قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 3 ب 12
صفحة رقم : 3284
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الزعامة -> العصر الذهبي -> الحافز الأغسطي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثاني عشر: العصر الذهبي 30ق.م-18م
الفصلُ الأول: الحافز الأغسطي
إذا كان والسلام أكثر ملاءمة لإنتاج الآداب والفنون من الحروب والقلاقل، فإن الخرب والهزات الاجتماعية العنيفة تزيل الثرى من حول نبات الفكر، وتغذي البذور التي تنضج في أوقات السلم. والحياة الهادئة لا تخلق الأفكار العظمية ولا عظماء الرجال، ولكن الأزمات القاسية والكفاح من أجل البقاء تقتلع موات الأشياء من جذورها وتجعل نماء الآراء والأساليب الجديدة. والسلم التي تعقب النصر في الحرب فيها من الحوافز والدوافع ما في دور النقاهة السريع من حيوية وقوة، والناس في هذه الفترة يبتهجون لمجرد أنهم أحياء وكثيراً ما يرفعون عقيرتهم بالغناء. حمد الشعب لأغسطس أنه عالج سرطان الفوضى الذي كان يقوض دعائم حياتهم المدنية وإن كان قد استعان على ذلك بجراحة كبرى. وقد دهشوا حين ألفوا أنفسهم وقد أثروا إثراء سريعاً بعد ما حل بهم من الخراب، وتاهوا كبرياء وحين وجدوا أنهم، رغم ما كانوا يرزحون منذ قليل من ضعف واضطراب، لا يزالون سادة المعروف لهم. وأخذوا يعودون بنظرهم إلى تاريخهم، من بدايته إلى الوقت الذي يعيشون فيهِ، من عهد منشئ رومة الأول إلى عهد معيد حياتها ومجدها، وقالوا إنه تاريخ عجيب حقاً، وإنه أشبه ما يكون بملحمة شعرية. ولم يثر دهشتهم أن يصوغ فرجيل وهوراس حمدهم ومجدهم وزهوهم شعراً، وأن يصوغه ليفي نثراً.
وخير من ذلك كلهُ أن الأقاليم التي فتحوها إلا القليل منها لم يكن يسكنها أقواهم همج غير متحضرين، فقد كان جزء كبير منها يشمل التي تثقفت بالثقافة اليونانية-فكانت ذات لغة رقيقة، وأدب سام، وعلم عظيم، وفلسفة ناضجة، وفن نبيل. وأخذت هذه الثروة الروحية وقتئذ تتدفق على رومة، وتثير في أهلها الرغبة في تقليدها ومنافستها، وتبعث في لغتها وآدابها الحياة والنماء، فسرت إلى المفردات اللاتينية عشرة آلاف كلمة يونانية، ودخلت الأسواق الرومانية عشرة آلاف تمثال ونقش وهيكل وشارع وبيت.
وأخذت الأموال تتنقل إلى الطبقات العليا، وإلى الشعراء والفنانين، من أيدي الذين استولوا على كنوز مصر، ومن ملاك الأراضي الإيطالية الغائبين عنها، ومن الذين يستغلون موارد الإمبراطورية وتجارتها. وشرع الكتاب يهدون مؤلفاتهم إلى الأغنياء يرجون بذلك أن ينالوا أعطية تعينهم على مواصلة أعمالهم الأدبية، فأهدى هوراس أغانيه إلى سالست، وإيليوس لاميا Aelius Lamia ومانليوس تركواتس Manilius Turquatus وموناتيوس Munatius، وجمع مسالا كورفينوس Massala Corvinus حولهُ طائفة من المؤلفين كان نجمهم للامع تيبلس Tibullus، واستعاد ماسناس ثروته وقيمة شِعرهِ بما قدمهُ من العطايا لفرجيل وهوراس وبروبيرتيوس Propertius؛ وظل أغسطس حتى سنيهِ الأخيرة التي استولى عليهِ فيها الاضطراب والغيظ يجزل العطاء للأدباء، فكان يسره أن تتحول إلى الآداب والفنون تلك القوى التي كانت سبباً في اضطراب السياسة، فكان يجزل العطاء للمؤلفين ليؤلفوا الكتب، إذا ما تركوه يحكم الدولة كما يشاء. وقد ذاعت أنباء سخائهِ على الشعراء فاجتمعت حوله طائفة كبيرة منهم تسير في ركابهِ أينما سار.
وأصرَّ شاعر يوناني على أن يتعقبه كلما خر ج من قصرهِ كل يوم، ويعرض عليه أبياتاً من الشعر، فما كان منه في يوم من الأيام إلا أ، وقف وهو خارج من القصر وكتب هو بعض أبيات من عندهِ، وأمر أحد أتباعه أن يضعها في يد الشاعر اليوناني، فعرض الشاعر عليهِ بضعة دنانير وقال إنهُ يأسف لأنهُ لا يستطيع أن يقدم له أكثر منها، فأجازه قيصر على فكاهتهِ لا على شعرهِ بمائة ألف سسترس(1).
ونُشر من الكتب في ذلك الوقت ما لم ينشر مثله في أي عصر من العهود الماضية. أما الشعر فأصبح عمل كل إنسان فيلسوفاً كان أو أبله(2). وإذ كان المقصود بالشعر كله وبمعظم الكتب أن يقرأ على الناس بصوت عالٍ، فقد كانت تُعقد الاجتماعات من الأصدقاء الذين يُدعون لهذا الغرض، أو من الجماهير ليقرأ عليهم المؤلفون ثمار قرائحهم. وكان يحدث في أوقات التسامح، وهي نادرة، وأن يقرأ المؤلفون هذه الثمار بعضهم على بعض. وكان جوفنال Juvenal يقول إن من الأسباب التي تضطره لسكنى الريف هو أن يفر من الشعراء الذين تزدحم بهم رومة(3). وكان الكتاب يجتمعون في محال بيع الكتب التي يزدحم بها حي الأرجليتم Argiletum ليحصلوا على عدد من أنجبتهم البلاد من عباقرة الأدب، بينما كان المفلسون من محبي الكتب يقرؤون خلسة نتفاً من الكتب التي يعجزون عن شرائها. وكانت الإعلانات يُلصق على الجدران معلنة أسماء الكتب الجديدة وأثمانها, فكان المجلد الصغير يُباع بأربعة سسترات أو خمسة، والمجلد المتوسط يُباع بعشرة (نحو ريال أمريكي ونصف الريال)؛ أما الكتب الأنيقة كحكم مارتيال Martial والتي كانت تُزين في الغالب بصورة مؤلفيها فكان الواحد منها يُباع بخمسة دنانير أو نحوها (3 ريالات(4)). وكانت الكتب تصدر إلى جميع أنحاء الإمبراطورية أو تُنشر في رومة، وليون، وأثينة والإسكندرية في وقت واحد(14). وقد اغتبط مارتيال من أن كتابه يُشترى ويباع في بريطانيا. وكان لمعظم الناس في ذلك الوقت حتى الشعراء أنفسهم وكتبات خاصة ويصف أوفد مكتبته وصفاً ينم عن تعلقه بها. ويُستدل من أقوال مارتيال على أن المولعين باقتناء الكتب قد وجدوا حتى في ذلك العهد السحيق، فكانوا يجمعون النسخ الأنيقة الفخمة والمخطوطات النادرة؛ وقد أنشأ أغسطس دارين من دور الكتب العامة، وحذا حذوه تيبيريوس، وفسبازيان، ودومتيان Domitian، وتراجان، وهدريان، فلم يحل القرن الرابع قبل الميلاد حتى كان في رومة وحدها ثمان وعشرون من هذه الدور. وكان الأجانب من الطلاب والكتاب يُقبلون عليها وعلى المحفوظات العامة للدرس والبحث؛ فأقبل ديونيشيوس من هليكرنسس Halicarnassus، وديودور من صقلية، وأخذت رومة تنافس الإسكندرية في الحياة العامة، وأضحت العاصمة الأدبية للعالم الغربي.
وكان هذا الازدهار سبباً في تحول الأدب والمجتمع كله عما كانا عليهِ من قبل، فعلت مكانة الآداب والفنون، وأخذ النحاة يحاضرون عن الأحياء من المؤلفين، وكان الناس يُنشدون مقطوعات من أقوالهم في الطرقات، والكتاب يختلطون بكبار الحكام وبنساء الطبقات العالية في الندوات الخاصة إلى حد لم يشهد التاريخ له نظيراً من بعد إلا في عصر ازدهار الآداب في فرنسا. وأضحى الأشراف أنفسهم رجال أدب، كما أضحى الأدب نفسه أرستقراطياً، وحل محل فجور إينوس، وبلوتس، ولكريشيوس العارم جمال رقيق أو تعقيد بغيض في التعبير والتفكير. وامتنع الكتاب عن الاختلاط بالجماهير، فامتنعوا عن وصف أساليبهم في الحياة وعن التحدث بلغتهم؛ فبدأ الأدب ينفصل عن الحياة انفصالاً أفقد الآداب اللاتينية ما كان لها من حيوية. وأضحت الآداب تُصاغ على الأنماط اليونانية، كما كانت موضوعاتها تؤخذ من التقاليد اليونانية أو من بلاط أغسطس. وكان الشعراء إذا بقي لديهم وقت بعد وصف الرعاة على نحو ما كان يفعل ثيوكريتس، أو الحب كما كان يفعل أناكريون Anackreon، يقضونهُ في التغني بجمال الزرع وبفضائل الآباء. ومجد رومة وعظمة الآلهة. وسار الأدب في ركاب الحكم، وأضحى مواعظ تدعو الأمة إلى الاستمساك بالأفكار الأغسطية.
وكانت البلاد قوتان تقاومان تسخير الأدب لخدمة الدولة على النحو السالف الذكر. أولاهما "جوع هوراس البغيضة الدنسة" التي كانت تحب الأدب القديم والمسرحيات القديمة وما فيها من هجوٍ لاذع وتجريح وتفضلهما على جمال الأدب الجديد المعطر المنمق. أما القوة الثانية فكانت دنيا الأراذل والعاهرات، دنيا المرح والرذيلة، التي كانت تنتمي إليها كلوديا ويوليا. وقد ثارت هذه الفئة الغنية ثورة جامحة على القوانين اليوليوسية، وكانت تعارض كل إصلاح خلقي، وكان لها شعراؤها، ومجامعها ومعاييرها الأخلاقية والاجتماعية. وأخذت القوتان المتعارضتان تتطاحنان في الأدب كما تتطاحنان في الحياة، فتلتقيان تارة كما التقتا في تيبلس، وبروبيرتيوس، وتقاومان تُقى فرجيل وعفته ببذاءة أوفد وجرأتهِ، وتقضيان على يوليا وابنتها وعلى شاعر بالنفي من البلاد، وتظلان في هذا التطاحن حتى تُنهِك كلتاهما الأخرى في العصر الذهبي. لكن ضمائر الأحداث العظيمة، وما هيأتهُ الثروة والسلم للناس من فراغ أطلق قرائحهم، وعظمة العالم الذي كان يدين لرومة بالطاعة، كل هذا قد غلب على ما في طبيعية الدولة من جمود، وأنتج عصراً ذهبياً ظل الناس في مستقبل الأيام يرون أنهُ أخرج أكمل الأدب طرا في صورتهِ ولفظهِ.
الفصل الثاني: فرجيل
ولد فرجيل أحب الرمان إلى القلوب في عام 70ق.م في ضيعة قرب منتوا Mantua، حيث يتعرج نهر منسيو Mincio ويتجه على مهل نحو البو. ولم تنجب العاصمة من بعدهِ إلا عدداً جد قليل من العظماء، فقد كانوا في القرن الذي تلا مولد هذا الشاعر والذي ولد المسيح في منتصفهِ يجيئون من إيطاليا، ثم جاءوا فيما بعد ذلك من الولايات. ولعل الدم الكلتي كان يجري في عروق فرجيل لأن الغاليين سكنوا منتوا قبل مولدهِ بزمن طويل. وكان هو من الوجهة القانونية غاليَّ المولد لأن أهل غالة الجنوبية لم يمنحوا حق المواطنية الرومانية على يد قيصر إلا بعد مولد باثنين وعشرين عاماً. ولعل هذا هو الذي جعل هذا الشاعر الذي كان أفصح من تغنى بعظمة رومة ومصيرها لا يذكر فيما بعد شيئاً عما يتصف بهِ الجنس الروماني من قوة الجسم وقدرة على مغالبة الصعاب، بل يتغنى بما في خلق الكلت من تصوف ورقة ورشاقة، وهي صفات قل أن يجدها الإنسان في العنصر الروماني الأصيل.
وكان والده كاتب محكمة، فادخر من مرتبهِ ما يكفي لشراء ضيعة وتربية النحل فيها، وقضى الشاعر طفولته في هذه البيئة الهادئة الطنانة، ولذلك ظلت أشجار الشمال الظليلة ومياهه الغزيرة عالقة بخيالهِ بعد أن شب وترعرع، ولم يكن يحس بالسعادة الحقة إلا بين تلك الحقول والمجاري المائية. ولما بلغ الثانية عشر من عمره أرسل إلى المدرسة في كرمونا Cremona، ثم أرسل في الرابعة عشر إلى ميلان، وفي السادسة عشر إلى رومة؛ وهنا درس البلاغة وما يتصل بها من الموضوعات على الرجل الذي درسها عليهِ أكتافيان فيما بعد. والراجح أنه حضر بعدئذ محاضرات Siro الأبيقوري في نابلي، وبذل غاية جهده ليتقبل فلسفة اللذة، ولكن نشأته الريفية حالت بينهُ وبين هذا الهدف، ويلوح أنه عاد إلى موطنه في الشمال بعد أن أنم دراسته، وذلك لأننا نجده في العام الرابع بعد الميلاد يسبح في الماء لينجو من جندي اغتصب ضيعة أبيهِ؛ فقد صادرها أكتافيان وأنطونيوس لأن هذه البلاد انتصرت إلى أعدائها. وحاول أسنيوس بليو Asinius Pollio العالم وحاكم غالة الإيطالية أن يرد الضيعة إلى مالكها ولكنه عجز، فعوضه عن ذلك بأن تولى رعلية الشاب فرجيل وشجعه على الاستمرار في كتاب "المختارات Eclogues" وهي القصائد التي كان ينشئها في ذلك الوقت.
