملية المياه في رومة De Aquis Urbis Romanae. وهو يصف ما وجده في تلك المصلحة حين تولى أمورها من ضروب الفساد والرشوة، وكيف كانت القصور والمواخير تخرق الأنابيب الكبرى وتسرف في الماء إسرافاً جعل روما في بعض الأيام تطلب الماء فلا تجده(41). ثم يصف ما أدخله بحزمه وهمته من ضروب الإصلاح، ويفصل القول في زهو وإعجاب في مبدأ كل قناة وطولها والغرض منها. ويختم هذا القول كما يختم بلنى قوله بهذه العبارة: "من ذا الذي يجرؤ على أن يوازن هذه القنوات العظيمة بالأهرام السخيفة أو بأعمال اليونان الذائعة الصيت العديمة النفع"(42). ونحن نحس هنا بما يؤمن به هذا الروماني من مبدأ النفسية، وبعدم تذوقه الجمال المجرد من النفعية. ولسنا نلومه على هذا، ونقر بأن من الواجب أن تحصل المدينة على الماء النقي قبل أن يكون فيها هياكل جميلة ونحن نستشف من خلال هذه الكتب الخالية من التجميل الفني انه كان لا يزال في رومة في أيام الطغاة رومان من الطراز القديم، رجال ذوو كفاية وصلاح، وإداريون يعملون بوحي ضمائرهم، وقد افلحوا في نشر الرخاء في أنحاء الإمبراطورية، تحت حكم الأباطرة السفهاء الفاسدين، وكانوا هم الذين مهدوا السبيل لعصر الملكية الذهبي.


الفصل الخامس: التجار

اتسعت تجارة البحر الأبيض المتوسط اتساعاً لم يسبق له مثيل من قبل بسبب إصلاح إدارة الحكم ووسائل النقل. ففي أحد طرفي عملية التبادل كان البائعون الجائلون يطوفون بالريف ويبيعون أهله كل شيء من عيدان الثقاب إلى الحرير المستورد الغالي الثمن. وشبيه بهؤلاء من يبيعون البضائع "بالمزاد"، وكان عملهم أيضاً المناداة على البضائع المفقودة والعبيد الآبقين. وكانت هناك أسواق بيومية وأخرى دورية، وكنت ترى أصحاب الحوانيت يساومون المشترين ويخسرون الموازين، ويرقبون في حذر مفتشي الحكومة (الإيديل) الذين كانت مهمتهم مراقبة المكاييل والموازين. وكان أرقى من هؤلاء في السلم التجاري الحوانيت التي تصنع بنفسها سلعا؛ وكانت هذه الحوانيت عماد الصناعة والتجارة جميعاً. وكان في الثغور البحرية أو بالقرب منها بائعو الجملة (magnaru) يبيعون لتجار التجزئة أو للمستهلكين البضائع المستوردة حديثاً من خارج البلاد؛ وكان صاحب السفينة أو رئيس بحارتها في بعض الأحيان يبيع ما فيها من البضائع قبل أن يفرغها. وظلت إيطاليا مائتي عام وميزان التجارة في غير صالحها، فقد كانت تشترى أكثر مما تبيع، وكانت راضية بذلك مغتبطة. كانت تصدر بعض الفخار الأريتيني Arretine وبعض الخمر والزيت، والأدوات المعدنية والزجاج، والروائح العطرية من كمبانيا؛ أما ما عدا هذه من المنتجات فقد كانت تحتفظ به لنفسها. وكان لتجار الجملة في هذه الأثناء وكلاء يشترون البضائع لإيطاليا من كافة أنحاء الإمبراطورية، وكان للتجار الأجانب سماسرة يعرضون بضائعهم في إيطاليا؛وبهذه العملية المزدوجة جاءت طيبات نصف العالم إلى إيطاليا لتتلذذ بها أفواه عظماء الرومان، وتكتسي بها أجسادهم، وتزدان بها بيوتهم؛ وفي ذلك يقول إيليوس أرستيديس Aelis Aristides: "من شاء أن يرى جميع طيبات العالم فعليه أن يطوف العالم كله أو يقيم في رومة"(45). وكانت صقلية ترسل لها الحبوب، والماشية، والجلود، والخمور، والصوف، والأدوات الخشبية الفنية الجميلة، والتماثيل، والحلي، وكانت ترد من شمالي أفريقية الحبوب والزيت؛ ومن قورينة الانجدان Silpium ؛ ومن أفريقية الوسطى الوحوش اللازمة للملاعب والمجلدات؛ ومن بلاد الحبشة وشرقي أفريقية العاج والقردة، وأصداف السلاحف، والرخام النادر الطبيعي، والتوابل، والعبيد الزنوج؛ ومن غربي أفريقية الزيتون، والحيوانات البرية، والماشية، والصوف، والذهب، والفضة، والرصاص، والقصدير، والنحاس، والحديد، والزنجفر، والقمح، والتيل، والفلين، والخيل، ولحم الخنزير، وخير أنواع الزيتون وزيته؛ ومن بلاد غالة الملابس، والخمور، والقمح والخشب، والخضر، والماشية، والدجاج، والفخار، والجبن، ومن بريطانيا، القصدير، والرصاص والفضة، والجلود، والقمح، والماشية، والعبيد، والمحار، والكلاب واللؤلؤ، والمصنوعات الخشبية؛ وكانت أسراب الإوز تسير من بلجيكا إلى إيطاليا لتملاْ أكبادها بطون الأشراف من أبنائها. وكانت ألمانيا تورد الكهرمان، والعبيد، والفراء؛ وبلاد اليونان والجزائر اليونانية تصدر الحرير الرخيص، والتيل، والخمر، والزيت، وعسل النحل ، والخشب، والرخام، والزمرد، والعقاقير، والمصنوعات الفنية، والروائح العطرية والماس، والذهب، وكانت بلاد البحر الأسود تصدر الحبوب، والسمك، والفراء، والجلود، والعبيد؛ وأسية الصغرى تصدر المنسوجات التيلية والصوفية، والجلد المرقق للكتابة، والخمر، وتين أزمير وغيرها من البلاد، والعسل والجبن، والمحار، والسجاجيد، والزيت، والتفاح، والكمثرى،والبرقوق، والتين، والبلح، والرمان، والبندق، والناردين، والبلسم ، والصمغ القرمزي ، والأرجواني، وأرز لبنان؛ وكانت تدمر تورد المنسوجات والعطور والعقاقير؛ وبلاد العرب تورد البخور، والصمغ، والصبر، والمر، والأفيون، والزنجبيل، والقرفة، والأحجار الكريمة؛ ومصر تورد الحبوب، والورق، والتيل، والزجاج، والحلي، والحجر الأعبل، وأحجار البازلت، والمرمر، والبرفير؛ وكانت آلاف الأدوات المصنوعة المختلفة الأنواع ترد إلى رومة وغريب أوربا من الإسكندرية، وصيدا، وصور، وانطاكية، وطرطوس، ورودس، وميليتس، وإفسوس وغيرها من كبريات مدائن الشرق؛ وكانت بلاد الشرق نفسها تستورد المواد الغفل والنقود من الغرب.

