قصة الحضارة - ول ديورانت - م 3 ك 1 ب 3

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 2909

قصة الحضارة -> قيصر والمسيح -> الجمهورية -> هنيبال يحارب رومة -> قرطاجنة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثالث: هنيبال يحارب رومه 264-202 ق.م

الفصل الأول: قرطاجنة

كشف التجار الفينيقتون- وهم قوم ديدنهم البحث والتنقيب- عن ثروة إسبانيا المعدنية قبل ألف ومائة عام من تلك الأيام. ولم يمض على هذا الكشف إلا قليل من الوقت حتى كان أسطول من السفن التجارية يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط بين صيدا وصور وبيلوس من ناحية وطارطسوس Tartessus عند منصب نهر الوادي الكبير من ناحية أخرى. وإذ كانت هذه الأسفار مما يتعذر القيام بها من غير أن تكون فيها محاط كثيرة في الطريق، وإذ كانت سواحل البحر الأبيض الجنوبية أقصر الطرق وآمنها، فقد أنشأ الفينيقيون مراكز وسطى ومحاط تجارية على سواحل إفريقيا الشمالي عند لبتس مجنا Leptes Magna (ليدة الحالية) وهدرومنتم Hadrumentum (سومة) وبوتيكا (بوتيك) وهبوديرهيتس Hppo Diarrhytus وهبورجيوس Hippo Regius (بونة)، بل إنهم عبروا مضيق جبل طارق وأقاموا مركزًا لهم في لكسوس Lixus (جنوب طنجة). وتزوج التجار الساميون الذين أقاموا في هذه المراكز من الأهالي وأسكتوا غيرهم بالمال. وفي عام 813 ق.م أقامت جماعة جديدة من المستعمرين- قد يكونون من فينيقية وقد يكونون من يتكيا Utica التي أخذت وقتئذ في الاتساع- أقامت هذه الجماعة بيوتًا لها على نتوء في البحر على بعد عشرة أميال من مدينة تونس الحالية. وكان الدفاع عن شبه الجزيرة الفينيقية أمرًا سهلاً، وكانت مياه نهر بجرداس (مجردة) تروي أرضها وتفيض عليها الخصب والنماء، ولذلك كانت تعود إلى الانتعاش بسرعة بعد ما كان يحل بها من التخريب المتكرر. وتعزو الروايات القديمة إنشاء هذه المدينة إلى إليسا Elissa أو ديدو Dido ابنة ملك صور، فتقول إن أخاها قتل زوجها فأبحرت مع طائفة أخرى من المغامرين إلى إفريقيا. وسمي المكان الذي استقرت فيه كارت هدشت- أي المدينة الجديدة- تمييزًا لها عن يتيكا. وحول اليونان هذا الاسم إلى كارشدون وبدله الرومان إلى كرثاجو. وأطلق اللاتين اسم إفريقيا على الإقليم المحيط بقرطاجنة ويتكيا وسموا أهلها الساميين، كما كان يسميهم اليونان، البوني أو الفوني، أي الفينيقيين. وهاجر كثيرون من سراة أهل صور إلى إفريقيا عقب حصار سلمانصر، ونبوخذ نصر والإسكندر، واستقر معظمهم في قرطاجنة، فأصبحت بسبب هذه الهجرة مركزًا جديدًا للتجارة الفينيقية، وأخذت قوة قرطاجنة وعظمتها في الازدياد كلما أخذت صور وصيدا في الاضمحلال.

ولما ازدادت المدينة قوة دفعت أهل إفريقيا الأولين إلى الداخل شيئاً فشيئاً، وامتنعت عن أداء الجزية لهم، بل أرغمتهم على أن يؤدوها هم واستخدمتهم أرقاء وأقناناً في بيوتها ومزارعها. وكانت نتيجة هذا أن نشأت لأهل قرطاجنة ضياع واسعة كان يعمل في بعضها عشرون ألف رجل(1)، وأضحت الزراعة عند الفينيقين العمليين علمًا وصناعة، ولخص قواعدها ماجو الكاتب القرطاجني في كتاب ذائع الصيت. وشق الأهلون القنوات فأخصبت الأرض ونشأت فيها حدائق ذات بهجة، وحقول من القمح والكروم، وبساتين تنتج الزيتون والرمان والكمثرى والكرز والتين(2). وربوا الخيل والأنعام والضأن والمعز، واستخدموا الحمير والبغال في حمل الأثقال، وأنسوا كثيرًا من الحيوانات ومنها الفيل. أما الصناعات في المدن فلم تزدهر ازدهار الزراعة اللهم إلا صناعة المعادن؛ ذلك أن القرطاجنيين، كآبائهم الأسيويين، كانوا يفضلون أن يتجروا فيما يصنعه غيرهم، فكانوا يجربون الأقطار، يقودون بغالهم شرقًا وغربًا، ويضربون في قفار الصحراء طلبًا للفيلة والعاج والذهب والعبيد. وكانت سفنهم الضخمة تحمل المتاجر من مئات المواني بين آسيا وبريطانيا وإليهما، لأنهم لم يكونوا يرضون أن يعودوا كما عاد معظم الملاحين عند أعمدة هرقول Pillars of Hercules (مضيق جبل طارق)؛ وأكبر الظن أنهم هم الذين أنفقوا على رحلة هنو Hanno البحرية التي ارتادت ألفين وستمائة ميل من ساحل أفريقيا الغربي، ورحلة هملكو Himilco التي ارتادت سواحل أوربا الشمالية. ويلوح أنهم كانوا أول من أصدر عملة من نوع العملة الورقية- في صورة رقائق من الجلد مطبوع عليها ما يدل على قيمتها ويتعامل بها في جميع أنحاء الدولة القرطاجنية، وإن لم يكن من المستطاع تمييز عملتهم المعدنية عن عملة غيرهم من الأمم. والراجح أن التجار الأثرياء لا الأشراف أصحاب الضياع هم الذين قدموا الأموال اللازمة لتجييش الجيوش وإنشاء الأساطيل التي حولت قرطاجنة من مركز للتجارة إلى إمبراطورية استولت على ساحل البحر الأبيض الجنوبي من سيرنيكا Cyrenaica إلى جبل طارق والى ما بعد جبل طارق عدا يتكا. واستولى القرطاجنيون كذلك على طارطسوس وجادير (فادز) وغيرهما من المدن الأسبانية، وأثرت بما أخذته من ذهب أسبانيا وفضتها وحديدها ونحاسها. وتملكت جزائر البليار، بل أنها وصلت إلى جزائر ماديرة ومالطة وسرادانية وقورسقة ونصف صقلية الغربي. وكانت تعامل البلاد الخاضعة لحكمها معاملة مختلفة الدرجات في قسوتها، فكانت تفرض عليها جزية سنوية، وتجند الأهلين في جيوشها، وتقيد تجارتها وعلاقاتها الخارجية بأشد من القيود. ولكنها في نظير هذا كانت تحميها من أعدائها عسكريًا، وتمنحها استقلالاً ذاتيًا محليًا، واستقرارًا اقتصاديًا. وفي وسعنا أن نقدر ما كان لهذه البلاد الخاضعة لقرطاجنة من ثراء إذا عرفنا أن واحدة منها هي لبتس الصغرى Leptis Minor كانت تؤدي إلى خزانة قرطاجنة 365 وزنة (أي ما يعادل 1.314.000 ريال أمريكي من نقود هذه الأيام).

واستغلت قرطاجنة هذه الإمبراطورية استغلالاً جعلها في القرن الثالث قبل الميلاد أكثر مدائن البحر الأبيض المتوسط ثراء، فقد كان يدخلها كل عام من الضرائب الجمركية ومن الخراج نحو 12.000 تالنت أي قدر ما كان يدخل في خزائن أثينا أيام مجدها عشرين مرة. وكان سراتها يسكنون القصور ويلبسون الملابس الغالية الثمن ويطمعون الأطعمة الشهية يأتون بها من خارج بلادهم. وازدحمت المدينة بسكانها البالغ عددهم ربع مليون نسمة واشتهرت بما أقيم فيها من الهياكل الفخمة والحمامات العامة، ولكن أكثر ما كانت تشتهر به الأمينة وأحواضها الواسعة. وكان في مقابل كل حوض من أحواضها البالغة 220 حوضًا عمودان أيونيان Ionic؛ ومن ثم أضحى الميناء الداخلي ذا الشكل مستدير فخم يحيط به 440 عمودًا. وكان يوصل هذا الميناء بالسوق العامة طريق واسع به ميدان ذو عمد، تزينه تماثيل يونانية، وتقوم على جانبيه الأبنية المحتوية على المصالح الحكومية، والمكاتب التجارية، ودور القضاء والعبادة. أما الشوارع التي تجاور هذا الطريق، فكانت ضيقة كمعظم شوارع البلاد الشرقية، وكانت ملئ بالحوانيت التي تقوم فيها الصناعات المختلفة وتعقد فيها آلاف الصفقات التجارية. وكانت بيوتها ترتفع في الجو إلى ستة أطباق؛ وكثيرًا ما كانت الحجرة الواحدة تضم أسرة بأكملها. وكان في وسط المدينة ربوة عالية أو قلعة- كانت هي وغيرها من المعالم مما أوحى إلى الرومان بالصورة التي أقاموا عليها مدينتهم- تسمى "البورصة" Byrsa، وتضم بيت المال، ومضرب النقود، وكثيرًا من المزارات والعمد، وأفخم معبد في قرطاجنة كلها وهو معبد الإله إشمون Eshmun؛ وكان يحيط بالمدينة من ناحيتها الأرضية غير البحرية سور من ثلاثة جدران يرتفع خمسًا وأربعين قدمًا في الهواء، ومن فوقه أبراج وشرفات، ومن داخل الأسوار فضاء يتسع لأربعة آلاف حصان وثلاثمائة فيل، وعشرين ألف رجل(3).وفي خارج الأسوار كانت مزارع الأغنياء ومن بعدها حقول الفقراء.