ولم يكد يحل عام 37 حتى كان اسم فرجيل على كل لسان في رومة. ذلك أن المختارات نُشرت قبيل ذلك الوقت وتقبلها أهل رومة بقبول حسن، وكانت إحدى الممثلات قد أنشدت أبياتها على المسرح، وصفق لها النظارة تصفيقاً ملؤه الحماسة والإعجاب(6). وموضوع القصائد هو وصف الرعي على نمط قصائد ثيوقريطس Theocritus، ونجد فيها أحياناً ألفاظها نفسها؛ وهي جميلة الأسلوب والتوقيع وأنغامها أجمل الأنغام السداسية الأوزان التي استمعت لها رومة في تاريخها كلهُ، وهي مليئة بالحنان التأملي، والحب التخيلي. وذلك أن الشاب وإن قضى شطراً كبيراً من حياتهِ في العاصمة قد انفصل عنها زمناً يكفي لأن يجعلهُ يمجد حياة الريف ويعدها المثل الأعلى للحياة الحقة. وكان من أثر شعرهِ أن أصبح كل إنسان يسره أن يتخيل نفسه راعياً يسير مع قطعانهِ على سفوح الأبنين صاعداً أو نازلاً، ويحطم قلبهُ بالحب وصد الحبيب.
وكان أكثر واقعية من هذه الأشباح الثيوقريطية ما كان في شعر فرجيل من وصف للمناظر الريفية. وقد مجد فرجيل هذه المناظر أيضاً كما مجد مناظر الرعي واتخذها هي الأخرى مثلاً أعلى للحياة؛ ولكنه هنا لم يكن مقلداً، فقد استمع من قبل إلى أغاني الخطاب الشهوانية، وشهد بعينيهِ النحل القلق يحوم حول الأزهار(8)، وعرف يأس الزراع الخالي البال الذي خسر أرضه كما خسر آلاف الناس أراضيهم في تلك الأيام(9). على أن أهم من هذا كلهُ كان شديد الإحساس بما كان يرتجيهِ ذلك العصر من القضاء على التخريب والحرب. وكانت الكتب السبيلية Sibylline قد تنبأت بأن عصر زحل الذهبي سيعود مرة أخرى بعد العصر الحديدي؛ ولما أن ولد في عام 40ق.م وَلَدٌ لأسينيوس بليو نصير فرجيل أعلن الشاعر في الكتاب الرابع من المحتارات أن مولده سيكون بداية المدينة الفاضلة فقال: والآن سيعود العصر الأخير الذي (يبش بهِ) نشيد كومية (سبيل)، وها هي ذي الأحقاب العظيمة المتعاقبة تولد من جديد وتعود العذراء ، ويعود حكم زحل (Saturn) وينزل من السماء العليا جيل جديد. أي لوسينا الطاهرة العفيفة (ربة المواليد)! ابتسمي للغلام الذي ولد منذ قليل، والذي سيزول في عهدهِ لأول مرة جيل جديد، وينشأ في العالم جيل الذهب. إن إلهك أبلو قد أصبح الآن ملكاً على الأرض".
وتحققت هذه النبوءات بعد عشر سنين من ذلك الوقت، فتخلص الناس من عدد الحرب الحديدية، وسيطر على البلاد جيل جديد مسلح بالذهب ومفتون بهِ؛ ولم تشهد رومة في السنين القليلة الباقية من حياة فرجيل اضطرابات جديدة، وعمها الرخاء والسعادة، وحيا الناس أغسطس ولقبوه بالمنقذ وإن لم يلقبوه أبلون. ورحب بلاط الإمبراطور- وإن لم يكن فيهِ من المظاهر العظيمة والأبهة إلا نصف ما في بلاط الملوك- بما في شعر فرجيل من تفاؤل؛ واستقدمه إليهِ ماسيناس، وأحبهُ، ورأى فيهِ أداة شعبية ينفذ بها إصلاحات أكتافيان. وكان حكمه هذا دليلاً على بعد نظره؛ ذلك أن فرجيل-كان في الثالثة والثلاثين من عمرهِ- كان يبدو وقتئذ رجلاً ريفياً سمجاً، شديد الحياء إلى حد يجعلهُ يتلعثم إذا تكلم، يتجنب الظهور في أي مكان عام يمكن أن يعرفهُ الناس فيهِ ويشيروا إليهِ، لا يطيق مجتمعات رومة الراقية الحديثة المهذارة المتطاولة. وفوق هذا فقد كان فرجيل معتل الجسم كأغسطس بل أكثر منه اعتلالاً، يشكو شكوى مستمرة من الصداع وأمراض الحلق، واضطرابات المعدة والبصاق الدموي الكثير. ولم يتزوج فرجيل قط، ويلوح أنه لم يكن أكثر إحساساً بالحب العارم الطليق من بطله إنياس. ويبدو أنه أتى عليهِ حين من الدهر كان يواسي نفسه فيهِ بالعطف على غلام من الرقيق؛ أما فيما عدا هذا فقد كان معروفاً في نابلي باسم "العذراء"(10).
وكان ماسناس كريماً في معاملة الشاعر الشاب، فأقنع أكتافيان بأن يرد لهُ ضيعتهُ، واقترح على الشاعر أن يكتب عدة قصائد يمجد فيها الحياة الزراعية. وكانت إيطاليا في ذلك الوقت (37ق.م) تجزي أشد الجزاء على تحويل كثير من أرضها الزراعية إلى مراعٍ وبساتين، وكروم؛ وكان سكستس بمبي يمنع عنها الطعام الذي يرد من صقلية وأفريقية؛ ونقص القمح ينذرها بانفجار بركان الثورة من جديد. وكانت حياة المدن توهن ما في شباب إيطاليا من رجولة، ولاح أن صحة الأمة من جميع نواحيها تتطلب العودة إلى حياة الزرع. فلما اقترح ماسيناس على فرجيل أن يكتب القصائد التي تمجد الزرع أجاب الشاعر الطلب من فورهِ، فقد كان عليماً بحياة الريف، وكان أجدر بتصوير ما فيها من جاذبية وجمال معتمداً على ما اختزنه في ذاكرتهِ من حب لها عظيم، وإن كان ضعف صحته في ذلك الوقت يحول بينه وبين احتمال ما فيها من صعاب. وخبأ الشاعر نفسهُ في نابلي، وبعد أن ظل يعمل سبع سنين خرج على العالم بأعظم ما أنشأه من القصائد وهي القصيدة المعروفة باسم Georgics وترجمتها الحرفية "العمل في الأرض". وسُر منها ماسيناس وجاء معهُ بفرجيل إلى الجنوب ليقابل أكتافيان، وكان وقتئذ (29ق.م) عائداً من انتصارهِ على كليوبطرة. واسترح القائد المضني في بلدة أتلا Atella الصغيرة، وأخذ يستمع أربعة أيام كاملة لألفي بيت، وهو مأخوذ بجمالها مفتتن بسحرها. هذا إلى أن القصائد تتفق مع سياسته اتفاقاً يفوق كل ما كان يتوقعهُ ماسيناس. فقد كان يعتزم الآن أن يسرح الجز الأكبر من جيوشهِ الجرارة التي ساد بها العالم، وأن يعمل على أن يستقر جنوده المضرسون في الأرض فيستطيع بذلك أن يهدئ بالهم، وأن يطعم المدن الإيطالية، ويحفظ كيان الدولة، كل ذلك بفلح الأرض في الريف. وأصبح فرجيل من ذلك الوقت حراً في أن يفكر في الشعر دون غيره.
في هذه القصائد نرى فناناً عظيماً يعالج أشرف الفنون بأجمعها-فن زراعة الأرض. وفيها يأخذ فرجيل عن هزيود Hesiod وأراتس Aratus، وكاتو، وفارو ولكنه يحول نثرهم الخشن أو أبياتهم العرجاء إلى شعر رقيق مصقول؛ وهو يطرق جميع فروع الفلاحة ويفيها حقها-فيتحدث عن أنواع التربة ووسائل علاجها، وفصول الزرع والحصاد، ويبحث في غرس أشجار الزيتون والكروم، وتربية الماشية والخيل والضأن، والعناية بالنحل. ويستهويه كل عمل من أعمال الزراعة ويثير اهتمامه ويستحوذ على فكرهِ حتى ليحتاج إلى أن يجد نفسه من الانهماك في الموضوع الذي يتحدث عنه ونسيان ما بعدهِ، فيقول:
"ولكن الوقت يمر مراً سريعاً، وما مر منهُ لا يمكن أن يعود أبداً، على حين أننا نحن يسحرنا حب (موضوعنا) فنطيل الوقوف عند كل دقيقة من دقائقهِ". ولا ينسى فرجيل أن يقول كلمة عن أمراض الحيونات وطريقة علاجها، ويصف حيوانات المزرعة المعروفة وصفاً يدل على فهمه لطبائعها وعطفه عليها، وهو لا يفرغ أبداً من الإعجاب ببساطة غرائزها وقوة انفعالاتها، وكمال أشكالها. وهو يمجد الحياة الريفية ويجعلها هي المثل الأعلى للحياة، ولكنه لا ينسى ما فيها من تقلبات الحظوظ، ومن الجهود المضنية، والكفاح الدائم للحشرات، وتناوب الجدب والعواطف، وما تسببه هذه وتلك لأهل الريف من عذاب أليم.ولكن العمل في رأيه يقهر كل شيء(12)، كما أن للجهود التي تُبذل في أعمال الزراعة غرضاً ونتيجة تكسبانها كرامة، وليس لأي روماني أن يشعر بالخجل من قيادة المحراث. ومن أقوال فرجيل إن الأخلاق الكريمة تنشأ في المزارع، وإن جميع الفضائل التي قامت على أساسها عظمة رومة قد غُرست وغُذيت في الريف، وإن الإنسان قلما يجد عملاً من أعمال إلقاء البذور ووقايتها، والغرس والعزق والحصاد إلا له ما يقابله في تنمية الروح وتقويتها، وإن الروح إذا كانت في الحقول، حيث معجزات النماء وتقلبات الجواء تنبئ عن وجود القوى الخفية، لتحس بوجود الحياة المبدعة الخالقة، وتتأثر بالإلهام الإلهي، وتدرك ضآلتها أمام عظمة هذه الحياة، وتمتلئ إجلالاً لها وتعظيماً، أسرع من إحساسها وتأثرها وإدراكها لذلك وامتلائها به في المدينة. وهنا ينشد أشهر أبياتهِ كلها، ويبدؤها بترديد صدى معاني لكريشيوس، ولكنه ينشدها بنغمة فرجيلية خالصة فيقول:
"ألا ما أسعد الرجل الذي استطاع أن يتعلم علل الأشياء، ويطأ بقدمهِ جميع الخاوف والأقدار القاسية العنيدة وصخب الجحيم الشره. ولكن الرجل الذي يعرف الأرباب الريفية بان، وسلفانوس الهرم، والأخوات الحوريات لا يقل عنه سعادة(13)". وهو يرى أن الزارع على حق حين يسترضي الآلهة بالضحايا، ويستجلب عطفها ورضاها؛ لأن هذه الأعمال الدالة على التقى والصلاح تبعث بأعيادها وحفلاتها الضياء في أعمال الفلاحة الشاقة، وتخلع على الأرض وعلى الحياة معنى، وشاعرية وخيالاً ذا روعة.
وكان دريدن يرى أن هذه القصائد "خير أشعار أحسن الشعراء(14)". وهي تشترك مع De Rerum Natura في تلك الميزة النادرة الوجود وهي أنها تلقينية وجميلة معاً. ولم تأخذها رومة بجد على أنها كتاب في الزراعة، ولسنا نعرف أن أحداً ممن قرؤوها قد استبدل المزرعة بالسوق العامة؛ ولعل فرجيل إنما كتب هذه النفحات الريفية كما يظن سنكا ليطرب بها أهل المدن. ومهما يكن من شيء فقد أحس أغسطس أن قرجيل أدى الأمانة التي عرضها عليهِ ماسناس على خير وجه وأكمله، فاستدعى الشاعر إلى قصرهِ واقترح عليهِ أن يقوم بواجب أشق من الأول موضوعه أوسع وأعم من الزرع وحياة الريف.
الفصل الثالث: الإنياذة
لقد كانت الفكرة الأولى أن يتغنى فرجيل بمعارك أكتافيان(15)، ولكن ما يفترضه القدماء من انحدار قيصر ربيب أكتافيان من الزهرة (فينوس) وإنياس هو الذي جعل الشاعر-أو لعله جعل الإمبراطور-يفكر في إنشاء ملحمة في تأسيس رومة. ثم تفتح الموضوع أمام الشاعر، فشمل الأحداث التي وقعت بعد تأسيس رومة، والتنبؤ بإنشاء إمبراطورية أغسطس، وبالسلم التي كانت أثراً من أعمالهِ. وشمل مشروع الملحمة أيضاً وصف أخلاق الرومان في أثناء هذه الأعمال المجيدة، والسعي لبث حب الفضائل القديمة في قلوب الرومان، وتصوير بطلها في صورة الإنسان الذي يعظم الآلهة، ويهتدي بهديها، ويدعو إلى الإصلاحات والمبادئ الأخلاقية التي دعا إليها أغسطس فيما بعد.
فلما رسم فرجيل خطوط الملحمة الرئيسية آوى إلى عدة أماكن نائية منعزلة في إيطاليا، وقضى العشر السنين التالية (29-19) في تأليف الإنياذة. وكان يكتب فيها على مهل مخلصاً في عملهِ إخلاصاً فلوبير Flaubert، فيملي بضعة أسطر في صدر النهار ثم يعيد كتابتها في الأصل. وكان أغسطس في هذه الأثناء ينتظر إتمام الملحمة بفارغ الصبر، وكثيراً ما كان يسأل عما تم منها، ويلحُّ على فرجيل بأن يبعث إليهِ كل ما يفرغ من كتابتهِ. وظل الشاعر يستمهله أطول وقت مستطاع، ولكنه أخيراً قرأ لهُ الكتب الثانية والرابعة والسادسة منها. ولما سمعت أكتافيا أرملة أنطزنيوس الفقرة التي تصف ابنها مرسلس الذي مات من عهد قريب، أغمي عليها(16).
