قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 2 ب 7

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 3085

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الثورة -> الحركة الرجعية الألجركية -> الحكومة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السابع: الحركة الرجعية الألجركية 77-60 ق.م.

الفصل الأول: الحكومة

على أن صلا قد أخطأ مرتين بإسرافه في الكرم. وكان خطؤه الأول أنه أبقى حياة رجل كان ابن عدو له وابن أخي عدو آخر. ذلك هو كيوس يوليوس قيصر المرح النابه الذي كان يوشك أن يبدأ العقد الثالث من عمره في سني الإرهاب. وكان صلا قد طلب إعدامه فيمن طلب إعدامهم، ولكنه عفا عنه استجابة لشفاعة أصدقائه وأصدقاء الشاب. على أنه لم يكن مخطئاً في حكمه حين قال: "إن هذا الشاب هو ماريوس مكرراً". ولعله أخطأ كذلك إذ عجل باعتزال الحياة السياسية وأسرف في الملاذ فقرب إسرافه أجله. ولو أنه أوتى من الصبر وبعد النظر بقدر ما أوتى من القسوة والشجاعة لأنجى رومه من الفوضى التي ضربت إطنابها فيها خمسين عاماً، ولأمكنها أن تستمع في عام 80 ق.م بالأمن والسلام والنظام والرخاء التي أعادها إليها أغسطس قيصر حين عاد إليها من أكتيوم، ولكان ما عمله أغسطس خلقاً وإبداعاً لا إرجاعاً للقديم.

ولم تكد تمضي على وفاته عشر سنين حتى ذهبت كل أعماله. ذلك أن الأشراف قد غرهم ما أوتوا من نصر في صراعهم المرير، فأهملوا واجبات الحكم وسعوا لكسب المال من طريق التجارة لينفقوه في ترفهم وشهواتهم. واستمر النزاع بين الأشراف والعامة قوياً مريراً لا ينقصه إلا فرصة تتاح حتى يلجأ الطرفان فيه إلى أشد ضروب العنف. وكان الأشراف: "خيار الناس" optimates يستمسكون بنبلهم، ولكن لم يكن معنى استمساكهم به أن يترفعوا بسبب هذا النبل عن ارتكاب الدنايا، بل كان معناه في نظرهم أن الحكم الصالح يتطلب قصر المناصب العليا في الدولة على الذين تولوها قبله سخروا منه وسموه "رجلاً حديثاً" Novus homo أي "حديث النعمة"، وكان من هؤلاء الحديثي النعمة ماريوس وشيشرون. أما العامة فكانوا يطلبون أن تتاح الفرصة لذوي المواهب والكفايات، وأن تكون السلطة كلها في يد الجمعيات، وأن توزع الأراضي الحرة على الفقراء والجنود المسرحين. ولم يكن الأشراف ولا العامة ممن يؤمنون بالديمقراطية، بل كانت كلتا الطبقتان تسعى لأن تكون هي الحاكمة بأمرها، وتلجأ إلى ضروب الإرهاب والفساد والرشوة على ملأ الناس بلا خوف ولا وخز ضمير. واستحالت الجماعات التي كانت من قبل جمعيات خيرية لتبادل البر بين أعضائها وكالات لبيع أصوات العامة في الانتخابات كُتَلاً. وارتقت عملية ابتياع الأصوات حتى تطلبت درجة كبرى من التخصص، وطائفة من الإخصائيين، فكان منهم المشترون divisores الذين يبتاعون الأصوات، والوسطاء interpretes والحراس sequestres الذين يحتفظون بالمال حتى تعطي الأصوات(2). وفي أقوال شيشرون وصف للمرشحين وهم يسيرون بين الناخبين في حقل المريخ وأكياس نقودهم في أيديهم(3). واستطاع بمبي أن يحمل الناس على اختيار صديقه أفرانيوس Afranius قنصلاً بدعوة زعماء القبائل إلى حدائقه، وفيها أعطى كل زعيم أثمان أصوات قبيلته(4). وبلغ ما كان يُستدان من المال لشراء أصوات الناخبين حداً رفع سعر فائدة الأموال التي تقترض في أثناء الحملة الانتخابية إلى ثمانية في المائة في الشهر الواحد.

وكانت المحاكم نفسها- بعد أن اختص بها أعضاء مجلس الشيوخ- لا تقل فساداً عن عمليات الانتخاب، وفقدت الأَيمان كل ما كان لها من قيمة في الشهادة، وفشت شهادة الزور كما فشت الرشوة. ولما أن اتُّهم ماركس مسالا Marcus Messal بأنه ابتاع بالمال الأصوات التي انتخب بها قنصلاً في عام 53 برئ بالإجماع، وإن كان أصدقاؤه أنفسهم شهدوا عليه(6) واعترفوا بجريمته(6). وكتب شيشرون لابنه يصف هذه الحال بقوله: "لقد أصبح المال أساس كل المحاكمات، ولذلك لن يحكم على إنسان إلا في جرائم القتل"(7)، وكان خليقاً به أن يقول "إنسان ذي مال"، "فبغير المال وبغير المحامي القدير" كما قال محام آخر في ذلك الوقت "فديتهم إنسان ساذج برئ بأية جريمة لم يرتكبها قط، ثم يحكم عليه ما في ذلك شك"(8). ولما برئ لنتولس صوراً Lentulus Sura بأغلبية صوتين حزن أشد الحزن على ما أنفق من مال في رشوة قاض أكثر من العدد الذي كان يجب عليه أن يرشوه(9). ولما أدان المحلفون من أعضاء مجلس الشيوخ البريتور كونتس كليدس Quintus Calidus قال "إنهم لم يكن في وسعهم مع احتفاظهم بشرفهم أن يطلبوا أقل من ثلاثمائة ألف سسترس إذا أريد منهم أن يحكموا على بريتور".

وكان ولاة الأقاليم من أعضاء الشيوخ السابقين، وجباة الضرائب، والمرابون، ووكلاء التجار، يبتزون الأموال من الأقاليم تحت حماية هذه المحاكم ابتزازاً لو سمع به أسلافهم لغضبوا له غيرةً من هؤلاء وحسداً لهم. ولسنا ننكر أنه كان من بين حكام الأقاليم طائفة من الكفاة الأشراف، أما كثرتهم العظمى فماذا عسى أن ينتظر منها؟ لقد كانوا يعملون بلا أجور، وكانت العادة المألوفة أن يظلوا في مناصبهم عاماً واحداً، وكان عليهم في خلال هذه الفترة القصيرة أن يجمعوا من المال ما يكفي للوفاء بديونهم، وابتياع منصب جديد، وأن يضمنوا لأنفسهم فيما بعد عيشاً رغداً يليق بالروماني العظيم. ولم يكن في البلاد من يحول بينهم وبين أطماعهم إلا مجلس الشيوخ، وكان في وسع الحكام أن يثقوا بأن الشيوخ وهم سادة مهذبون يمنعهم كرم محتدهم أن يكونوا سبباً في لفظ غير محبوب لأنهم كلهم قد فعلوا مثل ما فعله هؤلاء الحكام، أو يرجعون أن يفعلوا مثله بعد قليل. ولنضرب لذلك مثلاً يوليوس قيصر نفسه، فقد ذهب ليحكم أسبانيا في عان 61 ق.م وعليه من الديون ما يعادل 7.500.000 ريال أمريكي. فلما عاد في عام 60 ق.م وفى بهذا الدين كله دفعة واحدة. وكان شيشرون يظن أنه رجل شريف متزمت في شرفه إلى حد يؤلمه أشد الألم، لأنه لم يجمع في السنة التي ولى فيها حكم قليقية أكثر من 110.000 ريال أمريكي، وكان يملأ رسائله بالدهشة من اعتداله.

وكان القواد الذين يفتحون الولايات أول من يستفيد منها. فقد كان لوكلس بعد حروبه في الشرق مضرب المثل في الترف؛ وجاء بمبي من تلك البلاد نفسها بما قيمته أحد عشر مليون ريال أمريكي لنفسه ولأصدقائه، وإذا قلنا إن قيصر جمع لنفسه من بلاد الغالة ملايين يخطئها الحصر فإن قولنا هذا لا يعدو الحقيقة إلى المجاز. ويلي هؤلاء الحكام في ابتزاز المال الملتزمون وكانوا يجمعون من الأهلين ضعفي ما يرسلونه إلى رومه. فإذا عجزت مدينة أو ولاية عن أن تجمع من سكانها ما يكفي من المال لأداء ما يجب عليها أن تؤديه من الخراج أو الضرائب أقرضها الماليون أو الساسة الرومان ما تحتاجه من المال بفائدة تتراوح بين أثنى عشر وأربعين في المائة، على أن يَجْمع منها رأس المال وفائدته، إذا لزم الأمر، الجيش الروماني نفسه بحصارها أو فتحها أو نهبها. وقد حرم مجلس الشيوخ على أعضائه أن يشتركوا في هذه القروض، ولكن عظماء الأشراف أمثال بمبي، والصالحين منهم أمثال بروتس، لم يعدموا وسيلة للاحتيال على القانون باستخدام الوسطاء في إقراض المال. وحسبنا دليلاً على ما وصلت إليه هذه الحال أن أقاليم آسيا الرومانية قد أدت إلى الرومان فوائد على ما اقترضته منهم ضعفي ما أدته إلى الملتزمين والى الخزانة الرومانية(11). وفي عام 70 ق.م بلغ ما أدته وما لم تؤده مدن آسيا الصغرى من فوائد على الأموال التي اقترضتها للوفاء بمطالب صلا في عام 84 ستة أضعاف هذه القروض. ولم تجد العشائر والجماعات وسيلة لأداء أرباح هذه الدين الفادح إلا أن تبيع أبنيتها العامة وتماثيلها، وأن يبيع الآباء أطفالهم في أسواق الرقيق، وذلك لأن المدين الذي يعجز عن أداء دينه كان يعذب على العذراء، فإذا ما بقي في الولاية شيء من موارد الثروة بعد هذا كله هرعت إليها من إيطاليا وسوريا وبلاد اليونان جماعات من المقاولين، تعاقد معهم مجلس الشيوخ على "تنمية" ثروة الولاية المعدنية والخشبية وغيرهما. وكانت التجارة تسير على الدوام في ركاب العلم الروماني، فمن التجار من كانوا يشترون الأرقاء، ومنهم من كانوا يشترون السلع أو يبيعونها، ومنهم من كانوا يشترون الأرض وينشئون في الأقاليم ضياعاً أوسع رقعة من ضياع إيطاليا. وفي ذلك الوقت يقول شيشرون في عام 69 ق.م مبالغاً في قوله كعادته: "لا يستطيع رجل من الغاليين أن يقوم بعمل تجاري إلا عن طريق مواطن روماني؛ ولا ينتقل درهم واحد من يد إلى يد دون أن يمر بسجل أحد الرومان".