وكان القرطاجنيون من الجنس السامي وثيقي الصلة باليهود الأقدمين في دمهم وفي ملامحهم، وكانت تظهر في لغتهم أحيانًا ألفاظ عبرية، مثال ذلك أنهم كانوا يسمون القضاة شفيتي وتلك هي الكلمة العبرية شفتيهم. وكان الرجال يرسلون لحاهم ولكنهم كان من عادتهم أن يحلقوا شفتيهم العليا بشفرات من البرونز. وكان معظمهم يضعون على رؤوسهم قلانس أو عمائم، ويحتذون أحذية أو أخفافًا، ويلبسون جلابيب طويلة فضفاضة؛ ولكن الطبقات العليا من الأهلين قلدت اليونان في ملابسهم، وصبغت أثوابها باللون الأرجواني ووشت أطرافها بالخرز الزجاجي. أما النساء فكن في الغالب متحجبات يحيين حياة العزلة؛ وكان في وسعهن أن يبلغن مناصب كهنوتية عالية، أما فيما عدا ذلك فكان عليهن أن يأسرن الرجال بجمالهن. وكان الأهلون جميعًا- رجالاً كانوا أو نساء- يتحلون ويتعطرون ويضعون أحيانًا حلقات معدنية في أنوفهم. ولسنا نعرف إلا القليل عن أخلاقهم من غير أعدائهم، فالكتاب اليونان والرومان يصفونهم بالإسراف في الطعام والشراب، وبأنهم يحبون أن يجتمعوا في نوادي الطعام، وأنهم إباحيون في علاقاتهم الجنسية فاسدون في شؤونهم السياسية؛ وكان الرومان المعروفون بالغدر يستعملون لفظ الوفاء القرطاجني Fides Punica مرادفًا للفظ الخيانة. ويقول بولبيوس أن "لا شيء ينتج عنه كسب يعد عارًا في قرطاجنة(4)" ويتهم فلوطرخس أهل قرطاجنة بأنهم "خشنو الطباع مكتئبون، سلسو القياد في أيدي حكامهم، قساة على الشعوب الخاضعة لسلطانهم، إذا خافوا بلغوا منتهى الجبن، وإذا غضبوا بلغوا منتهى الوحشية، عنيدون لا يرجعون عن شيء أقروه، صارمون، لا يستجيبون إلى دواعي اللهو أو مباهج الحياة(5). ولكن فلوطرخس رغم ما عرف به من العدل في أحكامه كان يونانيًا على الدوام، وأما بولبيوس فكان صديقًا حميمًا لسبيو الذي حرق قرطاجنة ومحا آثارها من الوجود.

ويبدو القرطاجنيون في أسوء صورهم في دينهم، وإن كان كل ما نعرفه عنهم من هذه الناحية قد وصل إلينا عن طريق أعدائهم. لقد كان أسلافهم في فينيقية يعبدون بعل مُلُك وعشتروت بوصفهما ممثلين لعنصري الذكر والأنثى في الطبيعة وللشمس والقمر في السماء؛ وعبد القرطاجنيون إلهين مماثلين لهما وهما بعل هامان وثانيت. وكانت ثانيت بصفة خاصة تثير حبهم وتقواهم؛ فكانوا يملئون هياكلها بالهدايا ويقسمون بأسمها. ويلي هذين الإلهين في التعظيم ملكارت "مفتاح المدينة" ثم إشمون رب الثروة والصحة، ويأتي من بعد هذه كلها حشد كبير من الآلهة الصغرى تسمى "البعول" أو الأرباب. بل عن ديدو نفسه كان من هذه المعبودات(6). وكانوا في الأزمات العصيبة يضحون لبعل- هامان بالأطفال الأحياء، وكان عدد من يضحي بهم لهذا الإله في اليوم الواحد يبلغ أحيانًا ثلاثمائة طفل. وكانت طريقتهم في هذه التضحية أن يضعوا الأطفال فوق ذراعي هذا الوثن المبسوطتين، ثم يدحرجونهم إلى النار المتقدة أسفل الذراعين؛ وكان يغطى على صياحهم أصوات الأبواق والدفوف، ويطلب إلى أمهاتهم أن يشهدن هذا المنظر دون توجع أو بكاء لئلا يتهمن بالكفر ويخسرون ما هو خليق بهم من رضاء الآلهة. وتطورت الأمور بعد ذلك فكان الأغنياء يأبون أن يضحوا بأطفالهم ويبتاعون بدلاً منهم أطفال الفقراء، فلما أن حاصر أجثكليز Agathocles صاحب سرقوسة Syracuse مدينة قرطاجنة خشيت الطبقات العليا من أهل المدينة أن يكون احتيالها وتهربها من واجبها المقدس قد أغضب الآلهة فألقت في النار مائتين من أبناء الأشراف(7). على أن من واجبنا أن نضيف إلى هذا أن تلك القصص إنما يقصها علينا ديودور وهو يوناني من أهل صقلية لا يستنكف أن يشهد ما إعتاده اليونان من قتل أطفالهم وهو هادئ مطمئن. وليس ببعيد أن يكون منشأ هذه العادة القرطاجنية عادة التضحية بالأطفال أن أولئك القوم أرادوا أن يصبغوا ما يبذلون من الجهد لضبط النسل بصبغة التقي والصلاح.

ولما أن دمر الرومان قرطاجنة أهدوا ما وجدوه فيها من المكتبات إلى أحلافهم من أهل أفريقية. ولكن هذه الكتب لم يبق منها إلا كتاب هنو الذي سجل فيه رحلته وشذرات من كتاب ماجو في الزراعة. ويؤكد لنا القديس أوغسطين تأكيدًا يكتنفه شيء من الغموض أنه "كان في قرطاجنة كثير من الأشياء التي خلدت ذكراها في عقول من خلفهم من الناس(8)". وقد استعان سلست Sallust وجوبا Juba بما كتبه المؤخرون القرطاجنيون، ولكنّا لا نجد لدينا تاريخًا لقرطاجنة كتبه مؤرخ من أبنائها. أما عمارتها فحسبنا أن نقول عنها إن الرومان لم يتركوا فيها حجرًا على حجر. ويقص علينا بعضهم أن طراز مبانيها كان مزيجًا من الطرازين الفينيقي واليوناني، وأن هياكلها كانت ضخمة مزخرفة، وأن هيكل بعل- هامان وتمثاله كانا مصفحين بألواح من الذهب تقدر قيمتها بألف وزنة (تالنت)، وأن اليونان أنفسهم مع ما عرف عنهم من زهو وكبرياء كانوا يعدون قرطاجنة من أجمل العواصم في العالم كله. ويحتوي متحف تونس على قطع من توابيت الموتى وجدت في مقابر بالقرب من موقع قرطاجنة، أجملها كلها صورة واضحة المعارف، لعلها صورة ثانيت، يونانية الطابع في جوهرها. وثمة تماثيل صغرى استخرجت من القبور القرطاجنية وفي جزائر البليار، ولكنها فجة خالية من الدقة، وكثيرًا ما تكون بشعة لا تطيق العين رؤيتها كأنها صنعت لإرهاب الأطفال أو طرد الشياطين. أما ما بقي من الخزف فيدل على أن هذا الفن كان يقصد إلى النفع لا إلى الجمال الفني، ولكنا نعرف أن الصناع القرطاجنيين قد أخرجوا نماذج طيبة من المنسوجات، والحلي، والنقش على العاج والأبنوس والكهرمان والزجاج.

وليس في استطاعتنا في الوقت الحاضر أن نرسم أية صورة واضحة للحكومة القرطاجنية. وقد أثنى أرسطوطاليس على دستور قرطاجنة ووصفه بأنه "أرقى من سائر دساتير العالم في كثير من نواحيه"، وذلك "لأن الدولة تعد حسنة النظام إذا كان العامة أوفياء لدستورها على الدوام، وإذا لم يثر فيها نزاع أثيم يستحق الذكر، وإذا لم يستطع أحد أن ينصب نفسه دكتاتورًا(10)"؛ وكان أهلها يجتمعون من آن إلى آن في جمعية وطنية من حقها أن تقبل أو ترفض ما يعرضه عليها من الاقتراحات مجلس الشيوخ المكون من ثلاثمائة من أهل المدينة الكبار، ولا حق لها في مناقشتها أو تعديلها.على أن مجلس الشيوخ نفسه لم يكن يحتم عليه أن يعرض على الجمعية أي مشروع في وسع أعضائه أن يتفقوا عليه(11). وكان السكان هم الذين يختارون الشيوخ، غير أن الرشا العلنية قد أنقصت من مزايا هذه الإجراءات الديمقراطية ومن أخطارها، وأحلت ألجاركية المال محل أرستقراطية المولد. وكانت الجمعية الوطنية تختار في كل عام شفيتيين Shofetes ليرأسا الناحيتين القضائية والإدارية في الدولة. وكان من فوق الهيئات القضائية والإدارية جميعًا محكمة مؤلفة من 104 من القضاة يبقون في مناصبهم مدى الحياة، وإن كان القانون لا يجيز هذا البقاء. وإذ كان من حق هذه المحكمة أن تشرف على جميع فروع الإدارة، وأن تستدعي كل موظف عمومي بعد انتهاء مدة خدمته لتحاسبه على أعماله، فقد أصبحت قبيل الحروب البونية هي المسيطرة على جميع الإدارات الحكومية والمشرفة على جميع المواطنين.

