قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 5 ب 29

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 2776

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> انتشار الهلنستية -> استسلام الفلسفة -> مقدمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب التاسِع والعِشرون: استسلام الفلسفة

ثلاث نزعات امتزجت في الفلسفة اليونانية: النزعة الطبيعية (الفيزيقية) والنزعة الميتافيزيقة، والنزعة الأخلاقية. ووصلت النزعة الطبيعية إلى غايتها في أرسطو والميتافيزيقية في أفلاطون، والأخلاقية في زينون القتيومي؛ وانتهى تطور النزعة الطبيعية بفصل العلم عن الفلسفة على يد أركميديز، وهبارخوس، وانتهت النزعة الميتافيزيقية بتشكك بيرون Pyrrho والمجمع المتأخر، وبقيت النزعة الأخلاقية حتى غلبت المسيحية على الأبيقورية والرواقية أو اندمجتا فيها.


الفصل الأوَّل: هجوم المتشككة

لقد احتفظت أثينة في هذه الثقافة الهلنستية- وكانت هي أم الكثير، وسيدة الجزء الأكبر، منها- احتفظت فيها بمكان الزعامة في ميدانين: التمثيل والفلسفة. ولم يكن العالم منهمكاً في الحروب والثورات، والعلوم الجديدة والأديان الجديدة، وحب المال والجري وراء المال، لم يكن منهمكاً في هذا كله إلى حد لا يستطيع معه أن يجد بعض الوقت ينفقه في المشاكل التي لا يجد لها جواباً، ولكنها لا تنفك تواجَه فلا يستطيع منه فراراً، مسائل الخطأ والصواب، والمادة، والعقل، والحرية والضرورة، والنبل والخسة، والحياة والموت. وقدم الشبان من جميع مدن البحر الأبيض المتوسط، وكثير ما كانوا يلاقون أشد الصعاب وهم قادمون، ليدرسوا في الأبهاء والحدائق التي خلفها أفلاطون وأرسطو آثاراً لهما خالدة من بعدهما.

وواصل ثاوفراسطوس اللسبوسي المجد النشط في اللوقيين تقاليد الطريقة الأختبارية. لقد كان المشاءون علماء وباحثين أكثر منهم فلاسفة، وهبوا حياتهم للبحث المتخصص في علوم الحيوان والنبات، والسير، وتاريخ العلوم، والفلسفة، والأدب، والقانون. وارتاد ثاوفراسطوس في أثناء زعامته العلمية التي دامت أربعاً وثلاثين سنة (322- 288) ميادين علمية كثيرة، ونشر بحوثه في أربعمائة مجلد تكاد تعالج كل موضوع من الحب إلى الحرب. وقد شدد النكير على النساء في رسالته "في الزواج"، فردت علمية لينتيوم حظية أبيقور برسالة غزيرة المادة، شديدة الوقع عليهِ، فندت فيها أراءه(1). ومع هذا فإن ثنيوس يعزو إلى ثاوفراسطوس ذلك القول الدال على رقعة العاطفة: "إن التواضع هو الذي يجعل الجمال جميلاً(2)" ويصفه ديجين ليرتس بأنه "من أحب الناس للخير ومن أكثرهم ظرفاً". وقد بلغ من فصاحته أن نسي الناس اسمه الأول فلم يذكروه إلا بالاسم الذي أطلقه عليه أرسطو والذي يعني أنه يتكلم كما تتكلم الآلهة؛ وقد بلغ من حب الناس إياه أن ألفين من الطلاب كانوا يهرعون إلى سماع محاضراته، وكان مناندر من أخلص أتباعه(3). وقد عني الناس من بعده أشد العناية بالاحتفاظ بكتابه في "الأخلاق"، ولم يكن احتفاظهم به لأنه أوجد طرازاً جديداً في الأدب، بل لأنه سخر أشد السخرية من الأخطاء التي يعزوها الناس جميعاً لغيرهم من الناس. فهنا الرجل الثرثار الذي يبدأ بمدح زوجته، ثم يروي الرؤيا التي نراها في الليلة السابقة، ويعدد أصناف الأطعمة التي تناولها في العشاء صنفاً صنفاً؛ ثم يختم حديثه بقولهِ "إننا لم نعد كما كنا" من قبل الأيام الخالية. وهنا الرجل الغبي الذي "إذا ذهب ليشاهد مسرحية، تركه الناس في آخر التمثيل مستغرقاً في النوم في الدار الخاوية...فهو يثقل معدته بالعشاء الدسم، فيضطر إلى السهر ليلاً، ويعود إلى منزله وهو بين النوم واليقظة، فلا يعرف بابه، ويعضه كلب جاره(4)".

ومن الحوادث القليلة في حياة ثاوفراسطوس أن الدولة أصدرت مرسوماً (307) يحتم موافقة الجمعية على من يُختارون لرياسة المدارس الفلسفية. وحوالي هذا الوقت نفسه، وجه أجننيديز Agnonides إلى ثاوفراسطوس التهمة القديمة، تهمة المروق من الدين؛ فما كان من ثاوفراسطوس إلا أن غادر أثينة في هدوء، ولكن الطلاب الذين غادروها بعده بلغوا من الكثرة حداً جعل التجار يجأرون بالشكوى من كساد بضاعتهم الذي يوشك أن يحل بهم الخراب. فلم تمضِ سنة على صدور المرسوم حتى اضطرت الدولة إلى إلغائه، وعاد ثاوفراسطوس ظافراً ليرأس اللوقيين ويظل رئيساً لها إلى قرب وفاته في سن الخامسة والثمانين. ويقال إن "أثينة بأجمعها" شيعت جنازته. ولم تبقَ مدرسة المشائين طويلاً بعد وفاته؛ ذلك أن العلم خرج من أثينة بعد أن افتقرت إلى الإسكندرية الغنية الرخية، وانحطت اللوقيون التي كانت قد وهبت نفسها للبحث العلمي فلم يعد يسمع الناس عنها إلا القليل.

وفي هذه الأثناء كان اسبيوسبوس Speusippus قد خلف أفلاطون أكسانوقراطيس اسبيوسبوس Xenocrates Speusippus في المجمع العلمي. وظل أكسانوقراطيس يحكم المجمع ربع قرن من الزمان (339- 314)، ورفع من شأن الفلسفة بحياته النبيلة البسيطة. وقد انهمك في الدرس والتعليم، فلم يكن يترك المجمع إلا مرة واحدة في العام ليشهد المآسي الديونيشية، ويقول ليرتيوس إنه كان إذا ظهر "أفسح الطريق له غوغاء المدينة المشاكسون المشاغبون(5)". وكان يأبى أن يتقاضى أجراً ما على عملهِ. وبلغ من فقره أن كاد يُزج به في السجن لعجزه عن أداء الضرائب، ولكن أمتريوس الفالرومي أدى عنه ما كان متأخراً عليه وأطلق سراحه. وقال فليب المقدوني إن أكسانوقراطيس كان أطهر يداً من جميع الشعراء الأثينيين الذين أرسلوا إليه. وقد تضايقت فريني Phryne من اشتهاره بالفضيلة، فادعت أن بعض الناس يطاردونها، ولجأت إلى بيته، ولما رأت أن ليس فيهِ إلا سرير واحد سألته هل يقبل أن تنام معه فيه. وأجابها إلى ما طلبت مدفوعاً إلى ذلك، على ما يقال لنا، بعوامل إنسانية محضة؛ ولكنه بلغ من بروده وعدم استجابته لتوسلاتها وفتنتها، أن فرت من فراشهِ وضيافتهِ، وشكته إلى أصدقائهِ قائلة إنها وجدت تمثالاً لا رجلاً(6). ذلك أن أكسانوقراطيس لم يكن يريد أن يعشق غير الفلسفة.

ولما مات أوشكت النزعة الميتافيزيقية في التفكير اليوناني أن يُقضى عليها في الأيكة التي كانت مزارها ومتعبدها. ذلك أن خلفاء أفلاطون كانوا من علماء الرياضة والأخلاق، وقلما كانوا ينفقون شيئاً من وقتهم في دراسة المسائل المجردة التي كانت من قبل تتردد بين جوانب المجمع العلمي، واستعادت تحديات زينون الإليائي التشككية، ونزعة هرقيطس الموضوعية، وتشكك غورغياس بروتاغواس المنظم، ولا أدرية سقراط، وأرستبوس وإقليدس المجاري، استعادت هذه كلها ما كان لها من سيطرة على الفلسفة اليونانية، وكان ذلك خاتمة عصر العقل. لقد فكروا في كل فرض من الفروض العلمية، وبحث ثم نسي وأهمل؛ واحتفظ الكون بأسرارهِ، ومل الناس البحث الذي عجزت عنه أنبه العقول نفسها. وكان أرسطو قد اتفق مع أفلاطون في نقطة واحدة- وهي أن في الإمكان الوصول إلى الحقيقة النهائية(7). وعبر بيرون Pyrrho وهي تشكك عصره بقولهِ إن هذه النقطة هي التي أخطأ فيها الفيلسوفان أكثر مما أخطأا في أية نقطة أخرى.

