قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 1 ب 5

من معرفة المصادر

قصة الحضارة ول ديورانت



قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الجمهورية -> فتح بلاد اليونان -> الاستيلاء على بلاد اليونان


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الخامس: فتح بلاد اليونان 201-146 ق.م

الفصل الأول: الاستيلاء على بلاد اليونان

لما تحالف فليب ملك مقدونيا مع هنيبال على رومه (214)، كان يأمل أن تسير في ركابه بلاد اليونان كلها لإزهاق روح ذلك الجبار الناشئ في الغرب؛ ولكن الشائعات ما لبثت أن انتشرت تقول إنه كان يعتزم إذا ما انتصرت قرطاجنة أن يفتح أرض اليونان كلها بمعونة حلفائه القرطاجنيين. ومن أجل ذلك وقعت العصبة الإيتوليه Aetolian ميثاقاً تعهدت فيه أن تساعد رومه في حربها ضد فليب؛ واستطاع مجلس الشيوخ بفطنته أن يستفيد من هذا الخذلان فيقنع فليب بعقد صلح منفرد مع رومه (205). وما كاد الرومان ينتصرون في معركة زاما حتى أخذ مجلس الشيوخ- وهو الذي لم ينس قط إساءة وجهت إلى بلاده- يكيد لمقدونية ويستعد للثأر منها. ذلك أن هذا المجلس كان يشعر بأن رومه لا تستطيع أن تأمن على نفسها ما دام من ورائها تلك القوة العظيمة التي لا يفصلها عنها إلا بحر ضيق. ولما أن عرض مجلس الشيوخ اقتراحاً بإعلان الحرب اعترضت الجمعية على هذا الاقتراح وقام أحد التربيونين يتهم الأشراف بأنهم يريدون أن يحولوا أنظار الشعب عما في البلاد من فساد(1)؛ ولكن المعارضين في الحرب سرعان ما أخمدت أصواتهم واتهموا بخور العزيمة وضعف الوطنية؛ وما وافى عام 200 ق.م حتى أبحر ت. كونكتوس فلامينوس T. quintus Flaminus إلى مقدونية.

وكان فلامينوس فتى في الثلاثين من عمره، وكان من أفراد تلك الدائرة الحرة المعينة بصبغ البلاد بالصبغة الهلينية، والتي كانت تتجمع في رومه حول آل سبيو. والتقى بفليب عند سينوسفلى Cynoscephalae بعد عدة حركات عسكرية ماهرة، وهزمه هزيمة منكرة (197). ثم أدهش جميع أمم البحر الأبيض المتوسط، ولعله أدهش روما نفسها أيضاً، بأن أعاد فليب، بعد أن عاقبه على فعلته، إلى عرشه المفلس الهزيل، وعرض على بلاد اليونان كلها أن يعيد إليها حريتها. واحتجت العصبة الاستعمارية من أعضاء مجلس الشيوخ ولكن الأحرار تغلبوا إلى وقت ما؛ وأعلن رسول من قبل فلامينوس في عام 169 إلى حشد كبير اجتمع في الألعاب التي كانت قائمة في البرزخ اليوناني أن بلاد اليونان ستحرر من سيطرة روما ومقدونية، وستعفى من أداء الجزية، وأن الحامية الرومانية نفسها ستسحب منها. ويقول أفلوطرخس إن الجمهور المحتشد هتف هتافاً عالياً بلغ من شدته أن ماتت الغربان التي كانت تطير فوق الملعب وهوت على الأرض(2). ولما أظهر العالم المتشكك ريبته في نيات القائد الروماني، بدد شكوكه بسحب جيشه إلى إيطاليا، وكان هذا العمل صفحة ناصعة البياض في تأريخ الحروب.

ولكن الحرب تستتبع السلم على الدوام، فقد استاء الحلف الإبتولي من تحرير المدن اليونانية التي كانت خاضعة له، وطلب إلى أنتيوخوس الثالث Antiochus III أن يحرر بلاد اليونان من حريتها. واغتر أنتيوخوس بما حازه من نصر رخيص في بعض المعارك التي خاض غمارها في الشرق، فسولت له نفسه أن يبسط سلطانه على غرب آسيا بأجمعه. وخشيت برجموم عاقبة بغيه، فلجأت إلى روما تستعين بها عليه، وأرسل مجلس الشيوخ سبيو الأفريقي وأخاه لوسيوس Lucius مع أول جيش روماني تطأ أقدامه أرض آسيا. والتحم الجيشان عند مجنيزيا Magnesia (189) وانتصر الرومان نصراً كان بداية الفتوح التي شملت بلاد الشرق ذي الصبغة اليونانية. وزحفت الجيوش الرومانية نحو الشمال وردوا الغالبين إلى جلاشيا Jalatia (الأناضول) وكانون من قبل يهددون برجموم وحمد لهم سكان الجزائر الأيونية حسن صنيعهم هذا.

لكن اليونان في أوربا لم يعجبهم هذا العمل. لقد أضحت الجيوش الرومانية تحيط ببلاد اليونان من الشرق والغرب، وإن كانت لم تطأ بعد أرضها، ولقد حررت روما اليونان من عدوهم ولكنها اشترطت أن يضعوا حداً لحرب الطبقات وللحروب الخارجية. غير أن حياة الحرية بغير حرب كانت حياة جديدة شاقة على دول المدن التي تتكون منها هلاس، وكانت الطبقات العليا تتق إلى فرض سلطانها السياسي على المدن المجاورة لبلادها، كما أن الطبقات الفقيرة أخذت تتهم روما بأنها أينما حلت تعين الأغنياء إلى الفقراء. وكانت نتيجة هذه العوامل مجتمعة أن عقد برسيوس Perseus بن فليب الخامس وخليفته على عرش مقدونية حلفاً مع سلوقس الرابع Seleucus IV ومع أهل جزيرة رودس، وأهاب باليونان في عام 171 أن يثوروا معه على روما، ولكن لوسيوس إيميلوس بولس ابن القنصل الروماني الذي قتل في معركة كاني هزم برسيوس في بدنا Pudna بعد ثلاث سنين من ذلك العام، وخرب سبعين مدينة مقدونية، وأسر برسيوس نفسه وسار به مصفداً يزين موكب نصره في شوارع روما - وعوقبت رودس بتحرير كل المدن الآسيوية التي كانت تؤدي إليها الخراج، وبإنشاء ميناء منافس لها في ديلوس. وقبض على ألف من زعماء اليونان ومنهم المؤرخ بولبيوس Polybius واتخذوا رهائن في إيطاليا، وظلوا في النفي ستة عشر عاماً مات منهم في خلالها سبعمائة .

وسارت العلاقة بين اليونان والرومان خلال العشرة الأعوام التالية سيراً حثيثاً نحو العداوة السافرة. ذلك أن المدن والأحزاب والطبقات المتنافسة في بلاد اليونان لجأت إلى مجلس الشيوخ في روما تطلب إليه العون، وهيأت لروما بطلبها هذا سبيلاً للتدخل انتهى بأن أضحت بلاد اليونان خاضعةً خضوعاً فعلياً إلى روما وإن ظلت بالاسم حرة مستقلة. ولم يستطع أشياع سبيو في مجلس الشيوخ أن يصمدوا أمام الواقعيين الذين كانوا يشعرون أن النظام والسلام لا يستتبان في بلاد اليونان إلا إذا خضعت خضوعاً كاملاً لحكم الرومان. وبينا كان النزاع قائماً بين روما من جهة وقرطاجنة من جهة أخرى خرجت مدائن الحلف الآخر على روما وثارت مطالبة بحريتها. وتزعم الحركة زعماء الطبقات الفقيرة، فحرروا العبيد وسلحوهم، وأجلوا الوفاء بالديون، وأشعلوا مع الحرب نار الثورة في البلاد. ولمام دخل الرومان يقودهم موميوس Mummius بلاد اليونان وجدوا أهلها منقسمين على أنفسهم، وكان من السهل عليهم أن يهزموا الجيوش غير المدربة. وحرق موميوس كورنثة Corinth، وذبح رجالها وباع نساءها وأطفالها بيع الرقيق، ولم يكد يترك فيها شيئاً من الثروة المنقولة أو الآثار الفنية بل نقلها كلها تقريباً إلى رومه. وأصبحت مقدونية وبلاد اليونان من ذلك الحين ولاية تابعة لرومه بحكمها حاكم روماني، وكانت أثينا وإسبارطة هما المدينتين الوحيدتين اللتين سمحت لهما رومه بأن تحتفظا بشرائعهما. واختفت اليونان من تاريخ العالم السياسي مدى ألفي عام.


الفصل الثاني: تبدل أحوال رومة

ونمت الإمبراطورية الرومانية نمواً تدريجياً، ولم يكن معظم هذا النماء نتيجة خطة موضوعة عن قصد وتدبير، بل كان الدافع إليه ضغط الظروف وترتجع الحدود تراجعاً يتطلبه سلامة البلاد. فقد أخضعت الفيالق الرومانية مرة أخرى بلاد غالة الجنوبية في معركتي كرمونا Cremona (200) وموتينا (193)، ودفعت حدود إيطاليا الشمالية حتى أوصلتها إلى جبال الألب. كذلك كان لابد لرومه أن تحتفظ بسيطرتها على أسبانيا بعد أن استعادتها من قرطاجنة كيلا تعود هذه إلى الاستيلاء عليها، هذا إلى ما في تلك البلاد من ثروة معدنية عظيمة تشمل الحديد والفضة والذهب. وقد فرض عليها مجلس الشيوخ جزية سنوية باهظة من المعادن الغفل والنقود، وكان حكامها الرومان يعوضون أنفسهم تعويضاً سخياً عن السنة التي يقضونها فيها بعيدين عن موطنهم. وحسبنا أن نذكر دليلاً على هذا أن كونتس منوسيوس Quintus Minucius، لما عاد إلى رومه بعد فترة قصيرة قضاها قنصلاً في أسبانيا، جاء إليها بأربعة وثلاثين ألفاً وثمانمائة رطل وخمسة وثلاثين ألف دينار من الفضة؛ وكان الأسبان يجندون في الجيش الروماني فكان منهم أربعون ألفاً في القوة التي استولى بها سبيو إيميليانوس Scipio Aemilianus على نومانتيا Numantia الأسبانية. ولما ثارت على الحكم الروماني ثورة عنيفة في عام 195 ق.م أخضعها ماركس كاتو Marcus Cato ولكنه جرى في إخضاعها على سنة الرومان الأفاضل الذين كان جيلهم آخذاً في الانقراض، فكان عادلاً رحيماً. ووفق تيبيريوس سمبرونيوس جراكس Tiberius Sempronius Gracchus (179) توفيقاً مشوباً بالعطف والرأفة بين حكمه وبين أخلاق الأهلين وحضارتهم، واتخذ له أصدقاء من زعماء القبائل، ووزع الأراضي على الفقراء. ولكن واحداً من خلفائه يدعى لوسيوس لوكس Lucius Lucullus (151) أخل بشروط المعاهدات التي عقدها جراكس وهاجم من غير سبب كل قبيلة يستطيع أن يجد عندها ما لا يغتصبه منها، وقتل أو استبعد آلافاً من الأسبان دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن حجة يبرر بها هذا الاعتداء. واتبع هذه السنة نفسها سلبسيوس جلبا Sulpicius Galba (150) فاستقدم إلى معسكره سبعة آلاف من الأهلين بعد أن عقد معهم معاهدة يعدهم فيها بأنه سيوزع عليهم بعض الأراضي؛ فلما جاءوا أمر أعوانه بأن يحيطوا بهم ثم ذبحهم أو استرقهم. وفي عام 154 شنت قبائل لوزتانيا Lusitania (البرتغال) على رومه حرباً دامت سبع سنين. وظهر بين هذه القبائل زعيم قدير يدعى فرياثوس Viriathus قوي البنية، فارع الطول، شجاعاً، صبوراً، شهماً، نبيلاً. وظل ثماني سنين يكيل الضربات إلى كل جيش روماني يرسل لقتاله ويوقع به الهزيمة حتى ابتاع الرومان آخر الأمر من يقتله غيلة. وصبر الكتلتبريان Celtibrians الثائرون أهل أسبانيا الوسطى على الحصار في نومانتيا خمسة عشر شهراً، لا يتناولون من الطعام إلا جثث موتاهم، حتى أرغمهم سبيو إيمليلنوس في عام 133 على التسليم. ويمكن القول بوجه عام إن السياسة التي سارت عليها الجمهورية الرومانية في أسبانيا قد بلغت من الوحشية والغدر حداً جعل ضررها برومه أكثر من فائدتها لها. وفي هذا يقول ممسن Mommsen المؤرخ الألماني "إن التاريخ كله لم يشهد حرباً تضارع هذه الحرب الأسبانية فيما انطوت عليه من ضروب الغدر والقسوة والجشع(4)".

