قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 4 ب 21
صفحة رقم : 2520
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> اضمحلال الحرية اليونانية وسقوطها -> العصر الذهبي للفلسفة -> العلماء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الحادي والعِشرون: العصر الذهبي للفلسفة
الفصل الأوّل: العلماء
إذا وازنا بين حال العلم في القرن الرابع وبين الخطوات الجريئة التي خطاها إلى الأمام في القرن الخامس، وبالانقلاب الثوري الذي حدث فيه في القرن الثالث، حكمنا من فورنا بأنه كان في هذا القرن الأوسط في حالة ركود، وأنه قنع في معظم الأحوال بتسجيل ما تجمع له في القرن السابق. فقد كتب أكسانوقراطيس Xenocrates تاريخاً للهندسة، وكتب ثاوفرسطوس تاريخاً للفلسفة الطبيعية، وكتب مينون Menon تاريخاً للطب، وأوديموس Eudemus تواريخ للحساب، والهندسة، والفلك(1). وبدا لعلماء ذلك العصر أن المسائل الدينية والأخلاقية والسياسية أكثر أهمية وأولى بالدرس من مشاكل الطبيعة، فتحول الناس مع سقراط من دراسة العالم المادي دراسة موضوعية إلى البحث في أحوال النفس وشئون الدولة. وكان أفلاطون يحب العلوم الرياضية فغمر فيها فلسفته إلى أعماق بعيدة، وجعلها شغل المجمع العلمي، وكاد في سراقوصة أن يهب لها ممالك بأسرها. لكن الحساب كان في نظره نظريات في الأعداد تتصف بالكثير من الغموض؛ ولم تكن الهندسة هي قياس الأرض، بل كانت تدريباً عقلياً، خالصاً، وطريقاً يصل به العقل إلى الله. ويحدثنا بلوتارخ عن "غضب" أفلاطون من أودكسوس Eudoxus وأرخيتاس Archytas لأنهما قاما بتجارب في الميكانيكا "فأفسدا الشيء الوحيد الطيب في الهندسة، وقضيا عليه قضاء مبرماً، وأبعداه بطريقة مخجلة يجللهما العار من المسائل العقلية الخالصة غير المجسمة إلى المحسوسات، واستعانا على عملهما هذا بالمادة". ويقول بلوتارخ بعد ذلك: "إن الميكانيكا قد انفصلت بهذه الطريقة عن الهندسة، وأنكرها الفلاسفة، وأهملوا أمرها، فأصبحت من فنون الحرب"(2). على أن أفلاطون رغم هذا قد قدم للعلوم الرياضية بطريقته العقلية المجردة أجل الخدمات؛ فأعاد تعريف النقطة وقال إنها مبدأ الخط(3)، ووضع قاعدة لإيجاد الأعداد المربعة التي هي مجموع مربعين(4)، واخترع التحليل الرياضي أو ارتقى به(5)، ونعني بالتحليل الرياضي البرهنة على صحة قضية أو خطأها بالنظر إلى النتائج التي يؤدي إليها الأخذ بها؛ وليست طريقة إقامة البرهان بنقض نقيضه إلا صورة من هذه الطريقة. وكان الاهتمام بالرياضيات في منهاج المجمع العلمي عوناً كبيراً للعلوم الطبيعية، ولو لم يؤد هذا الاهتمام إلا لتدريب تلاميذ مبتكرين أمثال أودكسوس النيدي ، وهرقليدس البنتي، لكفاه فضلاً.
وعمل أرخيتاس صديق أفلاطون على ترقية رياضيات الموسيقى، وضاعف المكعب، وكتب أول رسالة معروفة في الميكانيكا. هذا إلى أنه اختير حاكماً لمدينة تاراس Taras سبع مرات، وكتب عدة بحوث في الفلسفة الفيثاغورية. ويعزو إليه الأقدمون ثلاثة اختراعات عظيمة الخطر - البكرة وطارة السير، واللولب، (والخشخيشة). وكان الاختراعان الأولان أساس الصناعة الآلية، أما ثالثهما فيقول عنه أرسطاطاليس في كثير من الجد والوقار إنه "هيأ للأطفال عملاً يشغلون به أنفسهم فمنعهم بذلك أن يحطموا ما في البيت من أدوات"(6). وفي هذا العصر نفسه "ربع" ديونستراتس Dinostratus "الدائرة" باستخدام القوس الذي يمكن به إيجاد الخطوط المستقيمة المساوية لمحيطات الدوائر أو غيرها من المنحنيات. ووضع أخوه مينكموس Menaechmus أحد تلاميذ أفلاطون، أساس هندسة القطاعات المخروطية ، وضاعف المكعب، ووضع قاعدة التكوين النظري للخمسة أجسام الصلبة المنتظمة ، وصاغ نظرية الأعداد الصماء، وأورث العالم تلك العبارة المشهورة، وهي قوله للإسكندر: "أيها الملك إن ثمة طرقاً للملوك وأخرى لعامة الشعب يسافرون عليها في أقطار الأرض؛ أما الهندسة فليس فيها إلا طريق واحد يسلكه جميع الناس .
وأعظم رجال العلم في القرن الرابع هو أودكسوس الذي أعان بركستليز على تخليد اسم نيدس في التاريخ. وقد ولد فيها حوالي عام 408، وشرع وهو في الثالثة والعشرين من عمره يدرس الطب مع فلستيون Fhilistion في لكري Locri، والهندسة مع أرخيتاس في تاراس، والفلسفة مع أفلاطون في أثينة. وكان لفقره يعيش معيشة ضنكا في بيرية، ويسير منها على قدميه إلى المجمع العلمي في كل يوم من أيام الدراسة. وبعد أن أقام زمناً ما في نيدس سافر إلى مصر وقضى فيها ستة عشر شهراً يدرس الفلك على كهنة عين شمس ثم نجده بعد ذلك في سيزقوس البربوبنثية Proportin Cyzcus يحاضر في العلوم الرياضية. ولما بلغ الأربعين من عمره انتقل هو وتلاميذه إلى أثينة وافتتح فيها مدرسة لتعليم العلوم الطبيعية والفلسفة، ونافس أفلاطون وقتاً ما. ثم عاد آخر الأمر إلى نيدس وأقام فيها مرصداً، وعهد إليه أن يضع للمدينة طائفة من القوانين(9).
وقد وضع في الهندسة عدة مبادئ أساسية، فهو الذي وضع نظرية النسبة ومعظم الفروض التي انتقلت إلينا في الكتاب الخامس من كتب إقليدس، وهو الذي اخترع طريقة إفناء الفرق التي أمكن بها إيجاد مساحة الدائرة وحجم الكرة، والهرم، والمخروط؛ ولولا هذا لكان عمل أرشميدس المبدئي مستحيلاً.ولكن العلم الذي وهب له أودكسوس معظم جهوده هو علم الفلك. ونستطيع أن نلمح روح العالم في قوله إنه يسره أن يحترق كما احترق فيتون إذا استطاع بهذا أن يكشف عن طبيعة الشمس وحجمها وشكلها(10). وكان لفظ التنجيم Astrology يستعمل في ذلك الوقت ليشمل ما نسميه الآن علم الفلك Astronomy، ولكن أودكسوس أشار على تلاميذه أن يغفلوا نظرية الكلدانيين القائلة إن مستقبل الإنسان يمكن التنبؤ به بالنظر لمواقع النجوم وقت مولده. وكان شديد الرغبة في أن يرجع جميع الحركات السماوية إلى قوانين ثابتة، ووضع في كتابه الفينومينا Fhainomena - الذي يعده الأقدمون أعظم ما كتبوه في علم الفلك - أساس التنبؤات الجوية.
وأخفقت أشهر نظرياته إخفاقاً باهراً. فقد قال إن العالم يتكون من سبعة وعشرين دائرة شفافة لا تراها العين لشفيفها تدور في اتجاهات مختلفة وبسرعات متباينة حول مركز الأرض، وإن الأجرام السماوية مثبتة حول قشرة هذه الدوائر المتحدة المركز. ويبدو هذا النظام الآن نظاماً مغرقاً في الخيال، ولكنه كان أول محاولة بُذلت لتفسير حركات الأجرام السماوية تفسيراً علمياً. وعلى أساس هذه النظرية حسب أدكسوس بدقة عظيمة (إذا ما اتخذنا "معلوماتنا" الحاضرة في مثل هذه المسائل مقياساً نحكم به على الأشياء) أوقات اقتران الكواكب وحلولها في البروج المختلفة . وكان لهذه النظرية أثر أقوى من أية نظرية أخرى في الزمن القديم لإيقاظ روح البحث العلمي.
وكتب إكفنتوس السراقوصي حوالي عام 390. ومن أقواله أن الأرض تدور حول مركزها في اتجاه شرقي(12). وأخذ هرقليدس البنتي هذا الإيحاء، أو لعله وصل إليه مستقلاً، وقال إن العالم لا يدور حول الأرض، وإن الظواهر المتصلة بهذا الفرض يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض نفسها تدور مرة في كل يوم حول محورها(13). ومن أقواله أيضاً أن الزهرة وعطارد يدوران حول الشمس، ولعل هرقليدس في لحظة من لحظات التجلي العلمي قد استبق أرسطرخوس وكوبرنيق، لأنا نقرأ في الجزازات الباقية من كتابات جمنوس Geminus (حوالى عام 70 ق.م) أن هرقليدس البنتي قال: "حتى لو افترضنا أن الأرض تدور بطريقة ما، وأن الشمس ساكنة بطريقة ما، فإن ما يبدو لنا من عدم انتظام الشمس لا يستعصي على الفهم"(14). وأكبر الظن أننا لن نستطيع فهم ما كان يقصده هرقليدس بقوله هذا بالضبط.
وكانت العلوم الطبيعية في هذه الأثناء تتقدم تقدماً بطيئاً. ففي الجغرافية قام ديقايرخوس المساني Dicaearchus of Messana كاتب السير اليوناني بقياس ارتفاع الجبال، وقدر طول محيط الأرض بما يقرب من ثلاثين ألف ميل، ولاحظ تأثير الشمس في المد والجزر. وفي عام 325 سافر نيارخوس Nearchus أحد قواد الإسكندر بحراً من مصب نهر السند محاذياً ساحل آسية الجنوبي إلى مصب الفرات؛ وكان سجل سفينته الذي احتفظ أريان Arrian ببعضه في كتابه Indica (15) من أهم الكتب الجغرافية القديمة وكان علم المساحة التطبيقية - أي قياس السطوح، والمرتفعات، والمنخفضات والمواقع، والأحجام- قد وضع له اسم خاص يميزه من الهندسة النظرية Geometry وهو الجيوديزيا(16). وكان فلستيون Fhilistion أحد أبناء بلدة لكري Lorcri الإيطالية يمارس تشريح الحيوانات في بداية ذلك القرن وقال إن القلب هو المنظم الرئيسي للحياة ومركز النيوما أي النفس. وشرح ديوقليس Diocles أحد أبناء بلدة كرستوس Carystus العوبية حوالي عام 370 أرحام إناث الحيوان، ووصف الأجنة البشرية من بداية اليوم السابع والعشرين إلى اليوم الأربعين من حياتها، وتقدمت على يديه علوم التشريح والأجنة وأمراض النساء والولادة، وأصلح إحدى الأغلاط اليونانية الشائعة بقوله إن "بذرتي" الذكر والأنثى تشتركان في تكوين الجنين(17). وكانت امرأة تدعى أسبازيا (غير أسبازيا أم الإسكندر) من أشهر الطبيبات في أثينة في القرن الرابع، وذاع صيتها بمؤلفاتها في أمراض النساء والجراحة وغيرها من فروع الطب(18). وخشي إينياس تكتكوس Aeneas Tocticus الأركادي أن يؤدي تقدم الطب إلى إنقاص نسبة الوفيات أكثر مما تحتمله موارد الغذاء، فنشر حوالي عام 360 أول كتاب شهير في فن الحرب، وجاء نشره في الوقت الذي استطاع فليب والإسكندر أن يفيدا بما ورد فيه من المعلومات.
الفصل الثاني: المدارس السقراطية
1- أرستبوس
إذا كان العلم في القرن الرابع لم يتجاوز الدرجة الوسطى من الرقي، فقد كان هذا القرن عصر الفلسفة الذهبية. لقد بسط المفكرون الأولون آراء عامة في نظام الكون، وجاء السوفسطائيين فشكوا في كل شيء عدا البلاغة، وأثار سقراط آلاف الأسئلة ولم يجب عن واحد منها. أما الآن فقد نبتت البذور التي زرعت في مائتي عام وصارت نظماً عظيمة في بحوث ما وراء الطبيعة، والأخلاق، والسياسة. وكانت أثينة وقتئذ أفقر من أن تحتفظ للدولة بمصلحة طبية، ولكنها رغم فقرها هذا أنشأت جامعات خاصة، فأضحت بذلك "مدرسة هلاس" على حد قول إسقراط، وحاضرة بلاد اليونان الذهبية، والحكم الذي لا معقب لحكمه في شئونها العلمية، ولما أن أضعف الفلاسفة الدين القديم أخذوا يكافحون لكي يجدوا في الطبيعة وفي العقل بديلاً من هذا الدين يكون دعامة الأخلاق وهادياً للناس في سبيل الحياة.
وكان أول ما عملوه أن ارتادوا السبل التي فتحها لهم سقراط. ذلك أن السوفسطائيين كانوا قد ارتكسوا فاقتصروا في الغالب على تدريس البلاغة، وزالوا بوصفهم طبقة مستقلة؛ ولهذا أصبح تلاميذ سقراط مركز عاصفة من الفلسفات الشديدة التباين. فقد أثار إقليدس الميغاري Eucleides of Megara، الذي سافر إلى أثينة ليستمع إلى سقراط "عاصفة من الجدل" في مسقط رأسه كما يقول تيمن الأثيني(19)، وارتقى بنقاش زينون وسقراط فجعله فناً من الجدل يرتاب في كل نتيجة منطقية، وأدى ذلك في القرن التالي إلى نزعة بيرون وقرنيادس التشككية. وبعد أن مات إقليدس اتجه تلميذه النابه استلبون Stilpon بالمدرسة الميغارية شيئاً فشيئاً نحو النظرة الكلبية (Cynic) التي تقول: بما أن كل فلسفة يمكن دحضها، فإن الحكمة لا تكون في بحوث ما وراء الطبيعة، بل في الحياة البسيطة التي تحرر الفرد من الاعتماد في رفاهيته على العوامل الخارجية. ولما سأل دمتريوس بليوقريطس Demetrius Poliocretes بعد نهب ميغارا عن مقدار ما خسره استلبون أجابه ذلك الحكيم بقوله إنه لم يكُ يملك شيئاً غير المعرفة، وأن أحداً لم يغتصبها منه(20). وكان من بين تلاميذه في آخر سني حياته واضع أسس الفلسفة الرواقية، ولذلك فإن من حقنا أن نقول إن المدرسة الميغارية قد بدأت بزينون واختتمت بزينون آخر.
وسافر أرستبوس الظريف بعد موت سقراط إلى مدن متفرقة، وقضى بعض الوقت في سلس Scillus مع أكسانوفون، ووقتاً أطول من هذا مع لئيس Lais في كورنثة(21)، ثم ألقى عصا الترحال في قورينة مدينته الأصلية القائمة على ساحل أفريقية. وكان ثراء الطبقات العليا في هذه المدينة النصف الشرقية قد كونا عاداته، فكان أكثر مما يتفق عليه مع مبادئ أستاذه هو قوله إن السعادة أعظم فضيلة. وكان أرستبوس وسيم الطلعة، دمث الأخلاق، بارعاً في الحديث، فشق بهذه الصفات طريقاً له في كل مكان. وتحطمت به سفينته قرب رودس واشتد عليه الفقر فيها، فذهب إلى مدرسة للتدريب الرياضي، وأخذ يخطب فيها، فافتتن به رجالها وقدموا له هو وأصحابه جميع وسائل الراحة؛ فلما فعلوا ذلك قال لهم إن الآباء يجب أن يسلحوا أبناءهم بثروة يستطيعون أن يحملوها معهم إلى البر إذا تحطمت بهم السفن(22).
وكانت فلسفته بسيطة وصريحة؛ قال: إن كل ما نفعله إنما نفعله طمعاً في اللذة أو خوفاً من الألم - حتى إذا أفقرنا أنفسنا لخير أصدقائنا، أو ضحينا بحياتنا من أجل قوادنا. وعلى هذا فالناس كلهم مجمعون على أن اللذة هي الخير الذي لا خير بعده، وأن كل ما عداها حتى الفضيلة والفلسفة يجب أن يحكم عليه حسب قدرته على توفير اللذة. وعلمنا بالأشياء غير مؤكد، وكل ما نعرفه معرفة مباشرة أكيدة هو حواسنا، فالحكمة إذاً لا تكون في السعي وراء الحقيقة المجردة بل في اللذات الحسية. وليست أعظم اللذات هي اللذات العقلية أو الأخلاقية، بل هي اللذات الجسمية أو الحسية، ولهذا فإن الرجل العاقل هو الذي يسعى وراءها أكثر من سعيه وراء أي شيء آخر، والذي لا يضحي بخير عاجل في سبيل خير آجل غير مؤكد. والحاضر وحده هو الموجود، وأكبر الظن أنه لا يقل من حيث الخير على المستقبل إن لم يفقه في ذلك. وفن الحياة هو التهاب اللذائذ وهي عابرة والاستمتاع بكل ما نستطيع أن نحصل عليه في الساعة التي نحن فيها(23). وليست فائدة الفلسفة في أنها قد تبعدنا عن اللذة، بل فائدتها في أنها تهدينا إلى أن نختار أحسن اللذات وننتفع بها. وليس صاحب السلطان على اللذات هو الزاهد المتقشف الممتنع عنها، بل هو الذي يستمتع بها دون أن يكون عبداً لها، والذي يستطيع بعقله أن يقرن بين اللذائذ التي تعرضه للخطر، والتي لا تعرضه له. ومن ثم كان الرجل الحكيم هو الذي يُظهر الاحترام المقرون بالفطنة للرأي العام وللشرائع، ولكنه يعمل بقدر ما يستطيع على "ألا يكون سيداً لإنسان ما أو عبداً له"(24).