وكان مجلس الشيوخ هو الذي يرشح القائد الأعلى للجيش، على أن تختاره الجمعية من بين المرشحين. وكلن مركزه خيرًا من مركز القنصل في رومه لأنه كان في وسعه أن يبقى في منصبه طوال المدة التي يرغب مجلس الشيوخ أن يبقى فيه. لكن الرومان قد سيروا على قرطاجنة جحافل من ملاك الأراضي الوطنيين، على حين أن الجيش القرطاجني كان مؤلفًا من مرتزقة الجند الأجانب معظمهم من اللوبيين الذين لا يشعرون نحو قرطاجنة بأقل عاطفة وطنية، ولا يدينون بالولاء إلا لمن يؤدي إليهم أجورهم، ولقائدهم في بعض الأحيان. وما من شك في أن الأسطول القرطاجني كان في أيامه أقوى أساطيل العالم على الإطلاق، فقد كانت خمسمائة سفينة ذات خمسة صفوف من المجدفين، زاهية الألوان، رفيعة، سريعة، ترد المعتدين على مستعمرات قرطاجنة وأسواقها ومسالكها التجارية. وكان فتح هذا الجيش القرطاجني لصقلية، وإقفال هذا الأسطول حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي في وجه التجارة الرومانية، منشأ الصراع المرير الذي دام نحو مائة عام والمعروف بأسم الحروب البونية الثلاث.


الفصل الثاني: رجيولوس Regulus

لقد ظلت الأمتان صديقتين طالما كان إحداهما من القوة ما تستطيع به أن تسيطر على الأخرى. وقد عقدتا في عام 508 معاهدة اعترفنا فيها بسيادة رومه على شاطئ لاتيوم وتعهد فيها الرومان ألا يسيروا سفنهم في البحر الأبيض المتوسط غربي قرطاجنة، وألا ينزلوا في سردانية أو لوبية إلا فترات قصيرة يصلحون فيها سفنهم أو يمونونها(12). ويقول أحد الجغرافيين اليونان إن القرطاجنيين اعتادوا أن يغرقوا كل بحار أجنبي يجدونه بين سردانية وجبل طارق(13). وكان اليونان في مساليا Massalia (مرسيليا) قد نشأت لهم تجارة شاطئية سليمة بين جنوبي غالة وشمالي أسبانيا الغربي؛ وتروي الأخبار أن قرطاجنة كانت تحارب هذه التجارة حروب قرصنة، وإن مساليا كانت حليفة وفية لرومه (ولسنا ندري ما في هذه الأخبار من دعاوة حربية يسمونها تاريخًا تكريمًا لها وتعظيمًا). أما وقد سيطرت رومه على جميع إيطاليا فإنها لم تكن تشعر بالأمن والطمأنينة إلى سلامتها ما دامت هناك قوتان معاديتان لها- اليونان والقرطاجنيون- تتملكان صقلية، وهي لا تكاد تبعد عن ساحل إيطاليا بميل واحد. يضاف إلى هذا أن صقلية خصبة التربة، في وسعها أن تمون نصف إيطاليا بالحبوب؛ وإذا ما استولت رومه على صقلية سقطت سردانية وقورسقة في يدها من تلقاء نفسهما. فما هو ذا طريق لابد من سلوكه وهو الطريق الطبيعي لتوسع رومه وبسطة ملكها.

وقد بقي أن توجد الحجة التي تتذرع بها رومه لإشعال نار الحرب. وقد جاءت هذه الحجة في عام 264 ق.م حين استولى جماعة من مرتزقة السمنيين يسمون أنفسهم الممرتيين Mamertines أي "رجال المريخ" على بلدة مسانا Messana الواقعة على أقرب سواحل لإيطاليا، وذبحوا السكان اليونان أو أخرجوهم من البلدة، واقتسموا فيما بينهم نساء هؤلاء الضحايا وأبناءهم وأملاكهم، وجعلوا ديدنهم الإغارة على المدن اليونانية القريبة من تلك البلدة. فما كان من هيرو الثاني Hiero II دكتاتور سرقوسة إلا أن حاصرهم، ولكن قوة قرطاجنية نزلت في مسانا وردت هيرو على أعقابه واستولت على المدينة. واستغاث الممرتيون برومه وطلبوا إليها أن تعينهم على من أنقذوهم من عدوهم؛ وتردد مجلس الشيوخ في تقديم هذه المعونة لأنه يعرف ما لقرطاجنة من قوة وثروة، ولكن الأثرياء من العامة الذين يسيطرون على الجمعية المئوية أخذوا يدعون للحرب وللاستيلاء على صقلية. وقر قرار رومه أن تبعد القرطاجنيين عن هذا الثغر ذي الموقع الحربي الهام القريب كل القرب منها مهما كلفها هذا من ثمن؛ وجهزت رومه أسطولاً وعقدت لواءه لكيوس كلوديوس Caius Claudius وسيرته لإنقاذ الممرتيين؛ ولكن القرطاجنيين استطاعوا في هذه الأثناء أن يقنعوا الممرتيين بالعدول عن طلب مساعدة رومه، وأرسلوا رسالة بهذا المعنى إلى كلوديوس في ريجيوم Rhegium. غير أن كلوديوس لم يلق بالاً إلى هذه الرسالة، وعبر المضيق الذي يفصل إيطاليا عن صقلية، ودعا أمير البحر القرطاجني إلى المفاوضة؛ فلما جاءه قبض عليه وسجنه، وبعث إلى الجيش القرطاجني يقول إنه سيقتل أمير البحر إذا أبدى الجيش أية مقاومة. ورحب الجنود المرتزقة بهذه الحجة التي تتيح لهم فرصة تجنب القتال مع الفيالق الرومانية، وتظهرهم في الوقت نفسه بمظهر الشهامة، وسقطت مسانا في يد رومه.

وبرز في هذه الحرب البونية (الفينيقية) الأولى بطلان عظيمان هما رجيولوس الروماني وهملكار القرطاجني. ولعل في وسعنا أن نضيف إليهما ثالثاً ورابعاً هما مجلس شيوخ رومه والشعب الروماني. فأما مجلس الشيوخ فلأنه ضم هيرو صاحب سرقوسة إلى جانب رومه وضمن بذلك وصول العتاد والزاد إلى الجنود الرومان في صقلية، هذا إلى أنه قد نظم الأمة أحسن تنظيم قائم على الحكمة والسداد، وقوي عزيمتها، وقادها إلى النصر وسط الخطوب والأهوال الجسام. هذا فضل مجلس الشيوخ، أما الرومان أنفسهم فقد أمدوا الحكومة بالمال والعتاد، والأيدي العاملة، وبالرجال الذين بنوا لرومه أسطولها الأول- وكان مؤلفًا من 330 سفينة كلها تقريبًا ذات صفوف من المجدفين، ويبلغ طول الواحدة منها 150 قدمًا، في كل منها 300 مجذف و120 جنديًا، ومعظمها مجهز بخطاطيف من الحديد لم تكن معروفة من قبل، وبجسور متحركة تمكنهم من الإمساك بسفن الأعداء والنزول إليها. وبهذه الطريقة بدل الرومان الحرب البحرية التي لم يألفوها من قبل حربًا برية يقاتلون فيها أعدائهم يدًا بيد، وتستطيع فيها فيالقهم أن تستفيد بكل ما تمتاز به من مهارة وحسن نظام. ويقول بولبيوس في هذا: "ويدل هذا الحادث أكثر مما يدل غيره من الحوادث على ما للرومان من جرأة وبسالة إذا ما اعتزموا القيام بعمل خطير.. ذلك أنهم لم يفكروا قط قبل هذه الحرب في إنشاء أسطول؛ فلما أن استقر رأيهم على إنشائه بذلوا في ذلك جهد الجبابرة، وهاجموا به من فورهم القرطاجنيين الذين ظلوا عدة أجيال سادة البحار لا ينازعهم فيها منازع- مع أن الرومان لم تكن لهم في حرب البحار خبرة ما (14)". والتقي الأسطولان بالقرب من إكنوموس Economus أحد الثغور الواقعة على ساحل صقلية الجنوبي؛ وكانا يحملان من الجند ثلاثمائة ألف. ودارت بينهما أكبر معركة بحرية في التاريخ القديم (256). وانتصر الرومان فيها انتصارًا مؤزرًا حاسمًا ساروا بعده إلى إفريقيا لا يلوون على شيء، ونزلوا إلى البر دون أن يعنوا باستطلاع الأرض، فالتقوا بقوة تفوق قوتهم كادت تفنيهم عن آخرهم، وأسرت قنصلهم الطائش المتهور. وبعد قليل من ذلك الوقت دفعت العواصف الأسطول الروماني إلى شاطئ صخري فتحطمت منه 284 سفينة وغرق 80.000 من رجاله. وكانت هذه أعظم كارثة بحرية عرفها الناس في التاريخ. وأظهر الرومان بعدها ما في طبائعهم من عزيمة فبنوا في ثلاثة أشهر مائتي سفينة جديدة ذات خمسة صفوف من المجدفين، ودربوا لها ثمانين ألف بحار.