ولم تتم الملحمة ولم تراجع المراجعة الأخيرة، لأن فرجيل سافر إلى بلاد اليونان في عام 19ق.م والتقى بأغسطس في أثينة، وأصيب بضربة شمس في مجارا، فقفل راجعاً إلى بلدهِ بعد أن وصل برنديزيوم بزمن قليل، وطلب وهو على فراش الموت إلى أصدقائهِ أن يتلفوا مخطوط الملحمة قائلاً إنه كان يحتاج إلى ثلاث سنين على الأقل تقديراً لصقلها وإعدادها للنشر، ولكن أغسطس أمرهم ألا ينفذوا هذه الوصية.
أما قصة الإنياذة فيعرفها كل تلميذ. وخلاصتها أنه بينما كانت مدينة طروادة تحترق يظهر شبح هكتور القتيل إلى "إنياذ الصالح" قائد أحلافه الدروانيين، ويأمره أن يستعيد من اليونان ما كان في طروادة من "أشياء مقدسة وآلهة منزلية". وأهمها كلها البلاديوم Palladium أو صورة بلاس أثيني Pallas Athene؛ وكانوا يعتقدون أن بقاء الطرواديين موقوف على الاحتفاظ بها. وفي ذلك يقول هكتور Hector بطلهم المعروف: "ابحثوا عن هذه الصورة" الرموز المقدسة "لأنكم بعد أن تطوفوا بالبحار ستقيمون لكم آخر الأمر مدينة عامرة"(17). ويفر إنياس مع أبيه الشيخ أنكيسيز Anchises وابنه اسكونيوس، فيركبون سفينة تقف بهم في اماكن مختلفة، ولكن أصوات الآلهة تناديهم على الدوام أن يواصلوا السير. وتدفعهم الريح إلى مكان قريب من قرطاجنة حيث يجدون أميرة فينيقية تُدعى ديدو Dido تشيد مدينة جديدة. (وبينما كان فرجيل يكتب هذا كان أغسطس ينفذ مشروع قيصر وهو إعادة بناء قرطاجنة). ويقع إنياس في حب الأميرة، وتهب عاصفة مواتية فتتيح لهما الفرصة لأن يلجأا معاً إلى كهف واحد، ويتم بينهما ما تعده ديدو زواجاً، ويقبل إنياس تفسيرها هذا إلى حين، ويشترك هو ورجاله وهم راضون في بناء المدينة، ولكن الآلهة القاسية، التي لا نراها قط في الأساطير القديمة تعني كثيراً بالزواج، وتنذره بالسفر وتقول له إن هذه ليست هي البلدة التي يجب عليهِ أن يتخذها عاصمة لهُ. ويصدع إنياس بما يؤمر، ويترك الملكة الحزينة وهو يودعها بهذه الألفاظ الشبيهة بالغناء:
"لن أنكر قط أيتها الملكة أنك تستحقين مني ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه...إني لم أمسك قط مشعل الزوج ولم أقسم يمين الزواج...ولكن أبلو قد أمرني الآن بركوب البحر...فامتنعي إذن عن أن تهلكي نفسك وتهلكيني بهذه الشيكات. إني لا أسعى إلى إيطاليا بمحض إرادتي"(18).
"لا أسعى إلى إيطاليا بمحض إرادتي"، هذا هو سر القصة ومحورها الذي تدور عليهِ، ونحن الذين نحكم على فرجيل وبطله بعد ثمانية قرون من كتابة الأدب العاطفي وقراءته، نعلق على الحب الروائي، وعلى العلاقات بين غير الأزواج، وأكثر مما كان يعلقه عليها اليونان الرومان. فقد كان الزواج عند الأقدمين رابطة بين الأسر أكثر مما كان رابطة بين الأجسام والأرواح، وكانت مطلب الدين أو الوطن أسمى من حقوق الأفراد ونزواتهم. ويعطف فرجيل على ديدو ويسمو إلى ذروة البلاغة في فقرة من أجمل فقرات ملحمته حين يتحدث عنها وهي تلقي نفسها فوق كومة من الحطب المعد لحرق الموتى وتحرق نفسها حية؛ ثم يسير في ركاب إنياس إلى إيطاليا. وينزل القرطاجنيون إلى البر عند كومي ثم يسيرون إلى لاتيوم حيث يستقبلهم ملكها لاتنس ويرحب بهم. وكانت ابنته لا فينيا Lavinia مخطوبة لترنس Turnus وهو شاب وسيم وزعيم الروتوليين المجاورين لهذه المدينة؛ ويوقع إنياس الجفوة بينها هي وأبيها وبين خطيبها؛ ويعلن ترتس الحرب عليهِ وعلى لاتيوم، وتنشب معارك حامية الوطيس. وتعتزم سيبيل الكومائية Cumaean Sibyl أن تقوي إنياس وتشجعه، فتأخذه إلى ترتاروس بطريق بحيرة إيرنس Aernus. وكما أن فرجيل قد كتب ملحمة عن تجوال إنياس على نمط أوذيسية هومروس وأخرى قصيرة عن حروبه شبيهة بالإلياذة، فإنه الآن يستوحي رحلة أوديسيوس في الجحيم، ويصبح هو نفسه مثلاً يحتذيهِ دانتي ويهتدي بهديهِ في ملهاته المقدسة.وفي هذا يقول فرجيل: "ما أسهل النزول إلى الجحيم Facilis Descensus Averni " ولكن بطله يجد الطريق إليها وعراً شديد العذاب، كما يجد العالم السفلي معقداً شديد الاختلاط. وفي هذا العالم يلتقي بديدو، فتشيج بوجهها عما عما يبثه من وجدهِ؛ ويشهد ضروب العذاب التي يعاقب بها من ارتكبوا الذنوب على وجه الأرض، والسجن الذي يُعذب فيهِ أنصاف الآلهة المتمردون كما يُعذب الشيطان. ثم تأخذه سيبيل إلى أيك السعداء حيث ينعم الصالحون في الأودية الخضراء بالنعيم السرمدي. وهنا يشرح له والده أنكيسيز، الذي توفي في الطريق، أسرار الجنة، والمطهر والجحيم، ويصور له في أوضح صورة وأشملها مجد رومة وأبطالها في مستقبل الأيام. وتكشف له الزهرة في رؤيا أخرى عن موقعة أكتيوم وانتصارات أغسطس، وبعد أن تنتعش روح إنياس بهذه المناظر يعود إلى عالم الأحياء، ويقتل ترنس، وينشر الموت من حوله ببطشهِ وشدة بأسه. ويتزوج بلفينيا الخيالية، ثم يموت والدها فيرث عرش لاتيوم، ولا يلبث أن يخر صريعاً في إحدى المعارك، وينتقل إلى جنان الفردوس، ويشيد ابنه أسكانيوس Ascanins ألبالنجا لتكون عاصمة جديدة للقبائل اللاتينية، ومنها يخرج من نسلهِ رميولرس وريموس ليشيدا مدينة رومة.
ويبدو أن من سوء الأدب أن ينتقد الإنسان نفساً كريمة رفيعة كنفس فرجيل لما تغمر بهِ بلدها وإمبراطورها من ثناء وتعظيم، أو أن ينقب الإنسان عن عيوب في ملاحم لعله لم يرغب قط في كتابتها، ولم يعش ليتمها. ولا حاجة إلى القول بأنه كتبها على نمط الملاحم اليونانية، وتلك هي السنة جرى عليها الأدب الروماني كلهُ إذا استثنينا منه الهجاء والمقالة. غير أننا نستبيح لأنفسنا هذا القدر من النقد، وهو أن مناظر المعارك الحربية ليست إلا أصداء ضعيفة لما في مناوشات الإلياذة من قعقعة وضجيج، وأن أورورا Aurora لتظهر في الإنياذة بقدر ما تظهر بهِ الفجر ذات الأصابع الوردية في إلياذة هومر. ويستعير الشاعر من نئيفيوس، وإنيوس، ولكريشيوس حوادث وعبارات، وسطوراً كاملة في بعض الأحيان، كما أن أبولونيوس الرودسي Apllonius of Rhodes هو الذي يمده بالمثل الذي يحتذيهِ في حب ديدو المفجع، وهذا الأنموذج هو أرجونوتكا Argonautica. وكانت هذه الاستعارات الأدبية جائزة لا غبار عليها في عصر فرجيل، كما كانت جائزة في عصر شيكسبير، لك أنه كان ينظر إلى آداب البحر الأبيض المتوسط كلها على أنها تراث عقول البحر الأبيض المتوسط كلها، والمعين الذي تستمد منه هذه العقول. ولا جدال في أن ما تقوم عليهِ الملحمة من أساطير تتعب القارئ وتبعث في نفسهِ الملل، وذلك لأننا نضع لأنفسنا الآن أساطير أخرى جديدة؛ ولكن الذي لا شك فيهِ أيضاً أن هذه الإشارات والملحمات الإلهية التي تتخلل القصيدة كانت مألوفة محبوبة حتى لقراء الشعر الروماني المتشككين. ولسنا نجد في ملحمة فرجيل العليل ذات الشعر الهادئ السلس ما نجده في قصة هومر من حوادث دافئة، كما أننا لا نجد فيها الحقائق التي يسري فيها دم الحياة والتي تحرك جبابرة الإلياذة، أو أهل إثكا Ithaca السذج. يضاف إلى هذا أن قصة فرجيل كثيراً ما تمشي الهوينا، وأن أشخاصهُ كلهم تقريباً مرضى إلا الذين يهجرهم إنياس أو يقضي عليهم. وديدو الإنياذة امرأة حية لطيفة، خادعة، شديدة الانفعال، وترنس محارب ساذج شريف يغدر بهِ لاتنس، وتحكم عليهِ الآلهة السخيفة بموت هو غير جدير بهِ. وبعد أن يقرأ الإنسان عشر مقطوعات كلها نواح وندب، تشمئز نفسهُ من "تقي" إنياس الذي يتركه مسلوب الإرادة. ويُغتفر له عذره، ولا يولتيهِ النجاح إلا بتدخل القوى السماوية، وفوق هذا كله فإننا لا نستمتع بالخطب الطويلة التي يقتل بها الشاعر الصالحين من الرجال، والتس تكون بلاغتها سبباً آخر من أسباب مللنا، يضاف إلى هذا ما ندجده فيها من تمحيص هو محك الإنسانية النهائي لمعرفة الحقيقة.
وإذا شئنا أن نفهم الإنياذة على حقيقتها ونقدرها التقدير الذي هي جديرة بهِ، كان علينا أن نتذكر في كل قسم من أقسامها أن فرجيل لم يكن يكتب رواية خيالية، بل كان يكتب لرومة كتاباً مقدساً؛ وليس ذلك لأنه يقدم لها شريعة دينية واضحة، فإن الآلهة الذين يسيرون الحوادث في تمثيليتهِ من وراء الستار لا يقلون خبثاً عن لآلهة هومر، وإن لم يكونوا قريبين من البشر الفكهين قرب هؤلاء؛ بل إنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن كل ما في القصة من شر وشقاء ليس منشؤه من فيها من رجال ونساء بل منشؤه الآلهة أنفسهم. وأكبر الظن أن فرجيل لم يكن يرى في أولئك الأرباب إلا أنهم أدوات لشعرهِ، ورموز للظروف الظالمة المستبدة، والحادثات المفاجئة التي تخل بسير العالم المنتظم الرتيب؛ وهو على العموم يتذبذب بين جوف الأرباب وبين القدر اللا شخصي، فهذا يسيطر على الكائنات تارة وذلك يسيطر عليها تارة أخرى. وآلهة القرية والحقل أحب إليهِ من آلهة أولمبس، فهو لا يترك فرصة تُتاح له إلا مجد الأولى ووصف طقوسها ومراسمها، وتمنى لو استطاع الناس أن يعودوا إلى ما كانوا عليهِ من حب الآباء، والوطن والآلهة، وهو الحب الذي كانت تغذيهِ العقيدة الريفية البدائية: "أسفي على تقوى الأقدمين وإيمانهم!" غير أنه لا يؤمن بالفكرة القديمة عن الجحيم خيث يحشر الموتى جميعاً الصالح منهم والطالح، بل تخالجه أفكار أرفية فيثاغورية عن تجسيد الأرواح بعد الموت، وعن الحياة في الدار الآخرة، وهو يوضح إلى أقصى حد يستطيعه فكرة الثواب في الجنة والمطهر، والعقاب في الجحيم.
لكن الدين الحقيقي في الإنياذة هو دين الوطنية، وإلهها الأعظم هو رومة فمصير رومة هو المحرك لحبكة القصة، وكل ما في القصة من محن وشدائد إنما يرجع إلى "الواجب المضني واجب بعث الشعب الروماني Tantae Molis Erat Romanam Condere Gentem". والشاعر فخور بالإمبراطورية فخراً يمنعه أن يحسد اليونان على تفوقهم في الثقافة ويقول في ذلك: فلتحول الشعوب الأخرى الرخام والبرونز إلى شخوص حية ولترسم مسارات النجوم. "أما أنت يا أبن رومة، فواجبك أن تحكم العالم، وستكون فنونك أن تعلم الناس طرائق السلم، وأن تشفق على الذليل، وتذل الفخور(20)". وفرجيل لا يأسف على موت الجمهورية، وهو يدرك أن حرب الطبقات هي التي قضت عليها ولم يقضِ عليها قيصر؛ وهو في كل جزء من اجزاء قصيدتهِ يبشر بأن حكم أغسطس سيعيدها سيرنها الأولى، ويرحب بهِ ويصفه بأنه حكم زحل قد عاد إلى الأرض، ويعده بأنه سيُجزي على عملهِ بأن يُحشر في زمرة الأرباب. وقصارى القول أن أحداً من الناس لم يوف بما ألقي على كاهلهِ من واجب أدبي بأكمل مما وفى بهِ فرجيل.