وإذا كان يشرف الإنسان أن يعمل بما يدعو الناس إلى عمله فقد كان أنتسبوس خليقاً ببعض هذا الشرف. فقد كان في فقره وغناه على السواء سمحاً كريماً، ولم يكن يتظاهر بالميل إلى إحدى الناحيتين. وكان يصر على أن يتقاضى أجراً على ما يعمله، ولا يتردد في أن يتملق للطغاة إذا كان في هذا الملق ما يوصله إلى أغراضه. وقد ابتسم ولم يأفف حين بصق دنيسوس الأول في وجهه وقال: "إن من واجب الصياد أن يتحمل أكثر من هذا الماء ليمسك بسمكة أصغر من التي أريدها"(25). ولما أن لامه صديق له على ركوعه أمام دنيسوس أجابه: "بأنه ليس من عيبه أن تكون أذنا الملك في قدميه"، ولما سأله دنيسوس لم يلازم الفلاسفة أبواب الأغنياء، ولا يلازم الأغنياء مجالس الفلاسفة أجابه بقوله: "ذلك بأن الأولين يعرفون ما يريدون أما الآخرون فلا يعرفونه"(26). ولكنه مع ذلك كان يحتقر من يطلبون المال لذاته. من أنه لما أن أراه سيموس Simus الفريجي الثري بيتاً له جميلاً مفروشاً بالرخام، بصق أنتسبيوس في وجهه، فلما أن احتج عليه سيموس اعتذر بأنه لم يجد بين ذلك الرخام كله مكاناً أليق من وجهه بالبصق عليه(27).ولما أن جمع من المال ما يريده أنفقه بسخاء على الطعام الشهي، والكساء الجميل، والمسكن الفخم، والنساء الحسان (على ما كان يبدو له). ولما أن لامه بعضهم على أنه يعاشر حظية أجابه بقوله إنه لا يعارض في أن يعيش في بيت سكنه آخر قبله أو أن يسافر في سفينة سافر فيها غيره(28). ولما قالت له عشيقته: "أني أعاشرك معاشرة الأزواج" قال لها: "إنك لا تستطيعين أن تقولي إنني أنا الذي أعاشرك، كما لا تستطيعين أن تقوليه بعد أن تخترقي أجمة أية شوكة فيها خدشتك"(29).
وقتله الناس رغم أنه كان رجلاً شريفاً، ظريفاً، مهذباً، مثقفاً، طيب القلب، مشهوراً باسم سيموس اللطيف. وما من شك في أن من أسباب دعوته السافرة للسعي وراء اللذة أنه كان يسر من التشهير بالكبار الفاسدين من أهل المدن. وقد كشف عن خليقته بتبجيل سقراط، وحبه الفلسفة ، واعترافه بأن أجل منظر في الحياة، هو منظر الرجل الفاضل الذي يشق طريقه مطمئناً واثقاً من نفسه بين الأنذال(31).
وقال وهو على فراش الموت (356) إن أعظم تراث يتركه لابنته أريتي Arete هو أنه علمها "ألا ترى قيمة ما لشيء تستطيع أن تستغني عنه"(32) وهو استسلام منه لديوجانس عجيب. وقد خلفته ابنته في رياسة مدرسة قورينة وألفت أربعين كتاباً، وكان لها تلاميذ يمتازون وحبتها مدينتها قبرية مشرفة هي: "ضياء هلاس"(33).
2- ديجين (ديوجانس)
ووافق أستانس على نتيجة هذه الفلسفة وإن لم يوافق على مناقشاتها، واستخلص من أقوال سقراط نفسه فلسفة للحياة قائمة على التقشف. وكان مؤسس المدرسة الكلبية ابن مواطن أثيني وأمة تراقية، وحارب ببسالة في يوم تنغارا عام 426، ودرس زمناً ما مع غورغياس وبرودكوس، ثم أنشأ بعدئذ مدرسته؛ ولكنه بعد أن سمع مناقشات سقراط، ذهب ومعه تلاميذه ليتلقى فلسفة الذي يفوقه سناً. وكان مثل أودكسوس يعيش في بيرية، ويسير إلى أثينة مشياً على قدميه كل يوم تقريباً. ولعله كان حاضراً حين كان سقراط (أو أفلاطون) يناقش خطيباً ظريفاً في مشكلة اللذة:
سقراط: هل تظن أن الفيلسوف يجب أن يهتم بملذات... المأكل والمشرب؟.
سمياس: لا، من غير شك.
سقراط: وما قولك في لذات الحب- هل يجب عليه أن يهتم بها؟.
سمياس: لا، يجب ألا يهتم بحال من الأحوال.
سقراط: وهل يجوز له أن يفكر فيما عدا ذلك من طرق المتعة الجسمية-
كالحصول على الملابس الغالية، أو الأحذية وما إليها من زينة
الجسم؟ أليس الواجب عليه، بدل أن يُعنى بهذه الأشياء، أن
يحتقر كل ما تتطلبه الطبيعة؟.
سمياس: من واجبي أن أقول إن الفيلسوف الحق هو الذي يحتقرها(34).
هذا هو جوهر الفلسفة الكلبية: أن تقتصر حاجات الجسم على الضرورات المحضة حتى تكون الروح حرة قدر المستطاع. وقد استمسك أنتستانس بحرفية النظرية، وأصبح كأنه راهب فرنسيسي يوناني بلا دين. وكان شعار أرستبوس هو: "إني أملك ولكن أحداً لا يملكني"، أما شعار انتستانس فقد كان: "إني لا أملك حتى لا يمتلكني أحد". ولم يكن عنده مال (35)، وكان يرتدي ثوباً خلقاً عيره به سقراط بقوله: "إني أستطيع أن أرى غرورك يا أنتستانس من خلال ثقوب ثوبك" (36). وإذا ضربنا صفحاً عن هذا فقد كان عيبه الوحيد هو تأليف الكتب؛ وقد ترك منها ثمانية، أحدها تاريخ للفلسفة. ولما مات سقراط اضطلع أنتستانس بواجب تدريس الفلسفة لطالبيها واختار موضعاً لمحاضراته ساحة "كلب البحر للتدريب الرياضي"، وكان سبب اختيارها أنها مخصصة لأفراد الطبقات الدنيا، أو الغرباء، أو غير الشرعيين ، وغلب اسم الكلبي على المدرسة بسبب مكان وجودها لا بسبب العقيدة التي تُدرس فيها(37). وكان أنتستانس يرتدي ثياب العمال، ولا يتقاضى أجراً على قيامه بالتدريس، ويفضل أن يكون تلاميذه من الفقراء، ويطرد من مدرسته بلسانه أو عصاه كل من لا يعيش معيشة الفقراء ولا يتحمل شظف العيش.
وأبى في أول الأمر أن يقبل ديجين ضمن تلاميذه فلما أصر ديجين وصبر على الإهانة، قبلهُ، فأذاع التلميذ نظريات أستاذه في جميع أنحاء هلاس بأن اتبع تعاليمه في معيشته لا يحيد عنها قيد شعرة. لقد كان أنتستانس في أصله نصف رقيق، وكان ديجين رجلاً مصرفياً مفلساً من سينوب اضطرته شدة الحاجة إلى التسول، وسره أن يعلم أن هذا جزء من الفضيلة والحكمة، فلبس أثواب المتسولين، وحمل جرابهم، وتوكأ على عصاهم، وعاش وقتاً ما داخل قصعة في ساحة معبد سيبيل في أثينة(38). وكان يحسد الحيوان على حياته البسيطة ويحاول أن يحذو حذوه، ينام على الأرض، ويطعم مما يستطيع الحصول عليه أينما وجده؛ ويؤكدون لنا أنه كان يقضي حاجة الطبيعة ومراسم الحب على مرأى من جميع الناس(39). ولما رأى طفلاً يشرب الماء بيديه ألقى هو الآخر كوب الماء(40). وكان في بعض الأحيان يحمل شمعة أو مصباحاً ويقول إنه يبحث بهما عن رجل(41). ولم يسئ في حياته إلى إنسان، ولكنه رفض أن يعترف بالقوانين، وأعلن قبل الرواقيين بزمن طويل أنه مواطن عالمي (Kosmopolites). وكان يطوف بالبلاد على مهل، ونسمع أنه أقام بعض الوقت في سراقوصة. وقبض عليه القراصنة في بعض أسفاره وباعوه عبداً لأكسنياديس صاحب كورنثة. ولما سأله سيده عما يستطيع أن يؤديه من الأعمال قال: "إنه يستطيع أن يحكم الرجال"، فاتخذه أكسنياديس مربياً لأبنائه، ومشرفاً على شئون قصره، وأحسن ديجين القيام بكلا العملين إحساناً جعل سيده يطلق عليه لقب "العبقري الصالح"، ويعمل بمشورته في كل شيء. وظل ديجين يحيا حياته البسيطة لا يحيد عنها قط حتى أصبح بعد الإسكندر أشهر رجل في بلاد اليونان.
وكان متصنعاً بعض الشيء، وما من شك في أنه كان يحب الشهرة، وكان بارعاً في الجدل، ويقول سميه إنه لم يُغلب قط في مناقشة(42). وكان يصف حرية الكلام بأنها أعظم الطيبات، وقد أفاد منها كثيراً هي والمزاح الخشن، والفكاهة التي لم تكن تُعجزه قط. وعنف ذات يوم امرأة تركع وتسجد أمام صورة مقدسة بأن سألها: "ألا تخافين أن تكوني في هذا الوضع وقد يكون في ورائك إله من الآلهة، لأن الآلهة يملأون كل مكان"(43)؟ ؛ ولما رأى ابن حظية يرمي جماعة من الناس بحجر قال: "احذر أن تصيب أباك"(44). وكان يكره النساء، ويحتقر من الرجال من يسلكون مسلك النساء، من ذلك أن شاباً كورنثياً جاءه متعطراً متأنقاً في ثيابه الغالية يسأله سؤالاً فأجابه بقوله: "لن أجيبك عن سؤالك حتى تخبرني: أولد أنت أم بنت"(45)؟.
والعالم كله يعرف قصته مع الإسكندر حين التقى بالفيلسوف في كورنثة نائماً في الشمس وقال له: "أنا الإسكندر الأكبر"، وأجابه الفيلسوف بقوله: "وأنا ديجين الكلب". وقال لهُ الملك: "اسألني أي شيء تريد"، فأجابه: "ابتعد حتى لا تحجب عني الشمس". وقال الجندي الشاب: "لو لم أكن أنا الإسكندر لتمنيت أن أكون ديجين"(46) ، ولسنا نعرف أن ديجين قد رد على هذه التحية. ويراد منا أن نعتقد أن الرجلين توفيا في يوم واحد من أيام عام 323 الإسكندر في بابل وهو في سن الثالثة والثلاثين، وديجين في كورنثة بعد أن جاوز التسعين(47). وقد وضع الكورنثيون فوق قبره كلباً من الرخام؛ وأقامت له سينوب التي نفته نصباً تذكارياً تخليداً لذكراه. وليس ثمَ شيء أوضح من الفلسفة الكلبية؛ فهي لم تعمد إلى المنطق إلا ريثما تدحض نظرية المعرفة التي كان أفلاطون يحير بها عقول العلماء في أثينة. كذلك كانت الميتافيزيقا في نظر الكلبيين عبثاً عقيماً؛ وكانوا يقولون إن من واجبنا ألا ندرس الطبيعة لنفسر العالم بهذه الدراسة، وهو أمر مستحيل، بل لنعلم حكمة الطبيعة ونسترشد بها في الحياة، والفلسفة الوحيدة الحقة هي فلسفة الأخلاق، والغرض من الحياة هو السعادة، ولكن هذه السعادة لا تكون في طلب اللذة، بل في الحياة الفطرية البسيطة المستقلة قدر المستطاع عن المساعدات الخارجية؛ ذلك أن اللذة، وإن كانت عملاً مشروعاً إذا أتت نتيجة كدح الإنسان وجهوده الخاصة، ولم يعقبها شيء من الندم ووخز الضمير(48)، كثيراً ما تفلت منا أثناء السعي إليها، أو تخيب رجاءنا فيها بعد أن ننالها؛ ومن أجل هذا فإن الأخلق بنا أن نعدها شراً لا خيراً. والسبيل الوحيد إلى السعادة الباقية هي أن يحيا الإنسان حياة معتدلة فاضلة. والثروة تفسد الطمأنينة والسلام، والشهوة الحاسدة تأكل النفس كما يأكل الصدأ الحديد، والاسترقاق عمل ظالم ولكنه ليس عملاً خطيراً؛ والرجل الحكيم يسهل عليه أن يجد السعادة في الرق كما يجدها في الحرية، لأن حرية النفس هي الحرية الحقة. ويقول ديجين إن الآلهة قد وهبت الإنسان الحياة السهلة المريحة، ولكن الإنسان هو الذي عقّدها بالتلهف على الترف. وليس معنى هذا أن الكلبيين كانوا شديدي الإيمان بالآلهة، وشاهد ذلك أن قسيساً أخذ يعدد لأنتستانس ما يتمتع به المستمسكون بأسباب الفضيلة من خير كثير بعد وفاتهم، فسأله الفيلسوف: "ولـم إذن لا تموت؟"(49)، وكان ديجين يسخر من الطقوس الدينية الخفية، ويقول عن القرابين التي قربها في سمثريس من نجوا من الموت بعد أن حُطمت سفينتهم: "لو أن هذه القرابين قد قربها الذين هلكوا لا الذين نجوا لكانت أكثر من هذا عدداً"(50)، وكان كل شيء في الدين عدا الاستمساك بالفضيلة يبدو للكلبيين أوهاماً وخرافات، وهم يرون أن جزاء الفضيلة يجب أن يكون هو الفضيلة نفسها، وأن من الواجب ألا يكون هذا الجزاء موقوفاً على عدالة الآلهة. وقوام الفضيلة هو الأكل والتملك، والحد من الرغبات قدر المستطاع، والاقتصار على شرب الماء، وعدم الإساءة لأي إنسان. وسُئل ديجين: وكيف يستطيع الإنسان أن يدفع عنه أذى عدوه؟ فأجاب بقوله: "بأن يثبت أنه شريف مستقيم"(51). والشهوة الجنسية دون غيرها هي التي كانت تبدو للكلبيين غريزة معقولة، وكانوا يتجنبون الزواج بوصفه رابطة خارجية ولكنهم كانوا يحمون البغايا. وكان ديجين يدعو إلى الحب الجر الطليق، وإلى شيوعية الزوجات(52)؛ وكان أنتستانس يطلب الاستقلال في كل شيء، ومن أجل ذلك كان يشكو من أنه لا يستطيع أن يشبع جوعه بمفرده كما يستطيع أن يشبع شهوته الجنسية على هذا النحو(53). وإذ كان الكلبيون قد قرروا أن الشهوة الجنسية شهوة سوية طبيعية كالجوع، فقد أعلنوا أنهم لا يفقهون لـم يخجل الناس من إشباع إحدى الرغبتين جهرة أمام الناس كما يشيعون الأخرى(54). ومن رأيهم أن الإنسان يجب أن يكون مستقلاً في كل شيء حتى في الموت نفسه، فيختار لنفسه مكان موته وزمانه؛ وعندهم أن الانتحار عمل مشروع، ويقول بعضهم إن ديجين قتل نفسه بأن أمسك عن التنفس(55).
وكانت الفلسفة الكلبية جزءاً من الحركة التي تهدف إلى "الرجوع إلى الطبيعة"، وهي الحركة التي قامت في أثينة في القرن الخامس رداً على ما أحدثته الحضارة المعقدة من ملل في النفوس وعدم توازن في شئون الحياة. ذلك أن الناس ليسوا متحضرين بالفطرة، وهم لا يتحملون قيود الحياة المنظمة، إلا لأنهم يخشون مغبة العقاب والوحدة. وكانت الصلة بين ديجين وسقراط شبيهة بعض الشبه بالصلة التي بين روسو وفلتير: فقد كان يرى أن الحضارة لا خير فيها، وأن بوميثيوس قد استحق أن يصلب لأنه جاء بها إلى بني الإنسان(56). وكان الكلبيون، كما كان الرواقيون، وكما كان روسو في العصر الحديث، يجعلون مثلهم الأعلى هو "الشعوب الطبيعية"(57)؛ وقد حاول ديجين أن يأكل اللحم النيئ لأن طهو الطعام عمل غير طبيعي(58)، ويظن أن أحسن المجتمعات هو المجتمع الخالي من أسباب الخداع ومن القوانين.
