قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 - الخاتمة

من معرفة المصادر


قصة الحضارة -> حياة اليونان -> ما ورثناه عن اليونان


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخاتمة: ما ورثناه عن اليونان

لم تمت الحضارة اليونانية حين استولت رومة على بلاد اليونان، بل عاشت بعد ذلك عدة قرون، ولما أن ماتت أورثت أمم أوربا والشرق الأدنى تراثاً ليس له مثيل، فقد أخذت كل مستعمرة يونانية ماء حياة الفن اليوناني والفكر اليوناني في الدم الثقافي الذي يجري في عروق ما يجاورها من البلاد- في أسبانيا وبلاد الغالة؛ وفي إتروريا ورومة؛ وفي مصر وفلسطين؛ وفي سوريا وآسية الصغرى؛ وعلى طول شواطئ البحر الأسود. وكانت الإسكندرية هي الثغر الذي تصدر منه الأفكار كما تصدر منه السلع: فمن المتحف والمكتبة انتشرت مؤلفات شعراء اليونان، ومتصوفتهم، وفلاستفتهم وعلمائهم كما انتشرت آراؤهم على يد الطلاب والعلماء في كل مدينة في حوض البحر المتوسط وملتقى طرقه. وأخذت رومة تراث اليونان في شكله الهلنستي: فأخذ كتاب مسرحياتها عن مناندر وفليمون؛ وقلد شعراؤها أساليب الأدب الإسكندري وأوزانهِ وموضوعاته؛ واستخدم فنَّها الصناع اليونان والأشكال اليونانية؛ واندمجت في شرائعها قوانين المدن اليونانية، وصيغ نظامها الإمبراطوري المتأخر على مثال الملكيات اليونانية- الشرقية. وبذلك يصح القول بأن الهلينية قد فتحت رومة بعد الفتح الروماني كما كانت بلاد اليونان، فكان كل امتداد لسلطان الرومان انتشاراً للحضارة اليونانية. وعقدت الإمبراطورية البيزنطية قران الحضارة اليونانية والحضارة الأسيوية ، ونقلت بعض تراث اليونان إلى الشرق الأدنى وصقالبة الشمال. وأمسك المسيحيون السوريون بشعلة الحضارة اليونانية وأسلموها للعرب واخترق بها هؤلاء إفريقية إلى أسبانية. وأخذ البيزنطيون، والمسلمون، واليهود ينقلون الروائع اليونانية إلى إيطاليا أو يترجمونها لها؛ لينشئوا بها أول الأمر فلسفة المدرسيي، ثم يوقدون بها شعلة النهضة الأوربية، وأخذت روح اليونان منذ ميلاد العقل الأوربي للمرة الثانية تسري في الثقافة الحديثة سريانا بلغ من قوتهِ أن "جميع الأمم المتحضرة أضحت اليوم مستعمرات لهلاس في كل ما يتصل بالنشاط الذهني .

وإذا لم ندخل في التراث اليوناني ما اخترعه اليونان فحسب بل أدخلنا فيه أيضاً ما أخذوه عن ثقافات أقدم من ثقافاتهم ونقلوه بشتى الطرق إلى ثقافتنا، وجدنا هذا التراث في كل ناحية من نواحي الحياة الحديثة. فصناعاتنا اليدوية، وفن التعدين، وأصول الهندسية العلمية، وأساليب المل والتجارة، وتشريعات العمل، وتنظيم التجارة والصناعة- كل هذا قد انتقل إلينا خلال مجرى التاريخ من رومة، ومن بلاد اليونان عن طريق رومة. فديمقراطياتنا ودكتاتورياتنا على السواء ترجعان إلى المثل اليونانية؛ ومع أن اتساع رقعة الدول قد أوجدت نظاماً تمثيلياً لم يكن معروفاً لهلاس، فإن الفكرة الديمقراطية القائلة بقيام حكومة مسؤولة أمام المحكومين، وفكرة المحاكمة على أيدي المحلفين، والحريات المدنية التي تشمل حرية الفكر، والتعبير، والكتابة، والاجتماع، والعبادة، كل هذه قد استمدت قوتها من التاريخ اليوناني. وهذه هي الخصائص التي تميز اليوناني عن الشرقي، والتي وهبته استقلالاً في الروح وفي المغامرة جعله يسخر من الخضوع والاستسلام والقصور الذاتي.

