قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 3 ب 18

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> انتحار بلاد اليونان -> العالم اليوناني في عهد بركليز

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثامن عشر: انتحار بلاد اليونان

الفصل الأول: العالم اليوناني في عهد بركليز

خليق بنا قبل أن نواجه منظر حرب البلوبونيز المحزنة أن نلقي نظرة على العالم اليوناني خارج أتكا. ولكن معلوماتنا عن الدولة الواقعة في هذا العالم ضئيلة إلى حد لا يسعنا معه إلا أن نفترض ما لا نستطيع أن نقيم عليه الدليل، وهو أنها كانت تشترك مع أثينة في الازدهار الثقافي الذي امتاز به العصر الذهبي وإن لم تبلغ مبلغ أثينة نفسها في هذا الازدهار.

في عام 459 سيّر بركليز أسطولاً ضخماً ليطرد الفرس من مصر حرصاً منه على أن يضمن لبلاده قمحها. وأخفقت الحملة في غرضها، وسار بركليز من ذلك الحين على السياسة التي كان يسير عليها ثمستكليز، وهي أن يكسب العالم بالتجارة لا بالحرب. من أجل ذلك ظلت مصر وقبرص طوال القرن الخامس خاضعتين لحكم الفرس، واحتفظت رودس بحريتها، ثم انضمت مدنها الثلاث وأصبحت مدينة واحدة عام 408 فتهيأت بذلك إلى أن تكون في العهد الذي اصطبغ فيه في العالم المعروف بالصبغة اليونانية مركزاً من أغنى المراكز التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط. واحتفظت المدن اليونانية في آسية باستقلالها الذي ظفرت به في ميكالي عام 479 حتى أضحت بعد تدمير الإمبراطورية الأثينية ضعيفة عاجزة عن مقاومة جباة الملك العظيم . وازدهرت المستعمرات اليونانية في تراقية وعلى شواطئ الهلسبنت والبروبنتس واليوكسين تحت السيطرة الأثينية، ولكن الحرب البلوبونيزية أكلت فيها الأخضر واليابس. وخرجت مقدونية تحت حكم أرخلوس Archelaus من غمار الهمجية وأضحت إحدى الدول الكبرى في العالم اليوناني. فأنشئت فيها الطرق الصالحة، وصار لها جيش حسن النظام والتدريب من رجال الجبال الأشداء، وبنيت لها عاصمة جديدة جميلة في بلا، ورحب بلاطها بكثيرين من عباقرة اليونان أمثال تموثيوس Timotheus، وزيوكسيز Zeuxis، ويوربديز، وضربت بلاد اليونان في الحلف البؤوني مثلاً طيباً لم تنتفع به لحياة الدول حرة مستقلة في ظلال السلم والتعاون الدولي.

وفي إيطاليا عانت المدن اليونانية أشد البلاء من جراء الحروب المتكررة ومن تفوق أثينة في مجال التجارة البحرية. وأرسل بركليز في عام 443 جماعة من الهلينيين جمعهم من عدة دول لينشئوا بالقرب من سيبارس مستعمرة ثورياي Thurii الجديدة لتكون تجربة في سبيل الوحدة الهلينية الجامعة، ووضع بروتاغوراس قانوناً عاماً للمدينة، وخطط هبودامس المهندس المعماري شوارعها على نظام مربع حذت كثير من المدن الأخرى حذوه في القرون التالية. ولكن لم تمض على تلك التجربة إلا بضع سنين حتى انقسمت المستعمرات أحزاباً وشيعاً حسب أصولها، وحتى عاد معظم الأثينيين، وأكبر الظن أن هيرودوت كان منهم، إلى أثينة.

وظلت صقلية - وهي التي كانت دائماً مضطربة ولكنها كانت دائماً غنية -تنمو ثروتها وتزداد ثقافتها. وشادت سلينس وأقراغاس معابد ضخمة وبلغت أقراغاس في عهد ثيرون درجة من الغنى قال فيها أنبادوقليس: "ينغمس رجال أقراغاس في الترف كأنهم يموتون غداً، ولكنهم يؤثثون بيوتهم كأنهم يعيشون أبداً"(1). وترك جيلون الأول بعد موته في عام 478 لسرقوصة نظاماً إدارياً لا يكاد يقل إحكاماً عن النظام الذي خلفه نابليون لأوربا الحديثة. وأضحت المدينة في عهد أخيه هيرون الأول الذي جلس على العرش من بعده مركزاً للأدب والعلم والفن فضلاً عن التجارة والثروة. وفيها أيضاً بلغ الترف غايته. فكانت المآدب السرقوصية مضرب المثل في البذخ، وكثرت "البنات الكورنثيات" في المدينة حتى كان الرجل الذي ينام في منزله يعد من القديسين؛ وكان الأهلون سريعي البديهة حداد الألسنة، يستمتعون بالخطب البليغة إلى حد أفسد عليهم أمورهم، ويتزاحمون في الملهى الفخم ذي الهواء الطلق ليستمعوا إلى مسالي إبكارمس ومآسي إسكلس .

وكان هيرون هذا ملكاً مستبداً غليظ القلب حسن القصد، قاسياً على أعدائه، مكرماً لأصدقائه. فتح بابه وخزائنه لسمونيديز، وبكليديز، وبندار، وإسكلس، واستعان بهم على جعل سرقوصة إلى وقت ما عاصمة اليونان العقلية.

لكن الناس لا يعيشون على الفن وحده؛ وكان السرقوصيون يتوقون إلى نعمة الحرية، فلما توفي هيرون خلعوا أخاه وأقاموا حكومة ديمقراطية مقيدة، وشجع هذا مدن الجزيرة الأخرى، فحذت حذو سرقوصة وطردت الطغاة الحاكمين، وقضت على الأشراف ملاّك الأراضي وأنشأت ديمقراطيات تجارية تقوم على نظام من الاسترقاق القاسي الشديد. وقضت الحرب بعد ستين سنة من ذلك الوقت على هذه الفترة من فترات الحرية كما قضت من قبل على فترة أخرى مماثلة لها على يد جيلون الأول. وفي عام 409 غزا القرطاجيون صقلية بأسطول ضخم مؤلف من ألف وخمسمائة سفينة وعشرين ألف رجل بقيادة هنيبال حفيد هملكار؛ وذلك بعد أن ظلوا ثلاثة أجيال محتفظين بذكرى هزيمة هملكار في هيميرا Himera. وحاصر هنيبال سلينس وكانت قد جنحت إلى السلم بعد أن عمها الرخاء، وأهملت معاقلها فلم تصلح شأنها. فلما أن باغت العدو المدينة استغاثت بأقراغاس وسرقوصة؛ وتباطأ أهلها المنعمون في إغاثتها تباطؤ الإسبارطيين، حتى استولى العدو على سلينس، وذبح كل من بقي حياً من أهلها وقطع أوصالهم، وأصبحت المدينة جزءاً من الإمبراطورية القرطاجية. وواصل هنيبال زحفه على هيميرا، واستولى عليها دون عناء، وعذّب وقتل ثلاثة آلاف من أهلها، ليرضي بذلك شبح جده المهزوم. ثم فشا الطاعون بين جنوده فأهلك أكثرهم، ومات به هنيبال نفسه في أثناء حصار أقراغاس، غير أن القائد الذي خلفه سكّن غضب آلهة قرطاجة بأن حرق ابنه حياً زلفى لهذه الآلهة. واستولى القرطاجيون على المدينة، وعلى جيلا Gela وكمرينا Camarina وزحفوا على سرقوصة. وبوغت السرقوصيون وهو منهمكون في ولائمهم، فأسلموا زمام السلطة المطلقة لديونيشس أعظم قائد في بلدهم، ولكن ديونيشس عقد الصلح مع القرطاجيين وترك لهم القسم الجنوبي من صقلية بأجمعه واستخدم جنوده في إقامة الدكتاتورية ثانية(405). ولم يكن ذلك كله غدراً منه وخيانة لبلاده، فقد كان يعرف أن المقاومة غير مجدية، فنزل للعدو عن كل شيء عدا مدينته وجيشه، واعتزم أن ينهض بالمدينة والجيش حتى يستطيع أن يفعل ما فعله جيلون من قبله فيطرد الغزاة من صقلية.


الفصل الثاني: كيف شبت نار الحرب الكبرى

لا يستطيع المواطن الساذج إلا أن يعتقد أن سبب كل الحروب هو على الدوام سبب شخصي - بل شخص واحد في العادة، كما لا تستطيع النفس الساذجة إلا أن تصور إلهها في صورة إنسان. وحتى أرسطوفان نفسه قد فعل ما فعله الثرثارون النمّامون من رجال عصره فادعى أن بركليز هو الذي أوقد نار الحرب البلوبونيزية بهجومه على ميغارا لأن ميغارا أساءت إلى إسبانيا(3). والراجح أن بركليز الذي لم يتردد في الاستيلاء على إيجينا، كان يأمل أن تستحوذ أثينة على التجارة اليونانية بأجمعها، وذلك بسيطرتها على ميغارا وعلى كورنثة أيضاً؛ ولقد كان مركز كورنثة بالنسبة لبلاد اليونان كمركز اسطنبول في شرق البحر الأبيض المتوسط في وقتنا الحاضر - كانت باباً ومفتاحاً لتجارة نصف قارة. لكن سبب الحرب الجوهري هو نمو الإمبراطورية الأثينية، وازدياد سيطرة أثينة على الحياة التجارية والسياسية في بحر إيجة. لقد كانت أثينة تترك التجارة حرة في هذا البحر وقت السلم، لكنهما لم تكن تفعل ذلك إلا إذا أجازته هي وسمحت به مصالحها الإمبراطورية؛ ولم يكن في مقدور أية سفينة أن تمخر عباب هذا البحر إلا برضائها. وكان رجال أثينيون موكلون منها يحددون مستقر كل سفينة تغادر ثغور الحبوب في البلاد الشمالية؛ ولما أن كان الجدب يهلك ميثوني Methone لم تستطع أن تستورد القليل من الحبوب إلا بعد استئذان أثينة(4). وكانت تلك المدينة تدافع عن هذه السيطرة لأنها تراها أمراً حيوياً لا بد منه لبقائها، فقد كانت تعتمد في طعامها على ما تستورده من خارج بلادها، وقد أجمعت أمرها على أن تحرس الطرق التي يصل منها هذا الطعام إليها؛ على أنها بحراستها طرق التجارة الدولية كانت تؤدي خدمة حقة للسلم والرخاء في بحر إيجة، ولكن الطريقة التي سارت عليها في أداء هذه الخدمة ازدادت إيلاماً للمدن الخاضعة لها وجرحاً لكبريائها كلما زاد ثراء هذه المدن وقوي إحساسها بعزتها القومية. وكانت أثينة قد أخذت تنفق الأموال التي تبرعت بها هذه المدن لتصد بها غارات الفرس عنها في تجميلها، بل لقد بلغ منها أن أخذت تنفقها في شن الحرب على غيرها من مدن اليونان(5). وكانت الأحوال المفروضة على تلك المدن تزداد عاماً بعد عام حتى بلغت في عام 432 ق.م 460 وزنة (000ر300ر2 ريال أمريكي) في العام. وكانت أثينة قد قصرت على المحاكم الأثينية حق النظر في جميع القضايا التي تنشأ في داخل الحلف إذا كان أحد طرفي النزاع مواطناً أثينياً أو كانت القضايا تشمل جرائم كبرى. فإذا ما وقفت مدينة في وجه أثينة أخضعتها بالقوة؛ وعلى هذا النحو أخمد بركليز بسرعة ومهارة الفتن التي ثار نقعها في إيجينا (457)، وعوبية (446)، وساموس (440).