يبقى بعد ذلك أن نسأل لم نحتفظ بحبنا الشديد لهذه الدعاوة للتقى وصالح الأخلاق، وحب الوطن، والنعرة الإمبراطورية؟ إن من أسباب هذا الحب ما نجده في كل صفحة من ورقة روح الشاعر وظرفه، وأنا نشعر بأن عطفهِ قد امتد من إيطاليا بلادهِ الجميلة إلى جميع بني الإنسان، بل إلى جميع الكائنات الحية؛فهو يدرك آلام الطبقات العليا والدنيا، ويعرف أهوال الحرب وما يصاحبها من فحش ورذيلة، ولا ينسى أن أنبل الناس أقصرهم آجلاً، وأن ما في الحياة من أحزان وآلام، وما في "الأشياء من دموع Lacrimae Rurum" تذهب ببهجة الأيام تارة وتزيدها تارة أخرى. وهو حين يكتب عن "العندليب الذي يبكي في ظلال شجرة الحور صغارها الحراث فانتزعها من عشها قبل أن يكسوها الريش، فيقضي الليل كلهُ ينتحب، ثم يجثم على فنن ويعيد أغنيته الحزينة، ويملأ الغابة بها وبعوبله"(21) نقول إنه حين يفصل هذا لا يقلد لكريشيوس فحسب. وإن الذي يجذبنا نحو فرجيل مراراً وتكراراً هو ما في حديثه من جمال لا ينقطع أبداً. ولم يكن عبثاً منه أن ينكب على سطر من سطورهِ "فيلعقه بلسانه ليسويه ويصقله، كما تلعق الدبة ديسمها"(22). ولن يستطيع أحد غير القارئ الذي حاول الكتابة أن يتصور ما عاناه الشاعر من التعب حتى أكسب قصته ما فيها من نعومة وسلاسة، وزينها بكثير من الفقرات ذات الأنغام القوية الرنانة التي تطالعنا في كل صفحتين من الكتاب، وتغري القلم باقتباسها واللسان بالنطق بها. ولعل القصيدة مفرطة في جمالها المتناسق المتمائل، لأن جمال اللفظ نفسه يمل إذا أفرطت فصاخته في الطول. وفي فرجيل سحر نسائي ولكنا لا نطالع فيهِ قط ما نجده في شعر لكريشيوس من رجولة وقوة التفكير، وكما لا نجد فيهِ تلك الأمواج الصاخبة التي نراها في ذلك "البحر المتلاطم العجاج" المسمى هومر. ونحن نبدأ نفهم ما يعزى إلى فرجيل من حزن واكتئاب، حين نتصوره يدعو إلى عقائد لم يكن في وسعهِ قط أن يستعيدها في نفسهِ، ويقضي عشر سنين في كتابة ملحمة تتطلب كل حادثة من حوادثها، ويتطلب كل سطر من سطورها، ما يحتاج إليهِ الفن المصطنع من جهود، ثم يموت والأفكار تساوره بأنهُ عجز عن تحقيق غرضه، وأن خياله لم ينره وميض من الإبداع والابتكار، وأنه لم يبعث في أشخاصه نسمة الحياة. ولكن أحداً لا يجادل في أن الشاعر قد انتصر نصراً مؤزراً على أداتهِ إن لم يكن قد نال هذا النصر نفسه على موضوعهِ. وقلما بلغت الصناعة ذلك الحد الأعلى من الإعجاز الذي بلغته في شعر فرجيل.
وبعد عامين من وفاتهِ أخرج منفو وصيتهِ قصيدتهِ إلى العالم، وقام بعضهم يعيبها ويسفهها: فنشر أحد النقاد ثبتاً طويلاً بعيوبها، ونشر غيره ثبتاً آخر بما فيها منم سرقات، وأصدر ثالث ثمانية مجلدات محتوية على ما بين شعر فرجيل والشعر القديم من شبه(23). ولكن رومة سرعان ما نسيت هذه الشيوعية الأدبية، فوضع هوراس فرجيل هومر، ونشأت مدارس أدبية بدأت بها قرون تسعة عشر، ظل الناس فيها يحفظون الإنياذة عن ظهر قلب، وظل الناس جميعاً خاصتهم وعامتهم يهتفون باسمهِ، والصناع، والتجار، يقتبسون من شعرهِ، وشواهد القبور والجدران تنقش عليها عباراته؛ ومتنبئو الهياكل يجيبون السائلين بعبارات غاضبة يقتطعونها من أبيات ملحمته؛ وبدأت من ذلك الوقت تلك العادة التي لم تنقطع إلى عصر النهضة، عادة فتح ملحمة فرجيل فتحاً عشوائياً للبحث عن نصيحة أو نبوءة في أول فقرة تقع عليها عين الفاتح. وانتشر صيته حتى كان يعد في العصور الوسطى من السحرة والقديسين. وكيف لا وهو الذي تنبأ في التشيد الرابع بمجيء المنقذ، ووصف رومة فب الإنياذة بالمدينة المقدسة التي ستخرج منها قوة الدين وتنتشل العالم مما يتخبط فيهِ؟ ألم يصور الكتاب السادس الرهيب يوم الحشر وعذاب المذنبين، وتطهيرهم في نار المطهر، ونعيم الصالحين في الجنة؟ لقد كان فرجيل أيضاً كما كان أفلاطون ذا روح مسيحية طبيعية رغم آلهته الوثنية. وكان دانتي يعجب بعذوبة شعره، ولم يكن يسترشد بهِ في وصف الجحيم والمطهر فحسب، بل كان يسترشد بهِ أيضاً في تدفق فنه القصصي وجمال حدديثه؛ وكان ملتن يفكر وهو يكتب الفردوس المفقود وخطب الشياطين والآدميين الطنانة الرنانة؛ وكان فلتير-وهو الذي كنا نتوقع أن يكون أقسى مما كان في الحكم على فرجيل- يصف الإنياذة بأنها أجمل ما خلفه لنا الأقدمون من تراث أدبي(74).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرّابع: هوراس
إن من أجمل الصور التي يشهدها الإنسان في عالم الأدب-والتي تبدو فيها الغيرة بين الناس شديدة لا تفوقها إلا غيرة العشاق-هي صورة فرجيل وهو يقدم هوراس إلى ماسيناس. فقد التقى الشاعران في عام 40ق.م، حين كان فرجيل في الثلاثين من عمره وهوراس في الخامسة والعشرين، وفتح فرجيل أبواب ماسيناس بعد عام من ذلك الوقت وبقي الثلاثة بعدئذ أصدقاء أوفياء حتى فارقوا هذا العالم.
واحتفلت إيطاليا في عام 1935 بمرور ألفي عام على مولد كونتس هوراشيوس فلاكس Quintus Horatius Flaccus، وكان مولده في بلدة فنوزيا Venusia الصغيرة من أعمال أبوليا Apulia، وكان والده رقيقاً معتوقاً ارتفعت منزلته حتى أصبح جابياً-أو صياداً كما يقول بعض الناس(23). ومعنى كلمة فلاكس ذو الأذن المدلاة، وأكبر الظن أن هوراشيوس هو اسم السيد الذي كان الوالد في خدمتهِ. وأثرى العبد المعتوق بطريقة ما، وأرسل ابنه إلى رومة ليدرس البلاغة ثم أرسله إلى أثينة ليدرس فيها الفلسفة. وفي هذه المدينة انضم الشاب إلى جيش بروتس وتولى قيادة أحد الفيالق، وقال وقتئذ قالته المأثورة "إن من ألذ الأشياء ةأشرفها أن يموت الإنسان في سبيل بلادهِ Dulce et Decorum Pro Patria Mori"(26). ولكن هوراس-وكان يقلد أركلوكس Archilochus في أغلب الأحيان-القى بدرعهِ في إبان المعركة وولى الأدبار. ولما وضعت الحرب أوزارها ألفى نفسه وقد جرد من جميع أملاكه ومن كل ما ورثه عن أبيهِ، "وودفعتني المسبغة إلى قرض الشعر"(27)، ولكن الحقيقة أنه كان يكسب قوته من منصب كاتب كوستر.
وكان قصيراً بديناً، ومزهواً حيياً، لا يحب السوقة ولكنه لا يجد من الثياب أو المال ما يعينه على الاختلاط بالأسواط التي نالت من التعليم ما ناله هو. وكان يخشى عواقب الزواج فأكتفى على حد قولهِ بالسراري والعشيقات؛ وهو قول قد يكون حقاً، وقد لا يكون إلا نوعاً من الترخيص الشعري اخترعه للدلالة على نضوجه. وقد كتب عن العاهرات كتابة جمعت بين حذر العلماء وتعقيد الشعراء، وظن أنه جدير بأعظم الثناء لأنه لم يُغو النساء المتزوجات(28). وإذ كان أفقر من أن يقضي على نفسهِ بالانهماك في الشهوات الجنسية فقد عمد إلى قراءة الكتبي وكتابة الأغاني باللغتين اليونانية واللاتينية، وبأصعب أوزان الشعر اليوناني وأكثرها اختلاطاً. وأطلع فرجيل على إحدى هذه القصائد وامتدحها لماسيناس. وسر الأبيقوري الرحيم من حياء هوراس وتلجلحهِ في الحديث، ووجد في سفسطتهِ الفكرية ما يدعوه إلى حبه. وفي عام 37 اصطحب ماسنياس فرجيل وهوراس وغيرهما من الصحاب في سفرة قصيرة مخترقين إيطاليا في قارب قنوي تارة، وعربة ومحمل تارة أخرى، ثم سيراً على الأقدام في بعض الأوقات. وبعد قليل من ذلك الوقت قدم ماسنياس الشاعر لأكتافيان، واقترح عليهِ أن يعينه أمين سره.فاعتذر الشاعر قائلاً إنه لا يجد من نفسه ميلاً إلى العمل. وفي عام 34 أهدى إليهِ ماسيناس بيتاً وضيعة تدر عليهِ بعض المال في الوادي السابيني بيستيكا Ustica على بعد خمسة وأربعين ميلاً من رومة. وبذلك أصبح في استطاعتة هوراس أن يعيش في المدينة أو في الريف كما يشاء، وأن يكتب كما يأمل المؤلفون أن يكتبوا-في الوقت الذي تحلو لهم فيهِ الكتابة، وبالعناية والجهد اللذين يحلو لهم أن يبذلوهما في كتابتهم .
وأقام بعض الوقت في رومة يمتع نفسه بحياة من يتسلى بمشاهدة العالم المسرع المندفع. وكان يختلط بجميع طبقات الناس، ويدرس جميع الأصناف التي تتكون منها رومة، ويفكر في حماقات العاصمة ورذائلها وهو مسرور سرور الطبيب إذا كشف علة المريض. وقد وصف بعض تلك الأصناف في كتابين من كتب هجوه (34، 30ق.م)، حذا فيهما أولاً حذو لوسليوس Lucilius، ثم خفف فيما بعد من حدتهِ وأصبح أكثر مما كان متسامحاً. وكان يطلق على هذه القصائد اسم المواعظ Sermones-وإن لم تكن مواعظ في أية صورة، بل كانت أحاديث خالية من التكلف والصناعة؛ وكانت أحياناً محاورات ودية خاصة في أشعار سداسية الوزن تكاد لغتها أن تكون هي اللغة العامية. وقد اعترف هو نفسه بأنها نثر في كل شيء عدا الوزن، "لأنك لا تستطيع أن تطلق اسم الشاعر على رجل يكتب كما أكتب أنا أبياتاً أقرب ما تكون إلى الكلام المنثور". ونحن نلتقي في هذه الأشعار الاذعة بالأحياء من رجال رومة ونسائها، ونستمع إليهم يتحدثون كما يتحدث الرومان: فلسنا نجد فيها رعاة فرجيل وزرَّاعه وأبطاله، ولا فُساق أوفد الخرافيين وبطلاته، بل نشاهد العبد الوقح البذئ، والشاعر المزهو بنفسهِ، والمحاضر ذا الألفاظ الطنانة، والفيلسوف الشره، والثرثار الممل، والساميَّ الحريص على المال، ورجل الأعمال، والحاكم، ورجل الشارع العادي، غنشعر أنا نشهد آخر الأمر رومة الحقة. فها هو ذا هوراس يضع في قصائده لمن يشاء أن ينقب عن آثار الأقدمين القواعد التي يجب أن يسير عليها من يريد النجاح في هذه الحلبة التي تصطرع فيها الغيلان من الناس، ويضعها في صورة مرحة ولكنها مهلكة قاتلة(29). وهو يسخر من النهمين الذين يملئون بطونهم بشهي الطعام، ولكنهم لا يستطيعون المشي على أرجلهم لأنهم مصابون بالرثية(30)، ويذكر من "يمتدح الأيام الماضية" بأنه إذا جاءه إله ليعبده إلى تلك الأيام أبى وتمنع(31)، ويقول إن أحسن ما في الماضي هو علم الإنسان أنه لن يضطر إلى أن يحيا مرة أخرى. وهو يعجب كما يعجب لكريشيوس من ذوي الأرواح القلقة الذين إذا كانوا في المدن تاقوا إلى سكنى الريف، فإذا سكنوا الريف تاقوا إلى المدن، والذين لا يستطيعون أن يستمتعوا بما عندهم، لأن من الناس من عنده أكثر منهم؛ والذين لا يقنعون بزوجاتهم ويهيمون بخيالهم المفرط في العظمة وفي الحقارة معاً بجمال غيرهن من النساء اللائي أصبحن في نظر غيرهم من الرجال ولا جمال لهن. ويختتم نصائحه بقولهِ إن جنون المال هو مرض رومة القتال، ويسأل من يقضي أيامه في جمع الذهب: "لم تسخر من تنتلس لأن الماء يبتعد عن شفتيهِ الظامئتين على الدوام؟ ليس عليك إلا أن تبدل الأسماء فتنطبق القصة عليك أنت(32)" ثم يهجو نفسه أيضاً؛ فهو يصور عبده يقول له في وجههِ إنه، وهو الداعي إلى أحسن الخلق، رجل أحمق حاد الطبع لا يعرف قط ما يدور في عقلهِ أو ما يهدف أليهِ، وأنه عبد شهواتهِ ككل إنسان آخر. وما من شك في أنه يوصي نفسه، كما يوصي غيره، بسلوك الطريقة الوسطى الذهبية إذ يقول: "إن للأشياء حداً ومقياساً(34)" لا يقصر الرجل الذكي عنه ولا يتجاوزه. وهو في بداية كتاب الهجاء الثاني يشكو إلى صديق له أن المجموعة الأولى قد انتُقدت أشد النقد، فقيل فقيل إنها مفرطة في الخشونة وفي الضعف، ثم يستنصح الصديق فيقول له: "استرح" فيعترض عليهِ الشاعر بقولهِ: "ماذا؟ ألا أكتب الشعر قط"؟ فيجيبه "نعم" فيقول "ولكني لن أستطيع النوم(35)".