وقصارى القول أن التاريخ القديم لم يشهد في جميع أدواره حكومة تضارع حكومة ذلك العهد في ثرائها وسطوتها وفسادها.


الفصل الثاني: أصحاب الملايين

ورضى رجال الأعمال بحكم مجلس الشيوخ لأنهم كانوا أكثر من الأشراف استعداداً لاستغلال موارد الولايات، وبهذا تم "ائتلاف الطبقات" أو تعاون الطبقتين العاليتين وهو المثل الأعلى الذي كان ينادي به شيشرون والذي أصبح حقيقة واقعة في شبابه؛ فقد اتفقت الطبقتان على الاتحاد والغزو. وكان رجال الأعمال ووكلاؤهم المعتدون يملأون أروقة رومه وطرقاتها، وتغص بهم أسواق الولايات وحواجزها. وكان رجال المصارف يصدرون خطابات الاعتماد إلى الهيئات المالية المرتبطة بهم(13)، ويقرضون المال لكل غرض من الأغراض حتى لخوض غمار الحياة السياسية. وكان التجار يتذبذبون بين العامة والأشراف فيعينون بنفوذهم الأولين إذا زادت أنانية الشيوخ، ثم يعودون إذا حاول الزعماء الديمقراطيون أن يبروا بوعودهم التي قطعوها للطبقات الفقيرة قبل الانتخاب.

ويعد كراسس Crassus، وأتكس Atticus ولوكلس Lucullus نماذج صادقة لمظاهر الثراء الروماني الثلاثة: الحصول عليه، والمضاربة به، ثم استخدامه للتنعم والترف. كان ماركس ليسينيوس كراسس Marcus Licinius Crassus ينحدر من أسرة شريفة. فقد كان أبوه خطيباً مصقعاً ذائع الصيت، وقنصلاً، ورقيباً، حارب إلى جانب صلا ثم فضل الانتحار على التسليم لماريوس. وكافأ صلا ابنه بأن سمح له بشراء أملاك المحكوم عليهم المصادرة بطريق المساومة. وكان ماركس في شبابه قد درس الأدب والفلسفة، واشتغل بجد في الأعمال القضائية، ولكن رائحة المال أسكرته في تلك الأيام الأخيرة، فأنشأ فرقة لإطفاء الحريق- وكان ذلك عملاً جديداً لم تألفه رومه من قبل.

وكانت إذا شبت النار سارعت إلى مكانها، وعرضت أن تُستأجر لإطفائها، أو ابتاعت المباني المعرضة لخطر الحريق بأثمان اسمية، ثم أطفأت الحريق. وحصل كراسس بهذه الطريقة على مئات من البيوت والمساكن كان يؤجرها بأجور مرتفعة. واشترى كذلك عدداً من مناجم الدولة حين أخرجها صلا عن نطاق الأملاك العامة. وما لبثت ثروته أن ارتفعت بهذه الطريقة من سبعة ملايين سسترس إلى مائة وسبعين مليوناً (أي نحو ثروته 25.500.000 ريال أمريكي)- أو ما يقرب من جميع دخل الخزانة العامة في عام كامل. ويقول كراسس إنه لا يحق لإنسان ما أن يعد نفسه غنياً إذا لم يكن في مقدوره أن يجند لنفسه جيشاً، ويعد له كل ما يلزمه من سلاح وعتاد، ويحتفظ به(14). وقد شاءت الأقدار أن يكون هلاكه بسبب ثرائه الذي يحدده هذا التحديد. ذلك أنه أن أصبح أغنى رجل في رومه ظل حليف الشقاء، شديد الرغبة في أن يشغل منصباً عاماً، وأن يكون والياً على أحد الأقاليم، وقائداً لحملة أسيوية. ومن أجل ذلك كان يطوف الشوارع يستجدي الناس أصواتهم في ذلة وخضوع، ويحتفظ بالأسماء الأولى لعدد لا حصر له من المواطنين، ويتظاهر بشظف العيش، ويعمل على ضم ذوي النفوذ من رجال السياسة إليه بإقراضهم المال من غير فائدة على شرط أن يؤدوه له متى طالبهم بأدائه. على أنه رغم حرصه وطمعه كان طيب القلب، لا يصد عن بابه من يريد لقاءه، يكرم أصدقاءه إلى أقصى حدود الكرم، يسدي النصيحة لكلا الحزبين السياسيين بالحكمة التي امتاز بها أمثاله من الرجال على مدى الأيام. وقد حقق في حياته كل آماله، فاختير قنصلاً في عام 70 ق.م، واختير إلى هذا المنصب مرة أخرى في عام 55، وحكم سوريا، وأعان على تجيش الجيش العظيم الذي قاده لفتح بارثيا Parthia. وهُزم في كارهي Carrhae وأسر غدراً وخيانة، ثم قتل قتلة وحشية في عام 53، فقطع رأسه، وصب أعداؤه الذهب المصهور في فمه.

وكان تيتس بمبونيوس أتكس Titus Pomponius atticus أصدق أرستقراطية من كراسس، ومن طراز من أصحاب الملايين أسمى من طرازه: فقد كان يضارع في الشرف والأمانة ماير أنشل سلسل آل رتشيلد Meyer Anschel of the rot Schil، ولا يقل علماً عن لورنزوده مديشي Lerenzo de Medici وكان حاذقاً في الشؤون المالية حذق فلتير Voltaire. ونحن نسمع به في بادئ الأمر وهو يطلب العلم في أثينا حين سحر بحديثه وبقراءته للشعر اليوناني واللاتيني لب صلا، فألح عليه هذا القائد السفاح أن يعود معه إلى رومه ليكون فيها رفيقاً له، فأبى تيتس أن يستجيب لإلحاحه. وكان عالماً ومؤرخاً، كتب تاريخاً موجزاً للعالم(15)، وعاش معظم حياته في الأوساط الفلسفية في أثينا، وسمى أتكس لعلمه الغزير ببلاد أتكا وحبه العظيم لأهلها. وورث الرجل عن أبيه وعمله أموالاً تبلغ قيمتها نحو 960.000 ريال أمريكي استثمرها في مزرعة عظيمة لتربية الماشية في إبيروس Epirus وفي شراء الدور في رومه وتأجيرها، وفي تدريب المصارعين وأمناء السر وتأجيرهم، وفي نشر الكتب. وكان إذا تهيأت أسباب المشروعات النافعة أقرض المال بفوائد مجزية، ولكنه كان يقرض أثينا وأصدقاءه قرضاً حسناً من غير فائدة(16). وكان شيشرون وهورتنسيوس Hortensius وكاتو الأصغر يودعون عنده ما أدخره من المال، ويعهدون إليه تدبير شؤونهم، ويجلونه لبعد نظره واستقامته وعظم ما يؤديه إليهم من الأرباح.

وكان يسر شيشرون أن يستشيره فيما يبتاعه من البيوت، وفيما يختاره لتزيينها من التماثيل، وفيما يملأ به من مكتباته من الكتب. وكان أتكس يولم الولائم في قصد واعتدال، ويعيش في تواضع الأبيقوري الحق، ولكن بشاشته لأصدقائه وحديثه المطرب المثقف جعلا بيته ملتقى العظماء من رجال السياسة. وكان يعاون الأحزاب جميعها، وقد نجا من اضطهادها جميعاً، ولما بلغ السابعة والسبعين من عمره، وأصيب بدء عضال آلمه ويئس من شفائه منه أمات نفسه جوعاً.

وأبحر لوسيوس لوسينيوس لوكلس Lucius Lucinius Lueullus وهو رجل من أسرة من كبريات الأسر الشريفة، عام 74 ليتم ما بدأه صلا من حرب مثرداتس. وظل ثماني سنين يقود جنوده القلائل في شجاعة ومهارة حتى أوشكت حملته أن تظفر بالنصر المؤزر على عدوه؛ ثم تمرد جنوده المتعبون، فقادهم هو وهم مرتدون من أرمينيا إلى أيونيه وسط مخاطر لا تقل عن المخاطر التي خلدت اسم زينوفون Zenophon. ولما أفلحت الدسائس في إبعاده عن قيادة الجيش، عاد إلى رومه حيث ضي بقية حياته في هدوء وترف ونعيم. وشاد على تل بنسيوس Pincius قصراً واسع الأبهاء، وبوائك، ودور كتب، وحدائق. وكان له في تسكولم Tusculum ضيعة تمتد عدة أميال، وابتاع له في ميسينيوم قصراً صغيراً ذا حديقة بعشرة ملايين سسترس (أي نحو مليون ونصف مليون ريال أمريكي)، وحول جزيرة نسيدا Nesida بأكملها إلى مصيف له لا يشاركه فيه سواه. وذاعت شهرة حدائقه بما حوت من غروس لم يكن لها نظير من قبل في رومه. من ذلك أنه هو الذي أدخل شجرة الكرز إلى إيطاليا من بلاد بنتس، ومن إيطاليا نقلت هذه الشجرة إلى شمالي أوربا والى أمريكا. وكانت موائده من الحادثات الهامة التي يتناقل الناس أخبارها في رومه طوال العام. ولقد حاول شيشرون في يوم من الأيام هو وجماعة من أصدقائه ليتعشى معه ذات ليلة، ولكنه استحلف لوكلس ألا يخبر بذلك أحداً من خدمه. ووافق لوكلس على هذا ولم يشترط إلا ن يسمح له بأن يخبر رجاله بأنه سيتعشى في "قاعة أبلون تلك الليلة".