وكانت الثروة المنتهبة من الولايات هي التي أمدت رومه بالمال الذي تتطلبه حياة التهتك والفساد والأنانية التي أشعلت نار الثورة في البلاد، وقضت آخر الأمر على الجمهورية. ذلك أن الغرامات الحربية التي فرضتها رومه على قرطاجنة وسوريا، والعبيد الذين سيقوا إليها من جميع ميادين النصر، والمعادن الثمينة التي استولت عليها بعد فتح بلاد الغالة الجنوبية وأسبانيا، والأربعمائة ألف ألف سترس (وهي تساوي ستين مليون ريال أمريكي) التي انتزعتها من أنتيوخوس، وبرسيوس، وال 4503 رطل من الذهب، وال 220.000 رطل من الفضة التي اغتصبها مانيلوس فلسو Manlius Vulso في حروبه الأسيوية، هذه كلها وغيرها من أسباب الثراء الفجائي الذي ساقته إليها المقادير بدلت طبقات الملاك في رومه في مدى نصف قرن من الزمان (202- 146 ق.م) من رجال ذوي موارد وسطى مكتسبة إلى أشخاص مترفين يستمتعون بثراء ونعيم لم يعرفهما قبلهم إلا الملوك. وكان الجند يعودون من هذه الغارات يجر الحقائب بالمال والأسلاب. ولما أخذت النقود يتضاعف مقدارها في رومه أسرع من المباني فإن أصحاب الأملاك العقارية تضاعفت ثروتهم أضعاف دون أن يحركوا في سبيل ذلك عضلة أو عصباً. واضمحلت الصناعة وراجت التجارة، ولم تكن رومه في حاجة إلى إنتاج السلع، فقد كانت تأخذ العالم لتؤدي منها أثمان بضائعه. وازدادت الأعمال العامة زيادة لا عهد للرومان بها، وأثرى منها المكارسون الذين كانوا يعيشون من العقود التي تبرمها الحكومة، وزاد عدد أصحاب المصارف المالية وأثروا. وكانوا يصرفون فوائد عن الودائع، ويقبضون التحاويل المالية (praescriptions)، ويخصمون السفاتج لعملائهم، ويقرضون المال ويقترضونه، ويستثمرون ما يتجمع لديهم من الأموال أو يديرون المشروعات المالية؛ وأثروا من الربا الفاحش الذي كانوا ينتزعونه بلا رحمة حتى أصبح القاتل (sector) والمرابي يعبر عنهما بلفظ واحد(7). وهكذا أخذت رومه تخطو خطوات واسعة في أن تكون المركز المالي والسياسي- لا المركز الصناعي والتجاري- للعالم الذي يسكنه الجنس الأبيض.

وبهذه الوسائل وأمثالها انتقل الأشراف ومن يلونهم من رجال الطبقة الوسطى بخطى واسعة من البساطة الرواقية إلى التنعم والترف الطليق، وبلغ هذا التبدل أقصى مداه أو كاد في أيام كاتو (234- 149)؛ فاتسعت البيوت، وتناقصت الأسر، وتسابق الناس في ثأثيث دورهم بأفخم الأثاث وأغلاه ثمناً؛ فأخذوا يشترون الطنافس البابلية بأغلى الأثمان، ويبتاعون الأسرة المطعمة بالعاج أو الفضة أو الذهب؛ وكانت الأحجار والمعادن الثمينة تتلألأ على النضد والكراسي وأجسام النساء، وسروج الخيل. ولما قل المجهود الجسمي وزاد الثراء استبدل الناس بغذائهم القديم البسيط وجبات ثقيلة طويلة من لحوم الحيوان والطير وغيرهما من ألوان الطعام الشهي والتوابل والمشهيات، وأصبحت الأطعمة النادرة المستوردة من خارج البلاد لا تخلو منها موائد ذوي المكانة في المجتمع ومن يدعون أن لهم فيه مكانة. وحسبنا شاهداً على هذا الإسراف أن أحد كبار الموظفين قد ابتاع حيوانات بحرية في وجبة واحدة بألف سترس، واستورد آخر "أنشوجة" بألف وستمائة سترس للبرميل، وابتاع ثالث كمية من البطارخ بألف ومائتي سترس، وكان الطاهي الماهر يباع بأغلى الأثمان في سوق النخاسة. كذلك كان شأن الشراب، فقد انتشر وزادت مقاديره وكان لابد أن تكون الكؤوس كبيرة ومصنوعة من الذهب قدر المستطاع، وقل مقدار ما يمزج به الخمر من ماء، بل إنه كان يشرب أحياناً بلا ماء على الإطلاق. وسن مجلس الشيوخ قوانين صارمة تحدد مقدار ما ينفق من الأموال على المآدب والملابس، ولكن الشيوخ أنفسهم كانوا يتجاهلون هذه القوانين ولذلك لم يأبه بها غيرهم من الأهلين. وفي ذلك يقول كاتو في ألم وحسرة: "إن المواطنين لم يعودوا يستمعون النصح لأن البطون لا آذان لها(9)" وأخذ الناس يشعرون بأنهم أفراد لا شأن للدولة بهم، وثاروا عليها وعلى تدخلها في شئونهم، كما ثار الابن على أبيه، وكما ثارت المرأة على الرجل.

وقد جرت العادة من قديم الزمان أن يقوي سلطان المرأة كلما زادت ثروة المجتمع؛ ذلك أنه إذا امتلأت البطون أخلى الجوع الميدان للحب، ولذلك فشت الدعارة في رومه وانتشر اللواط حين اتصل الرومان ببلاد اليونان وبلاد آسيا، فكان كثير من الأغنياء يدفع الواحد منهم تالنتا (3600 ريال أمريكي) ثمناً للغلام الوسيم، وشكا كاتو من أن ثمن الولد الجميل يزيد على ثمن مزرعة(10). على أن النساء لم يخلين الميدان لهؤلاء الغزاة اليونان والسوريين، فأخذن يتجملن بكل وسائل التجميل التي هيأتها لهن الثروة الجديدة، وأصبحت الأدهان ضرورة لا غنى لهن عنها، وشرعن يستوردن من غالة أنواعاً من الصابون تخفى لون شعرهن الأشيب وتحيله أحمر(11). وكان الثرى من أهل الطبقة الوسطى يتباهى بأن يزين زوجه وبناته بالملابس والجواهر الغالية ويطلقهن في المدينة يعلن عن ثروته؛ وزاد شأن النساء في دور الحكم نفسها، وفي ذلك يقول كاتو: "إن الرجال في جميع أنحاء العالم يحكمون النساء، أما نحن الرومان الذين نحكم جميع الرجال فإن نساءنا يحكمننا(12)". وحدث في عام 195 ق.م أن خرجت نساء رومه الحرائر إلى السوق العامة ونادين بإلغاء قانون أبيوس Appius الصادر في عام 215 والذي يحرم على النساء التحلي بالذهب والملابس الكثيرة الألوان وركوب العربات. وأنذر كاتو الرومان بأن رومه سيحل بها الخراب إذا ألغي هذا القانون، وينطقه ليفي بهذه الخطبة التي قرأها كل جيل من الأجيال من ذلك الوقت إلى هذه الأيام:

"لو أننا كلنا قد استمسكنا في بيوتنا بحقوق الأزواج وسلطانهم، لما تورطنا الآن في هذه المشاكل مع نسائنا. أما ونحن لم نستمسك بهذه الحقوق وهذا السلطان فإن نفوذنا الذي قضي عليه استبداد النساء في البيت قد وطئته الأقدام، وقضي عليه في السوق... ألا فلتذكروا جميع النظم والقوانين الخاصة بالنساء، والتي حاول بها آباؤنا أن يقللوا من فجورهن ويجعلوا منهن زوجات طائعات لأزواجهن. ومع ذلك فإنكم رغم هذه القيود لا تستطيعون أن تكبحوا جماحهن.

فما بالكم إذا ما تساوين بأزواجهن؟ هل تظنون أنكم في هذه الحال ستطيقونهن؟ إن الساعة التي يصبحن فيها مساويات لكم ستكون هي الساعة التي يصرن فيها ذوات الأمر والنهي عليكم(13)". وسخر منه النساء وألزمنه الصمت وأصررن على طلبهن حتى ألغي القانون. وانتقم كاتو لنفسه وهو رقيب بأن زاد الضرائب المفروضة على السلع التي يحرمها قانون أبيوس إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه. ولكن التيار كان جارفاً، ولم يكن في وسع أحد أن يصده، فألغيت القوانين الأخرى التي كانت تحد من حرية النساء أو عدلت أو أغفلت؛ فأصبح للنساء الحق المطلق في الإشراف على استثمار بائناتهن، وصرن يطلقن أزواجهن أو يجرعنهم السم في بعض الأحيان، وبدا لهن أن ليس من سداد الرأي أن يلدن الأبناء في عصر ازدحمت فيه المدن بالسكان وكثرت فيه حروب الفتح والاستعمار.

وكان كاتو وبولبيوس قد أدركا في عام 160 ق.م أن السكان يتناقصون، وأن الدولة عاجزة عن أن تجند من الجيوش ما استطاعت أن تجنده لقتال هنيبال. وورث الجيل سيادة العالم، ولكنه لم يجد لديه من الوقت أو الرغبة ما يستطيع بهما أن يدافع عنه؛ ذلك أن الاستعداد لتلبية نداء الحرب كلما دعا لها الداعي، وهو الاستعداد الذي كان من خصائص المالك الروماني، لم يعد له وجود، بعد أن تركزت الملكية في أيدي أسر قلائل، وغصت أقذر أحياء رومه بالصعاليك الذين لا مصلحة لهم في البلاد يخافون عليها أو يدافعون عنها. وأصبح الناس شجعاناً بالنيابة إن صح هذا التعبير. فقد كانوا يهرعون إلى المدرجات ليشاهدوا الألعاب التي تجري فيها الدماء، وكانوا يستأجرون المجالدين ليصطرعوا أمامهم في ولائمهم. وأنشئت مدارس للبنين والبنات يتعلم فيها الشبان والشابات الغناء والموسيقى والمشي الرشيق(14). ورقت طباع الطبقات العليا بعد أن فسدت أخلاقها؛ أما الطبقات الدنيا فقد ظلت طباعها غليظة خشنة قوية، وكانت وسائل لهوها في الغالب عنيفة ولغتها بذيئة. وإنا لنشم رائحة البذاءة في بلوتس Plautus وندرك السبب في أن الجماهير كانت لا تطيق مشاهدة مسرحيات ترنس Terrnce. ولما أن حاولت فرقة من الموسيقيين أن تعزف في أحد مواكب النصر في عام 167 أرغم النظارة أولئك الموسيقيين على أن يستبدلوا بعزفهم مباراة في الملاكمة(15).

وسيطرت النزعة التجارية على الطبقات الوسطى المطردة الزيادة، ولم يعد أساس ثرائها هو العقار كما كان من قبل، بل أصبح هذا الأساس هو الاستثمار التجاري أو إدارة الأعمال التجارية. ولم يكن في وسع القانون الأخلاقي القديم أو في وسع حفنة من الرجال من طراز كاتو أن يحولوا بين هذا العهد الجديد عهد رؤوس الأموال المتحركة أن يصبغ الحياة الرومانية كلها بصبغته. فكان كل إنسان يسعى جاهداً للحصول على المال، وكان كل إنسان يقدَّر ويقدَّر غيره بما عنده من المال، وكان المتعاقدون على الأعمال يغشون ويخدعون، وبلغ من غشهم وخداعهم أن تخلت الحكومة عن كثير من أملاكها- كمناجم مقدونية- لأن المتعاقدين معها على استغلالها كانوا يسخرون العمال ويبتزون أموال الدولة ابتزازاً أصبحت معه المشروعات مصدر بلاء للدولة لا مورد ربح لها(16). وتخلق الأشراف بالخلق الجديد، وشاركوا غيرهم في الثروة الجديدة- إذاً جاز لنا أن نصدق أقوال المؤرخين، ومن واجبنا ألا نصدقهم- بعد أن كانوا من قبل يرون أن الشرف أعلى قدراً من الحياة. وأصبحوا لا يفكرون في الأمة، بل يفكرون في امتيازاتهم ومطالبهم الطائفية والفردية، وصاروا يقبلون الهدايا والرشا الكبيرة لكي يمنحوا عطفهم على الأفراد والدول، وما أسهل ما كانوا يجدون سبباً لشن الحرب على البلاد التي فيها من الثروة أكثر مما فيها من القوة. وكان الأشراف يعترضون العامة في الطرقات ويستجدونهم أصواتهم أو يبتاعونها منهم، وأصبح من الأمور المألوفة أن يختلس الحكام الأموال العامة كما أصبح من غير المألوف أن يحاكم هؤلاء على ما يختلسون منها. ومن ذا الذي يعاقب اللصوص من زملائه إذا كان نصف أعضاء مجلس الشيوخ قد ائتمروا على خرق المعاهدات، وسرقة الأحلاف، وانتهاب الولايات؟ وفي ذلك يقول كاتو: "من يسرق مال مواطن يقضي بقية أيامه مكبلاً بالسلاسل والأغلال؛ ولكن من يسرق مال المجتمع يقضي بقية أيامه رافلاً في أفخر الثياب ومتحلياً بالذهب الوهاج(17)".