وولد بيرون في أليس Elis حوالي عام 360 وسار مع جيش الإسكندر الزاحف على الهند، وتلقى العلم على "من فيها من" السوفسطائيين العراة Gmnosophists، ولعله أخذ عنهم بعض آرائهم عن التشكك الذي صار اسمه مرادفاً له في ما بعد. ولما عاد إلى إليس عاش فقيراً يعلم الناس الفلسفة. وقد منعه الحياء من تأليف الكتب، ولكن تلميذه تيمن الفليوسي Timon of Phlius نشر آراء بيرون في أنحاء العالم في سلسلة من رسائل الهجاء (Silloli). وكانت هذه الآراء تقوم على قواعد رئيسية أولها: أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها، وأن الرجل العاقل يرجئ حكمه، ويبحث عن الطمأنينة لا عن الحقيقة؛ وأنه لما كانت كل النظريات خاطئة في أغلب الظن فإن من الخير للإنسان أن يقبل أساطير زمانه ومكانه وما جرى به العرف فيهما. وثانيتهما أن ليس في مقدور الحواس والعقل أن تمدنا بعلم أكيد: فالحواس تشوه الشيء الخارجي حين تحسه، وليس العقل إلا خادم الشهوات المخالط المخادع. وكل قياس منطقي يصادر على المحمول لأن قضيته الكبرى تفترض صحة النتيجة. "وكل علة لها علة تقابلها وتناقضها(8)"؛ والتجربة الواحدة قد تكون سارة حسب الظروف المحيطة بها ومزاج صاحبها؛ والشيء الواحد قد يبدو صغيراً أو كبيراً، قبيحاً أو جميلاً؛ والعمل الواحد قد يُعد فضيلة أو رذيلة حسب المكان والزمان الذين نعيش فيهما؛ والآلهة نفسها قد تكون وقد لا تكون حسب اعتقاد أمم الخلائق المختلفة؛ وكل شيء هو رأي، ولا شيء قط حقيقي كل الحق- فمن الحمق إذن أن ينحاز الإنسان في المنازعات إلى هذا الجانب أو ذاك، أو أن يبحث له عن مكان آخر يعيش فيهِ أو طريقة أخرى يعيش بها، أو أن يحسد المستقبل أو الماضي؛ فالرغبات كلها خداع باطل. وحتى الحياة نفسها خير غير مؤكد، والموت نفسه ليس شراً مؤكداً، والواجب على الإنسان أن لا يتحيز ضد هذا الشيء وذاك. وثالثة هذه القواعد أن أفضل الأشياء جميعاً للإنسان أن يقبل الحياة كما هي في هدوء واطمئنان، فلا يحاول إصلاح العالم، بل يرضى به وهو صابر عليه، ولا ينهمك في العمل على تقدمه، بل يقنع بالسلام. وحاول بيرون مخلصاً أن يسير في حياته على هدى هذه الفلسفة النصف الهندية، فخضع لعادات إليس وعبادتها، ولم يبذل جهداً ما في تجنب الأخطار أو إطالة حياته(9)، ومات في سن التسعين. وأحبه مواطنوه ورضوا عنه وكرموه بأن أعفوا زملائه الفلاسفة من الضرائب.

وكان من سخريات الأيام أن أتباع أفلاطون هم الذين وجهوا هذه الحملة على الميتافيزيقا. ذلك أن أرسسلوس الذي أصبح في عام 269 رئيس "المجمع العلمي الأوسط" حول رفض أفلاطون للمعلومات المستمدة من الحواس إلى تشكك كامل يضارع في ذلك تشكك ديون، ولعلهم فعلوا ذلك بتأثير بيرون نفسه. ومن أقوال أرسسلوس في هذا المعنى: "لا شيء مؤكد، حتى ذلك القول نفسه(11)". ولما قيل له إن هذه العقيدة تجعل الحياة مستحيلة قال إن الحياة قد عرفت من زمن بعيد كيف تدبر أمرها بالاحتمالات. وقام على رأس "المجمع العلمي الجديد" بعد قرن من الزمان رجل كان أكثر تشككاً من أرسسلوس، وأوصل عقيدة التشكك العام إلى العدمية الذهنية والأخلاقية، ونعني بذلك الرجل قرنيادس القوريني Carneades of Cyrene. فقد جاء هذا الأبلار اليوناني إلى أثينة حوالي عام 193، ونغص الحياة على كريسبوس Chrysippus وغيره من معلميه، بحججه الدقيقة المؤلمة ضد كل عقيدة يعلمونها. وإذ كانوا يبغون أن يجعلوه عالماً منطقياً، فقد اعتاد أن يقول لهم موجهاً قوله إلى بروتاغوراس: "إذا كان منطقي صحيحاً فبها ونعمت، وإذا كان خطأ فأعيدوا إلي ما أديته من الأجر لتعليمي(12)". ولما أنشأ لنفسهِ حانوتاً كان يحاضر في صباح يوم ما فيحبذ رأياً من الآراء، وفي اليوم التالي يحبذ نقيضه، ويبرهن على صحة كليهما بحيث يقضي عليهما جميعاً، بينما كان تلاميذه، وكاتب سيرته نفسه، يحاولون عبثاً أن يعرفوا آراءه الحقيقية. وأخذ على عاتقهِ أن يفند واقعية الرواقيين المادية ببحثهِ التحليلي الأفلاطوني- الكانتي في الحواس والعقل.

وهاجم كل النتائج المنطقية ووصفها بأنها لا يستطاع الدفاع عنها عقلياً، وأمر طلابه أن يقنعوا بالاحتمالات ويرضوا بعادات زمانهم. ولما أرسلته أثينة ضمن بعثة سياسية إلى رومة (155) أدهش مجلس الشيوخ بأن خطب في يوم من الأيام مدافعاً عن العدالة، ثم خطب في اليوم التالي مستهزئاً بها وواصفاً إياها بأنها حلم غير عملي وقال: إذا شاءت رومة أن تتبع طريق العدالة فعليها أن تعيد إلى أمم البحر الأبيض الموسط كل ما أخذته منها بفضل تفوقها عليها في القوة(13). وفي اليوم الثالث اضطر كاتو أن يعيد البعثة إلى بلدها لأنها خطر على الأخلاق العامة. وربما كان بولبيوس- وكان وقتئذ رهينة عند سبيو- قد سمع هاتين الخطبتين أو سمع عنهما، لأنه يندد تنديد الرجل العملي بأولئك الفلاسفة.

"الذين دربوا أنفسهم في مناقشات المجمع العلمي على الإفراط في الاستعداد للخطابة. ذلك أن بعضهم يلجئون إلى أشد الأشياء تناقضاً فيما يبذلون من جهد ليحيروا عقول سامعيهم، وأنهم برعوا في اختراع ما يبررون به هذه المتناقضات، حتى أنك تراهم يتناقشون وهم حيارى لا يدرون هل يستطيع من في أثينة أن يشموا رائحة البيض الذي يغلي في إفسوس أو لا يستطيعون أن يشموها، ويظنون طوال الوقت الذي يناقشون فيه مسألة في المجمع العلمي أنهم يكونون نائمين في بيوتهم يؤلفون خطبهم في أحلامهم... وقد سوءوا سمعة الفلسفة جميعاً بهذا الحب المفرط للمتناقضات... وغرسوا في عقول شبابنا هذا الحب الشديد، فكان من أثرهِ أن أولئك الشبان لا يفكرون أقل تفكير في المسائل الأخلاقية والسياسية التي تفيد طلاب الفلسفة بحق، بل تراهم يقضون وقتهم في محاولات عديمة الجدوى لاختراع السخافات والأباطيل التي لا نفع فيها"(14).

الفصل الثاني: فرار الأبيقورية

لقد أخطأ بولبيوس إذ ظن أن المسائل الأخلاقية قد فقدت إغراءها للعقل اليوناني، وإن كان قد وصف للأجيال التالية الكثيرة صاحب النظريات الذي يضيع حياته في دياجير البحث النظري المعقد. ودليلنا على خطئه في هذا الظن أن النغمة الأخلاقية نفسها هي التي حلت في ذلك العهد محل النغمتين الفيزيقية والميتافيزيقية فكانت النغمة السائدة في الفلسفة. والحق أن المشاكل السياسية قد خمدت نارها لأن حرية الكلام قد قضى عليها وجود الحاميات الملكية في البلاد أو ذكرى وجودها، وفهم الناس ضمناً أن الحرية القومية إنما تقوم على الهدوء والاستقرار. يضاف إلى هذا أن مجد الدولة الأثينية كان قد انقضى عهده، وأن الفلسفة كان عليها أن تواجه تلك القطعية التي لم يكن لبلاد اليونان عهد بها من قبل ونعني بها القطعية بين السياسة الأخلاق. وكان عليها أن تجد أسلوباً للحياة يجمع بين رضاء الفلاسفة وعدم التعارض مع العجز السياسي. ولذلك لم تفهم المشكلة التي تواجهها على أنها لم تعد مشكلة بناء دولة عادلة، بل فهمتها على أنها تكوين الفرد الراضي القانع المنطوي على نفسهِ.