وكانت هناك فضلاً عن هذا كله تجارة واردات ضخمة من خارج الإمبراطورية. فكانت ترد إلى إيطاليا من بارثيا وبلاد الفرس الجواهر، والعطور النادرة، والجلود الرقيقة، والطنافس، والحيوانات البرية، والخصيان؛ وكان يرد من الصين بطريق بارثيا أو الهند أو القوقاز الحرير منسوجاً أو غير منسوج؛ وكان الرومان يظنونه محصولاً نباتياً يستخرج من الشجر ويقومونه بوزنه ذهباً(44). وكان معظم هذا الحرير يرد إلى جزيرة كوس Cos حيث ينسج ملابس لنساء رومة وغيرها من المدن؛ واضطرت ولاية مسينيا Messenia ـ وهي الولاية الفقيرة نسبياً ، أن تحرم على نسائها ارتداء الملابس الحريرية الشفافة في الاجتماعات الدينية؛ وهذه الملابس هي التي غزت بها كليوبطرة قلبي قيصر وأنطونيوس(45). وكانت الصين تستورد من الإمبراطورية الرومانية في نظير صادراتها إليها الطنافس والحلي، والكهرمان، والمعادن، والأصباغ، والعقاقير، والزجاج. ويحدثنا المؤرخون الصينيون عن بعثة تجيء بطريق البحر إلى الامبراطور هوان دي عام 166، من قبل الامبراطور "آن-طون" ـ أي ماركس أورليوس أنطونيوس. وأكبر الظن ان هذه البعثة لم تكن إلا جماعة من التجار انتحلوا صفة السفراء. وقد عثر في ولاية شانسي الصينية على ست عشرة قطعة من النقود الرومانية مضروبة فيما بين حكم تيبيريوس وحكم أورليوس. وكانت الهند تورد إلى إيطاليا الفلفل، وسنبلة الطيب، وغيرها من التوابل (التي سافر كولمبس ليبحث عنها)، والأعشاب، والعاج، وحجر الظفر (الخرز اليماني) والجمست، والياقوت الأحمر،والماس، والمصنوعات الحديدية،وأدوات التجميل، والمنسوجات، والنمورة، والفيلة. وفي مقدورنا أن ندرك مقدار هذه التجارة وخشب الرومان لأسباب الترف إذا عرفنا ان إيطاليا كانت تستورد من الهند أكثر مما تستورده من أي بلد آخر عدا أسبانيا(46). ويذكر استرابون ان مائة وعشرين سفينة كانت تبحر كل عام من ثغر واحد نم الثغور المصرية إلى الهند وسيلان. وكانت الهند نفسها تستورد في مقابل صادراتها مقداراً غير كبير من الخمور، والمعادن، والصبغة الأرجوانية، وتأخذ ثمن ما بقى من بضائعها أكثر من مائة مليون سسترس نقوداً أو سبائك. وكان مثل هذا القدر من المال يرسل إلى بلاد العرب والصين، ولعل مثله أيضاً كان يرسل إلى أسبانيا.

وظلت هذه التجارة الواسعة مصدر رخاء عظيم مائتي عام، ولكن أساسها غير السليم جر الخراب على الاقتصاد الروماني في آخر الأمر. ذلك ان إيطاليا لم تحاول قط أن تتعادل صادراتها ووارداتها، وأنها استولت على مناجم خمسين ولاية أو نحوها، وفرضت على أهلها الضرائب لتستمد منها المال الذي تدفعه لموازنة صادراتها بوارداتها. فلما ان استنفذت العروق المعدنية الغنية ولم تنقص شهوة الرومان للترف والكماليات، حاولت رومة أن تؤجل انهيار نظام الاستيراد بفتح بلاد جديدة اشتهرت بمعادنها مثل داشيا Dacia، وبتخفيض قيمة نقدها الذي كان من قبل أبعد النقود عن الفساد والانحطاط، فصارت تصنع أكثر ما تستطيع صنعه من النقود من أقل ما لديها من السبائك. ولما أن اقتربت نفقات الإدارة والحروب من مكاسب الإمبراطورية، كان على رومة أن تؤدى ثمن ما تستورده من البضائع بضائع أخرى، ولكنها عجزت عن هذا. وكان اعتماد إيطاليا على ما تستورده من الطعام أهم أسباب ضعفها. ذلك أنها ساعة أن عجزت عن إرغام غيرها من البلاد على أن ترسل إليها الطعام والجنود، إذن مجدها بالزوال وفي هذا الوقت عينه أخذت الولايات تسترد رخائها وأولويتها الاقتصادية؛ فكاد التجار الإيطاليون في القرن الأول الميلادي يختفون من الثغور الشرقية، واستقر التجار السوريون واليونان في ديلوس وبتيلوي، وتضاعف عددهم في أسبانيا وغالة، وأخذ الشرق بين مد التاريخ وجزره المتباعدة الأجل يستعد لأن يسطر مرة أخرى على الغرب.