واحتفظ القرطاجنيون برجيولوس في الأسر خمس سنين ثم سمحوا له بأن يرافق قرطاجنية إلى رومه تعرض عليها الصلح بعد أن وعدهم بأن يعود إلى الأسر إذا رفض مجلس الشيوخ الشروط التي عرضوها عليه. فلما سمع رجيولوس هذه الشروط أشار على مجلس الشيوخ بأن يرفضها، ثم عاد مع البعثة إلى قرطاجنة غير عابئ بتوسل أسرته وأصدقائه. وعذبه القرطاجنيون عذابًا شديدًا بأن حرموا عليه النوم حتى فارق الحياة(15). وأمسك أبناؤه في رومه بأسيرين من ذوي المكانة في بلادهما في داخل صندوق ثبتت فيه حراب من الحديد، وحرموا عليهما النوم حتى قضيا نحبهما(16). وليس في مقدورنا أن نصدق كلتا القصتين إلا حين نذكر ما حدث من التعذيب الهمجي في هذه الأيام .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: هملكار

لقد كان في قرطاجنة عدد كبير من أهلها يحملون أسماء هملكار وهزدروبال وهنيبال، ذلك بأن هذه الأسماء لا يخلو منها جيل من الأجيال، وكانت من الأسماء الشائعة في أقدم أسرها. وكانت أسماء تدل على التقي والصلاح، ومشتقة من أسماء الآلهة: فأما هملكار فمعناه: "من يتمتع بحماية ملكارت" وأما هزدروبال فمعناه "من في معونته بعل" ومعنى هنيبال "الفضل لبعل". ولقب هملكار الذي نتحدث عنه في هذا الفصل بهملكار برقة -"الصاعقة" وذلك لأنه كان من طبيعته أن يعجل بضرب عدوه ويفاجئه حيثما وجده. وكان لا يزال شابًا في مقتبل العمر حين ولته قرطاجنة في عام 247 القيادة العليا لجيوشها، فسار ومعه أسطول صغير نحو إيطاليا وأخذ يغير على سواحلها ويفاجئها بالنزول في أراضيها، ويدمر المراكز الرومانية الأمامية، ويأسر كثيرًا من جنودها.ثم أنزل جنوده إلى البر في مواجهة جيش روماني كبير كان يحمي مدينة بنورمس Panormus (بلرمو Palermo الحالية)، واستولى على ربوة تشرف على المدينة. وكانت القوة التي يقودها أصغر من أن تجازف بالاشتباك مع الرومان في واقعة كبرى، ولكنها كانت تعود بالأسباب كلما قادها لمهاجمتهم. وأخذ يرجو مجلس الشيوخ القرطاجني أن يبعث إليه بالأمداد والزاد؛ ولكن المجلس لم يستجب لرجائه وقبض يده فلم يسعفه بالمال الذي كان يكنزه، وأمره أن يطعم جنوده ويكسوهم من مال البلاد التي حوله.

وكان الأسطول الروماني في هذه الأثناء قد انتصر في واقعة بحرية أخرى، ولكنه هزم هزيمة منكرة عند دربانا Drepana (249)، وأضعفت هذه الحروب قوة الفريقين على السواء فاستراحا تسعة أعوام. ولم تفعل قرطاجنة شيئاً في هذه التسع السنين لأنها كانت تعتمد على عبقرية هملكار، وأما رومه فإن جماعة من أبنائها قدموا طائعين عمارة مؤلفة من مائتي سفينة حربية وعليها ستون ألف جندي. وأبحرت هذه العمارة القوية، دون أن يعلم أحد بإبحارها، وباغتت الأسطول القرطاجني عند جزائر إيجاديًا Aegadian Isles بالقرب من ساحل صقلية وأحدقت به فاضطرت قرطاجنة إلى طلب الصلح (241)، ونزلت عن أملاكها في صقلية إلى رومه, وتعهدت أن تؤدي لها غرامة حربية مقدارها 440 تالنتاً في كل عام مدى عشرة أعوام، وألغت كل ما كان مفروضاً على التجارة الرومانية من قيود. وكانت الحرب قد دامت عشرين عامًا أو نحوها وأشرفت رومه في خلالها على هاوية الإفلاس حتى اضطرت إلى تخفيض قيمة نقدها بنحو 83%، ولكنها برهنت على ما في أخلاق الرومان من صلابة لا تلين، وعلى تفوق الجيش المكون من رجال أحرار على مرتزقة الجند الذين يسعون للحصول على أعظم المغانم بأقل ما يمكن إراقته من الدماء.

وأوشكت قرطاجنة أن تقضي عليها شراهتها وأطماعها؛ ذلك أنها كانت قد قبضت يدها بعض الوقت عن جنودها المرتزقين، فلم تؤد إليهم أجورهم، ولم تستثن من هؤلاء من أخلصوا في خدمة هملكار. فأقبلت جموعهم على المدينة يطالبون بتلك الأجور، ولما تلكأت الحكومة في إجابة مطلبهم وحاولت أن تفرقهم تمردوا عليها جهرة. وانضمت الشعوب الخاضعة لقرطاجنة إلى هؤلاء العصاة، وكانت قد أبهظها عبء الضرائب الفادحة الذي رزحت تحته طوال الحرب. وباعت نساء لوبيا حليهن لتمد الثوار بالمال، وحاصر قرطاجنة عشرون ألفًا من الجنود المرتزقين والثوار يقودهم ماثو Matho وهو لوبي محرر واسبنديوس Spendius وهو عبد كمباني Campanian. وكان ذلك الحصار في وقت لا يكاد يوجد فيها جندي يحميها. وارتعدت فرائض التجار فرقًا وخشوا أن يقضي عليهم الثوار، فأرسلوا في طلب هملكار ليؤمنهم على حياتهم. وألفى هملكار نفسه يتنازعه عطفه على جنوده المرتزقة وحبه لمدينته، ولكنه آثر مدينته على جنده وجند جيشاً من عشرة آلاف قرطاجني ودربهم، وقادهم بنفسه، ورفع الحصار عن المدينة. وإرتد الجنود المرتزقون المهزومون إلى الجبال، وقطعوا يدي جسكو Gesco أحد القواد القرطاجنيين وقدميه، وكسروا ساقيه، وفعلوا ذلك الفعل نفسه بسبعمائة أسير غيره، ثم ألقوا بمن بقي منهم أحياء في قبر واحد بلا تمييز بينهم(17). واحتال هملكار على أربعين ألفًا من العصاة حتى اضطرهم إلى الالتجاء إلى مضيق، وسد عليهم مسالكه حتى أوشكوا على الهلاك من الجوع. فأكلوا من بقي لديهم من الأسرى، ثم أكلوا عبيدهم، واضطروا في آخر الأمر أن يرسلوا أسبنديوس Spendius بطلب الصلح، فما كان من هملكار إلا أن صلب أسبنديوس وألقي بمئات من الأسرى تحت أرجل الفيلة، وظلت تطؤهم حتى قضوا نحبهم. وحاول العصاة أن يشقوا لهم بالقوة مخرجاً من مأزقهم الذي وقعوا فيه، ولكن جيش هملكار قطع أصلابهم، وقبض على ماثو وأرغمه على أن يعدو في شوارع قرطاجنة وأهلها من ورائه يضربونه بالسياط ويعذبونه حتى مات(18). ودامت "حرب المرتزقة" هذه أربعين شهرًا (241-237)، ويقول بولبيوس "إنها كانت أفظع الحروب وأشدها وحشية، وإن ما سفك فيها من الدماء لم يسفك مثله في التاريخ كله(19)". ولما أن خمدت نار الفتنة وجدت قرطاجنة أن الرومان قد احتلوا سردانية. فلما احتجت على هذا الاعتداء أعلن الرومان الحرب عليها. واضطر القرطاجنيون في يأسهم إلى طلب الصلح، ولم ينالوه إلا بأن يؤدوا لرومه فوق ما كانوا يؤدون لها من الغرامة 1200 تالنت، وأن يتخلوا عن سردانية وقورسقة.

وفي وسعنا أن نتصور غضب هملكار من هذه المعاملة القاسية التي عوملت بها بلاده. فعرض على حكومته أن تمده بالجند والمال ليعيد قوة قرطاجنة في أسبانيا وليستعين بها مهاجمة إيطاليا. وعارض الملاك الأشراف في هذه الخطة لأنهم كانوا يخافون مغبة الحرب، ولكن طبقة التجار التي حز في نفوسها ما فقدته من الأسواق والثغور الأجنبية أيدته. وتراضت الفئتان بعدئذ على أن يعطى هملكار قوة صغيرة عبر بها البحر إلى أسبانيا (238)، واستولى على المدن التي كان ولاؤها لقرطاجنة قد تزعزع في أثناء الحرب، وقوى صفوف جيشه بأهلها، وجهزه وأمده بالمال من غلات المناجم الأسبانية، ومات وهو يقود هجوماً على إحدى قبائل تلك البلاد (229). وترك وراءه في معسكره هزدروبال زوج ابنته وأولاده هنيبال وهزدروبال وماجو- الملقب "بابن أسده". واختير زوج ابنته قائدًا في مكانه، وظل ثماني سنسن يحكم البلاد بحكمة وسداد كسب في أثنائها معونة الأسبان، وأقام بجوار مناجم الفضة مدينة عظيمة يعرفها الرومان باسم قرطاجنة الجديدة (Nova Carthage) وهي مدينة قرطاجنة الباقية إلى اليوم. ولما اغتيل في عام 221 اختار الجيش لقيادته هنيبال أكبر أبناء هملكار، وكان وقتئذ في السادسة والعشرين من عمره. وكان أبوه قد جاء به قبل أن يغادر قرطاجنة، وهو لا يزال غلاماً في التاسعة من عمره، إلى مذبح بعل- هامان واستحلفه أن يثأر لبلاده من رومه في يوم من الأيام. وأقسم هنيبال ولم ينس قط قسمه.