وقد سار التطور الأخلاقي وقتئذ في اتجاهين متضادين؛ فسلك أحدهما السبيل التي يتزعمها هرقليطس، وسقراط، وأنستانس، وديجين، ووسع نطاق الفلسفة الكليية التي أضحت هي الفلسفة الرواقية. وتفرع الطريق الآخر من دمتريطس ومال ميلاً شديداً نحو أرستبوس واجتذب العقيدة القورينية إلى العقيدة الأبيقورية. وجاءت النزعتان من آسية وكانت كلتاهما تعويضاً فلسفياً عن التدهور الديني والسياسي الذي حل في ذلك الوقت. فاشتقت الرواقية من العقيدة السامَّية عقيدة وحدة الوجود، والجبرية، والاستسلام للقضاء والقدر؛ واشتقت الأبيقورية من طبيعة اليونان المستوطنين شواطئ آسية وما فطروا عليه من حب اللذة.

وقد ولد أبيقور في جزيرة ساموس عام 341. وشغف بالفلسفة وهو في الثانية عشر من عمرهِ؛ ولما بلغ التاسعة عشر رحل إلى أثينة وقضى عاماً في مجمعها العلمي، وكان كفرنسيس بيكن يفضل دمقريطس عن أفلاطون وأرسطو، وعنه أخذ بعض اللبنات التي شاد بها فلسفته، كما أخذ عن أرستبوس حكمة اللذة، وعن سقراط لذة الحكمة، وعن بيرون عقيدة الهدوء، واسمها الطنان الرنان أتركسيا Ataraxia. وما من شك في أنه كان يرقب بكثير من الاهتمام حياة معاصره ثيودورس القوريني، الذي كان يخطب في أثينة داعياً إلى الخروج على الدين والأخلاق جهرة وفي صراحة جعلت الجمعية توجه إليه تهمة الإلحاد(15)- وكان درساً لم ينسه أبيقور قط. ثم عاد إلى آسية وأخذ يلقي محاضرات في الفلسفة في كلوفون Colophon. وقد بلغ من تأثر اللمبسكيين بآرائه وأخلاقه أن شعروا بوخز ضميرهم على أنانيتهم إذ يحتفظون به في مدينتهم النائية، فجمعوا مبلغاً من المال قدره ثمانون مينا (4000 ريال أمريكي)، واشتروا به بيتاً وحديقة في ضواحي أثينة، وأهدوهما إلى أبيقور ليكونا له مدرسة ومنزلاً. ولما بلغ أبيقور الخامسة والثلاثين من عمرهِ في عام 306 اتخذ هذه الدار مسكناً له وأخذ يعلم الأثينيين فلسفة لم تكن أبيقورية إلا في اسمها؛ وكان من أدلة تحرر النساء في ذلك الوقت أنه كان يرحب بهن حين يجئن للاستماع إلى محاضراته، بل كان يرحب بهن في الجماعة القليلة العدد التي كانت تسكن معه. ولم يكن يفرق بين الناس بسبب مراكزهم أو أجناسهم، فكان يقبل العاهرات والزوجات، والأرقاء والأحرار، وكان أحب تلاميذه إليه عبده ميسيس Mysis. وأضحت العاهر ليونتيوم Leontium عشيقته وتلميذته، ووجدت فيه رفيقاً شديد الغيرة كأنه قد حصل عليها بالطريقة القانونية المرسومة. وولدت منه طفلاً واحداً، وبتأثيره ألفت عدة كتب لم يتأثر فيها أسلوبها بفساد أخلاقها.

وأما فيما عدا هذا فقد عاش أبيقور عيشة الرواقيين البسيطة، واتخذ له شعاراً "عش معتدلاً". وكان يؤدي واجبه في طقوس المدينة الدينية، ولكنه لم يلوث يديه بشؤونها السياسية، ولم يقيد روحه بشؤون العالم. وكان يقنع في غذائهِ بالماء وقليل من الخمر، والخبز والجبن. وكان منافسوه يتهمونه بأنه يملأ معدته بالطعام حين كان ذلك في مقدورهِ، وأنه لم يتعفف عن الإكثار منه إلا حين أتلف جهازه الهضمي بكثرة الأكل. ولكن ديجين ليرتيوس يؤكد لنا: "أن الذين يقولون هذا مخطئون جميعهم" ويضيف إلى ذلك قوله: "إن كثيراً من الناس ليشهدون بما ينطوي عليه قلب الرجل من شفقة، ليس بعدها شفقة، على الناس جميعاً- سواء في ذلك أهل بلاده التي كرمته بإقامة التماثيل، وأصدقاؤه الذين كانوا من الكثرة بحيث تضيق بهم مدن برمتها(17)". وكان باراً بأبويه، سخياً مع أخوته، رفيقاً بخدمة الذين كانوا يشتركون معه في دراساتهِ الفلسفية. ويقول سكنا إن تلاميذه كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى إله قائم بينهم، وكان شعارهم بعد موته هو: "عش كأن عين أبيقور ترقبك".

وقد وجد بين دروسه وحبه من الوقت ما يؤلف فيه ثلاثمائة كتاب. وحفظ لنا رماد هركيولانيوم قطعاً متفرقة من أهم كتاب له وهو المسمى "في الطبيعة". وورث المتأخرون عن ديجين ليرتيوس، أفلوطرخس الفلسفة، ثلاثة من خطاباتهِ، وأضافت إليها الاستكشافات المتأخرة عدداً آخر من هذا كله أن لكريشيوس خلد أفكار أبيقور في قصيدة له تعد أعظم القصائد الفلسفية على الإطلاق.

ولعل أبيقور قد أدرك وقتئذ أن فتوح الإسكندر كانت تطلق من الشرق على بلاد اليونان ما لا يحصى من الطقوس الغامضة الخفية، فبدأ بتقرير المبدأ القائل إن هدف الفلسفة هو أن تحرر الناس من الخوف- وخاصة من خوف الآلهة؛ وهو يكره الدين لأن الدين، في رأيهِ، يقوم على الجهل، ويزيده، ويظلم الحياة بما يبثه في النفس من رهبة جواسيس السماء، والأقدار الصارمة القاسية، والعقاب الذي لا يقف عند حد. ويقول أبيقور إن الآلهة موجودة، وأنها تستمتع في مكان بعيد بين النجوم بحياة صافية هادئة منزهة عن الموت، ولكنها أعقل من أن تشغل نفسها بشؤون البشر وهم ذلك النوع الصغير التافه من الخلائق. وليست الآلهة هي التي أنشأت العالم وليست هي التي ترشده وتسيره. وكيف يستطيع هؤلاء الأبيقوريون المقدسون أن يخلقوا هذا العالم الوسط، وهذا المشهد المسكون من خليط من النظام والفوضى؛ والجمال والألم(10)؟؛ يضيف أبيقور إلى ذلك قوله: "فإن كان هذا لا يرضيكم، فلتعزوا أنفسكم بأن تفكروا في أن الآلهة بعيدة عنكم بعداً لا تستطيع معه أن تضركم أو تنفعكم، ذلك أنها لا تستطيع أن تراقبكم، أو أن تحكم على أعمالكم، أو أن تقذف بكم إلى الجحيم. أما الآلهة الخبيثة أو الشياطين فهي أوهام تسعة تصورها لنا أحلامنا".

وبعد أن رفض أبيقور الدين رفض أيضاً الميتافيزيقا. وحجته في هذا أننا عاجزون عن معرفة شيء عن العالم الذي لا تدركه الحواس؛ ولذلك يجب ألا نشغل عقولنا بغير التجارب الذي تدركها الحواس، وأن نعد هذه التجارب آخر محك للحقيقة. ويجمع أبيقور في جملة واحدة كل المسائل التي ناقشها لك Locke وليبنتز Leibnitz بعد ألفي عام من ذلك الوقت: إذا لم تأتِ المعرفة من الحواس، فمن أي طريق آخر تأتي إذن؟ وإذا لم تكن الحواس هي الحكم الأخير في الحقائق، فكيف نجد هذا الحكم في العقل الذي لا تصل إليه المعلومات إلا عن طريق الحواس؟.

