قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 4 ب 19
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> اضمحلال الحرية اليونانية وسقوطها -> فليب -> إمبراطورية إسبارطة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المجلد الثاني: حياة اليونان - الكِتابُ الرّابع: اضمحلال الحرية اليونانية وسقوطها من 399 إلى 322 ق.م.
الباب التاسع عشر: فليب
الفصل الأول: إمبراطورية إسبارطة
بسطت إسبارطة الآن سيادتها البحرية على بلاد اليونان، ودامت لها هذه السيادة فترة قصيرة من الزمان مثلت في التاريخ مرة أخرى مأساة من مآسي النجاح يذل صاحبَه الكبرياء. فهي لم تمنح المدن التي كانت من قبل خاضعة لأثينة ما وعدتها به من حرية، بل فرضت عليها بدلاً من هذا جزية سنوية مقدارها ألف وزنة (000ر000ر6 ريال أمريكي)، وأقامت في كل منها حكماً أرستقراطياً يشرف عليه حاكم لسدموني تؤيده حامية إسبرطية. ولم تكن هذه الحكومات مسئولة إلا أمام الحكام الإسبارطيين البعيدين عنها، فأوغلت في الفساد والظلم إيغالاً لم يلبث أن أوغر الصدور على الحكومة الجديدة أكثر مما كانت موغرة على الحكومة القديمة.
وفي إسبارطة نفسها كان سيل من المال والهدايا المنهمر من المدائن الخاضعة لاستبدادها والألجركيين الأذلاء سبباً في تقوية العوامل الداخلية التي كانت تدفع المدينة دفعاً إلى الانهيار. فلم يستهل القرن الرابع حتى تعلمت الطبقة الحاكمة كيف تجمع بين الترف في الحياة الخاصة والبساطة في الحياة العامة، وحتى الحكام أنفسهم لم يعودوا يتأدبون بأدب ليتورغ إلا في المظهر الخارجي دون غيره. وانتقل الكثير من الأراضي عن طريق البائنات والوصايا إلى النساء؛ وهذه الثروة المكدسة جعلت النساء الإسبارطيات - وهن اللائي لم يكنَّ يتحملنَّ عبء تربية الذكور من الأبناء - يحيين حياة مريحة متحللة من القيود الأخلاقية لا توائم الأنوثة بحال من الأحوال. هذا إلى أن ما تعاقب على بعض الضياع من تقسيم في إثر تقسيم قد أفقر بعض الأسر فقراً عجزت معه عن تقديم نصيبها من الطعام العام، ففقدت بذلك ما كان لها من حقوق المواطنية، على حين أن تضخم بعض الثروات الأخرى عن طريق الزواج والوصايا قد أوجد لدى العدد القليل من "الأنداد" الباقين ثروات كبيرة مركزة أثارت الغيرة والحسد في القلوب . وفي ذلك يقول أرسطوطاليس: "من الإسبارطيين من يمتلك ضياعاً واسعة، ومنهم من لا يكادون يمتلكون شيئاً على الإطلاق، فالأرض بأجمعها في أيدي عدد قليل منهم"(3). وتكون من الطبقات العليا التي فقدت حقوقها السياسية ومن اليريسيين المحرومين من هذه الحقوق، والهيلوتيين الحانقين، مجموعة من الأهلين يضطرب في نفوسها من القلق والعداء ما لا يسمح للحكومة أن تقدم على شئ من المغامرات العسكرية الخارجية التي يتطلبها الحكم الإمبراطوري إقداماً يشغلها زمناً طويلاً في أماكن واسعة.
وكانت الحرب الأهلية القائمة في بلاد الفرس وقتئذ تشكل مصائر بلاد اليونان؛ فقد ثار قورش الأصغر في عام 401 على أخيه أرتخشتر الثاني، واستعان عليه بإسبارطة، وجند جيشاً من آلاف اليونان وغيرهم من الجنود المرتزقة الذين أصبحوا ولا عمل لهم في آسية على أثر انتهاء حرب البلوبونيز الفجائي. والتقى الأخوان المتقاتلان في كونكسا بين دجلة والفرات وقرب ملتقاهما. وهزم قورش في هذه الواقعة وقُتل وأسر جيشه كله أو أبيد عدا فرقة مؤلفة من اثني عشر ألفاً من اليونان استعانوا بسرعة بديهتهم وإقدامهم على الهرب إلى داخل بلاد بابل. وطاردتهم قوات الملك فاختاروا على طريقتهم الدمقراطية الساذجة ثلاثة قواد يهدونهم سبيل السلامة. وكان من بين هؤلاء القواد أكسانوفون الذي كان في يوم من الأيام تلميذاً لسقراط، والذي كان وقتئذ جندياً شاباً مغامراً، قدر له أن يُخلَّد اسمه على الأخص بمؤلَّفه المعروف بالأناباسيس Anabasis أو الصعود الذي وصف فيه وصفاً بسيطاً رائعاً "ارتداد العشرة آلاف" الطويل متتبعين مجرى نهر الفرات نحو منبعه وفوق تلال كردستان وأرمينية إلى البحر الأسود. وكان هذا الارتداد من أعظم المغامرات في تاريخ البشر. وإنا لتدهشنا أشد الدهشة بسالة هؤلاء اليونان وهم يشقون طريقهم سيراً على أقدامهم يوماً بعد يوم خمسة شهور كاملة، قطعوا في أثنائها ألفي ميل كاملة في بلاد معادية لهم، واجتازوا سهولاً قائظة لا يجدون فيها طعاماً، وطرقاً وعرة خطرة فوق الجبال تتراكم فيها الثلوج إلى عمق ثمان أقدام، يتعرضون فيها لهجمات الجيوش والعصابات المسلحة من خلفهم وأمامهم، وعن أيمانهم وشمائلهم، ولا يترك أهل البلاد وسيلة إلا اتبعوها لقتلهم أو إضلالهم أو سد الطريق في وجههم. ونحن حين نقرأ هذه القصة الرائعة، التي شوهها في شبابنا إرغامنا على ترجمتها، ندرك أن أهم سلاح تحتاجه الجيوش هو سلاح الطعام، وأن مهارة القائد في تدبير المؤن لجيشه لا تقل أهمية عن مهارته في تدبير الفوز في المعركة. وقد هلك من هؤلاء اليونان من التعرض للعوامل الجوية أكثر ممن هلك منهم في الوقائع الحربية، وإن كانت هذه الوقائع لم تنقطع يوماً واحداً. ولما أن وقعت عيون الباقين منهم أحياء، وكانت عدتهم 600ر8، على بحر اليوكسين عند تربيزي (طربزون) غمرت قلوبهم موجة من السرور:
"ولم تكد مقدمتهم تصل إلى قمة الجبل حتى علت في الجو صيحة شديدة، سمعها أكسانوفون ومَن في المؤخرة فخيل إليهم أن أعداء آخرين يهاجمون المقدمة - لأن الأعداء كانوا يقتفون آثارهم من خلفهم...فاستحثوا الخطى إلى الأمام ليساعدوا رفاقهم، وسرعان ما سمعوا الجنود يصيحون "البحر! البحر!" والصيحة تنتقل من صف إلى صف. وحينئذ هرول جنود المؤخرة جميعهم، وأخذت دواب الحمل تتسابق إلى الأمام...ولما صعدوا جميعاً إلى قمة الجبل أخذ كل منهم يعانق زميله، لا فرق بين الجنود والضباط والقواد، والدموع تترقرق في أعينهم من فرط السرور"(4).
ذلك أن هذا البحر بحر يوناني وأن مدينة ترابيزي مدينة يونانية، فهاهم أولاء قد وصلوا سالمين، وفي وسعهم أن يستريحوا ولا يخشوا أن يفاجئهم الموت في سكون الليل. وترددت أصداء جهودهم المضنية في طول بلاد هلاس القديمة وعرضها، وشجعت فليب بعد مائتي عام من ذلك الوقت على الاعتقاد بأن قوة يونانية حسنة التدريب خليقة بأن يركن إليها في هزيمة جيش فارسي يفوقها في العدد أضعافاً مضاعفة. وهكذا مهد أكسانوفون على غير علم منه السبيل إلى الإسكندر.
ولعل أجسلوس الذي اعتلى عرش إسبارطة في عام 399 قد شعر بهذا الأثر. فلقد كان في الاستطاعة إقناع بلاد الفرس أن تغفر لإسبارطة إقدامها على معونة قورش، لكن هذا الملك، وهو أقدر ملوك إسبارطة على الإطلاق، لم يكن ينظر إلى حرب الفرس أكثر من نظرته إلى مغامرة ممتعة، ولذلك سار على رأس قوة صغيرة ليحرر جميع بلاد آسية اليونانية من حكمهم . ولما علم أرتخشتر الثاني أن أجسلوس لم يكن يلقى عناء في تشتيت شمل جميع الجيوش الفارسية التي أرسلت لصده، بعث الرسل يحملون كميات كبيرة من الذهب إلى أثينة وطيبة ليرشوا بها هاتين المدينتين كي تعلنا الحرب على إسبارطة(6). وسرعان ما أفلح هؤلاء الرسل في مهمتهم، وتجددت الحرب بين إسبارطة وأثينة بعد أن دام السلم بينهما تسعة أعوام. واستُدعي أجسلوس من آسية ليواجه جيوش أثينة وطيبة مجتمعة عند كرونيا. واستطاع أن يهزمها بشق الأنفس؛ ولكن أسطولي أثينة وفارس مجتمعين بقيادة كونون Conon دمرا الأسطول الإسبارطي قرب نيدس بعد شهر واحد من ذلك الوقت وقضيا بذلك على ما كان لإسبارطة من سيادة بحرية قصيرة الأجل. وابتهجت أثينة بهذا النصر المؤزر وأخذت تعمل بجد مستعينة بما أمدتها به فارس من المال لإعادة بناء أسوارها الطويلة. ودافعت إسبارطة عن نفسها بأن أرسلت رسولاً يدعى أنتلسداس Antalcidas إلى الملك العظيم يعرض عليه أن تسلمه المدن اليونانية في آسية ليحكمها الفرس إذا فرضت فارس على مدن اليونان الأصلية صلحاً يحمي إسبارطة من العدوان. ووافق الملك العظيم على هذا الشرط، وامتنع عن مساعدة أثينة وطيبة بالمال، وأرغم المتنازعين جميعاً على أن يوقعوا في سرديس (387) "صلح أنتلسداس" أو "صلح الملك"، وأعطيت بمقتضى هذا الصلح لمنوس، وأميروس، وسيروس إلى أثينة، وضمن الاستقلال للدول اليونانية الكبرى؛ ولكنه أعلن أن جميع المدائن اليونانية في آسية، وجزيرة قبرص، قد أضحت ملكاً للملك العظيم. ووقعت أثينة على شروط الصلح بعد أن احتجت عليها لعلمها أن هذه كانت أكثر الحوادث إذلالاً لها في تاريخ اليونان كله. وهكذا ضاعت ثمار نصر مرثون كلها، وظلت أثينة ضائعة جيلاً كاملاً، وبقيت دول اليونان الأصلية حرة بالاسم، أما في واقع الأمر فقد ابتلعتها قوة الفرس. ونظرت بلاد اليونان بأجمعها إلى إسبارطة نظرتها إلى الخائن الغادر، وأخذت تنتظر على أحر من الجمر أن تقوم أمة من الأمم تهلكها وتدمرها.