الفصل الرابع: هنيبال

ترى لـمَ سكتت رومه حتى عادت قرطاجنة إلى فتح أسبانيا؟ لقد أرغمها على هذا السكوت أن النزاع بين الطبقات كان يمزق أحشاءها، وأنها كانت تمد سلطانها على شواطئ البحر الأدرياوي، وكانت مشتبكة في حرب من الغالبين. ذلك أن أحد التربيونين وهو كيوس فلامينيوس Caius Flaminius قد سبق ابني جراكس Gracchii فأقنع الجمعية في عام 232 بالموافقة على اقتراح يقضي بتوزيع أراضي غنمتها رومه من الغالبين على فقراء المواطنين، وذلك بالرغم من معارضة مجلس الشيوخ الشديدة لهذا الاقتراح. وفي عام 230 خطت رومه الخطوة الأولى لفتح بلاد اليونان، وذلك بتطهير البحر الأدرياوي من القراصنة وباستيلائها على جزء من سواحل ألبرياlilyria لتحمي بذلك التجارة الإيطالية من العدوان. ولما أن اطمأنت على سلامتها من ناحيتي الجنوب والشرق اعتزمت أن تطرد الغاليين إلى ما وراء جبال الألب، وتجعل من لإيطاليا بأكملها دولة متحدة كل الاتحاد. وأرادت أن تضمن سلامتها من ناحية الغرب فعقدت معاهدة مع هزدروبال تعهد فيها القرطاجنيون بأن يبقوا جنوب نهر الإبرة Ebro، وعقدت في الوقت نفسه حلفًا مع مدينتي سجنتم Saguntum وامبورياس Ampurias الأسبانيتين الإغريقيتي الصبغة. ولكن جيشاً غالياً مؤلفاً من خمسين ألفاً من المشاة وعشرين ألفاً من الفرسان إنقض على شبه الجزيرة من الشمال. وارتاع سكان العاصمة أشد الارتياع، ولجأ مجلس الشيوخ إلى العادة البدائية عادة التضحية البشرية، ودفن اثنين من الغالة حيين في السوق العامة مرضاة للآلهة(20). والتقت الفيالق الرومانية بالغزاة قرب تلامون Telamon وقتلت منهم أربعين ألفاً وأسرت عشرة آلاف، وزحفت نحو الشمال لتخضع جميع بلاد الغاليين الواقعة في جنوب جبال الألب، وأنمت هذا العمل في ثلاث سنين وأنشأت مستعمرات رومانية عند بلاسنتيا Placentia، وكرمونا Cremona لحماية البلاد من الغاليين وبذلك أصبحت إيطاليا دولة واحدة تمتد من جبال الألب في الشمال إلى صقلية في الجنوب.

ولكن هذا النصر قد جاء في غير أوانه؛ فلو أن الغاليين قد تركوا في أماكنهم بضع سنين أخرى لكان في وسعهم أن يقفوا في وجه هنيبال؛ أما والحال كما هي فإن بلاد الغالة كلها كانت تضطرم بنار الثورة على رومه. ورأى هنيبال أن هذه هي الفرصة التي طالما تاقت نفسه إليها- فرصة اجتياز بلاد الغاليين دون أن يلقي مقاومة تستحق الذكر، وغزو إيطاليا ومعه القبائل الغالية تحالفه وتشد أزره.

وكان القائد البوني يومئذ في الثامنة والعشرين من عمره، وفي عنفوان شبابه، وثيق الأركان ثبت الجنان. وكان قد جمع إلى ثقافة السادة القرطاجنيين، وتمكنهم من لغتي فينيقية وآدابهما وتاريخهما(21)، جمع إلى هذه الثقافة تدريباً عسكرياً دام عشر عاماً في المعسكر الحربي، أدب في خلالها نفسه أحسن تأديب، فعود جسمه شظف العيش ومغالبة الصعاب، وأخضع شهواته لعقله، وعود لسانه السكوت، كما عود أفكاره أن تركز فيما يهدف إليه من الأغراض. ولم يكن يضارعه أحد في الجري أو في سباق الخيل، وكان في مقدوره أن يخرج إلى الصيد أو القتال مع أشجع الشجعان؛ ويصفه ليفي وهو من أعدائه بأنه: "كان أول من يدخل المعمعة، وآخر من يخرج من الميدان(22)". وكان محببًا إلى القواد والجنود الذين ضرستهم الحروب، لأنهم إذا كانوا في حضرته تمتلكهم هيبته وثاقب نظراته فخالفوا أن هملكار قائدهم الأكبر قد عاد إليهم في عنفوان الشباب. وأحبه المجندون الجدد لأنه لم يكن يرتدي ثياباً يميز بها نفسه منهم ولا يستريح حتى يكفل للجيش كل حاجاته، وكان يقسمهم كل ما يصيبهم من شر وخير. أما الرومان فكانوا يتهمونه بالبخل والقسوة والغدر، لأنه لم يكن يتقيد بمبدأ من المبادئ يحول بينه وبين الاستيلاء على المؤن لجنده، وكان يجازي على الخيانة وعدم الولاء أشد الجزاء، وكان ينصب لأعدائه كثيرًا من الشراك. ولكننا كثيراً ما نجده مشفقاً رحيماً، ونراه على الدوام شهماً ذا مروءة. ويقول عنه ممسن Mommsen ذلك القول الحكيم وهو "أنه ليس فيما يروى عنه شيء لا يمكن أن تبرره ظروف وقته والقوانين الدولية التي كانت سائدة في أيامه(23)". ولم يكن في وسع الرومان أن يرضوا عنه لأنه كان يكسب الوقائع الحربية بعقله لا بدماء رجاله، ذلك أن الحيل التي كان يحتال بها عليهم، ومهارته في التجسس عليهم ومعرفة أسرارهم، وعلمه بفنون الحرب والحركات العسكرية، وقدرته على مباغتة أعدائه، كل هذا ظل فوق إدراكهم وتقديرهم حتى دمرت قرطاجنة.

وحدث في عام 219 ق.م أن دبر عمال رومه في سجنتم انقلاباً سياسياً أقام في المدينة حكومة وطنية معادية لقرطاجنة. ولما أساء أهل المدينة معاملة بعض القبائل الموالية لهنيبال، وأمرهم بالكف عن هذه المعاملة السيئة، فلما رفضوا طلبه حاصر المدينة، فاحتجت رومه على قرطاجنة وأنذرتها بالحرب؛ فكان رد قرطاجنة أن سجنتم تبعد عن نهر إبره Ebro مائة ميل نحو الجنوب، وأن ليس من حق رومه أن تتدخل في هذا النزاع، وأنها إذ وقعت معاهدة مع تلك المدينة أخلت بشروط معاهدتها مع هزدروبال. وواصل هنيبال الحصار، وامتشقت رومه الحسام مرة أخرى، وهي لا تدري أن هذه الحرب البونية الثانية ستكون أشد هولاً من جميع الحروب التي خاضت غمارها في تاريخها كله.

وقضي هنيبال في إخضاع أهل سجنتم ثمانية أشهر كاملة، وذلك لأنه لم يكن يجرؤ على التقدم لغزو إيطاليا ويترك لرومه من ورائه ثغرًا هاماً تستطيع أن تنزل جنودها فيه. فلما تم له الاستيلاء عليها عبر نهر الإبرة في عام 218 وتحدى الأقدار كما تحداها قيصر من بعده حين تخطى الربيكون Rubicon. وكان تحت قيادته جيش يتألف من خمسين ألفاً من المشاة وتسعة آلاف من الفرسان، ليس فيهم أحد من الجنود المرتزقين، ومعظمهم من الأسبان واللوبيين. ولكن ثلاثة آلاف من جنوده الأسبان نكصوا على أعقابهم حين علموا أنه ينتوي عبور جبال الألب، وسرح هو نفسه سبعة آلاف غيرهم لأنهم احتجوا على هذه المغامرة، وقالوا إنها مستحلية التحقيق(24). وكان اختراق جبال البرانس نفسها من أشق الأعمال؛ ولم يكن يتوقع قط أن يلقي ما يلقيه من المقاومة الشديدة من بعض قبائل الغاليين أحلاف مرسيلية؛ واقتضاه الوصول إلى نهر الرون حروباً دامت ثمانية أشهر، فلما وصله كان لابد له من معركة عنيفة ليتمكن من اجتيازه. وما كاد يبتعد عن شاطئيه حتى وصل جيش روماني عند مصبه.