ومع هذا فهو يرى أن الحواس لا تمدنا بمعلومات أكيدة عن العالم الخارجي، فهي لا تمسك بالذرات الدقيقة التي يقذف بها كل جزء من سطحهِ، والتي تطبع على حواسنا نسخة صغيرة من طبيعته وشكله فإذا كان لا بد لنا والحالة هذه أن نكون لأنفسنا نظرية عن العالم (وليس تكوين هذه النظرية في واقع الأمر ضرورياً) فخير لنا أن نأخذ برأي دمقريطس القائل بأن لا شيء موجود، أو يمكن أن يكون معروفاً لنا، بل لا شيء يمكن أن نتخيله، اللهم إلا الأجسام والفضاء، وبأن الأجسام كلها تتألف من ذرات لا تنقسم ولا تتغير... وليس لهذه الذرات لون، ولا حرارة، ولا صوت، ولا ذوق، ولا رائحة. وإنما تنتج كلها من الكريات المشعة من الأجسام والتي تلقى على أعضاء الحس في أجسامنا. ولكن الذرات تختلف في حجمها، ووزنها وشكلها؛ لأن هذا الفرض وحده هو الذي نستطيع أن نفسر به بين الأشياء من اختلاف لا آخر له. وكان أبيقور يحب أن يفسر عمل الذرات على مبادئ آلية خالصة، ولكنه لما كان مولعاً بالأخلاق أكثر من ولعهِ بنظام الكون، ولما كان حريصاً على أن يستمسك بحرية الإدارة بوصفها مصدر التبعة الأخلاقية ودعامة الشخصية، فإنه يترك دمقريطس معلقاً بين السماء والأرض، ويفترض وجود نوع من التلقائية في الذرات: فهي تحيد قليلاً عن الخط العمودي حين تهوي في الفضاء، وبهذا تدخل في التراكيب التي تتكون منها الأركان (العناصر) الأربعة، والتي تتكون منها- عن طريق هذه الأركان- المشاهد الخارجية(20). وهناك عوالم كثيرة، ولكن ليس من العقل في شيء أن نشغل بها أنفسنا. وفي وسعنا أن نفترض أن حجمي الشمس والقمر يقربان من حجميهما اللذي يبدوان لنا، فإذا فعلنا هذا كان في مقدورنا أن نصرف وقتنا في دراسة الإنسان.

والإنسان نتاج طبيعي في جزئياته ومجموعه. وأكبر الظن أن الحياة قد بدأت بالتوالد التلقائي، ثم ارتقت على غبر خطة مرسومة بالانتخاب الطبيعي لأصلح الأشكال(21). وليس العقل إلا نوعاً آخر من المادة، والروح جسم مادي رقيق منبث في جميع أجزاء الجسم(22)، وهي لا تستطيع أن تحس أو تعمل إلا بواسطة الجسم، وتموت بموتهِ. ولكن علينا بالرغم من هذا كله أن نقبل ما ندركه إدراكاً مباشراً من أننا أحرار فيما نريد، وإلا كنا ألاعيب على مسرح الحياة لا قيمة لها ولا معنى لوجودها. وخير لنا أن نكون عبيداً للآلهة التي يقول بها الخلق، من أن نكون عبيداً للأقدار التي يقول بها الفلاسفة(23).

على أن وظيفة الفلسفة الحقيقية ليست هي تفسير العالم، لأن الجزء لا يستطيع قط أن يفسر الكل، بل وظيفتها أن تهدينا بحثنا عن السعادة. "وليس الذي نضعه نصب أعيننا هو مجموعة من النظم والآراء التي لا جدوى منها، بل الذي يجب علينا أن نعنى به هو الحياة المبرأة من كل نوع من أنواع الجزع والاضطراب(24)". وقد كتبت على مدخل حديقة أبيقور تلك الخرافة الجذابة "أيها الزائر، ستكون هنا سعيداً، لأن السعادة هنا تعد أعظم خير"؛ وليست الفضيلة في هذه الفلسفة غاية في ذاتها، بل هي وسيلة لا بد منها للوصول إلى الحياة السعيدة(25). وليس في وسع الإنسان أن يحيا حياة سارة من غير أن يحيا حياة تتصف بالفطنة، والشرف والعدالة؛ وليس في وسعه أن يحيا حياة متصفة بالفطنة والشرف والعدالة من غير أن يحيا حياة سارة(26)". وليس في الفلسفة إلا قضيتان اثنتان مؤكدتان، وهما أن اللذة خير ،وأن الألم شر؛ والملاذ الجنسية في ذاتها مشروعة، وستجد الحكمة لها مكاناً فيها؛ غير أنه لما كانت هذه الملاذ قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، فإنها في حاجة إلى جهاد حصيف فطين لا يستطيعه إلا صاحب الذكاء. "فإذا قلنا إذن اللذة هي أعظم خير، فلسنا نقصد بذلك لذات الرجل الفاجر الداعر، أو اللذات التي تقع في مجال المتعة الجنسية... ولكننا نقصد تحرر الجسم من الألم، والروح من الانزعاج. ذلك أن الشراب والمرح الدائمين أو الاستمتاع بصحبة النساء أو ولائم السمك وغيره من الأطعمة الغالية ليست هي التي تجعل الحياة سارة لذيذة، بل يجعلها كذلك هو التفكير الهادئ الرزين، الذي يفحص عن أسباب اختيار هذا الشيء وتجنب ذاك، والذي يطرد الأفكار الباطلة التي ينشأ عنها معظم ما يزعج النفس من اضطراب.

ونخلص من هذا إذن إلى أن الفهم ليس هو أسمى الفضائل فحسب، بل إنه أيضاً أسمى أنواع السعادة، لأنه يعيننا أكثر مما تعيننا أية موهبة أخرى من مواهبنا على تجنب الألم والحزن. والحكمة هي وسيلتنا الوحيدة إلى الحرية: فهي تحررنا من رق الانفعالات، ومن خوف الآلهة، والفزع من الموت؛ وهي تعلمنا كيف نتحمل مصائب الدهر، وكيف نستمد من طيبات الحياة البسيطة ولذات العقل الهادئة لذة عميقة خالدة. وليس الموت مخيفاً رهيباً كما نظنه إذا نظرنا إليه نظرة عاقلة قائمة على الذكاء والفطنة؛ فقد يكون ما ينطوي عليه من الألم أقصر أمداً وأخف وقعاً مما عانيناه المرة بعد المرة في أثناء حياتنا. والذي يخلع على الموت ما يعلق به من رهبة هو أوهامنا السخيفة عما قد يكون وراء الموت. ثم انظر إلى القليل الذي تحتاجه القناعة الحكيمة- إنها لا تحتاج إلا إلى الهواء الطلق، وأرخص الطعام، ومأوى متضع، وفراش، وقليل من الكتب، وصديق "وكل شيء طبيعي يسهل الحصول عليه، والعديم النفع وحده هو الكثير النفقة". وعلينا ألا نقضي حياتنا في نكد مستمر نحاول أن نحقق كل شهوة تطوف برؤوسنا: "وفي وسعنا أن نغفل الشهوات متى كان عجزنا عن إشباعها لا يسبب لنا ألماً بحق(29)"، وحتى الحب، والزواج، والأبوة أمور يمكن الاستغناء عنها، فهي تعود علينا بلذائذ متقطعة، وبحزن لا ينتهي أبداً(30). وإذا تعودنا المعيشة البسيطة، والأساليب غير المعقدة، فذلك طريق لا يكاد يخطئ يوصلنا إلى صحة الجسم(31). والرجل الحكيم لا يحترق قلبه بالمطامع أو شهوة الصيت؛ وهو لا يحسد أعدائه على ما نالوه من حظ طيب، بل إنه لا يحسد أصدقائه على هذا الحظ؛ وهو يتجنب ما في المدينة من حمى المنافسات وضوضاء المنازعات السياسية، بل يطلب هدوء الريف، ويجد أوكد السعادة وأعمقها في هدوء الجسم والعقل. ولما كان هو المسيطر على شهواتهِ، فإنه يعيش بعيداً عن الادعاء الكاذب، ويطرح وراءه كل المخاوف، وتجزيه "حلاوة الحياة" Hedone الطبيعية بأعظم أنواع الخير وأعلاها شأناً وهو السلم.