الفصل الثاني: إباميننداس
وكأنما أرادت إسبارطة أن تقوي هذا الحقد في صدور الدول اليونانية الأخرى، فادعت لنفسها حق تفسير شروط "صلح الملك" وإرغام هذه الدول على الخضوع لها. وأرادت أن تضعف قوة طيبة فأصرت على أن الحلف البؤوتي لا يتفق مع الشرط القاضي باستقلال الدول اليونانية الكبرى وحتمت حله. وتذرعت إسبارطة بهذه الحجة فأقامت في كثير من المدن البؤوتية حكومات ألجركية موالية لها، تؤيدها في كثير من الحالات حاميات إسبارطية، ولما احتجت طيبة على هذا العمل استولت قوة لسديمونية على كدميا Cadmeia معقلها الحصين، وأقامت فيها حكومة ألجركية خاضعة لسيطرة إسبارطة. وأثارت هذه الأزمة في نفس طيبة بطولة لا عهد لها بها، فاغتال بلبداس Plopidas وستة من رفاقه طغاة طيبة الأربعة صنائع إسبارطة، وأعادوا إلى المدينة حريتها واستقلالها. وأعيد تنظيم الحلف واختير بلبداس زعيماً له. واستدعى بلبداس لمعونته صديقه وحبيبه إباميننداس، فدرب الجيش الذي أعاد إسبارطة إلى عزلتها القديمة، وقاده بنفسه في المعارك التي انتهت بهذه النتيجة. وكان إباميننداس من أسرة عريقة أخنى عليها الدهر، تفخر بأن ترجع بأصولها إلى أنياب الهولة التي زرعها كدمس قبل مولده بألف عام. وكان رجلاً هادئاً قيل عنه إنه ليس بين الناس من هو أقل منه كلاماً أو أكثر منه معرفة(7)؛ وقد حببه إلى أهل طيبة، على الرغم من النظام العسكري الذي أخذهم به، تواضعه واستقامته، وحياته التي لا تكاد تفترق في شيء عن حياة الزهاد، وإخلاصه لأصدقائه، وسداد رأيه إذا استنصح، وشجاعته المصحوبة بالتؤدة وضبط النفس وقت العمل. ولم يكن يحب الحرب ولكنه كان يعتقد أنه لا توجد أمة على ظهر الأرض تستطيع الاحتفاظ بحريتها إذا فقدت روحها وعاداتها الحربية. ولما اختير المرة بعد المرة رئيساً للحلف البؤوتي حذر الذين أرادوا أن يعطوه أصواتهم بقوله: "فكروا في الأمر مرة أخرى لأنني إذا وليتموني قيادتكم سأضطركم إلى الخدمة في جيشي"(8). ودرب الطيبيون المتراخون تحت قيادته حتى صاروا جنوداً بواسل، وحتى العشاق اليونان الذين كثر عددهم في المدينة ألّف منهم بلبداس "عصبة مقدسة" تبلغ عدتها ثلاثمائة من المحاربين قطع كل منهم على نفسه عهداً بأن يقف في المعركة إلى جانب صديقه حتى يموت.
ولما غزا بؤوتية جيش إسبارطي عدته عشرة آلاف جندي يقوده الملك كليمبروتس، التقى به إباميننداس عند لكترا بالقرب من بلاتية ومعه ستة آلاف رجل وانتصر عليه نصراً كان له أعظم الأثر في تاريخ اليونان كله وفي أساليب أوربا العسكرية. وكان هو أول يوناني وجه عنايته إلى دراسة الحركات العسكرية، وكان يقدر على الدوام أنه سيواجه في كل معركة عدواً يفوقه في عدد الرجال، فكان يركز نخبة مقاتليه ليهاجم به أحد جناحي العدو، ثم يأمر بقية الجيش أن تلتزم خطة الدفاع؛ فإذا تقدم العدو في القلب أمكن تشتيت شمله بهجوم على جناحه الأيسر. ولما تم له النصر في واقعة لكترا زحف هو وبلبداس إلى البلوبونيز وحررا مسينيا من تبعيتها لإسبارطة التي دامت قرناً من الزمن، وأسسا مدينة مغالوبوليس لتكون معقلاً لجميع الأركاديين. ونزل الجيش الطيبي إلى ليكونيا نفسها؛ وتلك حادثة لم يكن لها مثيل منذ مئات من السنين. ولم تستفق إسبارطة قط مما لحق بها من الخسارة في هذه الحرب: "فلم تستطع" على حد قول أرسطاطاليس "أن تفيق من هزيمة واحدة، وقضى عليها قلة عدد مواطنيها"(9).
ولما أقبل فصل الشتاء انسحب الطيبيون إلى بؤوتية. واغتر إباميننداس بالنصر كما كان يغتر به سائر قواد اليونان المنتصرين، فبدأ يفكر في إنشاء إمبراطورية طيبية تحل محل الوحدة التي أفاءتها زعامة أثينة أو إسبارطة من قبل على بلاد اليونان، وقد جرته هذه الخطة إلى محاربة الأثينيين، وأرادت إسبارطة أن تسترد مكانتها السابقة فتحالفت مع أثينة، والتقت جيوش الأعداء عند منتينيا عام 362 ق.م، وانتصر إباميننداس في هذه المعركة، ولكنه قتل في أثنائها بيد جرلس Gryllus بن أكسانوفون. ولم تجنِ هلاس خيراُ دائماً من زعامة طيبة القصيرة. نعم إنها حررت بلاد اليونان من طغيان إسبارطة، ولكنها عجزت، كما عجز مَن قبلها، على أن توجد نطاق بؤوتة وحدة متجانسة متماسكة؛ وكان من أثر النزاع الذي خلقته في بلاد اليونان أن أضحت الدول اليونانية من أثره مضطربة ضعيفة عاجزة عن لقاء فليب حينما انقض عليها من الشمال.
الفصل الثالث: الإمبراطورية الأثينية الثانية
وحاولت أثينة للمرة الأخيرة أن تؤلف هذه الوحدة. واستطاعت بفضل أسوارها الطويلة، وأساطيلها التي جددت بناءها، وماليتها الثابتة الموثوق بها، وما تيسر لها من زمن بعيد من الوسائل المالية والتجارية، استطاعت بفضل هذا كله أن تستعيد ما كان لها من سيادة تجارية في بحر إيجة. وكانت الدول التي خضعت لها من قبل والدول المتحالفة معها قد علمتها الحروبُ التي دامت خمسين عاماً كاملة إنها في مسيس الحاجة إلى سلامة أعظم مما تهيئه لها السيادة الفردية، ولهذا اتحدت معظم هذه الدول مرة أخرى في عام 378 بزعامة أثينة، ولم يحل عام 370 حتى كانت هذه المدينة مرة أخرى أقوى الدول سلطاناً في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وكانت الصناعة والتجارة هما وقتئذ عماد حياتها الاقتصادية. ذلك أن أرض أتكا لم تكن في يوم من الأيام مما يوائم الزراعة الجماعية. نعم إن العمل الشاق الطويل قد جعلها أرضاً مثمرة بفضل عناية الأهلين بأشجار التوت وبالكروم؛ ولكن الإسبارطيين كانوا قد دمروا هذه الغروس، وقلما كان من المزارعين من يستطيع الصبر نصف جيل حتى تثمر بساتين الزيتون الجديدة ثمارها. وكان معظم الزراع الذين عاشوا قبل الحروب قد قضوا نحبهم، وكان معظم من بقي من الزُراع قد دب اليأس في نفوسهم فمنعهم أن يعودوا إلى أملاكهم المخربة فباعوها بأبخس الأثمان لملاك يستغلونها وهم بعيدون عنها، وفي وسعهم أن يستثمروا أموالهم فيها استثماراً طويل الأجل. وبهذه الطريقة، وبانتزاع ملكية الأراضي الزراعية المثقلة بالدين، انتقلت هذه الأراضي في أتكا إلى أيدي عدد قليل من الأسر كانت تستغل كثيراً من المزارع الواسعة بجهود الأرقاء(10). وأعيد فتح مناجم لوريوم، وأرسل إلى الحفر ضحايا جدد، وتكونت ثروات جديدة من الفضة الغفل ومن الدماء البشرية؛ وعرض أكسانوفون(11) طريق ظريفة تستطيع بها أثينة أن تملأ خزائنها بالمال، ولا تكلفها أكثر من أن تشتري مائة ألف من الأرقاء تؤجرهم إلى المقاولين في لاريوم. وأثمرت هذه الطريقة ثمرتها المرجوة فاستخرجت من الفضة مقادير تفوق ما كان ينتج من السلع، فارتفعت الأثمان، أسرع من ارتفاع الأجور، ووقع عبء هذا الانقلاب على كاهل الفقراء.
وازدهرت الصناعة وتلقت محاجر بنتلكس ومصانع الفحار في السرمكس طلبات من عالم بحر إيجة كله. وجمع بعضهم ثروات طائلة لشراء منتجات الصناع اليدويين أو المصانع الصغيرة بأثمان بخسة وبيعها بعدئذ بأغلى الأثمان في الأسواق المحلية أو الخارجية. وسرعان ما تضاعف عدد المصارف المالية في أثينة تبعاً لنمو التجارة وتجمع الثروة النقدية بدل الثروة العقارية. وتلقت هذه المصارف كثيراً من النقود أو الذخائر القيمة لحفظها لديها، ولكن يلوح أنها لم تكن تؤدي فوائد من هذه الودائع. وسرعان ما وجد أصحاب المصارف أن هذه الودائع لا تسترد كلها في وقت واحد في الظروف العادية، فشرعوا يقرضون المال بفوائد عالية، واقتصروا في بادئ الأمر على إقراض المال دون الاشتغال بوسائل الائتمان الأخرى، فكانت تضمن عملاءها، وتحصل لهم مطلوباتهم، وتقرض النقود بضمان العقاري أو النفائس، وتمد السفن التي تنقل البضائع بحاجتها من المال. وكان في وسع التاجر، بفضل هذه المصارف وأكثر من هذا بفضل القروض التي يقدمها الأفراد مجازفة منهم ومضاربة لجني الأرباح الطائلة، أن يستأجر سفينة ينقل عليها بضاعته إلى إحدى الأسواق الأجنبية، ويشتري منها بدل هذه البضاعة شحنة أخرى، إذا وصلت إلى بيرية بقيت فيها ملكاً لأصحاب الديون حتى يستردوا ديونهم(12). ولما تصرم بعض القرن الرابع نشأ نظام من نظم الائتمان الحقيقي: فشرع أصحاب المصارف يصدرون خطابات الاعتماد، والأذون المالية، والتحاويل المصرفية بدل أن يقدموا النقود؛ وبهذه الطريق أصبحت الثروة تنتقل من عميل إلى عميل بتدوينها في سجلات المصارف لا غير(13). وكان رجال الأعمال أو أصحاب المصارف يصدرون السندات للحصول على القروض التجارية، حتى صارت هذه السندات جزءاً كبيراً من كل شركة. وكان لبعضهم - كالمعتوق باسيون مثلاً - صلات مالية متشعبة، واشتهروا بين الناس بأمانتهم ونزاهتهم فوثقوا بهم، وكانت سنداتهم موضع الثقة في جميع بلاد اليونان. وكان لمصرف باسيون Pasion أقسام متعددة يعمل فيها عدد كبير من الموظفين معظمهم من الأرقاء، ويحتفظ بطائفة كبيرة من السجلات المختلفة الأنواع تدون فيها كل عملية مالية بعناية فائقة جعلت في المحاكم أدلة لا يقبل الطعن فيها. ولم يكن إفلاس المصارف أمراً غير مألوف، ويحدثنا المؤرخون عما كان يحدث من "ذعر" مالي يغلق فيه مصرف بعد مصرف أبوابه(14). وكانت توجه أحياناً إلى المصارف، ومنها أعظمها نفوذاً، تهم خطيرة لسوء استعمال ما آل إليها من سلطان، وكان الناس ينظرون إلى رجال المصارف نظرة يجتمع فيها من الحسد والإعجاب، والكراهية مثل ما يجتمع في نظرة الفقراء إلى الأغنياء في جميع العصور(15).
