قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 2 ب 10
صفحة رقم : 3222
قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الثورة -> أنطونيوس -> أنطونيوس وبروتوس
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب العاشر: أنطونيوس 44-3- ق.م
الفصل الأول: أنطونيوس وبروتس
لقد كان مقتل قيصر مأساة من مآسي التاريخ الكبرى، وليس السبب في عظم هذه المأساة مقصوراً على أنها حالت بينه وبين إتمامه عملاً من أجل الأعمال السياسية والإدارية، وأدت إلى امتداد عهد الفوضى والحروب خمسة عشر عاماً أخرى. ولو كانت نتائجها مقصورة على هذا وذاك لهان الخطب، فقد عاشت الحضارة بعده، وأتم أغسطس ما بدأه قيصر، بل إنه مأساة من نوع آخر وهو أن الحزبين المتعارضين في مجلس الشيوخ كان كلاهما في أغلب الظن على حق: فالمتآمرين محقون في اعتقادهم أن قيصر كان يعتزم أن ينصب نفسه ملكاً، كما أن قيصر نفسه كان محقاً في ظنه أن الفوضى والنظام الإمبراطوري قد جعلا الملكية أمراً محتوماً. وقد انقسم الناس بين الرأيين ولا يزالون منقسمين منذ اللحظة الرهيبة التي مرت بمجلس الشيوخ، وقد استولى عليه الهلع من وقع الحادث، ثم فر أعضاؤه مذعورين مضطربين من قاعة الاجتماع. وأقبل أنطونيوس على مكان الحادث بعد وقوعه، ورأى أن الحكمة هي عين الشجاعة، فاحتمى في بيته. وخانت شيشرون فصاحته حتى في الوقت الذي حياه بروتس وخنجره يقطر دماً في يده قائلاً له مرحباً "بأبي بلده". ولما خرج المتآمرون وجدوا الشعب هائجاً في الميدان العام، وأرادوا أن يضموه إلى جانبهم بألفاظ الحرية والجمهورية، ولكن العامة الذين جن جنونهم من هول الحادث لم يعبئوا بهذه الألفاظ التي طالما استخدمت لستر المطامع والشره. ولجأ القتلة إلى البناء القائم على الكبتول ليعتصموا به خوفاً على حياتهم، وأحاطوا أنفسهم بحراسهم من المصارعين. وانضم إليهم شيشرون في آخر النهار، وأرسلوا رسلهم إلى أنطونيوس يستطلعون طلعه فأجابهم جواباً ودياً.
واحتشد في اليوم الثاني جمع غفير في السوق العامة وأرسل المتآمرين صنائعهم ليبتاعوا تأييدهم وينظموا من هذا الحشد جمعية شرعية. ثم استجمعوا شجاعتهم، ونزلوا من فوق الكبتول، وألقي بروتس على المجتمعين خطبة كان قد أعدها من قبل ليلقيها في مجلس الشيوخ. غير أن هذه الخطبة لم يكن لها أثر في السامعين، وحاول كاسيوس أن يؤثر هو فيهم ولكنهم قابلوه بصمت وفتور، فعاد المحررون إلى الكبتول، حتى إذا ما نقص عدد العامة المحتشدين تسللوا إلى بيوتهم. واعتقد أنطونيوس أنه وارث قيصر، فحصل من كلبيرنيا- وقد أذهلتها الفاجعة وكادت تذهب بعقلها- على كل ما تركه قيصر في القصر من أوراق وأموال، ثم عاد في الوقت نفسه جنود قيصر القدامى المضرسين للحضور إلى رومه. وفي اليوم السابع عشر دعا مجلس الشيوخ إلى الاجتماع مستخدماً في ذلك حقه بوصفه تربيوناً، وأدهش الأحزاب جميعها بلطفه وهدوئه، فقبل ما عرضه عليه شيشرون وأصدر عفواً عاماً، ووافق على أن يعين بروتس وكاسيوس واليين لاثنتين من الولايات، (أي أن يفرا وينجوا ويستمتعا بالسلطان)، على شرط أن يقر مجلس الشيوخ جميع الأوامر والقوانين والتعيينات التي أصدرها قيصر. وإذ كانت كثرة الشيوخ مدينة بمناصبها وأموالها إلى هذه القرارات نفسها فقد وافقت على هذا الشرط، ولما فض الاجتماع أثنى الجميع على أنطونيوس وقالوا إنه هو السياسي الذي انتزع السلم من بين أنياب الحرب. وفي مساء ذلك اليوم نفسه أولم وليمة عشاء لكاسيوس. وعاد مجلس الشيوخ إلى الانعقاد في اليوم الثامن عشر وأقر وصية قيصر، ووافق على أن يحتفل بجنازته احتفالاً عاماً، واختار أنطونيوس ليؤبنه التأبين المألوف.