تلك عقيدة شريفة جديرة بالحب، ومما يملأ النفس شجاعة أن يجد المرء فيلسوفاً لا يخاف اللذة ومنطقياً ليه كلمة طيبة يقولها عن الحواس. وليس في هذا الكلام غموض وليس فيه تمجيد شديد للفهم، بل إن الأبيقورية، على الرغم من أنها هي التي نقلت النظرية الذرية من العهد القديم إلى العصر الحديث، كانت نقطة تحول من نزعة النشوف القوية التي أنشأت العلم اليوناني والفلسفة اليونانية. وأكبر عيب في هذه الفلسفة هو سلبيتها: فهي تفكر في اللذة على أنها التحرر من الألم، وفي الحكمة على أنها فرار من مخاطر الحياة وامتلائها؛ وهي خطة صالحة طيبة للفردية ولكنها لا تصلح للمجتمع. وكان أبيقور يحترم الدولة لأنه يراها شراً لا بد منه، يستطيع تحت حمايتها أن يعيش آمناً من الأذى في حديقته، ولكن يبدو أنه لم يكن يعنى بالاستقلال القومي، بل يبدو أن مدرسته كانت في واقع الأمر تفضل الملكية المطلقة عن الديمقراطية، لأن الأولى أقل من الثانية ميلاً إلى اضطهاد الإلحاد(32)- وهو قلب للعقائد الحديثة يستلفت الأنظار. وكان أبيقور على استعداد لأن يقبل أية حكومة لا تضع أية عقبة في سبيل طلب الحكمة والصداقة طلباً مطلقاً من القيود والعوائق. وكان إخلاصه للصداقة يعدل إخلاص الأجيال التي سبقته للدولة: "إن الصداقة أهم الوسائل التي تهيئها الحكمة لسعادة الحياة بأجمعها(33)". وكانت صدقات الأبيقوريين مضرب المثل في دوامها، ورسائل زعيمهم مليئة بعبارات الحب الخالص القوي(34). وقد بادله مريدوه هذا الشعور بالقوة التي نعهدها في مشاعر اليونان. وحسبنا دليلاً على هذا أن الشاب كولوتيز Colotes حين سمع أبيقور لأول مرة خر راكعاً، وبكى، وحياه بأنه إله(35). وظل أبيقور ثلاثين عاماً يعلم في حديقته ويفضل المدرسة عن الأسرة حتى إذا كان عام 270 قاسى أشد الآلام من حصوة في المثانة، ولكنه تحمل الألم بصبر عجيب، ووجد وهو على فراش الموت متسعاً من الوقت للتفكير في أصدقائهِ: "أكتب إليكم في هذا اليوم السعيد الذي هو آخر أيام حياتي. إن انسداد مثانتي، وآلامي الداخلية قد وصلا إلى غايتهما، ولكنهما يقف في سبيلهما ابتهاج عقلي حين أفكر في حديثي معكم. اعتنوا بأطفال متردوروس العناية الخليقة بإخلاصكم لي وللفلسفة طوال حياتكم"(36). وأوصى بما يملك للمدرسة راجياً "ألا يشعر أي واحد من الذين يدرسون الفلسفة بالحاجة... على قدر ما تصل إليه قوتنا لمنعها"(37).

وترك أبيقور وراءه مريدين خلف بعضهم بعضاً زمناً طويلاً، وقد بلغ من وفائهم لذكراه أن ظلوا قروناً طوالاً يأبون أن يغيروا كلمة واحدة من تعاليمهِ. وكان أشهر تلاميذه كلهم مترودوروس اللمبسكي Metrodorus of Lampascus، وقد أدهش بلاد اليونان كلها أو أثار ضحكها بتلخيصهِ الأبيقورية كلها في قولهِ إن "كل الطيبات ذات صلة بالبطن"(38)، ولعله كان يقصد بهذا أن الملاذ كلها جسمية وأنها في آخر الأمر معوية. ورد عليهِ كريسبوس بتسميتهِ علم البطنة الذي تخصص فيهِ أركستراتوس "مركز الفلسفة الأبيقورية"(30). وأساء الجمهور فهم الأبيقورية فنددوا بها علناً وساروا على سننها في أوساط كبيرة في جميع أنحاء هلاس. واتبعها كثيرون من اليهود الهلنستيين، وبلغ من كثرتهم أن أضحت كلمة أبيقور عند الأحبار مرادفة لكلمة مرتد عن الدين(40). وفي عام 137، أو 155 أخرج من رومة اثنان من فلاسفة الأبيقوريين بحجة أنهم كانوا يفسدون أخلاق الشباب(41). وبعد مائة عام من ذلك الوقت ألقى شيشرون هذا السؤال: "لماذا كان لأبيقور أتباع بهذه الكثرة؟"(42)، وكتب لكريشيس أكمل وأظرف عرض بقي حتى الآن للطريقة الأبيقورية. وظل لمدرستهم أتباع ينتمون إليها جهرة إلى عهد قسطنطين، منهم من سوأ اسم أستاذه فجعله مرادفاً للنهم في المأكل والمشرب، ومنهم من ظل أميناً يعلم الحكم البسيطة التي لخص فيها فلسفته "الآلهة لا ينبغي أن تخاف؛ والموت لا يمكن الشعور به؛ والخير يستطاع نيله؛ وكل ما نرهبه يمكن التغلب عليهِ"(43).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: التوفيق بين الأبيقورية والرواقية

لما كان عدد متزايد من أتباع أبيقور قد أخذوا يفسرون أقواله بأنه ينصح الناس بالجري وراء اللذة الجسمية فإن النظرية الأساسية في علم الأخلاق- وهي ما هي الحياة الطيبة؟- لم يتوصل إلى حلها، بل كل ما في الأمر أنها وضعت في صيغة أخرى وهي: كيف يوفق بين أبيقورية الفرد الفطرية وبين الرواقية التي لا بد منها للجماعة والجنس البشري؟- وكيف يستطاع أن يوحي إلى أعضاء المجتمع أو أن يرهبوا حتى يسيطروا على أنفسهم أو يضحوا بها لأن هذه التضحية وتلك السيطرة لا غنى عنهما لبقاء المجتمع. ولم يعد في مقدور الدين القديم أن يؤدي هذا الواجب، كما أن الدولة القديمة دولة- المدينة لم تسمُ بالناس إلى حد يجعلهم ينسون أنفسهم. واتجه اليونان المتعلمون إلى الفلسفة يسألونها الجواب، واستدعوا الفلاسفة يطلبون إليهم التضحية أو السلوى في أزمات الحياة، وبحثوا في الفلسفة عن نظرة تكسب الوجود الإنساني معنى خالداً أو حكمة دائمة في نظام الأشياء، وتمكنهم من أن ينظروا إلى الموت الذي هم ملاقوه حتماً بلا رهبة ولا فزع. لقد كانت الرواقية آخر ما بذله الأقدمون الأمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري، ولقد حاول زينون مرة أخرى أن يصل إلى الهدف الذي عجز أفلاطون عن الوصول إليهِ.

وكان زينون من أهل قيتيوم إحدى مدائن قبرص؛ وكانت المدينة فينيقية في بعض أحيائها يونانية في أكثرها؛ وكثيراً ما يقال إن زينون فينيقي، ويقال أحياناً إنه مصري؛ والذي لا شك فيه أن أبويه يختلط فيهما الدم الهليني والدم السامي(44). ويصفه أبلونيوس الصوري بأنه نحيل الجسم، طويل القامة، أسمر اللون، وأن رأسه كان يميل إلى أحد الجانبين، وأن ساقيه كانتا ضعيفتين. ويخيل إلينا أن أفرديتي لو عرض عليها لأسلمته إلى أثينة، وإن لم يكن هفستس Hephaestus خيراً منه. وإذ لم يكن له ما يشغل باله ويشتت جهوده فإنه سرعان ما جمع من التجارة ثروة طائلة، فلما أن جاء إلى أثينة أول مرة كان لديه، كما يقولون، أكثر من ألف وزنة. ويقول ديجين ليرتيوس إن السفينة تحطمت به عند ساحل أتكا، وإنه فقد ثروته، فوصل إلى أثينة حوالي عام 314 وهو لا يكاد يملك شيئاً(45). وجلس الرجل إلى جوار دكة كتبي وشرع يقرأ في كاتب ممر بيليا لأكسانوفون وسرعان ما افتتن بأخلاق سقراط، وأخذ يسأل : "أين يوجد أمثال هذا الرجل اليوم؟". ومر به في تلك الساعة أقراطيس الفيلسوف الكلبي، فأشار عليه الكتبي أن يتبع ذلك الرجل. انظم زينون وهو وقتئذ في سن الثلاثين إلى مدرسة أقراطيس وسره أن كشف الفلسفة وقال: "لقد قمت برحلة ناجحة موفقة حين تحطمت سفينتي"(46). وكان أقراطيس هذا رجلاً من أهل طيبة نزل عن ثروتهِ البالغ قدرها ثلاثمائة وزنة إلى مواطنيهِ وعاش عيشة الزهد والتقشف التي يعيشها الكلبيون المتسولون. وكان يندد بالدعارة المتفشية في أيامهِ، وينصح الناس بأن يجوعوا ليعالجوا الحب. وشغفت تلميذته هباركيا Hipparchia بحبهِ، لكثرة ما كان لديها من الطعام، وهددت أبويها بأنها سوف تقتل نفسها إذا لم يزوجاها بهِ، فتوسلا إلى أقراطيس أن ينصحها بالرجوع عن عزمها، وحاول هو أن يجيبهما إلى ما طلبا ووضع مخلاة تسوله بين قدميها وقال لها: "هذا كل ما أملك؛ ففكري الآن فيما تفعلين"؛ ولم يثنِ ذلك من عزمها فغادرت منزلها الفخم، وارتدت ثياب المتسولين، وذهبت لتعيش مع أقراطيس عيشة العشق الحر الطليق. ويقال لنا إن زواجها قد تم علناً، ولكن حياتهما كانت مثلاً أعلى في الحب والوفاء(47). وأثرت في نفس زينون حياة الكلبيين البسيطة الصارمة؛ ذلك أن أتباع أنستانس قد أصبحوا وقتئذ هم الرهبان الفرنسسكان في الزمن القديم، نذروا أن يعيشوا فقراء زاهدين، ينامون في مأوى طبيعي يعثرون عليه، ويعيشون على صدقات الناس الذين يمنعهم جدهم أن يكونوا قديسين. وأخذ زينون عن الكلبيين المبادئ الأولية لنظامهِ الأخلاقي، ولم يحول قط أن يخفي ما هو مدين بهِ إليهم. وقد تأثر بهم في أول كتاب له وهو كتاب الجمهورية تأثراً جعله يعتنق شيوعيتهم الفوضوية التي ى تكون فيها نقود، ولا ملكية، ولا زواج، ولا دين، ولا شرائع(48). ولما أدرك أن هذه الطوبى، وأن نظام التغذية الكلبي، لا يصلحان لأن يكونا منهاجاً علمياً للحياة، فارق أقراطيس وأخذ يدرس مع زنوقراطيس في المجمع العلمي ومع استبلو المغاري. وما من شك في أنه قرأ كتب هرقليطس قراءة استيعاب لأنه أدخل في أفكارهِ كثيراً من آراء هرقليطس- كالنار المقدسة بوصفها روح الإنسان والكون، وأبدية القانون وتكرار خلق العالم واحتراقه؛ ولكن كان من عادته أن يقول إنه مدين لسقراط بأكثر مما هو مدين به لغيرهِ من الفلاسفة، وإن سقراط هو معين الفلسفة الرواقية ومثله الأعلى.