وأنتج تبدل الثروة من عقارية إلى منقولة كفاحاً شديداً للحصول على المال، وكان لا بد للغة اليونانية من أن تخترع لفظاً تعبر به عن هذه الشهوة الجامحة للحصول على "أكثر فأكثر" من المال، فأطلقت عليه لفظ "بليونكسيا Pleonexia" ولفظاً آخراً يعبر عن الانهماك في طلب الثراء "كرماتستيكي Chrematistike". وأخذت السلع والخدمات من ذلك الوقت تقدر قيمتها بالمال، بل إن الناس أنفسهم أصبحوا يقدرون به وبما يمتلكون منه، وأصبحت الثروات تتكون ثم تزول بسرعة لا عهد للناس بها، وتنفق في مظاهر من البذخ لو شهدتها أثينة في عصر بركليز لارتاعت واهتزت منها مشاعرها. فأخذ "الأثرياء المحدثون" (وكان لهم عند اليونان اسم خاص هو نيوبلوتوي Neoplutoi) يشيدون البيوت الكثيرة الزخرف، ويزينون نساءهم بالملابس والجواهر الغالية ويفسدونهن بكثرة الخدم، وأصبح تقديم أغلى أصناف المأكل والمشرب للضيوف دون غيرها من المأكولات والمشروبات هو القاعدة المقررة المألوفة(16).
وانتشر الفقر وسط هذه الثروة الطائلة، ذلك بأن حرية التبادل وأنواعه المختلفة اللتين أمكنتا مهرة الناس من جمع المال جعلتا السذج منهم يفقدونه أسرع مما كانوا يفقدونه من قبل، فكان الفقراء في نظام الاقتصاد التجاري الجديد أفقر نسبياً مما كان في أيام استرقاقهم في أملاك إقطاعيين؛ فكان الفلاحون في الريف يكدحون ليحصلوا بكدحهم وعرقهم على قليل من الزيت أو الخمر؛ وفي الحواضر ظلت أجور العمال الأحرار منخفضة المستوى بسبب منافسة الأرقاء؛ وكان مئات من المواطنين يعتمدون في معيشتهم على الأجور التي ينالونها نظير حضور جلسات الجمعية أو المحاكم؛ ولم يكن آلاف من الناس يجدون طعاماً إلا ما تقدمه لهم المعابد أو الدولة، ولا يملكون شيئاً. وفي عام 431 بلغ عدد من لا يملكون شيئاً قط من الناخبين (دع عنك عدد السكان بوجه عام) خمسة وأربعين في المائة من مجموعهم الكلي، فلما حلت سنة 335 ارتفعت هذه النسبة إلى سبعة وخمسين في المائة(17). وفقدت الطبقات الوسطى، التي كانت لكثرة عددها وسلطانها تحفظ التوازن بين الأشراف والعامة، جزءاً كبيراً من ثروتها، ولم يعد في وسعها أن تتوسط بين الأغنياء والفقراء، بين المتحفظين الشديدي العناد والخياليين المتطرفين، وبذلك انقسم المجتمع الأثيني إلى "مدينتي" أفلاطون-"إحداهما مدينة الفقراء والأخرى مدينة الأغنياء، وكلتاهما في حرب مع الأخرى"(18). وأخذ الفقراء يضعون الخطط لسلب مال الأغنياء بالتشريع أو بالثورة، كما أخذ الأغنياء ينظمون أنفسهم جماعات لاتقاء شر الفقراء. ويقول أرسطاطاليس إن المنتمين إلى بعض النوادي الألجركية كان كل منهم يقسم بأن "أكون عدو الشعب" (أي العامة) "وأن أوذيهم في المجلس بكل ما أستطيع من الأذى"(19) وقد كتب إسقراط حوالي عام 366 يقول: "لقد أصبح الأغنياء ينفرون من سائر الطبقات الأخرى نفوراً يفضلون معه أن يلقوا بثروتهم في البحر عن أن يعينوا بشيء منها المحتاجين، على حين أن الرقيقي الحال يسرهم أن ينتهبوا أموال الأغنياء أكثر مما يسرهم العثور على كنز ثمين"(20).
وانحاز عدد متزايد من أفراد الطبقات المتعلمة إلى جانب الفقراء(21). ذلك بأنهم كانوا يحتقرون التجار ورجال المصارف لما بدا لهم من أن ثروتهم تتناسب تناسباً عكسياً مع ثقافتهم وأذواقهم. وحتى الأغنياء من هؤلاء العلماء أخذت تدور بخلدهم أفكار شيوعية. وكان بركليز قد اتخذ من الاستعمار صمام أمان ليقلل به حدة النزاع بين الطبقات(22)؛ ولكن ديونيشيوس كان يسيطر على الغرب، ومقدونية كانت تمد أملاكها في الشمال، فأخذت الصعاب تزداد في سبيل فتح أثينة بلاداً جديدة والاستقرار فيها. واستحوذ الفقراء في آخر الأمر على جميع السلطة في الجمعية وشرعوا يقررون مصادرة أموال الأغنياء ويحولونها إلى خزائن الدولة، لتوزعها من جديد على المحتاجين والناخبين عن طريق المشروعات الحكومية والأجور(23). وأخذ رجال السياسة يبذلون كل ما في وسعهم من جهد ويستخدمون كل ما وهبوا من ذكاء ليكشفوا عن موارد جديدة لزيادة إيراد الدولة، فضاعفوا الضرائب غير المقررة، والضرائب الجمركية على الواردات والصادرات، وضريبة الواحد في المائة على نقل الملكية العقارية، وظلوا في وقت السلم يجبون الضرائب غير الاعتيادية التي قررت زمن الحرب، وأخذوا يطالبون بالتبرعات "الاختيارية"، وفرضوا على الأغنياء "فروضاً" أو "خدمات" جديدة متزايدة لتمويل المشروعات العامة من أموالهم الخاصة. وكانوا يلجأون بين الفينة والفينة إلى مصادرة الأموال ونزع الملكيات، ووسعوا نطاق ضريبة الإيراد حتى شملت مستويات من الثروة أدنى مما كانت تشملها من قبل(24).
وكان في وسع كل من يلقى عليه عبء إحدى الخدمات العامة أن يستعين بالقانون لكي يرغم غيره على أدائها، إذا استطاع أن يثبت أن لهذا الممول الثاني أكثر منه ثروة، وأنه لم تفرض عليه خدمة ما في خلال سنتين. وعملوا على تسهيل جمع الإيرادات بتقسيم دافعي الضرائب إلى مائة جماعة من الشركاء. فكان يطلب إلى أغنى الأعضاء في كل جماعة أن يؤدوا في بداية كل سنة ضرائبية جميع الضريبة المفروضة على هذه الجماعة طوال السنة، ثم يترك لهم بعدئذ أن يجبوا في خلال السنة ما يخص غيرهم من الأعضاء بما يرونه من الوسائل.
وكانت نتيجة هذه الفروض أن أخذت هذه الجماعات والأفراد تخفي ثروتها وإيرادها إخفاءً تاماً، وانتشر التهرب من الضرائب بين الناس جميعاً، وتفننوا في أساليبه تفنن الدولة في فرضها وجبايتها. وفي عام 355 عين أندروتيون Androtion على رأس فرقة من رجال الشرطة مهمتها البحث عن الإيرادات المخبوءة، وجباية الضرائب المتأخرة، وحبس الذين يفرون من الضرائب، فكانت تكبس البيوت وتصادر الأمتعة، ويلقى الرجال في السجن. ولكن الثروة مع ذلك ظلت تختفي أو تذوب. وقال إسقراط الشيخ الغني الغاضب في عام 353 يشكو مما فرض عليه من خدمات: "لما كنت في صباي، كانت الثروة تعد من الأشياء المأمونة التي يعجب بها الناس، حتى كان الواحد منا يتظاهر بأن لديه أكثر مما يملك فعلاً...أما الآن فقد أصبح من واجب كل إنسان أن يدفع عن نفسه تهمة الغنى، كأن هذا أشنع الجرائم"(25). ولم تكن الطريقة التي اتبعت في غير أثينة لمنع تركيز الثروة تستند إلى القانون كما كانت تستند إليه فيها. من ذلك أن المدنيين في متليني قتلوا دائنيهم جملة بحجة أنهم جياع، وأن الدمقراطيين في أرغوس (370) انقضوا فجاءة على الأغنياء وقتلوا منهم ألفاً ومائتين، وصادروا أملاكهم، وعقدت الأسر الغنية في غير هذه من الدول التي كان العداء قائماً بينها لغير هذا السبب حلفاً سرياً تعهدت فيه أن يساعد بعضها بعضاً إذا قامت في إحداها ثورات شعبية. وأخذت الطبقات الوسطى تحذو حذو الطبقات العليا في عدم الثقة بالدمقراطية وترى أنها حسد أتيح له السلطان، كما أخذ الفقراء يفقدون ثقتهم فيها ويرونها مساواة زائفة بين الناخبين تنقصها الفروق الهائلة بين الثروات. وقد تركت هذه الأحقاد المريرة بين الطبقات بلاد اليونان منقسمة على نفسها داخلياً ودولياً حين انقض عليها فليب، حتى لقد رحب بقدومه كثيرون من الأغنياء في المدن اليونانية، ورأوا أنه لولاه لما كان هناك مفر من اندلاع لهيب الثورة في أرجائها(26).
وسار الانهيار الخلقي مع ازدياد الترف واستنارة العقل جنباً إلى جنب، واعتزت العامة بخرافاتها واستمسكت بأساطيرها، فقد كانت آلهة الأولمبس تلفظ أنفاسها الأخيرة ولكن آلهة أخرى كانت تولد، فكانت أرباب غريبة مثل إيزيس وأمون، وأتيس، وبندس، وسبيل، وأدنيس تستورد من مصر وآسية؛ وجمع انتشار الأرفية عباداً جدد للديونشس في كل يوم. ولم يكن للدين التقليدي القديم فائدة تذكر لطبقة الملاك الوسطى النصف الأجنبية الآخذ شأنها في الارتفاع، فلم تكن آلهة المدينة التي ترعاها تنال من هذه الطبقة إلا الاحترام الصوري الرسمي، ولم تعد توحي إلى أفرادها بالمبادئ الخلقية أو الإخلاص للدولة والولاء لها . وكافحت الفلسفة لكي تجد في الولاء السياسي ومبادئ الأخلاق الطبيعية بديلاً من الأوامر الإلهية، أو أن تتخذ منها رباً يرقب الناس من علٍ، ولكن قل من المواطنين من كان يهمه أن يعيش عيشة البساطة السقراطية أو عيشة رجل سقراط السامي "ذي العقل العظيم".