ومع هذه فإن منزلة مجلس الشيوخ قد علت عما كانت عليه من قبل، ذلك بأن رومه بقيادته قد خرجت ظافرة من الحربين البونيتين ومن الحروب المقدونية الثلاث، وتحدت كل منافسيها، وتغلبت عليهم، وكسبت صداقة مصر، وبسطت عليها نفوذها، واستولت على جزء كبير من ثروة العالم أمكنها به أن ترفع عن إيطاليا كلها في عام 146 عبء الضرائب المباشرة. وقد اغتصب مجلس الشيوخ في خلال أزمات الحرب والسياسة كثيراً من اختصاصات الجمعيات والحكام، ولكن النصر الذي نالته رومه قد برر هذا الاغتصاب؛ وفوق هذا فإن تحول البلاد إلى إمبراطورية متسعة الرقعة قد جعل الجمعية أداة سمجة غير صالحة للحكم؛ ذلك أن الشعوب الثائرة التي خضعت وقتئذ لحكم مجلس شيوخ كثرة أعضائه من الساسة المحتكين والقواد الظافرين، لم يكونوا يقبلون أن يتصرف في شئونهم بضعة آلاف من الإيطاليين الذين يستطيعون حضور الجمعيات الوطنية في رومه. إن الحرية أساس الديمقراطية، والنظام أساس الحرب، وكلاهما لا وجود له مع الآخر. ذلك أن الحرب تتطلب قدراً عظيماً من الذكاء والشجاعة، والحزم والسرعة في اتخاذ القرارات، والعمل الجماعي المتحد، والطاعة العاجلة لأوامر الرؤساء؛ ومن أجل هذا قضت كثرة الحروب على الديمقراطية. وكان القانون ينص على أن من حق الجمعية المئوية وحدها أن تعلن الحرب وتعقد الصلح؛ ولكن مجلس الشيوخ كان يستطيع بماله من حق الهيمنة على صلات الدولة الخارجية أن يدفع الأمور إلى حيث لا تجد الجمعية مناصاً من الخضوع لرأيه(18). وكان مجلس الشيوخ هو المشرف على خزانة الدولة، كما كان هو المسيطر على الشؤون القضائية، وذلك بحكم القاعدة المتبعة من قديم الزمان وهي أن جميع المناصب القضائية الهامة كان يختار شاغلوها من أعضاء المجلس أو المرشحين لعضويته، يضاف إلى هذا كله أن وضع القوانين وشرحها كانا من اختصاص طبقة الأشراف. وكان في داخل هذه الأرستقراطية ألجِركية محصورة في الأسر ذات السلطان، ذلك أن التاريخ الروماني قد ظلا إلى عهد صلا Sulla سجلا لأعمال الأسر لا أعمال الأفراد؛ فلسنا نرى فيه أسماء ساسة عظماء بارزين ولكنا نرى جيلاً في إثر جيل أسماء بعينها تشغل أعلى مناصب الدولة؛ ترى من بين مائتي قنصل شغلوا هذا المنصب الخطير بين عامي 233, 133 ق.م مائة وتسعة وخمسين ينتمون إلى ست وعشرين أسرة، ومائة ينتمون إلى عشر أسر. وكانت أقوى أسرة في ذلك العهد هي آل كورنيليوس Cornelius. وليس تاريخ رومه الحربي والسياسي من أيام بيليوس كورنيليوس سبيو Publius Cornelius Scipio الذي خسر معركة تربيا Trebia في عام 218 أيام ولده سبيو الإفريقي قاهر هنيبال وأيام حفيد ثانيهما وتبناه سبيو إبمليانوس الذي دمر قرطاجنة في عام 146، نقول ليس تاريخ رومه الحربي والسياسي طوال ذلك العهد في جملته إلا تاريخ هذه الأسرة، ولقد بدأت الثورة التي قضت على طبقة الأشراف على يد ابني جراكس وهما حفيدا إيمليانوس. ولقد أصبح سبيو الإفريقي بعد انتصاره في واقعة زاما التي أنجت رومه من الدمار محبباً لجميع الطبقات، وظلت رومه فترة من الزمان على استعداد لأن تمنحه أي منصب يرغب فيه.

فلما أن عاد هو وأخوه لوسيوس Lucius من ميدان القتال في آسيا (187) طلب أشياع كاتو أن يعرض على المجلس حساب الغرامة الحربية التي أداها إليه أنتيوخوس ليبعث بها إلى رومه، وأبى سبيو الإفريقي أن يجيب أخوه هذا الطلب، ومزق سجلات الحساب أمام مجلس الشيوخ. وحوكم لوسيوس أمام الجمعية وحكم عليه بأنه اغتصب الأموال العامة، ولم ينجه من العقاب إلا رفض التربيون تيبيريوس سمبرونيوس جراكس Tiberius Sempronius Gracchus زوج ابنة سبيو الإفريقي أن يجيز هذا العقاب بماله من حق الرفض. واستدعى سبيو الإفريقي إلى المحاكمة فما كان منه إلا أن عطل الإجراءات القضائية بأن دعا الجمعية وسار أما أعضائها إلى هيكل جوبتر للاحتفال بذكرى معركة زاما. ولما دعي مرة ثانية أبى أن يجيب الدعوة وسافر إلى ضيعته في ليترنوم Liternum وبقي فيها بقية أيامه لا يجرؤ أحد على أن يمسه بسوء. وكان يقابل هذه النزعة الفردية في السياسة نمو الفردية في التجارة وفي الأخلاق. وما لبثت الجمهورية الرومانية أن قضي عليها نشاط عظماء رجالها وجهودهم الطليقة من جميع القيود.

وقد رفع من شأن الأرستقراطية ومن شأن هذا العهد كله، ما سرى في نفوس تلك الطبقة من تقدير للجمال. ذلك أن اتصال الرومان بالثقافة اليونانية في إيطاليا وصقلية وآسيا قد جعلهم على علم بكل مستلزمات الحياة المترفة، وبكل ثمار الفنون الجميلة في العالم القديم. ولما عاد الفاتحون إلى بلادهم جاءوا معهم بكثير مما اشتهر في أنحاء العالم من روائع الصور الملونة، والتماثيل، والكؤوس، والمرايا، والمعادن المنقوشة، والمنسوجات الغالية، والأثاث الثمين. وقد ارتاع الجيل القديم حين رأى مرسلس Marcellus يزين الميادين الرومانية بالتماثيل التي اغتصبها من سرقرسة. ولم يكن ما يشكو منه أهل ذلك الجيل اغتصاب قائدهم لهذه التماثيل، بل كانوا يشكون "البطالة ولغو الحديث" اللذين أصبحا عادة لازمة للمواطنين المجدين الذين يقفون الآن "ليفصحوا عن السفاسف وينتقدوها(19)". واغتصب فلقيوس Fulvius 1015 تمثالاً من مجموعة تماثيل برس Pyrrhus في أمبراشيا Ambracia. وشحن إيمليوس بولس خمسين عربة في موكب نصره بالكنوز الفنية التي استولى عليها من بلاد اليونان ضمن ما استولى عليه منها نظير تحريرها. وفعل هذا الفعل نفسه صلا Sulla، وفريس Verres، ونيرون Nero ومئات غيرهم من الرومان خلال مائتي عام من تاريخ البلاد جردوا منها بلاد اليونان من روائع فنها ليكتسي بها العقل الروماني.

وطغى هذا الغزو على الفن الإيطالي فنبذ صفاته الأصلية، وطرازه الوطني واستسلم بأجمعه- إلا في شيء واحد- إلى الفنانين اليونان والى الموضوعات والأشكال اليونانية. وأقبل المثالون، والمصورون، والمهندسون اليونان إلى رومه حيث كان الذهب يتدفق في جيوبهم، وما لبثوا أن صبغوا عاصمة فاتحي بلادهم بالصبغة اليونانية. وشرع سراة الرومان يشيدون قصورهم على الطراز الروماني حول فناء غير مسقوف، ويزينونها بالعمد، والتماثيل، والصور اليونانية، وبالأثاث اليوناني. أما الهياكل فقد تحولت على مهل حتى لا تغضب الآلهة من التحول وبقي جسم الهيكل القصير والقاعدة المرتفعة للتماثيل- وهما من مميزات الفن التسكاني- القاعدة المتبعة في بناء الهياكل ونحت التماثيل. فلما أن زاد عدد الآلهة الأولمبية، رأى الرومان أن من حق تلك الآلهة أن تبني بيوتها على الطراز الهليني الرفيع. غير أن الفن الروماني قد ظل في ناحية واحدة جوهرية يعبر بوسائله الخاصة وبقوته الفذة عن الروح الإيطالية الفنية، وإن ظل يسترشد بالفن اليوناني. أما فيما عدا هذا فقد استبدل المهندسون الرومان القوس بالعارضة الراكزة على الأعمدة في الأبنية التي خلدوا بها نصرهم أو زينوا بها دورهم، وفي القنوات التي تجر الماء لدورهم وفي أبنية محاكمهم. وعلى هذا النحو شاد كاتو من الحجارة في عام 184 الدار المعروفة باسم باسلكا بورشيا Bacilica Portia، وبعد خمس سنين من ذلك العام شاد إيمليوس بولس باسلكا إيمليا Bacilica Aemilia في صورتها الأولى التي أصلحها فيما بعد أبناؤه وأحفاده جيلاً بعد جيل، وجملوها أحسن تجميل . وكانت الباسلكا الرومانية النموذجية داراً تقام لتصريف الأعمال التجارية والقضائية، وتتألف من بناء في شكل مستطيل طويل يقسمها إلى ممشى وأفنية صفان من الأعمدة الداخلية، يعلوها في العادة سقف في صورة قبة مصندقة، وهو طراز أخذ في الأصل من الإسكندرية(20). وإذ كان الممشى مرتفعاً عن الأفنية فقد كان من المستطاع حفر شبكة من الفتحات في الحجارة فوق كل فناء يدخل منها الضوء والهواء. ذلك بطبيعة الحال هو الشكل الأساسي للجزء الداخلي من الكنائس الكبرى في العصور الوسطى. وبهذه الصروح الضخمة شرعت رومه تتخذ لنفسها مظهر القوة والفخامة الذي امتازت به في مستقبل أيامها حتى بعد أن لم تكن عاصمة العالم كله.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الآلهة الجدد

ترى ماذا كان شأن الآلهة القديمة في ذلك العهد، عهد التحول السريع الذي لا يبقى ولا يذر؟ يلوح أن شيئاً من الكفر بهذه الآلهة قد سرى من الأشراف إلى عامة الشعب؛ وإلا فكيف يرضى شعب لا يزال يؤمن بالآلهة القديمة عن هذه المسرحيات الهزلية التي يسخر فيها بلوتس Plautus- مهما كانت حجته في أنه إنما يحاكي النماذج اليونانية- من أعمال جوبتر مع ألكمينا Alcmena، ويجعل من عطارد مهرجاً ضحكة، ثم هو لا يرضى عن هذا فحسب بل يحيى هذه المشاهد بالصخب والضجيج. إن كاتو نفسه وهو الحريص على العادات القديمة، كان يعجب من قدرة اثنين من العرافين إذا التقيا على ألا يسخر كلاهما من الآخر(21). لقد طالما خضع هؤلاء العرافون لأساليب الختل السياسية؛ وكثيراً ما كان الفأل والطيرة ينطق بهما لتكييف الرأي العام كما يهوى الزعماء، وكثيراً ما كانت أصوات الشعب في الاقتراع على أمر من الأمور تكفيها وسائل التهريج والشعوذة الدينية. ولطالما رضى الدين بأن يُحَوَّل استغلال الشعب إلى واجب مقدس تتطلبه الآلهة.

ولقد عاش من الدلالات السيئة أن يكتب بولبيوس حوالي عام 150 ق.م، بعد أن عاش سبعة عشر عاماً في أرقى المجتمعات في رومه، ما يستدل منه على أن الدين الروماني لم يكن إلا أداة طيعة من أدوات الحكم:

"إني أرى أن الميزة التي تمتاز بها الجمهورية الرومانية، والتي ترفع من قدرها فوق سائر بلاد العالم، إنما هي طبيعة دينها. ذلك أن ما يعد عند الأمم الأخرى عيباً من العيوب وسبة في الأعقاب- وهو الخرافات- لهو نفسه العامل الأكبر في تماسك الدولة الرومانية. فهذه الشؤون تكتسي بثوب من الأبهة والفخامة، وتسري في الحياة الخاصة والعامة سرياناً لا يضارعها فيه غيره من الأديان.. ويقيني أن الحكومة قد نهجت هذا النهج لخير الشعب. ولو أنه كان مستطاعاً إقامة دولة كل رجالها من الحكام، لما كان هذا النهج واجباً محتوماً. ولكن الجماهير كلها بلا استثناء متقلبة الأهواء لا تثبت على حال، تملأ قلوبها الرغبات الطليقة التي لا تتقيد بقانون، والشهوات التي لا تخضع لحكم العقل، والانفعالات العنيفة؛ ومن أجل هذا كان لابد من وجود أسباب للإرهاب لا تراها العين، ومواكب ومظاهر دينية فخمة تمسك هذه الجماهير بعضها ببعض".