وكان خيراً له أن يعمل بهذهِ النصيحة إلى حين. وكان كتابه الثاني المسمىردود الغناء Epodes (29ق.م) أقل كتبه شأناً. فأشعاره خشنة مؤذية للسمع خالية من الشهامة، بعيدة عن الذوق، بذيئة في الأمور الجنسية، كل ما يستطيع الإنسان أن يقوله في وصفها إنها تجربة في الأوزان الشعرية ذات المقاطع المتعاقبة منبورة، وهي المقاطع التي سار عليها أركلوكس Archilodhus. ولعل اشمئزازه من "دخان رومة ومالها وضجيجها"(36) قد زاد حتى أمَرَّ نفسه؛ ولعله لم يطق صبراً على الضغط "السوقة الجهال ذوي التفكير الخبيث". وهو يصور نفسه متدفقاً ومدفوعاً بين أراذل العاصمة، وينادي قائلاً: "أيها البيت الريفي! متى أراك؟ متى أستطيع وأنا بين كتب الأقدمين تارة، وأستمتع بالنوم والفراغ تارة أخرى، أن أجزع النسيان الحلو لمتاعب الحياة؟ متى يقدم لي صحاف الفول إخوان فيثاغورس نفسه، ومعها الخضر المخلوطة باللحم السمين؟ آه، أيتها الليالي والملائم القدسية!"(37) ثم قصرت فترات إقامته في رومة؛ وصار يقضي كثيراً من وقته في بيته السبيني الريفي حتى شكا أصدقاؤه ماسيناس نفسه بأنه "اقتطعهما من حياتهِ". ولكن الحقيقة أنه بعد أن عانى حر المدينة وعثيرها وجد في الهواء النقي والعمل التيب الهادئ، والعمال السذج في ضيعتهِ، بهجة تطهره من أدران المدن. هذا إلى أنه كان وقتئذ ضعيف الجسم، وأنه كان يعيش على الأكثر، كما يعيش أغسطس، على الخضر وحدها. وفي ذلك يقول: إن فيما أمتلكه من مجرى الماء النقي وأفدنة قليلة من الأشجار، ووثوقي من أني سأجني محصولاً من الحب، إن في هذا لسعادة دونها سعادة سيد أفريقية الخصبة ونعيمها البراق"(39). وإن حب الريف ليجد في غيرهِ من شعراء عهد أغسطس من يعبر عنه تعبيراً حماسياً نادر الوجدود في أدب اليونان.
ما أسعد من يعيش بعيداً عن قلق الأعمال ومتاعبها.
كما كانت تعيش أقدم شعوب العالم.
يفلح بثيرانه الأرض التي ورثها عن أبيهِ.
وليس عليهِ دين...
ما أحلى النوم تحت شجرة السنديان القديمة.
والنهر يجري بين جسريهِ العاليين.
وطيور الأيك تغرد.
والماء يتدفق من العيون.
يدعو الإنسان للنوم الهنيئ!(40).
وجد سيرنا أن نضيف إلى هذا أن الذي ينطق بهذه الأبيات مراب من أهل المدن، ينطقه بها هوراس في سخرية يمتاز بها عن كثيرين منم الشعراء، وأن هذا المرابي بعد أن ينطق بها لا يلبث أ، ينساها ويفقد نفسه بين أكوام نقوده.
وأكبر الظن أن هذا المرابض الهادئة هي التي كان يكدح فيها "كدح السعداء المجدين" في تأليف هذه الأغاني التي يعلم أن ذيوع اسمه أزو خمول ذكره موقوف عليها. لقد مل الأشعار السداسية الوزن ولم يعد يطربه انسجام أوزانها المقيسة المحددة، أو التي تُقطع من آخر البيت لضرورة الشعر كأنها جُزَّت بمقصلة. وكان قد استمع في شبابهِ بالأوزان الدقيقة المرحة التي رآها في شعر سابفو Sappho والكيوس Alckeus، وأركلوكس Archilochus، وأنكريون Anacreon، فأراد الآن أن ينقل هذه الأوزان "السابفية" والألكية، والتفاعل المركبة من مقطعين ومن أحد عشر مقطعاً، إلى صورة الشعر الغنائي الروماني، وأن يعبر عن آرائه في الحب والخمر، والدين، والدولة، والحياة والموت في مقطوعات جديدة منعشة للنفس جامعة رصينة التركيب، قابلة للتلحين، معقدة تعقيداً يتطلب حلها الجهد الكثير. ولم يكن يكتب هذه الأشعار لذوي العقول الساذجة التي تريد أن تمر بها مراً سريعاً دون أن تبذل في إدراكها أي مجهود؛ والحق أنه قد حذر أمثال هؤلاء من مستهل المجموعة الثالثة من الإقدام على قراءتها فقال:
"إني أبغض السوقة النجسين وأتجنبهم. صه! أنا، كان ربات الشعر، أغني للعذارى والشباب أغاني لم يسمعها أحد من قبل". ولو أن العذارى قد عنين بشق طريقهن وسط أقوال هوراس ورغباتهِ المقلوبة لارتعن وسررن مما في أغانيهِ من أبيقورية مهذبة مصقولة. فالشاعر يصور مسرات الصداقة، والطعام والشراب، والمغازلة، وإن المرء ليصعب عليهِ أن يستدل من هذه الترانيم على أن كاتبها رجل زاهد لا يأكل إلا قليلاً ولا يشرب إلا أقل. ثم يسأل الشاعر نفسه (قبل أن يسألها قارئ هذه الصفحات): "لم نشغل أنفسنا بالسياسة الرومانية وبالحروب في الأقاليم النائية؟ ولم نعني هذه العناية كلها بتدبير أمور المستقبل الذي يسخر من تدبيرنا . إن الشباب والجمال يمساننا مساً ويمران بنا مراً سريعاً فلنستمتع بهما الآن،" مضطجعين إلى شجرة الصنوبر، وغدائرنا الشمطاء متوجة بالأزهار ومعطرة بالناردين السوري(42)". وبينما نحن نتحدث هذا الحديث يمر الوقت الحسود وينقضي، فلنغتنم الفرص "ولنختطف الأيام Carpe Diem(43)". ويتلو الشاعر أسماء طائفة من النساء الخليعات اللاتي يقول إنه أحبهن: لالاج، جلسيرا، تئيرا، إيانشا، رستارا، كنديا، ليسي، بيرها، ليديا، تندراس، كلو، فيلس، مرتال. ولا حاجة بنا أن نصدق كل ما يدعيهِ من ذنوب يقول إنه ارتكبها، فقد كانت هذه الأقوال وقتئذ دعاوى أدبية يكاد يفرضها شعراء تلك الأيام على أنفسهم فرضاً؛ وشاعد ذلك أنا نجد أولئك السيدات أنفسهن في خدمة أقلام غير قلمه قبل ذلك الوقت. ولم يكن أغسطس الذي تاب وقتئذ وأناب لينخدع بهذه الضلالات الشعرية، فقد كان يسره أن يجد بينها تعظيماً لحكمهِ وثناء عليهِ، وعلى انتصاراتهِ، وأعوانه، وإصلاحاته الأخلاقية، وعلى السلم التي بسط لواءها في أيامهِ. وقد ألف هوراس أغنيته المشهورة في الشراب Nunc ets Bibendum(44) حين جاءته الأنباء بأن كليوبطرة قضت نحبها، وأن أغسطس استولى على مصر، فقد كان لهذا النبأ وقع عظيم حتى في نفس هذا الشاعر السوفسطائي الذ سر من انتصار الإمبراطورية واتساع رقعتها إلى حد لم تبلغه قط من قبل. وهو يحذر قراءه من الاعتقاد بأن القوانين الجديدة يمكن أن تحل محل الأخلاق القديمة، ويأسف لانتشار الترف والزنى، والخلاعة، والعقائد المنحطة الفاسدة، ويقول مشيراً إلى الحرب الأخيرة: "وا أسفا على ما أصابنا من جروح وما ارتكبنا من جرائم، وعلى من مضوا من إخوتنا صرعى في الميدان! وهل ثمة شيء قد اشمأزت منه نفوسنا نحن أبناء هذا الجيل؟ وأي ظلم لم نرتكبه؟"(45) ويقول إن رومة لن تنجو إلا بالرجوع إلى الأساليب البسيطة وإلى الثبات الذي كان شعار الأيام الخالية. وهكذا نرى الشاعر المتشكك الذي كان من الصعب عليهِ أن يؤمن بأي شيء يحني رأسه الأشيب أمام النصب القديمة، ويقر أن الناس يهلكون إذا لم تكن لهم أساطير يؤمنون بها، ويسخر قلمه لخدمة الآلهة المرضى الضعاف.
وبعد فليس في أدب العالم ما يشبه هذه القصائد تمام الشبه-فهي رقيقة وقوية؛ وفيها تأنق ورجولة، وحذق وتعقيد، تخفي ما فيها من فن للفن البالغ درجة الكمال، وتخفي ما استلزمته من جهد بما يبدو عليها من يسر وسلاسة. فهي موسيقى من طراز غير طراز فرجيل، ذلك أن موسيقاها أقل من موسيقى فرجيل عذوبة في النغم وأكثر منها تعقلاً، وهي لم تكتب للشبان والعذارى بل كتبت للفنانين والفلاسفة. وليس في القصائد كلها شيء من الانفعال أو التحمس، أو "اللفظ المنمق"؛ بل الألفاظ كلها سهلة حتى في الجمل المقلوبة التي يجب أن يكون أولها آخرها. ولكن في الأغاني الكبرى كبرياءً وجلالاً في التفكير، حتى ليخيل إليك وأنت تستمع إليها أن إمبراطوراً هو الذي يتحدث وأنه لايتحدث بألفاظ من حروف بل من برونز:
لقد أقمت نصباً أبقى على الزمان من البرونز،
وأعل من قمة الأهرام الملكية؛
لا تستطيع العواصف الهوج أن تحطمه.
ولا ريح الشمال الضعيفة، ولا كر السنين
التي لاعداد لها، ولا مر الزمان السريع.
إني لن أموت الميتة الكبرى.
وأغفلت الجماهير التي هجاها هوراس أغانيه، وشهر بها النقاد ووصفوها بأنها مملة متكلفة، وندد المتزمتون بما فيها من أغاني الحب؛ أما أغسطس فوصف القصائد بأنها قصائد خالدة، وطلب إلى الشاعر أن يتبعها بمجموعة رابعة تصف أعمال دروسس وتيبيريوس في ألمانيا؛ واختار هوراس لكتابة الأناشيد "القرنية" يصف فيها المباريات القرنية. وأجاب الشاعر إلى ما طلب ولكنه لم يجد من نفسه الإلهام الذي يمكنه من تنفيذ هذه الرغبة؛ ذلك بأن الأغاني قد استنفذت كل جهوده، ولهذا رجع في كتابه الأخير إلى الشعر السداسي الأوتاد الذي كتب به كتبه في الهجاء، والذي هو أليق الأوزان بالحديث، فكتب بهِ رسائله، وهي أشبه بحديث ينطق به صاحبه من مقعد مريح. وكان هوراس يريد على الدوام أن يكون فيلسوفاً، وقد غلبت عليهِ هذه النزعة في تلك الرسائل، فاسترسل في الحكم حتى في أثناء ثرثرتهِ. وإذ كان الفيلسوف شاعراً ميتاً وفقيهاً محتضراً، فقد كان هوراس وهو شيخ في الرابعة والخمسين من عمرهِ قد نضجت سنه للبحث في طبيعة الله، والإنسان، والأخلاق، والأدب، والفن.
وكُتبت أشهر رسالة من هذه الرسائل كلها-وهي المعروفة لدى النقاد باسم "فن الشعر" إلى آدبيزونس Ad Pisones-وهم أفراد غير معروفين معرفة أكيدة من عشيرة بيزو Piso. ولم تكن هذه رسالة بالمعنى الحقيقي للرسائل، بل كانت نصيحة قصيرة من صديق إلى صديق يبين له فيها طريقة الكتابة، ويقول له فيها: عليك أن تختار موضوعاً يتفق مع مواهبك، واحذر أن ينطبق عليك المثل القائل تمخض الجبل فولد فأرة ؛ والكاتب المثالي هو الذي يعلم ويسلى في وقت واحد، "ومن يمزج النافع بالسار يكسب جميع الأصوات(48)". وتجنب الألفاظ الجديدة، والعتيقة المهملة، والمسرفة في الطول. وأوجز بالقدر الذي يجيزه وضوح معانيك، وامضِ مسرعاً إلى لباب الموضوع. وإذا كتبت الشعر فلا تظن أن العاطفة هي كل شيء، نعم إنك إذا شئت أن يحس قارئك بعاطفة ما فلا بدَّ لك أن تحس بها(49)، ولكن الفن غير الشعور، إنه الصورة التي يعبر بها عنه (وهنا أيضاً يتحدى الأسلوبُ الإتباعي الإسلوبَ الإبداعي )، ولكي تصل إلى حسن الصيغة، عليك أن تواصل دراسة آداب اليونان ليلاً ونهاراً؛ وليكن ما تمحوه من كتابتك قد ما تثبته أو قريباً منه.