ولما فقد دين الدولة سلطانه على الطبقات المتعلمة زاد بالتدريج تحرر الأفراد من القيود الأخلاقية القديمة - فتحرر الابن من سلطان أبويه، وتحرر الذكور من الزواج، وتحررت المرأة من الأمومة، وتحرر المواطن من التبعة السياسية. وما من شك في أن أرسطوفان قد بالغ في وصفه لهذه التطورات، وإذا كان أفلاطون، وأكسانوفون، وإسقراط كلهم يتفقون معه في رأيه، فإنهم كانوا جميعاً من المحافظين الذين ترتعد فرائصهم من مثال الجيل الناشئ الجديد. وتحسنت أخلاق الناس في الحرب خلال القرن الرابع، وجاءت موجة من الإنسانية المستنيرة في أعقاب تعاليم يوربديز وسقراط والمثل الذي ضربه للناس أجسلوس(27). ولكن الآداب والجنسية السياسية ظلت سائرة في طريق الانهيار، وزاد عدد العزاب والسراري وأصبحت الصلات بين هؤلاء وأولئك هي الطراز الحديث الذي يهواه الناس، كما أن الاتصال الحر بين الرجال والنساء أصبحت له الغلبة على الزواج الشرعي(28). انظر مثلاً إلى هذا السؤال الذي يسأله أحد الأشخاص في مسلاة ألفت في القرن الرابع: "أليست الحظية مرغوباً فيها أكثر من الزوجة؟ ولم لا؟ إن إحداهما في جانبها القانون الذي يرغمنا على الاحتفاظ بها، مهما نكن كارهين لها، أما الأخرى فهي تعلم أن من واجبها أن تتسلط على الرجل بحسن سلوكها، وإلا فإن عليها أن تبحث لها عن رجل غيره"(29). وعلى هذا النحو عاشر بركستليز ومن بعده هيبريديز Hypereides فريني Phryne، وعاشر أرستبوس لئيس Lais، وعاشر أستلبو Stilpo نكريتي Nikarete، وعاشر ليسياس متنيرا Metaneira، وعاشر إسقراط الصارم لجسكيوم Lagiscium(30). وفي ذلك يقول ثيوبمبس مبالغاً في قوله كعادة رجل الأخلاق: "لقد كان الشبان يقضون كل أوقاتهم بين السراري والقيان، أما الذين هم أكبر من هؤلاء قليلاً فكانوا منهمكين في الميسر والفسق، وكان الناس كلهم ينفقون على المآدب العامة والملاهي أكثر مما ينفقونه على الأعمال اللازمة لحفظ كيان الدولة ورعاية مصالحها"(31).
وأصبح تحديد عدد أفراد الأسرة تحديداً اختيارياً هو الطراز العصري في ذلك الوقت؛ وكانوا يصلون إلى هذا الغرض بمنع الحمل، أو الإجهاض، أو قتل الأطفال. ويقول أرسطاطاليس إن بعض النساء كن يمنعن الحمل بطلاء جزء الرحم الذي يسقط عليه مني الرجل بزيت شجر الأرز، أو بمرهم الرصاص. أو الكندر الممزوج بزيت الزيتون . وكانت الأسر القديمة سائرة في طريق الانقراض فلم تكن توجد، على حد قول إسقراط، إلا في قبورها؛ وأخذت الطبقات الدنيا يتضاعف عدد أفرادها، أما طبقة المواطنين في أتكا فقد نقص عددها من 000ر43 في عام 431 إلى 000ر22 في عام 400 وإلى 000ر21 في عام 313(33). ويقابل هذا نقص في عدد المواطنين الذين كانوا يجندون للخدمة العسكرية؛ ويرجع بعض هذا النقص إلى مذابح الحرب، وبعضه إلى قلة من لهم في الدولة أملاك يتحتم عليهم الدفاع عنها، وبعضه إلى رغبة الناس عن الخدمة العسكرية. ذلك أن حياة الدعة والانصراف إلى العناية بالشئون المنزلية، والانهماك في الأعمال التجارية والصناعية، وطلب العلم، كل ذلك قد حل محل حياة الرياضة البدنية، والتربية العسكرية، والعناية بالشئون العامة، وهي الحياة التي كان يألفها الناس في عهد بركليز(34). فأما الرياضة فقد أصبحت حرفة، وصار المواطنون الذين كانوا في القرن السادس يملأون مدارس التدريب الرياضية يقنعون الآن بأن يجهد غيرهم أنفسهم بالنيابة عنهم، وحسبهم هم أن يشاهدوا استعراض المحترفين. وكان بعض الشبان يتلقون بعض الدروس في فن الحرب، ولكن الكبار كانوا يجدون عشرات من الطرق للهرب من الخدمة العسكرية. وأضحت الحرب نفسها مهنة بسبب ما دخل عليها من التعقيدات الفنية، تحتاج إلى رجال مدربين لها تدريباً خاصاً يستغرق وقتهم كله؛ وكان لا بد من استبدال الجنود المرتزقة بالمحاربين المواطنين، وكان هذا نذيراً بأن زعامة بلاد اليونان لن تلبث أن تنتقل من رجال السياسة إلى رجال الحرب. وبينما كان أفلاطون يتحدث عن الملوك الفلاسفة، كان الملوك العسكريون ينشئون تحت سمعه وبصره. وكان مرتزقة اليونان يبيعون أنفسهم إلى القواد سواء كانوا من اليونان أو "البرابرة" بلا تفريق بين هؤلاء وأولئك؛ ولقد حاربوا في الجيوش التي غزت بلاد اليونان بقدر ما حاربوا دفاعاً عنها، وشاهد ذلك أن الجيوش الفارسية التي واجهها الإسكندر كانت ملأى باليونان؛ فلم يكن الجنود وقتئذ يسفكون دماءهم دفاعاً عن بلادهم، بل كانوا يسفكونها في سبيل من يؤدي لهم أكبر الأجور. وظل الفساد السياسي والاضطراب اللذان أعقبا موت بركليز سائرين في طريقهما خلال القرن الرابع، إذا استثنينا من ذلك حكم يكلديز الطاهر النزيه (403)، وإدارة ليقورغ المالية (338-326). فالرشوة مثلاً كان يعاقب عليها، حسب نص القانون، بالإعدام؛ لكن إسقراط يقول إن المرتشي كان يجزى على ارتشائه بالترقي في المناصب العسكرية والسياسية. ولم يجد الفرس أية صعوبة في إرشاء ساسة اليونان وحملهم على أن يشنوا الحرب على الدول اليونانية أو على مقدونية؛ وحتى دمستين نفسه أصبح في آخر الأمر مرآة تنعكس عليها أخلاق أهل زمانه. لقد كان من أنبل الأفراد في جماعة من أحط الجماعات في أثينة - أعني جماعة الخطباء المأجورين الذين صاروا في ذلك القرن محامين وساسة محترفين. ومن هؤلاء الناس من كانوا مثل ليقورغ شرفاء معقولين، ومنهم من كانوا مثل هيبريديز ذوي شهامة ومروءة، ومنهم من لم يكونوا خيراً مما وجب عليهم أن يكونوه؛ وإذا جاز لنا أن نصدق ما يقوله عنهم أرسطاطاليس فقد كان منهم من تخصص في إبطال نصوص الوصايا(36). وجمع الكثيرون منهم ثروات طائلة بانتهاز الفرص السياسية وبالتهريج والخطابة في الجماهير.
وانقسم الخطباء المأجورون أحزاباً، ومزقوا الهواء بحملاتهم. ونظم كل حزب لنفسه لجاناً، ووضع له كلمات سر، وعين له وكلاء، وجمع له مالاً. وكان الذين يؤدون نفقات هذه الأعمال كلها يعترفون صراحة بأنهم "سيستردونها ضعفين"(37). وكانت الروح الوطنية تضعف كلما زادت السياسة قوة، واستنفذت مرارة الانقسام كل الجهود العامة والوفاء للوطن، فلم تترك للمدينة من هذه الجهود وذلك الإخلاص إلا القليل الذي لا يغني، وكان دستور كليستنيز، والنزعة الفردية التي أثارتها التجارة والفلسفة، قد زعزعا كيان الأسرة، وحررا الفرد؛ وكأنما أراد الفرد الحر وقتئذ أن يثأر للأسرة مما أصابها من انحلال فهوى بمعوله على الدولة يقوض أركانها.
وأراد الدمقراطيون المنتصرون في عام 400 ق. م أو حواليه أن يضمنوا حضور المواطنين الفقراء في الإكليزيا، وأن يمنعوا بذلك ذوي الأملاك أن تكون لهم السيطرة عليها، فجعلوا حضور الجمعية هو الآخر عملاً من الأعمال التي يؤجر الناس عليها. وكان كل مواطن في بادئ الأمر يؤجر على حضور الجلسة أبلة (17slash100 من الريال الأمريكي)، ولما زادت نفقات المعيشة زيد هذا الأجر إلى أبلتين، ثم إلى ثلاث أبلات، وظل يزداد حتى كان في زمن أرسطاطاليس درخمة (أي ريالاً أمريكياً) عن اليوم الواحد(38). ولقد كان هذا في حد ذاته تدبيراً معقولاً لا غبار عليه، لأن المواطن العادي كان يكسب في أواخر القرن الرابع درخمة في كل يوم؛ ولم يكن ينتظر منه أن يترك عمله دون أن يعوض عن تركه. وما لبثت هذه الخطة أن جعلت للفقراء الأغلبية في الجمعية، ويئس الأغنياء من الانتصار فيها، فزاد إعراضهم عنها تدريجاً، وامتنعوا عن حضور جلساتها. وعدل الدستور في عام 403 وقصر حق التشريع على هيئة مكونة من خمسة مشترعين Nomothetai يُختارون من بين المواطنين الذين انتخبوا بالقرعة ليكونوا قضاة، ولكن هذا التعديل لم تكن له أقل فائدة في الحد من طغيان الطبقات الدنيا. ذلك أن هذه الهيئة الجديدة هي الأخرى إلى جانب العامة، وكان تدخلها سبباً في إضعاف هيئة المجلس الذي هو أكثر محافظة من الجمعية والانتقاص من سلطانه. ويبدو أن مستوى الذكاء في الجمعية قد نقص في القرن الرابع، ولعل منشأ هذا النقص هو أداء الأجور على حضور جلسات الجمعية. نقول هذا ببعض التحفظ لأن الذين نعتمد عليهم في هذا القول هم الرجعيون المتحيزون أمثال أرسطوفان وأفلاطون(39). ويقول إسقراط إن أعداء أثينة هم الذين يجب عليهم أن يؤدوا الأجور لحضور جلسات الجمعية حتى يكثر اجتماعها، وذلك لكثرة ما ترتكبه من الأغلاط(40) في أعمالها.