ولعله كان في وسع بولبيوس أن يؤيد قوله هذا بحوادث في أيامه تثبت أن الخرافات لا تزال هي المسيطرة على عقول الرومان، على الرغم من بلوتس وعلى الرغم من الفلسفة. من ذلك أنه لما حلت بالرومان كارثة كاني Cannae، ولاح أن رومه لن يعصمها عاصم من هنيبال، استولى الرعب على الشعب الروماني المهتاج ونادى: "أي إله نرتجيه لينجي رومه من البلاء الذي هي فيه؟".

وحاول مجلس الشيوخ أن يسكن هذا الذعر بالتضحية البشرية، ثم بالصلاة إلى الآلهة اليونانية، ثم استخدام الطقوس اليونانية في عبادة الآلهة كلها الرومانية منها واليونانية على السواء. ثم قرر المجلس في آخر الأمر أنه إذا كان قد عجز عن القضاء على الخرافات فإنه سينظمها ويسيطر عليها. من ذلك أنه أعلن في عام 205 أن الكتب السبيلية Sibylline تنبئ بأن هنيبال سيغادر إيطاليا إذا جئ بالأم الكبرى- Magna Mater- وهي صورة من الإلهة سيببل Cybele- من بسينس Pessinus في فريجيا Phygi إلى رومه. ووافق على ذلك أتالس Attalus ملك برجموم ونقل الحجر الأسود الذي كان في اعتقادهم جسد الأم الكبرى إلى أستيا حيث استقبله سبيو الإفريقي وطائفة من فضليات السيدات بمظاهر التكريم. ولما أن ارتطمت السفينة التي كانت تحمله بطين نهر التيبر رفعتها العذراء كلوديا الفستية، وجرتها في النهر صعداً إلى رومه بما للعفة من قوة سحرية، ثم أمسكت السيدات جميعهن كل واحدة بعد الأخرى بالحجر في يدها وحملنه في موكب رهيب إلى هيكل النصر، وأخذ الأهلون الأتقياء يحرقون البخور أمام بيوتهم أثناء مرور الأم الكبرى. وارتاع مجلس الشيوخ حين وجد أن المعبود الجديد لابد أن يقوم على خدمته كهنة يُخصون أنفسهم. وكان من المستطاع العثور على رجال يقبلون هذا، ولكن الرومان لم يكن يسمح لهم بأن يكونوا من بينهم. وشرعت رومه من ذلك الوقت تحتفل في شهر إبريل من كل عام بعيد الآلهة الكبرى Magalesia، واتخذ الاحتفال في بادئ الأمر صورة الحزن العنيف، ثم انقلب بعدئذ إلى المرح العنيف. ذلك أن سيبيل كانت إلهة نباتية، وتروي الأساطير أن ابنها أتيس Attis رمز الخريف والربيع مات وانتقل إلى الجحيم Hades، ثم عاد إلى الحياة من بين الأموات.

وغادر هنيبال إيطاليا في عام 205، وهنأ مجلس الشيوخ نفسه على الطريقة التي اتبعها في علاج الأزمة الدينية. ولكن الحروب التي دارت مع مقدونية قد فتحت لرومه أبواب اليونان والشرق. وقد جاء في أثر الجنود الذين عادوا بأسلاب الشرق وأفكاره وأساطيره أفواج من الأسرى اليونان والأسيويين، ومن الرقيق واللاجئين، والتجار والسياح، والرياضيين والفنانين والممثلين والموسيقيين، والمدرسين والمحاضرين؛ والناس إذا هاجروا جاءوا معهم بآلهتهم. واغتبطت الطبقات الدنيا في رومه بما عرفته عن ديونيسس باخوس Dionysus Bacchus؛ وأرفيوس Orpheus ويريدس Eurydice، والطقوس الغامضة الخفية وهي في اعتقادهم مصدر الإيحاء الإلهي، والخمر القدسي، والاتصال الروحي، الذي يكشف عن الآلهة التي تبعث حيَّة وتَعد عبادها الخلود. وارتاع مجلس الشيوخ في عام 186 حين علم أن من الشعب أقلية كبيرة قد اعتنقت الطقوس الديونيسية، وأن الإله الجديد تقام له حفلات تدار فيها كؤوس الخمر على المحتفلين. وإذ كانت هذه الحفلات تقام سراً وفي الليل فقد راجت الإشاعات القائلة بأنها كانت حفلات حمراء يصحبها الخمر والفجور الطليق، وقد وصفها ليفي بقوله: "إن الفسق بالرجال كان أشد من الفسق بالنساء"، ثم يقول بعد هذا- ولعله في ذلك ينزل لغو القول منزلة التاريخ المحقق: "ومَن لم يكن يرضى بالدنس... كان يضحي به قرباناً للإله(23)". وحرم مجلس الشيوخ هذه الطقوس الدينية؛ وقبض على سبعة آلاف من القائمين بها، وقضي بإعدام مئات منهم. وكان هذه نصراً مؤقتاً في الحرب العوان التي خاضت رومه غمارها لصد تيار الأديان الشرقية .

الفصل الرابع: بداية عصر الفلسفة

كانت الطريقة التي غزت بها بلاد اليونان رومه أن بعثت إلى عامتها بالدين اليوناني والمسرحيات الهزلية اليونانية، والى الطبقات العليا من أبنائها بالأخلاق وبالفلسفة اليونانية. وائتمرت هذه الهدايا اليونانية مع الثروة الرومانية ومه الإمبراطورية الرومانية على تقويض دعائم دين رومه وأخلاقها، وكان هذا إحدى السبل التي اتبعتها هلاس في انتقامها الطويل المدى من غزاتها. وبلغ هذا الغزو غايته في الفلسفة اليونانية من أبيقورية لكريشيوس الرواقية إلى رواقية سنكا الأبيقورية. وفي الدين المسيحي غلبت فلسفة ما وراء الطبيعة اليونانية الآلهة الإيطالية، ولما نشأت القسطنطينية كانت الغلبة فيها للثقافة اليونانية، فنافست في بادئ الأمر الثقافة الرومانية، ثم حلت في آخر الأمر محلها؛ ولما أن سقطت القسطنطينية عادت الآداب والفلسفة والفنون اليونانية فغزت إيطاليا وأوربا كلها في عصر النهضة. ذلك هو المجرى الرئيسي في تاريخ الحضارة الأوربية، أما ما عداه فتيارات فرعية وروافد جانبية. وفي ذلك يقول شيشرون: "لم يكن منشأ الفيض الذي أقبل من بلاد اليونان إلى مدينتنا مجرى صغيراً بل كان منشؤه نهراً خضماً من الثقافة والعلم(24)"، أصبحت حياة رومه الذهنية والفنية والدينية من بعده جزءاً من العالم المصطبغ بالصبغة الهلينية . ووجد الغزاة اليونان في مدارس رومه وقاعات المحاضرات فيها ثغرة طيبة ينفذون منها إلى رومه، وموقعاً صالحاً يثبتون فيه أقدامهم. فجاء في أعقاب الجيوش الرومانية التي عادت من بلاد الشرق تيار دافق من "اليونان الصغار" Graeculi كما كان يسميهم الرومان استهزاء بهم. وكان منهم أرقاء كثيرون استخدموا معلمين في الأسر الرومانية، ومنهم النحاة الذين أنشئوا الدراسات الثانوية في رومه بما افتتحوه من المدارس لتعليم لغة اليونان وآدابهم؛ ومنهم البلغاء الذين كانوا يلقون محاضرات عامة في فن الخطابة والأدب والإنشاء والفلسفة، أو يعطون فيها دروساً خاصة. وشرع الخطباء الرومان- حتى من كان منهم يبغض الثقافة اليونانية أمثال كاتو- يتخذون خطب ليسياس Lysias، وإيسكين Aeschines ودمستين Demosthenes نماذج لهم ينسجون على منوالها. ولم يكن لهؤلاء المدرسين اليونان دين يؤمنون به إلا القليلين منهم، وأقل من هؤلاء المتدينين من كانوا يثبتون في قلوب تلاميذهم شيئاً من العقيدة الدينية. وكانت منهم أقلية صغيرة تحذو حذو أبيقور، وتسبق لكرييشيس في وصفه الدين بأنه أكبر الشرور في حياة الشر. وأدرك الأشراف مهب العاصفة وحاولوا أن يسدوا عليها الطريق، فنفى مجلس الشيوخ من البلاد في عام 173 اثنين من الفلاسفة أو البلغاء". ولكن العاصفة لم تسكن، فقد جاء إلى رومه في عام 159 كراتس الملوسي Crates of Mallus مدير المكتبة الملكية الرواقي في برجموم في عمل رسمي، وكسرت فيها ساقه، فأقام بها، وأخذ وهو في دور النقاهة يلقي محاضرات في الأدب والفلسفة. وفي عام 155 بعثت أثينا إلى رومه سفراء من أهلها كانوا زعماء المدارس الفلسفية الثلاث العظيمة: كارنيدس Carneades الأكاديمي أو الأفلاطوني، وكرتولوس Critolaus المشائي أو الأرسطاطيلي وديوجين Diogenes الرواقي السلوسي (of Selucia). وكان قدوم هؤلاء إلى رومه مبعث نهضة علمية وفلسفية لا تكاد تقل في قوتها عما بعثه قدوم كرسولوراس Chrysoloras إلى إيطاليا في عام 1453. وتحدث كارنيدس عن البلاغة بفصاحة حملت الشبان على أن يجتمعوا حوله في كل يوم ليستمعوا له(25). وكان الرجل شكاكاً إلى أقصى حد، فكان يشك في وجود الآلهة، ويقول إن في الإمكان تبرير الظلم بأسباب لا تقلّ في وجاهتها عن الأسباب التي يبرر بها العدل. وفي هذا تسليم من جانب الفلسفة الأفلاطونية بآراء ترازيماكس Thrasymachus.

ولما سمع كاتو- وكان وقتئذ شيخاً طاعناً في السن- بهذا القول طلب إلى مجلس الشيوخ أن يأمر بإعادة السفراء الثلاثة إلى بلادهم، فعادوا ولكن بعد أن ذاق الجيل الجديد لذة الفلسفة؛ ومن ذلك الحين أخذ الأثرياء من شباب رومه يذهبون إلى أثينا ورودس ليستبدلوا فيهما بإيمانهم القديم أحدث ما فيهما من تشكك.

وكان الذين فتحوا بلاد اليونان هم أنفسهم الذين نشروا الثقافة اليونانية والفلسفة اليونانية في رومه، وكان فلامينوس Flamininus يحب الآداب اليونانية قبل أن يغزو مقدونية ويحرر اليونان، فلما أن غزاها تأثر كثيراً بما رأى في بلاد اليونان من فنون ومن مسرحيات. وخليق بنا أن نذكر لرومه أن بعض قوادها العسكريين كانوا يستطيعون فهم بوليكليتس Polycleitus وفيدياس Pheidias وإن كانوا قد تغالوا في تقدير هذين الفنانين إلى حد السرقة. ولما أن انتصر إيمليوس بولس على برسيوس لم يستبق من كل ما جاء به من الغنائم إلا مكتبة الملك ليرثها أبناؤه من بعده، وقد حرص على أن يتعلم هؤلاء الأبناء الآداب والفلسفة اليونانية حرصه على أن يتعلموا فنون الصيد والحرب الرومانية، وكان يشترك معهم في هذه الدراسات بالقدر الذي تسمح له به واجباته الرسمية. ولما مات بولس تبنَّى أصغر أبنائه صديقه ب. كرنليوس سبيو ابن الإفريقي واتخذ الابن المتبني اسم الرجل الذي تبناه جرياً على عادة الرومان وقتئذ، وأضاف إليه اسم عشيرة أبيه فأصبح اسمه بعدئذ، كرنليوس سبيو إيمليانوس وهو الذي سنطلق عليه اسم سبيو في صحائف هذا الكتاب. وكان شاباً وسيم الطليعة قوي البنية، بسيطاً في عاداته، متزناً في حديثه، رقيق القلب، كريماً، شريفاً طاهر اليد، لم يترك وراءه عند وفاته إلا ثلاثة وثلاثين رطلاً من الفضة ورطلين من الذهب، وإن كانت جميع غنائم قرطاجنة قد مرت بين يديه، وإن كان قد عاش عيشة العالم المتقشف لا عيشة الرجل الثري. وقد التقى في شبابه بيولبيوس اليوناني الذي نفي من بلاده وأسداه بولبيوس النصح والكتب القيمة، وكانت هذه يد حفظها له الشاب طول حياته. وذاعت شهرته وهو لا يزال شاباً يحارب تحت إمرة أبيه في بدنا Pydna، ولما استخف به عدوه في أسبانيا وطلب إليه أن يبارزه قبل هذا التحدي وانتصر في المبارزة(27).