الفصل السادس: رجال المال

ترى كيف كان الإنتاج والتجارة يمولان؟ لقد كانا يمولان قبل كل شيء ينقد محترم موثوق به في العالم إلى حد كبير. نعم إن النقود الرومانية جميعها قد انحطت قيمتها شيئاً فشيئاً من أيام الحرب البونية الأولى، لأن الخزانة وجدت انه يسهل عليها أن تؤدي ما استدانته الحكومة من المال بسبب الحروب بسماحها بالتضخم الذي ينشأ بطبيعته من ازدياد النقود ونقص السلع. منم ذلك ان الآس وكان في الأصل رطلاً من النحاس انخفض وزنه إلى أوقيتين في عام 241، وإلى أوقية واحدة في عام 202، وإلى نصف أوقية في عام 87 ق.م، وإلى ربع أوقية في عام 60م؛ وفي المائة العام الأخيرة من عهد الجمهورية كان قواد الجند يسكون نقودهم، وكانت هذه النقود في العادة هي الأورى وهو نقد ذهبي كانت قيمته في الغالب مائة سسترس. ومن هذه النقود الحربية جاءت نقود الأباطرة، وقد جرى هؤلاء على سنة قيصر فطبعوا صورتهم على ما يسكونه من النقود رمزاً لضمان الحكومة إياها. وسك السسترس وقتئذ من النحاس بدل الفضة، وجعلت قيمته أربعة آسات ، وأنقص نيرون ما كان يحتويه الدينار من الفضة إلى 90% مما كان يجتويه منها قبل، ثم أنقصه تراجان إلى 85%، وأورليوس إلى 75%، وكمودس إلى 70%، وسبتميوس سفيرس Septimius Severus إلى 50%. وأنقص نيرون قيمة الآوريوس من 1slash40من الرطل من الذهب إلى 1slash45،وأنقصها كركلا إلى1slash50. وصحب هذا التخفيض ارتفاع عام في إثمان السلع، ولكن يلوح ان الدخل ارتفع بنسبة هذا التخفيض وظل يرتفع حتى زمن أورليوس. ولعل هذا التضخم غير الطليق الخاضع لإشراف الحكومة، لم يكن إلا وسيلة سهلة لتخفيف العبء عن المدينين على حساب الدائنين، لأن هؤلاء لو تركوا وشأنهم لاستطاعوا بفضل ما يمتازون به من كفاية، وما يتاح لهم من فرص، أن يركزوا الثروة في أيد قليلة إلى حد يقف معه دولاب الاقتصاد وينذر بالثورة السياسية.ومن واجبنا أن نعد النظام المالي الروماني من أكثر النظم المالية نجاحاً وثباتاً في التاريخ رغم ما طرأ عليه من تغيرات. ذلك ان معياراً واحداً للنقد ظل قائماً موثوقاً به مدى قرنين من الزمان، وبفضل هذا الثبات راجت التجارة واستثمار المال رواجاً لم يكن له نظير في أي عصر من العصور السابقة.

ومن أجل هذا انتشر الصيارفة في كل مكان، يبدلون النقود بعضها ببعض، ويراجعون الحسابات والودائع ذات الفوائد، ويصدرون التحاويل المالية للمسافرين وتوكل إليهم إدارة أملاك الأفراد وبيعها، وشرائها، واستثمار الأموال، وأداء الديون، وإقراض المال للأفراد والشركات. وكان مصدر هذا النظام المصرفي بلاد اليونان وبلاد الشرق اليوناني، وكان أكثره في أيدي اليونان والسوريين حتى في إيطاليا نفسها وفي غربي أوربا؛ وكان اللفظان اللذان يطلقان على السوري، والمصرفي في غالة مترادفين. وانخفض سعر الفائدة إلى أربعة في المائة لكثرة الغنائم الت يجاء بها أغسطس من مصر، ولكنه عاد فارتفع إلى 6% بعد موته، وبلغ حده القانوني الأقصى وهو 12% قبيل عصر قسطنطين.