"واعرض ما تكتبه على ناقد قدير وحاذر من أصدقائك، فإذا إجتازت كتاباتك هذه المراحل كلها، فأخفها ثماني سنين؛ فإذا لم تجد بعدئذ إنك قد أفدت من نسيانها فانشرها، ولكن اذكر على الدوام أنها لن يعيده إلى الزمن وحده. وإذا كتبت مسرحيات فلتجعل الأعمال لا الأقوال هي التي تقص القصة، وتصور الأشخاص. ولا تمثل الرعب على المسرح، وإلزام وحدة الأعمال والزمان والمكان، واجعل القصة قصة واحدة، تقع حوادثها في زمن قصير وفي مكان واحد. وادرس الحياة والفلسفة، لأن الأسلوب مهما بلغ لا قيمة له من غير الملاحظة والفهم. كن جريئاً في المعرفة". وعمل هوراس نفسه بكل هذه القواعد إلا قاعدة واحدة-فهو لم يتعلم البكاء؛ ذلك أنه لم يكن قوي الشعور، أو أن شعوره قد اختنق فصمت، ولذلك لم يسم قط إلى ذلك الفن الأعلى الذي يجسم الإخلاص في العطف أو "العواطف التي يذكرها أصحابها بهدوء". يضاف إلى هذا أنه كان مسرفاً في تمجيد المدن. ولقد كان قوله: "Nil admirari لا تعجب بشيء قط(50)" نصيحة غير قويمة، لأن الشاعر الحق يجب أن يعجب بكل شيء حتى لو كان كشروق الشمس أو منظر الشجر يحييه كل يوم. وكان هوراس يلاحظ الحياة ويراقبها، ولكنه لم يتعمق في هذه المراقبة، وقد درس الفلسفة واحتفظ على الدوام "باعتدال عقلهِ" ولذلك لم يسم شيء من أغانيهِ فوق المرتبة الوسطى(52). وكان يعظم الفضيلة تعظيم الرواقيين، ويحترم اللذة احترامالأبيقوريين، فيسأل نفسه "أي الناس هو الحر إذن؟" ثم يجيب كما يجيب زينون: "هو الرجل الحكيم، سيد نفسه، الذي لا يرهب الفقر ولا الموت ولا الأغلال، والذي يتحدى شهواته ويزدري بالمطامع والذ هو كلٌ في نفسهِ(53)". ومن أنبل قصائده قصيدة تُضرب على نغمة رواقية وتقول:
"إذا كان الرجل عادلاً حازماً فقد تتصدع الدنيا كلها من حوله وتتساقط فوق رأسهِ، وتجده تحت حطامها غير هياب ولا وجل(54)". ولكن هوراس رغم هذا كله يلقب نفسه بأمانة جذابة: "خنزيراً من حظيرة أبيقور(55)".
وهو كأبيقور يقدر الصداقة فوق الحب، وكفرجيل يمتدح إصلاحات أغسطس، ويعيش في حياته كلها عزباً". وقد بذل كل ما في وسعهِ داعياُ إلى الدين ولكنه كان لا دين لهُ، وكان يشعر أن الموت يقضي على كل شيء(56).
وقد أظلمت أفكاره أيامه الأخيرة-وأوتي حظه من الأسقام، فكان ممعوداً مصاباً بالنقرس وبغيره من الأمراض. ومن أقواله في رثاء حاله: "إن السنين وهي تمر تسلبنا كل مسراتنا واحدة بعد واحدة(57)". ويقول لصديق آخر: "واحسرتاه يابستيوس إن السنين تمر بنا سراعاً؛ لن تستطيع تقوانا أن تمنع عنا غضون أجسامنا، أو تقدم أعمارنا، أو الموت الذي لا يُقهر(58)". وقد ذكر في قصيدتهِ الهجائية الأولى كيف كان يأمل إذا حانت منيته أن يفارق الحياة الدنيا راضياً "كالضيف الذي نال من الوليمة كفايته(59)". وها هو ذا الآن يقول لنفسهِ: "لقد لعبت ما شئت أن تلعب، وأكلت ما شئت أن تأكل، وشربت ما شئت أن تشرب، وقد آن أن ترحل(60)". وقد انقضت خمس عشر سنة مذ قال لما سيناس إنه لن يطول أجله كثيراً بعد رجل المال(61). وقد مات ماسيناس في عام 18ق.م وتبعه هوراس بعد بضعة أشهر، وأوصى بأملاكه إلى الإمبراطور ودفن بجوار قبر ماسيناس.
الفصل الخامِس: ليفي
لم يظفر النثر في عهد أغسطس بمثل ما ظفر به الشعر من مؤلفات عظيمة قيمة، فقد اضمحلت الخطابة بانتقال التشريع والقرارات، في الواقع إن لم يكن في الشكل، من مجلس الشيوخ والجمعيات إلى حجرات الزعيم السرية. وظل العلم يجري في مجراه الهادئ تحميهِ من العواصف والأحداث ومصالحه الخيالية، ولم ينتج العصر كله آية أدبية خالدة إلا في التاريخ. وكان صاحب هذه الآية الخالدة تيتس ليفيوس Titus Livius.
ولد تيتس في بتفيوم Patavium (بدوا Padua) في عام 59ق.م. ثم وفد غإلى العاصمة، وأكب على دراسة البلاغة والفلسفة، وخص السنين الأربعين الأخيرة من حياتهِ بكتابة تاريخ لرومة (23ق.م-17م). وذلك كل ما نعرفه عن هذا المؤرخ "فمؤرخ رومة لا تاريخ له"(63). وكان موطنه الأصلي، كموطن فرجيل، وهو إقليم البو، وقد احتفظ على الدوام بفضائل الأقدمين وبساطتهم وتقواهم، ثم نشأ فيهِ احترام قوي للمدينة الخالدة-لعل سببه ما كان يصله عنها من أنباء وهو بعيد عنها. وقد وضع خطة كتابه على أساس واسع عظيم، وقدر له أن يتمه وإن لم يصل من "كتبه" البالغة مائة واثنين وأربعين كتاباً إلا خمسة وثلاثون. وإذ كانت هذه الكتب الباقية تحتويها ستة مجلدات فإن في وسعنا أن نقدر ضخامة هذا المؤلف. ويلوح أن الكتاب قد ظهر أجزاء متتابعة لكل منها عنوان خاص، ويجمعها كلها عنوان واحد هو "من أسس المدينة Ab urbe condita". وكان في وسع أغسطس أن يتغاضى عن ميوله الجمهورية وأبطاله الجمهوريين لأن روح الكتاب الدينية والأخلاقية والوطنية كانت تتفق كل الاتفاق مع خطط الإمبراطورية السياسية. ومن أجل ذلك اتخذ ليفي صديقاً له وشجعه ليجعل منه فرجيلاً ناثراً يبدأ عمله من حيث تركه الشاعر. وقد فكر ليفي في يوم من الأيام وهو في وسط مرحلته الطويلة التي بدأت في عام 753 ق. م أن ينقطع عن العمل بحجة أنه نال ما يبتغيه من الشهرة الخالدة؛ ثم واصل العمل لأنه على حد قوله وجد نفسه قلقاً حائراً حين امتنع عن الكتابة.
وكان المؤرخون الرومان يرون أن الشعر ولد هجين من أبوين هما البلاغة والفلسفة! وإذا كان لنا أن نصدقهم فإنهم كانوا يؤرخون ليوضحوا المبادئ الأخلاقية بالقصص البليغة، أي أن يجلو المغزى الخلقي بقصة. وقد نُشئ ليفي ليكون ممثلاً، ولكنه حين وجد الخطابة خطرة معرضة للنقد، "اتجه نحو التاريخ" كما يقول تين Taine "لكي يظل كما كان خطيباً"(65). وبدأ كتابه بمقدمة جافة ندد فيها بما كان شائعاً في عصره من فساد وترف وخنوثة؛ وقال إنه دفن نفسه في الماضي لكي ينسي مساوئ الحاضر، "الذي لا نطيق ما ابتلانا من أمراض كما لا نطيق لها علاجاً"، ثم يقول إنه سيتخذ التاريخ سبيلاً لتصوير الفضائل التي رفعت من شأن رومة. وكانت سبباً في عظمتها، وهي اتحاد الأسرة وقداستها، وتقوى الأبناء، والعلاقة المقدسة بين الناس والآلهة في كل خطوة من الخطوات، وقدسية ما يقطعه الناس من عهود وضبط النفس والوقار إلى أقصى حد. ويقول إنه سيجعل رومة الرواقية هذه أمة نبيلة كريمة الأخلاق إلى حد يرى الناس معه أن فتح بلاد البحر الأبيض المتوسط كان من الأعمال التي تحتمها من الأخلاق الكريمة، أو أنها أمر إلهي وشريعة مقدسة نزلت على ما في الشرق من فوضى وما في الغرب من همجية، وسيجعل ما نالته رومة من ظفر نتيجة لما تحلي لها به أهلها من كريم الخلق، كما عزاه بولبيوس إلى نظام حكومتها الصالح الرشيد.
وأكبر ما في الكتاب من عيوب إنما يرجع إلى هذه النزعة الأخلاقية، ففي على أن مؤلفه رجل يخضع لحكم العقل. وكان احترامه للدين احتراماً مسرفاً إلى حد يكاد يحمله على الأيمان بكل خرافة، ويملأ صحف كتابه بالفأل والطيرة والتنبؤ بالغيب حتى لنشعر ونحن نقرؤها أن الذين يدبرون الحوادث ويقومون بالأعمال هم الآلهة كما نشهد ذلك في أشعار فرجيل. ولسنا ننكر أنه يعبر عن شكهِ أنه يعبر عن شكهِ فيما يروي من أساطير تاريخ رومة الأول، ويبتسم حين يذكرمن الروايات أقلها احتمالاًأسأأ ، ولكنه حين يواصل الكتابة لا يفرق بين الأساطير والتاريخ الحقيقي، ويسير وراء أسلافه بلا تميز كبير بين الباطل من أقوالهم والصحيح، ويقبل الأقاصيص والروايات الخيالية التي اخترعها المؤرخون الأولون ليمجدوا بها أسلافهم(66). وقلما يعنى بالرجوع إلى المصادر الأصلية أو الآثار، ولا يشغل نفسه قط بزيارة الأماكن التي وقعت فيها أهم الحوادث. وتراه أحياناً يعمد إلى شرح صحائف كاملة من بولبيوس(67). ويلجأ إلى طريقة القساوة القديمة طريقة الحوليات، فيقص الحوادث التي وقعت في عهد كل قنصل من القناصل، ولهذا فإنك إذا ضربت صفحاً عما فيهِ من بحوث أخلاقية لن تجد فيهِ أثراً للتعليل الصحيح وربط النتائج بأسبابها، بل كل ما تجده سلسلة متتابعة من الأحداث الرائعة. وهو لا يفرق بين الآباء الأجلاف الأولين الذين عاشوا في عهد الجمهورية المبكر وبين أشراف عصره، أو بين السوقة الأشداء الذين أنشئوا الديمقراطية الرومانية والغوغاء الأدنياء الذين قرضوا أركانها، وهو يتحيز للأشراف على الدوام.
ولقد كان السر الحقيقي في عظمة ليفي هو العزة الوطنية التي تجعل رومة في نظرة محقة على الدوام. وهذا السر هو الذي حباه بالسعادة الدائمة في أثناء كدحه الطويل، ولهذا السبب فإننا قلما نجد كاتباً نفذ خطة واسعة كخطتهِ بمثل ما نفذها هو في أمانة أشعرت قراءة الأقدمين ولا تزال تشعرنا نحن بعظمة رومة وبما قدر لها في عالم الغيب من مصير. ولقد كان هذا الشعور بعظمة رومة هو مصدر ما في أسلوب ليفي من نشاط، وما في أشخاصه من قدرة، وما في وصفهِ من بهجة وقوة، وما في نثره من انسجام رائع جليل. وإن الخطب التي اخترعها من عنده وبثها في تاريخه لتعد آيات في الخطابة أصبحت من بعدهِ نماذج تُحتذى في المدارس، وإن القارئ ليسحر لبه ما يتخلل الكتاب كله من أخلاق كريمة؛ فليفي لا يعمد إلى الصخب والضجيج، ولا يقسو في أحكامهِ على الناس، وعطفهِ على الدوام أوسع من علمهِ وأعمق من فكرهِ. وهذا العطف يفارقه حين يروي قصة هنيبال، ولكننا لا يسعنا أن نغفر ذلك لهُ، وهو إلى هذا يكفر عن هذا الذنب بتتابع حوادث القصة وروعتها التي تصل إلى ذروتها حين يصف الحرب البونية الثانية.