وإذا جاز لنا أن نصدق قول توكيديدز فإن زعماء الديمقراطية الأثينية كانوا يعترفون أن حلف المدن الحرة قد أصبح إمبراطورية تقوم على القوة؛ وإن كانوا قد اتخذوا الحرية الغرض الأسمى لسياستهم في داخل أثينة نفسها، وفي ذلك يقول توكيديدز على لسان كليون مخاطباً الجمعية في عام 427: "عليكم أن تذكروا أن إمبراطوريتكم ليست إلا طغياناً تفرضونه على أقوام خاضعين لسلطانكم رغم أنوفهم، وأنهم لا ينفكون يأتمرون بكم، وهم لا يطيعونكم نظير خير تقدمونه لهم وتضرون به أنفسكم لتنفعوهم فتؤثروهم بذلك على أنفسكم، بل يطيعونكم لأنكم سادتهم، وهم يحبونكم مرغمين، ولكنهم لا يخضعون لكم إلا بالقوة"(6). وقد أدى هذا التناقض الأساسي بين عبادة الحرية؛ وطغيان الإمبراطورية منضماً إلى النزعة الفردية المتأصلة في الدول اليونانية أدى هذا وذاك إلى القضاء على العصر الذهبي في بلاد اليونان.

وشرعت مدن اليونان جميعها تقريباً تقاوم سياسة أثينة(7)، فقاومت بؤوتية في كورونيا (447) ما بذلته أثينة من جهود لضمها إلى الإمبراطورية. واستغاثت بعض المدن الخاضعة لأثينة وبعضها الآخر الذي يخشى الخضوع لها بإسبارطة، وطلبت إليها أن تقف في وجه أثينة. ولم يكن الإسبارطيون متحمسين للحرب راغبين فيها، لعلمهم بقوة الأسطول الأثيني وشجاعة رجاله، ولكن الكراهة العنصرية القديمة بين الدوريين والأيونيين أشعلت نار البغضاء في قلوبهم، وبدا للألجركية الإسبارطية مالكة الأراضي أن الخطة التي جرت عليها أثينة وهي إقامة حكومة ديمقراطية تستمد سلطتها من الإمبراطورية في كل مدينة من المدن الخاضعة لها، نقول بدا لهذه الألجركية أن تلك الخطة تهدد كيان الحكومات الأرستقراطية أينما كانت، واكتفى الإسبارطيون حيناً من الدهر بتقديم المعونة للطبقات العليا في كل مدينة من هذه المدن، وأخذوا يعملون على مهل في تكوين جبهة متحدة ضد أثينة.

ورأى بركليز نفسه يحيط به الأعداء من داخل أثينة وخارجها، فأخذ يعمل للسلم ويستعد للحرب. وهداه تفكيره إلى أن في مقدور الجيش أن يدافع عن أتكا، أو عن جميع سكان أتكا إذا اجتمعوا داخل أسوار أثينة، وأن في مقدور الأسطول أن يحمي الطرق التي تسلكها السفن المحملة بالحبوب من بلاد اليوكسين أو مصر إلى ثغر أثينة المسور ويبقيها مفتوحة. وكان يعتقد أنه لا يستطيع النزول عن شيء لأعدائه دون أن يعرض للخطر موارد الطعام الذي تعتمد عليه أثينة؛ وبدا له كما يبدو لإنجلترا في هذه الأيام، أنه أمام واحدة من اثنتين إما الإمبراطورية أو الموت جوعاً ولا وسط بينهما. ولكنه مع هذا أرسل الرسل إلى جميع الدول اليونانية يدعوها إلى عقد مؤتمر هليني للبحث عن حل للمشاكل التي تدفع اليونان للحرب. فرفضت إسبارطة الدعوة، إذ أحست أن قبولها إياها سيفسر بأنه اعتراف منها بزعامة أثينة، وحذت كثير من الدول الأخرى حذوها بوحي منها(8)، وبذلك فشل مشروع بركليز. وفي هذا يقول توكيديدز مقالة تفسر كثيراً من الحقائق التاريخية: "لقد كانت البلوبونيز وأثينة مملوءتين بالشباب تدفعهم نقص تجربتهم إلى الرغبة في امتشاق الحسام"(9).

كانت هذه العوامل الأساسية تعمل عملها، ولم يكن قيام الحرب يتطلب أكثر من حادث يستفز النفوس. وقد وقع هذا الحادث في عام 435. وذلك أن كرسيرا Corcyra إحدى المستعمرات الكورنثية أعلنت استقلالها عن كورنثة وانضمت إلى الحلف الأثيني ليحميها من تلك المدينة. وأرسلت كورنثة عمارة بحرية لإخضاع الجزيرة. واستغاث الديمقراطيون المنتصرون في كرسيرا بأثينة فسيّرت أسطولاً لإغاثتهم. وحدثت معركة غير حاسمة بين أهل كرسيرا وأثينة من جهة، وأهل ميغارا وكورنثة من جهة أخرى. وفي عام 432 حاولت بوتيديا Potidaea وهي مدينة في جزائر خلقيدية تؤدي الجزية لأثينة ولكن أهلها من عنصر كورنثي، حاولت هذه المدينة أن تخلع النير الأثيني عن كاهلها، فسيّر عليها بركليز جيشاً يحاصرها، ولكنها ظلت تقاومه سنتين كاملتين استنفدت في خلالهما موارد أثينة العسكرية وأضعفت هيبتها. ولما أن مدت ميغارا يدها مرة أخرى بالمعونة إلى كورنثة أمر بركليز بمنع كل محصولاتها من دخول أسواق أتكا والإمبراطورية. واستغاثت ميغارا وكورنثة بإسبارطة، فعرضت على أثينة أن تلغي قرار التحريم، ووافق بركليز على شريطة أن تسمح إسبارطة للدول الأجنبية بأن تتجر مع لكونيا، فرفضت إسبارطة هذا الشرط، واشترطت من جانبها للصلح أن تعترف أثينة باستقلال جميع المدن اليونانية استقلالاً تاماً، أي أن تنزل أثينة عن إمبراطوريتها. وأقنع بركليز الأثينيين أن يرفضوا هذا الطلب، فما كان من إسبارطة إلا أن أعلنت الحرب(10).

الفصل الثالث: من الوباء إلى السلم

وانضمت بلاد اليونان كلها إلى هذا الطرف أو ذاك من الطرفين المتنازعين، فانضمت دول البلوبونيز ما عدا أرغوس إلى إسبارطة، وحذت حذوها كورنثة، وميغارا وبؤونية، ولكريس، وفوسيس. أما أثينة فقد قدمت لها المدائن الأيونية واليكسينية، والجزائر الإيجية في بادئ الأمر بعض معونتها. وكانت المرحلة الأولى من مراحل تلك الحرب كالمرحلة الأولى من الحرب العالمية الكبرى في هذه الأيام صراعاً بين القوتين البحرية والبرية، فقد ضرب الأسطول الأثيني مدن البلوبونيز الساحلية، وأما الجيش الإسبارطي فغزا أتكا واستولى على غلاّتها وأتلف تربتها. ودعا بركليز سكان أتكا إلى الاعتصام داخل أسوار أثينة، وأبى أن يخرج جيوشه للقتال، ونصح الأثينيين الذين هاج هائجهم بأن يصبروا ويصابروا حتى ينتصر أسطولهم. وقد كان هذا تدبيراً سديداً من الناحية العسكرية الفنية، ولكنه غفل عن عامل كاد أن يحسم النزاع. فقد كان ازدحام أثينة بأهل أتكا سبباً في تفّشي وباء فيها - لعله الملاريا(11) - في عام 430 دام قرابة ثلاث سنين، وأهلك ربع جنودها، وعدداً كبيراً من أهلها المدنيين . واستولى اليأس على قلوب الأهلين لما لحقهم من العذاب بسبب الوباء والحرب فاتهموه بأنه أصل كليهما. وتقدم كليون وغيره للقضاة متهمين بركليز بأنه أساء التصرف


الفصل الثاني: الصناعة

كانت أرض أتكا تنتج المعادن والوقود كما تنتج الطعام، وكان الأهلون يضيئون بيوتهم بمصابيح جميلة المنظر، ومشاعل يستخدمون فيها زيت الزيتون المكرر أو الراتينج- أو بالشموع. وكانوا يدَّفئون بالخشب الجاف أو الفحم الخشبي، يحرقونه في مواقد متنقلة. وقد عريت الغابات والتلال القريبة من المدن لكثرة ما قُطع من أشجارها للوقود والبناء، حتى أضحت البلاد في القرن الخامس قبل الميلاد تستورد الخشب الذي تحتاجه لبناء البيوت والسفن وصنع الأثاث. أما الفحم الحجري فلم يكن لهُ وجود.