وخسرت أثينة بسبب هذه الأغلاط إمبراطوريتها وحريتها جميعاً. ذلك أن الحرص الشديد على المال والسلطان الذي قوض أركان الحلف الأول قد دك وقتئذ قواعد الحلف الثاني أيضاً، فقد شعرت أثينة بعد سقوط إسبارطة في لكترا أن في وسعها الآن أن توسع أملاكها، وكانت وهي تنظم إمبراطوريتها الجديدة قد قطعت على نفسها عهداً ألا تسمح للرعايا الأثينيين بامتلاك أرضين خارج حدود أتكا(41). ولكنها بعد أن فتحت ساموس، والكرسنيز التراقية، ومدائن بدنا، وبوتيدبا، وميتوني على سواحل مقدونية وتراقية استعمرتها على أيدي المواطنين الأثينيين. واحتجت على ذلك الدول المتحالفة معها وانسحب الكثير منها من الحلف. واستخدمت أثينة وسائل القسر والعقاب التي استخدمتها من قبل في القرن الخامس، ولكنها لم تجنِ من ورائها فائدة في هذه المرة كما لم تجن منها فائدة في المرة السابقة. وكانت النتيجة أن أعلنت طشيوز، وكوس، ورودس، وبيزنطية في عام 357 "حرب" عصيان "اجتماعية". ولما أن رفض تموثيوس Timotheus وأفكراتيز، وهما قائدان من أعظم القواد الأثينيين كفاية، أن يهاجما الأسطول الثائر في الهلسبنت أثناء عاصفة هوجاء، اتهمتهم الجمعية بالجبن، وفرضت على تموثيوس غرامة باهظة لا قبل لأحد بأدائها قدرها مائة وزنة (000ر600 ريال أمريكي)، فلم يجد أمامه سبيلاً إلا الفرار من البلاد، وبرئ إفكرتيز ولكنه لم يقم لأثينة بخدمة ما فيما بقي من حياته. وأحبط الثوار كل ما بذلته من محاولات لإخضاعهم، فاضطرت في عام 355 إلى أن توقع صلحاً تعترف فيه باستقلال بلادهم، وأضحت المدينة العظيمة بلا أحلاف، ولا زعماء، ولا مال، ولا أصدقاء.
ولعل عوامل أخرى أدق وأخفى من العوامل السابقة كان لها أثر في إضعاف أثينة. ذلك أن حياة الفكر تعرض للخطر كل حضارة تزدان بهذه الحياة. ففي المراحل الأولى من تاريخ الأمة قل أن يكون للتفكير وجود، بل الذي يسود وينتشر هو العمل، ويكون الناس في هذه المراحل صريحين، محررين من عوامل الكبت جريئين في مشاكساتهم وصلاتهم الجنسية. وكلما ارتقى مدارج الحضارة وفرضت عليهم العادات، والأنظمة، والشرائع، وقواعد الآداب والأخلاق، قيوداً تزداد على مر الأيام كبتاً للغرائز، حل التفكير محل العمل، والخيال محل الإقدام، والاحتيال محل الصراحة، والخفاء محل التعبير الصادق، والعطف محل القسوة، والشك محل اليقين؛ وزالت الوحدة الأخلاقية التي يشترك فيها الإنسان البدائي مع الحيوان؛ وأصبح السلوك مجزءاً طابعه التردد، والإدراك، وتقدير العواقب؛ وضعفت الرغبة في القتال، واستحالت ميلاً إلى الجدل الذي لا يقف عند حد. وما أقل الأمم التي استطاعت أن تصل إلى الرقي العقلي والإحساس القوي بالجمال من غير أن تضحي في سبيل ذلك بالقدر الكثير من رجولة أبنائها ووحدتهم، فلم تستطيع صد الأقوام الهمج المعدمين الطامعين في ثروتها. فحول كل رومة يحوم الغاليون، وحول كل أثينة يحوم المقدونيون.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: نهضة سراقوصة
كانت سراقوصة طوال القرن الرابع من أكبر المدن اليونانية ثروة وأعظمها قوة، رغم ما كان ينتابها من الاضطرابات السياسية الكثيرة. وكان ملكها ديونيشيوس الأول مجرداً من الضمير، خائناً غداراً، مختالاً مغروراً، ولكنه كان أقدر رجال زمانه في الشئون الإدارية. حوَّلَ هذا الرجل جزيرة أرتيجيا Ortygia إلى قلعة حصينة اتخذها مسكناً له، وسور الطريق الذي يوصلها بأرض القارة، فأصبح مركزه فيها أمنع من عقاب الجو؛ ثم ضاعف أجور الجنود، وقادهم بنفسه إلى انتصارات هينة، فحبب نفسه إليهم وكسب ولاءهم، فاستطاع البقاء على العرش ثمانية وثلاثين عاماً. ولما أن ثبت قواعد حكمه استبدل بسياسة القسوة التي نهجها في بداية أمره سياسة رحيمة استرضى بها الأهلين، وبسط على البلاد حكماً استبدادياً طابعه العدالة والمساواة . وأقطع ضباطه وأصدقاءه أجزاء من أحسن الأراضي وأعظمها خصباً، وخص جنوده بجميع المساكن في أرتيجيا والطريق الموصل إليها إلا القليل النادر منها؛ ووزع كل ما بقي من أرض سراقوصة وما حولها على سكان المدينة الأحرار منهم الأرقاء من غير تمييز بينهم. وبهديه وإرشاده ازدهرت سراقوصة، وإن كان قد فرض عليها من الضرائب ما لا يكاد يقل عما فرضته الجمعية على الأثينيين. ولما أن أسرفت نساء المدينة في زينتهن أعلن أن دمتر قد جاءته في الحلم وأمرته أن يجمع حلي النساء كلها ويودعها في معبدها. وصدع الملك بأمر الإلهة، وصدعت به كذلك معظم النساء؛ ثم ما لبث أن "اقترض" الحلي من دمتر ليمول بها حروبه(43).
ذلك أن خططه كلها كانت تهدف إلى إخراج القرطاجيين من صقلية. وقد آلمه وحز في نفسه أن يستطيع هنيبال استخدام آلات التدمير القوية في حصار سيلينس، فجمع في خدمته خيرة الصناع والمهندسين من بلاد اليونان القريبة؛ وطلب إليهم أن يعملوا على تحسين عدد الحرب. وكان من بين ما اخترعه هؤلاء الرجال من آلات الهجوم والدفاع الجديدة المنجنيق الذي يقذف الحجارة الثقيلة وغيرها من القذائف، وانتقل هذا الاختراع من المخترعات العسكرية من صقلية إلى بلاد اليونان واستخدمه فليب المقدوني. وأرسل يدعو لخدمته جنوداً مرتزقة، وأخذت دور الصنعة في سراقوصة تخرج مقادير لا عهد للناس بها من الأسلحة والدروع تتفق مع عادات كل طائفة من طوائف الجند المختلفة ومع حذقها في القتال. وكان المشاة قبل هذا الوقت هم الذين يقاتلون في المعارك البرية لكن ديونيشيوس نظم فيالق كبيرة من الفرسان، وأفاد من هذا أيضاً فليب والإسكندر. وأخذ في الوقت نفسه يصب المال صباً لبناء مائتي سفينة معظمها من ذات الأربعة الصفوف أو الخمسة، فأنشأ بذلك أسطولاً ضخماً لم ترَ له بلاد اليونان قبل ذلك مثيلاً في سرعته أو قوته.
ولم يحل عام 397 حتى كان كل شيء على أهبة الاستعداد، وأرسل ديونيشيوس بعثة إلى قرطاجة يطلب إليها أن تحرر جميع المدن اليونانية في صقلية من سيطرة القرطاجيين، وتوقع ألا يُجاب إلى طلبه فدعا هذه المدن إلى خلع نير الحكم الأجنبي، فاستجابت إلى دعوته، وكانت لا تزال حاقدة على القرطاجيين ولم تنسَ ما ارتكبه فيها هنيبال من المذابح، فأعدمت جميع من وقع في أيديها منهم بعد أن أذاقتهم من ألوان العذاب ما لم يعذبه اليونان أحداً غيرهم من قبل، ولم يدخر ديونيشيوس جهداً في الحيلولة بينهم وبين هذا التعذيب لأنه كان يريد أن يبيع أسرى القرطاجيين في أسواق الرقيق. ونقلت قرطاجة جيشاً كبيراً بقيادة هملكون Himilcon بطريق البحر، ودارت الحرب بين الأمتين في فترات متقطعة خلال أعوام 397، 392، 383، 368. وانتهت هذه الحرب بأن استردت قرطاجة كل ما استولى عليه ديونيشيوس من أملاكها، وعادت الأمور بعد الدم المهراق كله إلى ما كانت عليه من قبل.
وكان ديونيشيوس في هذه الأثناء قد وجه قوته الحربية لإخضاع المدن اليونانية في الجزيرة، وربما كان مدفوعاً إلى هذا بحب السلطان أو بما كان يحس به من أنه لا سبيل من القضاء على سلطان قرطاجة في صقلية إلا إذا اتحدت كلها تحت حكومة واحدة. فلما تم له إخضاعها، عبر الجزيرة إلى إيطاليا، وأخضع رجيوم Rheginm وفرض سلطانه على جميع إيطاليا الجنوبية. ثم هاجم إتروريا واستولى على ألف وزنة من هيكلها القائم في أجلا Agylla، ووضع الخطط لنهب ضريح أبلو في دلفي، ولكن الأيام وقفت في سبيله فلم تمكنه من تنفيذ خططه. فقد وأدت بلاد اليونان في نفس ذلك العام (387) حريتها في الغرب، ثم باعتها "بصلح الملك" إلى الفرس في الشرق. وكان برنس Brennus والغليون قد وقفوا ظافرين أمام أبواب رومة يدقونها دقاً، وكان البرابرة المحيطون بالعالم اليوناني يزدادون قوة في كل مكان، وكان ما حل بإيطاليا الجنوبية من التدمير على يد ديونيشيوس قد مهد السبيل للأهلين القاطنين حول المستعمرات أولاً ثم للرومان أنصاف البرابرة بعدئذ لغزو هذه المستعمرات والاستيلاء عليها. وقام الخطيب ليسياس في الدورة التالية من دورات الألعاب الأولمبية يدعو بلاد اليونان إلى الخروج على الطاغية الجديد، فهاجم الجماهير الثائرة خيام رسل ديونيشيوس وأصمت آذانها عن الاستماع إلى أشعاره.
وهذا الطاغية الذي عرض على أهل رجيوم بعد أن تم له الاستيلاء عليها حريتهم إذا آتوه بكل ما يدخرونه من مال فدية لهم، فلما جاءوه به باعهم بيع الرقيق، هذا الطاغية نفسه كان رجلاً واسع الثقافة من أرباب السيف والقلم ولم يكُ فخره بقلمه أقل من فخره بسيفه. ولما أن طلب إلى الشاعر فلكينس رأيه في شعره وأجاب بأنه غث لا قيمة له حكم علية بالأشغال الشاقة في المحاجر(44). على أن ديونيشيوس، كان يناصر الآداب والفنون على الرغم من هذه الأعمال المثبطة، وقد استضاف أفلاطون أثناء أسفاره في صقلية وسره أن يستمتع لحظة بهذا الفيلسوف (387). وهناك قصة ذائعة نقلها ديوجانس ليرتيوس تقول إن الفيلسوف أخذ يطعن في حكم الطغاة فرد عليه ديونيشيوس بقوله: "إن أقوالكَ أقوال عجوز محترف"، فأجابه أفلاطون قائلاً: "إن هذه اللغة هي لغة الطغاة". ويقال إن ديونيشيوس باع أفلاطون في سوق الرقيق ولكن أنسريز القيروني لم يلبث أن افتداه(45). ولم يقضِ على حياة الفيلسوف واحد من القتلة السفاحين الذين كان يخشى بأسهم بل قضى عليه شعره نفسه. وتفصيل ذلك أن مأساته افتداء هكنز نالت الجائزة الأولى في عيد لينيا الأثيني عام 367. وسُر ديونيشيوس من هذا الفوز سروراً جعله يحتفل بأصدقائه ويُفرط في الشراب، فيصاب بالحمى ويموت.
