قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 3 ب 16
صفحة رقم : 2264
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> النزاع بين الفلسفة والدين -> المثاليون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب السادس عشر: النزاع بين الفلسفة والدين
الفصل الأوّل: المثاليون
كان عصر بركليز شبيهاً بعصرنا هذا في تنوع أفكاره واضطرابها، وفي تحديه لجميع المعايير والعقائد التقليدية القديمة، ولكن ما من عصر من العصور يضارع عصر بركليز في كثرة آرائه الفلسفية وعظمتها أو في غزارتها وفي القوة التي كانت تناقش بها. فقد كانت كل المسائل التي يضطرب بها العالم اليوم تدور على ألسنة الناس في أثينة القديمة، يناقشها الناس بحرارة وحماسة روعت جميع اليونان ما عدا شبابهم. وقد حرمت كثير من المدن - وخاصة إسبارطة - أن يبحث الجمهور المسائل الفلسفية بسبب ما كانت تثيره من "حقد، ونزاع، وجدل عقيم" على حد قول أثنيوس. ولكن "بهجة" الفلسفة "العزيزة" كانت تستحوذ على خيال الطبقات المتعلمة في أثينة، فكان أغنياء المدينة يفتحون أبواب بيوتهم وأبهائهم للباحثين كما كان يحدث في عهد الاستنارة في فرنسا، وكانت الولائم تولم للفلاسفة، والبحوث الطريفة يصفق لها كما يصفق للضربات القوية في الألعاب الأولمبية.
ولما أن أضيفت حرب السيوف إلى حرب الألفاظ في عام 432، استحال هياج العقول الأثينية إلى حمى احترق فيها كل ما كانت تتصف به تلك العقول من اعتدال وحكمة. وخبت نار هذه الحمى بعض الوقت بعد استشهاد سقراط أو بالأحرى توزعت من أثينة على غيرها من مراكز الحياة اليونانية. وحتى أفلاطون نفسه الذي عرف ما بلغته هذه الحمى وما أدت إليه من أزمات استُنفِدت قواه بعد أن دامت هذه الحال الجديدة ستين عاماً كاملة، وكان يحسد مصر على إيمانها الديني واستقرار أفكارها وهدوئها. ولم يشهد عصر من العصور المقبلة إلى أن حل عصر النهضة ما شهده هذا العصر من حماسة في التفكير وقوة في النقاش. وكان أفلاطون يمثل أعلى منزلة وصلت إليها الحركة التي بدأت ببارمنيدس، وكان لها بمثابة هجل Hegel لكانت Kant، ومع أنه لم يكن يتورع عن التنديد بآراء الفلاسفة، فإنه لم ينقطع يوماً ما عن تعظيم أبيه الميتافيزيقي. وفي بلدة إيليا الصغيرة القائمة على ساحل إيطاليا الغربي نشأت في عام 450 ق.م الفلسفة المثالية التي أثارت في كل قرن من القرون المقبلة حرباً شعواء على المادية ، وقذفت في بوتقة التفكير الأوربي مشكلة المعرفة الغامضة العجيبة، ومشكلة الفرق بين الظاهر من جهة وما لا يعرف ولا يمكن أن يعرف من جهة أخرى، وبين الحقيقي غير المنظور والمنظور غير الحقيقي، وظلت هذه الأفكار تغلي أو تغطمط طوال تاريخ اليونان القديم وفي أثناء العصور الوسطى حتى انفجرت مرةً أخرى في عصر كانت وعلى يديه وأضحت ثورة فكرية عارمة.
وكما أن هيوم Hume قد أيقظ "كانت"، كذلك كان أكسانوفان Xenophanes هو الذي دفع بارمنيدس إلى الاشتغال بالفلسفة، ولعل عقل بارمنيدس كان واحداً من عقول كثيرة أثارها قول أكسانوفان إن الآلهة ليست إلا أساطير، وإنه لا توجد إلا حقيقة واحدة هي العالم والله جميعاً. كذلك درس بارمنيدس مع الفيثاغوريين وسرى فيه شغفهم بعلم الفلك، ولكنه لم يضل في بيداء النجوم، بل كان كمعظم فلاسفة اليونان يهتم بالشئون الحية ومنها شئون الدولة. وقد كلفته إيليا أن يضع لها قوانينها، فلما وضعها أعجبت به إعجاباً جعلها تطلب إلى جميع قضاتها أن يحكموا في جميع القضايا بمقتضاها(3). ولعله أراد أن يرفِّه عن نفسه في حياته المفعمة بالعمل، فأنشأ قصيدة فلسفية في الطبيعة بقي منها إلى الآن نحو مائة وستين بيتاً تكفي لأن نأسف لأن بارمنيدس لم يكتب نثراً. وفي هذه القصيدة يعلن الشاعر، وهو يغمز بعينه، أن إلهة قد أوحت إليه أن الأشياء جميعها وحدة، وأن الحركة، والتغير، والنمو، أشياء غير حقيقية، فهي خيالات لمشاعر سطحية، متعارضة تافهة، وأن من وراء هذه المظاهر وحدة، متجانسة لا تتبدل، ولا تنقسم، ولا تتحلل، ولا تتحرك، وهي وحدة الكائنات، والحقيقة التي لا حقيقة سواها، والإله الذي لا إله غيره. لقد كان هرقليطس يقول إن كل شيء يتغير Panta Rei أما بارمنيدس فيقول إن الأشياء بأجمعها كل واحد أبداً Hen Ta Panta. وهو في بعض الأحيان يقول كما يقول أكسانوفان إن هذا الواحد هو الكون، ويصفه بأنه شبه كرى ومحدود، وكان في بعض الأحيان حين ينظر إليه نظرة فكرية مجردة يرى أن هذا الكائن هو الفكر ويقول: "إن الفكر والكون شيء واحد"(4). وكأنه يريد بهذا أن يفهمنا أن الأشياء لا وجود لها في إدراكنا، وأن البداية والنهاية، والمولد والموت، والتكوين والتدمير، لا تصيب إلا الأشكال والصور، أما الواحد الحق فلا بداية له ولا نهاية، وليس ثمة صيرورة، وليس ثمة إلا وجود، وأن الحركة أيضاً غير حقيقية لأنها تفترض انتقال شي من المكان الذي هو فيه إلى مكان لا يوجد فيه شي أي إلى الفراغ، ولكن الفراغ الذي هو غير كائن لا يمكن أن يكون، إذ ليس ثمة فراغ قط، لأن الواحد يملأ كل ركن وكل شق في العالم، وهو ساكن سكوناً سرمدياً .