وكان اليونان يسخرون من الكلبيين، ويصبرون عليهم صبر المجتمع في العصور الوسطى على القديسين. وقد أصبحوا بعد ديجين هيئة دينية من غير دين، اتخذوا الفقر قاعدة وأساساً لعقيدتهم، وكانوا يعيشون من الصدقات، وينفسون عن عزوبتهم بالشيوعية الجنسية، وافتتحوا مدارس لتعليم الفلسفة. ولم تكن لهم بيوت، بل كانوا يعملون وينامون في الطرقات أو مداخل المعابد. وانتقلت العقائد الكلبية على أيدي استلبو Stllpo وأقراطيس Crates تلميذي ديجين إلى العصر الهلنستي، وكانت فيه أساس الرواقية، واختفت المدرسة بوصفها ذات كيان مستقل حوالي القرن الثالث، ولكنها ظلت ذات أثر قوي في التقاليد اليونانية، ولعلها عادت إلى الوجود في شخص الإسينيين في بلاد اليهود، والرهبان في مصر، في أوائل عهد المسيحية. وليس في مقدور العلماء أن يقرروا حتى الآن مقدار ما تأثرت به هذه الحركات كلها بأمثالها من حركات الطوائف المختلفة في الهند، أو ما كان للثانية من أثر في الأولى. وإن الذين يدعون للرجوع إلى الطبيعة في أيامنا هذه، لهم الأبناء الذهنيون لأولئك الرجال والنساء الذين عاشوا في بلاد الشرق أو اليونان في الأيام الخالية، والذين ملوا القيود الضيقة غير الطبيعية، وظنوا أن في وسعهم أن يعودوا إلى الحيوانات ويعيشوا بينها؛ واعتقادنا أنه ليس ثمة حياة كاملة خالية من هذه اللوثة الحضرية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالِث: أفلاطون
1- المعلم
لقد تأثر أفلاطون نفسه بالمبادئ الكلبية. وشاهد ذلك أنه يصف في المقالة الثانية من الجمهورية(59) مدينة فاضلة تعيش عيشة فطرية شيوعية؛ ونستشف من هذا الوصف عطفه على هذه المدينة وحبه إياها. نعم إنه يكتفي بقبولها ولا يدعو إليها، ويصور دولة "في الدرجة الثانية بعدها"، ولكنه حين يعمد إلى تصوير ملوكه - الفلاسفة نستشف في هذه الصورة الحلم الكلبي، فنجد رجالاً لا أملاك لهم ولا زوجات، يستمسكون بالحياة البسيطة والفلسفة الراقية، قد استحوذوا على حصن أجمل خيال في تاريخ اليونان. وكانت الخطة التي رسمها أفلاطون لإيجاد أرستقراطية شيوعية محاولة باهرة من رجل محافظ ثري للتوفيق بين احتقاره للديمقراطية وبين مثالية زمانه المتطرفة.
وكان ينتمي إلى أسرة يرجع أصلها من ناحية أمه إلى صولون ومن ناحية أبيه إلى ملوك أثينة الأولين، بل لقد ذهب بعضهم إلى أنها ترجع من هذه الناحية إلى بسيدن إله البحر(60). وكانت أمه أخت خرميدس Charmides وابنه أخ أقريتياس، ومن أجل هذا يكاد كره الديمقراطية أن يكون متأصلاً في دمه. وقد سمى أرستقليس Aristocles- أي الأحسن الشهير- وبرع الشاب في جميع نواحي الحياة تقريباً، فنبغ في الموسيقى، والرياضيات، والبلاغة والشعر. وافتتنت النساء، والرجال بلا ريب، بجمال طلعته؛ وصارع في الألعاب البرزخية، ولقبوه من قبيل السخرية فلاطون Platon أي العريض لامتلاء جسمه وقوة بنيته؛ وحارب في ثلاثة معارك، ونال جائزة في الشجاعة(61). وكتب فكاهات شعرية، وغزلاً، ومأساة رباعية ؛ وبينما كان يتردد بين الشعر والسياسة لا يعرف أيهما يختار طريقاً له في الحياة، إذ افتتن وهو في سن العشرين بسقراط؛ وما من شك في أنه كان يعرف من قبل، لأن الفيلسوف الكبير كان صديقاً لخاله خرميدس؛ ولكنه لما بلغ هذه السن كان يستطيع أن يفهم تعاليم سقراط ويستمتع بمنظر الرجل الشيخ وهو يقذف بأفكاره في الهواء كالبهلوان، مرتكزاً على أسنة أسئلته. فما كان منه إلا أن أحرق قصائده، ونسي يوربديز والألعاب الرياضية، والنساء، وتبع المعلم الشيخ كأنه سحره أو نومه تنويماً مغناطيسياً. ولعله كان يكتب مذكرات في كل يوم، لأنه كان يشعر كما يشعر الفنان المرهف الحس بما لهذا الشيخ البطين المشوه المحبوب من شأن عظيم في مستقبل الأيام.
ولما بلغ أفلاطون الثالثة والعشرين من عمره شبت ثورة المحافظين في عام 404 بقيادة جماعة من أقربائه، وشهد أيام الإرهاب الألجركي العصيبة، وشجاعة سقراط في تحدي الثلاثين، وموت أقريتياس وخرميدس، وعودة الديمقراطية، ومحاكمة سقراط وموته. وبدا العالم كله يتصدع ويتهدم حول هذا الشاب الذي كان من قبل لا يتطرق الهم إلى قلبه، ففر من أثينة التي بدت في نظره كأنها مأوى الشياطين، ووجد بعض الراحة في ميغارا في بيت إقليدس، ثم في قورينا ولعله كان فيها مع أرستبوس. ويظهر أنه سافر منها إلى مصر حيث درس على الكهنة العلوم الرياضية والمعارف التاريخية الشعبية(62). ونراه مرة أخرى في أثينة حوالي عام 395، وبعد عام من ذلك الوقت حارب دفاعاً عن كورنثة. وبدأ أسفاره مرة أخرى حوالي عام 387، ودرس فلسفة فيثاغورس مع أرخيتاس في تاراس ومع تيماس في لكري، ثم انتقل إلى صقلية ليشاهد بركان إتنا، وارتبط برباط الصداقة مع ديون طاغية سراقوصة، وقُدّم لدنيسوس الأول، وبِيعَ بَيْعَ الرقيق، ثم عاد سالماً إلى أثينة في عام 386. ولما رفض أنسريس Anniceris الثلاثة آلاف درخمة التي جمعها أصدقائه ليفتدوه بها، ابتاع له هؤلاء الأصدقاء بهذا المال أيكة للتنزه في ضاحية من ضواحي المدينة وأطلقوا عليها اسماً مشتقاً من إلهها المحلي أكديموس Academus(62أ)، وفيها أنشأ أفلاطون الجامعة التي قُدِر لها أن تكون فيما بعد مركز بلاد اليونان العقلي تسعمائة عام كاملة .
وكان المجمع العلمي (الأكاديمية) من الناحية الفنية إخوة دينية (ثاسيوس Thasios) مخصصاً لعبادة ربات الشعر والفن، ولم يكن الطلاب يؤدون فيه أجوراً عن التعليم، ولكنهم كانوا في الغالب من أبناء الأسر الغنية، ولذلك كان يُنتظر من آبائهم أن يهبوا المعهد هبات قيمة. وفي ذلك يقول سويداس إن الأغنياء " كانوا يوصون قبل وفاتهم لأعضاء المدرسة بما يكفل لهم أن يحيوا حياة الفلاسفة غير مضطرين إلى العمل لكسب أقواتهم"(63). ويقال إن دنيسوس الثاني وهب المعهد ثمانين وزنة (000ر480 ريال أمريكي)(64) - وفي هذا ما قد يفسر صبر الفيلسوف على هذا الملك. وكان الشعراء الفكهون في ذلك الوقت يهجون الطلاب بقولهم إنهم أشخاص متصنعون في أخلاقهم متطرفون في ملابسهم - ذوو قلانس رشيقة وعصي، وستر قصيرة أو أردية جامعية(65). ألا ما أقدم تقاليد إيتن والأثواب الجامعية السوداء! وكانت النساء يُقبلن في المجمع مع الرجال، لأن أفلاطون بقي من هذه الناحية متطرفاً في أفكاره تطرفاً جعله من أقوى أنصار المرأة، وكانت أهم موضوعات الدرس هي العلوم الرياضية والفلسفة، وقد كُتِب على مدخل المجمع هذا التحذير: "لن يدخل هذا المكان إنسان بلا هندسة"؛ ولعل قدراً كبيراً من الحساب كان من شروط القبول في المجمع. وكان معظم ما حدث من التقدم في العلوم الرياضية في القرن الرابع على أيدي رجال ممن درسوا فيه. وكان منهاج الرياضة يشمل الحساب (نظرية العدد) والهندسة الراقية، والفلك، "والموسيقى" (ولعل هذه كانت تتضمن الأدب والتاريخ)، والقانون، والفلسفة(66)؛ وكانت الفلسفة الأخلاقية والسياسية آخر الدراسات في هذا المنهاج، هذا إذا كان أفلاطون قد أخذ بالنصيحة التي ينطق بها سقراط في معرض الدفاع إلى حد ما عن أنيتوس وملاتوس:
سقراط: إنك تعرف أن ثمة مبادئ معينة في العدالة والخير تعلمناها في طفولتنا، ونشأنا تحت رعايتها الأبوية، نطيعها ونعظمها.
أجلوكون: هذا صحيح.
سقراط: وثمة أيضاً مبادئ مناقضة لها وعادات من أنواع السرور تتملق أرواحنا وتجذبها إليها، ولكنها لا أثر لها فيمن لديهم أي إحساس بالحق، ومن لا ينقطعون عن إجلال تعاليم آبائهم وطاعتها.
أجلوكون: حق.
سقراط: فإذا كان الإنسان في هذه الحال وسألته روحه السائلة ما هو الشيء الجميل الشريف؟ وأجاب بأن ذلك هو الذي يأمر به القانون، نقضت الحجج أقوال المشترع، فاضطر إلى الاعتراف بأن لا شيء فيه من الجمال أكثر مما فيه من القبح، أو فيه من العدالة والطيبة أكثر مما فيه من نقيضيهما، وإلى الاعتراف بأن هذا بعينه ينطبق على جميع آرائه التي خلع عليها الزمن جلالاً وتعظيماً، إذا حدث هذا فهل تظن أنه سيظل يعظم هذه التعاليم ويطيعها؟.
أجلوكون: هذا مستحيل.
سقراط: وإذا لم يعد يظنها كما كان يظنها من قبل شريفة وطبيعية، ثم عجز عن معرفة الحق، فهل يُنتظر منه أن يحيا حياة غير الحياة التي تتملق شهواته؟
أجلوكون: ذلك ما لا يُنتظر منه.
سقراط: وهل ينقلب بعدئذ من إنسان طائع للقوانين إلى إنسان خارج عليها؟.
أجلوكون: بلا ريب.
سقراط: وإذن فلا بد من الحذر الشديد في إدخال مواطنينا الذين لا يتجاوزون سن الثالثة والثلاثين في الجدل... إذ يجب ألا يسمح لهم بتذوق هذه اللذة العزيزة قبل الأوان؛ هذا شيء ينبغي تجنبه بنوع خاص، لأن الشبان، كما رأيت، إذا تذوقوا الجدل بدءوا من فورهم يجادلون حباً في الجدل، ولا ينفكون يعارضون غيرهم ويدحضون حججهم تقليداً منهم لمـن ينقضون حججهم هم؛ فهم في هذا أشبه بصغار الكلاب التي يسرها أن تشد أثواب كل من يقترب منها وتمزقها.
أجلوكون: نعم إن هذا هو الذي يسرها.
سقراط: وإذا ما غلبوا الكثيرين من الناس وغلبهم الكثيرون اندفعوا بسرعة وعنف إلى حال لا يؤمنون معها بأي شيء كانوا يؤمنون به من قبل، ومن... ثم تسوء سمعة الفلسفة عند سائر الناس.
أجلوكون: هذا هو عين الحق.
سقراط: ولكن الرجل إذا بدأ يكبر، فإنه لا يرتكب هذا الضرب من الأعمال الجنونية؛ بل يحذو حذو الرجل المنطقي الذي يبحث عن الحقيقة، لا حذو الخصيم الذي يعارض لما يجده في المعارضة من لذة؛ وإن إجلال الناس لخلقه سيزيد من شرف هذا السعي بدل أنه ينقص منه(67).
وكان أفلاطون وأعوانه يعلمون الناس بالمحاضرات والحوار، وبعرض المسائل على الطلاب لحلها؛ وكان من هذه المسائل إيجاد: "الحركات المنتظمة المتساوية التي يمكن بالاستناد إليها تعليل حركة الكواكب"(68) ؛ ولعل أودكسوس وهرقليدس قد وجدا في هذه البحوث ما يحفزهما إلى العمل. وكانت المحاضرات علمية، وكانت في بعض الأحيان مخيبة لآمال مَن جاءوها طلباً للكسب المادي، ولكن تلاميذ أرسطو ودمستين وليقورغ، وهيبريدس، وأكسانوقراطيس تأثروا بها أعمق التأثر ونشروا في كثير من الأحيان ما كتبوه عنها من مذكرات. وقال أنتفانس متفكهاً إن الكلمات التي كان ينطق بها أفلاطون أمام طلابه في شبابهم لم يفهموها إلا في شيخوختهم؛ كما كانت الألفاظ في إحدى المدن القائمة في أقصى الشمال تتجمد حين تخرج من أفواه المتكلمين ثم تُسمع في الصيف حينما تسيح(69).
2- الفنان
يقر أفلاطون نفسه أنه لم يكتب في حياته رسالة علمية(70)، ويشير أرسطوطاليس إلى ما كان يلقى من العلوم في المجمع العلمي بقوله "تعاليم" أفلاطون "غير المكتوبة"(71). ولسنا نعرف مدى اختلاف هذه التعاليم عما ورد في المحاورات ، وأكبر الظن أن هذه المحاورات كانت في بادئ الأمر وسيلة للترويح عن النفس، وأنها كانت تُلقى بطريقة فكهة إلى حد ما(72). ومن سخريات التاريخ أن المؤلفات الفلسفية التي تدرس في الجامعات الأوربية والأمريكية والتي تَلقى فيها أعظم التقدير والإجلال في هذه الأيام قد ألفت لتقرب الفلسفة من أذهان غير العلماء بربطها بإحدى الشخصيات المعروفة. ولم تكن محاورات أفلاطون أول ما كُتب من الحوار الفلسفي، فقد اتبع زينون الإليائي وكثيرون غيره هذه الطريقة ذاتها(73)، ونشر تيمن الأثيني قاطع الجلود بطريقة الحوار أحاديث سقراط التي كانت تدور في حانته (74). وكانت المحاورات كما أوردها أفلاطون قطعة أدبية لا تاريخية؛ وهو لا يدعي أنه ينقل لنا نصاً دقيقاً للأحاديث التي كانت تجري قبل أن يكتبها بثلاثين عاماً أو خمسين، بل ولا يدعي أنه يحرص على أن يكون ما فيها من إشارات منسقاً غير متناقض بعضه مع بعض. وذهل غورغياس كما ذهل سقراط حين سمعا الألفاظ التي أنطقهما بها الفيلسوف المسرحي(75). وقد كتبت المحاورات مستقلة كل منها عن الأخرى، ولعلها كتبت في فترات متباعدة تباعداً طويلاً، وليس من حقنا أكثر من هذا أن نرتاع لما فيها من آراء متناقضة. وليس ثمة خطة موضوعة للتأليف بينها كلها وجعلها وحدة منسقة، اللهم إلا البحث المتواصل الذي يقوم به عقل ينمو ويتطور تطوراً واضحاً ملموساً عن الحقيقة التي لا يستطيع الحصول عليها أبداً .
والمحاورات مركبة بمهارة وإن كانت لا ترقى إلى الدرجة الوسطى. وهي تصور الأفكار تصويراً مسرحياً، وترسم صورة منسقة لسقراط تدل على حب أفلاطون الشديد له؛ ولكنها قلما تدل على وحدة الأفكار أو تسلسلها، وكثيراً ما تنتقل من موضوع إلى موضوع وتسئم القارئ في كثير من أجزائها لأنه يورد الحديث بمعناه لا بلفظه - فيجعل رجلاً واحداً ينقل سائر أحاديث غيره من الناس. ويقول سقراط إن ذاكرته "غاية في الضعف"(77). ولكنه مع ذلك يتلو على صديق له عن ظاهر قلب أربعاً وأربعين صفحة من نقاش جرى في أيام شبابه بينه وبين بروتاغوراس. ومما يضعف معظم المحاورات أنها يعوزها المتكلمون الأقوياء القادرون على أن يردوا على سقراط "بغير نعم" أو ما في معناها. ولكن هذه العيوب تختفي في تألق اللغة ووضوحها، وما في الموقف، والتعبير، والفكرة من فكاهة؛ والعالم الحي وما فيه من مختلف الشخصيات البشرية الحقيقية، وما تفتحه هذه المحاورات من نوافذ توصل إلى العقل العميق النبيل. وفي وسعنا أن نحكم على ما كان لهذه المحاورات من قيمة عظيمة عند الأقدمين، إذا ذكرنا أنها أكمل نتاج عقلي وصل إلينا من أي مؤلف يوناني؛ وإن شكلها ليضعها في تاريخ الأدب في منزلة لا تقل سمواً عن المنزلة التي يضعها فيها موضوعها في تاريخ الفكر.