وقد جمع حوله في حياته الخاصة طائفة من الرومان الممتازين الذين شغفوا بالأفكار اليونانية. ومن أعظم هؤلاء شهرة جاريوس ليليوس Gaius Laelius وهو رجل حكيم في رأيه، وفّي في صداقته، عادل في أحكامه، نقي السيرة، طاهر السريرة، لا يفوقه في فصاحة اللسان وجمال الأسلوب إلاّ إيمليلنوس نفسه. وقد أحب شيشرون ليليوس وأعجب به بعد مائة عام من وفاته، وسمي باسمه مقاله عن الصداقة، وكان يتمنى أن لم يعش في عصره المضطرب بل في تلك الدائرة الرفيعة التي كانت تضم شباب رومه المفكر. وكان لهذه الدائرة أبلغ الأثر في الأدب الروماني، ولقد كسب ترنس Terence بفضل اشتراكه فيها ما امتازت به لغته من دقة في التعبير وجمال في الأسلوب، ولعل جايوس لوسليوس (180-103) قد أفاد منها قدرته على أن يجعل لهجائه اللاذع الذي كان يسلطه على رذائل عصره وترفه هدفاً اجتماعياً.

وكان اللذان يشرفان على هذه الفئة من اليونان رجلين هما بولبيوس Polybius وبانيتيوس Panaetius. وقد عاش أولهما سنين كثيرة في بيت سبيو. وكان رجلاً واقعياً عقلياً، قليل الاغترار بالناس وبالدول. أما بانيتيوس فقد جاء من رودس، وكان كزميله بولبيوس من الأشراف اليونان. وعاش كثيراً من السنين مع سبيو ينعم بصداقته ويشاركه في نفوذه وسلطانه. وهو الذي غرس في نفس سبيو فضائل الرواقية ونبلها، وأكبر الظن أن سبيو هو الذي حمله على أن يلطف من المطالب الخلقية المتطرفة لهذه الفلسفة، ويجعل منها عقيدة عملية. ولقد شرح بانيتيوس في كتاب له "في الواجبات" المبدأين الأساسيين للفلسفة الرواقية وهما أن الإنسان جزء من كل يجب أن يتعاون معه- مع أسرته، وبلده، ومع روح العالم القدسي؛ وأنه لم يوجد في العالم ليستمتع بملاذ الحواس وإنما وجد ليؤدي واجبه من غير أن يشكو أو يتململ. ولم يكن باتينيوس كالرواقين الأولين يدعو إلى الفضيلة الكاملة أو عدم المبالاة التامة بطيبات الحياة ومتعها. واستمسك الرومان المتعلمون بهذه الفلسفة واتخذوها بديلاً كريماً مقبولاً من دينهم القديم الذي لم يعودوا يؤمنون به، ووجدوا في مبادئها قانوناً أخلاقياً يتفق كل الاتفاق مع تقاليدهم ومُثلهم العليا.

وهكذا أصبحت الرواقية هي الملهمة لسبيو والمطمح الذي يصبو إليه شيشرون؛ كما كانت هي خير ما في سنكا، والمرشد الهادي لتراجان Trajan، والمواسية لأوريليوس Aurelius. وجملة القول أنها أصبحت هي ضمير رومة.


الفصل الخامس: النهضة الأدبية

لقد كان الغرض الذي يهدف إليه سبيو وجماعته أن يناصروا الفنون والفلسفة، وأن يجعلوا اللغة اللاتينية لغة رقيقة سلسة أدبية، وأن يجتذبوا ربات الشعر الرومانية إلى ينابيع الشعر اليوناني المتدفقة، وأن يهيئوا للكتاب والشعراء الناهضين مستمعين وقراء. من ذلك أنه لما أن جاء كاتو- وهو العدو الألد لكل شيء يمثله سبيو وأصدقاؤه- بشاعر من الشعراء إلى رومه في عام 204 ق.م اختفى به سبيو وأكرم مثواه. وكان هذا الشاعر هو كونتس إبنيوس Qnintus Ennius. وكان قد ولد في عام 239 بالقرب من برنديزيوم Brundisium من أبوين أحدهما يوناني والآخر إيطالي. وتلقى علومه في تارنتم، وكان ذا روح حماسية تأثرت أشد التأثر بالمسرحيات اليونانية التي كانت تعرض على مسرح تلك المدينة. واسترعت شجاعته العسكرية في سردينيا التفات كاتو. ولما جاء إلى رومه أخذ يشتغل بتدريس اللغتين اليونانية واللاتينية، وينشد أشعاره لأخصائه. وسرعان ما وجد سبيله لجماعة سبيو وأصدقائه؛ ولم يكن ثمة بحر من بحور الشعر إلا حاوله، وكتب عدداً قليلاً من السالي وما لا يقل عن عشرين مأساة، وكان يعجب بيوربديز ويعبث مثله بالآراء المتطرفة، ويغيظ الأتقياء بما ينطق به من الأمثال التهكمية الأبيقورية كقوله: "أسلم معكم أن ثمة آلهة ولكنهم لا يبالون بما يفعله الآدميون، وإلا لكانت عاقبة الطيبين الخير وعاقبة الخبيثين الشر- وهذا قلما يحدث(28)". ويقول شيشرون إن من استمعوا لهذا القول طربوا وصفقوا له استحساناً(29). وقد ترجم أو شرح كتاب "التاريخ المقدس" تأليف يوهمروس Euhemerus وهو الكتاب الذي يثبت فيه كاتبه أن الآلهة ليسوا إلا أبطالاً أمواتاً ألهتهم عواطف الشعب وتعلقه بهم. على أنه لم يكن مجرداً كل التجرد من الآراء الدينية، وآية ذلك أنه أعلن في وقت ما أن روح هوميروس قد تنقلت في عدة أجساد منها جسم فيثاغورس ومنها جسم طاووس ثم استقرت في جسم إينيوس Ennius. وقد كتب تاريخاً حماسياً لرومه في صورة ملحمة كبيرة تبدأ من مجيء إينباس Aeneas إلى بيرس Pyrrhus، وقد ظلت هذه الحوليات إلى أيام فرجيل الملاحم القومية لإيطاليا؛ وبقيت منها قطع صغيرة قليلة العدد أشهرها كلها بيت لا يمل المحافظون الرومان ترديده وهو:

"قوام الدولة الرومانية أخلاقها القديمة ورجالها العظماء".

وكانت القصيدة من حيث الوزن تعد ثورة على الأوزان الشعرية القديمة. فقد استبدل فيها بالوزن المهلهل غير المنتظم الذي كان يستخدمه نيفيوس Naevius الشعر المرن السداسي الأوتاد الذي كان يستخدم في الملاحم اليونانية. وصاغ إبنيوس الشعر اليوناني في صور جديدة، وبث فيه قوة جديدة، وغمر أبياته بالأفكار، وأعده من حيث طريقته وألفاظه وموضوعه وأفكاره للكريشيس وهوراس وفرجيل. وقد توج أعماله الأدبية برسالة عن ملاذ الفم، ومات بذات الرئة في سن السبعين بعد أن ألف هذه القبرية التي يفخر فيها بنفسه: "لا تبكوا عليّ ولا تحزنوا لوفاتي؛ فإني أبقى على شفاه الرجال وأحيا(30)".

ونحج إبنيوس في كل شيء عدا المسلاة، ولعل سبب إخفاقه أنه عني بالفلسفة عناية جدية فوق ما يجب، ونسي نصيحته التي قال فيها "يجب على الإنسان أن يتفلسف دون أن يسرف في فلسفته(31)". وكان الناس يفضلون الضحك على الفلسفة وكانوا في ذلك على حق؛ وقد أغنوا بهذا التفضيل بلوتس وأفقروا إبنيوس. ولهذا السبب عينه لم تلق المآسي المسرحية شيئاً من التشجيع في رومه. نعم إن الأشراف قد أعجبوا بمآسي بكوفيوس Pacuvius وأكيوس Accius، ولكن الشعب تجاهلها والزمان لم يبق على ذكراها.

وكان موظفو الدولة يعرضون المسرحيات على الجماهير في رومه، كما كان أمثالهم يعرضونها عليه في أثينة، على أنها جزء من الحفلات التي تقام في الأعياد الدينية أو في جنائز المواطنين الممتازين. وكان الملهى الذي تمثل فيه مسرحيات بلوتس وترنس يتكون من محالة خشبية تعلوها خلفية مزخرفة scaena أمامها طوار مستدير للرقص جزؤه الخلفي هو المسرح proscaenium. وكان هذا البناء الهش الرقيق يهدم عقب كل حفل كما نفعل نحن بالمقاعد والحواجز التي نقيمها للاستعراض في هذه الأيام. وكان النظارة يشاهدون اللعاب وهم وقوف أو جلوس على مقاعد يأتون بها معهم، أو يتربعون على الأرض في العراء. ولم تبن في رومه دار كاملة للتمثيل قبل عام 145 ق.م، وحتى في ذلك الوقت كانت الدار لا تزال بناء خشبياً لا سقف له، ولكن مقاعد مصفوفة على نظام المدرجات اليونانية نصف الدائرية. ولم يكن النظارة يؤدون لدخولها أجراً، وكان في مقدور الأرقاء أن يدخلوا دون أن يكون لهم حق الجلوس، أما النساء فلم يكن يسمح لهن إلا بالجلوس في المقاعد الخلفية. ولعل النظارة في ذاك العهد كانوا أخشن من شهدهم تاريخ التمثيل كله وأشدهم غباوة- فكانوا جماعة من الخابين المتزاحمين الوضيعين. وكثيراً ما كان يطلب إليهم في بداية التمثيل أن يراعوا قواعد الأدب والأخلاق، كما أن الفكاهات والنكات السمجة العادية يطلب تكرارها لكي يستطيع النظارة إدراكها. وكان يطلب إلى الأمهات في بعض الأحيان أن يتركن أطفالهن في منازلهن، وكانت الخطب الافتتاحية تنذر الأطفال بالعقاب إذا أحدثوا شيئاً من الضجيج، أو تحذر النساء من الثرثرة في أثناء التمثيل. وترى هذه المطالب مدونة حتى في وسط المسرحيات التي نشرت فيما بعد(32). وإذا حدث أن صحب التمثيل صراع ينال المتفوق فيه جائزة، أو ألعاب بهلوانية على الحبال، فقد كان التمثيل ينقطع أحياناً حتى ينتهي الصراع أو تنتهي الألعاب، وهما أشد إثارة لحماسة النظارة من التمثيل. وعند ختام تمثيل مسلاة رومانية كانت تلقى العبارة الآتية: "والآن فيصفق الجميع" أو ما في معناها للدلالة على أن الرواية قد انتهت وأن التصفيق مباح.

وكان التمثيل خير ما في المسرح الروماني، وكان مدير المسرح من الأحرار، وكان هو الذي يمثل الدور الرئيسي عادة، أما غيره من الممثلين فكان معظمهم من الأرقاء اليونان. وكان كل مواطن يتخذ التمثيل حرفة له يفقد بذلك حقوقه المدنية- وهي عادة ظلت قائمة إلى أيام فلتير. وكان الرجال يمثلون أدوار النساء. وكان النظارة قليلي العدد، ومن أجل ذلك لم يكن الممثلون يلبسون أقنعة بل كانوا يكتفون بالأصباغ والشعر المستعار؛ فلما أن أزداد عدد النظارة أصبحت الأقنعة واجبة لتمييز أشخاص المسرحية بعضهم من بعض، وكان يطلق على القناع لف برسونا persona وهو في أغلب الظن مشتق من الكلمة التسكانية فرسو phearsu بمعنى قناع. وكانت الأدوار تسمى دراماتيس برسوني dramatis personae أي أقنعة المسرحية. وكان ممثلو الأدوار المحزنة يلبسون أحذية عالية cothurnus أما ممثلوا الأدوار المضحكة فكانوا يحتذون نعالاً وطيئة soccus. وكانت بعض أدوار المسرحية تغني على أنغام المزمار، وكان المغنون في بعض الأحيان يغنون الدوار، والممثلون يمثلونها تمثيلاً صامتاً بالإشارات.

وقد كتبت ملاهي بلوتس بالشعر السهل المكون من أسباب وأوتاد يتلو بعضها بعضاً تقليداً لأوزان الشعر اليوناني وموضوعاته، ومعظم الملاهي اللاتينية التي وصلت إلينا مأخوذة من المسرحيات اليونانية مباشرة، أو بمزج مسرحيتين يونانيتين أو أكثر بعضها ببعض، وهي مأخوذة في الغالب من مسرحيات فيلمون Philemon ومناندر Menander أو غيرهما من كتاب "المسلاة الجديدة" في أثينا، وكان اسم المسرحية الرومانية واسم مؤلفها يكتبان عادة على الصفحة الأولى. وقد حظر الاقتباس من مسرحيات أرسطوفان و"المسلاة القديمة" بمقتضى قانون الألواح الاثني عشر الذي كان يعاقب على الهجاء السياسي بالإعدام(33). ولعل خوف كتاب المسرحيات اللاتين أن يطبق عليهم هذا التشريع الرهيب هو الذي حدا بهم إلى الاحتفاظ بالمناظر والشخصيات والعادات والأسماء، وحتى النقود، كما كانت في الأصل اليوناني. ولولا بلوتس لكان القانون الروماني قد أبعد الحياة الرومانية كلها تقريباً عن المسرح الروماني. ولكن هذه الرقابة الصارمة لم تمنع فحش القول وبذيئه أن ينطق به على المسرح، فقد كان الهدف الذي يبتغه المشرفون على التمثيل هو تسلية النظارة لا رفع مستواهم، ولم يكن جهل العامة ليسوء قط الحكومة الرومانية، وكان النظارة يفضلون المزاح السمج على الفكاهة الرقيقة، ويعجبهم الهزل والتهريج أكثر مما يعجبهم الحذق والدهاء، ويطربهم فحش القول أكثر مما يطربهم الشعر، وكان بلوتس أحب إليهم من ترنس.