ولم يكن قراؤه يهتمون بما في كتابهِ من أخطاء، ومن نقص في الدقة، ومن تحيز، وكانوا يحبون أسلوبه وقصصه، ويبتهجون بالصورة الواضحة التي صور بها ماضيهم. وكانوا يعدون كتابهُ "من أسس المدينة" ولحمة منثورة من أنبل ما خلفه عصر أغسطس، والنزعة التي سادت ذلك العصر. ولقد ظل كتاب ليفي يلون أفكار الناس عن تاريخ رومة وأخلاق أهلها ثمانية عشر قرناً كاملة تبدأ من أيامه. وحتى الذين كانوا يقرءون كتابه من أهل البلاد الخاضعة لسلطان الرومان قد تأثروا بهذا السجل الضخم للفتوح التي لم يكن لها نظير من قبل، وبالأعمال الضخمة الجبارة التي قام بها رجالها. ويقص بلني الأصغر قصة أسباني تأثر بكتاب ليفي تأثراً حمله على أن يسافر من قادس Cadiz إلى رومة لعله يلقاه فيها. فلما حقق رغبته وصلى لربهِ، ونسي كل ما عدا ذلك من الحقوق، وعاد راضياً إلى موطنه عند المحيط الأطلنطي(68).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السّادس: ثورة العاشقين
وظل الشعر في هذه الأثناء ينتشر وتعلو مكانته، ولكن على غير ما كان يشتهي أغسطس. ذلك أن الفنانين العظماء، أمثال فرجيل وهوراس، وهم وحدهم الذين يستطيعون قرض الشعر الجيد في الموضوعات التي تطلبها الحكومة؛ فأما من كانوا أعلى من هذين الشاعرين قدراً فإنهم لا ينصاعون إلى هذه المطالب، وأما من كانوا أقل منهما شأناً فإنهم لا يستطيعون إجابتها. وقد خضع مصدران من مصارد الشعر الكبرى- الدين، الطبيعة، والحب- إلى سلطان الإمبراطورية، أما المصدر الثالث فقد ظل خارجاً على سلطانها غير خاضع لأي قانون حتى في أغاني هوراس. ثم فر الشعر فراراً بطيئاً على يد تيبلس Tibullus وبروبرتيوس Propertius، وثار ثورة سارت في طريق يحفه المرح المتزايد إلى خاتمة مفجعة.
وتفصيل ذلك أن ألبيوس تيبلس (54- 19) خسر الأرض التي ورثها عن آبائهِ كما خسر فرجيل أرضه حين وصلت نيران الحرب الأهلية بلدة بدوم Pedum- قرب تيبور Tibur- مسقط رأسه. وأنقذه مسالا من الفقر وأخذه مع حاشيته إلى بلاد الشرق، ولكن تيبلس مرض في الطريق وعاد إلى رومة مغتبطاً بنجاحه من الخرب ومن السياسة، فقد أمكنه ذلك من أن يصرف جهوده كلها في التغني بعشق الفتيات والفتيان، ونظم المراثي المصقولة على نمط يونانيّ الإسكندرية. وكتب الابتهال المألوف إلى دليا Dilia (وهو اسم لا نعرف عنه أكثر من هذا ولعله لم يقصد بهِ فتاة بعينها بل كان يسمى بهِ الكثيرات من عشيقاتهِ) التي تجلس أمام بابها كالحارسة العنيدة(69)، يُذكّرها كما ذًكرت كثيرات من الغانيات قبلها أن الشباب لا يجيء إلا مرة ثم ينقضي مسرعاً خفية؛ ولم يقلق باله أن دليا متزوجة، فقد أنام زوجها بأن قدم له نبيذاً مركزاً، ولكنه استشاط غضباً حين فعل به عاشقها الجديد ما فعله هو بزوجها(70). ولعل هذه الموضوعات العتيقة لم تكن خليقة بإقلاق بال أغسطس، أما الذي جعل تيبلس، وبروبرتيوس وأوفد مبغضين إلى حكومة تلقى أشد الصعاب في وجود مجندين للجيش فهو النزعة المؤثرة القوية المضادة للجندية، والتي كانت تتصف بها هذه العصبة المتحللة في حبها من جميع القيود. ذلك أن تيبلس يسخر من المحاربين الذين يسعون إلى الموت في الوقت الذي يستطيعون فيهِ أن يغرَّروا بالنساء، ويتحسر على عهد زحل ويتصوره عهداً:
لم يكن فيه جيوش، ولا حقد، ولا حرب...فلم تكن حرب حين كان الناس يشربون من أقداح خشبية...ألا فأعطني الحب وحده ودَع غيري يذهب إلى الحرب...فالبطل هو الذي يدركه الكبر في كوخهِ المتواضع بعد أن وُلد له بنون، فتراه يرعى الماشية وابنه يرعى الضأن، وزوجته الصالحة تسخن الماء لجسمه المتعب. فلأعش حتى تصبح كل شعرة من شعر رأسي ناصعة البياض، وأحدّث عن الأيام الخوالي كما يتحدث الشيوخ"(71).
أما سكستس بروبرتيوس (49- 15) فكانت أغانيه أقل بساطة وأقل حناناً، يزينها العلم أكثر مما يزين أشعار تيبلس، وتماثلها فيما تحتويهِ من أناشيد الدعارة الهادئة. وقد ولد سكستس في أمبريا Umbria وتلقى العلم في رومة، وسرعان ما آل إلى قرض الشعر، وضمه ماسيناس إلى ندوتهِ على الإسكولين Esquiline وإن لم يكن في القراء- إلا قلة ضئيلة منهم- من يستطيع أن يستخرج أفكاره من أغوار حذلقته. وهو يصف في زهو وسرور الولائم التي كانت تقام على شاطئ نهر التيبر، حيث كان يحتسي خمر لزبس Lesbos في كؤوس من صنع الفنانين العظام "وهو جالس كأنه على عرش بين النساء المرحات"، يرقب السفن تجري في النهر من تحته(72). وكان بروبرتيوس يتغنى بمدح الحرب من حين إلى حين ليطرب بذلك وليّ نعمته وزعيمه؛ أما حبيبته سنثيا Cynthia فكانت لها عنده نغمة أخرى، فهو يقول لها: "لِمَ أنجب أبناء ليضحى بهم في الانتصارات البارثية Parthian ؟ لا، لن يكون ولد من أبنائنا جندياً"(73)، وهو يؤكد لها أن كل ما في العالم من أمجاد عسكرية لا يعادل ليلة واحدة مع سنثيا(74).
وإذا أحصينا كل هؤلاء الأبيقوريين خفاف القلوب والأحلام، الذين كانوا يقضون حياتهم بين الحب والصد كان ببليوس أفيديوس نازو Publius Ovidius Naso أنموذجهم السعيد وحامل لوائهم جميعاً. وكان مولده عام 43 ق.م سلمو Sulmo (سلمو)، وهي بلدة في واد جميل من وديان الأبنين على بُعد تسعين ميلاً أو نحوها شرقي رومة. وكان يتخيلها من منفاه في سنيه الأخيرة بلدة جميلة ذات كروم وغياض من شجر الزيتون، وحقول من القمح، ومياه جارية. وأرسله أبوه- وكان رجلاً ثرياً من رجال الطبقة الوسطى- ليدرس القانون في رومة، ولكنه صُدم حين سمع أن ابنه يريد أن يكون شاعراً. فأخذ يذكر للصبي ما لقيه هومر من مصير محزن؛ فقد مات هذا الشاعر- كما يقول أحسن الناس علماً بأخباره- فقيراً أعمى. وأثّر هذا التحذير في أوفد فواصل دراسة القانون وارتقى حتى صار قاضياً في المحاكم البريتورية، وأبى أن يتقدم ليكون كوسترا، فحزن لذلك أبوه أشد الحزن (لأن هذا المنصب كان يؤهله لأن يكون عضواً في مجلس الشيوخ)؛ وفضل أن يعمد إلى دراسة الأدب وإلى الحب، محتجاً بأنه لا يسعه إلا أن يكون شاعراً "ولثغت بالأوزان فجاءت الأوزان"(75).
وسافر أوفد على مهل إلى أينة وإلى الشرق الأدنى وصقيلة، ولما عاد انظم إلى زمرة أكثر الناس مجنوناً وخلاعة في العاصمة، وكان ذا نصيب موفور من الجمال، والذكاء، والعلم، والمال، فاستطاع بذلك أن يفتح جميع الأبواب المغلقة. وتزوج مرتين في شبابهِ، وطلق زوجته، ثم قضى بعض الوقت يرعى في المراعي العامة ويقول: "فليجد غيري مسراتهم في الماضي، وأما أنا فما أسعدني إذ ولدت في هذا العصر الذي توائم أخلاقه أخلاقي"(76). وكان يسخر من الإنياذة، ولم يفد منها إلا نتيجة واحدة، هي أنه لما كان ابن الزهرة هو الذي أنشأ رومة فقد وجب أن تصبح مدينة الحب لتدل على تقى أهلها وصلاحهم إن لم يكن ذلك لسبب آخر(77). وخلبت لبه عاهر جميلة يسميها كورنا Corinna إخفاء لاسمها عن القراء، أو لعل ذلك اسم يطلقه على الكثيرات غيرها من النساء اللاتي وقع في حبهن. وسرعان ما وجدت أشعاره المكشوفة فيها من ينشرها له، فنشرت بعنوان الغزليات Amores في عام 14م، ولم تلبث إلا قليلاً حتى جرت على لسان كل شاب في رومة حديثاً وغناء. ويقول هو في ذلك: "إن الناس في كل مكان يريدون أن يعرفوا من تكون كورونا هذه التي أتغنى بحبها"(78). وقد أضلهم هو في مجموعة أخرى من الغزليات في وصف الحب الخليط فقال:
"ليس الذي يثير عاطفتي هو الجمال الثابت؛ بل إن ثمة مائة سبب تحفظ لي حبي، فإذا رأيت فتاة جميلة ذات عينين ناعستين مطرقتين إلى حجزها اشتعلت نارالحب في قلبي، وأسرتني بسذاجتها. وإذا أبصرت فتاة خليعة، اخترقت سهام لحاظها قلبي، لأنها ليست قروية ساذجة، لأنها تقوى أملي في أن أضمها إلى صدري على فراشي الوثير. وإذا تمنعت وتظاهرت بالعناد والصلابة حكمت بأنها ستخضع لي لا محالة، ولكنها ممعنة في خداعها. وإذا كنت عالمة ضليعة بما في الكتب اتهويتني بشمائلك النادرة... وتخطر إحداهن الهوينا فأحبها لحسن خطاها، وتخطو الأحرى بقوة، ولكنها ترق إذا طاف بها طائف الحب.. وإذا غنت فتاة بصوت شجي.... خطفت منها القبلات في أثناء الغناء، وإذا ضربت الأخرى بأناملها الخفيفة على الأوتار الشاكية- فمنذا الذي لا يقع في حب هاتين اليدين الماهرتين؟ وهذه تأسرني بحركاتها، إذا ما حركت يديها في اتزان وانسجام، وتفننت في ثني خصرها الرقيق فتذكى النار في قلبي الذي تلتهب فيه نيران الحب لأقل الأسباب.... ضع هبوليتس Hippolytus في مكاني يصبح بريابس Priapus!... إني لتفتنني الطويلة والقصيرة على السواء، فكلتاهما تضرم النار في قلبي... وإني لأتقدم إليهما ضارعاً متوسلاً أن يستجيبا لحبي(79).
واعتذر أوفد عن عدم التغني بمجد الحرب، وقال إن كيوبد Cupid جاءه واحتلس قدماً من شعره وتركه أعرج(80). وكتب مسرحية لم يُعثر عليها بعد وهي مرحية ميديا Medea قوبلت بقبول حسن، ولكنه كان على العموم يفضل الشعر الغزلي أو كما يسميه هو "ظلال الزهرة الكسول"، ولا يرغب في أكثر من أن يسمى "المنشد المعروف بأساليبه التافهة"(81). وأغانيه هي بعينها أغاني جماعة التروبدور سبقتها بألف عام كاملة، وموجهة مثلها للسيدات المتزوجات. وهي تجعل المغازلة أهم أعمال الحياة. ويعلم أوفد كورنا كيف تتحدث إليه بالإشارات وهي مضطجعة على فراش زوجها(82)، ويؤكد لها أنه سيظل وفياً لها أبد الدهر، وأنه لن يزني بغيرها أبداً: "فلست زير نساء يتنقل من هذه إلى تلك ويحب مائة امرأة في وقت واحد". ثم يحظى بها آخر الأمر ويكتب قصيدة ابتهاجاً بنصره، ويثني فيها عليها لطول صدها عنه، وينصحها بأن تعود إلى هذا الصد من حين إلى حين، حتى يدوم حبه لها أبد الدهر. ثم يخاصمها ويضربها، ويندم على فعلته، ويحزن ويجن بحبها أكثر من ذي قبل، ويفعل ما يفعله رميو فيتوسل إلى الليل أن يطول وإلى الفجر ألاّ يطلع، ويرجو أن تهب ريح مواتية فتحطم قطب عربة الفجر. وتخدعه كورونا كما خدعها، ويستشيط هو غضباً حين يعرف أنها لا تجد فيما لها في شعرهِ من خشوع جزاءً كافياً لحبها له؛ وتقّبله طالبة إليه أن يصفح عنها ولكنه لا يسامحها لما كسبته من حذق جديد في بث لواعج الهوى، ويقول إن معلماً جديداً قد علمها هذا الحذق(83). وبعد بضع صفحات من الكتاب نجده يحب فتاتين في وقت واحد كلتاهما جميلة حسنة الذوق في اختيار ملابسها، مهذبة، مثقفة"(84). ثم لا يلبث أن يساوره الخوف من أن يقضي عليه توزيع قلبه بين حبيبته، ولكنه يقول إنه يسعده أن يخر صريعاً في ميدان الحب(85).
ولاقت هذه القصائد قبولاً لا بأس به من المجتمع الروماني بعد أربع سنين من صدور قوانين الإصلاح اليوليوسية، وظلت بعض الأسر العظيمة أمثال أسرة الفابيين والكرفينيين، والبمبونيين تستضيف أوفد في بيوتها؛ وازدهى الشاعر بما ناله من نصر فأصدر كتاباً في التغرير بالنساء سماه فن الغرام Ars Amatoria(2م) يقول فيهِ. "لقد عينتني الزهرة معلماً للحب". وهو يحذر قرائه تحذيراً ينطوي على العفة والطهارة فيقول إن أمثاله يجب إلا تطبق إلا على الجواري والسراري؛ ولكن ما يفيض به الكتاب من تصوير للصداقات الوثيقة، ومواعيد اللقاء السرية، والرسائل الغرامية، ومن هزل وفكاهة، وخيانة أزواج، وخادمات محتلات ماهرات، كل هذا يوحي بأن الكتاب إنما يصور أحوال الطبقتين العليا والوسطى في رومة. وأراد أن لا تكون دروسه سريعة الأثر فوق ما يجب أن تكون فأضاف إلى رسالته الأولى رسالة ثانية في علاج الحب Remedia Amoris يقول فيها إن خير علاج من داء الحب هو العمل الشاق، ثم يليه في القوة الصد، ويأتي بعدهما الغياب، ومن المفيد أيضاً أن تفاجئ حبيبتك في الصباح قبل أن تتم زينتها(90). ثم أراد آخر الأمر أن يوفق بين آرائه الأولى والثانية فأخرج رسالة ثالثة عنوانها: De Medicamina Fociei Feminineae وهي رسالة شعرية في أصباغ التجميل وأدهانه، أخذ ما فيها عن اليونان. ولاقت هذه الرسائل الصغيرة رواجاً عظيماً، وانتشرت بسببهِ سمعهة أوفد السيئة في كل مكان، ويقول في ذلك: "ما دامت شهرتي قد طبقت العالم كله فإني لا يعنيني قط ما يقوله عني شخص أو شخصان"(91) ولم يكن وهو يقول هذا يعر أن أحد هذين الشخصين الحقيرين هو أغسطس نفسه، وأن قصائده قد أغضبت الزعيم، وأنه يراها إهانة لحقت بالقوانين اليوليوسية، وأنه لن ينسى هذه الإهانة حين تخطر الفضائح الإمبراطورية على بال الشاعر الغافل.