وأقدم المحاورات من خير الأمثلة في جدل الشباب الخصيم الذي يندد به في الفقرة التي أوردناها من قبل، ولكن الصورة الساحرة التي تصور بها هذه المحاورات الشباب الأثيني تذهب بما فيها من عيوب من هذه الناحية. ومعرض الآراء هو خير ما كتب من نوعه في أدب العالم كله، وهو خير مقدمة لكتب أفلاطون؛ وإن ما فيه من تصوير مسرحي للمناظر (ونورد على سبيل المثال قول أجاثون Agathon لخدمه: "تصوروا أنكم أرباب المنزل وأنني أنا وأصحابي ضيوفكم"(78))، والصورة الحية التي رسمها لأرسطوفان "وقد تملكه الفواق من كثرة الأكل"، وقصته المرحة عن ألقبيادس الثمل الذي افتضح أمره بين الناس، وأهم من هذا كله براعته في التأليف بين الواقعية القاسية في صورة سقراط وبين فكرته السامية عن الحب، نقول إن هذه الصفات تجعل معرض الآراء آية أدبية رائعة في فن النثر. أما الفيدون فأقل من معرض الآراء قوة وأكثر منه جمالاً. فالنقاش الرئيسي فيه، مهما يبلغ من الضعف، نقاش أمين لا التواء فيه ولا مغالطة، يبيح لصاحب الرأي المخالف فرصة مكافئة لفرصة مناظره؛ ويتدفق تدفقاً أكثر سلاسة وسط مناظر يتغلب هدوؤها على ما فيها من مآسٍ، حتى أن موت سقراط نفسه ليشبه اختفاء النهر عن العين حين يلتف عند أحد المنحنيات. ويدور بعض ما يشتمل عليه فيدروس من حوار على شواطئ نهر إليسوس Illissus حين يبرّد سقراط وتلميذه أقدامهما في ماء النهر. ولا حاجة إلى القول بأن أعظم المحاورات كلها على الإطلاق هي الجمهورية لأنها أكمل عرض لفلسفة أفلاطون، وهي في أولى أجزائها صراع مسرحي بين الأشخاص والآراء. والبارمنيدس أسوأ مثل للتلاعب المنطقي في الأدب كله، كما أنه أجرأ مثل في تاريخ الفلسفة للمفكر الذي يفند أحب العقائد إلى نفسه - نعني نظرية الأفكار - تفنيداً لا يقوى أحد على الرد عليه ودحض حججه. وفي المحاورات الأخيرة تضعف قدرة أفلاطون الفنية، فتضمحل شخصية سقراط، وتفقد الميتافيزقيا شعريتها، وتفقد السياسة "مُثُل الشباب العليا" حتى إذا ما وصلنا إلى القوانين، استسلم الرجل المتعب المنهوك القوى الذي ورث جميع ثقافة أثينة على اختلاف مناحيها إلى إغراء إسبارطة، وطلّق الحرية، والشعر والفن والفلسفة نفسها.
3- الميتافيزيقي
لم يتبع أفلاطون فيما خلفه من أفكار خطة منظمة، وإذا لخصنا نحن آراءه ووضعنا لها رؤوس موضوعات مختلفة كالمنطق، وما وراء الطبيعة، والأخلاق، وعلم الجمال، والسياسة، ليسهل علينا أن نتحدث عنها حديثاً منظماً، فإن من الواجب أن نذكر أن أفلاطون نفسه كان شاعراً مغرقاً في شاعريته إلى حد يمنعه أن يقيد أفكاره ويحدها بحدود. وإذ كان أفلاطون شاعراً فقد كان المنطق أكثر ما يعترض سبيله من الصعاب، فهو يجول هنا وهناك يبحث عن التعاريف ويضل السبيل في التشبيهات التي تعرضه لأشد الأخطار؛ "ثم دخلنا في تيه، ولما حسبنا أننا قد وصلنا إلى آخره، رأينا أنفسنا مرة أخرى في بدايته، وكان علينا أن نعود إلى البحث عن مخرج"(79) ، ويختم حديثه هذا بقوله: "ولست واثقاً قط من أنه يوجد من بين العلوم علم كالمنطق"(80). ولكنه مع هذا يخطو فيه الخطوة الأولى. فهو يفحص عن طبيعة اللغة ويقول إنها مشتقة من محاكاة الأصوات(81)؛ ويبحث في التحليل والتركيب، والتشبيهات والمغالطات، ويقبل الاستقراء، ولكنه يفضل الاستدلال(82)؛ ويضع في هذه المحاورات الشعبية نفسها مصطلحات فنية، كالجوهر، والطاقة، والفعل والانفعال، والتوليد، وهي المصطلحات التي استخدمتها الفلسفة فيما بعد. وهو يضع أسماء لخمس من المقولات العشر التي أذاعت شهرة أرسطوطاليس. وهو يرفض قول السوفسطائيين إن الحواس خير وسيلة لمعرفة الحقيقة وإن الفرد هو مقياس الأشياء جميعها؛ ويقول إنه لو صح هذا لكان ما يقوله أي إنسان عن العالم مساوياً في قيمته لما يقوله أي نائم، وأي مخبول، أو أي قرد(83).
ولسنا نستمد من فوضى الحواس إلا فيضاً من التغيرات الهرقليطية؛ ولو لم تكن لنا إلا إحساسات، لما كانت لدينا قط معلومات أو حقائق؛ ذلك أن المعلومات لا تأتي إلا عن طريق الأفكار، وعن طريق الصور المعممة، والأشكال التي تصوغ فوضى الإحساسات وتكون منها التفكير المنظم(84). ولو كنا لا ندك إلا الأشياء المفردة لكان التفكير مستحيلاً، ذلك أننا نتعلم التفكير بجمع الأشياء وتصنيفها حسب ما بينها من أوجه الشبه، ثم نعبر عن الصنف بأجمعه باسم عام له، فلفظ رجل يمكننا من أن نفكر في جميع الرجال، ولفظ منضدة يمكننا من التفكير في جميع المناضد ولفظ ضوء في جميع الأضواء التي سطعت في البر أو البحر. وليست هذه الآراء (Ideai, Eida) أشياء تدركها الحواس، ولكنها حقائق تعرف بالتفكير، لأنها تبقى، ولا تتغير، ولو انعدمت جميع الموجودات الحسية المقابلة لها. فالرجال يولدون ويموتون، ولكن "الرجل" يبقى. وليس كل مثلث بمفرده إلا مثلثاً ناقصاً، يفنى عاجلاً أو آجلاً، ومن أجل هذا فهو غير حقيقي نسبياً، ولكن "مثلث"- أي الشكل والقانون اللذين ينطبقان على جميع المثلثات- كامل سرمدي(85). وكل الأشكال الرياضية أفكار سرمدية وكاملة ، وكل ما تقوله الهندسة عن المثلثات، والدوائر، والمربعات، والمكعبات، والكرات، يبقى صحيحاً، ومن ثم فهو "حقيقي" ولو لم توجد هذه الأشكال في العالم المادي في الماضي أو في المستقبل. والمعاني المجردة هي الأخرى حقيقية بهذا المعنى؛ فالأعمال الفردية الفاضلة قصيرة الأجل ولكن الفضيلة تبقى حقيقية خالدة في التفكير وأداة للتفكير؛ وهذا أيضاً شأن الجمال، والكبر، والمشابهة وما إليها(87). فالأعمال والأشياء الفردية أشياء وأعمال بالصورة التي نعرفها بها، لأنها تشترك في هذه الأشكال الكاملة أو الأفكار، وتحقق وجودها بدرجة قليلة أو كثيرة. وعالم العلم والفلسفة لا يتكون من أشياء مفردة، بل يتكون من أفكار (88)؛ والتاريخ المتميز عن السِّيَر هو قصة الإنسان، وليس علم الأحياء هو علم كائنات عضوية معينة بل هو علم الحياة نفسها، وليست العلوم الرياضية هي دراسة الأشياء المجسمة بل هي دراسة العدد، والعلاقة، والشكل، مستقلة عن الأشياء نفسها، ولكنها تصدق على جميع الأشياء. والفلسفة هي علم الأفكار.
وكل شيء في ميتافيزيقية أفلاطون يدور حول نظرية الأفكار. فالله المحرك الأول الذي لا يتحرك، أو روح العالم(91)، يحرك كل شيء وينظمه حسب القوانين والأشكال الأزلية، وهي الأفكار التي لا تتبدل والتي تكون، على حد قول أصحاب الأفلاطونية الحديثة، الكلمة أو الحكمة الإلهية أو عقل الله. وأرقى الأفكار هو الخير، ويرى أفلاطون في بعض الأحيان أن هذا الخير هو الله نفسه(92)، ولكنه في أكثر الأحيان هو أداة الخلق الهادية المرشدة، والشكل الأعلى الذي تنجذب إليه كل الأشياء. وإدراك هذا الخير، ورؤية هذا المثل الأعلى الذي يشكل عملية الخلق، هو أسمى غاية تبتغيها المعرفة(93). وليست الحركة وعملية الخلق عمليتين آليتين، بل هما تحتاجان في العالم، كما نحتاج نحن، إلى روح أو مبدأ حيوي يكون هو قوتهما المنشئة المبدعة(94).
وليس شيء حقيقياً إلا الذي فيه قوة(95)، ومن أجل هذا فإن المادة ليست حقيقة أساسية (to me on) بل هي مجرد مبدأ من القصور الذاتي، وإمكانياته تنتظر أن يعطيها الله أو الروح شكلاً خاصاً وكياناً حسب فكرة من الأفكار. والروح هي القوة المتحركة بنفسها الموجودة في الإنسان، وهي جزء من الروح المتحركة بنفسها الموجودة في الأشياء جميعها(96). وهي قوة حيوية خالصة، مجردة من الجسم، وخالدة. وقد وجدت قبل الجسم، وجاءت معها من حلولها في أجسام سابقة بذكريات كثيرة إذ أيقظتها الحياة الجديدة حسبناها خطأ معلومات جديدة. ولنضرب لذلك مثلاً الحقائق الرياضية فهي بأجمعها حقائق فطرية بهذه الطريقة، وكل ما يفعله التعليم هو أنه يوقظ ذكريات الأشياء التي عرفتها الروح في حيواتها الكثيرة الماضية(97). وإذا مات الإنسان انتقل روحه أو مبدأ الحياة الذي فيه إلى كائنات عضوية أخرى أرقى منه أو أحط حسب ما استحقته في تجسداتها السابقة. وربما ذهبت الروح المذنبة إلى المطهر أو الجحيم، وذهبت الروح الفاضلة إلى جزائر المباركين(98). فإذا ما تطهرت الروح في خلال الحيوات المختلفة من جميع آثامها، تحررت من التجسد وصعدت إلى الفردوس تتمتع فيه بالسعادة السرمدية .
4- العالم الأخلاقي
لقد كان أفلاطون يعرف أن كثيرين من قرائه سيكونون من المتشككين، ودليلنا على هذا أنه قضى بعض الوقت يحاول وضع قانون أخلاقي طبيعي يبعث في نفوس الناس الرغبة في الاستقامة والصلاح من غير أن يعتمدوا على السماوات والمطهر والجحيم(101)؛ وإن المحاورات التي كتبها في حياته الوسطى لتتحول شيئاً فشيئاً من الميتافيزيقا إلى الأخلاق والسياسة "إن أعظم أنواع الحكمة وأجملها هي الحكمة المتصلة بتنظيم الدول والأسر"(102).
والمشكلة الرئيسية في علم الأخلاق تدور حول النزاع الظاهر بين ملاذ الفرد وبين الخير الاجتماعي. ويعرض أفلاطون هذه المشكلة عرضاً واضحاً ويورد على لسان كلياس Callias من الحجج التي تبرر الأنانية ما لا يقل عن أقوى الحجج التي أوردها أي داعية لمخالفة القواعد الخلقية في عصر من العصور(103). وهو يعترف بأن كثيراً من اللذائذ لا عيب فيه ولا إثم، وأن الإنسان في حاجة إلى الذكاء للتمييز بين اللذات الطيبة واللذات الضارة، وأن من الواجب أن تربى في الطفل عادة الاعتدال وإدراك "الأواسط الذهبية للأمور" خشية أن يأتي الذكاء متأخراً بعد فوات الوقت (104).
وتتكون النفس أو أصل الحياة من ثلاث درجات أو أجزاء- الشهوة، والإدارة، والفكر، ولكل جزء من هذه الأجزاء فضيلته الخاصة- الاعتدال والشجاعة، والحكمة؛ ويجب أن تضيف إليها التقوى والعدالة- وأداء واجب الإنسان نحو والديه وآلهته. ويمكن تعريف العدالة بأنها هي تعاون الأجزاء في الكل، أو العناصر في الأخلاق، أو الأهلين في الدولة، بحيث يقوم كل جزء بواجبه اللائق به على الوجه الأكمل(105). وليس الخير هو الفعل وحده أو اللذة وحدها، بل هو امتزاجهما بنسب ومقادير تنتج منها حياة الفعل(106). والخير الأسمى كائن في العلم الخالص بالأشكال والقوانين السرمدية، و"أسمى خير" من الناحية الأخلاقية "... هو ما في النفس من قدرة أو موهبة، إذا كان ثمة شيء من هذا النوع تستطيع به أن تعرف الحقيقة، وأن تفعل كل الأشياء من أجل الحقيقة(107)؛ ومن يحب الحقيقة لا يهمه أن يجزي الإساءة بالإساءة"(108) ، بل يفضل أن يتحمل على أن يرتكب هو الظلم، و"يضرب في الأرض براً وبحراً يبحث عن الناس الذين لا يجد الفساد سبيلاً إليهم، والذين لا تُقَوَّم صحبتهم بالمال أياً كان... والذين يهبون أنفسهم للفلسفة بحق يمتنعون عن الشهوات الجسمية، وإذا ما عرضت عليهم الفلسفة أن تطهرهم من الشر وتحررهم منه، أحسوا بأن من واجبهم ألا يقاوموا تأثيرها فيهم؛ ومن أجل ذلك يميلون نحوها، ويسيرون خلفها للهدف الذي تقودهم إليه"(109).
وكان أفلاطون قد حرق قصائده وفقد عقائده الدينية، ولكنه ظل مع ذلك شاعراً وعابداً؛ يغمر فكرته عن الخير إحساس قوي بالجمال وتقوى ممتزجة بالزهد والتقشف؛ توحدت فيه الفلسفة والدين وامتزجت فيه الأخلاق بحاسة الجمال. ولما تقدمت به السن عجز عن أن يرى الجمال منفصلاً عن الخير والحقيقة. وكان في دولته المثالية يفرض الرقابة على جميع الفن والشعر اللذين قد ترى الحكومة أن فيهما نزعة مغايرة للأخلاق الفاضلة أو الوطنية، وهو يمنع فيها جميع الخطب وجميع المسرحيات المضادة للدين؛ وحتى شعر هومر نفسه- الذي يصور الدين المغاير للأخلاق تصويراً مغرياً- يجب أن يضحى به. وكان يجيز في هذه الدولة المثالية أساليب الموسيقى الدُّورية والفريجية؛ ولكنه يشترط ألا تضر بها آلات معقدة التركيب أو يعزفها فنانون يُحدثون "أصواتاً وحشية" في أثناء عرضهم الفني(110)، أو يُدخلون فيها بدعاً متطرفة.
"يجب الابتعاد عن إضافة أي نوع جديد لأنواع الموسيقى، لأن هذا يعرض الدولة كلها للخطر؛ وسبب ذلك أن الأنماط الموسيقية إذا اضطربت أثرت حتماً في أهم الأنظمة السياسية... ذلك أن النمط الجديد يتأصل في الدولة تدريجاً، ويتطرق شيئاً فشيئاً إلى أخلاق الناس وعاداتهم، ومن هذه الأخلاق والعادات يهاجم الشرائع والدساتير، ويظهر في هذا الهجوم منتهى السفالة، وينتهي الأمر بقلب كل شيء في الدولة رأساً على عقب(111).
والجمال كالفضيلة إنما يكون في اللياقة، والتناسب، والنظام. والعمل الفني يجب أن يكون مخلوقاً حياً، ذا رأس، وجذع، وأطراف، توحدها وتبعث فيها الحياة، فكرة واحدة(112). ويظن هذا المتزمت المتحمس أن الجمال الحق هو جمال العقل لا جمال الجسم، وأن الأشكال الهندسية ذات جمال سرمدي مطلق، وأن القوانين التي تقوم عليها السماوات تفوق النجوم في جمالها(113). والحب هو طلب الجمال ويتألف من ثلاث مراحل أولاها حب الجسم والثانية حب الروح والثالثة حب الحقيقة. وحب الجسم بين الرجل والمرأة مشروع لا إثم فيه لأنه وسيلة للتناسل الذي هو نوع من أنواع الخلود(114)؛ ولكنه مع ذلك صورة بدائية من الحب غير جديرة بالفيلسوف. والحب الجسمي بين الرجل والرجل أو بين المرأة والمرأة مناف للطبيعة ويجب قمعه لأنه يعطل التناسل(115). وقمعه مستطاع بالسمو به إلى المرحلة الثانية أي المرحلة الروحية من مراحل الحب: ففي هذه المرحلة يحب الرجل الكبير السن الشاب لأن وسامته رمز للجمال الطاهر السرمدي، والشاب يحب الشيخ لأن حكمته تيسر له سبيل الفهم والشرف. ولكن أسمى أنواع الحب هو "حب الاستحواذ على الخير الأبدي" وهو الحب الذي يسعى وراء الجمال المطلق للأفكار أو الأشكال الكاملة السرمدية(116). وهذا النوع لا العاطفة غير الجسمية بين الرجل والمرأة هو "الحب الأفلاطوني"، وهو النقطة التي يتحدث عندها أفلاطون الشاعر مع أفلاطون الفيلسوف في الرغبة القوية في الفهم، وتكاد هذه الرغبة أن تكون شغفاً صوفياً بما في القانون وما في بناء العالم وحياته وغايته من نور النعيم الباهر.