وكان أول دخول تيتس مكسيوس بلوتس Titus Maccius Plautus أي تيتس المهرج ذي القدم الكرشاء في أمبريا Umbria عام 254 ق.م؛ ولما قدم إلى رومه عمل فيها خادماً من خدم المسرح وادخر بعض المال وحرص على استثماره ولكنه أضاعه. واضطره العيش إلى كتابة المسرحيات، وسر الجماهير بما كان يبثه من الإشارات الرومانية في مسرحياته المقتبسة من المسرحيات اليونانية. واستطاع بهذه الطريقة أن يجمع بعض المال وأن يمنح مواطنيه رومه. وكان بلوتس رجلاً شعبياً شديد المرح ضاحكاً صخاباً، يضحك مع كل إنسان على كل إنسان، ولكنه كان طيب القلب عطوفاً على الناس جميعاً. وقد بلغ عدد ما كتبه أو صقله من المسرحيات مائة وثلاثين بقيت منها إلى الآن عشرون. ومن هذه المسرحيات البقية مسرحية Miles Gloriosus وهي صورة مرحة لجندي صخاب يغذيه خادمه وينفحه بالأكاذيب.


الخادم: أرأيت الفتاتين اللتين استوقفتاني بالأمس؟.


الضابط: ماذا قالتا لك؟.


الخادم: لما مررتَ بنا سألتاني:


"يا عجباً! هل هنا أخيل العظيم؟" فأجبتهما:

"في الحق إنه لجميل! يا له من رجل نبيل!

"ما أبهى شعره!"... وتوسلت إليَّ كلتاهما.

... أن أطلب إليك أن تخرج اليوم مرة أخرى. حتى تستطيعا رؤيتك عن قرب.

الضابط: ألا ما أكثر ما يجره الجمال على الإنسان من متاعب!!.


وفي مسرحية أمفتريون Amphitryon تنصب السخرية على جوف Jove فهو يتنكر في صورة زوج الكمينا Alcmena ويدعو نفسه ليستمع إلى قسمه، ويقرب القربان إلى جوبتر(35). وفي اليوم التالي يغرر بهذه السيدة فتتئم. ويطلب بلوتس إلى الإله في آخر المسرحية أن يعفو عنه وأن يتقبل من الجماهير أكبر قسط من الثناء. وقد نالت هذه القصة من إعجاب الجماهير في رومه أيام بلوتس بقدر ما نالت في أثينا أيام مناندر Menander وفي باريس أيام مليير Moliere ، وما تناله في نيويورك في الوقت الحاضر. أما مسرحية أولولاريا Aulularia فهي قصة رجل بخيل يكنز المال، وفيها من العطف عليه أكثر مما في رواية البخيل Avare لمليير. وترى البخيل فيها يجمع قلامة أظفاره ويتحسر على ما خسره من الماء فيما أذرفه من الدموع. ومسرحية منمكي Menaechmi هي القصة القديمة قصة التوأمين اللذين يختلط أمرهما على الناس ثم يتبينونهما، ويرى لسنج Lessing أن مسرحية الأسير Captiv خير مسرحية مثلت في ملهى(35). وقد أعجب بها بلوتس أيضاً ويقول في مستهلها:

ليست مبتذلة ولا هي كغيرها من المسرحيات.

وليس فيها سطور قذرة يستنكف الإنسان أن ينطق بها.

وليس فيها قواد كاذب ولا مومس خبيثة.

وهو قول حق، ولكن حبكة المسرحية معقدة غاية التعقيد، وتعتمد كل الاعتماد على المصادفات غير المتوقعة، وعلى الرؤى العجيبة التي لا يلام صاحب العقل الحريص على صدق التاريخ أن يمر بها دون أن يعيرها أية عناية. ولم يكن سر نجاح هذه المسرحيات القديمة بل كثرة ما فيها من الحادثات الفكهة المضحكة والنكات اللفظية المرحة التي لا تقل فحشاً عما في مسرحيات شكسبير، والصخب القذر البذيء، والنساء الطائشات وما يظهرنه في بعض الأحيان من عواطف طيبة. وقد كان في وسع النظارة في كل مسرحية أن يثقوا من وجود حادثة من حوادث الحب، وتغرير بفتاة، وبطل وسيم فاضل، وعبد أرجح عقلاً من كل من فيها من الشخصيات مجتمعة. وفي هذه المسرحيات نرى الأدب الروماني منذ بدايته تقريباً وثيق الارتباط بالرجل العادي، ويصل بما اقتبسه من المسرحيات اليونانية إلى حقائق الحياة، ويبلغ في هذا حداً لم يبلغه قط فيما بعد.

وفي السنة التي توفي فيها بلوتس على الأرجح (184 ق.م) ولد في قرطاجنة بيليوس ترنتيوس آفر Publius Terentius Afer من أصل فينيقي، ولربما كان من أصل إفريقي. ولسنا نعرف عنه شيئاً قبل أن يكون عبداً من عبيد ترنتيوس لوكانس Terentius Lucanus في رومه. فقد أدرك هذا الشيخ مواهب الشاب الحي فعلمه ووهبه حريته، وتسمى الشاب باسم سيده اعترافاً منه بفضله عليه. وفي وسعنا أن نعرف شيئاً من أخلاق الرومان الطيبة حين نسمع أن ترنس "الفقير الخلق الثياب" جاء إلى بيت كاسليوس استاتيوس Caecilius Statius - وكانت مسرحيات هذا المؤلف المضحكة هي المسيطرة في ذلك الوقت على المسرح الروماني- وقرأ عليه المشهد الأول من مسرحية أندريا. وأعجب كاسليوس بهذا المشهد إعجاباً حمله على أن يستبقي الشاعر إلى العشاء معه وأن استرعى أسماع إيمليوس Aemilijus وليليوس، وقد حاول كلاهما أن يصقل أسلوبه فيجعله هو الأسلوب اللاتيني الحبيب إلى قلبه. ومن ثم راجت الإشاعة القائلة بأن ليليوس هو الذي كان يكتب لترنس مسرحياته، وهي إشاعة رأى المؤلف كياسة منه وحصافة إلا يؤيدها أو ينكرها(38). واستمسك ترنس في أمانة وإخلاص بأصول المسرحيات اليونانية التي نقلها إلى اللاتينية وأطلق على هذه المسرحيات أسماء يونانية، وتحاشى أن يشير فيها إلى الحياة الرومانية، ولم يدع لنفسه أكثر من أنه مترجم لهذه الروايات- وهو تواضع منه وبخس لأعماله(39). ولعل الذي دفعه إلى هذا هو تأثره بالهلينية المتغلبة على سبيو وجماعته.

ولسنا نعرف ماذا كان مصير تلك المسرحية التي كان كاسليوس يحبها ويعجب بها أشد الإعجاب، ولكنا نعرف أن هيرا Hecyra مسرحية ترنس الثانية قد أخفقت لأن النظارة غادروا الملهى في أثناء التمثيل ليشهدوا صراعاً للدببة. ثم بسم له الحظ في عام 162 حين كتب أشهر مسرحياته كلها وهي مسرحية "المعذب نفسه" Heauton Timoroumenos وهي تروي قصة أب منع ابنه أن يتزوج الفتاة التي اختارها لنفسه، ولكن الابن تزوجها رغم هذا، فما كان من الأب إلا أن تبرأ منه ونفاه من البلاد، ثم أنبه ضميره وندم على فعلته وعاقب نفسه على ما فعل بامتناعه عن أن يمس ثروته وبأن يعيش عيشة الكدح والفقر، ثم عرض عليه جار له أن يتدخل في الأمر ليحل مشكلته، فيسأله الأب عما يدعوه إلى الاهتمام بغيره والإشفاق عليهم، فيرد عليه الجار بهذه العبارة المعروفة في جميع أنحاء العالم والتي صفق لها النظارة طرباً وإعجاباً وهي: Hums sum humani nihil a me alienum puto "إني إنسان؛ ولا أرى أن شيئاً مما يتصل بالإنسان غريب عليَّ". ومثلت في السنة التالية مسرحية "الخصي" وبلغ من إعجاب النظارة بها أن مثلت مرتين في يوم واحد (ولم يكن ذلك مألوفاً في تلك الأيام)، وربح منها ترنس ثمانية آلاف سسترس (نحو 1200 ريال أمريكي) في يوم وليلة(40). وظهرت بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت رواية "الفورميو" وقد سميت كذلك نسبة إلى الخادم الفكه الذي أنقذ سيده من غضب أبيه، والذي أصبح فيما بعد نموذجاً لشخصية فيجارو Figaro القوية في رواية بومارشيه Beaumarchais. وفي عام 160 ق.م مثلت آخر مسرحية لترنس وهي مسرحية أدلفى أو "الإخوة" في الألعاب التي أقيمت بمناسبة وفاة إيمليوس بولس. وبعد قليل من ذلك الوقت سافر الكاتب بطريق البحر إلى بلاد اليونان، ثم مرض وهو عائد منها، ومات في أركاديا في الخامسة والعشرين من عمره.

وانصرف الجمهور بعض الانصراف عن مسرحياته الأخيرة، لأن الصبغة الهلينية التي اصطبغت بها قد أعلت من قدره فوق ما يجب. فقد كان يعوزه مرح بلوتس وخفة روحه وفكاهته؛ هذا إلى أنه لم يعن في مسرحياته بمعالجة الحياة الرومانية، فلم يدخل في المضحك منها أنذالاً فاسدين أو مومسات طائشات، بل صور كل النساء في تلك المسرحيات في صور رقيقة، حتى العاهرات منهن كن يحمن على حافة الفضيلة. وقد احتوى تلك المسرحيات سطوراً تعد من جوامع الكلم، وعبارات جرت مجرى الأمثال، منها hinc illae lacrimae ("ومن ثم كانت تلك الدموع") ومنها fortes fortuna adiuvat ("الحظ يواتي الشجعان")، quot homines tot sententiee ("عدد الآراء كعدد الرجال") وعشرات من أمثالها. ولكن هذه الحكم لا يقدرها إلا أصحاب الذهنية الفلسفية أو الحساسية الأدبية، وهما ما لم يجدهما العبد الإفريقي في جمهرة الشعب الروماني. ومن أجل هذا النقص لم يعبأ ذلك الشعب بمساليه التي توشك أن تكون مآسي، وبحبكاته المتقنة البناء ولكنها تسير في بنائها على مهل، وبدراسته الدقيقة للشخصيات الغريبة، وبحواره الهادئ، وبأسلوبه المفرط في الهدوء، وفي نقاء لغته نقاء يكاد أن يكون إهانة للشعب الروماني؛ وكأن النظارة وهم يشاهدون هذه المسرحيات كانوا يشعرون بأن قد حدث بينهم وبين كتلس الروماني صدع لن يلتئم قط. وقد كان شيشرون- وهو القريب من كتلس قرباً لا يمكنه من أن يراه على حقيقته، والحصيف حصافة تحول بينه وبين الإعجاب بلكريشيوس- نقول كان شيشرون يظن أن ترنس أرق شعراء الجمهورية. وكان قيصر أعدل في حكمه عليه أثنى عليه بقوله إنه "المحب للكلام الطاهر"، ولكن آسف لأنه لم يوهب القدرة على الضحك vis comica ووصفه بأنه "نصف مناندر" Dimitiatus Menander. على أن ترنس قد أفلح في شيء واحد على الأقل؛ ذلك ان هذا الرجل السامي الأجنبي، الذي تشبع بروح ليليوس وبلاد اليونان، قد صاغ من اللغة اللاتينية أداة أدبية هي التي استطاع بها شيشرون في القرن التالي أن يكتب نثره وفرجيل أن ينشئ شعره.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس: كاتو والمعارضون المحافظون