وفي السنة الثالثة بعد الميلاد تزوج أوفد للمرة الثالثة، وكانت زوجته الجديدة من أكبر الأسر الممتازة في رومة؛ واستقر الشاعر، وكان وقتئذ في السادسة والأربعين من عمرهِ، في حياته المنزلية الهادئة، ويلوح أنه هو وزوجته قد تبادلا الوفاء والإخلاص والهناءة في فابيا Fabia، وفعلت به السن ما لم يفعل به القانون، فأخمدت نيران عواطفه وجعلت شعره جديراً بالاحترام. فروى في كتابهِ Heroides قصصاً عن حب شهيرات النساء أمثال بنلبي Penelope وفيدرا Phaedra وديدو، وأريدني Ariadne، وسابفو، وهلن Helen، وهيرو Hero ولعله أسرف في طول هذه القصص حتى أمل، لأن التكرار قد يجعل كل شيء حتى الحب نفسه مسئماً. على أن مما يثير الدهشة حقاً في هذه القصص جملة على لسان فدرا تعبر فيها عن فلسفة أوفد: "لقد حكم جوف بأن الفضيلة هي كل ما يهبنا اللذة"(92). ونشر الشاعر حوالي 7م أعظم مؤلفاته كلها وهو كتاب "التحول Metamorphoses. ويتألف من خمسة عشر سفراً، تقص في شعر سداسي الأوتاد تحول الجماد والحيوان والناس والآلهة. وإذا كان كل شيء في الأساطير اليونانية الرومانية، إلا القليل النادر، قد بدل صورته، فقد استطاع أوفد بفكرتهِ هذه أن يغترف من بحر الأساطير القديمة كلها إلى تأليه قيصر، وكانت كتاباته هي القصص التي ظلت ذات شأن عظيم في برامج الكليات جميعها حتى الجيل السابق على جيلنا هذا، بل إن ثورة هذه الأيام لم تَمحِ بعد ذكرها من العقول: كقصص عربة فيتون Phaethon's Chariot، وببراموس وثزبي Pyramus & Thisbe وبرسيموس وأندرمدا Perseus & Andromeda، وسرقة برسبرين The Pape of Prosperine، وأورثوزا Arethusa، ميديا Medea، وديدالوس وأيكاروس Daedalus & Lacrus، وبوسيز وفليمون Baucis & Philemon، وأورفيوس ويورديس Orpheus & Eurydice، وأطلنطا Atlanta، وفينوس وأدنيس Venus & Adonis وكثيراً غيرها. هذا هو المعين الذي استمدت من مئات الآلاف من موضوعات القصائد، والرسوم والتماثيل. وإذا كان لا بد للإنسان أن يواصل دراسة الأساطير القديمة، فإن أيسر السبل إلى دراستها أن يقرأ قصص هذا الحشد العظيم من الآدميين والآلهة، وهي قصص تروى بكثير من التشكك الفكه النزعة الغزلية، وللفن فيها أثر دائم عظيم يعجز عنه العابث غير القدير، ولا يصل إليهِ إلا من أوتي المقدرة والصبر الطويل، فلا عجب والحالة هذه أن يعلن الشاعر الواثق من نفسه في ختامها أنه من الخالدين: "Per Saecula Omnia Vivam سأعيش إلى آخر الدهر".
وما كاد يفرغ من كتابة هذه العبارة الأخيرة حتى ترامى إليهِ أن أغسطس قد أمر بنفيهِ إلى بلدة تومي Tomi الباردة الهمجية الواقعة على ساحل البحر الأسود وهي المعروفة الآن بقسطنطة، والتي لا تزال غير محببة إلى غير أهلها. وتلك كارثة لم يكن الشاعر مستعداً لتحملها في مثل سنه، وكان قد أتم في هذا الوقت إحدى وخمسين عاماً، وفرغ توّاً، قبيل انتهائه من كتاب "التحول"، من قصيدة من الشعر الجيد يثني فيها على الإمبراطور ويعترف فيها بأن سياسته قد نشرت لواء السلام والأمن والرفاهية التي يستمتع بها الجيل الذي يعيش فيهِ أوفد. وكان فوق هذا قد أتم نصف قصيدة تدعى فاستي Fasti وهي قصيدة تكاد تكون من القصائد التقية تتحدث عما في السنة الرومانية م أعياد دينية. وكان يوشك أن يجعل هذه القصيدة ملحمة موضوعها من التقويم الروماني، لأنه استخدم في رواية قصص الدين القويم وفي تكريم هياكله وآلهته ما استخدمه في الأساطير اليونانية والغزَل الروماني من أسلوب سهل واضح وعبارات وجُمل رقيقة. وكان يرجو أن يهدي القصيدة إلى أغسطس ليشترك بها في إعادة الدين القويم إلى سابق عهدهِ، ولتكون بمثابة اعتذار منه عن سخريته بهذا الدين، وإنكار لما فرط منه في حقهِ.
ولم يتبين الإمبراطور من قراره أسباب نفيه، وليس في مقدور أحد أن يعرففي هذه الأيام حقيقة هذه الأسباب. على أن ثمة إشارة بعيدة من الإمبراطور لأسباب هذا النفي، فقد نفى في الوقت نفسه حفيدته يوليا وأمر بإخراج كتب أوفد من دور الكتب العامة. ويلوح أن الشاعر كان له بعض الشأن في مسلك يوليا الشائن، سواء كان حظه فيهِ حظ الشاهد، أو المشارك، أوالفاعل الأصلي. أما هو نفسه فيقول إنه عوقب بسبب "خطأ" وقع فيه وبسبب قصائده، ويذكر ما يوحي بأنه شهد على الرغم منه منظراً غير لائق(93). وأجيز له أن يبقى في أثناء الشهور الباقية من عام 8م ينظم فيها شؤونه. وكان القرار مجرد إبعاد، أخف من النفي، يسمح له بأن يحتفظ بأملاكهِ، ولكنه أقسى منه إذ يلزمه بالإقامة في مدينة واحدة. فلم يكن منه إلا أن أحرق كتاب التحويل، وإن يكن بعض القراء قد نقلوا صوراً منه واحتفظوا بها لأنفسهم. وابتعد عنه معظم أصدقائه(94) وعرض بعضهم أنفسهم لأشد الأخطار ببقائهم معه إلى ساعة رحيله؛ وشجعته زوجته وأعانته على تحمل محنته بما أظهرت له من الحب والإخلاص، وإن لم تسافر معه إطاعة لأمره. وإذا استثنينا هذه المظاهر القليلة فإن رومة بأسرها لم تظهر شيئاً من الاهتمام بشاعر أفراحها ومسراتها حين أبحر من أستيا ليبدأ سفره الطويل وابتعاده عن كل شيء يحبه. وكان البحر هائجاً طوال أيام الرحلة تقريباً، وخيل إلى الشاعر مرة أن الأمواج ستبتلع سفينتة، ولما أبصر تومي حزن إذ بقي على قيد الحياة واستسلم للحزن واليأس.
وكان في أثناء الرحلة قد شرع ينظم القصائد المعروفة لنا باسم الأحزان Tristia. فلما جاء المدينة واصل نظمها وبعث بها إلى زوجته وابنته وربيبته وأصدقائه. وأكبر الظن أن الروماني المرهف الحس قد بالغ في وصف أهوال موطنه الجديد حين عنه إنه: مكان قفر خالٍ من الأشجار لا ينبت فيهِ شيء وإن كان ضباب البحر الأسود عنه الشمس، وإن البرد يشتد فيهِ حتى يبقى ثلج الشتاء في بعض السنين طوال فصل الصيف، ويتجمد ماء البحر الأسود في فصل الشتاء المظلم الكئيب، كما يتجمد ماء نهر الدانوب حتى ليسهل أن يمر عليهِ البرابرة الضاربون حول المدينة على أهلها وهم خليط من الجيتا Getae حملة الخناجر واليونان المهجنين. ولما فكر في سماء رومة الصافية وحقول سلمو Sulmo الناضرة تحطم قلبه أسىً وحسرة، وسرى في شعرهِ- وكان لا يزال جميلاً في شكله ولفظه- شعور عميق قوي لم يسر فيه قبل.
وتتصف "الأحزان" هي والرسائل الشعرية التي كتبها لأصدقائه "من البحر الأسود Ex Ponto" بكل ما تتصف به أعماله العظيمة من سحر وجمال، فقد بقي له في منفاه كل ما كان له من ألفاظ سهلة يبعث بها السرور في القلوب حتى وهو في المدرسة، ووصف للمناظر تكتسب وضوحها من نفاذ بصره ومن خياله، وقدرة على تصوير الأسخاص وبث الحياة فيهم بما أوتي من دقة ومهارة سيكلوجية، وعبارات موجزة مليئة بالتجربة والتفكير، ورقة في الحوار، ويسر وسهولة في الأوزان، كل هذه الخصائص قد بقيت له في منفاه وخالطها جِدٌّ ووقار ورقة، كان افتقار قصائده الأولى إليها مما جعلها غير جديرة بالرجال.وكان ينقصه في جميع مراحل حياته قوة الخلق؛ وكما أنه قد أفسد شعراء في وقت من الأوقات بما ملأه به من وصف الشهوات الجنسية التافهة، فقد أغرق الآن أشعاره بفيض من الدموع والتضرع للزعيم والتذلل له.
وكان يحسد القصائد التي تستطيع الوصول إلى رومة، ومن أقواله في هذا المعنى: "ارحلي أيتها الكتب وحيي باسمي الأماكن التي أحبها" و "أرض بلادي العزيزة على"(95) ويتمنى لو أن صديقاً شجاعاً حمل هذه الرسائل إلى الإمبراطور فأشفق عليه. وهو يفصح في كل رسالة عن أمله في أن يعفو الإمبراطور عنه، أو يأمر بنقله إلى مكان أقل قسوة من منفاه. وهو لا ينفك يفكر في زوجته ويردد اسمها في أثناء الليل، ويتمنى أن يقبل شعرها الأبيض قبل أن تحين منيته(96). ولكنه لم يصله عفو، حتى إذا قضى في المنفى تسع سنين وبلغ من العمر ستين عاماً، رحب بالموت، وجيء بعظامه إلى إيطاليا استجابةً لرجائه، ودفنت بجوار عاصمة البلاد. وحققت الأيام ما تنبأ لنفسه من شهرة خالدة، وكان له في العصور الوسطى ما لفرجيل من أثر عميق، وأضحى كتاباه "التحولات" والهيرويدات مصدر كثير من روايات الحب في تلك العصور، واستمد منه بوكاشيو، وتسو، وتشوسر، واسبنسر كثيراً من موضوعاتهم، ووجد مصورو النهضة في أشعاره الشهوانية كنزاً من الموضوعات لا ينضب له معين، وملاك القول أنه كان أعظم شاعر وجداني إبداعي في العصر العقلي الإتباعي.
وانقضى بموته عهد من العهود الزاهرة في تاريخ الأدب. ولا جدال في أن عصر أغسطس لم يكن من أزهى عصور الأدب كما كان عصر بركليز في اليونان أو عصر إلزبث في إنجلترا.
وقد كان حتى في أحسن ما أخرجه من النثر بلاغة طنّانة، وفي خير ما أخرجه من الشعر كمال في الشكل قلّما ينتقل كلاهما من القلب إلى القلب.
ولسنا نجد في هذا العصر من يضارع إسكلس أو يوربديز أو سقراط أو حتى لكريشيوس أو شيشرون. لقد كان احتضان الإمبراطور للأدباء هو الذي يلهم أدب رومة ويغذيه ويقمعه ويضيق عليه. وإن العصر الأرستقراطي- كعصر أغسطس أو لويس الرابع عشر أو القرن الثامن عشر في إنجلترا- إن هذا العصر ليعلي من شأن الاعتدال والتوسط، وحسن الذوق، ويوجه الأدب وجهة "إتباعية" في الأسلوب يعلو فيها العقل والشكل على الوجدان والحياة. وذلك أدب أكثر صقلاً وأقل حيوية، وأنضج وأقل تأثيراً من أدب العصور أو العقول المبدعة العاطفية. ولكننا إذا أغضضنا الطرف عن هذا ونظرنا إلى أدب ذلك العصر في نطاق الأدب العقل الإتباعي وجدناه جديراً باسمه؛ فنحن لا نرى من قبله حكماً رزيناً قد عبر عنه بمثل هذا الفن البالغ أوج الكمال، وحتى المرح الجنوني الذي وصفه أوفد قد خفف من حدته القالب الإتباعي الذي صب فيه. وقد بلغت اللغة اللاتينية في شعره وشعر فرجيل وهوراس أعلى ما وصلت إليه بوصفها أداة لقرض الشعر، ولم تبلغ بعدهم ما بلغته في أيامهم من ثراء في اللفظ، وفخامة في النغم، ودقة في التعبير مع إيجاز ومرونة وعذوبة ألفاظ.