ويدل "الذعر" المشهور الذي حدث في عام 33 م على ما وصلت إليه حال المصارف والتجارة في أيام الإمبراطورية، كما يدل على اعتماد كلا النظامين على الآخر. ذلك أن أغسطس سك العملة بلا حساب، وبسط يده في الإنفاق كل البسط، على أساس أن كثرة تداو ل المال، وانخفاض سعر الفائدة، وارتفاع الأثمان، ستبعث النشاط في الأعمال المالية والتجارية. وقد حدث هذا فعلاً ولكن هذه العملية لم يكن من شأنها أن تستمر إلى غير نهاية، ولذلك حدث انتكاس ولما يمض على بدايتها زمن طويل؛ فقد حدث في عام 10 ق.م أن وقف إصدار العملة، وعاد تيبيريوس إلى عكس النظرية السابقة وهي أن خير ضروب الاقتصاد هو أشدها اقتصاداً.ولذلك فرض القيود الشديدة على النفقات الحكومية، وحدد إصدار العملة تحديداً شديداً، وجمع في خزانة الدولة 2.700.000.000. ونشأ عن هذا أن قل تداول النقود قلة زاد أثرها سوءاً نزوح الأموال إلى بلاد الثراء لابتياع الكماليات منها. ونتج عن ذلك انخفاض الأثمان، وارتفاع سعر الفائدة. وعجز المدينون عن الوفاء بديونهم، فباعوا أملاكهم، وقاضى المدينون المرابين، وامتنع الاقتراض أو كاد. وحاول مجلس الشيوخ أن يمنع تصدير رؤوس الأموال فطلب أن يستثمر قدر كبير من ثروة كل عضو من أعضائه في الأراضي الإيطالية، فعمد الشيوخ من أجل ذلك إلى المطالبة بما لهم من الديون، وباعوا أملاك مدينيهم للحصول على الأموال،وازدادت الأزمة سوءاً على سوء؛ ولما ان أبلغ الشيخ ببليوس أسبنثر Publius Spinther مصرف بلبس وأليوس Balbes & Ollius انه لابد له أن يسحب 30.000.000 سسترس للوفاء بما يتطلبه القانون الجديد، أعلن المصرف إفلاسه. وحدث في الوقت نفسه أن أفلست شركة بالإسكندرية هي شركة سوثيس وولده Seuthes & Son على أثر ضياع ثلاث سفن لها تحمل التوابل\، وانهارت شركة ملكس Malchus للصباغة في مدينة صور، فشاع في طول البلاد وعرضها ان مصرف مكسمس وفيبو Maximus & Vibo الروماني على وشك الإفلاس بسبب ما له من ديون كثيرة على هاتين الشركتين. ولما ان هرع أصحاب الودائع إلى هذا المصرف لسحبها أغلق أبوابه، وحدث بعدئذ في اليوم نفسه أن أجل الدفع مصرف كبير آخر هو مصرف أولاد بتيوس Pettius. ووصلت في الوقت عينه تقريباً أنباء تقول إن مصاريف مالية كبرى في ليون، وقرطاجنة، وكورنثة، وبيزنطية قد أفلست هي الأخرى، وأغلقت مصارف رومة واحداً بعد واحد، ولم يكن من المستطاع اقتراض المال إلا بفوائد أعلى كثيراً من السعر المصرح به قانوناً. واضطر تيبيريوس في آخر الأمر أن يعالج الأزمة بوقف قانون الاستثمار في أرض إيطاليا، وتوزيع 100.000.000 سسترس على المصارف لقرضها من غير فائدة لآجال تبلغ ثلاث سنين، بضمان الأملاك العقارية، فاضطر المرابون من الأفراد إلى تخفيض سعر الفائدة، وخرجت الأموال من مخابئها، وعادت الثقة شيئاً فشيئاً إلى السوق المالية والتجارية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع: الطبقات

كان كل إنسان في رومة إلا أقلية لا يعتد بها يعبد المال عبادة جنونية، وكان الناس جميعاً عدا أصحاب المصارف يلعنون المال ويذمونه. من ذلك أن أوفد يقول في أحد كتبه على لسان إله من الآلهة: "ما أقل ما تعرف عن العصر الذي تعيش فيه إذا توهمت أن الشهد أحلى من المال في يدك"(15). وبعد مائة عام من ذلك يشيد جوفنال في سخرية: "بجلال الثروة المقدس أعظم التقديس". وظل القانون الروماني إلى آخر عهد الإمبراطورية يحرم على الشيوخ استثمار أموالهم في التجارة أو الصناعة؛ ومع انهم كانوا يحتالون على هذا التحريم بأن يجيزوا لمعتوقيهم أن يستثمروا لهم المال، فإنهم كانوا يحتقرون وكلاءهم، ويرون ان الحكم بحق المولد هو وحده الذي يليق بهم أن يستبدلوا به الحكم بحق المال أو الأساطير أو السيف. وقد ظلت الانقسامات الطائفية باقية في البلاد بعد ما قام فيها من الثورات، وبعد أن نقص عدد الأشراف نقصاناً كبيراً، واتخذوا لهم ألقاباً جديدة: فأصبح أفراد طبقتي الشيوخ، والفرسان، والحكام، والموظفين، يلقبون "رجال الشرف" honestiores أو رجال المناصب؛ ولقب كل من عداهم "بالأدنياء" humiliores أو "الضعفاء" tenuiores. وكان وقار الشيخ وزهوه يمتزج بهما اعتزازاً بالشرف والكرامة، وكان يعمل في عدد من المناصب بعضها في اثر بعض من غير أجر بل تفرض عليه نفقات طائلة، وكان يضطلع بالواجبات التي تفرضها عليه مناصبه الهامة بدرجة لا بأس بها من الكفاية والاستقامة؛ وينفق من ماله على الألعاب العامة، ويساعد الموالي المحررين من العبيد، ويقتسم بعض ثروته مع الأهلين بضروب الصدقات التي يخرجها في أثناء حياته أو بعد مماته. وإذ كان مركزه يتطلب منه كثيراً من الواجبات، كان يطلب إليه إذا أراد أن ينضم إلى طبقة الشيوخ أو يبقى فيها أن يكون لديه مليون سسترس.