امتلأت قلوب الرومان أصحاب النزعة المحافظة خوفاً كما امتلأت نفوسهم اشمئزازاً من الغزو اليوناني لآداب الرومان، وفلسفتهم، ودينهم، وعلومهم، وآدابهم؛ ومن هذا الانقلاب العنيف في أخلاقهم، وعاداتهم، ودمائهم. وكان هؤلاء الرومان القدامى المحافظين شيخ متقاعد يدعى فاليريوس فلاكوس Valerius Flaccus يقيم في مزرعة سبينية، وأخذ هذا الشيخ يأسف لما أصاب الأخلاق الرومانية القديمة من ضعف وانحلال، وما أصاب السياسة من فساد، ومن حلول الأفكار والأساليب اليونانية محل "أساليب أجدادنا". وكان الرجل شيخاً طاعناً في السن لا تمكنه قواه من أن يكافح بنفسه هذا التيار الجارف، ولكن اتفق أن كان في مسكن بالقرب منه وفي جوار بلدته ريت Reate، وفي خارج حدودها، شاب مزارع من العامة اجتمعت له كل الصفات الرومانية القديمة، فكان يحب فلاحة الأرض ولا يمل العمل المجهد الشاق، وكان مقتصداً يعيش عيشة البساطة القديمة، ولكنه مع ذلك يتحدث حديث المتظرفين النابهين. وكان اسم هذا الرجل ماركس بورسيوس كاتو Marcus Porcius Cato وكان سبب تسميته بورسيوس أن أسرته ظلت أجيالاً عدة تربى الخنازير، أما سبب تسميته كاتو فإن أفراد هذه الأسرة كانوا على جانب عظيم من الدهاء. وأشار عليه فلاكوس أن يدرس القانون، فعمل كاتو بنصيحته وكسب ما رفعه جيرانه من القضايا في المحاكم المحلية. ثم نصحه فلاكوس أن يسافر إلى رومه، ففعل، وما زال يرقى في المناصب العامة حتى أصبح كوسترا يشرف على الشؤون المالية Quaestor ولما يبلغ الثلاثين من عمره (204). وفي عام 199 عين إيديلا مشرفاً على الأشغال العامة والملاعب والأسواق والشرطة. وما وافت سنة 198 حتى كان بريتوراً Praetor يلي القنصل في المرتبة، ثم صار قنصلاً في عام 195، ثم تربيوناً في عام 191، ثم رقيباً Censro في عام 184. وكان في هذه المدة قد خدم في الجيش ستة وعشرين عاماً، وكان فيها كلها جندياً شجاعاً، وقائداً محنكاً، قاسي القلب شديد البأس. وكان من رأيه أن النظام أساس الأخلاق والحرية، وكان يحتقر الجندي "الذي يستخدم يديه في المشي وقدميه في الحرب، والذي يعلو غطيطه في النوم على صراخه في الحرب". ولكنه كسب احترام جنده بسيره إلى جانبهم على قدميه، وبإعطاء كل منهم رطلاً من الفضة من غنائم الحرب، وعدم احتفاظه بشيء من هذه الغنائم لنفسه(41).

وكان في فترات السلم يندد بالخطابة والخطباء، وأصبح بهذا العمل أقوى خطباء زمانه. وكان الرومان يستمعون إليه وهم مأخوذون على الرغم منهم بسحر بيانه، لأن أحداً من قبله لم يتحدث إليهم بمثل ما تحدث به هو من الإخلاص الواضح والفكاهة اللاذعة. وكان في مقدوره أن يسلط سوط لسانه على أي إنسان يستمع إلى خطبه، ولكن من يستمعه كان يسره أن يرى هذا السوط يسلط على جاره. وظل كاتو يكافح الفساد والرشوة في رومه غير عابئ بما يصيبه في هذا الكفاح، ولم تغرب عليه شمس يوم من الأيام إلا وقد خلق له فيه عدواً جديداً. وقلما كان أحد يحبه لأنه كان يقلق بال الناس بوجهه الكثير الندب، وشعره الأحمر الأشعث، ويخيفهم ويهددهم بأسنانه الكبيرة، ويخجلهم بتقشفه، ويسبقهم بجده وكدحه، وتنفذ نظراته التي يلقيها عليهم من عينيه الخضراوين خلال ألفاظهم إلى مكنون صدورهم، فيطلع فيها على أنانيتهم. وحاول أعداؤه من الأشراف أن يقضوا عليه بما وجهوه إليه من التهم العلنية، ولكنه في كل مرة كان ينجيه من هذا الاتهام اعتراض الزراع الذين كانوا لا يقلون عنه بعضاً للفساد والترف(42). ولما أن رفعته أصوات العامة إلى منصب الرقيب وجفت قلوب الرومان أجمعين. وما أن تولى هذا المنصب حتى أخذ ينفذ النذر التي بها، والتي كسب بها المعركة الانتخابية، ففرض الضرائب الباهظة على الكماليات، وأوقع غرامة على أحد أعضاء مجلس الشيوخ لإسرافه، وأخرج من هذا المجلس ستة من أعضائه وجد في سجلاتهم أحكاماً قضائية. وطرد منه مانليوس لأنه قبل زوجته علناً، وقال عن نفسه إنه لم يعانق قط زوجته إلا في وقت قصف الرعد- وإن كان يسره أن يقصف الرعد. وأتم كاتو نظام المجاري في المدينة، وقطع الأنابيب التي تأخذ الماء خفية وخيانة من القنوات المبنية العامة، وأجبر الملاك على أن يهدموا ما كان يمتد من مبانيهم في عرض الطريق أو فوقه، وخفض ما كانت تؤديه الدولة ثمناً للأعمال العامة، وأرغم جباة الضرائب على أن يؤدوا لخزانة الدولة نصيباً أوفى مما كانوا يجنونه من الأهلين(48). وبعد أن قضي خمس سنين يجاهد جهاد الأبطال في أعمال تتعارض مع طبيعة الإنسان، اعتزل منصبه واستثمر ما كان له من المال استثماراً ناجحاً، وملأ ضيعته التي اتسعت رقعتها في ذلك الوقت بالعبيد، وأخذ يقرض المال بربا فاحش ويبتاع الرقيق بأبخس الأثمان، ثم يدربهم على بعض الأعمال التي تتطلب شيئاً من المهارة، ويبيعهم بأغلاها، وبذلك أثرى إثراء مكنه من أن يقطع لتأليف الكتب- وهي مهنة كان يزدريها.

وكان كاتو أول كاتب عظيم من كتاب النثر اللاتيني، وقد بدا كتاباته بنشر مجموعة خطبه، ثم أصدر كتاباً في فن الخطابة دعا فيه إلى التزام الأسلوب الخشن الروماني بدل أسلوب الخطباء الإيزوقراطي Isocratean الرقيق، وعرف الخطيب بأنه "رجل صالح برع في الكلام vir bonus dicendi peritus (وهما صفتان قل أن اجتمعتا في إنسان)، وبهذا التعريف أوجد مجالاً لجدل كونتليان quintilian ونقاشه. وكتب رسالة جمع فيها تجاربه في الزراعة وسماها De agricultura. وهي الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا من كتب كاتو، وأقدم كتاب في اللغة اللاتينية الأدبية أبقى عليه الدهر. وقد كتب هذا الكتاب بأسلوب سهل رصين مركز تركيزاً يجعله من جوامع الكلم. فهو لا يسرف في الألفاظ، وقلما ينزل فيه إلى استخدام حرف من حروف الوصف، وفي هذا الكتاب يقدم النصائح المفصلة لمن يريد أن يشتري أو يبيع الرقيق (فيقول مثلاً: إن كبار السن منهم يجب أن يباعوا قبل أن يصيروا مصدر خسارة لسادتهم)، ولمن يؤجر الأرض بجزء من غلتها، ولزراع الكروم والأشجار، وتدبير شؤون المنازل والصناعات، وصنع الأسمنت وطهو أصناف الطعام النادرة الشهية، وعلاج الإمساك والإسهال، ومداواة لسع الأفاعي بروث الخنازير، وتقريب القربان للآلهة. ويسأل كاتو نفسه في هذا الكتاب عن أحكم الطرق للإفادة من الأرض الزراعية، ثم يجيب عن هذا السؤال بقوله إنها "تربية الماشية المربحة"، وتليها "تربية الماشية المتوسطة الربح"، وتليها "تربية الماشية العديمة الربح"، ويليها كلها "حرث الأرض وزرعها". وهذه هي الحجج التي أوجدت الضياع الواسعة في إيطاليا.

ولعل أهم كتبه كلها هو كتاب "الأصول" Origines الذي لم يعثر عليه حتى الآن، وهو محاولة جزئية للبحث في آثار إيطاليا، وشعوبها، ونظمها، وتاريخها منذ نشأتها إلى السنة التي مات فيها كاتو، ولا نكاد نعرف من هذا الكتاب أكثر من أن مؤلفه أراد أن يغيظ الأشراف بالسخرية من أسلافهم فلم يذكر فيه اسم أحد من قواد الحرب، ثم ذكر فيلا باسمه، وأثنى عليه لأنه قاتل بيرس Pyrrhus قتال الأبطال. وكان الغرض الذي يهدف إليه كاتو من تأليف هذا الكتاب ومن مقالاته عن الخطابة، والزراعة والصحة العامة، والعلوم العسكرية، والقانون، أن يؤلف دائرة معارف يستعين بها على تربية ولده. وكان يرجو من الكتابة اللاتينية أن تحل الكتب المكتوبة بهذه اللغة محل الكتب المدرسية اليونانية التي كان يرى أنها تربك عقول شباب الرومان وتفسدها. ويلوح أنه، وإن كان هو نفسه قد درس اليونانية ستعجل بالقضاء على العقائد الدينية لدى شباب الرومان، فلا يكون في حياتهم الخلقية ما يحميها من الشراهة والخصام والغرائز الجنسية، وكان يسخط على سقراط كما يسخط عليه نتشه، ويصفه بأنه أشبه بالقابلة العجوز الثرثار، ويقول إن قتله مسموماً كان جزاء حقاً على إفساده أخلاق أثينا وشرائعها. وحتى الأطباء اليونان أنفسهم كانوا من أبغض الناس إليه، وكان يفضل على طبهم العلاج المنزلي القديم، ولا يثق بالجراحين الذين يعجلون باستعمال المبضع في أكثر الحالات. وقد كتب إلى ولده يقول:

"اليونان جنس مجرم عنيد، وأؤكد أن هذا الشعب إذا ما غمر أدبه رومه سيقضي على كل شيء فيها... وسيكون هذا القضاء عاجلاً إذا ما بعث إليه بأطبائه؛ لقد أجمعوا أمرهم بينهم على أن يقتلوا كل "البرابرة"... حذار أن تكون لك صلة بالأطباء".

وكان وهو الذي يعتنق هذه الآراء العدو الطبيعي الأكبر للندوة السبيونتية، وهي التي كانت ترى أن انتشار الآداب اليونانية في رومه عاملاً لابد منه لرفع الآداب اللاتينية والعقلية الرومانية إلى كمال نموهما؛ وكان كاتو ممن أشاروا بمحاكمة سكيبيو الإفريقي وأخيه، وقال إن القوانين التي تحرم الرشوة والفساد يجب ألا يفرق فيها بين الأشخاص. أما الدول الأجنبية فكان ينادي بأن تعامل جميعها، إلا واحدة منها، بالعدل، وألا تتدخل رومه في شؤونها، وكان يحتقر اليونان وإن كان يعظم بلادهم ويجلها. ولما أن قام دعاة الاستعمار النهابون من أعضاء مجلس الشيوخ يدعون إلى محاربة الغنية ألقى عليهم خطبة قوية يدعو فيها إلى السلام والى مصالحة أهل تلك الجزيرة. أما الدولة التي كان يدعو إلى استثنائها من المعاملة العادلة، ومن عدم التدخل في شؤونها فهي- كما يعلم العالم كله- قرطاجنة. ولما أُرسل إليها في بعثة رسمية عام 175 هاله ما رأى من انتعاش المدينة واستعادتها حياتها بعد الذي أصابها في حروب هنيبال، وما وقعت عليه عيناه من بساتين الفاكهة والكروم، وما يتدفق فيها من الثروة الناتجة من انتعاش تجاربها، وما كانت تخرجه دور الصناعة فيها من أسلحة. فلما عاد امسك أمام المجلس بكمية من التين الطازج قطفها من أشجار قرطاجنة منذ ثلاثة أيام ليتخذها رمزاً لرخاء المدينة وقربها من رومه، وهما القرب والرخاء اللذان كانا نذيري شؤم لرومه؛ وتنبأ بأنه إذا كانت قرطاجنة وشأنها فإنها لا تلبث أن يكون لها من الثراء ومن القوة ما يحفزها إلى العودة إلى كفاحها للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط. وظل من ذلك اليوم يحتم كل خطاب له في مجلس الشيوخ أياً كان موضوعه بتلك العبارة التي تنم عن عقيدته وعناده، ويصر عليها إصراراً عجيباً: "هذا إلى أني أعتقد أن قرطاجنة يجب أن تدمر" Ceterum censes delendum esse Carthaginem. وكان دعاة الاستعمار في مجلس الشيوخ متفقين معه في رأيه، ولم يكن ذلك لأنهم يطمعون في تجارة قرطاجنة، بل لأنهم كانوا يرون في حقول شمال إفريقية، وهي الحقول الخصبة التربة الجيدة الإرواء، مجالاً جديداً يستثمرون فيه أموالهم ويفلحونه على أيدي الرقيق. وكانوا والحالة هذه ينتظرون على أحر من الجمر حجة يتذعرون بها لخوض غمار الحرب البونية الثالثة.