"لأن أديمنتس، الذي لا يتحول عقله عن الوجود الحق لا يجد لديه وقتاً يطل فيه على شئون الناس، أو يمتلئ فيه قلبه حسداً وغُلاً من النزاع معهم؛ ذلك أن عينه تتجه على الدوام نحو المبادئ الثابتة التي لا تتبدل، وهي التي لا يؤذي بعضها بعضاً، بل يراها كلها تتحرك في نظام حسب قوانين العقل؛ فهو يحذو حذو هذه المبادئ، وعلى مثالها يشكل حياته قدر المستطاع"(117).
5- الطوباوي
ولكنه مع هذا يهتم بشئون الناس، وتتمثل أمام ناظريه رؤيا اجتماعية أيضاً، ويحلم بوجود مجتمع خالٍ من الفساد والفقر والظلم والحروب. وقد روعته ما كان يسود أثينة من انقسامات حزبية مريرة "وشقاق، وعداء، وحقد، وريبة، لا تكاد تخبو نارها حتى تعود إلى الاشتعال"(118). وكان يحتقر ألجركية المال كما يحتقرها جميع النبلاء أبناء الأسر الشريفة ذات المجد التليد، ويقول عن رجالها إنهم "رجال الأعمال...الذين لا تطاوعهم نفوسهم إلى رؤية من قضوا عليهم بجشعهم، ويدفعون سمومهم - أي مالهم - في جسم كل من لا يحْذَرهم، ثم يستردون ما أخذوه منهم أضعافاً مضاعفة: وتلك هي الطريقة التي يملأون بها الدولة بالكسالى والمعدمين"(119) "ثم تنشأ الديمقراطية، بعد أن يتغلب الفقراء على معارضيهم، فيقتلون بعضهم، وينفون من البلاد البعض الآخر، ثم يمنحون الباقي أقساطاً متساوية من الحرية والسلطة"(120). ويتضح آخر الأمر أن الديمقراطيين لا يقلون فساداً عن الحكام الأثرياء: فهم يستخدمون القوة التي تؤول إليهم لكثرة عددهم ليوزعوا الأموال العامة على الفقراء، ومناصب الدولة عليهم أنفسهم؛ وهم يتملقون العامة ويداهنونهم حتى تنقلب الحرية فوضى، وتنحط المعايير بعد أن تؤول السلطة العليا إلى أراذل الناس، وتغلظ الطباع بسبب انتشار الوقاحة والسباب؛ وكما أن السعي الجنوني وراء المال يقضي على الحكم الألجركي، كذلك يقضي على الديمقراطية التطرف في الحرية.
سقراط: ففي هذه الدولة تسود الفوضى، وتتخذ سبيلها إلى البيوت الأفراد، وتنهي الأمر بانتقال عدواها إلى الحيوانات...فيتعود الأب النزول إلى مستوى أبنائه...ويتعود الابن أن يضع نفسه في مستوى أبيه، فلا يخشى أبويه، ولا يستحي منهما..ويخاف الأستاذ طلابه ويتملقهم، ويحتقر الطلاب أساتذتهم ومعلميهم..ويصبح الكبار والصغار سواسية، فيضع الشاب نفسه في مستوى الشيخ، ولا يستنكف أن يعارضه بالقول والفعل، ولا يتحرج الشيوخ من تقليد الشبان. ومن واجبي ألا أنسى حرية الجنسين الذكور والإناث ومساواة كليهما بالآخر في علاقتهما بعضهما ببعض...والحق أن الخيل والحمير، لن تعدم وقتئذ سبيلاً للسير مع الناس جنباً إلى جنب، والاستمتاع بكل ما لأحرار الناس من حقوق وكرامات... وقصارى القول أن الأشياء جميعها توشك أن تنفجر لكثرة ما أتخمت بالحرية...
أديمنتس: ولكن ما هي الخطوة التالية؟...
سقراط: إن ازدياد أي شيء فوق حده كثيراً ما يؤدي إلى انقلاب في الاتجاه المضاد له... ولهذا يبدو أن الإفراط في الحرية، سواء كان ذلك من ناحية الأفراد أو من ناحية الدول، لن يؤدي إلا إلى الاستعباد...ونرى أن أشد أنواع الحكومات استبداداً تنشأ من أشد أنواع الحرية تطرفاً.
وإذا ما صارت الحرية تحللاً من كل القيود، فقد اقتربت الدكتاتورية. ذلك أن الأغنياء يخشون وقتئذ أن تجردهم الديمقراطية من مالهم فيأتمرون بها ليقضوا عليها(122) "وقد يغتصب السلطة أحد الأفراد المغامرين، ويعد الفقراء بكل ما يرغبون فيه، ويحيط نفسه بجيش خاص به، ويقتل أولاً أعداءه ثم يتبعهم بأصدقائه "حتى يطهر الدولة" من هؤلاء وأولئك، ويقيم حكومة دكتاتورية.(123). وفي هذا الصراع العنيف بين الآراء المتطرفة يكون الفيلسوف الذي ينادي بالاعتدال والتفاهم أشبه "برجل وقع بين الوحوش"؛ فإذا كان حكيماً "احتمى بجدار حتى تمر العاصفة والريح الهوجاء"(124)
ومن العلماء من يلجئون في هذه الأزمات إلى الماضي، ويشتغلون بكتابة التاريخ، أما أفلاطون فيلجأ إلى المستقبل، ويضع نظام المدينة الفاضلة، ويرى أن أول ما يجب عمله هو "البحث عن ملك صالح يسمح بأن نجري التجارب على شعبه، وواجبنا الثاني هو أن نبعد من هذه المدينة جميع الكبار فلا نستبقي منهم إلا من لا غنى عنهم لحفظ النظام وتعليم الشبان، وذلك لأن أساليب الكبار تفسد الشباب وتطبعهم بطابع الماضي. ثم نعد للشباب رجالاً كانوا أو نساء منهجاً تعليمياً يمتد إلى عشرين عاماً، ويشمل تعليم الأساطير" وهو لا يقصد بها أساطير الدين القديم الفاسدة، بل أساطير جديدة تعود النفس طاعة الآباء والدولة . فإذا قضوا في التعليم هذه المدة وضعت لهم اختبارات جسمية وعقلية وأخلاقية. فأما الذين يخفقون في هذه الاختبارات فيصبحون هم رجال الاقتصاد في الدولة- رجال الأعمال، والصناع، والزراع؛ ويسمح لهؤلاء بأن تكون لهم أملاك خاصة، وأن يكونوا على درجات مختلفة في الثراء (داخل حدود معينة) حسب كفاياتهم، على أنه لا يسمح بوجود العبيد. أما من يجتازون هذا الاختبار الأول فيتلقون منهاجاً آخر من التعليم والتدريب يمتد إلى عشرة أعوام أخرى.
ثم يختبرون من جديد بعد الأعوام الثلاثين؛ فأما الساقطون فيصبحون جنوداً، لا يسمح لهم بأملاك خاصة ولا يشتغلون بالأعمال التجارية والمالية، بل يعيشون في شيوعية عسكرية. وأما الذين يجتازون الاختبار الثاني فيبدأون في ذلك الوقت (لا قبله) دراسة "الفلسفة الإلهية"(125) مدة خمس سنين. وتشمل الدراسة جميع فروع هذه الفلسفة من رياضيات إلى منطق إلى سياسة وقانون. فإذا أتموا هذه الدراسة النظرية خمسة وثلاثين عاماً، ألقوه في الحياة العملية ليكسبوا قوتهم ويشقوا طريقهم. وبعد خمسين عاماً يصبح الباقون منهم على قيد الحياة الطبقة المهيمنة على المدينة أو حكامها من غير حاجة إلى انتخاب.
ويمنح هؤلاء السلطة كلها، ولكنهم لا تكون لهم أملاك. ولن تكون للمدينة قوانين، بل تعرض كل القضايا والمنازعات على الملوك - الفلاسفة ليفصلوا فيها بحكمتهم التي لم تفسدها السوابق. ولن يكون لهؤلاء الملوك - الفلاسفة ملك ولا مال، ولا أسر، ولا زوجات يختصمون بهن على الدوام، وذلك لكيلا يسيئون استخدام سلطتهم. ويتولى الشعب التصرف في أموال المدينة كما يتولى الجند السلطة العسكرية. وليست الشيوعية عند أفلاطون نوعاً من الديمقراطية، بل هي أرستقراطية، يعجز عن بلوغها عامة الشعب، ولا يتحملها إلا الجنود والفلاسفة.
أما الزواج فيجب أن ينظمه الحراس لجميع الطبقات تنظيماً دقيقاً يهدف إلى غرض مقدس هو تحسين النسل. "فيجب أن يجتمع أفضل الجنسين بعضهما ببعض أكثر ما يستطيعون، وأن يجتمع المنحطون من الرجال بالمنحطات من النساء، ثم يربى أبناء الأولين ولا يربى أبناء الآخرين، لأن هذه هي السبيل الوحيدة للاحتفاظ بالشعب في حالة صالحة"(126) وعلى الدولة أن تتولى تربية الأطفال جميعهم وتقدم لهم فرصاً للتعليم متكافئة. ويجب ألا تكون الطبقات وراثية، وأن يكون للبنات من الفرص مثل ما للأولاد، وألا تمنع النساء من تولي مناصب الدولة لأنهن نساء. ويعتقد أفلاطون أنه بهذا المزيج من الفردية والشيوعية، وبالعمل على تحسين النسل، ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق، يستطيع أن يوجد مجتمعاً يسر الفيلسوف أن يعيش فيه. ويختم بحثه بالعبارة الآتية: "وإلى أن يكون الفلاسفة ملوكاً، أو أن يتشبع ملوك هذا العالم وأمراؤه بروح الفلسفة وقوتها...لن تنجو المدن ولن ينجو الجنس البشري من الشر"(127).
6- المشترع
وظن أنه وجد في دنيسوس الثاني الأمير المطلوب. وكان يشعر كما يشعر فلتير أن الملكية المطلقة تمتاز عن الديمقراطية بأن المصلح في الحالة الأولى لا يحتاج إلى إقناع أكثر من رجل واحد(128). وفي ذلك يقول إنك إذا أردت أن تنشئ دولة صالحة فما "عليك إلى أن تضع على رأسها حاكماً بأمره، شاباً معتدلاً، سريع التعلم، قوي الذاكرة شجاعاً، كريم الطبع...حسن الحظ؛ ويكون حسن حظه في أنه معاصر لمشترع عظيم، وأن الظروف الموفقة تجمع أحدهما إلى الآخر"(129) لكن اجتماعه بدنيسوس كان كما سبق القول من أسوأ الظروف.
وكان أفلاطون في آخر سني حياته لا يزال يتوق إلى أن يكون مشترعاً، ولذلك عرض على الناس دولة تلي الدولتين السابقتين في الحسن. وهو يتحدث عن هذه الدولة الثالثة في كتاب القوانين، وهذا أقدم المراجع الأوربية المعروفة في التشريع، وهو إلى هذا دراسة نافعة في عهد الشيخوخة اليوناني الذي أعقب عهد الشباب الإبداعي. وفيه يقول أفلاطون إن الدولة الجديدة ينبغي أن تكون في داخل الأرض، بعيدة عن البحر حتى لا تفسد الآراء الأجنبية إيمانها، والتجارة الأجنبية أمنها، والترف الأجنبي بساطتها وانطواءها على نفسها(130). ويجب أن يقتصر عدد مواطنيها الأحرار على العدد السهل الانقسام وهو 5040 يضاف إليهم أفراد أسرهم. ويختار المواطنون من بينهم 360 حارساً يقسمون إلى جماعات تتألف كل واحدة منها من ثلاثين شخصاً يتولون تصريف أعمال الدولة شهراً واحداَ، ويختار الحراس الثلاثمائة والستون مجلساً ليلياً مؤلفاً من ستة وعشرين عضواً يجتمع في الليل ويشرع لكل شئون المدينة الحيوية(131). ويجب على هؤلاء الأعضاء أن يقسموا الأرض بين أسر المواطنين أقساماً متساوية على ألا يسمح لهؤلاء الملاك بتقسيمها بعدئذ ولا بالنزول عنها لغيرهم. وعلى الحراس "أن يتخذوا ما يجب اتخاذه من الاحتياطات حتى لا يضر المطر بالأرض بدل أن ينفعها...وأن يمنعوا المطر عنها بالجسور والخنادق، ويجعلوا قنوات" الري "توصل الكثير من الماء لجميع الأراضي حتى الأراضي الجافة"(132). ويجب ألا تزيد التجارة عن الحد الأدنى حتى لا ينشأ من هذا عدم المساواة الاقتصادية. ويجب ألا يحتفظ الناس بشيء من الذهب أو الفضة، وألا يتعاملوا بالربا(133)، وألا يُشَجع أي إنسان على أن يعيش باستثمار أمواله، بل يُشَجع على أن يعيش بالاشتغال بزرع الأرض بجد ونشاط. ويجب على كل من يحصل من ريع الأرض على أربعة أمثال قيمته أن يرد الباقي إلى الدولة. وقد قُيد حق التوريث والوصية بأشد القيود(134) وجعل للنساء فرصاً تعليمية وسياسية متكافئة مع الرجال(135)، وفرض على الرجال أن يتزوجوا بين الثلاثين والخامسة والثلاثين، وإلا ألزموا بدفع غرامات سنوية باهضة،(136) وعليهم ألا يلدوا أطفالاً إلا في خلال عشر سنين. ومن الواجب تنظيم الشراب وغيره من وسائل اللهو للمحافظة على أخلاق الشعب(137).
وللوصول إلى هذا كله في هدوء وسلام يجب أن تشرف الدولة إشرافاً تاماً على شئون التعليم، والنشر، وغيرها من وسائل تكوين الرأي العام، وأخلاق الأفراد، ويجب أن يكون أكبر موظف في الدولة هو وزير المعارف ويجب أن تحل السلطة محل الحرية في شئون التعليم، وذلك لأن ذكاء الأطفال أقل من أن يجيز لنا أن نتركهم يختطون لنفسهم حياتهم. ويجب ألا تفرض الرقابة على الآداب، والعلوم والفنون، فلا يجوز أن يُعبر عن آراء يرى أعضاء المجلس أنها ضارة بالآداب العامة أو الخلق القويم. وإذ كانت طاعة الوالدين والقوانين لا بد أن تستند إلى قوة أعلى من قوة البشر وتأييدها فإن الدولة هي التي تقرر أي الآلهة تُعبد وكيف تُعبد ومتى تُعبد. وكل من يتردد في الخضوع لهذا الدين الرسمي يسجن، فإن أصر على عدم الخضوع له وجب أن يقتل(138).
وليست الحياة الطويلة نعمة لصاحبها على الدوام. ولقد كان من الخير لأفلاطون أن يموت قبل أن يوجه هذه التهمة لسقراط، وأن يمهد هذا التمهيد لجميع محاكم التفتيش المستقبلة. ولعل دفاعه عن نفسه هو أنه يحب العدالة أكثر من حبه للحقيقة، وأن هدفه هو أن يمحو الفقر والحرب، وأنه لا يستطيع أن يمحوهما إلا بسيطرة الدولة على الأفراد سيطرة تامة، وأن هذه السيطرة لا تكون إلا بواحدة من اثنتين القوة أو الدين. وكان يظن أن ما أصاب الأثينيين من انحلال أيوني في الأخلاق والسياسة لا علاج له إلا بالقوانين الإسبارطية المشتقة من النظام الدوري. والنزعة السارية في تفكير أفلاطون كله هي خوفه من أن يساء استخدام الحرية، وأن يفهم الناس الفلسفة على أنها الرقيب على شئون الناس والمنظمة للفنون. ويعرض أفلاطون في كتاب القوانين تسليم أثينة المحتضرة التي استوفت حياتها لإسبارطة التي قضت نحبها من أيام ليقورغ. وإذا لم يكن في وسع أشهر فلاسفة أثينة أن يقول أكثر مما قال دفاعاً عن الحرية، فمعنى هذا أن بلاد اليونان كانت على أتم استعداد لأن يتولى أمورها ملك. وإذا ما ألقينا نظرة شاملة على جميع هذه الآراء اعترتنا الدهشة إذ نرى أن أفلاطون قد جاء في هذا الوقت القديم بكل ما جاء به في العصور الوسطى الفلسفة والدين والأنظمة المسيحية، وبالشيء الكثير مما جاءت به الفاشية في العصر الحديث. لقد صارت نظرية الأفكار هي "واقعية" المدرسين - واقعية "العموميات" الموضوعية، ولم يكن أفلاطون مسيحياً قبل وجود المسيحية - على حد قول نتشة -فحسب، بل كان فوق ذلك متزمتاً مسيحياً قبل وجود عصر التزمت المسيحي. فهو يرتاب في الطبيعة البشرية ويراها شراً، ويعتقد أنها هي الخطيئة الأولى التي لوثت النفس. وهو يعمد إلى تلك الوحدة القائمة بين الجسم والروح والتي كانت هي الفكرة الرئيسية في القرنين السادس والخامس، فيقسمها إلى جسم خبيث وروح قديسة (139) وهو يستمد من فيثاغورس والأورفية اعتقاد الشرق في تناسخ الأرواح، والكرما ، والخطيئة والتطهير، و"الانطلاق"؛ ويضرب في كتبه الأخيرة على نغمة أخروية شبيه بنغمة أوغسطين أي نغمة الرجل الذي تاب وأناب وعاد إلى الدين الصحيح، ولولا هذا النثر الذي بلغ غاية الكمال لشك الإنسان في أن أفلاطون من اليونان.