ولما أقبل شيشرون ومن معه وجدوا مائدة فخمة. ذلك أنه كان للوكلس عدة حجرات للطعام في قصره بالمدينة يختار كل واحدة منها حسب فخامة الوليمة. وكانت قاعة أبلون مخصصة بالوجبات التي تتكلف الواحدة منها مائتي ألف سسترس أو أكثر(17). ولكن لوكلس لم يكن بالرجل النهم، وكانت بيوته بمثابة معارض لروائع الفن المختارة أحسن اختيار، وكانت مكتباته مورداً عذباً للعلماء والأصدقاء، وكان هو نفسه ضليعاً في الآداب القديمة وفي الفلسفة على اختلاف أنواعها. وكان يفضل منها بطبيعة الحال فلسفة أبيقور. وكان يسخر من حياة بمبي الشاقة المجهدة، ويرى أن حسب المرء طول حياته حملة حربية واحدة، وأن كل ما زاد على ذلك غرور لا خير فيه.

وحذا حذوه كثيرون من أثرياء رومه وإن لم يكن لهم ذوقه، وسرعان ما أخذ الأشراف والأثرياء يتنافسون في مظاهر الترف والنعيم، على حين كان وميض نار الثورة يلوح في الولايات المفلسة، والناس يموتون جوعاً في أكواخهم القذرة الحقيرة. وكان الشيوخ لا يستيقظون من نومهم إلا وقت الظهيرة، وقلما كانوا يحضرون جلسات المجلس. وكان بعض أبنائهم يتزينون بأزياء العاهرات، ويختالون في الطرقات كاختيالهن، على أجسامهم ثياب مطرزة مزركشة، وفي أرجلهم صنادل النساء، متعطرين متحلين بالجواهر، لا يقبلون على الزواج، وإذا تزوجوا عملوا على ألا يكون لهم أبناء، وينافسون شبان اليونان في التخنث. وكان الشيخ الواحد في رومه ينفق على بيته ما لا يقل عن عشرة ملايين سسترس. وقد بنى كلوديوس زعيم العامة قصراً كلفه 14.800.000. وكان المحامون أمثال شيشرون وهورتنسيوس Hortensius يتنافسون في تشييد القصور تنافسهم في الخطابة رغم قانون سنسيوس الذي يحرم الأجور القضائية. وكانت حدائق هورتنسيوس تحوي أكبر مجموعة من الحيوانات في إيطاليا كلها. وكان لكل رجل ذي مقام منزل ذو حديقة في بايا Baiae أو بالقرب منها، حيث كان الأشراف يتمتعون بحمامات البحر وجمال خليج نابلي، ويطلقون لشهواتهم الجنسية العنان. وقامت قصور أخرى من نوعها على التلال المجاورة لرومه. وكان لكل ثري عدد من هذه القصور، فكان ينتقل من قصر إلى قصر في فصول السنة المختلفة. وكانت الأموال تنفق جزافاً في تزيينها من الداخل، وفي تأثيثها وشراء ما يلزمها وما لا يلزمها من الصحاف الفضية، وحسبنا أن نذكر أن شيشرون أنفق خمسمائة ألف سسترس على نضد من خشب الليمون. ولم يكن غريباً أن ينفق أمثاله مليون سسترس على نضد آخر من خشب السرو، ولقد قيل إن كاتو الأصغر، وهو الذي كان مضرب المثل في الفضائل الرواقية بأجمعها، قد ابتاع من مدينة بابل أغطية خوان بثمانمائة ألف سسترس.

وكان يقوم بالخدمة في هذه القصور جيوش من الأرقاء أخصائيون في أعمالهم المختلفة- منهم خدم حجرة السيد نفسه، ومنهم حاملو رسائله، وموقد ومصابيحه، وموسيقيوه، وأمناء سره، وأطباؤه، وفلاسفته، وطهاته. وأصبح الأكل وقتئذ أهم أعمال الطبقات العليا في رومه. وكان القانون الأخلاقي عندهم وهو قانون كتردورس القائل بأن: "الشيء الطيب هو ما له صلة بالبطن". وحسبنا دلالة على فهم أهل ذلك العصر وتفننهم في ملء بطونهم أن نذكر أن وليمة أقامها كاهن كبير في عام 63 ق.م وحضرها خليط من الجنسين منهم قيصر وعذارى فستا، كانت المشهيات فيها بلح البحر، وطيور الدج بالخنجل (الأسفراغ) والطيور السمينة، وفطائر البطلينوس ، وحشيشة القريض البحرية، وشرائح البطارخ والسمك الصدفي الأحمر، والطيور المغردة؛ ثم يجيء بعد هذا الطعام نفسه ويتكون من أثداء الخنازير، ورؤوسها، السمك، والبط المنزلي والبري، والأرانب، والدجاج، والفطائر والحلوى(19). وكانت الأطعمة الشهية النادرة تستورد من جميع أجزاء الإمبراطورية ومن البلاد الخارجية، فالطواويس تستورد من جزيرة ساموس Samos، والقطا من فريجيا. والكركي من أيونيا، والتن (التونة) من خلقدونية Chalcedon والشيق من جاديز Gades، والبطلينوس من تارنتم Tarentum والدخس من رودس. وكانت الأطعمة التي تنتجها إيطاليا نفسها تعد حقيرة بعض الشيء لا تليق إلا بالسوقة. وقد أولم الممثل أيزوبس Aesopus وليمة أكل فيها من الطيور المغردة ما ثمنه خمسة آلاف ريال أمريكي بنقود هذه الأيام(20). وظلت القوانين تصدر بتحريم الإسراف في الطعام، ولكن أحداً لم يكن يأبه بها. وحاول شيشرون أن يتقيد بهذه القوانين فلا يأكل إلا لاخضر المباحة شرعاً، وظل عشرة أيام يشكو زحار البطن". وأنفقت بعض الثروة الجديدة في إقامة الملاهي الرحبة والألعاب على أوسع نطاق. من ذلك أن إيمليوس اسكورس Aemilius Scaurus شاد ملهى يحتوي ثمانية آلاف مقعد، وثلاثمائة وستين عموداً، وثلاثة آلاف تمثال، ومسرحاً ذا ثلاث طبقات وثلاثة صفوف من الأعمدة منها صف من الخشب، وصف من الرخام، وثالث من الزجاج. وتمرد عبيده لشدة ما أرهقهم من العمل فحرقوا الملهى بعد الفراغ من بنائه، وحملوه ديناً يبلغ مائة مليون ستسرس(23). وقدم بمبي في عام 55 ما يلزم من المال لإقامة أول ملهى حجري دائم في رومه- وكان يحتوي على 17.500 مقعد، وعلى بستان فسيح ذي أروقة يتنزه فيها النظارة بين الفصول. وأقام اسكربيونيوس كوريو Scribonius Curio أحد قواد قيصر عام 53 ملهيين من الخشب كلاهما على شكل نصف دائرة يتصلان بظهريهما. وكان الملهيان يعرضان مسرحيات في الصباح، فإذا انتهى دار البناءان، والنظارة لا يزالون في مقاعدهم، على قطبيهما فاستحال نصفا الدائرتين مدرجاً، وأضحى المسرحان حلبة للمصارعة(24). ولم تبلغ الألعاب في بلد من البلاد أو في عصر من العصور من الكثرة وعظيم النفقة وطول الزمن مثل ما بلغته وقتئذ في رومه(25). وحسبنا دليلاً على ذلك أن ألعاباً أقامها قيصر اشترك فيها يوم واحد عشرة آلاف مجالد، وقتل فيها الكثيرون منهم. وعرض صلا قتالاً للأسود اشترك فيه مائة أسد، وعرض قيصر قتالاً آخر كان فيه أربعمائة، وعرض بمبي قتالاً كان فيه ستمائة. وكانت الوحوش في هذه الألعاب تقاتل الرجال والرجال يقاتل بعضهم بعضاً، والنظارة الذين تغص بهم الساحات يشاهدون مناظر الموت وهم مغتبطون.