فمدارسنا وجامعاتنا، ومدارس التدريب الرياضي وملاعبه، والمباريات الرياضية الأولمبية، كل هذه ترجع أصولها إلى اليونان. ونظرية تحسين النسل، وفكرة ضبط الشهوة الجنسية، والسيطرة على الغرائز والعواطف، وعبادة الصحة والحياة الطبيعية، ومذهب إشباع الحواس، كل هذه وجدت صيغها التاريخية في بلاد اليونان. وقد تفرع الجزء الأكبر من الدين المسيحي والعبادات المسيحية (ولفظا Christian و Theology نفسيهما لفظان يونانيان) من الطقوس الخفية التي كانت منتشرة في بلاد اليونان ومصر، ومن المراسم الإليوزينية والأرفية، والأزريسية؛ ومن العقيدة اليونانية القائلة بموت الابن المقدس لتخليص الجنس البشري ثم بعثه من بين الموتى، ومن الطقوس اليونانية والمواكب الدينية وحفلات التطهير، والتضحية المقدسة، والطعام العام المقدس، ومن الآراء اليونانية عن الجحيم، والشياطين، والمطهر، والغفران، والجنة، ومن النظريات الروائية والأفلاطونية الجديدة عن الكلمة والخلق، واحتراق العالم في آخر الأمر. ونحن مدينون بخرافاتنا نفسها لما كان لدى اليونان من أغوال وساحرات، ولعنات، وتفاؤل وتشاؤم، وأيام منحوسة. ومنذا الذي يستطيع أن يفهم الأدب الإنجليزي، أو يستمتع بقصيدة واحدة من قصائد كيتس Keats إلا إذا كانت لديهِ فكرة عن الأساطير الدينية اليونانية.

ولولا ما كتبه اليونان وما نُقل إلينا عنهم لكان وجود أدبنا من أشق الأمور. فحروفنا الهجائية جاءتنا من بلاد اليونان عن طريق كومي ورومة، ولغتنا تكثر فيها الكلمات اليونانية؛ وعلومنا قد أنشأت لها لغة عامة دولية بوساطة المصطلحات اليونانية؛ ونحونا، وبلاغتنا، وحتى علامات الترقيم، وتقسيم هذه الصفحة إلى فقرات، كل هذا من اختراع اليونان ، وكل ما لدينا من صور أدبية- الشعر الغنائي، والقصائد، وأناشيد الرعاة، والرواية القصصية، والمقالة والخطبة، والسيرة، والتاريخ، والمسرحية وهي أهمها جميعاً، كل ما لدينا من هذا يوناني وكل مسمياته تقريباً مأخوذة عن اليونانية. والألفاظ والإنجليزية التي تُطلق على المسرحيات الحديثة وأشكالها- المأساة والمسلاة، والمسرحية الصامتة المضحكة التي تُستَخدم فيها الإشارات Pantomime, Comedy, Tragedy يونانية. نعم إن المأساة الإنجليزية في عصر اليصابات فذة في نوعها، ولكن المسلاة المضحكة التي كانت تمثل في ذلك العصر قد انتقلت إليه من مناندر، وفليمون بوساطة يلوتس، وترنس؛ وبن جنس، ومليير، لم يكد يتبدل فيها شيء. وإن المآسي اليونانية نفسها لمن أثمن ما خلفه اليونان من تراثهم القيم.

وما من شيء في بلاد اليونان يبدو لنا غريباً عنا أكثر من موسيقاها؛ ومع هذا فإن الموسيقى الحديثة كانت (إلى أن عاد بها الموسيقيون إلى أفريقية وبلاد الشرق) مستقاة من ترانيم العصور الوسطى ورقصها، وهذه الترانيم وهذا الرقص يرجع بعضها إلى أصل يوناني. والأناشيد الدينية، والتمثيليات الغنائية مدينة بعض الدين إلى الرقص الغنائي الجماعي اليوناني وإلى المسرحيات اليونانية؛ ومبلغ علمنا أن اليونان من فيثاغورس إلى أرستكسنوس Aristoxenus كانوا أول من وضعوا وشرحوا نظريات الموسيقى. وديننا لليوناني في الرسم أقل اليون، ولكن في وسعنا أن نتتبع تسلسل المظلات تسلسلاً غير منقطع من يولجنوتس إلى رسوم الجدران التي تستلفت الأنظار في هذه الأيام عن طريق الإسكندرية وبمبي، وجيتو Giotto وميكل أنجلو. ولا تزال أشكال النحت الحديث وقواعده الفنية يونانية، لأن العبقرية اليونانية لم تطبع شيئاً بطابعها وتستبد به كما طبعت فن النحت واستبدت بهِ. وقد بلغ من قوه هذا الاستبداد أننا لم نبدأ نتحرر من الافتتان بفن العمارة اليونانية إلا في هذه الأيام. وليس في أوربا ولا في أمريكا مدينة تخلو من صرح تجاري أو مالي قد أخذ شكله أو أخذت واجهته ذات العمد من معابد الآلهة اليونانية. ولسنا ننكر أننا لا نجد في الفن اليوناني دراسة الخلق وتصوير خلجات النفس، وأن افتتانه بجمال الجسم وصحته يجعله أقل نضجاً من تماثيل مصر التي تنطق بالرجولة الكاملة ومن تصوير الصينيين النافذ العميق. غير أن ما نتلقاه عن هذا الفن اليوناني من دروس في الاعتدال، والطهارة والنقاء، والتناسق البادي في النحت والعمارة في عصر اليونان الزاهر- كل هذا من أثمن تراث الإنسانية.