الفصل السابع: يجب أن تمحى قرطاجنة من الوجود

وجاءتهم هذه الحجة من أعجب حكام ذلك الوقت- مسينسا Masinissa ملك نوميديا Numidia- وهو ملك عمر تسعين عاماً (238-148) ورزق ولداً وهو في السادسة والثمانين من عمره(48)، ووضع لنفسه نظاماً صارماً لحياته استمسك به كل الاستمساك، واستبقى به صحته وقوته إلى آخر أيامه تقريباً. وقد أفلح هذا الملك في تنظيم رعاياه البدو، وبدلهم من حياة الترحال حياة الاستقرار الزراعية، وأنشأ منهم دولة منظمة ظل يحكمها حكماً صالحاً مدى ستين عاماً، وجمل مدينة سرتا Cirta حاضرة البلاد بما أنشأه فيها من المباني الفخمة. ودفن بعد وفاته في قبره وهو الهرم العظيم الذي لا يزال باقياً إلى اليوم قرب مدينة قسطنطينية في بلاد تونس. واستطاع هذا الملك أن يكسب صداقة رومه، وكان يدرك ما عليه قرطاجنة من ضعف سياسي، فأخذ يغير المرة بعد المرة على أراضيها، وينقصها من أطرافها، فاستولى على لبتس Leptis العظيمة وغيرها من المدن، وما زال على هذه الخطة حتى سيطر بها على جميع المسالك البرية المؤدية إلى العاصمة المنهوكة القوى. وإذ كانت المعاهدة المعقودة بين رومه وقرطاجنة تحرم على ثانيتهما الاشتباك في حرب إلا برضاء أولاهما فقد أرسلت قرطاجنة سفراء من عندها إلى مجلس الشيوخ في رومه ليحتجوا على عدوان مسينسا. فما كان من هذا المجلس إلا أن نبه هؤلاء السفراء إلى أن الفينيقيين على بكرة أبيهم دخلاء في إفريقية، وأنهم ليس لهم فيها حقوق تضطر أية أمة مسلحة أن تحترمها. فلما أدت قرطاجنة إلى رومه آخر الأقساط السنوية الخمسين من الغرامة المفروضة عليها بمقتضى معاهدة زاما وهي 200 تالنت ظنت أنها بهذا الأداء قد تحررت من التزاماتها، وأعلنت الحرب على نوميديا في عام 151، وفي السنة الثانية أعلنت رومه الحرب على قرطاجنة.

ووصل هذا النبأ الأخير إلى مسامع القرطاجنيين، ووصل معه أن الأسطول الروماني قد أقلع إلى إفريقية. ولم تكن المدينة القديمة مستعدة لخوض غمار حرب عوان مهما يكن من كثرة سكانها وضخامة تجارتها. ذلك أن جيشها كان صغيراً وأن أسطولها كان أصغر من جيشها، ولم يكن لها جنود مرتزقة ولا حلفاء. يضاف إلى هذا أن رومه كانت تسيطر على البحار، ومن أجل هذا أعلنت أتكا انضمامها إلى رومه، وحال مسينسا بين قرطاجنة وبين الاتصال بالأرض التي خلفها في القارة الإفريقية، وأرسلت قرطاجنة بعثة عاجلة إلى رومه وأمرتها أن تجيبها إلى جميع مطالبها فوعدها مجلس الشيوخ الروماني بأنه إذا أسلمت قرطاجنة إلى القنصلين الرومانيين في صقلية ثلاثمائة من أبناء أشرف الأسر فيها ليكونوا رهائن لديهما، وأجابت القنصلين إلى جميع مطالبهما أياً كانت هذه المطالب، احتفظت في نظير ذلك بحريتها وسلامة أرضها. وأرسل مجلس الشيوخ أوامر سرية إلى القنصلين لينفذا ما صدر إليهما قبل من الأوامر. وأسلم القرطاجنيون أطفالهم بقلوب واجفة وعيون باكية، واحتشد آباؤهم عند شاطئ البحر يودعونهم، وهم في أشد الألم والحسرة، وحاولت أمهاتهم في آخر لحظة أن يمنعن السفن من المسير، وألقت بعضهن أنفسهن في الماء، وأخذن يسبحن فيه ليلقين آخر نظرة على أطفالهن. وأرسل القنصلان الأطفال إلى رومه، وعبرا البحر إلى يتكا Utica على رأس الجيش والأسطول، واستدعيا سفراء قرطاجنة، وطلبا أن تسلم بلدهما كل ما بقي لها من السفن، وكمية كبيرة من الحبوب، وجميع الأسلحة والمعدات الحربية. فلما أجيبت هذه المطالب كلها، طلب القنصلان بعدئذ أن يخرج جميع سكان قرطاجنة منها، وأن يقيموا على بعد عشرة أميال من المدينة، لأنهما سيأمران بإحراقها عن آخرها. وحاول السفراء عبثاً أن يقنعوا الرومان بأن تدمير مدينة أسلمت إلى أعدائها رهائن من أهلها وجميع أسلحتها ومن غير قتال غدر وخيانة لا نظير لهما في التاريخ كله. وعرضوا أن يقدموا حياتهم فداء لمدينتهم، وتكفيراً عما عساها أن تكون قد اقترفته من الذنوب، وخروا على الأرض سجداً وأخذوا يضربونها برؤوسهم. فأجابهم القنصلان بقولهم إن هذه هي شروط مجلس الشيوخ وإنهما لا يستطيعان أن يغيرا منها شيئاً.

ولما سمع أهل قرطاجنة بما هو مفروض عليهم جن جنونهم، وطاشت أحلامهم، فأخذ آباء الأطفال الذين أسلموا رهائن إلى رومه يقطعون أجسام القواد الذين أشاروا بتسليمهم، وقتل آخرون القواد الذين أشاروا بتسليم السلاح، وأخذ غيرهم السفراء العائدين في شوارع المدينة ويرجمونهم بالحجارة، ومنهم من قتلوا كل من وجدوهم في المدينة من الإيطاليين، ومنهم من وقفوا في دور الصناعة الخالية من السلاح يبكون وينتحبون. وأعلن مجلس شيوخ قرطاجنة الحرب على رومه، وأهاب بكل من فيها من البالغين رجالاً ونساء، أرقاء وأحراراً، أن يجيّشوا جيشاً جديداً، وأن يصنعوا أسلحة يدافعون بها عن المدينة. وثبت الغضب قلوبهم، وقوى عزائمهم، وأخذوا يهدمون المباني العامة لينتفعوا بما فيها من خشب وحديد، وصهرت تماثيل الآلهة الأعزاء لتصنع منها السيوف، وجزت شعور النساء لتصنع منها الحبال، ولم يمض على المدينة المحصورة إلا شهران حتى أخرجت 8000 درع، 8000 سيف، 70.000 حربة، وستين ألف قذيفة منجنيقية، وبنت في مينائها الداخلي عمارة بحرية مؤلفة من 120 سفينة(49).

وقاومت المدينة الحصار براً وبحراً ثلاث سنين، كان القنصلان في خلالهما يهاجمان أسوارها بجيوشهما، وكانا في كل مرة يرتدان عنها خائبين. ولما كان سبيو إيمليانس وحده- وهو أحد التربيونين العسكريين- هو الذي أظهر في هذا الحصار براعة ودهاء، فقد عينه مجلس الشيوخ الروماني والجمعية قنصلاً وقائداً في عام 147، ولم يعارض في هذا التعيين أحد حتى كاتو نفسه. ولم يمض على ذلك إلا قليل حتى نجح ليليوس في تسلق أسوار المدينة. ودافع القرطاجنيون عنها شارعاً شارعاً، وإن كان الجوع قد أضناهم وأهلك الكثيرين منهم، ولكنهم واصلوا دفاعهم ستة أسابيع كاملة، وأعداؤهم يحصدونهم حصداً بلا شفقة ولا رحمة. ولما رأى سبيو أن قناصة الأعداء يصيدون رجاله وهم كامنون وراء الجدران، أمر أن تشعل النيران في كل الشوارع التي يستولون عليها، وأن تدك مبانيها دكاً، فاحترق في اللهب كثير من الجنود المختبئين في الدور. ووجد القرطاجنيون آخر الأمر أن لابد لهم من التسليم بعد أن نقص عددهم من خمسمائة ألف إلى خمسة وخمسين ألفاً. وطلب قائدهم هزدروبال أن يؤمن على حياته فأجابه سبيو إلى ما طلب، ولكن زوجته بجبنه وألقت بنفسها وبأولادها في اللهب. وبيع من بقي من الأهالي حياً في سوق الرقيق، وأسلمت المدينة إلى الجيوش الرومانية ينهبونها ويعيشون فيها فسداً. وأحجم سبيو عن تدميرها، وأرسل إلى مجلس الشيوخ يسأله رأيه الأخير، فرد عليه المجلس بأن قرطاجنة نفسها وكل ما انضم إليها في الحرب من البلاد التابعة لها يجب أن تدمر عن آخرها، وأن تحرث أرضها وتغطى بالملح، وأن تصب اللعنات على كل من يحاول بناء شيء قي موضعها، وظلت النار مشتعلة في المدينة سبعة عشر يوماً كاملة.

ولم يعقد صلح أو وقع معاهدة، لأن الدولة القرطاجنية لم يبق لها وجود، وتركت يتكا Utica وغيرها من مدن إفريقية التي ساعدت رومه حرة تحت حمايتها؛ وأما ما بقي من أملاك قرطاجنة فقد جعل ولاية خاضعة لرومه وسمي ولاية "إفريقية Africa". وجاء الممولون الرومان وقسموا الأرض ضياعاً، وورث التجار الرومان التجارة القرطاجنية، وأضحى الاستعمار العامل المحرك الدافع للسياسة الرومانية، والغرض السافر الصريح الذي تعمل له عن قصد وتدبير، وضمت سرقوسة إلى ولاية صقلية الرومانية، وأخضعت بلاد غالة الجنوبية لتكون هي الطريق البري لأسبانيا بعد أن خضعت كلها لرومه، ولم تجد رومه صعوبة في إقناع مملكتي مصر وسوريا المصطبغتين بالصبغة الهلينية بالخضوع إلى رغبات رومه- كما اضطر بوبليوس Popilius أنتيوخوس Antiochus الرابع- إلى الخضوع لها بلا قتال. وإذا نظرنا إلى تدمير قرطاجنة وكورنثه في عام 146 من الناحية الأخلاقية- وهي نظرة لها شأنها على الدوام في السياسة الدولية- حكمنا دون تردد بأن هذا العمل من أفظع الفتوح وأشدها وحشية في التاريخ كله. أما من ناحية الاستعمار وبناء الإمبراطوريات- أي من ناحية السلامة والثراء- فقد كان هذا الفتح حجر الزاوية في سيادة رومه التجارية والبحرية، فقد أضحت منذ تلك اللحظة هي المسيطرة على البحر الأبيض المتوسط، والمتصرفة في مصائره، وارتبط تاريخه بتاريخها أوثق ارتباط.

ومات في أثناء هذه الحرب من أشعلوا نارها تحوطهم هالة من النصر والفخار. فمات كاتو في عام 149، ومسينسا في عام 148، وترك الرقيب الطاعن في السن أثراً عميقاً في التاريخ الروماني. وظل الناس قروناً كثيرة يرون فيه الروماني النموذجي في عصر الجمهورية، واتخذه شيشرون في كتابه De Senectute المثل الأعلى للرجال، وحاول حفيد حفيده أن يأخذ نفسه بفلسفته خالية من فكاهته، كما حاول ماركس أن يتخذه نموذجاً له ينسج على منواله، وكان فرنتو Fronto يهيب بالأدباء اللاتين أن يعودوا إلى أسلوبه البسيط الخالي من الالتواء والتعقيد. ولكنه مع ذلك لم يفلح إلا في أمر واحد وهو تدمير قرطاجنة، أما مقاومته للهلينية ومحاولته أن يمنعها من السيطرة على الحياة الرومانية فقد أخفق فيهما كل الإخفاق، واستسلمت كل نواحي الحياة الرومانية من أدب، وفلسفة، وخطابة، وعلم، ودفن، ودين، وأخلاق، وعادات، وملابس، استسلمت هذه كلها لتأثير اليونان. لقد كان كاتو يكره الفلاسفة اليونان، ولكن حفيده الشهير كان يحيط نفسه بهم، وظلت العقيدة الدينية التي فقدها هو تضمحل رغم ما بذل من الجهود لإحيائها وأهم من هذا كله أن الفساد السياسي الذي قاومه في شبابه أخذ ينتشر ويعظم كلما زادت مخاطر المناصب الحكومية باتساع رقعة الإمبراطورية. وكان كل فتح حربي جديد يزيد في ثراء رومه كما يزيد في فسادها ووحشيتها، وكانت قد كسبت كل حرب خاضت غمارها عدا حرب الطبقات، وأزال تدمير قرطاجنة آخر عائق قائم في سبيل الانقسام والفتن في المدينة، وجوزيت رومه على تملكها العالم بثروات طاحنة وفتن صماء دامت قرناً من الزمان.