ولم يكن الغرض من التعدين في بلاد اليونان الحصول على الوقود، بل كان غرضه استخراج المعادن، وكانت أرض أتكا غنية بالرخام، والحديد، والخارصين، والفضة، والرصاص. وكانت مناجم لوريوم القريبة من الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة "فوارة تندفع منها الفضة، لأثينة" كما يقول إسكلس. وكانت هذه المناجم أكبر ما تعتمد عليهِ الحكومة، فكانت تحتفظ لنفسها بملكية كل ما تحت التربة، وتؤجر المناجم إلى من يستغلها من الأفراد نظير أجر محدد قدره وزنة )تالنت أي 6000 ريال أمريكي( وجزء من أربعة وعشرين جزءاً من غلتها في العام. ولما اكتشفت أولى العروق المربحة في لوريوم عام 483 هرع الناس إلى إقليم المناجم لاستخراج الفضة. ولم يكن يسمح لغير المواطنين بأن يستأجروا تلك المناجم، ولم يكن يقوم بالعمل فيها سوى العبيد. وكان نيشياس Nicias التقي، الذي ساعد بخرافاتهِ على خراب أثينة، يكسب ما يعادل مائة وسبعين ريالاً أمريكياً في اليوم الواحد بتأجير ألف عبد إلى مستغلي المناجم بما لا يزيد على أبولة واحدة )17 0 من الريال الأمريكي( لكل منهم في اليوم؛ وما أكثر الثروات التي جمعها الأثينيون بهذهِ الطريقة، أو بإقراض الأموال اللازمة لهذا الاستغلال. وكان عدد العبيد في المنجم يبلغ أحياناً عشرين ألفاً، وكان منهم المشرفون عليهم والمهندسون. وكانوا يعملون في نوبات تطول كل منها إلى عشر ساعات، ولم يكن العمل ينقطع ليلاً أو نهاراً؛ فإذا ما تباطأ العبد أو استراح ألهب المشرف عليه ظهره بالسوط، وإن حاول الهرب صُفّدَ بأغلال من حديد، وإذا هرب وألقي القبض عليه كويت جبهته بالحديد المحمي. ولم يكن عرض المنجم يزيد على قدمين، ولم يكن ارتفاعه يتجاوز ثلاث أقدام، وكان العبيد يعملون فيه بالمنقب أو الإزميل والمطرقة، وهم جاثمون على ركبهم، أو منبطحون على بطونهم أو مستلقون على ظهورهم. وكانت الخامات بعد تكسيرها تُنقل في سلال أو أكياس يتناولها رجل من رجل، لأن الممرات لشدة ضيقها لا تسمح لاثنين أن يمر أحدهما بالآخر بسهولة. وكانت الأرباح التي تُجنى من هذهِ المناجم غاية في الضخامة.

وحسبنا دليلاً على هذا أن إتاوة الحكومة منها بلغت في عام 483 مائة وزنة )نحو 600.000 ريال أمريكي(- وهي ثروة رُزِقتها أثينة من حيث لا تحتسب واستطاعت أن تُنشئ بها أسطولاً تنقذ به بلاد اليونان كلها عند سلاميس. ولقد عاد هذا العمل بالخير والشر معاً حتى على غير العبيد فقد أصبحت خزانة أثينة بسببه تعتمد كل الاعتماد على المناجم فلما أن استولى الاسبارطيون على لوريوم في حرب البلوبونيز، اضطربت أحول أثينة الاقتصادية من أولها إلى آخرها ولما نضب معين المناجم في القرن الرابع كان نضوبها أحد العوامل الكثيرة في اضمحلال أثينة، وذلك لأن أرض أتكا ليس فيها معدن ثمين غير الفضة.


وصناعة التعدين تتقدم بتقدم استخراجها. فكانت الخامات المستخرجة من مناجم لوريوم تدق في مهارس ضخمة بمدقات ثقيلة من الحديد يحركها العبيد، ثم تنقل بعدئذ إلى مطاحن تطحنها بين حجرين دوارين شديدي الصلابة، ثم تغربل، ويؤخذ ما ينزل من ثقوب الغربال إلى حيث يُغسل، فيوضع على مناضد مائلة مستطيلة الشكل مصنوعة من الحجر ومغطاة بطبقة رفيعة ملساء من الأسمنت الصلب ويسلط عليه شؤبوب ماء من حوض. ويندفع تيار الماء ثم ينثني بزوايا حادة عندها فجوات تلتقط جزيئات المعدن. ثم يؤخذ ما يتجمع منه فيها ويُلقى في أفران للصهر مجهزة بمنافيخ ترفع حرارتها. وفي قاع كل فرن فتحات ينزل منها المعدن المصهور. ويفصل الرصاص من الفضة برفع حرارة المعدن المصهور فوق بواتق مصنوعة من مادة مسامية وتعريضه بعد ذلك للهواء. وبهذهِ الطريقة السهلة يتحول الرصاص إلى أكسيد الرصاص وتخلص الفضة. وقد برع العمال في عمليتي الصهر والتنقية، كما تشهد بذلك العملة الفضية الأثينية، فإن فضتها نقية إلى درجة 98 في المائة. ولقد أدت لوريوم ثمن ما أنتجته من الثروة، لأن صناعة التعدين تجلب في أعقابها أضراراً تُذهب بكثير من أرباحها. فالنبات يموت والناس يهلكون بتأثير الدخان المنبعث من الأفران، والأماكن المجاورة للمصانع تصبح قفراء جدباء يغطيها التراب والرماد.

أما غير هذهِ الصناعة فلا يكلف من الجهد ما تكلفه؛ وفي أتكا الآن كثير من هذهِ الصناعات غير المجهدة، وهي وإن كانت صغيرة في حجمها دقيقة شديدة التخصص في نوعها، فقد كانت تستخرج الرخام وغيره من الحجارة من محاجرها، وتصنع آلافاً من أشكال الآنية الخزفية، وكانت تدبغ الجلود في مدابغ كبيرة كالتي يمتلكها كليون منافس بركليز وأنيتس الذي وجه التهمة إلى سقراط. وكان من أهلها فوق ذلك صانعو العربات، وبناءو السفن وصانعو السروج وسائر عدد الخيل، والحذاءون، وكان من صانعي السروج مَن لا يصنعون إلا الأعنة ومن الحذائين مَن اختصوا بصنع أحذية الرجال أو النساء. وكان من المشتغلين بحرف البناء نجارون وصانعون للقوالب، وقاطعون للأحجار، ومشتغلون بالمعادن، ومصورون، وطالون للجدران والأخشاب. وكان فيها حدادون وصانعون للأسياف والدروع، والمصابيح، والقيثارات، والطحّانون، والخبازون، والوزامون والسماكون- وجملة القول أنها كانت تحتوي على كل ما تطلبه الحياة الاقتصادية الكثيرة العمل المتنوعة الأشكال، غير الآلية أو المملة. وكانت المنسوجات العادية لا تزال حتى ذلك الوقت تُنسج في المنازل، ففيها كان النساء ينسجن، ويصلحن ثياب الأسرة وفراشها، ومنهن مَن يمشطن الصوف أو يدرن عجلة الغزل، ومنهن مَن يتعهدن الأنوال ومَن ينحنين أمام إطار التطريز. أما المنسوجات الخاصة فكانت تُشترى من المصانع أو تُستورد من خارج البلاد- فالأقمشة التيلية الرقيقة كانت تَرد من مصر، وأمرجوس Amorgos، وتارنتم؛ والأقمشة الصوفية المصبوغة من سراقوصة، والبطاطين من كورنثة، والطنافس من الشرق الأدنى وقرطاجة، وأغطية الفراش الملونة من قبرص وتعلمت نساء كوس في أواخر القرن الرابع حل شرانق دود القز وغزل خيوط الحرير. وأتقنت النساء في بعض المنازل فنون النسيج إتقاناً أمكنهن أن ينتجن أكثر من حاجة أسرهن، فكن يبعن ما زاد على حاجتهن إلى المستهلكين في بادئ الأمر، ثم إلى الوسطاء؛ وكن يستعن بمن يساعدهن، من المعاتيق أو الأرقاء، ونشأت على هذا النحو صناعة منزلية كانت هي الخطوة الأولى في سبيل نظام المصانع. وبدأ هذا النظام يتشكل في عصر بركليز، وكان بركليز نفسه، كما كان ألسبيديز، يمتلك مصنعاً، ولم تكن هناك آلات، ولكن كان في الاستطاعة الحصول على كثير من العبيد؛ وكان رخص القوة العضلية سبباً في انعدام الحافز إلى صنع الآلات؛ ولهذا كانت دور الصناعة في أثينة "حوانيت صناعة" لا مصانع، ولم يكن في أكبرها، وهو حانوت صنع الدروع الذي يمتلكه سفالوس Cephalus، سوى مائة وعشرين عاملاً، وكان في دار صنع الأحذية التي يمتلكها تمركوس Timarchus عشرة عمال، وفي مصنع دمستين للأساس عشرون وفي مصنعه للعُدد الحربية ثلاثون. ولم تكن هذهِ الحوانيت في بادئ الأمر تنتج إلا لمن يطلب الإنتاج، ثم صارت فيما بعد تنتج للسوق، ثم للتصدير في آخر الأمر وكان حلول النقود محل المقايضة، وانتشار هذهِ النقود انتشاراً واسعاً، مما يسر عليها أعمالها. ولم تكن في البلاد منظمات صناعية، بل كان كل مصنع وحدة مستقلة بذاتها يمتلكها رجل أو رجلان، وكان صاحبه يعمل في كثير من الأحيان إلى جانب عبيده. ولم تكن لديهم علامات تجارية، وكانت الحرف يأخذها الأبناء من الآباء، أو يتعلمها الصبيان عن الرؤساء وكان القانون يعفي الأثينيين من رعاية آبائهم في شيخوختهم إذا لم يعلمهم أولئك الآباء حرفة يشتغلون بها. وكانت ساعات العمل كثيرة، ولكنهم كانوا يعملون على مهل، فكان صاحب المصنع وعماله يعملون من مطلع الفجر إلى ما بعد غروب الشمس، مع إغفاءة قصيرة في وقت الظهيرة صيفاً. ولم تكن هناك إجازات ولكنهم كانت لهم في كل عام ستون عيداً ينقطعون فيها عن العمل.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: التجارة والمال

إذا أنتج الفرد، أو الأسرة، أو المدينة أكثر من حاجته أو حاجتها، نشأت التجارة. وكانت أولى الصعاب التي واجهت أتكا أن وسائل النقل فيها كثيرة النفقة غير متيسرة، وأن البحر شراك ليس من السهل على سفنها أن تفلت منه. وكانت أحسن طرقها البرية هي الطريق المقدسة الممتدة من أثينة إلى إليوسيس؛ وإن لم تكن أكثر من طين، وإن كانت أضيق من أن تتسع لمرور المركبات. أما القناطر فلم تكن أكثر من معابر غير مأمونة مقامة من حواجز من الطين كثيراً ما تجرفها الفيضانات. وكان حيوان الجر المألوف هو الثور وهو حيوان أوتي من الفلسفة أكثر مما يسمح له بأن يغني التاجر الذي يعتمد عليه في نقل متاجره. وكانت العربات هشة تتحطم على الدوام أو تتعطل عن السير في الوحل وكان افضل منها لديه أن ينقل بضاعته على ظهور البغال، لأنها أسرع من العربات قليلاً، ولأنها لا تشغل ما تشغله لك العربات من الطريق. ولم يكن في بلاد اليونان نظام للبريد، وحتى الحكومات نفسها لم يكن لها مثل هذا النظام، بل كانت تقنع بالعدّائين؛ وكانت الرسائل الخاصة تنتظر إلى أن يتاح لها مَن ينقلها منهم. وكانت الأخبار الهامة تُرسل بالإشارات النارية يتلقفها تل من تل أو بالحمام الزاجل. وكانت في أماكن متفرقة من الطرق نُزل، ولكنها كانت مآوى محببة للصوص والحشرات؛ وحتى الإله ديونيسس في إحدى مسرحيات أرسطوفان يسأل هرقل عن " بيوت الأكل ودور الضيافة التي هي أقل من غيرها بقّاً ".