الفصل الثالث: المرأة الجديدة

كان ازدياد الثراء وفساد الأخلاق من أكبر العوامل في الانحلال الخلقي وانفصام رابطة الزواج. وظلت الدعارة منتشرة في البلاد رغم ازدياد التنافس من النساء ومن الرجال. وازداد عدد المواخير والحانات التي تأوي هؤلاء العاهرات زيادة جعلت بعض الساسة يلجئون في الحصول على أصوات الناخبين إلى اتحاد أصحاب المواخير. واصبح الزنى من الأمور العادية، وألفه الناس حتى لم يعد يستلفت أنظار إنسان ما غلا إذا استخدم للأغراض السياسية. ولم يكن ثمة امرأة موسرة إلا طلقت مرة على الأقل. ولم يكن اللوم في ذلك واقعاً على النساء، فقد كان أكبر أسباب انتشار الطلاق أن الزواج عند الطبقات العليا أصبح خاضعاً لمال وللسياسة. ذلك أن الرجال كانوا يختارون أزواجهم أو كانت الأزواج يخترن للشبان ليحصلوا منهن على أكبر البائنات أو على صلات يفيدون منها جاهاً ومالاً. وقد تزوج صلا وبمبي خمس مرات. وأراد صلا أن يضم بمبي إلى جانبه فأقنعه بالتخلص من زوجته الأولى والاقتران بإميليا ربيبة صلا، وكانت وقتئذ متزوجة وحاملاً.ووافقت إميليا على هذا الزواج مكرهة ولكنها ماتت في أثناء الوضع عقب انتقالها إلى بيت بمبي. وزوج قيصر ابنته يوليا Julia إلى بمبي ليضمن بذلك انضمامه إليه في الحلف الثلاثي. وأغضبت كاتو هذه الحال فوصفها بقوله "عن الإمبراطورية أصبحت توكيلاً لإدارة شؤون الزواج". ولم تكن هذه الزيجات إلا زيجات سياسية، إذا تم النفع المرجو منها تطلع الزوج إلى زوجة أخرى يرقى على كتفيها إلى منصب أعلى أو مال أوفر. ولم يكن ثمة حاجة إلى سبب يبديه، وحسبه أن يرسل غليها خطاباً يبلغها فيه أنها أصبحت حرة في شؤونها كما أصبح هو حراً في شؤونه. وامتنع بعض الرجال عن الزواج امتناعاً تاماً، وكانت حجتهم في هذا أن المرأة الجديدة قد ذهب حياؤها وأسرفت في حريتها، واكتفى كثيرون منهم باتخاذ السراري والإماء. وكان الرقيب متلس المقدوني Metellus Macedonicus(131) يرجو الرجال أن يتزوجوا وينجبوا البناء لأن هذا واجب تفرضه عليهم الدولة مهما ضاقت نفوسهم بالزوجات(26)، ولكن عدد الأعزاب والزيجات العقيمة أخذ بعد هذا النصح يزداد أسرع قبله، وأصبح الأطفال من الكماليات التي لا يطيقها إلا الفقراء. وهل تلام المرأة وهي تعيش في هذه الظروف إذا استخفت بقسم الزواج ووجدت في الصلات الجنسية غير المشروعة الحب والعطف اللذين لم ينلها إياهما الزواج السياسي. لقد كانت هناك بطبيعة الحال كثرة من النساء الصالحات حتى بين الأغنياء أنفسهم، ولكن الحرية الجديدة أخذت تحطم ما كان للأب من سيطرة تامة على أسرته Patria Potestas كما أخذت تحطم كيان الأسرة بأكمله. وخلعت النساء الرومانيات العذار، وكان لهن من الحرية مثل ما للرجال سواء بسواء، واتخذن لهن أثواباً من الحرير المهلل الشفاف المستورد من الهند والصين، وأرسلن رسلهن يجوبون أسواق آسيا ليأتوهن بالحلي والعطور، واختفى الزواج الذي يتبعه انتقال الزوجة إلى دار زوجها Marriahe cum manu، وكانت النساء يطلقن أزواجهن كما يطلق الرجال زوجاتهم. وأخذت طائفة متزايدة من النساء تنفس عن نفسها بالأعمال الثقافية، فتعلمن اللغة اليونانية، ودرسن الفلسفة، وكتبن الشعر، وألقين المحاضرات العامة، ولعبن وغنين ورقصن، وأقمن الندوات الأدبية واشتغل بعضهن بالتجارة والشؤون المالية، ومارست فئة منهن صناعة الطب أو المحاماة.

وكانت كلوديا Clodia زوج كونتس كاسليوس متلس Quintus Caecilius Metellus اشهر النساء اللاتي أكملن ما في أزواجهن من نقص بالقيام بطائفة من أعمال الفروسية والشهامة، فقد تمتلكها نزعة قوية للدفاع عن حقوق النساء، وهزت مشاعر الجيل القديم بسيرها بعد زواجها مع أصدقائها الرجال دون أن يكون معها مَحْرَم، وكانت تستقبل تعرف من أصدقائها وتقبلهم أحياناً على ملأ من الناس، بدل أن تغض الطرف وتنزوي في عربتها شأن النساء الراقيات في عرف تلك الأيام. وكانت تولم الولائم لأصدقائها من الرجال، وكان زوجها يعتمد الغياب في أثنائها كما كان يفعل بعدئذ ماركيز ده شاتليه Marquis ds chatelet. ويصف شيشرون- وهو الرجل الذي لا يوثق بوصفه- "حبها، وزناها، وعهرها، وأغانيها، وما كانت تقيمه من حفلات موسيقية وولائم الطعام، ومقاصف الشراب في بايا Baiae براً وبحراً"(37). وكانت في الحق امرأة ماهرة إذا زلت في ظرف وكياسة، يعجز الإنسان عن ألا يزل معها، ولكنها أخطأت في الاستخفاف بأنانية الرجال. لقد كان كل واحد من عشاقها يحب أن يستأثر بها حتى تفتر شهوته، كما كان كل واحد منهم يصبح عدوها الألد حين تتخذ لها صديقاً غيره. ومن أجل ذلك لطخها كتلس Cutullus (إذا كانت هي التي يسميها لزبيا Lesbia) بالنكات البذئية، وذكرها كاليوس Caelius في حديث له عن الذي تُبتاع به أفقر العاهرات، ووصفها كاليوس في المحكمة بأنها تُبتاع بربع آس Quadrantaria (أي ما يعادل 1.5slash100 من الريال الأمريكي). ذلك بأنها كانت قد اتهمته بأنه حاول قتلها بالسم، واستأجر هو شيشرون للدفاع عنه، ولم يتورع الخطيب المدره عن اتهامه بالفسق مع محارمها وبالقتل، وقال في خلال دفاعه إنه رغم هذا "ليس عدواً للنساء وأولى له ألا يكون عدواً لامرأة هي صديقة لكل الرجال". وبرئ كتلس مما اتهم به وجوزيت كلوديا بعض الجزاء لأنها أخت ببليوس كلوديوس أشد الزعماء تطرفا في رومه وألد أعداء شيشرون.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: كاتو ثانٍ

وقام في وسط هذا الفساد والانحلال رجل كان بقية من رجال الأيام الخالية وداعية للسير على سننها. ذلك هو ماركس بورسيوس كاتو Marcus Porcius Cato الأصغر. وكان قد خرج على مبدأ من مبادئ جده الأعلى فدرس اللاتينية وأفاد منها تلك الفلسفة الرواقية التي بعثت فيه مع عقيدته الجمهورية إخلاصه القوي الذي لم يفارقه قط طول حياته. وورث كاتو من المال مائة وعشرين تالنتا (أي ما يعادل 432.000 ريال أمريكي) ولكنه عاش عيشة بسيطة كلها جد ونشاط، وكان يقرض المال ولكنه لا يتقاضى عن قرضه فوائد. وكانت تعوزه فكاهة جده الأعلى الخشنة، وقد أزعج الناس بما كان يتصف به في ظنهم من الاستقامة الصارمة العنيدة والاستمساك بالمبادئ استمساكاً لا يتفق في رأيهم مع روح العصر الذي يعيش فيه، ذلك أن حياته نفسها كانت اتهاماً لحياتهم لا يغفرونه له، وكانوا يتمنون أن لو مال قليلاً نحو الرذيلة، ولو لم يكن هذا إلا احتراماً لعادات بني الإنسان وتأدباً في حقهم. وما من شك في أنهم قد ابتهجوا حين فعل كاتو فعلة تكاد تنم عن سخريته بالمرأة واعتقاده أنها ليست إلا أداة للتناسل "فأعار" زوجته كارسيليا إلى صديقه هورتلسيوس Hortensius -أي طلقها وحضر زواجها الذائع الصيت- ولما مات هورتلسيوس بعدئذ أعادها إلى عصمته(28). ولم يكن في وسع معاصريه أن يحبوه لأنه كان ألد أعداء الخيانة والسفالة. وأشد المدافعين عن حقوق الآباء على أبنائهم وأسرهم. وكان نقده لأخلاق ذلك العصر أقسى واشد صرامة من نقد الرقيب كاتو الأكبر نفسه. وقلما كان يضحك أو يبتسم، ولم يحاول قط أن يكون لطيفاً بشوشاً، وكان يؤنب كل من تملقه أشد التأنيب. وقد قال شيشرون إنه أخفق في أن ينتخب قنصلاً لأنه كان يحيا حياة مواطن في جمهورية أفلاطون لا حياة روماني بين حثالة أبناء رميولوس".