وقد بقي أفلاطون أحب المفكرين اليونان إلى الناس لأنه يتصف بعيوبهم الجذابة المحبوبة. وكان مثل دانتي مرهف الحس إلى حد يستطيع معه أنه يرى الجمال الكامل السرمدي وراء الأشكال الدنيوية غير الكاملة. وكان زاهداً لأنه كان مضطراً في كل لحظة إلى أن يكبح جماح مزاجه القوي العنيف(140). وكان شاعراً يسيطر عليه الخيال ويسير وراء كل فكرة شاذة غريبة، وتستحوذ عليه مآسي الأفكار ومباهجها، يهيجه التحمس الذهني المنبعث من الحياة العقلية الحرة التي كانت تستمتع بها أثينة. ولكن كان من سوء حظه أنه رجل منطق وشاعر معاً، وأنه كان أقوى مجادل في العصر القديم، فقد كان أدق في جدله من زينون الإليائي ومن أرسطو، وأنه كان يشغف بالفلسفة أكثر من شغفه بأية امرأة أو أي رجل، وأنه انتهى في آخر الأمر بمثل ما انتهى إليه البحاث الأكبر في رواية دستيوفسكي، وهو قمع كل تفكير حر، واعتقاده بأن الفلسفة يجب أن يُقضى عليها لكي يعيش الإنسان ولو أن مدينته الفاضلة تحققت فعلاً لكان هو أول ضحاياها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرّابع: أرسطوطاليس
1- أعوام التجوال
لما مات أفلاطون شيد أرسطو طاليس مذبحاً له وكرمه تكريماً يكاد يبلغ حد التأليه، ذلك لأنه كان يعجب بأفلاطون وإن لم يكن يميل إليه. وكان أرسطوطاليس قد قدم من أثينة من مسقط رأسه في اسطاغيرا وهي مستعمرة يونانية صغيرة في تراقية. وكان أبوه الطبيب الخاص لأمينتاس الثاني Amyntas II والد فليب، وكان قد علّم الشاب )إذا لم يكن جالينوس مخطئاً في قوله( شيئاً من التشريح قبل أن يبعث به إلى أفلاطون. واجتمعت باجتماع الفيلسوفين نزعتان متعارضتان في تاريخ الفكر- النزعة الصوفية والنزعة الطبيعية- وأخذتا تحتربان. ولو أن أرسطوطاليس لم يستمع إلى أفلاطون تلك المدة الطويلة )التي يقدرها بعضهم بعشرين عاماً( لجاز أن يكون له عقل علمي محض؛ أما وقد استمع له تلك المدة فأن ابن الطبيب أخذ ينازع فيه تلميذ المعلم المتزمت، ولم تتغلب إحدى النزعتين على الأخرى، لهذا لم يقر أرسطو طول حياته أي النزعتين يطيع. لقد كدس حوله ملاحظات علمية تكفي لإخراج موسوعة كاملة، ثم حاول أن يحشرها في القالب الأفلاطوني الذي صُنع عقله المدرسي على غراره. ولقد نقض حجج أفلاطون في كل مرحلة من مراحل تفكيره لأنه كان يستعير منه في كل صفحة من صفحات كتبه.
وكان طالباً مجداً، وسرعان ما لاحظ فيه معلمه هذا الجد. ولما قرأ أفلاطون رسالته عن الروح في المجمع العلمي كان أرسطوطاليس )على حد قول ديجين ليرتس( "الشخص الوحيد الذي يستمع إليها من أولها إلى آخرها، أما غيره فقد انفضوا من حوله". ولما مات أفلاطون ذهب أرسطوطاليس إلى بلاط هرمياس Hermeias، وكان قد درس معه في المجمع العلمي وارتفع من، عبد رقيق إلى أن صار حاكماً بأمره في أترنيوس Atarneus وأسوس Assus من بلاد آسية الصغرى. وتزوج أرسطوطاليس بيثياس Pythias ابنة هرمياس؛ وأوشك أن يستقر في أسوس، لكن الفرس اغتالوا هرمياس، لأنهم ظنوه يدبر الخطط لمعاونة فليب في غزوه المرتقب لبلاد آسية. وفر أرسطوطاليس مع بيثياس إلى لسبوس القريبة وقضى فيها بعض الوقت يدرس تاريخ الجزيرة الطبيعي. ثم ماتت بيثياس بعد أن رزق منها بنتاً، ثم تزوج أرسطوطاليس بعدئذ الغانية هربليس Herpyllis أو عاشرها، ولكنه ظل إلى آخر أيام حياته يعز ذكرى بيثياس، وأوصى وهو على فراش الموت أن تدفن عظامه بجوار عظامها، ذلك أنه لم يكن بالرجل المنكب على الدرس والكتب الذي قد يتصوره الإنسان بالنظر إلى مؤلفاته. وفي عام 343 دعاه فليب ليتولى تعليم الإسكندر، وكان وقتئذ غلاماً طائشاً في الثالثة عشر من عمره. وأكبر الظن أن فليب قد عرف الفيلسوف أيام شبابه في بلاط أمينتاس. وجاء أرسطوطاليس إلى بلا؛ وظل يقوم بهذا الواجب الثقيل أربع سنين؛ وفي عام 340 كلفه فليب بالإشراف على إعادة بناء اسطرخوس وتعميرها، وكانت قد ضربت في أثناء الحرب مع أولنثوس Olynthus؛ وطلب إليه فوق ذلك أن يضع لها شرائعها؛ وقد قام بهذه الأعمال جميعها قياماً أرضى أهل المدينة، فأخذت من ذلك الحين تحيي ذكرى هذا التعمير بإقامة عيد له في كل عام(146).
وفي عام 334 عاد إلى أثينة، وافتتح فيها مدرسة لتعليم البلاغة والفلسفة- وأكبر الظن أن الإسكندر قد أمده بما يلزمه من المال، واختار مكانها في أجمل دار للتدريب الرياضي في أثينة، وهي طائفة من المباني خاصة بأبلو ليقيوس Apolls Lyceus (إله الرعاة) تحيط بها حدائق غناء، وطرقات مسقوفة، وكان في صدر النهار يلقي على الطلاب المنتظمين فيها دروساً في موضوعات راقية، وفي عجزه يلقي محاضرات على جماعات من الشعب أقل انتظاماً وأقل رقياً ممن يستمعون إليه في الصباح. وأكبر الظن أن هذه المحاضرات الثانية كانت في البلاغة، والشعر؛ والأخلاق والسياسة، وقد جمع في هذا البناء مكتبة كبيرة، وأنشأ فيهِ حديقة للحيوان ومتحفاً للتاريخ الطبيعي، وسميت المدرسة فيما بعد، باللوقيون Lyceun، كما سمي الطلاب بالمشائين وسميت فلسفتهم بالمشائية نسبة إلى المماشي المسقوفة (Perptaoi) التي كان أرسطوطاليس يحب أن يسير فيها مع طلابه وهو يحاضرهم. وقامت منافسة حادة بين اللوقيون التي كان معظم طلابها من الطبقة الوسطى، وبين المجمع العلمي الذي كان يستمد معظم أعضائه من طبقة الأشراف، ومدرسة إسقراط التي كان يؤمها في الغالب يونان المستعمرات. ثم خفت حدة هذه المنافسة فيما بعد حين وجه إسقراط اهتمامه إلى الفلسفة، وحين أخذ المجمع العلمي يعنى بالعلوم الرياضية، وما وراء الطبيعة، والسياسة، وأخذت اللوقيون تعنى بالتاريخ الطبيعي. وكان أرسطو يطلب إلى تلاميذه أن يجمعوا المعلومات في الميادين العلمية المختلفة وينسقوها: كعادات البرابرة؛ ودساتير المدن اليونانية، وتواريخ الفائزين في الألعاب البيثية والديونيشيا الأثينية، وأعضاء الحيوانات، وعاداتها، وأصناف النباتات وتوزيعها؛ وتاريخ العلوم والفلسفة، وأضحت هذه البحوث ذخيرة طيبة من المعلومات يستمد منها رسائلهم المختلفة التي يخطئها الحصر، وكان أحياناً يولي هذه المعلومات من الثقة أكثر مما تستحق. وكتب لأنصاف المتعلمين نحو سبع وعشرين محاورة يرى شيشرون وكونتليان أنها تضارع محاورات أفلاطون؛ وهذه المحاورات هي التي قامت عليها شهرته في الزمن القديم؛ وقد ضاعت فيما ضاع على أثر استيلاء البرابرة على رومة.
أما ما بقي من مؤلفاته فهو مجموعة من الكتب الفنية، المجردة إلى أبعد حد في التجريد، والخالية من المتعة إلى درجة تعز على التقليد، وقلما كان العلماء الأقدمون يشيرون إليها في مؤلفاتهم، ولعله قد كتبها في السنين العشرين الأخيرة من حياته بالرجوع إلى مذكرات له وضعها بنفسه ليعتمد عليها في محاضراته، أو من مذكرات دونها تلاميذه عن هذه المحاضرات. ولم تكن هذه الذخيرة العلمية الفنية معروفة خارج اللوقيون حتى نشرها أندرنكوس Andronicus من أهل رودس في القرن الأول قبل الميلاد. وقد بقيت لنا من هذه الكتب أربعون كتاباً، ولكن ديجين ليرتس يضيف إليها 360 كتاباً أخرى أكبر الظن أنها رسائل قصيرة كل منها في موضوع واحد. وهذه البقايا العلمية القليلة هي التي يجب علينا أن نبحث فيها عن الأفكار التي كانت وقتاً ما أفكاراً حية، والتي أكسبت أرسطوطاليس في العصور التي تلت عصره لقب "الفيلسوف". وإذا ما أخذنا ندرسه فعلينا ألا نتوقع أن نرى في كتاباته من البهجة ما في أفلاطون، ومن الفكاهة ما في ديجين؛ بل كل الذي نجده هو طائفة كبيرة من المعلومات القيمة، ومن الحكمة المتحفظة الخليقة بصديق الملوك الذي يعيش من رفدهم .
2- العالم الطبيعي
إن الاعتقاد السائد هو أن أرسطو فيلسوف قبل كل شيء، ولعل هذا من الأخطاء الشائعة؛ بيد أننا سنعده في هذا الكتاب عالماً طبيعياً أولاً، حتى إذا لم يكن لهذا سند إلا أنه رأى في الرجل جديد.
وأول ما نقوله عنه أن عقله الطلَعة يهتم بعملية الاستدلال وأصولها الفنية، ويحلل هذه العملية والأصول تحليلاً بلغ من الدقة حداً اصبح معه الأورغانون (Organon) أو الآلة )الفكرية(- وهو الاسم الذي أطلق بعد وفاته على رسالاته في المنطق- المرجع الذي ظل المناطقة يعتمدون علية مدى ألفي عام. وهو يتوق إلى أن يكون واضح التفكير، وإن كان لا يصل إلى هذا الغرض فيما لدينا من كتبه إلا نادراً؛ فهو يقضي نصف وقته في تعريف مصطلحاته، فإذا فرغ من هذا شعرَ بأنه قد حل المسئلة التي يبحث فيها. وهو يرَّف التعريف نفسه تعريفاً دقيقاً بأنه تحديد الشيء أو الفكرة بذكر الجنس أو الصنف الذي ينتمي إليه ذلك الشيء، أو تنتمي إليهِ تلك الفكرة )كقوله "الإنسان حيوان"( والفروق الخاصة التي تميزه أو تميزها عن جميع أفراد الصنف (الإنسان حيوان عاقل). ومما تمتاز به طريقته المنظمة أنه قسم المظاهر الرئيسية التي يمكن دراسة أي شيء بمقتضاها عشرة أقسام: المادة، والكم، والكيف، والعلاقة، والمكان، والزمان، والموضع، والمِلْك، والفاعلية، والانفعالية- وهو تصنيف وجد فيه بعض الكتاب ما يعينهم على تنشيط ذهنهم الكليل.
وهو يرى أن الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن القوانين العامة ليست إلا أفكاراً معممة، وأنها ليست فطرية بل تكونت من مشاهدات للأشياء المتماثلة، فهي مدركات وليست أشياء. وهو يقرر قرار الواثق مبدأ التناقض، بوصفه الشيء البديهي في المنطق كله، وهو أن "الصفة الواحدة لا يمكن أن تكون من صفات الشيء الواحد ومن غير صفاته في العلاقة الواحدة". ويكشف عن المغالطات التي يقع فيها السوفسطائيين أو يغرون الناس بالوقوع فيها، وينتقد المتقدمين لأنهم صوروا الكون أو وضعوا نظرياتهم عنه من خيالهم بدل أن يمضوا الوقت الطويل في الرصد والتجارب بصبر وأناة. ومثله الأعلى في الاستدلال المنطقي وهو القياس- المكون من ثلاث قضايا ثالثتها نتيجة محتومة للقضيتين الأوليتين؛ ولكنه يقر بأنه إذا أريد تجنب الوقوع في خطأ المصادرة على المطلوب الأول وجب أن يسبق القياس استقراء واسع يجعل قضيته الكبرى مرجحة؛ وهو وإن كان في رسائله الفلسفية يضل في بيداء الاستدلال يمجد الاستقراء ويجمع في كتبه العلمية ذخيرة طيبة من الملاحظات المحدودة الدقيقة، ويسجل في بعض الأحيان تجاربه هو أو تجارب غيره من العلماء . وقصارى القول أنه رغم أغلاطه واضع أساس الطريقة العلمية وأول من نضم التعاون في البحث العلمي.
فهو يبدأ بحثه العلمي من حيث انتهى ديموقريطس، ولا يخشى أن يلج كل ميدان فيه. وهو أضعف ما يكون في الرياضيات والطبيعة، ويقتصر فيهما على دراسة المبادئ الأساسية. فهو في كتابه "الطبيعة" لا يسعى وراء اكتشافات جديدة بل يهتم بوضع التعاريف الواضحة للمصطلحات المستعملة في هذا العلم كالمادة، والحركة، والمكان، والزمان، والاستمرار، واللانهائي، والتغير، والنهاية. فالحركة والمكان عنده مستمران، وهما لا تتكونان، كما يفترض زينون، من لحظات أو أجزاء صغيرة غير قابلة للانقسام، والشيء "اللانهائي" موجود بالقوة لا بالفعل. وهو يحس بالمشاكل التي أثارت تفكير نيوتن وإن لم يعمل شيئاً لحلها؛ وهذه المشاكل هي: القصور الذاتي، والجاذبية والحركة، والسرعة. ولديه فكرة عن توازن القوى، ويقول في قانون الروافع: "كلما كان الثقل المحرك بعيداً عن نقطة الارتكاز كان أقدر على تحريك (الجسم)".
ويقول إن الأجرام السماوية كلها كرات- ويؤكد ذلك بالنسبة للأرض بنوع خاص، لأنه لا يستطيع تفسير شكل القمر إذا خسف بسبب اعتراض الأرض بينه وبين الشمس إلا إذا كانت الأرض كروية. وهو يدرك الأزمنة الجيولوجية إدراكاً يستثير الإعجاب فيقول مثلاً إن البحر يستحيل إلى أرض والأرض تستحيل إلى بحر على توالي الأيام، ولكنا لا نحس بهذا التحول، وقد ظهرت أمم وحضارات لا حصر لها ثم اختفت، إما بسبب الكوارث السريعة، وإما بسبب عدوان الأيام البطيء. " وأكبر الظن أن كل فن قد نما وازدهر وارتفع إلى أعلى الدرجات عدة مرات ثم اختفى. وهذا أيضاً شأن الفلسفة ". والحرارة أهم عامل في التغيرات الجيولوجية والجوية. وهو يجازف بتفسير أصل السحب والضباب، والندى، والصقيع، والمطر، و الثلج، والبرد، والرياح، والرعد، والبرق، وقوس قزح، والشهب. ونظرياته في الغالب شاذة غريبة، ولكن رسالته الصغيرة في الظواهر الجوية عظيمة الخطر من الناحية التاريخية، لأنها لا تستند إلى القوى الخارقة للطبيعة، بل يحاول فيما أن يُرجع ما في الجو من تقلبات تبدو له غير منطبقة على القوانين الطبيعية إلى أسباب طبيعية تعمل متعاقبة وفقاً لنظام محدد، ولم يكن من المستطاع أن ترقى العلوم الطبيعية فوق الحد الذي وصلت إليه على يديه إلا بعد أن أمدتها الاختراعات بأجهزة وآلات أوسع مدى وأدق في الرصد والقياس.