واتجه هنيبال بجيشه شمالاً نحو فين Vienne ثم اتجه به شرقًا نحو جبال الألب. وكانت جموع من الكلت قد عبرت هذه السلاسل الجبلية من قبله، وكان في مقدوره هو أن يعبرها دون أن يلقى في سبيل ذلك صعابًا غير عادية لو لا عداء القبائل الألبية وما عاناه من الصعاب في تسيير فيلته في الممرات الضيقة أو الشديدة الانحدار. وقضى هنيبال في تسلق الجبال تسعة أيام وصل بعدها في أوائل شهر سبتمبر إلى قممها فوجدها مغطاة بالثلوج؛ وبعد أن استراح هو ورجاله ودوابه يومين شرع في النزول في ممرات أشد وعورة من التي سلكها في الصعود، وطرق مغطاة في بعض الأحيان بجلاميد من الصخر ومرصوفة في أحيان أخرى بالجليد. وكثيرًا ما كانت أقدام الجنود والدواب فتتردى في هاويات سحيقة تلقى فيها حتفها. وكان هنيبال يستحث جنوده اليائسين بأن يشير إلى الحقول الناضرة والمجاري المتلألئة التي تنتشر من بعيد جنوب الجبال، ويقول إن هذه الجنة التي وعدهم بها سوف تكون لهم بعد قليل. وبعد أن قضوا سبعة عشر يومًا في الصعود والهبوط وصلوا إلى السهول، وألقوا عصا التسيار ليستريحوا، وقد خسر الجيش في هذه المجازفة الخطيرة كثيرًا من الرجال والجياد حتى لم يبق من الجنود إلا ستة وعشرون ألفًا أي أقل من نصف القوة التي غادر بها قرطاجنة الجديدة منذ أربعة شهور. ولو أن هنيبال لقي من الغاليين في جنوب الألب مثل ما لقيه من مقاومة الغاليين في غربها لكان الأرجح أن تنتهي حملته قبل أن يتقدم جنوبًا في إيطاليا؛ ولكن البوئي Boii وغيرهم من القبائل رحبوا به ورأوا فيه منقذًا لهم، فتحالفوا معه وانضووا تحت لوائه، وأما المستعمرون الرومان المحدثون الذين أسكنتهم رومه في تلك البلاد فقد فروا أمامه نحو الجنوب، ولم يقفوا حتى عبروا البو Po.

وهكذا واجه مجلس الشيوخ هذا الخطر الثاني يهدد رومه بالدمار والفناء ولما يمض على الخطر الأول إلا نحو سبع سنين، فاستعان بموارد البلاد كلها، وأهاب بالولايات الإيطالية أن توحد جهودها للدفاع عن بلادها. وبفضل ما لقيته من معونتها جندت رومه جيوشاً بلغت ثلاثمائة ألف من المشاة، وأربعة عشر ألفًا من الفرسان، وستة وخمسين ألفًا وأربعمائة ألف من الجنود الاحتياطيين. والتقى أحد الجيوش الرومانية بقيادة سبيو Scipio- وهو واحد من كثير من مشهوري القواد المسمين بهذا الاسم- على شاطئ نهر تسينو Ticino، وهو رافد صغير من روافد نهر البو يلتقي به عند بافيا Pavia. وهاجم فرسان هنيبال النوميديون Numidian جنود سبيو وولوهم الأدبار، وجرح سبيو جرحًا خطيرًا، وكاد أعداؤه يجهزون عليه لولا شجاعة ولده الذي شاءت الأقدار أن يلقي هنيبال مرة أخرى عند زاما Zama بعد ستة أشهر من ذلك الوقت. والتقى هنيبال بجيش روماني آخر عند بحيرة ترزميني Trasimene تبلغ عدته ثلاثين ألف مقاتل يقوده التربيون كيوس فلامينيوس Caius Flamimius، ويتبعه عدد من النخاسين يحملون الأغلال ليسلكوا فيها الأسرى الذين يأملون أن يبيعوهم في الأسواق بيع العبيد. واستطاع هنيبال ومعه جزء من جيشه أن يخدع جيش فلامينيوس فيستدرجه إلى سهل تكتنفه التلال والغابات اختبأ فيها معظم جنوده؛ فلما ضمه هذا السهل أشار إلى طوابيره المختبئة فانقضت على الرومان من كل الجهات وأفنتهم عن آخرهم تقريباً؛ وقتل فلامينيوس نفسه (217).

وبذلك سيطر هنيبال على شمالي إيطاليا كله، ولكنه كان يعرف أن أمامه عدوًا عنيدًا يبلغ عدده عشرة أضعاف عدد رجاله، وكان أمله الوحيد في التغلب على هذا العدو هو أن يقنع بعض الولايات الإيطالية بالخروج على رومه. وكانت وسيلته إلى هذا أن أطلق سراح كل من وقع في أسره من أحلاف رومه، وقال إنه لم يأت ليحارب إيطاليا بل جاء ليحررها من الاستعمار. ثم خاض إتروريا التي كانت تغمرها المياه، وظل أربعة أيام كاملة لا يجد أرضًا جافة يقيم فيها معسكره، فعبر جبال الأبنين إلى شاطئ البحر الأدرياوي، حيث سمح لجنوده أن يقضوا فترة طويلة يستعيدون فيها نشاطهم، ويداوون فيها جراحهم، وكان هو نفسه مصابًا برمد خطير في عينيه، ولكنه لم يعالجه فانتهى بفقد إحداهما. وبعد أن استراح جيشه اتجه به نحو الجنوب بمحاذاة ساحل إيطاليا الشرقي، وأخذ يعرض على القبائل الإيطالية أن تنضوي تحت لوائه، ولكن واحدة منها لم تستجب لدعوته، بل فعلت عكس هذا فكانت كل مدينة تغلق أبوابها دونه وتتأهب للقتال. وحينما اتجه إلى الجنوب أخذ حلفاؤه الغاليون يتخلون عنه لأنهم لم يكن يعنيهم إلا مصير موطنهم في الشمال. وبلغ من كثرة المؤامرات التي دبرت لاغتياله أن صار يتخفى في كل يوم بشكل جديد. وأخذ يتوسل إلى حكومته أن ترسل إليه المدد والعتاد والزاد عن طريق الثغور الواقعة على البحر الأدرياوي، ولكن حكومته خيبت رجاءه، فطلب إلى هزدروبال أخيه الأصغر- وكان قد تركه في أسبانيا- أن يعد فيها جيشًا يعبر به بلاد غالة وجبال الألب وينضم إليه؛ ولكن الرومان كانوا قد غزوا أسبانيا، فلم يجرؤ هزدروبال على مغادرتها؛ ومضت عشر سنين قبل أن يخف إلى نجدته.

واستعانت رومه على عدوها الأكبر بخطته هو نفسه، خطة المراوغة والحيطة والإفناء البطيء. واختير كونتس فابيوس مكسموس Quintus Fabius Makimus دكتاتورًا لعلاج الموقف في عام 217، فاتبع خطة تقضي بأن يؤخر ما استطاع الالتحام في واقعة فاصلة مع هنيبال، ونجح في هذا نجاحًا اشتق معه من اسمه وصف لهذا النوع من القتال. وكان فابيوس يرى أن الغزاة سيتناقص عددهم على مر الأيام بفعل الجوع والمرض والشقاق، ولكن الشعب الروماني لم يطق صبرًا على خطة "السكون السديدة" أكثر من عام؛ وتغلبت الجمعية المئوية على مجلس الشيوخ وعلى منطق الحوادث والسوابق جميعها، واختارت منوسيوس روفوس Minucius Rufus دكتاتورًا مع فابيوس. وسار منوسيوس لملاقاة العدو على الرغم من نصيحة فابيوس، فوقع في كمين وهزم هزيمة منكرة أدرك بعدها لم قال هنيبال إنه يخشى فابيوس الذي لم يحاربه أشد مما يخشى مرسلس Marcellus الذي يبغى حربه(25). وبعد عام واحد أسقط الرومان فابيوس وعهدوا إلى لوسيوس إيمليوس بولوس Lucius Aemilius Paulus، وكيوس ترتنيوس فارو Caius Terentius Varro قيادة الجيوش الرومانية. وأشار بولوس الأرستقراطي بالحيطة والتريث، أما فارو مختار العامة فكان شديد الرغبة في العمل العاجل، وحدث ما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال فتغلب الرأي الأخير، وأخذ فارو يبحث عن القرطاجنيين حتى وجدهم عند كاني Cannae من أعمال أبوليا Apulia على بعد عشرة أميال أو نحوها من شاطئ البحر الأدرياوي. وكان قوام الجيش الروماني ثمانين ألف راجل وستة آلاف فارس؛ أما هنيبال فكان لديه تسعة عشر ألف جندي ممن ضرستهم الحروب، وستة عشر ألفًا من الغاليين الذين لا يوثق بهم، وعشرة آلاف من الفرسان؛ وكان قد خدع فارو حتى جعله يحاربه في سهل متسع هو أحسن المواضع لحرب الفرسان، وكان قد وضع الغاليين في القلب لظنه أنهم سيتخلون عن مواقعهم، وقد صدق ظنه فتراجعوا واقتفى الرومان أثرهم في الثغرة التي حدثت بانسحابهم، فأمر القائد القرطاجني الماكر مضرسة جنده بالإطباق على جناحي الجيش الروماني، وخاض بنفسه غمار المعمعة في أشد أماكنها هولاً، كما أمر فرسانه باختراق صفوف فرسان العدو ومهاجمة الفيالق الروماني من خلفها. وبذلك أحاط القرطاجنيون بالجيش الروماني، ولم يجد له فرصة للتحرك، وكاد يفنى عن آخره؛ فقد قتل من رجاله أربعة وأربعون ألفًا، من بينهم بولوس Paulus وثمانون من الشيوخ الذين تطوعوا في الجيش، وفر عشرة آلاف إلى كنوزيوم Canusium ومن بينهم فارو وسبيو الذي لقب فيما بعد بالإفريقي الأكبر Africanus Major (216). أما هنيبال فقد خسر من رجاله ستة آلاف ثلثاهم من الغاليين. وكان نصره هذا شاهداً فذاً على براعته في القيادة التي لم يتفوق عليه أحد فيها في التاريخ كله. ولم يعد الرومان بعد هذا النصر يعتمدون قط على الجنود المشاة، كما أن هذا النصر وجه الحركات العسكرية الفنية وجهة لم تتحول عنها مدى ألفي عام.