ولما عين كوسترا كان سوط عذاب يصب على العجز وعلى استغلال سلطان الوظيفة، وحفظ أموال الخزانة العامة من جميع الغارات السياسية، ولم تضعف يقظته وحرصه على هذه الخزانة بعد أن انقضت فترة توليه منصبه. وكان يصب تهمه على جميع الأحزاب على حد سواء، وقد أفاد من هذه التهم آلاف المعجبين ولكنها لم تترك له صديقاً واحداً. ولما كان بريتوراً أقنع مجلس الشيوخ بأن يصدر قراراً بأن يأمر كل مرشح للقنصلية بياناً مفصلاً بما أنفقه أثناء الحملة الانتخابية، وما اتبعه فيها من الوسائل، وأزعج هذا القرار كثيراً من السياسيين لأن الكثرة الغالبة منهم كانت تعتمد في انتخابها على الرشا، فلما أن ظهر كاتو بعدئذ في السوق العامة أخذوا هم ومواليهم يسبونه ويرمونه بالحجارة، فلم يكن منه إلا أن اعتلى المنصة وواجه المجتمعين وهو ثابت الجنان، وما زال يخطب فيهم حتى خضعوا له. ولما اختير تربيوناً سار على رأس جيش إلى مقدونية، وامتطى خدمه وأتباعه الجياد، أما هو فسار راجلاً. وكان يهزأ برجال الأعمال ويدافع عن الأرستقراطية أو حكم أبناء الأسر الشريفة، ويرى انه إن لم يحكم البلاد هؤلاء الأشراف فلا من مفر من أن يحكمها ذوو الثراء، وهذا شر أيما شر. وشن حرباً شعواء لا هوادة فيها على الذين كانوا يفسدون السياسة الرومانية بالمال والأخلاق الرومانية بالترف، وظل إلى آخر أيام حياته يقاوم يخطوها بمبي أو قيصر نحو الطغيان الفردي. ولما أن قضي قيصر على الجمهورية تخلص كاتو من حياته بيده والى جانبه كتاب من كتب الفلسفة.


الفصل الخامس: اسبارتكوس

ووصل سوء الحكم وقتئذ إلى غايته كما تأصلت الديمقراطية فيه بدرجة قلما نجد لها نظيراً في تاريخ الدول. وحدث في عام 98 ق.م أن أعاد القائد الروماني ديديوس Didius ما فعله من قبله سلبسيوس جلبا Swpicius Galba فقد خدع قبيلة كاملة من الأسبان المشاغبين حتى استدرجهم إلى معسكر روماني في أسبانيا مدعياً أنه يريد أن يسجل أسماءهم ليوزع الأرض الزراعية عليهم، فلما دخلوا المعسكر هم وأزواجهم وأبناؤهم أمر بهم فذبحوا عن أخرهم، ولما عاد إلى رومه احتفل بعودته احتفال الظافرين(30). ولم يطق هذه الفظائع وأمثالها من ضروب الوحشية التي كان يقترفها رجال الإمبراطورية ضابط سبيني في الجيش الروماني يدعى كونتس سرتوريوس Quintus Sertorius فذهب الأسبان، ونظم صفوفها ودربهم على القتال وقادهم من نصر إلى نصر على الجيوش الرومانية التي سيرت لإخضاعهم، وظل ثماني سنين (80-72) يحكم مملكة ثائرة خارجة على حكم الرومان، كسب في خلافها قلوب الأسبان بحكمه العادل وبإنشاء المدارس لتعليم أبنائهم. وعرض متلس القائد الروماني مائة تالنت أي ما يقارب من 360.000 ريال أمريكي، وعشرين ألف فدان من الأرض مكافأة لأي روماني يقتل سرتويوس، وكان لهذا العرض السخي أثره فدعاه بربنا Perpenna، وهو لاجئ روماني في معسكره، إلى وليمة، واغتاله، وتولى قيادة الجيش الذي دربه سرتوريوس. وأرسل بمبي لقتال بربنا ولم يلق صعوبة ما في التغلب عليه. وأسر بربنا وأعدم وعاد الرومان إلى استغلال أسبانيا من جديد.

وكان العمل الثاني من أعمال الثورة من فعل الأرقاء لا من فعل الأحرار. ذلك أن لنتولس بتياتس lentulus Batiates قد أنشأ في كبوا مدرسة للمصارعين، رجالها من الأرقاء أو المجرمين المحكوم عليهم، ودربهم على صراع الحيوانات أو صراع بعضهم بعضاً، في حلبة الصراع العامة أو في البيوت الخاصة. ولم يكن ينتهي الصراع حتى يقتل المصارع. وحاول مائتان من هؤلاء المصارعين أن يفروا، ونجح منهم ثمانية وسبعون، وتسلحوا واحتلوا أحد سفوح بركان فيزوف، وأخذوا يغيرون على المدن المجاورة طلباً للطعام(37). واختاروا لهم قائداً من أهل تراقية يدعى اسبارتكوس Spartacns ويقول فيه أفلوطرخس إنه "لم يكن رجلاً شهماً وشجاعاً وحسب، بل كان إلى ذلك يفوق الوضع الذي كان فيه ذكاء في العقل ودماثة الأخلاق"(31). وأصدر هذا القائد نداء إلى الأرقاء في إيطاليا يدعوهم إلى الثورة، وسرعان ما التف حوله سبعون ألفاً، ليس منهم إلا من هو متعطش للحرية وللانتقام. وعملهم أن يصنعوا أسلحتهم، وأن يقاتلوا في نظام أمكنهم به أن يتغلبوا على كل قوة سيرت عليهم إخضاعهم. وقذفت انتصاراته الرعب في قلوب أثرياء الرومان، وملأت قلوب الأرقاء أملاً، فهرعوا إليه يريدون الانضواء تحت لوائه، وبلغوا من الكثرة حداً اضطر معه أن يرفض قبول متطوعين جدد بعد أن بلغ عدد رجاله مائة وعشرين ألفاً لأنه لم يكن يسهل عليه أن يعنى بأمرهم. وصار بجيوشه صوب جبال الألب، وغرضه من هذا "أن يعود كل رجل إلى بيته بعد أن يجتاز هذه الجبال"(32). ولكن أتباعه لم يكونوا متشعبين مثله بهذه العواطف الرقيقة السليمة، فتمردوا على قائدهم، وأخذوا ينهبون مدن إيطاليا الشمالية، ويعيثون فيها فساداً. وأرسل مجلس الشيوخ قوات كبيرة بقيادة القنصلين لتأديب العصاة. والتقى أحد الجيشين بقوة منهم كانت قد انشقت على اسبارتكوس وأفنتها عن آخرها. وهوجم الجيش الثاني قوة العصاة الرئيسية فهزمته وبددت شمله. ثم سار اسبارتكوس بعدئذ صوب جبال الألب والتقى في أثناء سيره بجيش ثالث يقوده كاسيوس فهزمه شر هزيمة، ولكنه وجد جيوشاً رومانية أخرى تفق في وجهه وتسد عليه المسالك فولى وجهه شطر الجنوب وزحف على رومه.

وكان نصف الأرقاء في إيطاليا متأهبين للثورة، ولم يكن في وسع أحد في العاصمة نفسها أن يتنبأ متى تنشب هذه الثورة في بيته، وكانت تلك الطائفة الموسرة المترفة التي تتمتع بكل ما في وسع الرق أن يمتعها به، كانت تلك الطائفة كلها ترتعد فرائصها فرقاً حين تفكر في أنها ستخسر كل شيء- السيادة والملك والحياة نفسها. ونادى الشيوخ وذوو الثراء يطالبون بقائد قدير، ولكن أحداً لم يتقدم للاضطلاع بهذه القيادة، فقد كان القواد كلهم يخافون هذا العدو الجديد العجيب، ثم تقدم كراسس crassus آخر الأمر وتولى القيادة، وكان تحت إمرته أربعون ألفاً من الجنود، وتطوع كثير من الأشراف في جيشه لأنهم لم ينسوا كلهم تقاليد الطبقة التي ينتمون إليها ولم يكن يخفي على اسبارتكوس أنه يقاتل إمبراطورية بأكملها، وأن رجاله لا يستطيعون أن يصرفوا شؤون العاصمة بله الإمبراطورية نفسها إذا استولوا عليها. فلم يعرج في زحفه على رومه وواصل السير حتى بلغ ثورياي Thurii مخترقاً إيطاليا كلها من شمالها إلى جنوبها، لعله يستطيع نقل رجاله إلى صقلية أو إلى إفريقيا. وظل سنة ثالثة يصد الهجمات التي يشنها عليه الرومان، ولكن جنوده نفذ صبرهم وسئموا القتال، فخرجوا عليه وعصوا أوامره، وأخذوا يعيثون فساداً في المدن المجاورة. والتقى كراسس بجماعة من أولئك النهابين وفتك بهم، وكانوا أثنى عشر ألفاً وثلاثمائة ظلوا يقاتلون إلى آخر رجل فيهم. وفي هذه الأثناء كان جنود بمبي قد عادوا من أسبانيا فأرسلوا لتقوية جيوش كراسس، وأيقن اسبارتكوس أن لا أمل له في الانتصار على هذه الجيوش الحرارة، فانقض على جيش كراسس وألقى بنفسه في وسطه مرحباً بالموت في وسط المعمعة، وقتل بيديه ضابطين من ضباط المئين، ولما أصابته طعنة ألقته على الأرض وأعجزته عن النهوض ظل يقاتل وهو راكع على ركبته إلى أن مات وتمزق جسمه لم يكن من المستطاع أن يتعرف عليه. وهلك معه معظم أتباعه. وفر بعضهم إلى الغابات، وظل الرومان يطاردونهم فيها، وصلب ستة آلاف من الأسرى في الطريق الأبياوي الممتد من كبوا إلى رومه (71). وتركت أجسامهم المتعفنة على هذه الحال عدة شهور تطميناً لجميع السادة وإرهاباً لجميع العبيد.