وبعد أن قضى زينون كثيراً من السنين تحت وصاية غيره من الفلاسفة أنشأ أخيراً مدرسته الفلسفية الخاصة به في عام 301، وذلك بأن أخذ يتحدث إلى الطلاب وهو رائح غادٍ تحت أعمدة الاستواء بوسيلي Stoa Poecile أو المدخل المحدد. وكان يرحب بالفقراء والأغنياء على السواء، ولكنه لم يكن يشجع انضمام الشبان إلى تلاميذهِ، لأنه كان يشعر بأن الفلسفة لا يفهمها إلا الرجال الناضجوا العقل. وحدث أن أطال أحد الشبان في الكلام فقال له زينون "لقد خُلق لنا أذنان وفم واحد لكي ننصت كثيراً ونتكلم قليلاً"(49). وحضر أنتجونس الثاني وهو في أثينة دروس زينون، وأضحى صديقاً له معجباً بهِ، يستنصحه في مهام الأمور، وأغراه بالترف برهة وجيزة، ودعاه لأن يعيش ضيفاً عليهِ في بلا Pella، ولكن زينون اعتذر له وأرسل إليه بدلاً منه تلميذه برسيوس Persaeus، وظل هو أربعين عاماً يعلم في الاستوا ويعيش عيشة تتفق وتعاليمه اتفاقاً أصبحت معه عبارة "أكثر اعتدالاً من زينون" مثلاً سائراً في بلاد اليونان. وأسلمته الجمعية الأثينية رغم صلته الوثيقة بأنتجونس "مفاتيح الأسوار"، ووافقت على المال الذي خصص لإقامة تمثال له وإهدائه تاجاً. وهذا نص القرار:

"لما كان زينون القتيومي قد قضى سنين كثيرة في مدينتنا يدرس الفلسفة، ولما كان في كل ما عدا هذا رجلاً طيباً (هكذا)، يحض جميع الشبان الذين يسعون لصحبتهِ على الاعتدال في حياتهم ويجعل حياته أنموذجاً لأعظم ما تسمو إليه الحياة... فقد صحت عزيمة الشعب على تكريم زينون... وعلى أن يهديه تاجاً من الذهب... وأن يبني له قبراً في حي الرمكس من الأموال العامة"(51).

والشائع أن موته كان في سن التسعين، ويقول ليرتيوس إنه مات بالطريقة الآتية: "بينما هو خارج من مدرستهِ إذ زلت قدمه وكسر إصبع من أصابعها، فضرب الأرض بيدهِ وأعاد بيتاً من الشعر في نيوبي وهو "لقد جئتُ؛ فلمَ تناديني على هذا النحو؟" ثم خنق نفسه من فورهِ"(52).

وواصل عمله في الاستوا رجلان من يونان آسية هما أقلانتيتوس الأسوسي Cleanthes of Assus ومن بعدهِ أقريسبوس الصوليي Chrysippus of Soli. وكان أقلانتيتوس ملاكماً محترفاً قدم إلى أثينة ومعه أربع درخمات، واشتغل فاعلاً عادياً، ورفض أن يتقاضى إعانة من الدولة، ودرس على زينون تسعة عشر عاماً، وعاش مجداً فقيراً زاهداً، أما أقريسبوس فكان أكثر تلاميذ المدرسة علماً وإنتاجاً، وهو الذي أكسب العقيدة الرواقية صورتها التاريخية بأن شرحها في 270 كتاباً، جعلت ديونيشيوس الهلكرنسي Dionysius of Halicarnassus يعدها أنموذجاً لغزارة العلم المملة. وانتشرت الرواقية من بعدهِ في جميع أنحاء هلاس، وكان أعظم دعاتها في آسية: بانيتيوس الرودسي Panaetius of Rhodes، وزينون الترسوسي، وبؤيثوس الصيداوي Boethus of Sidon، وديجين السلوقي. وكل الذي نستطيعه للتعريف بها أن نؤلف مما عثرنا عليه عرضاً من النتف الباقية من المؤلفات الضخمة الكثيرة التي كتبت عنها صورة لأوسع فلسفات العالم القديم انتشاراً وأعظمها أثراً.

وأكبر الظن أن أقريسبوس هو الذي قسم الفلسفة الرواقية إلى منطق، وعلوم طبيعية، وأخلاق. وكان زينون ومن جاء بعده يفخرون بما كتبوه في النظريات المنطقية، ولكن أنهار المداد التي فاضت بها أقلامهم في هذا الموضوع لم تترك أثراً ملحوظاً في إنارة العقول أو في نفعها . لقد كان الرواقيون يتفقون مع الأبيقوريين في أن المعرفة لا تنشأ إلا من الحواس، وكان المقياس النهائي للحقيقة في رأيهم هو المدركات الحسية التي تضطر العقل إلى قبولها بما فيها من وضوح أو ثبات، على أنه ليس من الضروري أن تؤدي التجارب إلى المعرفة، لأن بين الحواس والعقل توجد العواطف أو الانفعالات، وهذه قد تشوه التجارب فتجعلها أخطاء، كما تشوه الرغبات فتجعلها رذائل. والعقل هو أسمى ما أحرزه الإنسان، وهو بذرة من بذور العقل الكلي الذي وضع قواعد العالم.

والعالم كالإنسان مادي بأكملهِ وإلهي بفطرتهِ. فكل ما تنقله لنا الحواس مادي، والأشياء المادية دون غيرها هي التي تحدث الأفعال أو تستقبلها. والصفات والكميات، والفضائل، والانفعالات، والنفس والجسم، والله والنجوم، كلها صور مادية أو عمليات، تختلف في درجة رقتها، ولكنها واحدة في جوهرها(54). غير أن المادة كلها حركية، مملوءة بالتوتر والقوى، لا تنقطع عن العمل على الانتشار أو التركيز، يبعث فيها الحياة من داخلها وخارجها النشاط والحرارة أو النار. والعالم يعيش بواسطة عدد لا يحصى من دورات التمدد والانكماش، والتطور والانحلال، يحترق من آن إلى آن في لهب عظيم، ثم يتشكل على مهل من جديد. ثم يعود فيمر في تاريخه القديم كله بأدق تفاصيله لأن تسلسل العلل والمعلولات يسير في دائر مفرغة ويتكرر إلى غير نهاية. وكل الحوادث وكل أعمال الإدارة مقررة معينة، ومن المستحيل على شيء ما أن يحدث على نحو يخالف ما حدث عليه، كما أنه يستحيل على شيء أن ينشأ من لا شيء؛ ولو حدثت أية ثغرة في السلسلة لتمزق العالم.