وقد بلغت ثروة أحد الشيوخ وهو نيوس لنتولس Gnaeus Lentulus 400.000.000سسترس، ولكننا إذا استثنينا هذا الشيخ وحده كان أعظم الناس ثراء في رومة هم رجال الأعمال الذين لم يكونوا يستنكفون أن يشتغلوا بالشؤون المالية أو التجارية. وبينما كان الأباطرة ينقصون من سلطان مجلس الشيوخ كانوا يختصون رجال الأعمال بالمناصب الكبرى، ويحمون الصناعة والتجارة والأعمال المالية، واتخذوا معونة الفرسان سنداً للزعامة ضد دسائس الأشراف. وكانت عضوية هذه الطبقة الثانية، طبقة الفرسان، تتطلب من صاحبها أن يكون مالكاً لأربعمائة ألف سسترس، وأن يرشح الزعيم نفسه أعضاء هذه الطبقة؛ ومن أجل هذا كان كثيرون من ذوي الثراء من طبقة العامة.

وكانت هذه الطبقة وقتئذ تتألف من رجال الأعمال الذين لم يرشحوا إلى العضوية في طبقة أخرى، ومن العمال الأحرار المولد، والفلاحين الملاك، والمدرسين، والأطباء، والفنانين والعبيد المحررين. ولم يكن الإحصاء يحدد طبقة الصعاليك حسب أعمال أفرادها بل كان يحددها حسب مولدهم؛ وقد وصفتهم إحدى الرسائل القديمة بأنهم "السوقة الذين لا يقدمون للدولة إلا الأطفال"(52) وكان الكثيرون منهم يهملون في الحوانيت، وفي المصانع، وفي تجارة المدن بأجر يبلغ متوسطه ديناراً (50slash100من الريال الأمريكي) في اليوم. وزاد هذا الأجر في القرون التالية، ولكن زيادته لم تكن أسرع من زيادة الأثمان(53). وجدير بنا أل ننسى ان استغلال الأقوياء للضعفاء أمر طبيعي كالطعام والشراب، ولا يختلف عنهما إلا في السرعة؛ وانه لا يخلو منه عصر من العصور ولا مجتمع من المجتمعات أيا كان نوعه وأيا كان نظام الحكم الذي يخضع له؛ ولكن هذا الاستغلال لم يكن في بلد من البلاد أكمل مما كان في رومة القديمة، كما لم تكن الطبقات في بلد آخر أقل تعاطفاً من الطبقات فيها. لقد كان ساكنوها جميعاً في وقت من الأوقات فقراء لا يشعرون بفقرهم، ولكن الفقر والثراء ما لبثا أن وجدا معاً في صعيد واحد، فشعر الفقراء وقتئذ بفقرهم. على أن نظام الإعانات الحكومية والصدقات التي كان السادة يحسنون بها على مواليهم، والوصايا القيمة التي كان يوصى بها الأثرياء أمثال بلبس الذي أوصى لكل ساكن في رومة بخمسة وعشرين ديناراً، كل هذا قد حال بين الأهلين وبين الفقر المدقع. وكاد نظام الطبقات في رومة أن يصبح شبيهاً بنظيره في الهند الحاضرة فيقسم الأمة أقساماً منفصلة متنافرة، ولكن من كان ذا قدرة من الأهلين كان في وسعه أن يتحرر من الرق، وأن يجمع المال، ويرقى إلى المناصب العالية في خدمة الزعيم. وكان ابن العبد المحرر يتمتع بجميع حقوق الأحرار، وكان في وسع حفيده أن يصبح عضواً في مجلس الشيوخ، بل ان حفيد أحد المحررين قد أصبح امبراطوراً بعد قليل من هذا الوقت الذي نتحدث عنه.

وتولى العبيد المحررون في القرن الأول الميلادي كثيراً من المناصب العامة. وكثيراً ما كان يعهد إليهم الإشراف على أموال الإمبراطورية في الولايات، وعلى عمليات المياه في رومة، وعلى مناجم الامبراطور، ومقالع أحجاره وضياعه، وعلى تموين معسكرات الجيش. وكان المحررون أو العبيد، وكلهم تقريباً من اليونان أو السوريين، يديرون شؤون القصور الإمبراطورية، ويتولون أخط والمناصب في مجالس الدولة. وتحولت الصناعات والتجارة الصغرى شيئاً فشيئاً إلى أيدي المحررين، وأصبح الكثيرون منهم على مر الأيام من أصحاب رؤوس الأموال وملاك الأراضي؛ وقلما كان ماضيهم يتيح لهم الفرص لرفع مستواهم الخلقي أو يسمو بأغراضهم وأسباب اهتمامهم، فلما أن حرروا أصبح المال شغلهم الشاغل فلم يكونوا يتورعون عن سلوك أي سبيل توصلهم إليه، أو يراعون في إنفاقه وازعاً من ضمير أو ذوق سليم. وقد ندد بهم بترونيوس Petronius أشنع تنديد في تريملكيو، وسخر سنكا، وان يكن أقل من بترونيوس حدة، بالأثرياء المحدثين الذين يبتاعون مجاميع مزينة من الكتب ولكنهم لا يقرأونها أبداً(54). وأكبر الظن ان بعض هذا الهجاء كان رد فعل مبعثه غيرة طبقة من الناس رأت ان ما كانت تختص به من استغلال الناس والاستمتاع بضورب الترف والملاذ قد أخذ يعتدي عليه هؤلاء المحدثون، ولم يكن في وسعها أن تصفح عن أولئك الذين قاموا يشاركونها في أموالها وسلطانها.