أما علم الأحياء فهو ميدان أرسطو الحقيقي، فهو فيه واسع الملاحظة عظيم الإطلاع؛ وفيه أيضاً يرتكب أكثر الأغلاط؛ وأعظم فضل له على هذا العلم الحيوي أنه نسق كل ما كشف فيه من قبل ودعم أركانه، وقد استعان بتلاميذه على جمع المعلومات القيمة عن الحيوان والنبات في بلا د بحر أيجة كما جمع في مكان واحد أولى المجموعات العلمية من الحيوان والنبات. إذا جاز لنا أن نأخذ بقول بلني Pliny فأن الإسكندر أصدر الأوامر لصياديه، وحارسي صيده، وصائدي السمك له، وغيرهم ألا يمنعوا عن أرسطو أي نوع يطلبه منها وأن يمدوه بما يريده من المعلومات. ويعتذر الفيلسوف عن اهتمامه بتلك الأشياء الصغيرة فيقول: "ليس في الأشياء الطبيعية ما يخلو من الأعاجيب، وإذا ما احتقر إنسان التفكير في الحيوانات الدنيا، فغن عليه أن يحقر نفسه".
وهو يقسم المملكة الحيوانية قسمين، ذات دم وغير ذات دم: إنيما، وأنيما Anaima, Enaima وهما يقابلان بوجه التقريب تقسيمنا إياها إلى "فقاريات" و "لا فقاريات". ثم يعود فيقسم الحيوانات غير ذات الدم إلى صدفية، وقشرية، ورخوة، وحشرات، ويقسم الدموية إلى أسمال، وقوازب ، وطيور، وثدييات.
وتشمل بحوثه في هذا العلم ميداناً واسعاً مختلف الأنحاء. فهو يبحث في أعضاء الهضم، والإخراج، والحس، والحركة والتكاثر، والدفاع؛ وفي أنواع الأسماك، والطيور، والزواحف، والقردة، ومئات غيرها من الأصناف؛ وفي فصول تزاوجها، وطريقة حملها صغارها، وتربيتها إياها؛ وفي ظواهر البلوغ، والحيض، والحمل، والإجهاض، والوراثة، والإتئام؛ وفي مواطن الحيوانات وهجرتها؛ وما يعيش عليها من الطفيليات وما ينتابها من الأمراض؛ وفي طرق نومها وفصول سباتها... وهو يشرح حياة النحلة شرحاً وافياً ممتعاً(160). وكتابه مليء بالملاحظات العجيبة العارضة، كقوله إن دم الثيران يتجمد أسرع من تجمد دماء معظم الحيوانات الأخرى، وإن بعض ذكور الحيوان كالجدي بنوع خاص قد تدر اللبن؛ وإن الخيل ذكوراً وإناثاً أكثر الحيوانات شهوانية بعد الإنسان .
وهو شديد الاهتمام بأجهزة التوالد وأساليبها في الحيوان، وتثير دهشته كثرة الأساليب التي تتوصل بها الطبيعة إلى الإبقاء على أنواع الأحياء، وكيف "تحتفظ بالنوع حين يعجزها أن تحتفظ بالفرد"؛ وقد ظل عمله في هذا الميدان فذاً منقطع النظير حتى القرن الماضي. ومن أقوله أن حياة الإنسان تدور حول بؤرتين- الأكل والتوالد: "فللأنثى عضو يجب أن يعد بمثابة مبيض لأنه يحتوي على ما يكون في بادئ الأمر بيضة غير متميزة، ثم تتميز بعدئذ فتصبح بويضات كثيرة ". والعنصر الأنثوي يزود مادة الجنين بالطعام، أما عنصر الذكورة فيزوده بالجهد والحركة، والأنثى هي العنصر المنفعل، أما الذكر فهو العنصر النشيط الفعال. ويرفض أرسطو ما يراه أنبادوقليس وديموقريطس من أن جنس الجنين تعينه حرارة الرحم أو تغلب أحد عنصري التكاثر على العنصر الآخر؛ ثم يصوغ بعد إذ هذه النظريات على أنها من وضعه فيقول: "كلما عجز العنصر المكوَّن )الذكر( عن أن تكون له الغلبة، ولم يستطع لنقص حرارته أن يطبخ المادة، أو يشكلها في شكله هو، انتقلت هذه المادة إلى... صورة الأنثى". ويضيف إلى ذلك قوله: "وقد يحدث أحياناً أن تلد المرأة ثلاثة صغار أو أربعة، وخاصة في أجزاء معينة من الأرض. وأكبر عدد ولدته امرأة هو خمسة أبناء، وقد حدث هذا عدة مرات. وحدث في زمن ما أن وضعت امرأة عشرين طفلاً على أربع دفعات وأن عاش معظم هؤلاء الأطفال حتى كبروا".
وهو يستبق القرن التاسع عشر في كثير من نظريات علم الأحياء. فهو يعتقد مثلاً أن أعضاء الجنين وخواصه تتكون بواسطة جزيئات دقيقة )هي "ذرات التناسل بالتجمع العام" التي يذكرها دارون ( تنتقل من كل جزء من أجزاء الشخص الكبير إلى عناصر التوالد. وهو يقول كمل يقول فن بير Von Baer إن الخواص المميزة للجنس تظهر في الجنين قبل غيرها من الصفات، ثم تليها الخواص المميزة للنوع، وتلي هذه الخواص المميزة للفرد. وهو يذكر مبدأ يفخر به هربرت اسبنسر، وهو أن خصوبة الكائن الحي بوجه عام تتناسب تناسباً عكسياً مع تعقد تطوره. وخير ما يتجلى فيه نبوغه هو وصفه جنين الدجاج: "أجرِ إذا شئتَ هذه التجربة: إيت بعشرين بيضة أو أكثر، واجعل دجاجتين أو أكثر ترقدان عليها. ثم خذ منها بيضة في كل يوم؛ ابتداءً من اليوم الثاني إلى أن تفقس واكسرها وافحص عنها... ففي حالة الدجاجة العادية تُستطاع رؤية الجنين أو لمرة بعد ثلاثة أيام... فيظهر القلب في صورة نقطة من الدم، ينبض ويتحرك كأنه قد وهب الحياة، ويخرج منه وعاءان بهما دم يسيران في تلافيف، وغشاء يحمل خيوطاً رفيعة دموية من أنابيب الوريدين ويحيط بجميع أجزاء المخ )الصفار(... وبعد عشرة أيام يُرى المخ بجميع أجزائه واضحاً كل الوضوح".
ويعتقد أرسطو أن جنين الإنسان ينمو كما ينمو جنين الكتكوت: "ويرقد الطفل في رحم أمه بهذه الطريق عينها... لأن طبيعة الطائر يمكن تشبيهها بطبيعة الإنسان". وهو يستطيع بنظريته الخاصة بالأعضاء المتشابهة أن يرى عالم الحيوان في صورة جامعة: "فالظفر مماثل للمخلب، واليد شبيهة بثنية السرطان القاطعة، والريشة بقشرة السمكة". وهو يقترب في بعض الأحيان من نظرية النشوء والارتقاء:
"تسير الطبيعة قليلاً قليلاً من الأشياء غير الحية إلى الحياة الحيوانية بطريقة يستحيل معها أن نحدد تحديداً دقيقاً متى تنتهي هذه وتبدأ تلك... فجنس النبات مثلاً يأتي بعد الجمادات غير الحية في سلم الرقي، وهذا النبات لا حياة فيهِ نسبياً إذا وازنا بينه وبين الحيوان، ولكنه حي إذا ووزنَ بالأشياء الجامدة. وفي النبات سلم تصاعدي مستمر نحو مرتبة الحيوان. ففي البحر أشياء لا يستطيع الإنسان أن يقول هل هي حيوان أو نبات... فالإسفنج مثلاً شبيه بالنبات من جميع الوجوه... وبعض الحيوانات ثابتة في أماكنها لا تنتقل منها، وإذا انتزعت منها هلكت... أما من حيث الحساسية فإن بعض الحيوانات لا يظهر فيها ما يدل عليها، وبعضها تظهر فيها غامضة... وهذا التنوع بعينهِ يظهر في سلم الرقي الحيواني.
وهو يرى أن القرد صورة وسطى بين الإنسان وغيره من الحيوانات التي تلد، ولا يقبل فكرة أنبادوقليس عن الانتخاب الطبيعي للتغيرات العارضة، لأن النشوء والارتقاء ليس فيهما أشياء عارضة، بل أن خطوط التطور يحددها ما في كل فرد، ونوع، وجنس من دافع فطري لكي ينمي نفسه نماءً يصل به إلى أقصى درجة من تحقيق طبيعته. إن لهذا التطور خطة موضوعة ولكنها دفع من الداخل نحو الغرض يجذب كل شيء إلى أن يكمل طبيعته. ويمتزج بهذه الآراء النيرة كل ما يتوقع الإنسان وجوده في ذلك الزمن القاصي الذي يبعد عنا ثلاثة وعشرين قرناً من أخطاء كثيرة، يبلغ بعضها من الشناعة حداً لا نرى معه حرجاً إذا ظننا أن مؤلفات أرسطو في علم الحيوان قد اختلطت مذكراته بمذكرات تلاميذه. فكتابه في تاريخ الحيوان معين لا ينضب من الأخطاء؛ فهو يقول فيه إن الفئران تموت إذا شربت الماء في الصيف، ولأن الفيلة لا يصيبها إلا مرضان- الزكام والانتفاخ، وإن الحيوانات كلها ما عدا الإنسان يصيبها السعور إذا عضها كلب كلِب وإن ثعبان الماء ينشأ نشأة شيطانية، وإن الإنسان وحده هو الذي يخفق قلبه، وإنه إذا رثجَ صفار بيضات اجتمع وسط الإناء، وإن البيض يطفو فوق الماء الكثير الملح. يضاف إلى هذا أن أرسطو يعرف عن الأعضاء الداخلية للحيوان أكثر مما يعرفه عن الإنسان، فقد يلوح أنه لا هو ولا أبقراط قد تحررا من سلطان الدين فأقدما على تشريح الأجسام البشرية. ومن أجل هذا وقع في أغلاط شنيعة منها قوله أن ليس للإنسان إلا ثمانية أضلاع، وإن أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل، وإن القلب أعلى من الرئتين، وإن القلب لا المخ هو مركز الإحساس . وإن وظيفة المخ هي تبريد الدم )بالمعنى الحرفي لهذه العبارة(. وآخر ما نذكره من هذه الأغلاط أنه )هو أو إنسان آخر سمجاً ثقيلاً( قد ذهب بنظرية الخطة الموضوعة مذاهب يضحك منها كل حكيم. "من الواضح أن النباتات قد خلقت لمنفعة الحيوانات، كما خلقت الحيوانات لمنفعة الإنسان" "لقد جعلت الطبيعة الأعجاز للراحة، لأن ذوات الأربع تستطيع أن تقف على أرجلها دون أن تتعب، أما الإنسان فهو في حاجة إلى ما يجلس عليه. وحتى هذه الفقرة الأخيرة تكشف عن طبيعة أرسطوطاليس العلمية؛ فمؤلف هذا الكتاب يرى أن من الأمور المسلم بها أن الإنسان حيوان، ولهذا يبحث عن الأسباب الطبيعية لما بين الإنسان والحيوان من فروق في التشريح. وقصارى القول أن تاريخ الحيوان في مجموعه هو خير مؤلفات أرسطوطاليس على الإطلاق، وأنه أعظم ما أثمره العلم في بلاد اليونان أثناء القرن الرابع. وقد لبث علم الأحياء عشرين قرناً ينتظر ظهور مؤلف يضارعه.
3- الفيلسوف
إذا ما انتقل أرسطوطاليس إلى دراسة الإنسان نفسه أصبح ميتافيزيقياً أكثر منه عالماً طبيعياً. ولسنا ندري هل منشأ هذا التحول هو تقواه الشديدة أو احترامه لآراء بني الإنسان. وهو يعرف النفس (Psyche) أو العنصر الحيوي بأنه "الدافع الداخلي الأول في الكائن العضوي" أي الصورة الفطرية المقدرة لهذا الكائن والتي تدفع نماءه وتحدد اتجاهه. وليست النفس شيئاً يأتي إلى الجسم من خارجه أو يسكن فيه بل هي موجودة معه في كل جزء من أجزائه، أي أنها هي الجسم نفسه من حيث "قدرته على تغذية نفسه وتنميته وانحلاله"؛ فهي جماع وظائف الكائن العضوي، وهي للجسم كقوة الإبصار للعين. بيد أن هذه الناحية الوظيفية ناحية أساسية، فالوظائف هي التي توجد التراكيب والرغبات هي التي تشكل الأعضاء، والنفس هي التي تكون الجسم: "فالأجسام الطبيعية كلها أعضاء للنفس ".
والنفس ثلاث درجات: نامية، وحاسة، وناطقة. فالنبات يشترك مع الإنسان والحيوان في النفس النامية- أي في قدرته على تغذية نفسه وعلى النماء الداخلي، وللحيوان والإنسان فضلاً عن هذه النفس نفس حاسة- أي قدرة الإحساس، وللحيوانات الراقية والإنسان نفس "منفعلة عاقلة"- أي قدرة على الأشكال البسيطة البدائية من الذكاء، والإنسان وحده هو الذي له نفس "فاعلة عاقلة"- أي قدرة على التعميم والابتكار. وهذه النفس الأخيرة جزء أو انبعاث من قوة الكون الخالقة العاقلة وهي الله، وهي بهذا الوصف لا تموت. ولكن هذا الخلود غير شخصي، أي أن الذي يبقى هو القوة لا الشخصية؛ والفرد مركب فد فان من المواهب النامية والحاسة والعاقلة؛ وهو لا يصل إلى الخلود إلا نسبياً؛ وذلك عن طريق التوالد، وبطريقة غير شخصية عن طريق الموت . والله هو "صورة" العالم أو "حقيقته الفعلية Entelechy"- طبيعته الفطرية، ووظائفه، وأغراضه كما أن الروح هي "صورة" الجسم.
والعلل كلها ترتد آخر الأمر إلى العلة الأولى التي لا علة لها ، كما تُرد كل الحركات إلى المحرك الأول الذي لا محرك له؛ ولا بد لنا أن نفترض وجود أصل أو مبدأ لما في العالم من حركة أو قوة، وهذا الأصل هو الله. وكما أن الله هو جماع الحركة كلها ومصدرها، فهو كذلك جماع كل غايات الطبيعة وهدفها، فهو العلة الآخرة والأولى. وإنا لنرى الأشياء في كل مكان تتحرك نحو غايات معينة: فالأسنان الأمامية تنمو حادة لتقطع الطعام، والأضراس تنمو مستوية لتطحنه، والجفن يطرف ليقي العين، والحدقة تتسع في الظلام لتدخل قدراً كبيراً من الضوء، والشجرة تمد جذورها في الأرض، وغصونها نحو الشمس. وكما أن الشجرة تجذبها طبيعتها الفطرية وقوتها وأغراضها نحو الضوء، فكذلك العالم ينجذب بطبيعته الفطرية وقوته وأغراضه وهذه كلها هي الله. وليس الله هو خالق العالم المادي، ولكنه صورته المنشطة، وهو لا يحركه من خلفه ولكنه هو الموجه له من الداخل أو هدفه، يحركه كما يحرك الحب الحبيب، ويقول أرسطو أخيراً إن الله فكر خالص، وروح عاقل، يتبدى في الصور السرمدية التي تكون جوهر العالم والله في وقت واحد.
وغاية الفن، كفاية الميتافيزيقيا، هي القبض على الصورة الجوهرية للأشياء، وهو تقليد أو تمثيل للحياة، ولكنه ليس نسخة آلية لها؛ والذي تقلده هو روح المادة لا جسم المادة ولا المادة نفسها؛ وعن طريق هذه البصيرة أو عكس هذا الجوهر كما تعكس المرآة الجسم قد يبدو الشيء القبيح جميلا. والجمال هو الوحدة، هو تعاون الأجزاء وتماثلها في الكل. وتكون هذه الوحدة في المسرحية وحدة العمل قبل كل شيء؛ ولذلك يجب أن يكون أعظم ما تهتم بهِ المسرحية عملاً واحداً، وأن يكون الغرض الوحيد مما فيها من أعمال أخرى هو أن ترقى بهذه القصة الرئيسية أو توضحها. وإذا أريد أن يكون العمل الفني غاية في الروعة والجودة وجب أن يكون موضوعه متسماً بالنبل أو البطولة.