وكان النقل البحري أقل كلفة من النقل البري وبخاصة إذا اقتصر على أشهر الصيف الساكنة الريح، وكان هذا النقل في العادة مقصوراً على تلك الشهور. وكانت أجور السفر قليلة، فكان في وسع الأسرة أن تنتقل من بيرية إلى مصر وإلى البحر الأسود نظير درخمتين )أي ريالين أمريكيين(، ولكن السفن لم تكن تُعنى بنقل المسافرين لأنها صُنعت قبل كل شيء لنقل البضائع أو لشن الحرب أو لهذا الغرض أو ذاك كما تقضي الضرورة. وكانت أهم القوى المحركة هي قوة الريح تملأ الشراع، ولكن العبيد كانوا يُسيّرون السفن بالمجاديف إذا سكنت الريح أو هبت في عكس اتجاه السفن. وكانت أصغر سفن البحار التجارية يُسيّرها ثلاثون مجدافاً، ومنها ما كان له خمسون. وأنزل أهل كورنثة في البحر منذ عام 700 قبل الميلاد أولى السفن ذات الثلاثة الصفوف من المجاديف يعمل بها مائتان من الرجال. وقبل أن يستهل القرن الخامس كانت هذهِ السفن بمقدمها الطويل السامق قد بلغ وزنها 256 طناً، وبلغت حمولتها سبعة آلاف بشل من الحبوب، وأصبحت حديث جميع القاطنين على شواطئ البحر الأبيض المتوسط لأن سرعتها بلغت ثمانية أميال في الساعة.

وكانت ثاني مشاكل التجارة هي العثور على واسطة للتبادل يثق الناس بها، فقد كان لكل مدينة نظامها الخاص في الموازين والمقاييس، وعُملتها التي لا تشاركها فيها مدينة أخرى. وكان على الإنسان عندما يصل إلى أحد التخوم التي تكاد تبلغ المائة عداً أن يبدل نقوده وأن يكون على حذر في هذا التبديل لأن كل حكومة يونانية، عدا حكومة أثينة، كانت تسلب الأجانب عنها أموالهم بتخفيض قيمة نقدها. وفي ذلك يقول يوناني لم يشأ أن يُعرف اسمُه "كان التجار في معظم المدن يضطرون أن ينقلوا على سفنهم بضائع وهم عائدون إلى مدنهم لأنهم لم يكن في وسعهم أن يحصلوا على نقود ذات نفع لهم في أي مكان آخر". وكانت بعض المدن تسك نقوداً من خليط من الذهب والفضة، وينافس بعضها بعضاً في إنقاص ما في هذا الخليط من الذهب. أما الحكومة الأثينية منذ أيام صولون فقد أخذت على نفسها تشجيع التجارة إلى أقصى حد بإيجاد عملة موثوق بها طبعت عليها بومة اثينة؛ وكان قولهم: "يُأخذ البوم إلى أثينة" وهو المثل اليوناني المقابل لقول الإنكليز "يحمل الفحم إلى نيوكاسل" وإذا كانت أثينة قد أبت خلال صروف الدهر أن تخفض من قيمة درخماتها الفضية، فقد كانت سائر بلاد البحر الأبيض المتوسط تقبل وهي راضية هذهِ "البومات" التي أخذت تحل شيئاً فشيئاً محل العملة المحلية في جزائر بحر إيجة. وكان الذهب في هذهِ المرحلة لا يزال سلعة تجارية تُباع بالوزن، ولم يكن وسيلة يُستعان بها على الاتجار، ولم تكن أثينة تسكّه عملة إلا في حالات الضرورة النادرة، وكانت النسبة المعتادة بينه وبين الفضة كنسبة 14 إلى 1. وكانت أصغر النقود الأثينية تُسك من النحاس، وكانت ثمان قطع منها تكوّن أبولة - وهي عملة من الحديد أو البرونز سُميت بهذا الاسم لمشابَهتها للأظافر أو السفود. وكانت ست أبولات تكوّن الدرخمة أي الحفنة؛ والدرخمتان تكوّنان استاتر Stater والمائة درخمة تكوّن مينا Mina وستون مينا تكوّن وزنة Talent وكانت الدرخمة في النصف الأول من القرن الخامس يُبتاع بها بشل Bushel من الحبوب، كما يبتاع بالريال الأمريكي في القرن العشرين. ولم يكن في أثينة عملة ورقية، ولا صكوك حكومية، ولا شركات محاصة، ولا مصفق للأسهم والسندات.

لكن أثينة كان فيها مصارف مالية لاقت صِعاباً شديدة في توطيد دعائمها لأن الذين لم تكن بهم حاجة إلى القروض ينددون بالربا ويرونه جريمة ، ويتفق معهم الفلاسفة في هذا الحكم. وكان الأثيني العادي في القرن الخامس ممن يكنزون المال، فكان إذا ادخر شيئاً منه آثر أن يُخبئه بدل أن يودعه في المصارف. وكان بعض الناس يقرضون مدخراتهم نظير رهون بفائدة تتراوح بين 16، 18في المائة، ومنهم مَن يقرضونها من غير فائدة إلى أصدقائهم، أو يودعونها في خزائن الهياكل. وكانت الهياكل تعمل عمل المصارف فتقرض المال إلى الأفراد والحكومات بفائدة معتدلة، وكان هيكل أبلو في دلفي إلى حد ما مصرفاً دولياً لجميع بلاد اليونان. ولم تكن الحكومات تقترض من الأفراد، ولكن الدول كانت في بعض الأحيان يقرض بعضها بعضاً. وفي القرن الخامس بدأ مبدل النقود الجالس أمام منضدته( يقبل المال وديعة لديه، ويقرضه للتجار بفوائد يتراوح سعرها بين 2، و 30 في المائة حسب ما تتعرض له من الأخطار. وبهذهِ الطريقة أصبح ذلك الصراف مصرفياً، وإن كان قد احتفظ إلى آخر تاريخ اليونان باسمه الأول )صاحب المنضدة Trapezite(. وقد أخذ أساليبه عن بلاد الشرق الأدنى، وحسّنها، ونقلها إلى رومة فأسلمتها هذهِ إلى أوربا الحديثة. وما كادت الحرب الفارسية تضع أوزارها حتى أودع ثمستكليز سبعين وزنة )240.000 ريال أمريكي( عند فيلوستفانوس المصرفي، بنفس الطريقة التي يعمل بها المغامرون السياسيون لدينا هم في هذهِ الأيام وهذهِ أول إشارة معروفة للأعمال المصرفية خارج المعابد في تاريخ اليونان. ولما آذن هذا القرن بالانتهاء أنشأ أنتسثنيز Antisthenes وأرخستراتس المؤسسة التي أضحت في عهد باسيون Pasion أشهر المصارف اليونانية التي يملكها الأفراد، وعن طريق هؤلاء الصيارفة كانت الأموال تتداول بحرية وسرعة أكثر من تداولها قبل وجود هذا النظام، وكانت لهذا تيسر من الأعمال أكثر مما كانت تيسره قبل وجودهم. وبفضل هذا التيسير راجت التجارة الأثينية واتسعت أسواقها ونشطت أكثر من ذي قبل.

وكانت التجارة، لا الصناعة ولا الأعمال المالية، روح الاقتصاد الأثيني. ذلك أنه وإن ظل الكثيرون من المنتجين حتى ذلك الوقت يبيعون منتجاتهم إلى المستهلك مباشرةً، فإن عدداً متزايداً منهم كان في حاجة إلى وساطة السوق التي كانت وظيفتها شراء السلع وخزنها حتى يستعد المستهلك لشرائها. وبهذه الطريقة نشأت طبقة من بائعي التجزئة يعرضون بضائعهم في شوارع المدن، أو في مؤخرة الجيوش، أو في الأعياد والاحتفالات العامة، أو يعرضونها للبيع في حوانيت أو "أكشاك" في الأماكن المزدحمة أو غير المزدحمة في المدن. وكان الأحرار والغرباء والأرقاء يذهبون إلى هذه الأماكن ليساوموا التجار ويبتاعوا ما تحتاجه البيوت. وكان من أقسى القيود المفروضة على النساء "الحرائر" في أثينة أن العادات لم تكن تبيح لهن أن يخرجنَ إلى الأسواق ليشترين منها حاجتهنَ.

وتقدمت التجارة الخارجية لبلاد اليونان أسرع من تقدم التجارة الداخلية نفسها، لأن الدول اليونانية أدركت مزايا توزيع العمل بين بعضها البعض الآخر فتخصصت كل منها في إنتاج نوع من المنتجات. فصانع الدروع مثلاً لم يعد ينتقل من مدينة إلى مدينة تلبية لطلب مَن يحتاجه بل أخذ يصنع دروعه في حانوتهِ ويبعثُ بها إلى أسواق العلم القديم. وهكذا انتقلت أثينة في قرن واحد من الاقتصاد المنزلي- الذي يصنع فيهِ كل منزل جميع ما يحتاجهُ تقريبا- إلى الاقتصاد الحضري- الذي تصنع فيهِ كل مدينة جميع ما تحتاجه تقريبا- ثم إلى الاقتصاد الدولي- الذي تعتمد فيهِ كل دولة على ما تستورده من غيرها، والذي لا بد لها فيه أن تصدر من السلع ما تؤدي به أثمان وارداتها. واستطاع الأسطول الأثيني مدى جيلين من الزمان أن يجعل البحر مطهراً من القراصنة، ولهذا ازدهرت التجارة من عام 480 إلى 430 كما لم تزدهر في المستقبل إلا بعد أن قضى بمبي على القرصنة في عام 67. وكانت أرصفة بيرية، ومخازنها، وأسواقها ومصارفها تقدم للتجارة كل ما تستطيعهُ من أسباب التيسير؛ وسرعان ما أضحى هذا الثغر النشيط العامل أهم مراكز التصدير وإعادة الشحن للتجارة المتبادلة بين الشرق والغرب. وفي ذلك يقول إسقراط: " لقد كان من اليسير أن يبتاع الإنسان في أثينة جميع ما يصعب عليهِ أن يجدهُ إلا في أماكن متفرقة سلعة منه في هذه المدينة وسلعة في تلك ". ويقول توكيديدس " إن عظمة مدينتنا تجذب غلات العالم كله إلى مرفئنا، حتى أصبحت ثمار البلاد الأخرى من مواد الترف المألوفة للأثيني كثمار بلده نفسه ". وكان التجار يحملون من بيرية ما تنتجه حقول أتكا وحوانيتها من الخمور، والزيت، والصوف، والمعادن، والرخام، والخزف، والأسلحة، ومواد الترف، والكتب، والتحف الفنية؛ ويأتون إلى بيرية بالحبوب من بيزنطية، وسوريا، ومصر، وإيطاليا، وصقلية؛ وبالفاكهة والجبن من صقلية وفينيقية، وباللحوم من فينيقية وإيطالية؛ والسمك من البحر الأسود؛ والنُّقل من بفلاجونيا؛ والنحاس من قبرص؛ والقصدير من إنجلترا؛ والحديد من شواطئ بحر البنتس؛ والذهب من ثاسوس وتراقية؛ والخشب من تراقية وقبرص؛ والأقمشة المطرزة من بلاد الشرق الأدنى؛ والصدف والكتان والأصباغ من فينيقية؛ والتوابل من قورينة؛ والسيوف من خلقيديا؛ والزجاج من مصر؛ والقرميد من كورنثة؛ والأسرة من طشيوز وميليطس؛ والأحذية والبرنز من اترويا؛ والعاج من بلاد الحبشة؛ والعطور والأدهان من بلاد العرب؛ والرقيق من ليديا وسوريا وسكوذيا. ولم تكن المستعمرات أسواقاً فحسب، بل كانت فوق ذلك وكالات شحن ترسل البضائع الأثينية إلى الداخل، ومع أن مدائن أيونيا قد اضمحلت في القرن الخامس قبل الميلاد لأن التجارة التي كانت تمر بها من قبل تحولت إلى البروبنتس وكاريا أيام الحرب الفارسية وبعدها، فإن إيطاليا وصقلية قد حلتا محلها وأصبحت بلادهما ثغوراً لتصدير ما زاد عن الحاجة من غلات بلاد اليونان الأصلية وسكانها، وفي وسعنا أن نقدر قيمة تجارة بحر إيجة الخارجية إذا عرفتا أن حصيلة ضريبة الخمسة في المائة المفروضة على صادرات مدن الإمبراطورية الأثينية ووارداتها قد بلغت في عام 413 ألفاً ومائتي وزنة، ومعنى هذا أن التجارة قد بلغت قيمتها 144.000.000 ريال أمريكي في ذلك العام.