وقبلت المدينة المغتاظة التي كانت قد ارتضته بديلاً من الخضوع لقرطاجة قبلت أن يخلفه ابنه على العرش راجية الخير على يديه. وكان ديونيشيوس الثاني وقتئذ شاباً في الخامسة والعشرين من عمره، ضعيف الجسم والعقل، فظن السراقوصيون الماكرون أنه لهذا السبب سيحكمهم حكماً رحيماً يترك لهم فيه الحبل على الغارب. وكان له من عمه ديون Dion والمؤرخ فلستيوس مستشاران قديران. فأما ديون فكان رجلاً واسع الثراء ولكنه جمع إلى ثرائه حبه للآداب والفلسفة، وكان من أوفى تلاميذ أفلاطون وألصقهم به. وأصبح عضواً في المجمع العلمي وعاش في داخل بيته وخارجه عيشة البساطة الفلسفية. وخطر بباله أن الطاغية الجديد الشاب اللدن العود سوف يتيح له الفرصة لأن يقيم على الأقل حكماً دستورياً يُستطاع به توحيد صقلية بأجمعها وتمكينها بسبب هذه الوحدة من القضاء على سلطان القرطاجيين فيها، هذا إذا لم يتمكن من أن يجعل منها "المدينة الفاضلة" التي وصفها له أفلاطون.
ودعا ديونيشيوس الثاني بناءً على اقتراح ديون، أفلاطون إلى بلاطه، فلما قبل أفلاطون الدعوة تتلمذ عليه ديونيشيوس وصار من أتباعه. ومما لاشك فيه أن الشاب الطاغية أراد أن يظهر للفيلسوف خير طباعه، فأخفى عليه إدمانه الخمر والعهر(47)، الذي جعل أباه يتنبأ أن الأسرة ستنقرض بموت ولده. وانخدع أفلاطون برغبة الشاب الظاهرة في الفلسفة فقاده إليها من أصعب السبل - من سبيل العلوم الرياضية والفضيلة. وعلَّم الحاكم، كما علَّم كنفوشيوس دوق لو، أن المبدأ الأول من مبادئ الحكم هو القدوة الصالحة، وأنه إذا أراد أن يُصلح شعبه، فعليه أن يجعل نفسه أنموذجاً لهم في الذكاء والنية الحسنة، وشرعت الحاشية كلها تدرس الهندسة، وتقف مذهولة سياسياً أمام خطوط مرسومة في الرمل. ورأى فلستيوس أن مقام أفلاطون أصبح أعلى من مقامه، فهمس في أذن الطاغية أن ذلك كله لم يكن إلا مؤامرة أراد بها الأثينيون، الذين عجزوا عن فتح سراقوصة بقوة الجيش والأسطول، أن يستولوا عليها بعمل رجل واحد، وأن أفلاطون بعد أن استولى على القلعة المنيعة بالرسوم والحوار، سَيُنزل ديونيشيوس عن عرشه، ويجلس ديون مكانه. ووجد ديونيشيوس في هذا الهمس فرصة قيمة للنجاة من متاعب الهندسة، فنفى ديون، وصادر أملاكه، ووهب زوجته لرجل من رجال البلاط كانت ترهبه. وغادر أفلاطون سراقوصة، رغم تأكيد الطاغية له بأنه يحبه أشد الحب، وانظم إلى ديون في أثينة. وبعد ست سنين من ذلك الوقت عاد إلى سراقوصة استجابة لطلب الملك نفسه، وألح عليه في أن يستدعي ديون، ولما رفض ديونيشيوس رجاءه اعتزله أفلاطون وآوى إلى المجمع العلمي(48).
وفي عام 357 جند ديون من بلاد اليونان القارّية، وكان وقتئذ فقيراً في المال غنياً في الأصدقاء، قوة مؤلفة من ثمانمائة رجل أبحر بهم إلى سراقوصة، ودخل فيها سراً فألفى الأهلين شديدي الرغبة في تأييده. وكانت معركة واحدة نال فيها النصر ببسالته، مع أنه كان وقتئذ في سن الخمسين، كافية لهزيمة جيش ديونيشيوس، ودب الرعب من هولها في قلب الملك الشاب فآثر الفرار إلى إيطاليا. وفي هذا الوقت عزلت الجمعية السراقوصية ديون من القيادة، وكان هو الذي دعاها إلى الاجتماع، خشية أن ينصب نفسه حاكماً بأمره. وكانت في عملها هذا تجري على ما طبع عليه اليونان من الاندفاع وعدم التبصر في العواقب. وانسحب ديون في سلام إلى اليونتيني؛ ولكن جيوش ديونيشيوس شجعها تقلب الأحداث فهاجمت الجيش الوطني على حين غفلة، وبددت شمله. وأرسل الزعماء الذين كانوا قد عزلوا ديون من القيادة يطلبون إليه أن يعود مسرعاً ويتولى قيادة جيش الشعب، فاستجاب إلى دعوتهم، وانتصر على أعدائه مرة أخرى، وعفا عن الذين قاوموه، وأعلن قيام دكتاتورية مؤقتة قال إنها ضرورية لعودة النظام إلى البلاد، وأبى أن يكون له حرس خاص مخالفاً بذلك نصيحة أصدقائه، وقال إنه "يفضل أن يموت على أن يعيش على حذر دائم من أصدقائه وأعدائه على السواء"(49). واحتفظ بدلاً من هذا الحرس بحياته المتواضعة المعتدلة رغم ما كان يحيط به من الثراء وقوة السلطان.
ويقول بلوتارخ "إنه، وإن كان قد نال ما يشتهيه من النجاح، لم يكن يرغب في أن ينال فائدة عاجلة أتاحها له حظه الطيب...فاكتفى بقدر معتدل من الثراء راعى فيه جانب الاقتصاد، وأدهش بذلك الناس جميعاً. وبينما كانت صقلية وقرطاجة وبلاد اليونان بأجمعها ترى أنه قد بلغ أعلى مراتب النعيم والثراء، وأن ليس بين الأحياء جميعاً من هو أعظم منه، أو بين القواد من هو أوسع منه شهرة في البسالة والظفر، كان يبدو في حرسه، وحاشيته، وعلى مائدته، أنه يشترك مع أفلاطون في المجمع العلمي. ولا يعيش بين ضباطه المأجورين وجنوده المرتزقة الذين يجدون في ملء بطونهم بلذيذ المأكل والمشرب والاستمتاع بلذائذ الحياة عزاء لهم عن كدحهم المتواصل وما يتعرضون له من الأخطار"(50).
وإذا أخذنا بقول أفلاطون فإن ديون كان يبغي إقامة ملكية دستورية، وإلى إصلاح حياة السراقوصيين وأخلاقهم على مثال الحياة والأخلاق الإسبارطية، وأن يعيد بناء المدن اليونانية المستعيدة أو المخربة في صقلية، وينشئ منها دول موحدة، حتى إذا تم له ذلك أخرج القرطاجيين من الجزيرة. ولكن السراقوصيين كانوا يحرصون أشد الحرص على النظام الدمقراطي، ولم يكونوا يتوقون إلى الفضيلة أكثر مما يتوق إليها ديونيشيوس الأول أو الثاني. فاغتال ديون صديق له، وانطلقت على أثر اغتياله الفوضى من عقالها، وأسرع ديونيشيوس بالعودة إلى سراقوصة، واستولى مرة أخرى على أرتيجيا وعلى أزمة الحكم، وسار فيه بالقسوة والفظاعة التي ينتظرها الإنسان من طاغية خُلِعَ عن عرشه ثم استرده.
وبعد، فإن الأقدار تصيب أحياناً من لا يستحقها من الأفراد، ولكنها قلما تفعل ذلك بالأمم. ثم استغاث السراقوصيون بأمهم كورنثة. وجاءت هذه الاستغاثة في وقت كان فيه كورنثي نبيل نبلاً لا يكاد يصدقه العقل ينتظر أن تتاح له فرصة يُظهر فيها بطولته. لقد كان تيمليون رجلاً من الأشراف، بلغ من حبه للحرية أنه لم يتردد في قتل أخيه تموفانيز حين أراد هذا الرجل أن يقيم نفسه حاكماً مستبداً في كورنثة. واستنزلت أمه اللعنة عليه عقاباً له على عمله هذا، وأنبهَ عليه ضميره، فاعتزل هذا القاتل الناس وآوى إلى الغابات. ولكنه سمع وهو في مأواه بحاجة سراقوصة إلى النجدة، فخرج من ملجأه، ونظم قوة من المتطوعين، وأبحر بها إلى صقلية، وقاد شرذمته القليلة بمهارة لم يرَ جيش الملك معها بُداً من الاستسلام، بعد أن ذاق البلاء من جراء براعته في القيادة، ومن غير أن يقتل من رجاله رجل واحد. ومنح تيمليون الطاغية الذليل من المال ما يمكنه من العودة إلى كورنثة حيث قضى ما بقي من حياته يعلم في المدرسة ويسأل الناس القوت في بعض الأحيان(51).
وأعاد تيمليون الدمقراطية، وهدم الحصون التي جعلت أرتيجيا معقلاً حصيناً للاستبداد، ورد عنها غارة شنها القرطاجيون، وأعاد الحرية والدمقراطية إلى المدن اليونانية. وبفضله ساد السلام وعم الرخاء صقلية جيلاً من الزمان، هرع إليها في خلاله مستوطنون جدد من جميع أنحاء العالم اليوناني. وأبى مع ذلك أن يتولى منصباً عاماً، بل اعتزل الحياة السياسية وفضل عليها الحياة الخاصة؛ ولكن الدمقراطيات القائمة في الجزيرة كانت تعرض عليه كل شئونها الكبرى تستنصحه وتعمل برأيه إيماناً منها بحكمته واستقامته. ولما اتهمه الناس من "المرشدين" بسوء استخدام سلطته أصر على الرغم من احتجاج الشعب وإعلانه شكره له واعترافه بجميله، أن يحاكم من غير محاباة حسب قانون البلاد، وحمد الآلهة على أن عادت إلى صقلية حرية الكلام والمساواة أمام القانون. ولما مات في عام 337 حزنت عليه بلاد اليونان كلها وعدَّته من أعظم عظماء أبنائها.
الفصل الخامِس: تقدم مقدونية
بينما كان تيمليون يعد إلى الديمقراطية أنفاسها الأخيرة في صقلية القديمة، كان فليب يقضي عليها في أرض اليونان القارية. لقد كانت مقدونية حين اعتلى فليب العرش عام 359 لا تزال في الأغلب الأعم بلاد همجية يسكنها أقوام أشداء جبليون وذلك رغم كرم أركلوس وثقافته العالية؛ والحق أنها وإن استخدمت اليونانية لغة رسمية لها لم تفد الحياة اليونانية طوال تاريخها بمؤلف أو فنان أو فيلسوف واحد.