وإذا كانت الحضارة اليونانية تبدو لنا الآن أقرب "وأحدث" من أية حضارة أخرى قبل فلتير، فما ذلك إلا لأن اليونان كانوا يحبون العقل بقدر ما يحبون الشكل، ولذلك كانوا جريئين في سعيهم إلى تفسير الطبيعة على أسس مستمدة من الطبيعة نفسها، ولقد كان تحرير العلم من قيود الدين، وتطور البحث العلمي تطوراً مستقلاً عن كل ما عداه، كان هذا التحرر والتطور مظهرين من مغامرات العقلية اليونانية الجاحدة. وعلماء الرياضة اليونان هم واضعو قواعد حساب المثلثات، وحساب التفاضل والتكامل، وهم الذين بدءوا وأتموا دراسة القطاعات المخروطية، ووصلوا بهندسة الأبعاد الثلاثة إلى درجة من الكمال النسبي ظلت محتفظة بها دون تبديل إلى أيام ديكارت وبسكال. وقد أنار دمقريطس ميدان علم الطبيعة والكيمياء بأكمله بنظريتهِ الذرية. واستطاع أركميدز في أوقات تسليته وفراغه من الدراسات المجردة أن يبتدع من الأجهزة والآلات الجديدة ما يكفي لأن يقرن اسمه بأعظم الأسماء في سجل الاختراعات. وقد سبق أرستارخوس كوبرنيق في كشوفه الفلكية ولعله هو الذي أوحى إليهِ بها ، وأقام هباركوس على يدي كلوديوس بطليموس نظاماً فلكياً يعد من المعالم الخطيرة في تاريخ الثقافة البشرية. ورسم أنكساغورس وأنبادوقليس الخطوط الأساسية لنظرية النشوء والارتقاء. وصنَّف أرسطو وثاوفراسطوس مملكتي الحيوان والنبات، وأوشكا أن يبتدعا الأرصاد الجوية، والحيوان، والأجنة والنبات. وحرر أبقراط الطب من التصوف والنظريات الفلسفية ورفع من منزلته بأن ضم إليه قانوناً أخلاقياً سامياً. وارتقى هروفيلس وإراستراتس بعلمي التشريح ووظائف الأعضاء إلى درجة لم تصل إليها أوربا بعدهما- إذا استثنينا جالينوس وحده- إلا في عهد النهضة. ونحن نتنفس في أعمال أولئك الرجال نسيم العقل الهادئ، غير الواثق أو الآمن على الدوام، ولكنه العقل المبرأ من العواطف والأساطير. ولعلنا لو كانت لدينا روائعه كاملة لحكمنا من فورنا بأن العلوم الطبيعية اليونانية أجل الأعمال الذهنية الرائعة في تاريخ الإنسانية.