وما من شك في ان ما لقيه المحررون منن نجاح قد بعث بعض السلوى والأمل في نفوس تلك الطبقة التي كانت تقوم بمعظم الأعمال اليدوية في إيطاليا. وقد قدر بلوك Peloch عدد العبيد في رومة حوالي سنة 30 ق. م بما يقرب من 400.00 أي نحو نصف عدد سكانها جميعاً، وقدر عددهم في إيطاليا بنحو 1.500.000. وإذا جاز لنا أن نصدق ثرثرة أثينوس فان بعض الرومان كان يمتلك الواحد منهم 20.000 عبد(55). ومن أكبر الشواهد على كثرتهم أن مجلس الشيوخ قد رفض اقتراحاً عرض عليه يرمي إلى إلزام العبيد بأن يلبسوا زياً خاصاً،وكان سبب الرفض خوف المجلس أن يدركوا بذلك كثرة عددهم. وقدر جابينوس نسبة العبيد إلى الأحرار في برجموم Pergamum حوالي سنة 170م بواحد إلى ثلاثة أي 25%، وأكبر الظن ان نسبتهم في المدن الأخرى لم تكن تختلف كثيراً عن هذه النسبة(56). وكان ثمن العبد يختلف من 330 سترس يبتاع بها من يعمل في الضياع، إلى سبعمائة ألف (105.000ريال أمريكي) التي ابتاع بها ماركس أسكورس Marcus Scaurus دفنيس Daphnis النحوي(57). وكان متوسط ثمن العبد في الوقت الذي نتحدث عنه 4000 سسترس (400ريال)، وكان ثمانون في المائة من العمال في الصناعة وفي تجارة الأشتات من العبيد، كما كانت معظم الأعمال اليدوية والكتابية في المصالح الحكومية يؤديها "عبيد عوميون" Servi Publici. أما عبيد المنازل فكانوا أنواعاً لا حصر لها، كما كانت مراكزهم وأعمالهم كثيرة متنوعة: كانوا يقومون بخدمة سادتهم، وكانوا صناعً يدويين، ومعلمين خصوصيين، وطهاة وحلاقين، وموسيقيين، ونساخين،وأمناء مكاتب، وفنانين، وأطباء، وفلاسفة وخصياناً، وغلماناً حساناً أقل ما يقومون به من الأعمال أن يكونوا سقاة، ومقعدين يسلون سادتهم بأجسادهم المشوهة. وكانت في رومة سوق خاصة يستطيع الإنسان أن يبتاع فيها عبداً أعرج، وأقطع الذراع، أو ذا أعين ثلاث، أو طويلاً مفرطاً في الطول، أو قزماً أو خنثي(58). وكان عبيد المنازل يضربون أحياناً وأحياناً يقتلون،وقد قتل والد نيرون عبيده لأنهم أبوا أن يشربوا من الخمر القدر الذي يرغب فيه(59). ويصف سنكا في فقرة له غاضبة "العذراء الخشبية وغيرها من آلات التعذيب، والجب وغيره من السجون، والنيران التي كانت توقد في الحفر حول أجسام المساجين، والخطاطيف التي كانت تجر بها جثثهم، والأغلال الكثيرة الأنواع، وضروب العقاب المختلفة، واقتلاع الأعضاء وكي الجباه". ويلوح أن هذه كلها كان يلقاها عبيد المزارع. ويصف جوفنال سيدة كان عبيدها يضربون واحداً بعد واحد أثناء تصفيف شعرها، ويصور أوفد سيدة أخرى تدفع دبابيس الشعر في ذراعي خادمة لها، ولكن هذه القصص يبدو عليها أنها من اختراع الأدباء، ومن واجبنا أل نعدها من الحقائق التاريخية المقطوع بصحتها.

ونحن معرضون لخطأ المبالغة في قسوة الماضي لنفس السبب الذي يحملنا على المبالغة في جرائم الحاضر وفساد أخلاقه ـ ذلك بأن ندرة القسوة تجعلها طريفة مستملحة. والحق ان متاعب عبيد البيوت أيام الإمبراطورية قد أخذت تقل شيئاً فشيئاً على أثر قبولهم أعضاء في الأسر التي كانوا يخدمونها، وبالإخلاص المتبادل بينهم وبين سادتهم، وبالعادة الطريفة عادة أن يقوم السيد بخدمة عبيده في بعض الأعياد، وبما كان يضمنه العبد من عم لدائم في خدمة سيده قل ان يكون له نظير في هذه الأيام. ولم يكن العبيد يحرمون من مسرات الحياة العائلية؛ وتدل شواهد قبورهم على انهم لم يكونوا يقلون رحمة وشفقة عن الأحرار. انظر مثلا إلى ما كتب على قبر واحد من أبنائهم: "لقد أقام والدا يوكوبيون Eucopion هذا الأثر لأبنهما الذي عاش سنة أشهر وثلاثة أيام؛ كان فيها أظرف الأطفال وأكثرهم إدخالاً للسرور على قلوب من حولهم؛ ولقد كان أكبر أسباب سعادتنا وان لم يكن قادراً على الكلام". وثمة شواهد أخرى تدل على ما كان بين السادة والعبد من حب وعطف. من ذلك أن أحد الأسياد يجهر بأن خادمه الميت كان عزيزاً عليه كولده، وان أحد الشبان النبلاء يبدي حزنه الشديد على موت مربيته، وان مربية أخرى تظهر حزنها لموت طفل ترعاه، وان سيدة متعلمة أقامت نصباً تذكارياً جميلاً لأمين مكتبتها. وقد كتب استاتيوس Statius "قصيدة إلى فلافيوس أورسس Flavius Ursus يعزيه في موت عبد عزيز عليه". ولم يكن من غير المعتاد أن يخاطر عبد بحياته لحماية سيده، ومنم كثيرون صاحبوا سادتهم في منفاهم طائعين مختارين، ومنهم من ضحوا بحياتهم من أجل سادتهم. ومن النساء من حررن عبيدهن وتزوجنهم، ومن الرجال من كانوا يعاملونهم معاملة الأصدقاء، وكان سنكا يأكل معهم. وقد كان للأخلاق الرقيقة، والحس المرهف، وعدم وجود فارق في اللون بين السيد والعبد، والمبادئ الفلسفة الرواقية، وللعقائد الدينية التي جاءت من بلاد الشرق والتي لم تكن تعرف الفروق بين الطبقات، كان لهذه كلها نصيب في تقليل الرق وتحسين حال الأرقاء؛ ولكن العوامل الأساسية في هذه القلة وذلك التحسين كانت هي المزايا الاقتصادية التي تعود على السيد، وارتفاع ثمن العبيد. وكان كثيرون من العبيد ينالون احترام سادتهم لثقافتهم الراقية، فقد كان منهم مختزلون لخطبهم، ومساعدون لهم في بحوثهم، وأمناء لهم في شئونهم المالية، ومدبرون لأعمالهم؛ وكان منهم فنانون، وأطباء، ونحاة، وفلاسفة. وكان في مقدور العبد في كثير من الأحوال أن يتجر لحسابه الخاص، وأن يعطي جزءاً من مكاسبه لمالكه، وأن يحتفظ بما بقي منها لتكون "ماله القليل Peculium"، أي ملكاً خاصاً له. وكان في وسع العبد بهذه المكاسب، أو بأمانته وإخلاصه في خدمة سيده، أو بالقيام له بخدمة غير عادية، أو بجمال خلقه، أن ينال حريته عادة في ست سنين(66).