وكان فليب قد أقام ثلاث سنين مع أقارب إباميننداس في طيبة فاستقى منه قدراً متوسطاً من الثقافة وقدراً عظيماً من الأفكار الحربية. وكان يتصف بجميع الفضائل عدا فضائل الحضارة، وكان قوي الجسم والإرادة، مولعاً بالرياضة البدنية، وسيماً؛ وجملة القول أنه كان حيواناً عظيماً، يحاول بين الفينة والفينة أن يكون أثينياً مهذباً. وكان كابنه الشهير ذا مزاج حاد عنيف وكرم فائق، مولعاً بالحرب إلى حد كبير وبالشرب إلى حد أكبر. وكان يختلف عن الإسكندر في مرحه وميله إلى الضحك، ولَّى أحد الأرقاء منصباً كبيراً لأنه أدخل على قلبه السرور. وكان يحب الغلمان كثيراً، ولكنه يحب النساء أكثر منهم، وتزوج أكبر عدد استطاعه منهن، وحاول وقتاً ما أن يقتصر على زوجة واحدة هي أولمبياس الأميرة المولوسية Molossian الجميلة التي كانت تعيش على الفطرة والتي ولدت له الإسكندر، ولكنه لم يلبث أن مال إلى غيرها، فأخذت أولمبياس تدبر الانتقام منه إلى نفسها. وكان أحب الناس إليه أشداء الرجال الذين يجازفون بأرواحهم طوال النهار، ويقامرون معه وينادمونه على الشراب إلى نصف الليل. وكان (إلى ما قبل الإسكندر) أشجع الشجعان بلا منازع، وخلّف جزءاً من نفسه في كل ميدان من ميادين القتال. وقد أعجب به دمستين وقال فيه: "يا له من رجل! لقد خسر في سبيل القوة والسلطان عيناً فقئت، وكتفاً كسرت، وذراعاً وساقاً أصيبتا بالشلل"(52). وكان ذا قريحة وقّادة قادراً على أن ينتظر فرصته متربصاً، وعلى أن يسير بعزم ثابت إلى هدفه مجتازاً في سبيله كل ما يعترضه من صعاب. وكان في سياسته لطيفاً غداراً؛ لا يبالي بأن يحنث في وعده، ويجدد هذا الوعد لساعته؛ لا يعترف في الحكم بالمبادئ الأخلاقية، ويرى أن الكذب والرشوة بديلين رحيمين من القتل وسفك الدماء. ولكنه كان رحيماً في انتصاره وكان من عادته أن يعرض على اليونان المنهزمين شروطاً أحسن مما يعرضها بعضهم على بعض. وقد أحبه كل من التقى به، عدا دمستين العنيد، ووصفوه بأنه أقوى رجال زمانه وأكثرهم طرافة.
وكانت حكومته ملكية أرستقراطية يدوم سلطان الملك فيها ما دام متفوقاً في قواه الجسمية أو العقلية، وما دام أشراف البلاد راغبين في معونته. وكان ثمانمائة من أمراء الإقطاع يكونون "صحابة الملك". وكان هؤلاء الصحابة من كبار الملاك الذين يحتقرون حياة الحواضر والزحام والكتب، فإذا ما أعلن الملك الحرب برضاهم خرجوا من ضياعهم وهم أقوياء الأجسام صناديد ليوث غاب. وكانوا في الجيش يؤلفون فرقة الفرسان ويمتطون صهوة الجياد المقدونية والتراقية القوية الشكيمة، وقد دربهم فليب على أن يحاربوا جماعات متراصة يستطيعون إذا صدر إليهم أمر قائدهم أن يبدلوا حركاتهم العسكرية من فورهم كأنهم رجل واحد. وكان إلى جانب هؤلاء الفرسان مشاة من الصيادين والفلاحين الشعث ينظموا في "فيالق"، يصوب ستة عشر صفاً منهم رماحهم فوق رؤوس الصفوف التي أمامهم - ويضعونها فوق أكتافهم - وبذلك يكون كل فيلق أشبه بجدار من الحديد. وكان طول الرمح إحدى وعشرين قدماً، وكان متزناً من مؤخرته فإذا شرعه صاحبه برز إلى الأمام خمسة عشر قدماً. ولما كان كل صف من الجند يتقدم ثلاث أقدام عن الذي يليه فإن رماح الخمسة صفوف الأولى كانت تبرز أمام الفيلق كله، وكانت رماح الثلاثة صفوف الأولى تبرز أمام الفيلق أطول من حراب أقرب المشاة اليونان التي لا تزيد على ستة أقدام. وكان الجندي المقدوني بعد أن يقذف عدوه برمحه يحارب بسيف قصير ويقي رأسه ببيضة من نحاس، وجسمه بدرع، وساقيه بجرموقتين، وصدره بترس خفيف. ويأتي من وراء هذا الفيلق فرقة من الرماة على الطراز القديم يصوبون سهامهم فوق رؤوس حملة الرماح، ومن وراء هؤلاء فرق الحصار بمناجيقها وكباشها المدمرة. ودرب فليب في صبر وعزيمة هذا الجيش المكون من عشرة آلاف جندي حتى جعله أعظم قوة محاربة شهدتها أوربا حتى ذلك الوقت، وأعده للإسكندر كما أعد فردرك وليم جيشه لابنه فردرك الأكبر.
واعتزم أن يستخدم هذه القوة لتوحيد بلاد اليونان وإخضاعها لحكمه، حتى إذا تم له ذلك استعان ببلاد هلاس جميعها وعبر الهلسبنت وطرد الفرس من آسية اليونانية. ولكنه كان في كل خطرة يخطوها نحو هذه الغاية يجد نفسه يعمل ضد حب اليونان للحرية، وكان وهو يحاول أن يتغلب على هذه النزعة ينسى الغاية التي يعمل لها بهذه الوسيلة. ووقف في حركته الأولى وجهاً لوجه أمام أثينة لأنه أراد أن يستولي على المدن التي ضمتها إلى أملاكها على ساحلي مقدونية وتراقية. ولم تكن هذه المدن تسد طريقه إلى آسية وحسب، بل كانت فوق هذا تحتوي مناجم غنية من الذهب، وكانت ذات تجارة رائجة في مقدوره أن يفرض عليها الضرائب. وبينما كانت أثينة منهمكة في "الحرب الاجتماعية" التي انتهت بها إمبراطوريتها الثانية، استولى فليب على أمفبوليس (357)، وبدنا، وبوتيديا(356)؛ ولما احتجت أثينة على هذا العمل العدواني أجابها بالثناء على آدابها وفنونها. وفي عام 355 استولى على ميتوني، وفقد عينه في حصارها، وفي عام 347 استولى على أولنثس بعد حرب طويلة أستعين فيها بضروب كثيرة من البسالة والخداع. وتمت بهذه الأعمال السيطرة على الشاطئ الأوربي لبحر إيجة الشمالي، ودخل خزائنه في كل عام ألف وزنة من مناجم تراقية(53)، واستطاع أن يوجه تفكيره نحو اكتساب معونة بلاد اليونان.
وكان فليب قد حصل على المال الذي أنفقه في حروبه ببيع آلاف من الأسرى في أسواق الرقيق، وكان من بينهم كثيرون من الأثينيين، فنفرت منه قلوب الهلينيين. وكان من حسن حظه أن المدن اليونانية كانت في خلال هذه السنين تنهك قواها في "حرب مقدسة" ثانية (356-346) سببها انتهاب الفوسيين كنوز دلفي. وأيد الإسبارطيون والأثينيون الفوسيين، وحاربت العصبة الأمفكتيونية: بؤوتية، والكريس، ودوريس، وتساليا، ضدهم. ولما دارت الدائرة على هذه العصبة استغاث مجلسها بفليب، ووجد الفرصة ملائمة له فجاء مسرعاً مخترقاً الطرق الجبلية المفتوحة أمامه، وأخذ الفوسيين على غرة (346)، وضُم إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي، ونودي به حامياً للضريح المقدس، وقبل الدعوة التي وجهت إليه لِرياسة اليونان جميعاً في الألعاب البيثية. وهنا امتد بصره إلى دول البلوبونيز المنقسمة على نفسها، وأحس أن في استطاعته أن يحملها جميعاً، عدا إسبارطة الضعيفة، على أن ترتضيه زعيماً لحلف يوناني في مقدوره أن يحرر جميع اليونان في الشرق والغرب. ولكن أثينة استمعت إلى أقوال دمستين فلم ترَ في فليب محرراً لها، بل رأته ساعياً لاستعبادها، وقررت أن تحارب لتحتفظ للمدن اليونانية بالسيادة التي كانت تحرص عليها، وبالدمقراطية الحرة التي جعلتها نور العالم الوضاء.
الفصل السّادس: دمستين (دمستنيز)
إن تمثال الخطيب العظيم القائم في متحف الفاتيكان ليعد من الروائع الفنية الواقعية التي أخرجها العصر الذي انتشرت فيه الحضارة اليونانية خارج بلاد اليونان الأصلية؛ فوجهه يبدو عليه الهم والقلق، كأن كل نصر أحرزه فليب قد أحدث غصناً جديداً في جبهته؛ والجسم نحيل منهوك، ومظهره مظهر الرجل الذي يوشك أن يدعو الناس للأخذ بيده للدفاع عن قضية يرى أنه قد خسرها. وتكشف العينان عن حياة قلقة، وتتنبئان بموت مدبر.
وكان أبوه صانع سيوف وأسِرَّة، ترك له تجارة تبلغ قيمتها أربع عشرة وزنة (000ر84 ريال أمريكي). واختار الوالد ثلاثة من الرجال ليديروا هذه الأملاك لصالح الغلام، ولكنهم أنفقوها على أنفسهم بسخاء، اضطر معه دمستين حين بلغ سن العشرين (363) أن يقاضي الأوصياء عليه لكي يستعيد ما بقي من ميراثه. وأنفق معظم ما آل إليه في تجهيز سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف وهبها للأسطول الأثيني، ثم أخذ يعمل لكسب عيشه بكتابة الخطب للمتقاضين؛ وكان أقدر على الكتابة منه على الكلام، لأنه كان ضعيف الجسم عيّ اللسان. ويقول عنه بلوتارخ إنه كان في بعض الأحيان يعد دفاعاً لكلا الطرفين المتنازعين. وكان يعمل في هذه الأثناء للتغلب على ما فيه من نقص طبيعي، فكان يخاطب البحر وفمه مملوء بالحصباء، أو يخطب وهو يصعد فوق الجبل. وكان مجداً في عمله لا يشغله عنه إلا السراري والغلمان. وقال أمين سره يشكو أمره: "ماذا عسى أن يفعل الإنسان بدمستين؟ إن الشيء الذي قضى عاماً كاملاً يفكر فيه لتربكه امرأة واحدة في ليلة واحدة"(54). وأصبح الرجل بعد جهود مضنية دامت عدة سنين أغنى المحامين في أثينة، يعرف دقائق هذا الفن ويقنع المستمعين إلى خطبه، ولا يتقيد كثيراً بقواعد الأخلاق. وشاهد ذلك أنه دافع عن المصرفي فورميو طالباً تبرئته من تهم وجهها هو بعينها إلى الأوصياء عليه، وكان يتناول أجوراً عالية من الأفراد نظير تقديم بعض القوانين للجمعية والدفاع عنها، ولم يدفع عن نفسه التهمة التي وجهها إليه زميله هيبريديز وهي أنه كان يتلقى المال من ملك الفرس ليشعل نار الحرب على فليب(55). وبلغت ثروته في ذروة مجده عشرة أضعاف ما خلفه له أبوه.