وفي اليوم التاسع حصل أنطونيوس من العذارى الفستية على وصية قيصر، وكان قد أودعها عندهن، وقرأها لجماعة صغيرة في بادئ الأمر ثم لجماعة أخرى أكبر من الأولى عدداً. وقد جاء فيها أنه يوصى بجميع أملاكه الخاصة لثلاثة أحفاد أخوته (وكان ذلك مثار دهشة أنطونيوس وغضبه) وسمي واحداً منهم بالذات وهو كيوس أكتافيوس متبناه ووريثه. وجعل الدكتاتور حدائقه متنزهاً عاماً للشعب، وأوصى لكل مواطن في رومه بثلاثمائة سسترس. وسرعان ما انتشر نبأ هذا الإحسان في جميع أنحاء المدينة، ولما جئ في اليوم العشرين من الشهر بجثة قيصر إلى السوق العامة، بعد أن حنطت في بيته، لإجراء المراسم النهائية احتشد حولها جمع غفير من الناس ومن بينهم جنود قيصر القدامى ليكرموه. ويظهر أن أنطونيوس قد تحدث إلى هذا الجمع في بادئ الأمر بحيطة فلم يطلق للسانه العنان، ولكن عواطفه المكبوتة لم تلبث أن تغلبت عليه فأطلقت لسانه وأكسبت ألفاظه فصاحة أيما فصاحة. ولما رفع من النعش العاجي الثوب الممزق الملطخ بالدماء والذي مزقته الطعنات التي وجهت إلى قيصر، ثارت عواطف المجتمعين ثوراناً لم يكن في وسع أحد أن يكبح جماحه، وعلا النحيب والعويل، وأخذ كل واحد يجمع الأحطاب اللازمة لإشعال النار التي ستحرق بها الجثة. وألقى الجنود القدامى أسلحتهم فوق كومة الأحطاب لتكون قرباناً يقربونها إلى قيصر، كما ألقى الممثلون ملابسهم والموسيقيون آلات عزفهم، كما ألقيت النساء أغلى ما يمتلكن من الحلي. وانتزع بعض المتحمسين مشاعل من النار وذهبوا بها ليحرقوا بيوت المتآمرين، ولكنهم وجدوا الحراسة شديدة على هذه المباني، ووجدوا أن أصحابها قد فروا من رومه. وظلت طائفة كبيرة من الشعب بجوار الأحطاب المحترقة طوال الليل، ما لازمها اليهود ثلاثة أيام كاملة اعترافاً منهم بفضل قيصر وعطفه عليهم فيما أصدره من قوانين. ولم ينقطعوا طوال هذه الأيام الثلاثة عن ترديد أناشيدهم الجنازية. وظلت العاصمة في هذه الأيام الثلاثة تجتاحها الفتن والقلاقل حتى أمر أنطونيوس جنوده في آخر الأمر أن يعيدوا إليها النظام، وأن يلقوا بكل من لا يرتدع عن السلب والنهب من فوق صخرة تربيا Tarpeia.
وكان أنطونيوس نصف ما كان قيصر كما سيكون أغسطس نصفه الثاني؛ فقد كانت أنطونيوس قائداً عظيماً كما كان أغسطس حاكماً فذاً ممتازاً، ولكن الصفتين لم تجتمعا في واحد منهما. وقد ولد أنطونيوس في غالة 82 ق.م، وقضى الشطر الأكبر من حياته في المعسكرات كما قضى أكثرها في معاقرة الخمر، ومجالس النساء، والاستمتاع بالمرح وشهي الطعام.
وكان رغم كرم محتده وبهاء طلعته يتصف بفضائل عامة الناس. وكان قوي الجسم، حيواني الروح، طيب القلب، كريماً، شجاعاً، وفياً. وقد أساء إلى سمعته وسمعة قيصر نفسه إذ احتفظ في داره برومه بطائفة كبيرة من النساء والغلمان، وبعشيقة يونانية في محمله كلما غادر رومه(1). وكان قد ابتاع منزل بمبي في المزاد العام وأقام فيه، ثم أبى أن يؤدي ثمنه(2). وهاهو ذا يجد في أوراق قيصر- أو يسجل فيها على ما يقول بعضهم- كل ما يستفيد من وجوده- مناصب لأصدقائه، ومراسيم يصل بها إلى أغراضه، وخيراً كثيراً لنفسه، فلم يمض على مقتل قيصر أسبوعان حتى وفى بديون كانت عليه يبلغ مقدارها نحو 1.500.000 ريال أمريكي، وأصبح بعد عشية وضحاها رجلاً ثرياً. واستولى على الخمسة والعشرين مليون ريال التي كان قيصر قد أودعها في هيكل أبس Aps وعلى خمسة ملايين أخرى من أموال قيصر الخاصة. ولما رأى أن دسمس بروتس، الذي عينه قيصر قبل مقتله والياً على غالة الإيطالية، وقد تولى هذا المنصب المربح رغم اشتراكه في اغتيال قيصر، استصدر قراراً من الجمعية بتعيينه هو والياً على هذه الولاية ذات الموقع العسكري الخطير، وعوض دسمس عنها بولاية مقدونية. ثم استصدر قراراً بأن يتخلى ماركس بروتس وكاسيوس عن مقربة لدسمس، وعن سوريا لدلابلا، وأن يقنعا بقورنية وكريت. وارتاع مجلس الشيوخ من قوة أنطونيوس المتزايدة، فدعا إلى رومه كيوس أكتافيوس متبني قيصر لكي يقضي على هذه القوة. وقد صار كيوس في مستقبل الأيام أعظم الساسة الحاكمين في التاريخ الروماني. أما في عام 44 فلم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من العمر، وقد تسمى باسم الرجل الذي تبناه كما جرت بذلك العادة المألوفة وعدله بإضافة اسمه هو فصار اسمه الكامل كيوس يوليوس قيصر أكتافيانوس. وظل ذلك اسمه حتى ضم إليه بعد سبعة عشر عاماً من ذلك الوقت اسم أغسطس، وهو اللقب العظيم التي تعرفه به القرون التالية. وكانت جدته هي يوليا Julia أخت قيصر، أما جده فكان مصرفياً من أصل عامي في فلترا Velitrae من أعمال لاتيوم. وكان أبوه قد عمل إيديلا شعبياً ثم بريتوراً ثم فيما بعد والياً على مقدونية.