وكان الخطر الكامن وراء هذا الرخاء هو اعتماد أثينة اعتماداً متزايداً على الحبوب المستورة من خارجها؛ ومن ثم كان حرصها على السيطرة على مضيق الهلسبنت والبحر الأسود، وإصرارها على استعمار السواحل والجزائر الواقعة في طريقها إلى المضايق، وحملتها المشئومة على مصر عام 459، وعلى صقلية في عام 415. واعتمادها هذا هو الذي أغراها بتحويل حلف ديلوس إلى إمبراطورية أثينية؛ ولما أن دمر الأسبارطيون الأسطول الأثيني في مضيق الهلسبنت عام 405، كان لابد أن تعاني أثينة آلام الجوع وأن تستسلم نتيجة لهذا التدمير. غير أن هذه التجارة هي التي جلبت الثراء لأثينة، وكانت مع خراج إمبراطوريتها عماد رقيها الثقافي، ذلك أن التجار الذين كانوا ينتقلون مع بضائعهم إلى جميع بقاع البحر الأبيض المتوسط كانوا يعودون إليها بنظرات إلى الحياة تختلف عن نظراتهم قبل خروجهم من بلدهم، وبعقول متيقظة متفتحة؛ وكانوا يأتون معهم بأفكار وأساليب جديدة، يحطمون بها القيود القديمة والخمول القديم، ويستبدلون بالتحفظ الأُسري الذي هو من طابع الأرستقراطية الريفية نزعة فردية تقدمية هي طابع الحضارة التجارية. وفي أثينة التقى الشرق بالغرب وبفضل هذا الالتقاء خرج كلاهما من أساليبه المألوفة العتيدة، وفقدت الأساطير القديمة سيطرتها على نفوس الناس، وزاد الفراغ، وشُجع البحث، ونشأ العلم والفلسفة، وأضحت أثينة أكثر مدن زمانها حيوية ونشاطاً.


الفصل الرابع: الأحرار والعبيد

ومَن ذا الذي كان يقوم بهذا العمل كله؟ لقد كان يقوم به في الريف المواطنون: أسرهم وعمال أحرار مأجورون؛ أما في أثينة نفسها فكان يؤدي بعضهُ المواطنون، وبعضهُ العتقاء، ويؤدي الكثير منه الغرباء المهاجرون، ويؤدي معظمهُ الأرقاء. ويكاد أصحاب الحوانيت، والصناع، والتجار، ورجال المصارف، أن يكونوا كلهم من الطبقات التي ليس لها حق الانتخاب، وكان أهل المدينة ينظرون بعين الاحتقار إلى العمل اليدوي، ولا يؤدون منه إلا القليل الذي لا بد لهم من أدائهِ، لأن العمل لكسب العيش كان في اعتقادهم يحط من قدر صاحبهِ، بل إن الأعمال المهنية، وتعليم الموسيقى، والنحت، والتصوير، كان في نظر الكثيرين من اليونان "مهنة دنيئة . وهاهو ذا زنوفون يتحدث في زهو وفي غير مجاملة بوصفه واحداً من طبقة الفرسان فيقول:

"إن الجماعات المتمدينة ترى أن ما يسمونه بالفنون الآلية الحقيرة تزري بصاحبها... وهي محقة في نظرتها هذه؛ ذلك بأن العمل فيها يهلك أجسام القائمين به، سواء فيهم العمال ومن يشرفون عليهم، فهي تضطرهم إلى أن يقضوا وقتهم جالسين في نور ضئيل أو جاثمين أياماً طوالاً أمام الأفران.

وهذا الضعف الجسمي يصحبه على الدوام ضعف نفساني؛ وفوق هذا وذاك فإن ما تتطلبه هذه الفنون الآلية الحقيرة من الوقت لا يترك للمشتغلين بها فراغاً ينفقونه في مطالب الصداقة أو الدولة":

وكان يُنظر إلى التجارة هذه النظرة نفسها، فكان اليوناني الأرستقراطي النزعة أو الفيلسوف لا يعدها إلا وسيلة لجمع المال مع إلحاق الأذى بمن يُجمع منهم؛ وهي في رأي هذا وذاك لا تبغي خلق السلع، بل كل ما تبغيه هو شراؤها رخيصة وبيعها غالية؛ ولهذا فما من مواطن خليق بالاحترام يرضى أن يعمل فيها وإن كان لا يستنكف أن يستثمر فيها ماله ويربح من هذا الاستثمار ما دام يترك لغيره أن يقوم بالعمل. ويقول اليوناني إن الحر يجب أن يتحرر من الواجبات الاقتصادية، وإن عليهِ أن يستخدم العبيد وغيرهم من الناس ليعتنوا بشؤونه المادية، بما في ذلك، إن استطاع، العناية بأملاكهِ وأموالهِ. وهذا التحرر وحده هو الذي يترك له الوقت الكافي للقيام بأعباء الحكم، والحرب، والأدب والفلسفة. فإذا لم توجد هذه الطبقة المتفرغة لهذه الشؤون لم يوجد، كما يرى اليوناني، ذوقٌ راق، ولن يكون في البلاد من يشجع الفنون، ولن تقوم للحضارة قائمة على الإطلاق؛ ذلك أن من يعمل مسرعاً لا يمكن أن يكون متمدناً بحق.

وكان الغرباء الأحرار، الذين ولدوا في بلاد أجنبية واتخذوا أثينة موطناً لهم ولكنهم لا يعدون من مواطنيها، كان هؤلاء الغرباء هم الذين يؤدون في أثينة معظم الأعمال ذات الصلة التاريخية بالطبقة الوسطى، فكان منهم رجال المهن، والتجار، والمقاولون، والصناع، والمديرون للأعمال التجارية والصناعية، وأصحاب الحوانيت، وأرباب الحرف، والفنانون. وقد استقر هؤلاء في أثينة لأنهم وجدوا فيها، بعد تجوالهم في البلاد الأخرى، ما ينشدونه من الحرية الاقتصادية وفرص الحياة والحافز على العمل وبذل الجهود، وهذه أهم في نظرهم من حق الانتخاب. ولهذا كانت أهم الأعمال الصناعية- خارج نطاق التعدين- ملكاً لهؤلاء الغرباء الأحرار، فصناعة الخزف بأكملها كانت في أيديهم، وكانوا يوجَدونَ كلما استطاع الوسطاء أن يحشروا أنفسهم بين المنتج والمستهلك. وكانت شرائع البلد تضايقهم وتحميهم، فكانت تفرض عليهم من الضرائب ما تفرضه على المواطنين، وتُلزمهم بأن يؤدوا خدمات شخصية للدولة، وتجندهم للخدمة العسكرية، وكانوا يؤدون لها ضريبة الفرضة؛ ولكنها كانت تُحرم عليهم امتلاك الأرض والزواج من أسر المواطنين، ولا تسمح لهم بالانضمام إلى الهيئات الدينية أو الالتجاء بأنفسهم إلى المحاكم.

ولكنها كانت ترحب بهم في حياتها الاقتصادية، وتقدر لهم جدهم وحذقهم، وتنفذ لهم عقودهم، وتترك لهم حريتهم الدينية، وتحمي أموالهم من الثورات العنيفة. وكان منهم من يباهون بثروتهم مباهاة سمجة، ولكن كان منهم أيضاً من يشتغلون بالعلوم، والآداب، والفنون، ويمارسون مهنة الطب أو القانون، أو يُنشئون مدارس لتعليم البلاغة والفلسفة، وهم الذين أمدوا بالمال مؤلفي المسرحيات الهزلية في القرن الرابع، وكانوا هم موضوع هذه المسرحيات، وأصبحوا في القرن الثالث هم المثال المُحتذى في آداب المجتمع الهلنستي. وكان حرمانهم من حقوق المواطنة يؤلمهم ويحز في نفوسهم، ولكنهم كانوا يحبون أثينة ويفخرون بانتسابهم إليها، ويؤدون على مضض كثير من الأموال التي تحتاجها للدفاع عن نفسها ضد أعدائها. ومن مال هذه الطبقة استمد الأسطول معظم حاجته؛ وكانت هي عماد الإمبراطورية الأثينية، وبفضلها احتفظت أثينة بتفوقها التجاري على سائر بلاد اليونان.