الفصل الخامس: سبيو

وزعزعت هذه الكارثة هيبة رومه في جنوبي إيطاليا وضعضعت سلطانها، فانضم السمنيون والبروتيون واللوكانيون وأهل متابنتم، وثوراي، وكروتونا، ولوكري، وكبوا إلى الغاليين الجنوبيين في حلفهم مع هنيبال، ولم يلبث على الولاء لرومه إلا أمبريا، ولاتيوم، وإتروريا. وظل هرو صاحب سرقوسة وفياً حتى مماته، ولكن خلفه جهر بانضمامه إلى قرطاجنة. وتحالف فليب الخامس ملك مقدونية مع هنيبال لأنه كان يخشى أن تبسط رومه سلطانها على البلاد الواقعة في شرق أوربا عن طريق إليريا Illyria، وأعلن الحرب على رومه. وأظهرت قرطاجنة نفسها شيئًا من الاهتمام بالأمر فبعثت إلى هنيبال بقليل من الزاد والعتاد؛ وظن بعض الشبان من النبلاء الذين نجوا من كارثة كنوزيوم أن لا أمل لرومه في النجاة، وفكروا في الهرب إلى بلاد اليونان، ولكن سبيو ظل يندد بموقفهم حتى استحوا ودبت فيهم روح الشجاعة. وقضت رومه شهراً كاملاً وهي في أشد حالات الروع؛ ولم يكن فيها إلا حامية قليلة تدفع عنها هنيبال إذا ما هاجمها. وهرعت كرائم العقائل إلى الهياكل يبكين وينظفن بشعورهن تماثيل الآلهة، وعاشرت بعض النساء اللائي قتل أزواجهن وأبناؤهن في الحروب الأجانب والرقيق خشية أن ينقطع نسلهن. وظن مجلس الشيوخ أن الآلهة غضبى فأحل مرة أخرى التضحية بالآدميين مرضاة لها، وأمر بدفن اثنين من الغاليين واثنين من اليونان أحياء(26).

ولكن الرومان على حد قول بولبيوس إنما "يُخشون أشد الخشية في ساعة المحنة.... وشاهد ذلك أنهم وإن منوا بأشد الهزائم، وخسروا سمعتهم الحربية، استطاعوا، بفضل ما كان لدستورهم من المزايا التي لا يشاركه فيها دستور غيره، وبالاستماع إلى حسن المشورة، أن يستردوا سيادتهم على إيطاليا... وأن يصبحوا بعد قليل من السنين سادة العالم(27)". وفي هذه الساعة الرهيبة سكنت حرب الطبقات، وتدافعت كل الطوائف للعمل على إنقاذ الدولة. وكانت الضرائب قبل ذلك الوقت قد ارتفعت حتى ظن أنهم لن يطيقوها، ولكن السكان، ومنهم الأرامل والأطفال، تقدموا راضين لخزانة الدولة بما كانوا قد ادخروه لأيام الشدة. وجند كل رجل قادر على حمل السلاح، وحتى الأرقاء قد قبلوا في الفيالق ووعدهم أسيادهم بأن يهبوهم حريتهم إذا كتب النصر لرومه، ولم يرض جندي واحد أن يتناول عن عمله أجراً، واستعدت رومه لتنازع أسد قرطاجنة الجديد كل شبر من أرضها.

وانتظرت رومه مجيء هنيبال، ولكن هنيبال لم يأت إليها، فقد ظن أن قوته المؤلفة من أربعين ألف مقاتل أقل من أن تحاصر مدينة تتجمع للدفاع عنها جيوش من جميع الولايات التي لا تزال موالية لها، ولا يستطيع الاحتفاظ بها لو أنه استولى عليها. هذا إلى أن أحلافه من الإيطاليين لم يكونوا مصدر قوة له بل كانوا مصدر ضعف، فقد كانت رومه وأصدقاؤها يعدان العدة لمهاجمة أولئك الأحلاف، وإذا لم يخف هو لنجدتهم فسيقضي عليهم. وقد لامه رجاله على حذره وبطئه، وقال له واحد منهم والأسف يحز في نفسه: "إن الآلهة لم تمنح كل مواهبها لرجل واحد؛ أنك ياهنيبال تعرف كيف تنال النصر، ولكنك لا تعرف كيف تنتفع به(28)". لكن هنيبال استقر رأيه على أن ينتظر حتى تنضم إليه قرطاجنة، ومقدونية، وسرقوسة فيؤلف منها حلفاً ثلاثياً يستعيد به صقلية وسردانية، وقورسقة، وإليريا فلا يكون لرومه قوة إلا في إيطاليا. وبدأ بإطلاق الأسرى جميعهم عدا الرومان، وحتى هؤلاء عرضهم على رومه نظير فدية قليلة، فلما رفض مجلس الشيوخ أن يفتديهم أرسل معظمهم عبيدًا إلى قرطاجنة، وأرغم الباقين على أن يسلوا رجاله بأن يصارع بعضهم بعضاً في حلبة الجلاد حتى الممات كما يفعل الرومان. ثم أحاط بعدة مدن واستولى عليها وسار بجيوشه ليقضي الشتاء في كبوا Capua.

وكانت كبوا أجمل المدن التي كان في مقدوره أن يختارها لهذه الغاية وأشدها خطرًا عليه. ذلك أن هذه المدينة، وهي ثانية المدن الإيطالية، والتي تبعد عن نابلي نحو إثنى عشر ميلاً إلى الشمال، قد أخذت عن التسكانيين واليونان رذائل الحضارة كما أخذت عنهم فضائلها؛ وأحس جنود هنيبال أن من حقهم أن يستمتعوا في ذلك الفصل بالملاذ الجسمية بعد ما قاسوا من الصعاب وما أثخنوا من الجراح؛ ولم يعودوا كما كانوا من قبل أولئك الجند الشداد الذين لا يقهرون، والذين احتفظوا طوال ما خاضوه من الحروب بالصورة الإسبارطية التي كانت في اعتقاد قائدهم هي وحدها صورة الجندي الحق. وقادهم هنيبال في خلال الخمس السنين التالية وانتصر بهم في بعض الوقائع الصغيرة، وفي هذه الأثناء ضرب الرومان الحصار على كبوا. وأراد هنيبال أن يرفع عنها الحصار فتقدم إلى رومه حتى لم يبق بينه وبينها إلا بضعة أميال؛ وجند الرومان خمسًا وعشرون فرقة جديدة- أي مائتي ألف رجل، ولم تكن قوة هنيبال قد زادت على أربعين ألفًا، فاضطر إلى الانسحاب نحو الجنوب، وسقطت كبوا في أيدي الرومان عام 211، وقطعت رؤوس زعمائها الذين أباحوا قتل من كان من الرومان في المدينة؛ ومن لم يقتل منهم انتحر؛ وشتت أهلها الذين ناصروا هنيبال في جميع أنحاء إيطاليا، وكان مرسلس Marcellus قبل عام واحد من ذلك الوقت قد استولى على سرقوسة وبعد عام منه استسلمت أرجنتم لرومه.

وأرسل إلى أسبانيا في هذه الأثناء جيش روماني بقيادة سبيو وأخيه الكبيرين ليناوشا هزدروبال ويشغلاه، فهزماه عند نهر إبره (215)، ولكن القائدين قتلا في الميدان بعد قليل، وكادت تضيع ثمار ما كسباه من النصر لولا أن أرسل إلى أسبانيا سبيو الإفريقي Scipio Africanus، ابن أحد القائدين وابن أخ الثاني، ليتولى قيادة الجيوش الرومانية فيها، ولم يكن سبيو هذا قد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره في ذلك الوقت، ولم تكن هذه السن تجيز له من الوجهة القانونية أن يشغل هذا المنصب الخطير؛ولكن مجلس الشيوخ كان في ذلك الوقت لا يرى ضيرًا في أن يتجاوز عن حرفية الدستور إذا كان في ذلك التجاوز نجاة الدولة، وكانت الجمعية قد رضيت مختارة أن تخضع لإرادة الشيوخ، ولم يكن الشعب يعجب به لبهاء طلعته وفصاحة لسانه وذكائه وشجاعته فحسب، بل كان يعجب به كذلك لتقواه، وعدالته، وبشاشته. وكان من عادته قبل أن يقدم على أمر خطير أن يناجي الآلهة في الهياكل المقامة على الكبتول، كما كان من عادته بعد أن ينال النصر أن يكافئها بذبح مئات من الثيران قرباناً لها. وكان يعتقد، أو لعله كان يتظاهر بالاعتقاد، أنه محبوب الآلهة؛ وكانت انتصاراته سبباً في انتشار هذه العقيدة بين أتباعه فملأت قلوبهم ثقة به. وما لبث أن أعاد النظام إلى الجيش، واستولى على نوفا كرتاجو (قرطاجنة الجديدة) بعد حصار طويل، وحرص على أن يبعث إلى خزانة الدولة بما وقع في يديه بعد سقوطها من المعادن الثمينة والحجارة الكريمة، واستسلمت له بعدئذ معظم المدن الأسبانية، ولم يحل عام 205 حتى كانت أسبانيا ولاية رومانية.