وقد نُشئَ الغلام (اكتافيانوس ) على البساطة الاسبرطية، وتعلم الآداب والفلسفة اليونانيتين والرمانيتين، وقضى معظم الثلاث السنين الأخيرة في قصر قيصر. ولقد كان من أسباب حزن قيصر أنه لم يكن له أبناء شرعيون، كما كان من أكبر الشواهد على حصافة رأيه أن تبنى أكتافيوس، فأخذه وهو غلام معه إلى أسبانيا في عام 45، وسره أن رأى الشاب المريض، العصبي، الضعيف الجسم، قد تحمل أخطار الحرب وشدائدها بشجاعة عظيمة. وعمل قيصر على أن يدرب الشاب على فنون الحرب والحكم. وإن لنعرف ملامحه من التماثيل الكثيرة التي أقيمت له: فهو رقيق، نحيل، جاد، حيي وحازم معاً، مستسلم وعنيد؛ مثالي اضطرته الظروف لأن يكون واقعياً، ومفكر علمته صروف الدهر أن يكون من رجال العمل. وكان أصفر الوجه، هزيل الجسم، ممعوداً يشكو سوء الهضم. ولذلك لم يكن يأكل إلا قليلاً، ولا يشرب إلا أقل؛ وعاش أطول مما عاش من حوله من الأقوياء بالحمية وتنظيم الحياة.
وجاء في أواخر مارس عام 44 عبد محرر إلى أبولونيا Appolonia من أعمال اليريا Illyria حيث كان اكتافيانوس مع جيشه يحمل إليه نبأ مقتل قيصر ووصيته.
وارتاع اكتافيانوس، الشاب المرهف الحس، لجحود الناس وكفرهم بنعم المنعم عليهم، وثار في نفسه كل ما كان كامناً فيها من حبه لأخي جدته الذي كان يعزه أعظم إعزاز، والذي كان يعمل جاهداً لإقامة صرح الدولة المحطمة. وعقد النية في صمت على أن يواصل جهود قيصر وأن ينتقم من قاتليه. ثم ركب من فوره إلى شاطئ البحر وعبره إلى برنديزيوم وأسرع إلى رومه؛ وأشار عليه أقاربه فيها أن يظل مختفياً عن الأنظار لئلا يهلكه أنطونيوس، ونصحته والدته ألا يقوم بعمل من الأعمال ولكنها ابتهجت حين سخر من هذه النصيحة. وكان كل ما أشارت به عليه أن يصبر كلما كان الصبر في مقدوره، وأن يلجأ إلى الختل بدل الحرب السافرة، وقد عمل بهذه النصحية الحكيمة إلى آخر أيامه.
وتوجه اكتافيانوس لزيارة أنطونيوس وسأله عما هو فاعل بقتلة قيصر. وهاله أن يرى أنطونيوس مشغولاً بإعداد جيش يزحف به على دسمس بروتس، لأنه أبى أن يتخلى عن بلاد غالة الجنوبية؛ وطلب إلى أنطونيوس أن يوزع ما تركه قيصر حسب وصيته، وخاصة ذلك الجزء الذي يوصي بإعطاء كل مواطن خمسة وأربعين ريالاً. غير أن أنطونيوس وجد أسباباً كثيرة تدعو إلى تأخير تنفيذ الوصية، فما كان من أكتافيان إلا أن وزع على جنود قيصر القدامى أموالاً استدانها من أصدقاء قيصر وأعد بنفسه جيشه.
وإغتاط أنطونيوس من وقاحة هذا "الولد" على حد قوله. وأعلن أن بعضهم قد حاول قتله، وأن الذي كان يريد اغتياله قد قال إن اكتافيان هو المحرض له. وأنكر اكتافيان هذه التهمة، وقال إنه برئ منها، وانتهز شيشرون فرصة هذا النزاع وأدخل في رومه أكتافيان أن أنطونيوس فظ غير مهذب يجب أن يهزم. ووافق أكتافيان على هذا الرأي، وضم فيلقيه إلى فيالق القنصلين هرتيوس Hirtius وبنسا Pansa، وزحف بها كلها شمالاً لقتال أنطونيوس. وأمد شيشرون هذه الحرب الأهلية الجديدة بطائفة من الاتهامات المقذعة ضمنها أربع عشرة "فلبة قوية" في الطعن على سياسة أنطونيوس العامة وحياته الخاصة، ألقى بعضها في مجلس الشيوخ أو في الجمعية، ونشر بقيتها للدعاوة ضد أنطونيوس على أحسن الصور التي صارت الدعاوة الحربية تنشر بها في مستقبل الأيام. ولما التقى الجيشان في موتينا Mutina (مودينا Modena) هزم أنطونيوس وفر من الميدان (44)؛ ولكن هرتيوس وبنسا قتلا في المعركة. وعاد أكتافيان إلى رومه وأصبح القائد الأوحد لفيالق مجلس الشيوخ وفيالقه هو، وأرغم المجلس وهو مؤيد بهذه القوة على أن يعينه قنصلاً، وأن يلغى العفو الذي أصدره عن المتآمرين وأن يحكم عليهم جميعاً بالإعدام. ولما تبين له أن شيشرون ومجلس الشيوخ من ألد أعدائه، وأن كل ما في الأمر أنهما يتخذانه أداة مؤقتة للقضاء على أنطونيوس لما تبين له هذا سوى النزاع القائم بينه وبين أنطونيوس، وكون منه ومن أنطونيوس ولبدس الحكومة الثلاثية الثانية. (43- 33 ق.م)، ثم زحفت جيوشهم المتحالفة على رومه واستولت عليها دون أن تلقى مقاومة، وفر كثون من الشيوخ ومن المحافظين إلى جنوبي إيطاليا والى الولايات الخارجية، واعترفت الجمعية بهذه الحكومة الثلاثية، وخولتها سلطات كاملة مدى خمسة أعوام.