وقد تجسن أحوال العمال وأحوال العبيد أنفسهم بعض التحسن بفضل منظمات العمال Collegia. ونحن نستمع قبيل هذا الوقت الذي نتحدث عنه بوجود عدد كبير من هذه المنظمات وبتخصصها إلى حد يدعو إلى الفخر، فكانت هناك هيئات خاصة بالمداحين، والنافخين في الأبواق، والقرون، والناي، والمزمار، وغيرها من الآلات؛ وكانت هذه المنظمات تنشأ عادة على مثال الهيئات البلدية، فكان يقوم عليها عدد من الرؤساء ذوي الرتب المتدرجة؛ وكان لها إله واحد أو آلهة متعدون تقيم له أو لهم معبداً وعيداً سنوياً. وكانت تعمل ما تعمله المدن فتطلب إلى ذوي المال أو ذواته رعايتها، والأخذ بناصرها، ومساعدة أعضائها في رحلاتهم، وإقامة قاعات اجتماعهم ومعابدهم. وكانوا يجدون هذه المساعدة على الدوام. ونحن نخطئ إذا ظننا أن هذه المنظمات كانت شبيهة باتحادات العمال في هذه الأيام. وخير ما نتصورها به هو أن نقول إنها كانت أشبه بالهيئات الأخوية، ذات العدد الذي لا يحصى من المناصب، وألقاب الشرف، وضروب اللهو، والرحلات، والمعاونات المتبادلة البسيطة. وكثيراً ما كان الأغنياء يساعدون على قيام هذه المنظمات ولا ينسونها في وصاياهم. وكان رجال المنظمة كلهم "إخوة" كما كان نساؤهم "أخوات". وكان في مقدور العبد في بعضها أن يجلس أمام مائدة الطعام، أو في مجلس إدارتها، مع الرجل الحر. وكان كل "عضو ذي مقام" يضمن لنفسه جنازة طيبة.

وقد وجد الزعماء الشعبيون على اختلاف طبقاتهم في آخر قرن من حياة الجمهورية أن في وسعهم أن يقنعوا هذه المنظمات بأن يقترع أفرادها على بكرة أبيهم للمرشح الذي يقدم لها المال. وبهذه الطريقة أصبحت أدوات سياسية في أيدي الأشراف، وأصحاب المال، والمتطرفين من السياسيين، وكان لتنافسها في الفساد اكبر الأثر في القضاء على الديمقراطية الرومانية. وقد حرم قيصر وجودها ولكنها بقيت رغم هذا التحريم، وحلها أغسطس كلها إلا عدداً قليلاً من المنظمات النافعة، وعاد تراجان فحرم وجودها، ثم سمح أورليوس بوجودها، وما من شك في أنها ظلت قائمة طوال هذه العهود كلها داخل نطاق القانون أو خارجة عنه، ثم امست في آخر الأمر مسالك دخلت منها المسيحية إلى البلاد وتغلغلت في حياة رومة.


الفصل الثامن: النظام الاقتصادي والدولة

ترى إلى أي حد حاولت الحكومة في عهد الإمبراطورية أن تسيطر على الحياة الاقتصادية؟ لقد حاولت أن تعيد ملكية الأرض إلى الفلاحين، ولكنها عجزت عن ذلك إلى حد كبير. ولقد كان الأباطرة في هذه الناحية أكثر استنارة من مجلس الشيوخ لأن هذا المجلس كان خاضعاً لسيطرة أصحاب الضياع الكبيرة. وأراد دومتيان أن يشجع زراعة الحبوب في إيطاليا ولكنه لم يفلح فيما كان يرمي إليه، ولهذا كانت إيطاليا على الدوام تخشى الهلاك جوعاً. وأرغم فسبازيان مجلس الشيوخ على أن يرضى به إمبراطوراً بسيطرته على مصر وكانت وقتئذ مصدر القمح الذي تحتاجه إيطاليا، وأراد سبتميوس أن يحذو حذوه باستيلائه على شمالي أفريقية. وكان على الدولة ان تضمن استيراد الحبوب إلى إيطاليا وتوزيعها، وقد اضطرها هذا إلى أن تشرف بنفسها على الاستيراد والتوزيع. وكانت تمنح بعض الامتيازات للتجار الذين يستوردون الحبوب إلى إيطاليا وقد ضمن لهم كلوديوس أن يعوضهم مما عساهم أن يتعرضوا له من الخسارة؛وأعفى نيرون سفنهم من ضريبة الأملاك، وكان تأخر سفن أسطول الحبوب عن الوصول في موعدها أو تحطمها هو السبب الوحيد الذي يدفع الشعب الروماني إلى شق عصا الطاعة.