غير أن الرجل المولع بالفلسفة لا يرضى بسهولة أن يجعل للعلوم الطبيعية والفنون الجميلة أعلى منزلة فيما ورثناه عن اليونان الأقدمين. ذلك أن علم اليونان الطبيعي كان هو نفسه وليد الفلسفة اليونانية- وليد ذلك التحدي الجريء للأقاصيص الخرافية، وذلك الحب القوي للبحث، الذي ظل عدة قرون يجمع بين العلم والفلسفة في مغامرات البحث والتنقيب. ولم يشهد العالم قبل اليونان رجالاً يفحصون عن الطبيعة بمثل دقتهم وبمثل ولعهم بها وحبهم إياها. ولم ينقص اليونان من مكانة العالم السامية باعتقادهم أنه كون منظم وأن نظامه هذا يجعله قابلاً للفهم والإدراك. وقد ابتدعوا المنطق لنفس السبب الذي جعلهم يبتدعون التماثيل التي بلغت ذروة الكمال؛ والتناسق، والوحدة، والتناسب، والشكل هي في رأيهم معين فن المنطق ومنطق الفن. وقد دفعهم تشوفهم وتطلعهم لمعرفة كل حقيقة وكل نظرية إلى أن يجعلوا الفلسفة مغامرة ممتازة من مغامرات العقل الأوربي، وهم لا يكتفون بهذا بل نراهم لا يكادون يتركون فرضاً من الفروض أو نظاماً من الأنظمة إلا فكروا فيه، ولا يكادون يتركون لغيرهم شيئاً يقولونه عن مشاكل الحياة الكبرى. فالواقعية، والقول بأن الأشياء موجودة بالاسم دون الحقيقة، والمثالية والمادية، والتوحيد، ووحدة الوجود، والشرك، والحركة النسائية والشيوعية، والبحث والتحليل الكانتي Kantian واليأس الشوبنهوري، والعودة إلى الحياة البدائية التي يقول بها روسو، ومذهب نتشه في التحليل من القيود الأخلاقية، ومذهب اسبنسر التركيبي، ومذهب فرويد في التحليل النفسي- وبالجملة كل أحلام الفلسفة وحكمتها نشهدها هنا في مهدها وبداية عهدها. ولم يكن الناس في بلاد اليونان يتحدثون عن الفلسفة فحسب، بل كانوا فوق ذلك يعيشون فيها: فقد كان الحكيم لا المحارب أو القديس، صاحب أسمى مكانة في اليونانية وكان هو مثلها الأعلى. وقد وصل إلينا هذا التراث الفلسفي المبهج من أيام طاليس خلال القرون الطوال، وكان هو الملهم للأباطرة الرومان، وآباء الكنيسة المسيحيين، وعلماء الدين المدرسيين، وملحدي عصر النهضة، وفلاسفة كمبردج الأفلاطونيين، ومتمردي عصر الاستنارة الفرنسيين، وعشاق الفلسفة في هذه الأيام. ولعله لا يوجد قطر من أقطار العالم إلا فيهِ من يقرأ فلسفة أفلاطون ويقرؤها بشغف شديد وإذا عددت هؤلاء القراء في هذه اللحظة وجدتهم ألوفاً مؤلفة.

وآخر ما نقوله في هذا المجال أن الحضارة لا تموت ولكنها تهاجر من بلد إلى بلد، فهي تغير مسكنها وملبسها، ولكنها تظل حية. وموت إحدى الحضارات كموت أحد الأفراد يفسح المكان لنشأة حضارة أخرى؛ فالحياة تخلع عنها غشاءها القديم وتفاجئ الموت بشباب غض جديد. فالحضارة اليونانية حية، وتتحرك في كل نسمة من نسمات العقل نستنشقها، وإن ما بقي منها ليبلغ من الضخامة حداً يستحيل على الفرد في حياته أن يستوعبه كله. ونحن نعرف عيوبها ونقائضها- نعرف حروبها الجنونية التي خلت من الرحمة، وما فيها من استرقاق دام إلى آخر أيام بنيها، ونعرف إخضاعها النساء وإذلالهن، وتحللها من القيود الأخلاقية، ونزعتها الفردية الفاسدة، وعجزها المحزن عن أن تجمع بين الحرية والنظام السلم. ولكن الذين يحبون الحرية، والعقل، والجمال، لا يطيلون التفكير في هذه العيوب، بل أنهم سوف يستمعون من وراء صحب التاريخ السياسي إلى أصوات صولون وسقراط، وأفلاطون ويوربديز، وفدياس وبركستليز، وأبيقور، وأركميدس، وسوف يحمدون الله لوجود أمثال أولئك الرجال ويحرصون على صحبتهم في بلاد غير بلادهم. ويقرنون بلاد اليونان بفجر تلك الحضارة الغريبة المنير التي هي غذاؤنا وحياتنا رغم ما فيها من عيوب ترجع أصولها إلى معينها القديم.

إلى الذين وصلوا معي إلى هذا الحد: أشكركم لكم صحبتكم التي لا أراها بعيني ولكنني لا أفتأ احسها بقلبي.