ويقول أرسطو في تفسيره الشهير للمأساة: "المأساة تمثيل موضوع في البطولة، كامل متسع إلى حد ما، بلغة تزدان بكل أنواع المحسنات... فهي تمثل رجالاً يعملون ولا تعمد إلى القصص، ثم تستعين بالرحمة والخوف لتخفف من واقع هذه العواطف وغيرها". والمأساة تستثير أعمق عواطفنا ثم تهدئها بخاتمتها المسكنة. ويذلك تعرض علينا تعبيراً عن العواطف لا ضرر فيه ولكنه ينفذ إلى أعماق النفس، ولولا هذا التعبير لتجمعت العواطف فصارت عُصَاباً أو عنفاً. فهي تظهر لنا من الآلام والأحزان ما هو أكثر رهبة من آلامنا وأحزاننا، وتعيدنا إلى بيوتنا مبرئين مطهرين. وقصارى القول أن ثمة لذة في تأمل عمل من أعمال الفن الحقيقية. ومن الشواهد الدالة على رقي الحضارة أن تقدم للروح أعمالاً خليقة بهذا التأمل. ذلك بأن "الطبيعة لا تطلب إلينا أن نشغل أوقاتنا بالأعمال الطيبة فحسب بل تتطلب فوق ذلك أن نكون قادرين على أن نستمتع بفراغنا بأشراف الوسائل(193)". فما هي الحياة الطيبة إذن يجيب أرسطو عن هذا السؤال ببساطة وصراحة فيقول إنه الحياة السعيدة؛ وهو لا يريد أن يبحث في كتاب الأخلاق (كما يبحث أفلاطون) كيف يجعل الناس أخياراً، بل يريد أن يبحث كيف يجعلهم سعداء! وهو يرى أن غير السعادة من الأغراض لا يسعى إليها لذاتها بل هي وسيلة لغاية، أما السعادة فهي وحدها التي تُبتغى لذاتها. وثمة بعض أشياء لا بد منها للحصول على السعادة الباقية وهي: المولد الطيب، والصحة الجيدة، والوجه الجميل، والحظ الطيب، والسمعة الحسنة، والأصدقاء الأوفياء، والمال الوفير، والصلاح. "وليس في وسع إنسان أن يكون سعيداً إذا كان دميم الخلقة" "أما الذين يقولون إن الذي يعذب على العذراء، أو تحل به كارثة شديدة، يكون سعيداً بشرط أن يكون صالحاً فقولهم هراء". وينقل أرسطو بصراحة يندر وجودها في الفلاسفة، جواب سمنيدس لزوجة هيرن إذ سألته أيهما أفضل الحكمة أو الغنى فقال: "الغنى، لأنا نرى الحكماء يقضون أوقاتهم على أبواب الأغنياء". لكن الثروة وسيلة لا أكثر، فهي في حد ذاتها لا ترضي غير البخيل؛ وإذ كانت الثروة نسبية فإنها لا ترضي إنساناً زمناً طويلاً. وسر السعادة هو العمل، أي بذل الجهد بطريقة تتفق مع طبيعة الإنسان ظروفه. والفضيلة حكمة عملية، وهي تقدير الإنسان بعقلهِ لما فيه من خير، وهي في العادة وسط بين نقيضين؛ والإنسان في حاجة إلى الذكاء لمعرفة هذا الوسط، وإلى ضبط النفس )إنكراتيا enkratia أو القوة الداخلية( لممارستها. ويقول أرسطو في جملة من جملهِ النموذجية إن "الذي يغضب مما وممن ينبغي أن يغضب منه، ويغضب فوق ذلك بالطريقة الحقة وفي الوقت المناسب للغضب، ويطول غضبه الزمن الملائم، إن هذا الرجل خليق بالثناء. وليست الفضيلة عملاً، بل هي تعود عمل الصواب، ولا بد أن تفرض في أول الأمر بالتدريب والتهذيب، لأن الشبان لا يستطيعون أن يحطموا في مثل هذه الأمور حكماً صادقاً حكيماً، فإذا مضى بعض الوقت فإن ما كان من قبل نتيجة الإرغام يصبح عادة أي "طبيعة ثانية"، ويكاد يبعث من اللذة ما تبعثه الشهوة.
ويختم أرسطو هذا البحث خاتمة تناقض أشد التناقض ما بدأه به وهو قوله إن السعادة في العمل، وإن أحسن حياة هي حياة الفكر. ذلك أن الفكر في رأيه هو الدليل على ما انفرد به الإنسان من تفوق وامتياز، وأن " العمل الخليق بالإنسان هو أن تعمل نفسه بالاتفاق مع عقله ". وأسعد الناس حظاً هو الذي يجمع بين قدر من الرخاء وقدر من العلم، أو البحث أو التفكير، فهذا الرجل هو أقرب الناس إلى الآلهة. "والذين يرغبون في اللذة المستقلة يجب أن يطلبوها في الفلسفة، لأن غيرها من اللذات يحتاج إلى معونة الإنسان".
4- السياسي
ويرى أرسطو أن علم السياسة هو علم السعادة الجماعية كما أن علم الأخلاق هو علم السعادة الفردية، وأن وظيفة الدولة هي أن تقيم مجتمعاً يحقق أعظم سعادة لأكبر عدد "والدولة هي مجموعة من المواطنين ذات عدد كاف لتحقيق جميع أغراض الحياة، وهي نتاج طبيعي، لأن "الإنسان بطبيعته حيوان سياسي"، أي أن غرائزه تؤدي به إلى الاجتماع مع غيره. "والدولة سابقة بطبيعتها على الأسرة، وعلى الفرد": ذلك أن الإنسان كما نعرفه يولد في مجتمع منظم من قبل يشكله في صورته.
وبعد أن درس أرسطو مع طلابه 158 دستوراً يونانياً ، قسم هذا الدساتير ثلاثة أنواع مختلفة: ملكية، وأرستقراطية، وتمقراطية، أي حكم أصحاب السلطان، وأصحاب المولد الشريف، والنبهاء. وكل نوع من هذه الأنواع قد يكون صالحاً حسب زمانه ومكانه وظروفه. وتقول إحدى الجمل التي يجب على كل أمريكي أن يحفظها عن ظهر قلب "إن نوعاً من أنواع الحكم قد يكون أحسن من غيره من الأنواع ولكن ليس ثمة ما يمنع أن يكون نوع آخر خيراً منه في ظروف خاصة". وكل حكم حسن إذا كانت السلطة الحاكمة تعمل لمصلحة الناس جميعاً لا لمصلحتها الخاصة، فإذا لم تفعل هذا فكل حكم سيء. ومن ثم كان لكل نوع من أنواع الحكم الصالح شبيه فاسد حين يكون حكماً لمصلحة الحاكمين لا لمصلحة المحكومين؛ ففي هذه الحال تنحط الملكية فتصير استبداداً، والأرستقراطية فتصبح ألجركية، والتمقراطية فتكون دمقراطية أي حكم العامة. فإذا كان الحاكم المفرد صالحاً وقديراً كانت الملكية خير أشكال الحكم، أما إذا كان أتقراطياً أنانياً كان حكمه استبداداً ظالماً، وهو شر أنواع الحكم. وقد تصلح الحكومة الأرستقراطية إلى حين ولكن الأشراف )الأرستقراط( الذين يتولون أمورها ينزعون إلى الاضمحلال والانحطاط. "ويندر أن نجد شخصاً نبيل الخُلق بين الأشراف بمولدهم بل إن معظمهم لا يصلحون لشيء على الإطلاق... فالأسر ذوات المواهب العالية كثيراً ما تنحط فيكون أبناؤها من المجانين، ومن أمثلة ذلك أبناء ألقبيادس ودنيسوس الأكبر، أما المتوسطون منهم فكثيراً ما يكونون حمقى أو أغنياء كأبناء سيمون، وبركليز، وسقراط". وإذا ما انحطت الأرستقراطية حلت محلها في العادة حكومة ألجركية من أصحاب المال أي حكومة ذوي الثراء. وهذه خير من طغيان الملك أو طغيان الغوغاء، ولكنها تضع السلطة في أيدي رجال لا تتسع نفوسهم لأكبر من ذلك العمل الصغير وهو حساب تجارتهم، أو ذلك العمل الإجرامي الدنيء وهو أكل الربا، وقد ينتهي أمرهم إلى استغلال الفقراء بلا وازع من ضمير.
والدمقراطية- وهو يعني بها حكومة العامة من المواطنين demos لا تقل خطورة عن الألجركية لأنها تعتمد على انتصار الفقراء القصير على الأغنياء في كفاحهما من أجل السلطة؛ ونتيجتها هي الفوضى المؤدية إلى القضاء عليهما معاً. وخير ما تكون الديمقراطية حين يسيطر عليها الملاك الزراعيون، وأسوأ ما تكون حين يسيطر عليها رعاع المدن من الصناع والتجار. نعم إن "حكم الكثرة يكون في كثير من الحالات خيراً من حكم الفرد، لأنها لكثرة أفرادها أبعد عن الفساد والرشوة بعد الماء الكثير من التلوث". ولكن الحكم يتطلب كفاية خاصة ودراية خاصة و "ليس في مقدور من يعيش عيشة الصانع البسيط أو الخادم الأجير أن يحصل على التفوق المطلوب"، )أي على الخلق الطيب والتدريب، وصحة الحكم على الأمور(. وقد خلق الناس كلهم غير متساوين. نعم إن "العدل في المساواة؛ ولكن هذا لا يكون إلا بين الأكفاء". ولا يقل استعداد الطبقات العليا لإثارة الفتن إذا فرضت عليهم مساواة غير طبيعة عن استعداد الطبقات الدنيا للتمرد إذ بلغ عدم المساواة درجة من التطرف غير طبيعية . وإذا ما سيطرت الطبقات الدنيا على الدمقراطية فرضت الضرائب على الأغنياء لتوفر المال للفقراء؛ "فإذا أخذه الفقراء شرعوا يستزيدون منه، وما أشبه هذه الحال بصب الماء في المنخل". ومع هذا فإن الرجل المحافظ الحكيم لن يترك الناس يموتون جوعاً، "يجب على الوطني الحق في الحكومة الديمقراطية أن يحذر من أن تكون أغلبية الشعب في فقر مدقع...، وعليه أن يبذل جهده في أن يوفر لها الخير على الدوام؛ وإذا كان الأغنياء يستفيدون أيضاً من هذا، فإن من الواجب أن يقسم ما يمكن ادخاره من الأموال العامة بين الفقراء بحيث يكفي نصيب كل منهم لأن يبتاع به حقلاً"(218).
وهكذا يرد أرسطو للأغنياء ما كان يعدل ما أخذه منهم، وبعد أن يفعل هذا يعرض توصيات متواضعة لا يقصد بها أن يقيم مدينة فاضلة، بل يهدف إلى إقامة مجتمع خير من المجتمع القائم في زمانه إلى حد ما. ثم ينتقل بعد هذا للبحث عن أصلح نوع من أنواع الحكم وأحسن أسلوب من أساليب الحياة يوائم المجتمعات بوجه عام.
ولسنا نريد أن يكون هذا الحكم وذلك الأسلوب مما يتفق مع تلك الفضيلة السامية البعيدة عن متناول العامة، أو مع تلك التربية التي لا ينالها إلا من هيأت له الطبيعة والحظ جميع الفرص الطيبة، أو مع تلك الخطط الخالية التي يضعها الناس في أوقات لهوهم ومرحهم؛ بل نريد أن يتفقا مع أسلوب الحياة الذي تستطيع كثرة الجنس البشري أن تصل إليه، ومع نظام الحكم الذي تستطيع معظم المدن أن تقيمه... ومن أراد أن يقيم حكومة على أساس شيوعية السلع فليرجع إلى تجارب كثير من السنين؛ فإذا فعل فسيتضح له هل هذا نظام نافع أو غير نافع؛ ذلك أن الأشياء كلها تقريباً قد عُرفت ولم يبق مجهولاً إلا القليل... إن الشيء الذي يشترك فيه كثيرون لا يعني به إلا أقل عناية؛ ذلك بأن الناس يوجهون من العناية إلى ما يملكونه لأنفسهم أكثر مما يوجهون إلى ما يشاركهم فيه غيرهم... ولابد لنا أن نبدأ بحثنا بافتراض مبدأ عام وهو أن ذلك الجزء من الدولة الذي يرغب في بقاء الدستور الجديد يجب أن يكون أقوى من ذلك الجزء الذي لا يرغب في بقائه... ويتضح من هذا أن أحسن الدول نظاماً هي التي تكون الطبقات الوسطى فيها أكبر عدداً وأعظم قوة من الأغنياء أو الفقراء... وفي جميع الحالات التي قل فيها عدد أفراد الطبقة الوسطى عن الحد الواجب تغلبت عليها الطبقة التي تفوقها في العدد، سواء أكانت طبقة الأغنياء أم طبقة الفقراء، وتولت بنفسها تصريف الشؤون العامة...، وإذا ما سيطر الأغنياء على الفقراء، أو الفقراء على الأغنياء؛ لم تستطع هذه الطبقة أو تلك أن تقيم دولة حرة(223).
ويقترح أرسطو وضع "دستور مختلط" أو إقامة حكم "تمقراطي"، وهو خليط من الأرستقراطية والدمقراطية، ليمنع به هذه الدكتاتوريات المقيدة للحرية سواء أكانت دكتاتورية الأغنياء أم الفقراء. وهو يريد أن يكون حق الانتخاب في هذا النظام مقصوراً على ملاك الأراضي، وأن تكون فيه طبقة وسطى قوية هي مصدر السلطة وقطب دائرتها، "ويجب أن تقسم الأرض قسمين، أحدهما يملكه المجتمع بوجه عام، والآخر يملكه الأفراد متفرقين". ولا بد أن يكون كل مواطن من الملاك، ويجب "أن يطعموا على الموائد العامة جماعات"، وهؤلاء وحدهم هم الذين يقترعون أو يحملون السلاح. وسيكون هؤلاء أقلية صغيرة من السكان، لا تزيد علة عشرة آلاف. "ويجب ألا يسمح لواحد منهم أن يشتغل بمهنة آلية أو يكسب عيشه من طريق التجارة، لأن هاتين المهنتين غير شريفتين، وتقضيان على التفوق". كذلك يجب أل يفلحوا الأرض؛... بل ينبغي "أن يكون الفلاحون طبقة من الشعب قائمة بنفسها"- ولعله يريد أن تكون من الأرقاء. ويختار المواطنون الموظفين العموميين ويحاسبون كلا منهم على أعماله في نهاية المدة التي يتولى فيها منصبه. ويجب أن تحدد القوانين الموضوعة وفقاً لنظام قويم ما يصدر من الأحكام في جميع القضايا بقدر المستطاع بحيث لا يترك إلا أقل عدد مستطاع منها لتصرف القضاة... " ذلك أن " حكم القانون خير من حكم الفرد...، وأن من يعهد بالسلطة العليا لإنسان أياً كان إنما يعهد بها إلى وحش من الوحوش، لأن شهواته تجعله في بعض الأحيان وحشاً. وللعواطف أثر كبير فيمن يتولون السلطة، ولو كانوا هم خير من يتولاها، أما القانون فهو العقل مجرداً عن الشهوة. والدولة المقامة على هذا النظام تتولى تنظيم الملكية، والصناعة، والزواج، والأسرة، والتعليم، والأخلاق، والموسيقى، والأدب، والفن. "وأحق من هذا كله بالعناية ألا يتجاوز عدد الناس حداً معيناً... لأن إهمال هذا الواجب يؤدي إلى افتقار المواطنين؛ ويجب ألا يُسمح بتربية أبناء مشوهين عاجزين"، ومن هذه الأسس تتفتح أزهار الحضارة والطمأنينة. "وإذ كان الذكاء أعظم الفضائل، فإن أهم ما يجب على الدولة ليس هو إعداد المواطنين للتفوق الحربي، بل هو تعليمهم كيف يستفيدون من السلم الاستفادة الصحيحة".
وبعد فليس من الضروري أن ننصب أنفسنا حكاماً على أعمال أرطوطاليس. وحسبنا أن نقول إنا نعرف أحداً من الناس قبله قد شاد مثل هذا الصرح الرائع من التفكير. وحين يمتد نشاط الإنسان الذهبي إلى ميادين واسعة، فإن من حقه علينا أن نعفو عن كثير من زلاته، إذا ما وسعت نتائج بحوثه إدراكنا للحياة. وإن أخطاء أرسطو- أو أخطاء المجلدات التي نعدها بالحق أو الباطل ثمار قلمه- لتبلغ من الوضوح حداً لا نحتاج معه إلى إيرادها مفصلة. فهو رجل منطق، ولكن هذا لا يمنعه أن يقع في كثير من الأغلاط المنطقية؛ وهو يضع قواعد البلاغة والشعر، ولكن كتبه أيكة مشتبكة الأغصان من سوء النظام، أوراقها المتربة نفثةٌ من ريح الخيال. بيد أننا إذا ما توغلنا في هذه الأيكة، التقينا فيها بكنز من الحكمة والنشاط العقلي الذي شق طرقاً كثيرة في ميدان العقل.
وليس في وسعنا أن نقول إنه قد علم الأحياء، أو تاريخ النظم الدستورية، أو النقد الأدبي- إذ ليس في العالم قط بدايات- ولكن هذه الموضوعات كلها قد أفادت منه أكثر مما أفادته من أي رجل نعرفه من الأقدمين. والعلوم الطبيعية والفلسفة مدينة له بالعدد الجم من المصطلحات التي يسرت في صورتها اللاتينية تبادل الأفكار... منها: المبدأ، والنهاية، والموهبة، والوسط، والصنف، والطاقة، والباعث، والعادة، والغاية، principle, maxim, faculty, means, catxegory, energy, motive, habit, end. ولقد كان كما سماه بيتر Pater "أول المدرسيين(230)"
وكانت سيطرته الطويلة على الأساليب والبحوث والفلسفة مما يوحي بخصب تفكيره، ونفاذ بصيرته. وإن كتابيه في الأخلاق والسياسة ليفوقان أمثالهما كلها في الشهرة وعميق التأثير حتى أيامنا هذه، وإذا ما أنقصنا من تقديرنا له كل ما فيه من عيوب، فإنه يبقى بعدها "سيد العارفين". وذلك دليل مشجع على ما يمتاز به العقل البشري من مدى واسع مرن، وهو إلهام مطمئن إلى الذين يكدحون في سبيل جمع معلومات الناس المتفرقة وتنسيقها وفهمها.