والله في هذا النظام هو البداية والوسط والنهاية. وكان الرواقيون يعترفون بضرورة وجود الدين ليكون أساساً للأخلاق الفاضلة؛ فكانوا ينظرون نظرة التسامح اللطيفة لعقائد الشعب الدينية وما فيها من شياطين، ومن تنبؤ بالغيب، وكانوا يجدون لهذه تفسيرات مصوغة في تشبيهات ومجازات يسدون بها الثغرة الفاضلة بين الخرافة والفلسفة. وكانوا يقبلون علم التنجيم الكلداني ويعتقدون بصحته في جوهره، ويرون أن شؤون الأرض تنطبق انطباقاً خفياً مستمراً على حركات النجوم(55). فكان ذلك لديهم صورة من صور التعاطف العالمي الذي يجعل كل ما يحدث في جزء منه يؤثر في سائر الأجزاء. وكأنهم أرادوا ألا يكتفوا بوضع نظام أخلاقي للمسيحية، بل شاءوا أن يضعوا لها أيضاً نظامها الديني، ففكروا في العالم، والشرائع، والحياة، والنفس، والأقدار من حيث صلتها بالله، وعرفوا الأخلاق الفاضلة بأنها الاستسلام عن رضا واختيار لإرادة الله. والله عندهم، كالإنسان، مادة حية؛ فالعلم كله جسمه، ونظام العالم وقانونه عقله وإرادته؛ والكون كائن حي ضخم، الله روحه، ونسمته المنعشة، وعقله المخصب، وناره المحركة المنشطة(56). وترى الرواقيين أحياناً يفكرون في الله تفكيراً مجرداً غير مجسد؛ ولكنهم يصورونه في الأكثر الأهم على أنه قوة مدبرة تضع للكون خطته وترشده بعقلها الأعلى، وتنظم أجزاءه كلها لتؤدي أغراضاً تنطبق على العقل، وتجعل كل شيء فيه يعود بالنفع على الأفاضل من الناس. ويوحد أقلانيتوس بين الله وزيوس في ترنيمة توحيدية خليقة بأن ينطبق بها إخناتون أو إشعيا:

حمداً لك يا زيوس، حمداً يفوق حمد جميع الآلهة: إن أسماءك لكثيرة،

وإن قوتك لأعظم القوى إلى أبد الدهر.

منك بدأ العالم، وأنت تحكم الأشياء كلها بقوة القانون،

وإليك تتحدث كل الأجسام لأننا نحن جميعاً أبناؤك.

ومن أجل هذا أرفع إليك نشيداً أتغنى فيه بقوتكَ:

إن نظام الكون بأجمعه يطيع كلمتك في تحركها حول الأرض

حيث تختلط الأضواء الصغيرة والكبيرة: ألا ما أجل شأنك

لك الملك إلى أبد الدهر!

لا شيء يحدث على الأرض إلا بعلمك، ولا في السماء ولا في البحار:

إلا ما يفعله الأشرار: مدفوعين إليه بحمقهم؛

ولكن لك من الحذق ما يصلح المعوج نفسه، وما لا صورة له يصور

والبعيد أمامك قريب

وهكذا نظمت الأشياء كلها فجعلتها وحدة: خيرها وشرها:

حتى تكون كلمتك واحدة في الأشياء جميعها: باقية إلى الأبد.

طهر نفوسنا من الحماقة، حتى نرد إليك

الفضل الذي تفضلت علينا به:

فنتغنى بمدح أعمالك إلى أبد الآبدين:

غناء يليق ببني الإنسان.

وما أشبه الإنسان والعالم بالكون الصغير في الكون الكبير، فهو أيضاً كائن حي ذو جسم مادي والنفس مادية، ذلك بأن كل ما يحرك الجسم أو يؤثر فيهِ، وكل ما يحركه الجسم أو يؤثر فيه، لا بد أن يكون ذا جسم. والنفس نسيم ناري (نيوما Pneuma) منبثة في جميع أجزاء الجسم، كما أن النفس العالمية منبثة في جميع العالم. وهي تبقى بعد الجسم إذا مات، ولكنها تبقى على هيئة طاقة غير شخصية. وحين يحدث اللهب الأخير تمتص الروح مرة أخرى في محيط الطاقة وهو الله كما يمتص أتمان Atman في برهمان Brahman.

وإذ كان الإنسان جزءاً من الله أو الطبيعة فإن من اليسير أن تحل المشكلة الأخلاقية على النحو الآتي: الخير هو التعاون مع الله أي مع الطبيعة ونعني بها قانون العالم. وليس الخير هو الجري وراء الاستمتاع أو اللذة لأن هذا الجري يخضع العقل للشهوة، وكثيراً ما يؤذي الجسم أو العقل، وقلما يرضينا في آخر الأمر. ولا يمكن أن تتحقق السعادة إلا بالمواءمة بين أغراضنا وسلوكنا من جهة، وبين أغراض العالم وقوانينه من جهة أخرى؛ وليس ثمة تعارض بين صالح الفرد وصالح الكون، لأن قانون الخير في حالة الفرد يتفق مع قانون الطبيعة. وإذا لحق الشر بالرجل الطيب فإن هذا لا يكون إلا إلى أجل قصير، وليس هو في واقع الأمر شراً؛ ولو أننا استطعنا أن نفهم الأمر كله لرأينا ما وراءه من خير مهما يظهر في أجزائه من الشر . والرجل العاقل لا يدرس العلوم الطبيعية إلا بالقدر الذي يكفي لمعرفة قانون الطبيعة ثم يكيف حياته وفق هذا القانون، وغرض العلم والفلسفة والمبرر الوحيد لدراستها هما تمكيننا من أن نعيش وفق الطبيعة Zen Kata physin. ويسلم أقلانيتوس إرادته لإرادة الله في ألفاظ تكاد أن تكون هي بعينها ألفاظ نيومن Neunam:

أهدني يا الله، وأنتَ يا قدري،

إلى ذلك المكان الوحيد الذي تريدني أن أشغله.

وسأتبع هديكما مسروراً. فإذا ما وصلتُ معكما

ثم نكثتُ العهد، فلا بد لي من أن أواصل السير معكما.

ومن أجل هذا يتجنب الرواقي الترف والتعقيد، والمنازعات السياسية والاقتصادية؛ وهو يقنع بالقليل، ويقبل بلا تذمر صعاب الحياة وما يلاقيه فيها من خيبة. ولا يأبه بشيء غير الفضيلة والرذيلة- ر يبالي بالمرض والألم، بحسن السمعة أو سوئها، بالحرية أو الرق، بالحياة أو الموت. ويقمع كل شعور يقف في وجه سير الطبيعة أو يبعث على الارتياب في حكمتها: فإذا مات ولده لم يحزن، بل يرضى بحكم القدر معتقداً أنه أحسن الأحكام وإن خفي الأمر عليه؛ ويسعى لأن يكون مجرداً من الشعور تجرداً تاماً، حتى يكون هدوء عقله آمناً من جميع تقلبات الحظ، أو الرحمة، أو الحب، ومن وقعها عليه . وعلى الرواقي أن يكون معلماً قاسياً، وإداريا صارماً. والجبرية لا تتضمن الانطلاق من القيود، بل يجب علينا أن نكبح جماح أنفسنا وأنفس غيرنا، وأن نتحمل من الناحية الخلقية تبعات جميع أعمالنا. ولما أن ضرب زينون عبده لأنه سرق، وكان العبد يعرف قليلاً من العلم، قال له: "ولكني قد قدر عليَّ أن أسرق"، فرد عليه زينون بقولهِ: "وقدر أيضاً أن أضربك"(61). ويرى الرواقي أن جزاء الفضيلة هو الفضيلة نفسها، وأنها واجب مطلق وأمر محتوم، مستمد من اشتراكه في الألوهية؛ وإذا أصابه مكروه عزى نفسه بأنه حين يتبع القانون الإلهي يصبح هو الله مجسداً(62). فإذا سئم الحياة، واستطاع أن يفارقها من غير أن يسبب الأذى لغيره، فلا حرج عليه من أن ينتحر. ولما بلغ أقلانتيوس سن السبعين شرع يصوم صوماً طويلاً، ثم قال إنه لن يعود بعد أن قطع نصف الطريق، وواصل الصوم حتى مات(63).

على أن الرواقي مع هذا ليس بالرجل غير الاجتماعي، وهو لا يفخر بالفقر كالكلبي، ولا يغرم بالوحدة كالأبيقوري. وهو يوافق على الزواج وعلى وجود الأسرة ويراهما لازمين، وإن كان لا يمتدح الحب الروائي؛ وهو يتطلع إلى وجود مدينة فاضلة تكون فيها النساء شركة بين الرجال(64). ويقبل وجود الدولة، بل يقبل الملكية المطلقة نفسها؛ وليست لديه ذكريات عزيزة عن دولة- المدينة، ويرى أن أوساط الناس مغفلون شديدوا الخطر، ويفضل الملوك المطلقي السلطة على تحكم الغوغاء. والحق أنه قلما يعنى بأية حكومة، ويتمنى أن يكون الناس كلهم فلاسفة، حتى تصبح القوانين لا ضرورة لها. وهو لا يفكر في الكمال كما يفكر فيه أفلاطون أو أرسطو من حيث علاقته بخير المجتمع، بل يفكر فيه من حيث علاقته بالرجل الصالح. ولا يرى حرجاً في أن يشترك في الشؤون السياسية، ويناصر كل حركة ضعيفة، تهدف إلى الحرية والكرامة الإنسانية، ولكنه لا يقيد سعادته بقيود المنصب أو السلطان. وهو يرضى بأن يضحي بحياتهِ في سبيل بلاده، ولكنه يرفض كل وطنية تقف في سبيل ولائه للإنسانية بأجمعها؛ فهو والحالة هذه مواطن عالمي. وكان زينون، وهو الذي يجري في عروقه، كما سبق القول، الدم اليوناني والدم السامي، يتوق كما يتوق الإسكندر لتحطيم الحواجز العنصرية والقومية؛ وإن نزعته الدُّوَلية لتكشف عن فكرة الإسكندر التي كانت آخذة في الزوال، فكرة توحيد بلاد شرق البحر الأبيض المتوسط. وكان زينون وكريسبوس يأملان في آخر الأمر أن يحل مجتمع واحد كبير محل تلك الدول والطبقات المتطاحنة؛ وألا يكون في هذا المجتمع الجديد أغنياء وفقراء، أو سادة وعبيد؛ يحكمه الفلاسفة فلا يظلمون، ويكون فيه الناس جميعاً أخوة لأنهم أبناء إله واحد(65).