ولكي يستطيع الحكام الثلاثة أداء رواتب جنودهم، وملء خزائنهم، والانتقام من قتلة قيصر، بسطوا على رومه حكماً لا يماثله في تاريخ الرومان كله حكم آخر في الإرهاب وسفك الدماء. فقد أعدوا قوائم تحتوي على أسماء من لابد من إعدامهم، وكانوا ثلاثمائة من الشيوخ، وألفين من رجال الأعمال، وعرضوا على كل حر يأتيهم برأس واحد من هؤلاء 25.000 درخمة (15.000 ريال أمريكي)، وعلى كل عبد 10.000(4). وأضحى امتلاك المال جريمة يعاقب عليها بالإعدام فكانوا يحكمون بقتل الأطفال الذين يرثون مالاً، وينفذون فيهم الحكم، وكان ينتزع من الأرامل ما يرثنه من الأموال، وقد أرغمت 14.000 امرأة على أن ينزلن للحكام الثلاثة عن الجزء الأكبر من أملاكهن، ثم استولوا آخر الأمر على الأموال المدخرة المودعة عند "العذارى الفستية". وقد عفوا عن أتكس لأنه ساعد من قبل فلفيا Fulvia زوجة أنطونيوس، ولكنه رغم اعترافه بهذا الفضل أرسل مبالغ طائلة من المال إلى بروتس وكاسيوس. وأقام الحكام الثلاثة جنودهم حراساً على كل مخارج المدينة، واختبأ المحكوم بإعدامهم في الآبار والبالوعات والحجر العليا في الدور والمداخن. ومنهم من ماتوا وهم يدافعون عن أنفسهم، ومنهم من أماتوا أنفسهم جوعاً أو شنقاً أو غرقاً، ومنهم من قفزوا من فوق الأسطح أو ألقوا أنفسهم في النار. ومن الناس من قتل خطأ، ومن غير المحكوم عليهم من انتحروا فوق أجسام من قتلوا من أقاربهم. وكان التربيون سلفيوس Salvius يعلم أنه من المقتضي بإعدامهم، فأقام وليمة وداع لأصدقائه، ودخل عليه رسل الحكام الثلاثة في أثناء الوليمة، وقطعوا رأسه وتركوا جسمه أمام المائدة، وأمروا المدعوين أن يستمروا في طعامهم وشرابهم. وانتهز العبيد هذه الفرصة للتخلص من سادتهم، ولكن كثيرين منهم قضوا نحبهم وهم يدافعون عن ملاكهم، وقد تخفى واحد منهم في زي سيدة وقتل بدلاً منه. ومات بعض الأبناء دفاعاً عن آباءهم، ونم بعضهم على آباءهم ليرثوا نصيباً من أموالهم. ومن الزوجات الزانيات أو اللاتي خانهن أزواجهن من نمي عليهم، وأنقذت زوجة كوبونيوس Coponius بعلها بالنوم مع أنطونيوس. وكانت ففيا زوجة أنطونيوس قد حاولت أن تشتري منزل جارها رفوس Rufus، فأبى ذلك عليها ثم حاول في ذلك الوقت أن يقدمه لها هبة من غير ثمن، ولكنها استطاعت أن تضع اسمه بين أسماء المحكوم بإعدامهم، فلما قطع رأسه أمرت به فدق بالمسامير على باب بيته الأمامي(5).
ووضع أنطونيوس اسم شيشرون بين الأسماء الأولى من المحكوم عليهم. وذلك لأن أنطونيوس كان زوج أرملة كلوديوس، وابن زوجة لنتولس الكتاليناري Lentulus the Catallnarian الذي قتله شيشرون في السجن، وقد ساءه بحق ما احتوته "فلبات" شيشرون من تجريح وطعن شديد. وعارض أكتافيان في هذا ولكنه لم يستمر طويلاً في معارضته، ذلك أنه لم يكن في وسعه أن ينسى تمجيده لقتلة قيصر،كما لم ينس العبارة التي قالها للمحافظين يبرر بها مغازلته لوريث قيصر وما فيها من تورية. وحاول شيشرون الفرار، ولكنه لم يتحمل دوار البحر فغادر المركب وقضى الليل في بيته في فورميا Formiae؛ وأراد أن يقضي فيه اليوم الثاني في انتظار مقتله لأن ذلك في نظره خير من البحر الهائج المضطرب، ولكن عبيده دفعوه إلى داخل هودج، وساروا به نحو السفينة، وبيناهم في طريقهم إذ أقبل عليهم جنود أنطونيوس. وأراد العبيد أن يقاوموهم ولكن شيشرون أمرهم أن يضعوا الهودج على الأرض ويستسلموا. ثم مد الرجل رأسه "وجسمه يعلوه العثير، وشعر رأسه ولحيته منفوش، ووجهه قد أضناه القلق والتعب"(7)، حتى يسهل على الجنود قطعه (42). وكانت أوامر أنطونيوس تقضي بأن تتقطع أيضاً يده اليمنى.
فقطعت وجيء بها مع رأسه غليه. وضحك أنطونيوس ضحكة الفوز، ووهب القتلة 250.000 درخمة، وأمر بتعليق الرأس واليد في السوق(8). وفي أوائل عام 42 عبر الحكام بقواتهم البحر الأدرياوي واخترقوا مقدونية إلى تراقيا حيث جمع بروتس وكاسيوس آخر الجيوش الجمهورية، واستعانا على تموينه بالمال ينتزعونه بطرق لا تماثلها في قسوتها حتى السوابق الرومانية. فقد طلبا من الولايات الشرقية للإمبراطورية ضرائب عشر سنين مقدماً، وحصلا بالفعل على تلك الضرائب. ولما أظهر أهل رودس شيئاً من المعارضة في هذه المطالب هاجم كاسيوس ثغرهم العظيم، وأمر الأهلين جميعهم بتسليم ثروتهم، وقتل كل من تردد منهم، وحمل معه عشرة ملايين ريال أمريكي. وفي قليقية أنزل جنوده في بيوت طرسوس Tarsus، ولم يبارحوها حتى أدت إليه تسعة ملايين ريال، ولم يستطع السكان أداء هذا المال حتى باعوا بالمزاد جميع أراضي البلدية، وصهروا جميع آنية الهياكل وحليها، وباعوا كل الأحرار عبيداً- فباعوا أولاً الأولاد والبنات، ثم النساء والشيوخ، وباعوا آخر الأمر الشبان. وانتحر الكثيرون من الأهلين حين علموا أنهم بيعوا. وجمع كاسيوس من بلاد اليهود أربعة ملايين ريال، وباع سكان أربع من المدن عبيداً. ولم يتحرج بروتس أيضاً عن جمع المال بالقوة، من ذلك أنه رفض سكان أكسانثوس Xanthus من أعمال ليثيا مطالبه حاصرهم حتى نفذت مؤونتهم ولم ينفذ عنادهم فانتحروا جميعاً(9). وأطال بروتس المكث في أثينا لحبه الفلسفة؛ ولكن المدينة كانت غاصة بالشبان الرومان النبلاء الذين كانوا ينادون بالحرب التي تعيدهم إلى أوطانهم. ولما أن جمع بروتس كفايته من المال طوى كتبه وانضم بجيوشه إلى كاسيوس ونزل إلى الميدان.