لكنه رغم هذا بلغ من النزاهة درجة رضي معها بالتعذيب والموت في سبيل الآراء التي استؤجر للدفاع عنها. ذلك أنه أخذ يندد باعتماد أثينة على الجنود المرتزقة، وأصر على أن المواطنين الذين يتقاضون أجوراً من "الرصيد" المخصص لإعانة من يحضرون ألعاب الحفلات الدينية ويشاهدون المسرحيات، يجب أن يكسبوها بالخدمة في الجيش؛ وبلغ من شجاعته أن طالب بألا يؤدى هذا المال أجوراً لهؤلاء المواطنين، بل يجب أن ينفق في إعداد قوة حربية للدفاع عن الدولة أحسن من القوة التي لديها . وقال للأثينيين إنهم قوم كسالى منحلون فقدوا ما كان يتصف به آباؤهم من فضائل حربية، وأبى أن يصدق أن دولة المدينة قد وهنت قواها بالانقسامات الحزبية والحروب، وأن الوقت قد آن لتوحيد بلاد اليونان. وأنذر الأثينيين بأن هذه الوحدة ليست إلا أقوالاً تخفي ورائها خضوع بلاد اليونان جميعها لرجل واحد. ولقد تبين أطماع فليب من أعراضها الأولى وتوسل إلى الأثينيين أن يحاربوا للاحتفاظ بأحلافهم ومستعمراتهم في الشمال.
وكان، إسكنيز وفوشيون وحزب السلم يعارضون دمستين وهيبريديز وحزب الحرب. وليس ببعيد أن كلتا الطائفتين كانت مرتشية الثانية من قبل الفرس والأولى من قبل فليب(57)، وأن الاثنتين كانتا تعملان بإخلاص للوصول إلى أغراضها تدفعهما الحماسة التي أثارتها كلتاهما في قلوب أتباعها. وقد أجمع أهل ذلك العصر على أن فوشيون كان أشرف رجال السياسة في أيامه - كان رواقياً قبل أن يؤسس زينون الرواقية، وفيلسوفاً من خريجي مجمع أفلاطون العلمي، وخطيباً يحتقر الجمعية احتقاراً يستطيع القارئ أن يتبينه إذا ذكرنا له أنها حين صفقت له التفت إلى أحد أصدقائه وسأله: "ألم أرتكب خطأ في قولي من حيث لا أدري؟"(58) وقد اختير قائداً (Strategos) خمساً وأربعين مرة ففاق في هذا بركليز نفسه؛ وتولى مراراً كثيرة قيادة الجيش وأظهر في كل مرة كفاية عظيمة، ولكنه قضى معظم حياته يدعو إلى السلم. ولم يكن رفيقه إسكنيز رواقياً في معيشته، بل كان رجلاً ارتقى من الفقر المدقع إلى الثراء الواسع، اشتغل في صباه بالتدريس والتمثيل فأعانه ذلك على أن يكون خطيباً مصقعاً، وأول خطيب يوناني - على ما يقول المؤرخون - يرتجل الخطب ارتجالاً وينجح في ذلك أعظم نجاح(59)، بينما كان منافسوه يعدون خطبهم ويكتبونها قبل إلقائها. واشترك مع فوشيون في عدة وقائع حربية، فأخذ عنه سياسة التراضي مع فليب بدل الاشتراك معه في الحرب؛ ولما أن كافأه فليب على جهوده استحال تحمسه للسلم ولاءً لها وإخلاصاً.
واتهم دمستين إسكنيز مرتين بأنه يرتشي بالذهب من مقدونية، ولكنه في كلتا المرتين عجز عن إثبات التهمة. على أن فصاحة دمستين الحربية وتقدم فليب نحو الجنوب أقنعا الأثينيين آخر الأمر أن يمتنعوا وقتاً ما عن توزيع رصيد المناظر وأن يستخدموه في الاستعداد للحرب. ففي عام 338 نظموا على عجل قوة زحفوا بها إلى الشمال لملاقاة فيالق فليب عند قيرونيا البؤتية. وأبت إسبارطة أن تقدم معونتها لأثينة، ولكن طيبة أحست بقبضة فليب تطبق على عنقها فأرسلت فرقتها المقدسة لتحارب إلى جانب الأثينيين، وقتل الثلاثمائة جندي الذين تتألف منهم هذه الفرقة في الميدان؛ وحارب الأثينيون بهذه الشجاعة نفسها أو بما يقرب منها، ولكنهم كانوا قد تباطأوا فوق الحد المباح، ولم يعدوا العدة لملاقاة جيش المقدونيين المسلح على أحدث طراز. فكانت النتيجة أن منوا بهزيمة شتتت شملهم ففروا أمام بحر الرماح الزاحفة عليهم وفر معهم دمستين. وكان الإسكندر بن فليب يبلغ وقتئذ الثامنة عشر من عمره، وكان يقود فرقة الفرسان المقدونية بشجاعة تبلغ درجة التهور أنالته شرف الانتصار في هذه المعركة الحامية الوطيس.
وكان فليب كريماً في انتصاره كرماً تمليه عليه خطته السياسية التي رسمها. نعم إنه أعدم بعض زعماء طيبة المعادين للمقدونيين، وأقام في تلك المدينة حكومة ألجركية من أشياعه، ولكنه أطلق سراح الألفي أثيني الذين وقعوا أسرى في يديه، وأرسل الإسكندر الظريف وانتباتر Antipater العاقل الحكيم ليعرضا الصلح على أثينة على شريطة أن تعترف به قائداً عاماً لبلاد اليونان كلها ضد عدوها المشترك. وكانت أثينة تتوقع شروطاً أقسى من ذلك كثيراً، ولهذا فإنها لم تقبل هذا الشرط فحسب، بل أصدرت فوق ذلك قرارات تكيل فيها الثناء لهذا الأجممنون الجديد. وعقد فليب في كورنثة جمعية (سندريون Sunderion) من الدول اليونانية، وألف منها جميعاً (عدا إسبارطة) حلفاً على نظام الحلف البؤوتي، ورسم الخطوط الرئيسية لخططه التي تهدف إلى تحرير آسية. واختير بالإجماع قائداً عاماً لهذه المغامرة الكبرى، وتعهدت كل دولة أن تمده بالرجال والسلاح، ووعدته ألا يحارب يوناني من أي بلد كان في صفوف أعدائه. وكانت هذه التضحيات كفارة رخيصة للعداء الذي أظهرته هذه المدن من قبل.
ولم تقف النتائج التي تمخضت عنها قيرونيا عند حد. فقد تحققت بها الوحدة التي عجزت عن تحقيقها بلاد اليونان من قبل، وإن كانت لم تتحقق إلا على ظبا سيف رجل يكاد أن يكون أجنبياً عنها. وكانت الحرب البلوبونيزية قد أثبتت عجز أثينة عن تنظيم هلاس، وأثبتت الحوادث التي أعقبت هذه الحرب عجز إسبارطة عن هذا التنظيم، وعجزت طيبة عن بسط سيادتها على البلاد، وأنهكت حرب الجيوش والطبقات قوى دول المدائن، وتركتها ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن نفسها. لهذا كان من حسن حظها أن تجد لها في هذه الظروف فاتحاً معقولاً يعرض عليها أن ينسحب من ميدان النصر ويترك للمغلوبين قسطاً كبيراً من الحرية. والحق أن فليب ومن بعده الإسكندر كانا يحيطان استقلال الدول المتحالفة بحمايتهما ورقابتهما، حتى لا تضم إحدى هذه الدول غيرها إليها فيكون لها من القوة ما تستطيع به أن تحل بينها محل مقدونية. بيد أن فليب قد سلبها نوعاً غالياً من الحرية - ونعني به حق الثورة. فقد كان محافظاً صريحاً، يرى أن استقرار الملكية حافز لا غنى عنه للإقدام والنشاط، ودعامة لا بد منها للحكم. ومن أجل هذا حمل المجمع المقدس في كورنثة على أن يضع بين مواد الحلف عهداً يقطعه المتحالفون على ألا يُدخلوا في الدستور تغييراً ما، وألا يبدلوا النظم الاجتماعية بحال من الأحوال، وألا يتورطوا في الانتقامات السياسية. وكان في كل ولاية يؤيد بنفوذه المدافعين عن الملكية، وقضى قضاءً تاماً على الضرائب الفادحة التي تبلغ درجة مصادرة الأملاك. وكان قد أحكم وضع خططه كلها إلا ما يختص منها بزوجته أولمبياس Olympias، ولهذا فإن الذي قرر مصيره آخر الأمر لم يكن هو انتصاره في ميدان القتال، بل كان عجزه عن الانتصار على زوجته. ولم يكن يرهب منها أخلاقها وحِدَّة طباعها فحسب، بل كان يرهب فوق ذلك اشتراكها في الطقوس الديونيشية الهمجية. وقد وجد في ذات ليلة أفعى إلى جانبها في السرير، فارتاع ولم يذهب عنه روعه حتى بعد أن قيل له إن الأفعى إله من الآلهة. وأسوأ من هذا أن أولمبياس أخبرته ذات مرة أنه لم يكن والد الإسكندر الحقيقي، بل إن صاعقة قد انقضت عليها ليلة زفافها، وأشعلت فيها النار، وأن الإله العظيم زيوس - أمون هو الذي حملت منه بالأمير المقدام. ونفّرت هذه المنافسات المختلفة فليب منها فولى وجهه شطر غيرها من النساء، وشرعت أولمبياس تثأر لنفسها منه فأخبرت الإسكندر بسر أبوته الإلهية(60). وزاد الطين بلّة أن قائداً من قواد فليب يدعى أتلس Atallus طلب أن يشرب نخب ولد فليب المرتقب من زوجة أخرى وقال إنه الوارث "الشرعي" (أي المقدوني لحماً ودماً) لعرش البلاد. فما كان من الإسكندر إلا أن ضربه بالكأس في رأسه وصاح قائلاً: "وهل أنا إذن ابن زنى؟". واستل فليب سيفه يريد أن يقتل به ولده ولكنه كان ثملاً لا يستطيع الوقوف. فضحك منه الإسكندر وقال: "هاهو ذا رجل يستعد للانتقال من أوربا إلى آسية وهو لا يستطيع أن يخطو آمناً من مقعد إلى مقعد". وبعد بضعة أشهر من ذلك طلب ضابط من ضباط فليب يدعى بوسينياس أن يأخذ له الملك بحقه من أتلس لإهانة لحقت به منه، فلما لم يجبه الملك إلى طلبه اغتاله (336). وكان الإسكندر محبوباً من الجيش حباً يقرب من العبادة، وكانت أولمبياس تؤيده فاستولى على أزمة الملك، وتغلب على كل ما لقيه من مقاومة، وأخذ يعد العدة لفتح العالم.