وكان يشارك الغرباء في الحرمان من بعض الحقوق السياسية، وفيما يتاح لهم من الفرص الاقتصادية، العتقاء، أي الذين كانوا من قبل عبيداً. ذلك أن الأمل في الحرية حافز اقتصادي قوي للعبد الشاب وإن لم يكن من السهل المألوف أن يُعتق العبد لأن عبداً آخر يجب أن يحل في العادة محله؛ لكن كثيرين من اليونان كانوا إذا قربت منيتهم يكافئون أشد عبيدهم إخلاصاً بعتقهم. كذلك كان العبد يُعتق أذا افتداه أهله أو أصدقاؤه كما حدث لأفلاطون، أو افتدته الدولة نفسها من سيده نظير خدماته لها في الحرب؛ وقد يبتاع هو نفسه حريته بما يدخره من الأبولات. وكان العبد المحرر يعمل، كما يعمل الغريب السالف الذكر، في الصناعة والتجارة والشؤون المالية. وكان أقل ما يقوم به من الأعمال شأناً هو أداء عمل العبد نظير أجر؛ وكان أعظم ما يبلغه هو أن يكون صاحب إحدى الصناعات. فقد كان ميلياس Mylias مثلاً هو المشرف على مصنع الأسلحة الذي يمتلكه دموستين؛ وأصبح باسيون، وفورميو أغنى رجال المصارف في اثينة. وكان أهم الأعمال التي تُظهر قيمة العبد المحرر هي الأعمال التنفيذية، وذلك لأن أقسى الناس على العبيد هو الذي نشأ في ظل العبودية ولم يعرف طول حياته إلا الظلم والاستبداد.

وكان من تحت هذه الطبقات الثلاث- طبقات المواطنين والغرباء والمعاتيق- عبيد أتكا البالغ عددهم 115.000 عبد . وهؤلاء العبيد إما أسرى حرب، أو ضحايا غارات الاسترقاق، أو أطفال أنقذوا وهم معرضون في العراء، أو أطفال مهملون، أو مجرمون. وكانت قلة منهم في بلاد اليونان يونانية الأصل؛ وكان الهليني يرى أن الأجانب عبيد بطبعهم لأنهم يبادرون بالخضوع إلى الملوك، ولهذا لم يكن يرى في استعباد اليونان لهؤلاء الأجانب ما لا يتفق مع العقل؛ لكنه كان يغضبه أن يُسترق يوناني. وكان التجار اليونان يشترون العبيد كما يشترون أية سلعة من السلع، ويعرضونهم للبيع، في طشيوز، وديلوس، وكورنثة، وإيجينا، وأثينة، وفي كل مكان يجدون فيه من يشتريهم. وكان النخاسون في أثينة من أغنى سكانها الغرباء؛ ولم يكن من غير المألوف في ديلوس أن يباع ألف من العبيد في اليوم الواحد، وعرض سيمون بعد معركة يوريمدون عشرين ألفاً من الأسرى في سوق الرقيق. وكان في أثينة سوق يقف فيه العبيد متأهبين لأن يفحص عنهم وهم مجردون من الثياب، وأن يساوم على شرائهم في أي وقت من الأوقات. وكان ثمنهم يختلف من نصف مينا إلى عشر مينات )من 50 ريالاً أمريكياً إلى ألف ريال(. وكانوا يُشترون إما لاستخدامهم في العمل مباشرة، أو لاستثمارهم؛ فقد كان أهل أثينة الرجال منهم والنساء يجدون من الأعمال المربحة أن يبتاعوا العبيد ثم يؤجروهم للعمل في البيوت أو المصانع، أو المناجم. وكانت أرباحهم من هذا تصل إلى 33 في المائة. وكان أفقر المواطنين يمتلك عبداً أو عبدين؛ ويبرهن إسكنيز Aeschines على فقره بالشكوى من أن أسرته لا تمتلك إلا سبعة عبيد؛ وكان عددهم في بيوت الأغنياء يصل أحياناً إلى خمسين، وكانت الحكومة الأثينية تستخدم عدداً منهم في الأعمال الكتابية وفي خدمة الموظفين، وفي المناصب الصغرى، وكان منهم بعض رجال الشرطة. وكان كثيرون من هؤلاء يحصلون من الدولة على الملابس، وعلى "مكافأة" يومية مقدارها نصف درخمة، وكان يؤذن لهم أن يسكنوا حيث يشاءون.

أما في الريف فكان العبيد قليلي العدد، وكانت كثرة الرقيق من النساء الخادمات في البيوت. ولم يكن الأهلون في شمالي بلاد اليونان وفي معظم البلوبونيز في حاجة إلى العبيد لاستغنائهم عنهم برقيق الأرض وكان العبيد في كورنثة، ومجارا، وأثينة، يؤدون معظم الأعمال اليدوية الشاقة، كما كانت الجواري يقمن بمعظم الأعمال المنزلية المجهدة ولكن العبيد كانوا فوق ذلك يقومون بجزء كبير من الأعمال الكتابية وبمعظم الأعمال التنفيذية في الصناعة، والتجارة، والشؤون المالية. أما الأعمال التي تحتاج إلى الخدمة فكان يقوم بها الأحرار والمحررون، والغرباء، ولم يكن هناك عبيد علماء كما نرى فيما بعد في العصر الهلنستي وفي رومة، وقلما كان يسمح للعبد بأن يكون له أبناء لأن شراء العبد كان ارخص من تربيته. وكان العبد إذا أساء الأدب ضرب بالسوط، وإذا طُلب للشهادة عذب، وإذا ضربه حر لم يكن له أن يدافع عن نفسهِ لكنه إذا تعرض للقسوة الشديدة كان له أن يفر إلى أحد الهياكل، ثم يُلزم سيده ببيعهِ، ولم يكن يحق لسيده بأية حال أن يقتله، وكان يلقى من الضمانات؛ ما دام يعمل، ما لا يلقاه كثيرون ممن لا يسمون عبيداً في بعض الحضارات الأخرى. فكان إذا مرض ،أو تقدمت به السن، أو لم يجد عملاً يقوم به، لا يلقي بهِ سيده إلى الإعانات العامة، بل كان يستمر في رعايته. وإذا كان وفياً عومل معاملة الخادم المخلص الأمين التي تكاد تضارع معاملة أي فرد من أفراد الأسرة، وكثيراً ما كان يسمح له بأن يقوم بعمل خارجي على شريطة أن يؤدي لسيده بعض ما يكسب من هذا العمل. وكان يُعفى من الضرائب ومن الخدمة العسكرية؛ ولم يكن شيء في ثيابه يميزه من الحر في أثينة خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وهاهو ذا "الألجركي القديم" يشكو في نشرة له عن نظام الأثينيين من أن العبد لا يفسح الطريق في الشارع للمواطنين ومن أنه يتكلم بحرية، ويتصرف في كل صغيرة وكبيرة كأنه كفء للمواطن. واشتهرت أثينة بحسن معاملة عبيدها، وكان من المعروف أن العبيد في أثينة الديمقراطية أحسن حالاً من الأحرار الفقراء في الدويلات الألجركية، وكانت ثورات العبيد نادرة في أتكا وإن كانت مما يخشى وقوعه القائمون بالأمر فيها.

ومع هذا فإن ضمائر الأثينين لم تكن ترتاح إلى وجود الرق في بلدهم، وإن الفلاسفة الذين يدافعون عن هذا النظام ليظهرون في وضوح لا يكاد يقل عن وضوح من ينددون بهِ أن ما طرأ على الأمة من تطور أخلاقي قد جعلها أرقى من نظمها الاجتماعية. فها هو ذا أفلاطون يندد باستعباد اليونان لليونان، ولكنه فيما عدا هذا يقر الاسترقاق بحجة أن لبعض الناس عقولاً غير ممتازة. وينظر أر سطو إلى العبد على أنه آلة بشرية، ويظن أن الاسترقاق سيبقى في صورة ما حتى يحل اليوم الذي تؤدي فيهِ الآلات التي تدور بنفسها جميع الأعمال الحقيرة. وليس لدى اليوناني العادي فكرة ما عن الطريقة التي يمكن بها أن تسير أعمال المجتمع المثقف من غير الرق، وإن كان هذا اليوناني رحيماً بعبيدهِ؛ فهو يشعر بأنه إذا أريد إلغاء الرق وجب إلغاء أثينة من الوجود. أما غيره فأكثر تطرفاً في آرائهم، فالفلاسفة الكلبيون يحكمون على الرق أسوأ حكم، ومثلهم في هذا خلفاؤهم الرواقيون وإن كانوا أقل عنفاً في حكمهم عليهِ. وكثيراً ما يثير يوربديز عطف مستمعيه بما يصوره لهم من حال أسرى الحرب ويطوف السيد ماس السوفسطائي بلاد اليونان يبشر فيها بعقائد روسو في ألفاظ تكاد تكون ألفاظ روسو بعينها دون أن يتعرض له أحد بسوء: "لقد بعث الله الناس في العالم أحراراً ولم تجعل الطبيعة أحد الناس عبداً". لكن الاسترقاق ظل قائماً رغم هذا كله.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: حرب الطبقات

كان استغلال الإنسان للإنسان في أثينة وطيبة أقل قسوة منه في إسبارطة ورومة، ولكنه كان على أية حال استغلالاً يؤدي الغرض المقصود منه. فلم يكن بين الأحرار في أثينة طوائف ممتازة وأخرى غير ممتازة، وكان في مقدور الرجل أن يرقى بجهودهِ وحدها إلى أية مرتبة في الحياة، ولم يكن فيها تمييز طائفي شديد بين العامل وصاحب العمل، اللهم إلا في المناجم؛ أما في غيرها فكان صاحب العمل يشتغل إلى جوار عماله، وكان التعارف الشخصي بين الاثنين يفل من حدة سلاح الاستغلال، وكان أجر الصناع جميعاً، إلا القليل النادر منهم، أياً كانت طبقتهم، هو درخمة للرجل في كل يوم من أيام العمل، أما العمال غير الحاذقين فقد تنخفض أجور الواحد منهم إلى ثلاث أبولات في اليوم )نصف ريال أمريكي(. ولما نما نظام المصانع أخذ الأجر بالقطعة يحل محل المياومة وبدأت الأجور تختلف اختلافاً كبيراً، وكان في وسع المقاول أن يستأجر العبيد من سادتهم بأجر يتراوح بين أبولة واحدة وأربع أبولات في اليوم. وفي وسعنا أن نقدر القوة الشرائية لهذه الأجور إذا وازنا الأثمان في بلاد اليونان بأمثالها في بلادنا . لقد كان البيت والضيعة في عام 14 يباعان معاً بألف ومائتي درخمة، وكان المندموس Mendimmus اي البشل والنصف من الشعير يباع بدرخمة واحدة في القرن السادس، وبخمس درخمات في أيام الإسكندر، وكان الخروف يباع بدرخمة في أيام صولون، وبعشر درخمات أو عشرين في القرن الخامس. وكانت النقود المتداولة في أثينة كغيرها من المدن تزيد اسرع مما تزيد البضائع، ولهذا كانت الأثمان ترتفع؛ فكانت أثمان السلع في آخر القرن الرابع خمسة أمثال ما كانت عليه في بداية القرن السادس؛ وقد تضاعفت هذه الاثمان ضعفين من عام 480 إلى 404 ثم تضاعفت مرة أخرى من 404 إلى 330. وكان في وسع الرجل الفرد أن يعيش عيشة راضية بمائة وعشرين درخمة )120 ريال أمريكي( في الشهر؛ ومن هذا نستطيع أن نحكم على حال العامل الذي كان يكسب ثلاثين درخمة في الشهر ويعول أسرة. ولسنا ننكر أن الدولة كانت تبادر إلى معونته في الأزمات الشديدة فتمده بالحبوب بثمن اسمي؛ ولكنه كان يشاهد أن ربة الحرية ليست صديقة لربة المساواة، وأن الشرائع الحرة في أثينة كانت تمكن القوي من أن يزداد قوة، والغني من أن يزداد غنى، أما الفقير فكان يبقى في ظلها فقيراً.