وكانت السياسة الاقتصادية الرومانية تسير على مبدأ التخلي Laissez faire مع استتثناء امتلاك الدولة للمناجم ومقالع الأحجار، ومصايد السمك، ورواسب الملح، ومساحات واسعة من الأرض المنزرعة(86). وكانت الفيالق الرومانية تصنع الآجر والقرميد اللازمين لمبانيها، وكثيراً ما كانا يستعملان في المنشآت العامة وخاصة في المستعمرات، والراجح أن صناعة الأسلحة وعدد الحرب كانت وقفاً على دور الصناعة التي تمتلكها الدولة، وليس ببعيد أنه قد وجدت في القرن الأول مصانع تمتلكها الحكومة كالتي نسمع عنها في القرن الثالث(70). وكانت الأعمال العامة تعطي في العادة للمقاولين تراقبهم الحكومة مراقبة بلغت من الدقة حداً اضطرهم إلى القيام بها عادة على الوجه الأكمل، وبأقل ما يستطاع من الارتشاء والفساد(70). ثم أصبحت هذه الأعمال حوالى سنة 80 م بقوم بعدد متزايد منها المحررون من عبيد الإمبراطور، ويعمل فيها عبيد الحكومة، ويلوح أن الغرض الوحيد من إقامة هذه المشروعات في جميع الأوقات هو تخفيف حدة التعطل (71).

وكانت ترفض على التجارة ضريبة يسيرة مقدارها 1% من ثمن المبيعات، ورسوم جمركية قليلة، وعوائد في بعض الأحيان على مرور البضائع فوق الجسور واجتيازها المدن. وكان الإدليون Aediles يراقبون تجارة الأشتات وفق نظام بلغ الغاية في الجودة، ولكننا إذا جاز لنا أن نصدق ما ورد على لسان شخص حانق في بترونيوس فإنهم لم يكونوا خيراً من أمثالهم من الموضفين في غير ذلك الوقت؛ " فقد كانوا يقبلوا الرشوة من الخبازين وأمثالهم من السفلة.. . وأفواه الرأسماليين مفتوحة على الدوام " (72) وكانت الشئون المالية تتأثر بتدخل الحكومة في قيمة العملة، وبمنافسة مالية الدولة للمصاريف، ويلوح أن بيت المال كان يضطلع بأكثر الأعمال المصرفية في الإمبراطورية بأجمعها. فكان يفرض المال بالربا للزراع بضمان محصولاتهم ولسكان المدن بضمان أثاث بيوتهم(73). وكانت الحروب عوناً للتجارة لأنها كانت تفتح لهاموارد وأسواقاً جديدة وسيطرة على الطرق التجارية. من ذلك أن حملة جالس Gallus على بلاد العرب فتحت الطرق إلى بلاد الهند وتغلبت على منافسة العرب والبارثيين. وكان بلني يشكو أن الحروف تشن كي تجد السيدات الرومانيات ويجد الغنادرة من الشبان مجالاً واسعاً للحصول على القصور(74).

ويجب ألا نبالغ في تقدير ثروة رومة القديمة، ذلك أن مجموع إيرادات الدولة في أيام فسبازيان لم تزد على 1.500.000.000 سسترس (150.000.000 ريال أمريكي)...وهي أقل من خمس ميزانية بيويورك اليوم. ولم تكن الوسائل التي تمكن الناس من جمع ثروات طائلة بطريق الإنتاج الكبير معروفة في ذلك الوقت أو أنها لم تكن يُعنى بها، ولم تكن قد نشأت وقتئذ صناعة العالم الحديث وتجارته اللتان يمكن أن تفرض عليهما الضرائب العالية. ولم تكن الحكومة الرومانية تنفق على الأسطول الحربي إلا القليل من المال، ولم تكن تنفق شيئاً على خدمة الدين العام، فقد كانت تعيش على مواردها لا على ديونها. وإذ كانت معظم الصناعات منزلية فإن منتجاتها كانت تنتقل إلى المستهلك دون أن يعترضها من الوسطاء والضرائب ما يعترضها في هذه الأيام، فقد كان الناس ينتجون للبيئة التي يعيشون فيها أكثر مما ينتجون للسوق العامة، وكانوا يعملون لأنفسهم أكثر مما نعمل اليوم، ولغيرهم ممن لا يرونهم أقل مما نعمل نحن. وكانوا يستخدمون أجسامهم أكثر منا، ويعملون زمناً أطول منا، وكانوا في عملهم أقل منا حدة وانكباباً على العمل، ولم يكونوا يشعرون بأنهم محرومون من آلاف الكماليات التي لا تتراءى لهم في احلامهم، ولم يكن في مقدورهم أن يشرعوا في اقتناء الثروة التي تضارع ثروتنا نحن في السنين العجاف؛ ولكنهم كانوا يستمتعون بقدر من الرخاء لم تعرف أمم البحر الأبيض المتوسط نظيراً له من قبل ونستطيع أن نقول بوحه عام إنها لم تر ما يماثله بعد. وملاك القول أن العالم القديم وصل في تلك الأيام إلى أعلى درجات عظمته المادية.


صفحة رقم : 3485