الفصل السادس: بمبي

ولما عاد كراسس وبمبي من هذه الحملة لم يسرحا جنودهما أو يجرداهم من سلاحهم عند أبواب رومه استجابة لرغبة مجلس الشيوخ وإطاعة للقانون، بل عسكرا بهم خارج أسوار المدينة، وطالباً أن يؤذن لهما بأن يرشحا نفسيهما للقنصلية دون أن يدخلا المدينة- وخالفا بذلك مرة أخرى كل السوابق المألوفة. وزاد بمبي على ذلك أن طلب أرضاً لجنوده وموكب نصر لنفسه. ولكن مجلس الشيوخ لم يجبه إلى طلبه، وكان يرجو أن يفرق بين القائدين ويثير كلا منهما على الآخر. غير أن كراسس وبمبي اتفقا فيما بينهما، وعقدا حلفاً فجائياً مع الطبقات الدنيا ومع رجال الأعمال، ونجحا بفضل الرشا السخية في أن يختارا قنصلين في عام 70 ق.م وقد ناصرهما رجال الأعمال لغرضين أولهما رغبتهم في أن يستعيدوا ما كان لهم من سلطان في مناصب المحلفين الذين يحاكمونهما، وثانيهما أن يستبدلوا بلوكس Lucullus- الذي كان يحكم الشرق حكماً صالحاً لا نفع فيه لهم رجلاً من طبقتهم يعمل بمبادئهم. وقد وجدوا في بمبي ضالتهم المنشودة. وكان بمبي وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره ولكنه كان جندياً ضرسته الحروب وخاض معارك كثيرة. وكان من أسرة غنية من طبقة الفرسان، نال إعجاب مواطنيه لشجاعته واعتداله وحذقه كل ضروب الألعاب وفنون الحرب. وكان قد طهر صقلية وإفريقيا من أعداء صلا ولقبه الفكه بلقب "العظيم" جزاء له على زهوه وانتصاره في الحروب. وقد أحرز بعض النصر وهو شاب أمرد(33). وقد بلغ من الجمال حدا أنطق فلورا Flora إحدى سراري ذلك الوقت بقولها إنها لم تكن تستطيع أن تفارقه قط دون أن تعضه(34). وكان مرهف الشعور، شديد الحياء، يحمر وجهه من شدة الخجل إذا اضطر إلى خطابة في اجتماع عام، أما في الحرب فقد كان في تلك الأيام باسلاً مقداماً يخوض غمارها ولا يبالي بما يتعرض له من الأخطار. ولما تقدمت به السن أثر حياؤه كما أثرت بدانته في قدرته على القيادة، وكان تردده سبباً في هزائمه. ولم يكن ألمعياً سريع الخاطر أو عميق التفكير؛ ولم يكن هو الذي يرسم الخطط التي يسير عليها، بل يضعها غيره- كان يضعها له في أول الأمر السياسيون من طبقته العامة ثم الأثرياء من الشيوخ. وكان ثراؤه الواسع سبباً في انتشاله من المغريات السياسية الدنيئة؛ فكان وهو في وهدة الفساد والأنانية التي يتردى فيها أهل زمانه علماً في الوطنية والاستقامة؛ ويلوح أنه كان في أعماله يستهدف الصالح العام مع صالحه الخاص. وكان أبرز عيوبه غروره وكبرياؤه، ومنشأ ذلك أن انتصاراته الأولى قد جعلته يغالي في تقدير مواهبه، وكان مما يعجب له ولا يستطيع فهمه أن تتلكأ رومه هذا التلكؤ الطويل في أن تجعله يستمتع بكل ما يستمتع به الملوك إلا الاسم وحده.

ولما تسنم صنيعتا صلا منصب القنصلية أخذا يعملان ما في وسعهما لتقويض أركان الدستور الذي وضعه ولي نعمتهما. وأراد بمبي وكراسس أن يوفيا بما عليهما من دين للعامة فأقرا مشروع قانون يهدف إلى إرجاع ما كان للتربيون من سلطات، ووطدا دعائم حلفهما مع رجال الأعمال فأمرا لوكلس أن يخول الملتزمين الإشراف التام على جباية الضرائب في بلاد الشرق، وأيدا التشريع الذي يقضي بأن توزع مناصب المحلفين بالتساوي بين أعضاء الشيوخ وطبقتي الفرسان ورجال المال. ومضى على كراسس خمسة عشر عاماً قبل أن يلقى جزاءه- وهو أن يصب الذهب في جوفه صبا في بلاد آسيا. أما بمبي فقد نال جزاءه في عام 67 حين خولته الجمعية سلطة تكاد أن تكون مطلقة من كل قيد في تأديب قراصنة قليقية. ذلك أن جزيرة رودس قد استطاعت في الأيام السالفة أن تطهر بحر إيجة من هؤلاء القراصنة؛ فلما أن ذلت رودس وافتقرت على يد رومه وديلوس لم يكن في مقدورها أن تحتفظ بالعمارة البحرية التي تمكنها من هذا العمل، ولم يكن الأشراف ملاك الأراضي المسيطرون على مجلس الشيوخ شديدي الحرص على أن تبقى مسالك التجارة البحرية آمنة من الأخطار. أما التجار والعامة فقد تأثروا بهذه الحال أشد التأثر، فقد تعذرت التجارة أو كادت في بحر إيجة بل وفي القسم الأوسط من البحر الأبيض المتوسط، ونقص المستورد من الحبوب نقصاً سريعاً ارتفع بسببه ثمن القمح في رومه حتى بلغ عشرين سسترس لكل موديس أو نحو ثلاثة ريالات أمريكية لكل جالونين. وتباهى القراصنة بنصرهم فرفعوا على سفنهم التي تبلغ عدتها ألف سفينة الساريات المذهبة والأشرعة الأرجوانية، وجهزوها بالمجاديف المصفحة بصفائح الفضة. وقد استولوا على أربعمائة من المدن الساحلية، واحتفظوا بها، ونهبوا الهياكل في سمثريس Samothrace. وساموس Samos، وإبدورس Epidaurus، وأرجوس Argos ولوكاس Leucas وأكتوم Actium، وعمدوا إلى اختطاف الموظفين الرومان، وبلغت بهم الجرأة أن هاجموا سواحل أبوليا Apaulia وإتروريا.

وأراد جابينيوس Gabinias صديق بمبي أن يعالج هذا الموقف، فتقدم بمشروع قانون يجعل له السيطرة التامة مدى ثلاثة سنوات على جميع الأساطيل الرومانية وعل جميع الأشخاص المقيمين على مدى خمسين ميلاً من شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وعارض كل الشيوخ، ما عدا قيصر، هذا الإجراء العجيب، ولكن الجمعية أجازته في حماسة بالغة ووافقت على أن تمد بمبي بجيش مؤلف من 125.000 مقاتل وأسطول مؤلف من 500 سفينة، وأبلغت خزانة الدولة أن تضع تحت تصرفه 144.000.000 سسترس. وكان هذا المشروع في واقع الأمر سلباً للسلطة من مجلس الشيوخ، وختاماً لعودة "صلا" إلى الحكم، وإقامة لملكية مطلقة مؤقتة كانت فاتحة لملكية قيصر ومثلاً له يحتذيه. وكانت نتيجة هذا العمل مؤيدة لهذه السابقة الخطيرة، فلم يمض على تنصيب بمبي إلا يوم واحد حتى أخذ ثمن القمح في الانخفاض، وقبل أن يمضي عليه في هذا المنصب ثلاثة شهور أتم العمل الذي أنيط به- فاستولى على سفن القراصنة ومعاقلهم وأعدم زعماءهم وإن لم يسيء استعمال السلطة غير العادية التي وضعت بين يديه. وتشجع التجار فنشطت التجارة الخارجية، ومخرت السفن عباب البحار، وتدفق على رومه سيل من الحبوب.

وقبل أن يعود بمبي من قليقية صديقه منليوس Manilius على الجمعية مشروع قانون بنقل قيادة الجيوش وحكم الولايات التي كان يقودها ويحكمها لوكلس(66) إلى بمبي، وإطالة الفترة التي حددها قانون جابينيوس لسلطاته المتعددة, وعارض مجلس الشيوخ في هذا المشروع، ولكن التجار والمرابين أيدوا الاقتراح تأييداً قوياً، ذلك أنهم كانوا يؤملون أن يكون بنبي أقل ليناً من لوكلس لمدينتهم في آسيا، وأن يعيد إلى الملتزمين حق جباية الضرائب، وأنه لن يكتفي بفتح بثينيا وبنتس بل سيفتح كذلك كبدوكيا وسوريا وبلاد اليهود. وأن هذه الحقول الغنية ستُفتح أبوابها إلى التجارة والأموال الرومانية تحت حماية الجيوش الرومانية. وقام "رجل جديد" هو ماركس تليوس شيشرون Marcus Tullius Cicero كان قد اختير بريتورا في ذلك العام بمعونة رجال الأعمال فأيد "قانون منليوس، وهاجم العصبة المالية الحاكمة في مجلس الشيوخ بفصاحة وتهور لم يسمع بمثلهما في رومه من أيام أبني جراكس، وبصراحة لم تعهد قط في السياسيين". ومن أقواله في هذا الهجوم:

"إن جميع النظم الخاصة بالمال والائتمان التي تسير عليها رومه ترتبط بخراج الولايات الأسيوية ارتباطاً لا انفصام له، فإذا ما حجز هذا الخراج انهارت جميع نظم المال والائتمان في هذه البلاد.. وإذا ما خسر بعض الناس أموالهم كلها جرّوا معهم كثيرين غيرهم. فأنقذوا الدولة من هذه الكارثة... وابذلوا في الحرب على مثرداتس كل ما استطعتم من جهود حتى تحتفظوا بشرف رومه وسلامة أحلافنا، وبأثمن جزء من مواردنا، وبثروة عدد لا يحصى من المواطنين". وأجازت الجمعية من فورها مشروع القانون، ولم يكن ذلك لأن العامة يعنون أقل عناية بأموال الماليين، بل لأنهم كان يسرهم أن يجدوا في تخويل قائد من القواد سلطات واسعة غير محدودة وسيلة لإلغاء تشريعات "صلا" والقضاء على سلطان مجلس الشيوخ عدوّهم القديم. ومن ذلك اليوم أخذ أجل الجمهورية ينصرم، وأخذت حياتها تقترب من نهايتها. ذلك أن الثورة الرومانية مستعينة بفصاحة عدوها الألد، كانت قد خطت خطوة أخرى نحو طغيان قيصر.