ومن الحقائق المعروفة أن الفردية تحفز القادرين إلى العمل، وتنزل بالسذج، وأنها تُنشئ الثروات الضخمة، وتركزها تركيزاً وخيم العاقبة. ولذلك كان المهرة الحاذقون في أثينة، كما كانوا في غيرها من الدول، يحصلون من الثروة كل يستطيعون تحصيله، ثم يحصل أوساط الناس ما يتبقى من هؤلاء. وكان مالك الأرض يفيد من ارتفاع ثمن أرضه المطرد؛ وكان التاجر لا يدخر جهداً، رغم ما فُرض عليه من القيود التي لا تحصى لاحتكار الأصناف أو ابتياع كل ما هو معروض منها في الأسواق ثم التحكم في أثمانها على هواه. وكان المضارب ينال حصة الأسد من أرباح الصناعة والتجارة بفرض سعر مرتفع لفائدة القروض التي يقدمها لأصحاب الصناعات والتجار. وقام زعماء الجماهير المحترفون يبينون للفقراء ما في توزيع الثروة بين الناس من غبن، ويخفون عنهم عدم المساواة في كفاياتهم من الناحية الاقتصادية؛ وأخذ الفقير بعد أن أبصر بعينيه ثراء المثرين يحس بفقرهِ ويطيل التفكير في ميزاته التي لا يُجزى عليها الجزاء الأوفى، ويحلم بقيام الدول المثالية. ومن ثم كانت الحرب بين طبقة وطبقة، وهي الحرب التي استعرت نارها في جميع الدول اليونانية، والتي كانت أشد هولاً من الحرب بين اليونان والفرس، أو بين أثينة واسبارطة.

وبدأت هذه الحرب في أتكا بالنزاع بين الأغنياء المحدثين والأشراف أصحاب الأراضي الزراعية؛ ذلك أن الأسر الغنية كانت لا تزال تحب الأرض، وتحب أن تقضي معظم حياتها في ضياعها، وكان تقسيم الأرض بين الأبناء وأبناء الأبناء خلال الأجيال الطويلة قد قلل مساحة ما يملكه كل واحد منها. )فلم يكن ألسبيديز الثري مثلاً يملك أكثر من سبعين فداناً(. وكان مالك الأرض في معظم الأحوال يعمل بنفسهِ في أرضه أو يشرف على إدارة أملاكه، وكان هذا الشريف فخوراً بنفسهِ وأصله وإن لم يكن غنياً بمالهِ، فكان يضيف اسم أبيه إلى اسمهِ ليكون ذلك من ألقاب الشرف له، ويبتعد قدر استطاعته عن طبقة التجار الوسطى التي كانت تستحوذ شيئاً فشيئاً على ثروة أثينة التجارية الآخذة في النماء. غير أن زوجته كانت تلح عليه أن يكون له بيت في المدينة لتستمتع بما في العاصمة من الحياة المتنوعة وبما تتيحه من فرص، وكانت بناته يرغبن في أن يعشن في أثينة، ليتصيدن لهن أزواجاً أثرياء، وكان أبناؤه يرجون أن يجدوا فيها الخليلات ويقيموا المآدب المرحة كما يفعل الأغنياء المحدثون. وإذ لم يكن في مقدور الأشراف ملاك الأراضي أن ينافسوا التجار والصناع في ترفهم فقد رضوا بهم أو بأبنائهم أزواجاً لأولادهم وبناتهم، وكان هؤلاء التجار والصناع راغبين في أن يتسنموا ذُرى المجد مستعدين للبذل. وكانت نتيجة هذا اتحاد الأغنياء بأرضهم مع الأغنياء بما لهم وتكوين طبقة عليا ألجركية، يحسدها الفقراء ويحقدون عليها، ويغضبها الإفراط في الديمقراطية وتخشى على نفسها من الثورة.

وكان صلف الأثرياء الجدد هو الذي أدى إلى المرحلة الثانية من مراحل حرب الطبقات- اي نزاع المواطنين الفقراء مع الأغنياء. ذلك أن كثيرين من أفراد الطبقات الوسطى الرأسمالية أخذوا يباهون مثل ألسبيديز بثرائهم وإن لم يكن من بينهم إلا القليلون الذين يستطيعون أن يسخروا "جمهرة الكادحين" بجرأتهم الروائية ورشاقة مظهرهم ورقة حديثهم. وقام الشبان الذين أحسوا بما وهبوا من كفايات يحول فقرهم دون إبرازها والإفادة منها، فنقلوا حاجتهم الشخصية إلى الفرص والمكانة السامية من دائرتهم الخاصة إلى نداء عام بالثورة، وتكفل المتعلمون الذين يرحبون بالآراء الجديدة ويستهويهم هتاف المظلومين بصياغة أغراض ثورتهم إليهم. ولم يكونوا ينادون باشتراكية التجارة والصناعة، بل كانوا يطلبون إلغاء الديون وإعادة توزيع الأراضي على المواطنين، ونقول على المواطنين لأن الحركة المتطرفة التي قامت في أثينة في القرن الخامس لم يشترك فيها إلا من لهم حق الانتخاب من الفقراء، ولم تكن تحلم في هذه المرحلة بتحرير العبيد، أو إعطاء الغرباء نصيباً من الأرض التي تطالب بإعادة توزيعها. وكان الزعماء يتحدثون عن الماضي الذهبي حين كان الناس جميعاً متساوين فيما يملكون، ولكنهم لم يكونوا يريدون أن تؤخذ أقوالهم بنصها حين يتحدثون عن عودة هذا الفردوس المفقود، بل كانت الصورة المرسومة في أذهانهم صورة مجتمع اشتراكي أرستقراطي- لا ينطوي على تأميم الأرض بل ينطوي على توزيعها بالتساوي بين المواطنين. وكانوا يشيرون إلى أن المساواة في الحقوق السياسية ستكون بلا ريب مساواة غير حقيقية مع وجود تلك الفوارق الاقتصادية المطردة الزيادة، ولكنهم كانوا مصممين على استخدام ما للمواطنين الفقراء من سلطان سياسي لحمل الجمعية على أن تضع في جيوب المحتاجين- بالغرامات، والتكاليف، والمصادرة، والأشغال العامة،- بعض الثروة المركزة لدى الأغنياء. واتخذوا اللون الأحمر رمزاً لثورتهم فضربوا بذلك المثل للثائرين في مستقبل الأيام.

وواجه الأغنياء هذا التهديد فألفوا من بينهم هيئات سرية تعهدوا فيها أن يعملوا مجتمعين لمقاومة ما يسميه أفلاطون- رغم نزعته الشيوعية- "الوحش الضاري" الكامن في نفوس الغوغاء المستنفرين الجياع. وانتظم العمال الأحرار أيضاً- وكانوا قد أنتظموا منذ أيام صولون إن لم يكن قبله- في نواد (إرانوي، ثياسوي eranoi, thiasoi) للبنائين، وقاطعي الرخام، وعمال الخشب، والعاملين في العاج أو الفخار، والسماكين، والممثلين ومن إليهم من الجماعات. وكان سقراط نفسه عضواً في نادي المثالين . بيد أن هذه الجماعات لم تكن نقابات عمال بقدر ما كانت جماعات لتبادل المنفعة، فكان أعضاؤها يجتمعون في أماكن لهم يسمونها مجامع مقدسة، يقيمون فيها المآدب والألعاب، ويعبدون فيها رباً يحميهم، ويقدمون المال للمرضى من الأعضاء، ويتعاقدون مجتمعين على القيام بمشروع خاص، ولكنهم لم يشتركوا اشتراكاً ملحوظاً في حرب الطبقات الأثينية. ودارت المعركة في ميداني الأدب والسياسة؛ فشرّع مصدرو النشرات أمثال "الألجركي القديم" يصدرون النشرات ينددون فيها بالديمقراطية أو يدافعون عنها. وإذ كانت مسرحيات الشعراء الهزليين تتطلب أموال الأغنياء لإخراجها، فقد انضم هؤلاء إلى جانب ذوي المال، وشرعوا يصبون قوارص سخرياتهم على الزعماء المتطرفين وعلى دولهم المثالية. فترى أرسطوفان يقدم لنا في مسرحية الإكلزيازوسي Ecclesiazusae (392) السيدة بركساغورا Praxagora الشيوعية تلقي خطبة تقول فيها: "أريد أن يكون لكل الناس نصيب في كل شيء، وأن يكون كل الملك مشاعاً؛ فلن يكون بعد اليوم أغنياء أو فقراء؛ ولن نرى بعد الآن رجلاً واحداً يجني محصول مساحات واسعة من الأرض وإلى جانبه رجل آخر لا يجد منها ما يتسع لدفنه... وسأعمل على أن لا يكون في الحياة إلا ظروف واحدة يشترك فيها جميع الناس على السواء... وسأبدأ بأن أجعل الأرض والمال وكل ما هو ملك خاص مشاعاً بين الناس أجمعين... وستكون النساء ملكاً مشتركاً للرجال". ويسأل بلبيروس Blepyrus ولكن العمل من يقوم بهِ " فتجيبه بقولها: "العبيد". وفي ملهاة أخرى هي ملهاة بلوتوس Plutus (408) يُجيز أرسطوفان للملكية المهددة بالانقراض أن تدافع عن نفسها بقولها إنها هي الحافز الذي لا بد منه للكدح البشري والمغامرة ": أنا السبب الوحيد في كل ما بكم من نعمة، وإن سلامتكم لَتعتمد عليَّ دون غيري...ومَنذا الذي يحب أن يطرق الحديد ويبني السفن، ويخيط الثياب، ويخرط الخشب، ويقطع الجلد، ويحرق الآجر، ويبيض التيل، ويدبغ الجلود، ويشق الأرض بالمحراث، ويجني ثمار دمتر إذا كان في وسعه أن يعيش بغير عمل محرراً من كل هذهِ المشاق...؟ فإذا ما طبّق نظامكِ )الشيوعية(... فلن تستطيعي أن تنامي في سرير، لأن الأسرة في هذا الحال لن يُصنع منها شيء بعد، ولن تُنسج بسط، وهل في الناس من يرضى أن ينسجها إذا كان لديه الذهب؟(60)".