والتقت جيوش الطرفين المتقاتلين في فلباي في شهر سبتمبر من عام 42. وزحف جناح بروتس على جناح أكتافيان وزحزحه عن موضعه واستولى على معسكره، ولكن جيوش أنطونيوس هزمت جيوش كاسيوس هزيمة منكرة. وأمر كاسيوس حامل درعه أن يقتله ففعل. ولم يستطع أنطونيوس أن يواصل انتصاره على الفور؛ لأن المرض أقعد أكتافيان فلزم خيمته واختل نظام جيشه، فاضطر أنطونيوس إلى إعادة تنظيم الجيش كله. وبعد أن استراح بضعة أيام قاده لقتال بروتس، وأوقع بمن بقي من الجيوش الجمهورية هزيمة ولوا على أثرها الأدبار. ورأى بروتس رجاله يستسلمون فأدرك- ولعله قد سره أن يدرك- أنه خسر كل شيء، فألقى بنفسه على سيف صديق له ومات. ولما أقبل أنطونيوس على جثته غطاها بثوبه الأرجواني؛ فلقد كان هو وبروتس صديقين في يوم من الأيام.
الفصل الثاني: أنطونيوس وكليوبطرة
لقد كانت معركة فلباي آخر معركة برية للأشراف القدامى، وقد حذا الكثيرون منهم- ابن كاتو، وابن هورتنسيوس، وكونتليوس فارس، Quintilius Varue، وكونتس لبيو Quintus Labeo- حذو بروتس وكاسيوس فانتحروا. وقسم المتنصرون الإمبراطورية فيما بينهم: فأعطى ليدس أفريقيا وأخذ أكتافيان الغرب، واختار أنطونيوس مصر وبلاد اليونان والشرق. وكان أنطونيوس دائم الحاجة إلى المال، فعرض على مدائن الشرق ألا يؤاخذاها على ما أمدت به أعداءه من المال إذا هي أمدته بمثله- أي بعشرة أمثال الضريبة السنوية في مدى عام. وعاد قديم مرحه وبشاشته إليه حين ظن أن النصر قد أعاد إليه أمنه وطمأنينته، فانقص مطالبه من الإفزيين حين أقبلت عليه نساؤهم في ثياب كاهنات باخوس يحيينه ويسمينه الإله ديونيسس؛ ولكنه وهب طاهيه بيت موظف مجنيزي Magnesian كبير مكافأة له على عشاء أعده له. وعقد مجلساً من أهل المدن الأيونية في إفسوس وأقر فيه حدود تلك الولايات، وحسم ما بينها من خلاف بحكمة لم ير معها أغسطس بعد عشرة أعوام من ذلك الوقت ما يدعو إلى تعديل ما اتخذ في هذا المجلس من قرارات. وعفا عن كل من حاربه إلا الذين اشتركوا في مقتل قيصر. ومد يد المعونة للمدن التي لاقت العذاب على يد كاسيوس وبروتس، ورفع عنها الضرائب الرومانية، وحرر كثيرين ممن باعهم المتآمرون أرقاء، كما حرر مدن سوريا من الطغاة الذين قضوا على حكوماتها الدمقراطية(10).
وبينا كان أنطونيوس يظهر هذه الكياسة المنبعثة من طيبة قلبه وبساطة خلقه؛ استسلم للشهوات الجنسية استسلاماً أفقده احترام رعاياه لسلطته. فقد أحاط نفسه بالراقصات والموسيقيات والعشيقات، والمهرجين والصخابين، واتخذ له زوجات ومحظيات كلما لاحت له امرأة وأعجبته. وكان قد أرسل الرسل إلى كليوبطرة يدعوها للمثول بين يديه في طرسوس لتجيب عما اتهمت به من مساعدتها كاسيوس على جمع المال والجنود. وجاءت كليوبطرة، ولكنها جاءت في الوقت الذي اختارته وعلى الطريقة التي اختارتها. فبينما كان أنطونيوس جالساً على عرش في السوق العامة، ينتظر منها أن تحضر وتدفع عن نفسها ما اتهمت به، ثم يقضي لها أو عليها- ركبت هي نهر سندس Cyndus في قارب ذي أشرعة أرجوانية، وسكان مذهب، ومجاديف من فضة، تضرب الماء على أنغام الناي والمزمار والقيثار. وكانت وصيفاتها هن بحارة القارب، ولكن في زي حور البحار وربات الجمال. أما هي فقد تزينت بزي الزهرة (فينوس) ورقدت تحت سرادق من قماش موشي بالذهب.