الفصل السابع: شيشرون وكاتلين

يقول أفلوطرخس إن ماركس تليوس إنما سمي شيشرون لأن أحد أجداده كانت له على أنفه ثؤلولة تشبه الحمصة الجبلية (cicer). ولكن أرجح من هذا التعليل أن آباءه قد اكتسبوا هذا اللقب لما كانوا ينتجونه من حمص ذائع الصيت. ويصف شيشرون في كتاب "القوانين" وصفاً رقيقاً يخلب اللب بيته الصغير المتواضع الذي شهد مولده بالقرب من أربينوم Arpinum في منتصف المسافة بين رومه ونابلي على التلال المتصلة بجبال أبنين Appenine. وكان لمولده من الثروة ما يكفيه لأن يعلم ولده خير تعليم يستطيع أن يناله في ذلك الوقت، فاستأجر الشاعر اليوناني أركباس Archias ليعلم ماركس الأدب واللغة اليونانية، ثم أرسله ليدرس القانون مع كونتس موسيوس أسكيفولا Quinuts Mucius Scaevola أعظم رجال القانون في عصره. وكان شيشرون يستمع في شوق وانتباه إلى المحاكمات والمناقشات التي تدور في السوق العامة، وسرعان ما أتقن الفنون والأساليب المتبعة في الخطب القانونية. وقد قال في إحدى المناسبات: "من أراد النجاح في القانون فعليه أن يتخلى عن جميع مسراته، ويتجنب كل ضروب اللهو. ويودع التسلية والألعاب والطرب، وأكاد أقول إن عليه أن يقطع صلاته بأصدقائه(26)". وسرعان ما كان هو نفسه يشتغل بالقانون ويلقى خطباً رنانة حوت من البلاغة والشجاعة ما أكسبه شكر الطبقات الوسطى والدنيا. وقد قاضى أحد صنائع صلا وشهر بما كان يرتكبه من الاضطهاد حين كان حكم الإرهاب الذي أقامه صلا على أشده (80 ق.م)(27). ثم سافر بعد قليل من ذلك الوقت إلى بلاد اليونان، ولعله سافر إليها فراراً من غضب ذلك الطاغية، وظل في تلك البلاد يدرس الفلسفة وفن الخطابة. وبعد أن قضى ثلاث سنين في أثينا هنيئاً سعيداً انتقل إلى رودس حيث استمع إلى محاضرات أبولونيوس Appollonius بن مولون Molon في البلاغة، والى محاضرات بوسيدونيوس Poseidonius في الفلسفة، وتعلم من أولهما تراكيب الجمل المتعاقبة وعفة اللفظ وهما الصفتان اللتان كان يمتاز بهما أسلوبه؛ وتعلم من ثانيهما تلك الرواقية المعتدلة التي نادى بها بعدئذ فيما كتبه من مقالات عن الدين وفن الحكم والصداقة والشيخوخة.

ثم عاد إلى رومه في سن الثلاثين وتزوج ترنشيا Terentia واستطاع ببائنتها السخية أن تشتغل بالسياسية، وعلا شأنه ونبه ذكره بعدله وحسن إدارته حين كان كوسترا في صقلية عام 75 ق.م ولك عاد إلى الاشتغال بالمحاماة في عام 70 ق.م وأهاج عليه طبقة الأشراف إذ قبل أن يوكل في قضية أقامتها مدن صقلية على كيوس فيرس Caius Verrs عضو الشيوخ، واتهمته فيها بأنه وهو صاحب الخراج في تلك الجزيرة (73-71) كان يبيع المناصب والأحكام. ويخفض الضرائب بنسبة ما يناله من الرشا، وأنه لم يكن يبقى في سرقوسة شيئاً من تماثيلها، وأنه وهب إيراد مدينة بأكملها إلى إحدى سراريه، وأسرف في الظلم، وابتزاز الأموال والسرقات حتى غادر الجزيرة وهي أكثر خراباً مما كانت بعد حربين من حروب الرقيق. وشر من هذا كله أن فيرس قد اختص نفسه ببعض ما كان يختص به الملتزمون عادة، وناصر رجال الأعمال شيشرون في اتهاماته، أما هرتنسيوس الزعيم الأرستقراطي للمحامين الرومان فقد تولى زعامة المدافعين عن فيرس، وأجيز لشيشرون أن يقضي في صقلية حوالي مائة يوم يجمع فيها الأدلة؛ ولكنه اكتفى منها بخمسين يوماً، وعرض في خطبته الافتتاحية من الأدلة الدامغة ما جعل هرتنسيوس- وكان قد زين حدائقه ببعض ما نهبه فيرس من التماثيل- يتخلى عن موكله. وحكم على فيرس بغرامة قدرها أربعون مليون سسترس، ففر إلى خارج البلاد، ونشر شيشرون بعدئذ الخمس الخطب الإضافية التي كان قد أعدها، وكانت كلها هجوماً عنيفاً على فساد الحكم الروماني في الولايات. وبلغ ما أحرزه من تأييد الشعب بجده وشجاعته أنه حين رشح نفسه للقنصلية في عام 63 ق.م انتخب بحماسة بالغة منقطعة النظير.

وكان شيشرون من أبناء طبقة الفرسان، ولذلك كانت ميوله بطبيعة الحال مع الطبقة الوسطى، وكانت تشمئز نفسه من كبرياء الأشراف ويستنكر امتيازاتهم سوء حكمهم، ولكنه كان يخشى أشد خشية أولئك الزعماء المتطرفين، فقد كان يرى أن منهجهم، بوضعه أزمة الحكم في أيدي الغوغاء، يعرض الملكية لأشد الأخطار. ولهذا كانت الخطة السياسية التي وضعها لنفسه حين تولى الحكم أن يقيم "حلفاً من الطبقات"- أي تعاوناً بين الأشراف ورجال الأعمال، يحول دون عودة تيار الثورة الجارف.

على أن أسباب التذمر وقواه كانت أعمق وأكثر من أن يقضي عليها بسهولة، فقد كان كثيرون من الفقراء يستمعون إلى الخطباء ينادون بوجوب قيام دولة مثالية، وكان بعض من يستمعون إليهم على استعداد لأن يستخدموا أساليب العنف في تحقيقها. وكان يعلو عن هؤلاء قليلاً جماعات من العامة خسروا أملاكهم لعجزهم عن أداء ما عليها من رهون. وكان بعض جنود صلا القدامى قد عجزوا عن استغلال أراضيهم استغلالاً مربحاً، وكانوا مستعدين للاشتراك في أي اضطراب يتيح لهم فرصة لانتهاب المال بلا كد. وكان بين الطبقات العليا طائفة من المدنيين المفلسين العاجزين عن أداء ديونهم، والمضاربين الذين فقدوا كل أمل أو رغبة في الوفاء بالتزاماتهم، ومنهم من كانت لهم مطامع سياسية ولكنهم وجدوا سبل الرقي تسدها عليهم طائفة من المحافظين طالت آجالهم فوق ما ينبغي لها أن تطول. وكان إلى جانب هؤلاء كلهم عدد قليل من الثوار المخلصين لمثلهم العليا الذين لا يخالجهم شك في أنه لا سبيل إلى تلطيف ما تئن منه الدولة الرومانية من فساد وظلم إلا بانقلاب كامل وثورة جارفة.

ولم يحاول أحد جمع هذه الطوائف المشتقة وضمها كلها في قوة سياسية مؤتلفة إلا رجل واحد هو لوسيوس سرجيوس كاتلين Lucius Sergius Catiline، وهو رجل لا نعرف عنه إلا ما يصفه به أعداؤه- أي ما نستقيه من تاريخ حركته كما كتبها سلست Sallust الغني صاحب الملايين، وما نقرأه من اتهامات ومثالب مقذعة في خطب شيشرون ضد كاتلين. فأما سلست فيصفه بأنه "روح ملطخ بالإجرام، هو والآلهة والناس على طرفي نقيض، لا يجد الراحة في نومه ولا في يقظته لأن ضميره قد قسا عليه فأتلف عقله المضني المنهوك. وكان هذا سبباً في صفرة وجهه، وحمرة عينيه، وهرجلته في مشيه، فتارة يسرع وتارة يبطئ؛ وملاك القول أن وجهه ونظراته لا تترك مجالاً للشك في أن بعقله خبالاً"(38). ذلك وصف يوحي بالصورة التي يرسمها لأعدائهم في الحرب أقوام يكافحون في سبيل الحياة والسلطان؛ حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها هذبت الصورة شيئاً فشيئاً. أما صورة كاتلين فلم تهذب قط؛ فقد اتهم في شبابه بافتراع عذراء فستية، وهي أخت غير شقيقة لزوجة شيشرون الأولى، وبرأت المحكمة العذراء من هذه التهمة ولكن ألسنة السوء لم تبرئ منها كاتلين، بل فعلت عكس هذا إذ أضافت إلى التهمة الأولى تهمة ثانية هي أنه قتل ابنه ليرضى بقتله عشيقته الغيور(39). ولسنا نجد ما تعارض به هذه القصص إلا قولنا إن عامة الناس في رومه- "الغوغاء اليائسين الجياع" كما يسميهم شيشرون- ظلوا أربع سنين بعد وفاة كاتلين ينثرون الأزهار على قبره(40). وينقل لنا سلست هذه الفقرة وهي كما يلوح فحوى خطبة له:

"منذ وقعت الدولة في قبضة عدد قليل من أقوياء الرجال... أصبح لهم فيها كل النفوذ والمنزلة والثروة، ولم يتركوا لنا فيها إلا الخطر والهزيمة والمحاكمات والفقر.. وماذا بقي لنا في الحياة إلا الأنفاس التي تتردد في صدورنا؟... أليس خيراً لنا أن نموت شجعاناً من أن نفقد حياتنا اليائسة الذليلة بعد أن تصير لعبة في أيدي السفهاء".