ولكن قوة هزدروبال الرئيسية كانت قد أفلتت من يد سبيو واجتازت بلاد غالة وعبرت جبال الألب إلى إيطاليا. ووقعت الرسالة التي بعث بها القائد الشاب لهنيبال في يد الرومان، وعرفت رومه خططه الحربية. والتقى جيش روماني بقوته الصغيرة عند نهر متورس Metaurus (207) وهزمته رغم مهارته في القيادة. ولما رأى هزدروبال أن قد حاقت به الهزيمة وأن لا أمل له في الوصول إلى أخيه، قفز في وسط الفيالق الرومانية حيث لقي حتفه. ويقول القائد المنتصر قطع رأس القائد الشاب، وبعث بها بطريق أبوليا ليقذف بها من فوق الأسوار في معسكر هنيبال. ولما علم ذلك القائد بما حل بأخيه، وكان يحبه أشد الحب، فت في عضده، وطفئت جمرته، فسحب قواته، وكانت قد قل عديدها، إلى برتيوم Bruttium. ويقول ليفي إن "الرومان لم يشتبكوا معه في حرب في ذلك العام، وإنهم لم يجرؤا على مناوشته، وذلك لما عرف عن قواته من البسالة وإن كان ركنه قد تضعضع وأخذت الأقدار تعاكسه، وبدأ نجمه في الأفول(29)". وأرسلت إليه قرطاجنة مائة سفينة محملة بالزاد والرجال، ولكن عاصفة هوجاء ساقتها إلى سردانية فالتقت فيها بعمارة بحرية رومانية أغرقت وأسرت منها ثمانين، وانطلقت السفن الباقية عائدة إلى بلادها.

واختير سبيو الأصغر قنصلاً في عام 205 ولما يمض على انتصاره في أسبانيا إلا وقت قصير، فجند جيشاً جديداً وأبحر به إلى إفريقية. وطلبت الحكومة القرطاجنية إلى هنيبال أن يعود إلى بلاده ليدافع عن المدينة التي ظلت زمنًا طويلاً ترفض معاونته. ترى ماذا كان شعور هذا الجندي الأعور وقد تألب عليه أعداء لا حصر لهم فساقوه إلى ركن قصي في إيطاليا، وشاهد بعينيه ما بذله من الجهد وما عاناه من المشاق خلال خمسة عشر عاماً كاملة ينتهي إلى لا شيء، وكل ما ظفر به من نصر حربي يقضي عليه فلا تكون له نتيجة إلا الفرار من الميدان؟ لقد أبى نصف جنوده أن يعودوا معه إلى قرطاجنة، ويقول بعض من يعادونه من المؤرخين إنه أمر بقتل عشرين ألفًا منهم عقاباً لهم لأنهم خالفوا أمره، ولأنه كان يخشى أن تضمهم رومه إلى فيالقها(30). فلما أن وطئت قدماه أرض بلاده، بعد أن غاب عنها ستة وثلاثين عاماً بادر إلى حشد جيش جديد وسار على رأسه لملاقاة سبيو عند زاما Zama على بعد خمسين ميلاً جنوبي قرطاجنة (202). وتقابل القائدان في بداية المعركة مقابلة ودية، فلما وجدا أن لا سبيل إلى الاتفاق بينهما أصدرا أمرهما ببدء القتال.

وهزم هنيبال للمرة الأولى في حياته، فقد تضعضع القرطاجنيون، وكان معظم من الجند المرتزقة، أمام مشاة الرومان وفرسان مسينسا Massinissa ملك نوميديا المجازفين الأبطال. وقاتل هنيبال وهو في سن الخامسة والأربعين كما كان يقاتل وهو في نضرة الشباب، فهجم على سبيو بنفسه وجرحه، ثم ثنى بمسينسا، وأعاد تنظيم قواه بعد أن اختل نظامها أكثر من مرة، وقادها في هجمات مضادة شديدة على الأعداء. فلما لم يبق له أمل في النصر أفلت من الأسر وسار على ظهر جواده إلى قرطاجنة، وأعلن أنه لم يخسر الموقعة فحسب بل خسر الحرب كلها معها، وأشار على مجلس الشيوخ بأن يطلب الصلح. وعامل سبيو القرطاجنيين معاملة الكرام فرضى أن تحتفظ قرطاجنة بأملاكها في إفريقية، ولكنه طلب إليها أن تسلم لرومه جميع سفنها الحربية عدا عشر من ذات الثلاثة الصفوف من المجدفين، وألا تشتبك في حرب خارج إفريقية أو داخلها إلا بعد موافقة رومه، وأن تؤدي إليها غرامة حربية سنوية مقدارها مائتا تالنت أي ما يقرب من 720.000 ريال أمريكي مدى خمسين عامًا. وأعلن هنيبال أن هذه الشروط عادلة وأشار على مجلس الشيوخ بقبولها.

وغيرت الحرب البونية الثانية وجه البحر الأبيض المتوسط من ناحيته الغربية، فقد سيطرت رومه بعدها على أسبانيا كلها وما فيها من ثروة فأمدتها بما يلزمها من المال لفتح بلاد اليونان، وأعادت إلى إيطاليا وحدتها تحت سيادة رومه لا ينازعها فيها منازع، وفتحت جميع الطرق والأسواق للسفن والبضائع الرومانية؛ ولكنها كانت أكثر الحروب القديمة جميعها نفقة، فقد خربت مزارع إيطاليا الجنوبية أو ألحقت بها أشد الأضرار، وهدمت أربعمائة من مدنها، وأهلكت ثلاثمائة ألف من رجالها(31)؛ ولم تفق إيطاليا الجنوبية حتى اليوم من جميع ما أصابها من هذا الدمار. يضاف إلى هذا أن هذه الحرب قد أضعفت الديمقراطية إذ أظهرت أن الجمعيات الشعبية عاجزة عن أن تحسن اختيار القواد أو إدارة دفة الحروب؛ وكانت سببًا فيما طرأ على حياة الرومان وأخلاقهم من انقلاب، فقد أضرت بالزراعة وشجعت التجارة، وانتزعت الرجال من الريف، وعلمتهم عنف الحروب ومفاسد حياة المعسكرات، وجاءت بمعادن أسبانيا النفيسة لتنفق على ملاذ الحياة وعلى التوسع الاستعماري، وأمكنت إيطاليا من أن تعيش على ما اغتصبته من قمح أسبانيا وصقلية وإفريقية، وقصارى القول أن هذه الحرب كانت المحور الذي يدور حوله تاريخ رومه من جميع نواحيه.

هذه آثار الحرب في رومه، أما في قرطاجنة فقد كانت بداية نهايتها. لقد كان في وسعها، وقد احتفظت بجزء كبير من تجارتها وإمبراطوريتها، أن تحل ما يواجهها من مشاكل الإنعاش؛ ولكن حكومتها الألجراكية قد بلغت من الفساد مبلغًا جعلها تلقي على كاهل الطبقات الدنيا عبء الغرامة الحربية، وأن تختلس جزءاً من هذه الغرامة. وطلبت طوائف الشعب إلى هنيبال أن يخرج من عزلته وينقذ الأمة من محنتها، واختير في عام 196 حاكماً عاماً لها. فلما تولى منصبه روع سراة المدينة إذ اقترح ألا يبقى قضاة المحكمة البالغ عددهم 104 في مناصبهم أكثر من سنة واحدة، وألا يعاد انتخابهم إلى هذه المناصب إلا بعد عام من خروجهم منها. فلما رفض مجلس الشيوخ هذا الاقتراح عرضه على الجمعية الشعبية فأجازته، وكانت نتيجة هذا القانون وما اتبع فيه من إجراء أن أنشأ من أقصر طريق نوعاً من الديمقراطية لا يقل عن مثيله في رومه. ثم حارب الرشوة واجتثها من أصولها، وأنزل بالمرتشين أشد العقاب، ورفع عن الأهلين ما فرض عليهم من الضرائب الإضافية، ودبر موارد الدولة تدبيرًا استطاعت به قرطاجنة قبل أن يحل عام 188 أن تؤدي جميع ما فرضته عليها رومه من غرامة حربية.

لكن أرباب الأموال أرادوا أن يتخلصوا منه فبعثوا في السر إلى رومة يقولون إن هنيبال يعد العدة لاستئناف القتال. وبذل سبيو كل ماله من نفوذ ليحمي عدوه القديم، ولكنه غلب على أمره. واستجاب مجلس الشيوخ إلى رغبة أغنياء القرطاجنيين، بأن طلب تسليم هنيبال إلى رومة، ولكن الجندي القديم فر من بلاده ليلاً، واجتاز على ظهر جواده مائة وخمسين ميلاً حتى وصل إلى ثبسوس Thapsus وركب منها سفينة إلى أنطاكية (195) حيث وجد أنتيوخوس الثالث Antiochus متردداً بين حرب رومه ومسالمتها، فأشار عليه بحربها وأصبح فيها من قواد الملك. فلما هزم الرومان أنتيوخوس في مجنيزيا (189) اشترطوا لعقد الصلح معه أن يسلم هنيبال، فما كان من هذا القائد إلا أن فر أولاً إلى كريت، ثم إلى بيثونيا Bithynia. فأخذ الرومان يطاردونه في كل مكان يلجأ إليه حتى أحاطوه في مكمنه بالجند. وآثر هنيبال الموت على الأسر، وقال في هذا: "دعوني أخفف عن الرومان ما يشغل بالهم من زمن طويل؛ فهم يظنون أنهم لا يطيقون الصبر حتى يلاقي شيخ مثلي منيته"(32). وتجرع السم الذي كان يحمله معه ومات في عام 184 ق.م في السابعة والستين من عمره، وما هي إلا بضعة أشهر حتى تبعه إلى الراحة الأبدية سبيو قاهره الذي كان شديد الإعجاب به.