ولما انتشر بين أهل طرسوس هذا المنظر الفتان أقبلوا على شاطئ النهر زرافات ووحداناً، وتركوا أنطونيوس وحده جالساً على عرشه. ودعته كيلوبطرة إلى العشاء معها في قاربها، فأقبل عليها ومعه حاشيته الرهيبة، فأولمت وليمة فاخرة، وقدمت لهم فيها أشهى الطعام والشراب، وأفسدت القواد بما قدمت لهم من الهدايا والابتسامات. وكان أنطونيوس قد أوشك أن يقع في حبها وهي لا تزال فتاة حين شاهدها في الإسكندرية، فلما أبصرها في تلك اللحظة وهي في التاسعة والعشرين من عمرها رآها قد اكتملت مفاتنها؛ وبدأ حديثه معها يلومها على ما فعلت؛ واختتمه بأن أهدى إليها فينيقيا، وسوريا الوسطى، وقبرص، وأجزاء من قليقية وبلاد العرب واليهود(11). وكافأته هي بما يشتهي، ودعته إلى الإسكندرية، فأجاب الدعوة، وقضى في تلك المدينة شتاء بعيداً عن الهموم والأكدار (41- 40) يعب حب الملكة عبا، ويستمع إلى المحاضرات في المتحف، ناسياً أن له إمبراطورية في حاجة إلى من يحكمها. أما هي فلم تكن أسيرة حبه. بل كانت تعرف أن مصر الغنية الضعيفة لن تلبث أن تجتذب إليها رومه الشرهة القوية، وأن السبيل الوحيد لنجاة بلادها وعرشها هي أن تتزوج بسيد رومه. ولقد حاولت من قبل أن تفعل هذا بقيصر، وهي تحاول الآن أن تفعله بأنطونيوس، ولم يكن له هو سياسة غير سياسة قيصر. فمال إلى تحقيق الحلم القديم، وهو توحيد رومه ومصر، ونقل عاصمته إلى بلاد الشرق الفتان الجميل. وبينما كان أنطونيوس يلهو ويلعب في الإسكندرية، كانت زوجته فلفيا وأخوها لوسيوس يأتمران بأكتافيان ليسقطاه وينتزعا سلطانه على رومه. والحق أن أكتافيان كان أبعد ما يكون عن السعادة في ذلك البلد: فقد أضحى مجلس الشيوخ بؤرة للمغامرين والقواد، ودب التذمر بين العمال المتعطلين، واختل نظام الشعب كل الاختلال. وكان سكستس بمبي يحول بين المدينة وبين استيراد ما يلزمها من الطعام، ووقف دولاب الأعمال التجارية لما ساد البلاد من خوف، وقضى النهب والضرائب الفادحة على الثروات فلم يكد يبقى منها شيء، وأخذ الكثيرون من الناس يعيشون عيشة الاستهتار والفساد الجنسي الطليق، محتجين بأن الغد قد يأتي بإلغاء العملة، أو بإنتهاب جديد، أو بالموت.
وكان أكتافيان نفسه من أبعد الناس طهارة الذيل في ذلك الوقت، وكأنما أرادت فلفيا وأراد لوسيوس أن يبلغا بالفوضى غايتها القصوى فجيشا جيشاً ودعوا إيطاليا إلى القضاء على أكتافيان، فحاصر ماركس أجربا Marcus Agrippa قائد جيوش أكتافيان لوسيوس في بروزيا Perusis حتى اضطره إلى الخروج منها بعد نفاد مؤونته (مارس عام 40). وماتت فلفيا من شدة مرضها. وعدم تحقيق مطامعها، وحزنها على إهمال أنطونيوس لها. وعفا أكتافيان عن لوسيوس لعله بذلك يحتفظ بالسلام بينه وبين أنطونيوس، ولكن أنطونيوس عبر البحر وحاصر جيوش أكتافيان في برنديزيوم. وكان الجيشان أكثر حكمة من قائديهما فامتنع كل منهما عن قتال الآخر، واضطراهما إلى أن يسويا ما بينهما من نزاع تسوية سلمية (40). وتعهد أنطونيوس أن يكون حسن السلوك، فزوجه أكتافيان أخته اللطيفة الطاهرة، وسر كل إنسان بهذه النتيجة إلى حين، وتنبأ فرجيل- وكان وقتئذ يكتب نشيده الرابع- بعودة حكم "زحل" العادل المثالي. وفي عام 38 وقع أكتافيان في حب ليفيا Livia زوجة تيبيريوس كلوديوس نيرون Tiberius Cladius Nero وكانت وقتئذ حاملاً، فطلق من أجلها زوجته الأولى اسكريبونيا Scriponie. وأقنع نيرون بالتخلص من ليفيا، وتزوج بها، واستطاع بفضل إصغائه إلى نصائحها المقنعة، وصلاتها بأشراف البلاد- لأنها من سلالة أسرة كلوديوس النبيلة- استطاع بذلك أن يحسن صلاته بطبقة الملاك، فخفض الضرائب، وأعاد ثلاثين ألفاً من العبيد الآبقين إلى سادتهم. وشرع يعمل في صبر وأناة لإعادة النظام إلى إيطاليا. وأمكنه بمعونة أجربا وبمائة وعشرين سفينة أمده بها أنطونيوس أن يحطم أسطول سكتس بمبي، ويستورد الطعام إلى رومه، ويقضي على مقاومة البمبيين (36). وحمد له مجلس الشيوخ عمله واختاره تربيوناً طول حياته.