وكانت الخطة التي يريد أن يضعها لضم عناصر الثورة المتعارضة خطة سهلة بسيطة تتلخص في كلمتين هما "سجلات جديدة"، ويقصد بهما إلغاء الديون كلها إلغاء تاماً بلا قيد ولا شرط. وأخذ يعمل لهذه الغاية بهمة لا تعادلها إلا همة قيصر؛ والحق أنه نال إلى حين عطف قيصر إذا لم يكن قد نال في السر معونته. وقد قال شيشرون: "لم يكن ثمة شيء لا يستطيع فعله، ولم تكن ثمة آلام لا يقاسيها في سبيل تعاون عناصر الثورة ويقظتها وكدحها. وكان في وسعه أن يتحمل البرد والجوع والعطش"(42). ويقول لنا أعداؤه إنه نظم فرقة قوامها أربعمائة رجل عهد إليها قتل القنصلين والاستيلاء على أزمة الحكم في أول يوم من عام 65 ق.م فلما حل ذلك اليوم لم يحدث شيء غير هادي، وفي عام 64 ق.م رشح كاتلين نفسه للقنصلية ضد شيشرون وشن عليه حملة انتخابية شديدة ، روعت أصحاب رؤوس الأموال، وبدأت أموالهم تتسرب من إيطاليا. واتخذت الطبقات العليا لتأييد شيشرون وتحقق بذلك ما كان ينادي به من "تعاون الطبقات"، ودام هذا التعاون عاماً كاملاً، وكان هو ممثل هذا التعاون وصوته الناطق.

ولما وجد كاتلين أبواب السياسة موصدة أمامه ولى وجهه شطر الحرب، فجهز أتباعه سراً جيشاً في أتروريا من عشرين ألف مقاتل، وجمعوا في رومه عصبة من المتآمرين كان فيها ممثلون لجميع الطبقات من الشيوخ إلى الرقيق. وكان فيها بريتوران هما سثيجس Sefhegus ولنتولس Lentulus، وتقدم كاتلين للقنصلية مرة أخرى في شهر أكتوبر التالي.

ويقول لنا المترجمون له من المحافظين إنه أراد أن يضمن لنفسه النجاح في هذا الانتخاب، فدبر قتل منافسه في أثناء الحملة، واغتيال شيشرون في الوقت عينه. وادعى شيشرون أنه علم بهذا التدبير فملأ "ميدان المريخ" بحرس مسلح، وأشرف بنفسه على عملية الانتخاب، وهزم كاتلين للمرة الثانية رغم تأييد الطبقات الدنيا وتحمسهم له. ويحدثنا شيشرون أنه في اليوم السابع من نوفمبر طرق بابه عدد من المتآمرين، ولكن حراسه صدوهم عنه وأبصر شيشرون في اليوم الثاني كاتلين في مجلس الشيوخ فأخذ يكيل له ذلك السباب الذي كان كل تلميذ ينطق به في وقت من الأوقات. وبينما كان الخطيب يصب اللعنات على كاتلين خلت المقاعد التي حوله واحداً بعد واحد حتى لم يبق في المجلس غيره. وتحمل وهو صامت سيل التهم الجارف والألفاظ المقذعة القاسية تنصب انصباب السياط على رأسه. وأخذ شيشرون يستثير كل عاطفة من عواطفه، فشبه الأمة بالأب العام وشبه كاتلين بقاتل أبيه، واتهمه غمزاً وضمناً بغير دليل بأنه يأتمر بالدولة، وبالسرقة، والزنى، والأفعال الجنسية الشاذة، وتوجه آخر الأمر إلى جوف Jove أن يقي رومه السوء، وأن يصب عذابه السرمدي على كاتلين.

ولما أتم شيشرون خطبته خرج كاتلين من المجلس دون أن يعترضه أحد، وانضم إلى قواته في إتروريا. وأرسل قائده لوسيوس منليوس Lucius Manlius آخر نداء له إلى مجلس الشيوخ وقال فيه:

إنّا لنُشهد الآلهة والناس على أننا لم نمتشق الحسام لنقاتل به بلدنا، أو نهدد به سلامة بني وطننا. وكل الذي يدفعنا نحن المعدمين البائسين الذين تضافر علينا عنف المرابين وقسوتهم فشردونا من أوطاننا، وحكم علينا بالفاقة والحرمان، وأصبحنا سخرية للساخرين- كل الذي يدفعنا إلى ما نحن فاعلوه هو رغبتنا في أن نحمي أنفسنا من الظلم. وأما المال وأما السلطان، وهما أكبر أسباب النزاع بين بني الإنسان، فلا مأرب لنا فيهما، بل كان الذي نطلبه هو الحرية، ذلك الكنز الذي لا يفرط فيه الإنسان إلا حين يسلم الروح. وإنــّا لنتوسل إليكم أيها الشيوخ أن تستشعروا الرحمة على بني وطنكم المعذبين!.

وخطب شيشرون في اليوم الثاني خطبة وصف فيها أتباع منافسه العاصي بأنهم طائفة ملتفة حول عصبة من الضالين المارقين المتعطرين، وأطلق العنان لعبقريته فاخترع كل ما أسعفته به من سخرية وسباب، وختم خطبته مرة أخرى بنغمة دينية. وعرض على مجلس الشيوخ في الأسابيع التالية ما زعم أنه براهين تثبت أن كاتلين قد حاول أن يشعل نار الثورة في بلاد الغاليين، وأفلح في اليوم الثالث من ديسمبر أن يقنع أولي الأمر بالقبض على لنتولس، وسثيجس وخمسة غيرهما من أتباع كاتلين. وصرح في خطبة ثالثة له بالجريمة التي ارتكبوها، وأعلن أنهم قد زجوا في السجن، وأبلغ المجلس والشعب أن المؤامرة قد أخفقت، وأن في وسعهم أن يعودوا إلى بيوتهم آمنين مطمئنين. وفي اليوم الخامس من ديسمبر دعا مجلس الشيوخ إلى الاجتماع وسأله عما يفعله بالمعتقلين، فاقترح سلانوس أن يقتلوا، وأشار قيصر أن يكتفي بسجنهم، وذكر الشيوخ بأن قانون سمبرونيوس يحرم إعدام المواطن الروماني. ونصح شيشرون في خطبة له رابعة أن يعدموا، وكان في هذه المرة رقيقاً في نصحه، غير عنيف في عرضه. وأيد كاتو بفلسفته هذا الرأي، ورجحت كفة القائلين بالإعدام. وحاول بعض الشبان من الأشراف أن يغتالوا قيصر وهو خارج من قاعة المجلس ولكنه نجا من شرهم.

وذهب شيشرون ومعه رجال مسلحون إلى السجن الذي كان فيه المعتقلون، وهناك نفذ الحكم على الفور، ثم أرسل ماركس أنطونيوس زميل شيشرون في القنصلية، ووالد ماركس أنطونيوس الذائع الصيت- أرسل على رأس جيش روماني للقضاء على قوة كاتلين. ووعد مجلس الشيوخ أن يعفو عن كل رجل يترك صفوف الثوار، وأن يمنحه فوق ذلك مائتي ألف ستسرس. ولكن "أحداً لم يفر من معسكر كاتلين" على حد قول سلست. ودارت رحى القتال بين الجيشين في سهول بستويا Pistoia. وقاتل الثوار، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، قتال الأبطال، ودافعوا عن أعلامهم- نستور ماريوس- العزيزة عليهم إلى آخر رجل منهم رغم ما كانوا عليه من قلة بالنسبة لأعدائهم. ولم يستسلم واحد منهم أو يفر من الميدان، بل ماتوا جميعاً في المعركة كما مات بينهم كاتلين نفسه.

وإذ كان شيشرون من رجال الفكر لا من رجال العمل، فقد أدهشه وأثر فيه ما أظهره من المهارة والشجاعة في القضاء على هذه الفتنة الصماء. ومن أقواله في مجلس الشيوخ: "إني ليخيل إليّ أن تدبير هذا العمل العظيم يتطلب حكمة فوق حكمة الآدميين"(45) وشبه نفسه برميولوس، ولكنه قال إن حفظ رومه أعظم من تشييدها.

وتبسم الشيوخ وكبار الموظفين ضاحكين من قوله، ولكنهم كانوا يعلمون أنه هو الذي أنجاهم، وهتف له كاتو وكاتلس ولقباه بأبي الوطن Pater Patriae. ويحدثنا هو عن نفسه بقوله إنه لما اعتزل منصبه في عام 63 ق.م قدمت له جميع الطبقات ذوات الأملاك شكرها، ولقبته بالرجل الخالد، وسارت من حوله إلى بيته. ولم يشترك صعاليك المدينة في هذه المظاهرة، ذلك أنهم لم يغفروا له اعتداءه على قوانين رومه بقتله المواطنين دون أن يتيح لهم فرصة استئناف حكم الإعدام، وأحسوا بأنه لم يحاول قط إزالة أسباب ثورة كاتلين أو تخفيف أعباء الفقر عن جمهرة الشعب، ومنعوه أن يخطب في الجمعة في آخر يوم من حكمه، وكانوا يستمعون له وهم غضاب حين أقسم أنه قد حافظ على المدينة. والحق أن الثورة لم ينقض عهدها في ذلك الوقت بل اندلعت نيرانها فيما بعد حين أصبح قيصر قنصلاً.