وملاك القوى أن الرواقية كانت فلسفة نبيلة، وأنها كانت فلسفة عملية إلى حد أبعد مما يتوقعه الساخر منها في الوقت الحاضر. لقد وحدت هذه الفلسفة جميع عناصر الفكر اليوناني وبذلتها في مجهود نهائي قام به العقل الوثني لوضع نظام أخلاقي ترتضيه الطبقات التي خرجت على الدين القديم؛ ومع أنه لم ينضوِ تحت لوائها إلا أقلية ضئيلة، فإن هذه الأقلية أينما وجدت كانت خير العناصر. وقد أنتجت كما أنتج المذهبان المسيحيان المقابلان لها- وهما الكلفنية والمتزمتة- أقوى الأخلاق في زمنها. على أننا إذا نظرنا إلى هذه الفلسفة من الوجهة النظرية رأينا عقيدة شاذة مروعة تهدف إلى كمال قاسٍ يتطلب من أصحابهِ اعتزال المجتمع، لكنها في واقع الأمر قد خلقت رجالاً شجعاناَ، قديسين أطهاراً، خيرين أمثال كاتو الأصغر، وإبكتتس Epictetus، وماركس أورليوس. ولقد تأثر بها الروماني فوضع على هديها تشريعاً للأمم غير الرومانية، وأعانت على حفظ كيان المجتمع القديم حتى ظهر له دين جديد. ولسنا ننكر أن الرواقيين قد شدوا من أزر الخرافات، وأنهم كان لهم أثر سيئ في العلوم الطبيعية، ولكنهم رأوا بنافذ بصيرتهم المشكلة الأساسية القائمة في عصرهم - وهي أساس الأخلاق الديني- وبذلوا مجهوداً شريفاً لملء الهوة الفاصلة بين الدين والفلسفة. لقد كسب أبيقور اليونان وضمهم إلى لوائهِ، أما زينون فقد كسب أرستقراط رومة، وظل الرواقيون إلى آخر تاريخ الوثنية يحكمون الأبيقوريين، وسيظلون على الدوام هم الحاكمين لهم. ولما أن نشأ دين جديد من أنقاض الفوضى العقلية والأخلاقية الضاربة أطنابها في العالم الهلنستي، كانت السبيل قد مهدتها لهذا الدين فلسفة آمنت بضرورة الدين، ونادت بعقيدة تقشفية من مبادئها البساطة وضبط النفس، عقيدة ترى في الله كل شيء.

الفصل الرّابع: العودة إلى الدين

لقد مر النزاع بين الدين والفلسفة حتى الوقت الذي نتحدث عنه في ثلاث مراحل: مهاجمة الدين كما حدث قبل عهد السقراطيين؛ والمحاولة التي تهدف إلى استبدال قانون أخلاقي طبيعي بالدين كما فعل أرسطو وأبيقور؛ ثم العودة إلى الدين كما فعلت المتشككة والرواقية- وتلك هي الحركة التي انتهت بظهور الأفلاطونية الجديدة والمسيحية. وقد حدث مثل هذا التعاقب أكثر من مرة في تاريخ العالم، ولعله يحدث في هذه الأيام. فطاليس يقابل جالليو، ودمقريطس يقابل هُبز، والسوفسطائيون يقابلون رجال دوائر المعارف الفرنسيين، وبروتاغوراس يقابل فلتير؛ ثم إن أرسطو يقابل اسبنسر، وأبيقور يقابل أناطول فرانس؛ وبيرون يقابل بسكال، وأرسسلوس يقابل هيوم، وأقرانيداس يقابل كانت، زينون يقابل شوبنهور، وأفلوطين Plotinus يقابل برجسن. نعم إن الترتيب التاريخي لهؤلاء الفلاسفة يجعل التشابه بينهم غير يسير، ولكن الاتجاه الأساسي للتطور واحد في جميع الأحوال.

لقد تخلى عصر النظم العظيمة عن مكانه إلى التشكك في قدرة العقل الإنساني على فهم العالم أو السيطرة على غرائز الناس وإخضاعها للنظام وللحضارة. ولقد كانت هذه حال المتشككة بالمعنى الذي يقصده منها كانت لاهيوم: فقد كان هؤلاء يرتابون في الفلسفة كما يرتابون في العقائد التحكمية، وحطموا أسس المادية، وأشاروا بقبول الطقوس الدينية القديمة في هدوء. ولم يبعد التشكك الناس على يد بيرون، كما لم يبعدهم على يد بسكال، عن الدين بل قادهم إليه، وقد ختم بيرون نفسه حياته بأن كان كاهن المدينة الأكبر المبجل. ولم يكن هجر الأبيقوريين للسياسة واتجاههم نحو القوانين الأخلاقية، وفرارهم من الدولة إلى الروح، لم يكن هذا كله إلا لحظة قصيرة في الرجعة إلى العهد الأول؛ وقد مهد قصر الاهتمام على النجاة الفريدية الطريق إلى ظهور دين يستهوي الفرد أكثر مما يستهوي الدولة. وكان ثمة كثيرون من الناس لا يستطيعون أن يجدوا في الحياة ما وجده فيها أبيقور من سلوى اقتنع بها ورضي، فقد حلت بهم الفاقة، أو مصائب الدهر، أو المرض، أو الثكل، أو الثروة، أو الحرب؛ وتركت نصائح الدهر كلها أفئدتهم فارغة. وها هو ذا هجسياس القوريني Hegesias of Cyrene قد بدأ في نظر القوريين كما بدأ أبيقور، ولكنه انتهى إلى الاعتقاد بأن في الحياة من الألم أكثر مما فيها من اللذة، ومن الحزن أكثر مما فيها من الفرح، وأن النتيجة الوحيدة التي تتمخض عنها الفلسفة الطبيعية هي الانتحار . وقد فعلت الفلسفة ما تفعله الابنة الضالة بعد المغامرات المبهجة وزوال الخدع عن بصيرتها، فأقلعت عن الجري وراء الحقيقة والبحث عن السعادة، وعادت بعد أن تابت وأنابت إلى أمها الدين، تبحث فيه مرة أخرى عن أسس تقيم عليها آمالها ومبادئ تؤيد بها صدقاتها.

وبينما كانت الرواقية تسعى لإقامة صرح القانون الأخلاقي للطبقات المفكرة، كانت تعمل أيضاً للاحتفاظ بمعونة القوى غير الطبيعية لتدعم بها أخلاق الرجل العادي، وصبغت فكرتها الميتافيزيقية والأخلاقية صبغة دينية أخذت تقوى على مر الزمان. وكان زينون ينكر كل وجود حقيقي للآلهة التي يقول بها العامة(67)، ولكن أقلانيتوس بعد جيل واحد اقترح محاكمة أرستارخوس لأنه ملحد. ولم يكن زينون يدعو إلى شيء من الفساد الخلقي الشخصي، ولكن سكنا كان يتحدث عن النعيم في الدار الآخرة بألفاظ لا تكاد تفترق في شيء عن العقائد الأليوزينية Eleusinian والمسيحية(68). ولقد أصبحت الرواقية بعد زينون ديناً أكثر منها فلسفة، واتخذ كل مبدأ من مبادئها صورة دينية. وكان الجزء الأكبر من نظامها يتألف من جدل يدور حول الله وطبيعته، وانبعاث العالم من الله، وحقيقة القوة المدبرة، واتفاق الفضيلة مع الإرادة الإلهية، وأخوة البشر تحت سيطرة أبوة الله، وعودة العالم في آخر الأمر إلى الله. وفي هذه الفلسفة نجد معنى الخطيئة الذي كان له شأن أيما شأن في المسيحية الأولى وفي البوتستنتية؛ ونجد فيها ذلك الشمول السامي يرحب كما رحب في المسيحية من بعد بكل الأجناس والطبقات؛ والزهد وعدم الزواج المأخوذين عن الكلبيين واللذين أثمرا ذلك العدد العظيم من الرهبان المسيحيين. والحق أنه لم يكن بين زينون الطرسوسي إلا خطوة واحدة يخطوها العالم في الطريق إلى دمشق.

ولقد كانت عناصر كثيرة في العقيدة الرواقية أسيوية في أصلها، وكان بعضها سامياً خالصاً- ولم تكن الرواقية في جوهرها إلا مرحلة واحدة أولية من مراحل انتصار الشرق على الحضارة الهلنية. إن بلاد اليونان لم تعد بلاد اليونان قبل أن تفتحها رومة.