وذهب أنطونيوس إلى أثينا مع أكتافيا بعد أن زُفت إليه باحتفال رسمي في رومه. وفي ذلك البلد استمتع أنطونيوس إلى حين بتلك المتعة الجديدة متعة الحياة مع امرأة صالحة، وتخلى عن مشاغل السياسة والحرب، وأخذ يستمع إلى محاضرات الفلسفة وأكتافيا إلى جانبه. على أنه كان في هذه الأثناء يدرس الخطط التي وضعها قيصر لفتح بارثيا. وكان لبينس Labienus ابن قائد من قواد قيصر قد دخل في خدمة ملك بارثيا، وقاد جيوشه من نصر إلى نصر في قليقية وسوريا- وهما ولايتان من أغنى ولايات الدولة الرومانية وأعودها عليها بالمال (40). وألفى أنطونيوس نفسه في حاجة إلى الجند لمواجهة هذا التهديد الخطير، كما وجد في حاجة إلى المال لأداء مرتبات الجنود، والمال عند كليوبطرة موفور، ومل فجأة حياة الفضيلة والسلم، فأعاد أكتافيا إلى رومه وطلب إلى كليوبطرة أن تقابله في أنطاكية. وجاءت إليه كليوبطرة بعدد قليل من الجنود، ولكنها عارضت في مشروعاته الضخمة الواسعة، ويبدو أنها لم تعطه من مالها الكثير إلا النزر اليسير. وزحف أنطونيوس على بارثيا بمائة ألف جندي (36)، وحاول عبثاً أن يستولي على قلاعها، وفقد نحو نصف رجاله في تقهقر يدل على منتهى الجرأة والبطولة مدى ثلاثمائة ميل في بلاد معادية له. وضم أرمينيا إلى الإمبراطورية الرومانية في أثناء تقهقره، وأقام لنفسه موكب نصر، وصدم مشاعر الإيطاليين صدمة عنيفة بإقامة هذا الموكب في الإسكندرية ثم أرسل رسالة طلاق إلى أكتافيا (32)، وتزوج كليوبطرة، وثبتها هي وقيصريون حاكمين معاً على مصر وقبرص، وخلع الولايات الشرقية من الإمبراطورية على ابنه وابنته من كليوبطرة. وإذ كان يعرف أنه لابد أن يسوي الأمور بينه وبين أكتافيا في القريب العاجل أطلق لنفسه العنان في اللهو والترف. وشجعته كليوبطرة على أن يغامر آخر مغامرة في سبيل السلطة العليا، وساعدته على حشد جيش وأسطول، وأقسمت له بقسمها المحبب إليها أنها واثقة من النصر وثوقها بأنها ستتولى الحكم في الكبتول يوماً من الأيام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: أنطونيوس وأكتافيان
صبرت أكتافيا على هجرها صبر الكرام، وعاشت ساكنة هادئة في بيت أنطونيوس في رومه، تربي أطفاله الذين رزقهم من فلفيا وابنتيها منه. وكان منظرها المحزن أمام أكتافيان في كل يوم، وصمتها الفصيح، يثيران كوامن غضبه، ويؤكدان له أنه هو إيطاليا جميعاً مقضي عليهما إذا نجح أنطونيوس في خططه، فاخذ يعمل على أن تدرك إيطاليا حقيقة الموقف، تدرك أن انطونيوس قد تزوج ملكة مصر، وأنه وهبها هي وأطفالها غير الشرعين أكثر ولايات الإمبراطورية خراجاً، وأنه سيضع رومه وإيطاليا بأجمعها في المقام الثاني بعد مصر. ولما بعث أنطونيوس برسالة إلى مجلس الشيوخ- وكان قد تجاهله سنين طوالاً- يقترح فيها أن يعتزل هو وأكتافيان الحياة العامة، وأن تعود جميع النظم الجمهورية إلى سابق عهدها، تخلص أكتافيان من هذا الموقف الحرج بأن قرأ على المجلس ما ادعى أنه وصية لأنطونيوس انتزعها هو قسراً من العذارى الفستية، وفيها يوصي أنطونيوس بأن يكون ولداه من كليوبطرة وريثيه دون غيرهما، ويأمر بان يدفن إلى جانب الملكة في الإسكندرية(14). وكانت الفقرة الأخيرة من هذه الوصية حاسمة في نظر المجلس بقدر ما كان يجب أن تكون مثيرة للارتياب في صحتها. ذلك أنها لم تثر في نظر المجلس الشك في أن وصية تودع في رومه تشترط هذه الشروط، بل أقنعته وأقنعت إيطاليا أن كليوبطرة تستخدم أنطونيوس في خططها التي تبغي بها الاستيلاء على الإمبراطورية. ولجأ أكتافيان إلى الأساليب الخداعة التي هي من أخص خصائصه، فأعلن الحرب (32) على كليوبطرة لا على أنطونيوس، ليجعلها بذلك كفاحاً مقدساً في سبيل استقلال إيطاليا.