وكانت إصلاحات إفيلتيز وبركليز باكورة ثمار الثورة الدمقراطية. وكان بركليز رجلاً متزناً في أحكامه معتدلاً في أغراضه؛ فهو لم يكن يبغي القضاء على الأغنياء، بل كان يريد أن يحتفظ بهم وبإقدامهم على الأعمال النافعة بتخفيف عبء الحياة عن الطبقات الفقيرة؛ فلما مات في عام 29 جرف تيار التطرف الدمقراطية الأثينية إلى حد لم يسع الحزب الألجركي معه إلا أن يأتمر مرة أخرى مع اسبارطة، وأن يدفع الأغنياء إلى الثورة مرة في عام 411 ومرة أخرى في عام 404. بَيد أن الثروة في أثينة كانت عظيمة، وكان خوف المواطنين من ثورة الأرقاء سبباً في وقف تيار ثورتهم إلى حين، ولهذا كانت حرب الطبقات في أثينة أهدأ منها في غيرها من الدول اليونانية، حيث لم يكن للطبقات الوسطى من القوة ما يمكنها من أن تتوسط بين الأغنياء والفقراء، وسرعان ما وجدت الطبقات في أثينة أساساً صالحاً تقيم عليه أساس التراضي فيما يبنها. ففي ساموس استولى المتطرفون على زمام الحكم في عام 412، وأعدموا مائتين من الأشراف، ونفوا أربعمائة آخرين، وقسموا الأرض والبيوت فيما بينهم، وأقاموا مجتمعاً آخر شبيهاً بالمجتمع الذي قضوا عليه. وفي ليونتيني طرد العامة في عام 422 الأقلية المثرية الحاكمة، ولكن سرعان ما لاذوا هم أنفسهم بالفرار. وفي كورسيرا اغتالت الأقلية المثرية الحاكمة ستين من زعماء حزب الشعب، واستولى الدمقراطيون على أزمة الحكم، وزجوا بأربعمائة من الأشراف في السجون، وساقوا خمسين منهم إلى المحاكمة أمام هيئة نستطيع أن نسميها "لجنة الأمن العام"، وأعدموا الخمسين كلهم في التو والساعة؛ ولما رأى المسجونون الأحياء ما حل بزملائهم قتل بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم أنفسهم، وحوصر الباقون منهم في هيكل المدينة الذي لجأوا إليه حتى هلكوا من الجوع. ويصف توكيديدس حرب الطبقات في بلاد اليونان وصفاً ينطبق على حروب الطبقات في جميع الأوقات يقول فيه:

"ظل أهل كرسيرا سبعة أيام طِوال يذبحون من مواطنيهم من يرون أنهم أعداء لهم؛ ومع أن الجريمة المعزوّة إليهم كانت أنهم حاولوا القضاء على الدمقراطية، فإن منهم مَن قُتل بسبب الكراهية الشخصية، ومنهم من قتلهم المدينون لهم لِيتخلصوا بقتلهم من ديونهم. وهكذا انتشر الموت في البلد بجميع أشكاله، وحدث في هذا الوقت ما يحدث في أمثاله فلم يقف العنف عند حد. كان الآباء يقتلون أبناءهم، وكان اللائذون بالهيكل يُسحَبون على وجوههم من فوق مذبح القربان أو يُقتلون... وهكذا جرت الثورة في مجراها متنقلة من مدينة إلى مدينة، وسارت الأماكن التي وصلت إليها في آخر الشوط فيما اخترعته من وسائل العنف وفيما ارتكبته من الفظائع في انتقامها من خصومها إلى أبعد مما سارت إليه الأماكن التي تقدمتها بعد أن سمعت بما كان يجري في هذهِ الأماكن السابقة... وضربت كرسيرا لسائر المدن المثل الأول في تلك الجرائم،... وفي حروب الانتقام التي لجأ إليها المحكومون... الذين لم ينعموا في حياتهم بالعدالة في المعاملة... بل لم يلاقوا من حكامهم شيئاً سوى العنف، وذلك حين جاء دورهم وتولوا هم شؤون الحكم. كذلك ضربت كرسيرا لسائر المدن المثل الأول في الحقد الظالم الذي تنطوي عليه صدور الذين يريدون أن يتخلصوا مما ألفوه من الفقر وتمتلئ صدورهم طمعاً في ما في أيدي جيرانهم من نعم، وضربت المثل أكثر من هذا وذاك للإفراط في الوحشية والقسوة التي اندفع إليها بعواطفهم الثائرة رجال لم يبدأوا الكفاح بروح طائفية بل بروح حزبية... وفي غمار هذهِ الفوضى التي تردت فيها الحياة في المدن كَشفت الطبيعة البشرية، التي تثور دائماً على القانون والتي أصبحت الآن سيدة القانون، عن عدم قدرتها على ضبط عواطفها، وعن أنها لا تقيم وزناً للعدالة، وعن عدائها لكل سلطة عُليا... وأصبحت الجرأة والوقاحة في نظر الناس شَجاعة تُرتَضَى من حليف وفي؛ كما أصبح التردد الحكيم جُبناً مموّهاً؛ وأضحى الاعتدال في نظر الناس ستاراً يخفي وراءه خور العزيمة؛ والقدرة على رؤية جميع نواحي مسألة من المسائل عجزاً عن العمل في واحدة منها...

وكان مصدر هذهِ الشرور كلها هو الجري وراء السلطان المنبعث من الشره والطمع... واندفع الزعماء في المدن يطلبون لأنفسهم الجزاء الأوفى من المنافع العامة التي يتظاهرون بالحرص عليها مستعينين على ذلك بأجمل العبارات التي يلقونها في الآذان، يدعون فيها إلى المساواة السياسية بين الناس تارة، وبضرورة قيام أرستقراطية معتدلة تارة أخرى ولم يكن هؤلاء يترددون في استخدام أية وسيلة توصلهم إلى السلطان، فكانوا لذلك يرتكبون أشنع الجرائم... ولم تكن طائفة من الطائفتين المقتتلتين توقر الدين، وكان استخدام العبارات المنمقة للوصول بها إلى الغايات الإجرامية هي الوسيلة المحببة لسائر الناس... وكانت البساطة القديمة التي كان للشرف فيها أكبر نصيب موضع السخرية، ومن أجل هذا لم يعد لها وجود، وانقسم المجتمع إلى معسكرين لا يثق فيهما واحد من الناس بزميله... وقضي بين هذين المعسكرين على الشيعة المعتدلة من المواطنين لأنها لم تشترك في الكفاح أو لأن الحسد كان يمنعها من أن تفر من الميدان... وقصارى القول أن العالم الهلني كله قد زُلزلت قواعده وتصدعت أركانه. ولم تقضِ هذهِ الاضطرابات على أثينة لأن كل أثيني كان في قرارة نفسه فردي النزعة يحب الملكية الخاصة؛ ولأن الحكومة الأثينية قد وجدت في تنظيم الثروة والأعمال التجارية والصناعية تنظيماً معتدلاً طريقة عملية وسطاً بين النزعتين: الاشتراكية والفردية. ولم تخشَ الحكومة الإقدام على هذا التنظيم ووضع القواعد والقيود، فوضعت حداً على لبائنات العرائس؛ ونفقات الجنائز، وملابس النساء. وفرضت الضرائب على التجارة وأخضعتها لإشرافها، ووضعت أنظمة عادلة للمقاييس والموازين، وألزمت الناس بمراعاة واجب الأمانة والشرف على قدر ما تستطيع الحكومات أن تحد من دناءة الطبيعة البشرية. وحددت الحكومة مقادير الصادرات، وسنت قوانين صارمة للحد من جشع التجار والصناع ومعاقبتهم على ما يرتكبون، وفرضت رقابة شديدة على تجارة الحبوب؛ وأصدرت قوانين صارمة لمنع تخزين السلع والتحكم في الأسواق، فحرّمت شراء أكثر من خمسة وعشرين بُشِلاً من القمح دفعة واحدة وأجازت الحكم بالإعدام على مَن يرتكب هذهِ الجريمة. ومنعت إقراض المال على البضائع الخارجة من البلاد إلا إذا حملت السفن في عودتها حبوباً إلى ثغر بيرية، وأوجبت على السفن المملوكة لأهل أثينة والمشحونة بالحبوب أن تأتي بحمولتها إلى بيرية؛ ومنعت تصدير أكثر من ثلث الحبوب التي تصل إلى هذا الثغر. وحرصت أثينة أشد الحرص على ألا ترتفع أثمان الخبز فوق طاقة المستهلكين، وألا يثرى الناس إثراءً فاحشاً من جراء جوع الشعب، وألا يموت أحد من الأثينيين جوعاً، وكانت وسيلتها إلى هذا الاحتفاظ برصيد كاف من الحبوب في مخازن تملكها الدولة، وإغراق السوق بهذهِ الحبوب المخزونة حين ترتفع الأثمان ارتفاعاً سريعاً. ووضعت الدولة قواعد تنظم بها الثروة عن طريق الضرائب والخدمات العامة، وأقنعت الأغنياء أو ألزمتهم أن يتبرعوا بالمال إلى الأسطول وإلى دور التمثيل، وأن يقدموا للدولة المال الذي تساعد به الفقراء من الوجهة النظرية على مشاهدة المسرحيات والألعاب. وفيما عدا هذا كانت أثينة تحمي حرية التجارة، والمكلية الفردية، وفُرَص الكسب، لاعتقادها أنها هي الأدوات الضرورية للحرية الإنسانية، وأنها أقوى حافز على النشاط الصناعي والتجاري، وأكبر عامل على ازدياد الرخاء.

وبفضل هذا النظام ذي النزعة الاقتصادية الفردية، تخفف من حدتها النظم الاشتراكية، ازدادت الثروة في أثينة وانتشرت فيها انتشارا ًيحول بينها وبين الثورة المتطرفة، وبذلك ظلت الملكية الفردية آمنة في أثينة إلى آخر أيامها. وتضاعفت فيها بين عامي 480 و 431 عدد المواطنين ذوي الدخل الذي يمكنهم من العيش الرضي؛ وزادت إيرادات الدولة، وارتفعت نفقاتها، ولكن خزانتها ظلت عامرة أكثر مما كانت في أي عهد سابق من تاريخ اليونان، ووضعت الدعامة الاقتصادية لحرية أثينة، ونشاطها الصناعي، والتجاري، والفني، والفكري، واستطاعت أن تتحمل كل ما ساد العصر الذهبي من إسراف دون أن تنوء بهِ إذا استثنينا من هذا التعميم الحرب التي خربت بلاد اليونان بِقضّها وقضيضها.