وأبحر أسطول أنطونيوس وكليوبطرة في شهر سبتمبر من عام 32 إلى البحر الأيوني. وكان مؤلفاً من خمسمائة سفينة حربية، ولم يكن أسطول بهذه القدرة قد ظهر على متن البحر من قبل. وكان يؤيده جيش مؤلف من ثلاثمائة ألف من المشاة، واثني عشر ألفاً من الفرسان، وأمدهما بمعظمه أمراء الشرق وملوكه يرجون من وراء ذلك أن تكون هذه الحرب وسيلة للتحرر من نير رومه. وعبر أكتافيان البحر الأدرياوي بأربعمائة سفينة وثمانين ألف جندي من المشاة واثني عشر ألفاً من الفرسان. وظلت القوات المتعادية عاماً أو نحو عام تستعد للمعركة الفاصلة وتضع خططها؛ فلما كان اليوم الثاني من شهر سبتمبر عام 31 التحم الجيشان والأسطولان عند أكتيوم في الخليج الأمبراسي في معركة من المعارك الحاسمة في التاريخ. وبرهن أجربا على أنه أبرع من أعدائه في وضع الخطط، وكانت سفينه الخفيفة أسهل وأخف حركة من سفائن أنطونيوس الضخمة ذات الأبراج العالية. وقد أحرقت النار هذه السفن إذ ألقى عليها بحارة أكتافيان مشاعل متقدة. ويصف ديوكاسيوس Dio Cassius ما حدث وقتئذ بقوله:
"وأهلك الدخان بعض البحارة قبل أن تصلهم النيران، ومنهم من نضج لحمهم في دروعهم التي احمرت من شدة اللهب، ومنهم من شوتهم النار شياً في سفنهم كما تشوي اللحوم في الأفران. وألقى الكثيرون منهم أنفسهم في البحر، ومن هؤلاء من إلتهمتهم الحيتان، ومنهم من قتلوا رمياً بالسهام، ومنهم من قضوا نحبهم غرقاً. ولم يمت من هذا الجيش كله ميتة يستطيعون تحملها إلا من قتل بعضهم بعضاً(15). ورأى أنطونيوس أن الدائرة قد دارت عليه، وأشار إلى كليوبطرة أن تنفذ خطة الانسحاب التي اتفقا عليها من قبل. فوجهت ما بقي من أسطولها نحو الجنوب، وانتظرت قدوم أنطونيوس. ولما عجز من إنقاذ السفينة المعقود لواؤها له، غادرها وركب قارباً أقله إلى كليوبطرة، وجلس هو وحده في مقدم السفينة أثناء عودتهما إلى الإسكندرية ورأسه بين يديه، فقد أدرك أنه خسر كل شيء حتى الشرف. وسار أكتافيان إلى أثينا ومنها إلى إيطاليا ليخمد فتنة ثارت بين جنوده الذين أخذوا يطالبون بأن يباح لهم نهب مصر، ثم رجع إلى آسيا ليعاقب بعض من انضموا من أهلها إلى أنطونيوس، وليجمع أموالاً جديدة يسعف بها المدن التي طال عليها عهد الشقاء والحرمان. ثم اتجه بعدئذ نحو الإسكندرية (30). وكان أنطونيوس قد ترك كليوبطرة وأقام في جزيرة قرب فاروس، وأرسل منها رسلاً يطلب الصلح، ولكن أكتافيان لم يعبأ بهم، وأرسلت كليوبطرة إلى أكتافيان على غير علم من أنطونيوس صولجاناً وتاجاً وعرشاً من الذهب دليلاً على خضوعها له. وكان جوابه لها- على حد قول ديو- أنه يتركها ويترك مصر دون أن يمسها بأذى إذا قتلت أنطونيوس(16).
وكتب الحاكم المهزوم إلى أكتافيان مرة أخرى يذكره بصداقتهما الماضية وبكل المرح الطائش الذي اشتركا فيه أيام الصبا، وقال إنه يرضى بأن يقتل نفسه إذا عفا هو عن كليوبطرة، ولم يرد عليه أكتافيان في هذه المرة أيضاً. وجمعت كليوبطرة كل ما استطاعت جمعه من أموال مصر في أحد أبراج القصر ثم أبلغت أكتافيان أنها ستتلف هذه الأموال كلها وتقتل نفسها إذا لم يعقد معها صلحاً شريفاً. وسار أنطونيوس على رأس القوة الصغيرة التي كانت باقية لديه ليحارب عدوه في المعركة الأخيرة، واستطاع بشجاعة اليائس أن يكسب نصراً مؤقتاً، ولكنه أبصر في اليوم الثاني جنود كليوبطرة المرتزقة تستلم للعدو، وتراءى إليه أن كليوبطرة قد ماتت، فطعن نفسه طعنة قضت على حياته. ولما علم أن الخبر مكذوب طلب إلى أتباعه أن ينقلوه إلى البرج الذي آوت الملكة ووصيفاتها إلى حُجَره العليا وأغلقت عليهن الأبواب، فأدخل إليها من النافذة ومات بين ذراعيها. وسمح لها أكتافيان أن تخرج من البرج وتدفن حبيبها، ثم أجاز لها المثول بين يديه. ولم يتأثر بما كان باقياً من المفاتن في امرأة محطمة مهزومة في التاسعة والثلاثين من عمرها، وعرض عليها شروطاً للصلح بدت معها الحياة عديمة القيمة لمن كانت من قبل ملكة. ولم يخالجها شك في أنه يعتزم أخذها أسيرة إلى رومه لتزين موكب نصره، فما كان منها إلا أن لبست ثيابها الملكية، ووضعت صلا على صدرها، وماتت. وحذت حذوها وصيفتاها شارميون Charmion وإيريس Iris فانتحرتا(17).
وسمح أكتافيان أن تدفن إلى جوار أنطونيوس، وقتل هو وقيصريون وأكبر أبناء أنطونيوس من فلفيا أما ابنا أنطونيوس والملكة فقد أبقى على حياتهما وأرسلهما إلى إيطاليا حيث ربتهما أكتافيا وعنيت بهما كما لو كان ابنيها. ووجد الظافر الخزانة المصرية سليمة وفيها من المال الموفور ما كان يحلم به. ونجت مصر من المذلة التي كادت تلحق بها لو أنها سميت ولاية رومانية. ذلك أن كل ما فعله أكتافيان أن جلس على عرش البطالمة وورث أملاكهم، وترك في مصر حاكماً يدير شؤون البلاد باسمه. وهكذا غلب وريث قيصر وريثة الإسكندر، وضم مُلك الإسكندر إلى مُلكه، وانتصر الغرب على الشرق مرة أخرى، كما انتصر من قبل في مراثون ومجنيزيا، وإنتهى صراع الجبابرة، وكان الفوز فيه لرجل عليل. وقُضِيَ على الثورة في أكتيوم، كما قضي على الجمهورية في فرسالس وأتمت رومه الدورة المشتومة التي يعرفها أفلاطون ونعرفها نحن: ملكية، فأرستقراطية، فاستغلال ألجركي، فديمقراطية، ففوضى ثورية، فدكتاتورية. وانتهى مرة أخرى، في جزر التاريخ ومده، عهد من عهود الحرية، وبدأ عهد من عهود النظام.