ولم يكن ينتظر بطبيعة الحال أن يستمع الناس إلى هذه الأقوال كلها وهم صابرون، ويبدو أن السكون البارمنيدي كان الهدف الذي صوبت إليه مئات من الهجمات الميتافيزيقية. وترجع أهمية زينون الإليائي الحصيف تلميذ بارمنيدس إلى محاولته إثبات أن فكرتي التعدد والحركة كانتا من الوجهة النظرية على الأقل مستحيلتين كاستحالة واحد بارمنيدس الثابت القديم الحركة - وأراد زينون أن يدرب نفسه على الضلال والمشاكسة، وأن يسلي شبابه في الوقت نفسه، فألف كتاباً في المتناقضات وصلت إلينا تسع منها، حسبنا أن نورد منها ثلاثاً: وأولى هذه المتناقضات كما يقول زينون أن الجسم لكي يتحرك إلى نقطة أ لا بد أن يصل إلى ب وهي منتصف طريقه إلى أ، ولكي يصل إلى ب يجب أن يصل أولا إلى ج منتصف طريقه إلى ب، وهكذا إلى ما لا نهاية. وإذ كانت هذه السلسلة التي لا نهاية لها من الحركات تتطلب قدراً لا نهاية له من الزمن، فإن تحرك أي جسم إلى أية نقطة في زمن محدد أمر مستحيل. والثانية وهي صورة أخرى من الأولى أن أخيل السريع العدو لا يستطيع أن يدرك السلحفاة البطيئة. وذلك لأنه كلما وصل إلى النقطة التي كانت فيها السلحفاة، تكون السلحفاة في هذه اللحظة نفسها قد انتقلت من هذه النقطة. والثالثة أن السهم الطائر في الهواء هو في الحقيقة ساكن غير متحرك، لأنه في كل لحظة من طيرانه لا يكون إلا في نقطة واحدة في الفضاء، أي أنه يكون ساكناً، وحركته منطقياً وميتافيزيقياً غير حقيقية مهما بدا للحواس أنها واقعة فعلاً.
وجاء زينون إلى أثينة حوالي عام 450 ق.م. ولعله جاء إليها مع بارمنيدس وأثار ثائرة المدينة السريعة التأثر بقدرته على تحويل أي نوع من أنواع النظريات الفلسفية إلى سخافات غير معقولة. وقد وصف تيمون الفليوسي Temon of Phlius "لسان زينون ذي الحدين الذي يستطيع أن يبرهن على أن كل قول يقوله الإنسان غير حقيقي"(8).
ومن هذه النعرة قبل السقراطية (ونحن نسميها نعرة لأن جهلنا بالماضي يضطرنا إلى تسمية هذه المعاني بتلك الأسماء) كانت بداية علم المنطق كما كان بارمنيدس بالنسبة لأوربا هو واضع علم ما وراء الطبيعة. ولقد حاكى سقراط طريقة زينون الجدلية(9) محاكاة شديدة وإن كان قد ندد بها وشنع عليها، وبلغ من تحمسه لهذه الطريقة أن اضطر قومه إلى قتله لكي يريحوا عقولهم من جدله. ولقد كان أثر زينون في السوفسطائيين المتشككين حاسماً وقوياً، وكان لتشككه آخر الأمر الغلبة في بيرون Purrho وقرنيادس Carneades. وقد أصبح في شيخوخته رجلاً "ذا حكمة عظيمة وعلم غزير" (10) فأخذ يشكو من أن الفلاسفة قد حملوا مزاحه العقلي في أيام شبابه محمل الجد. وكان انقلابه الأخير سبب القضاء عليه. ذلك أنه اشترك في حركة تهدف إلى خلع الطاغية نيارقيس Nearches في إيليا ولكنه أخفق في محاولته، وقبض عليه، وعذب، وقتل(11). وصبر الفيلسوف على عذابه صبر الأبطال، وكأنما أراد بذلك أن ينضم اسمه بعد قليل من الزمن إلى أسماء أصحاب الفلسفة الرواقية.
الفصل الثاني: الماديون
لقد كان إنكار بارمنيدس للحركة والتغير بمثابة ثورة على ميتافيزيقية هرقليطس المائعة المزعزعة، وكذلك كانت عقيدة وحدة الكون ثورة عنيفة على عقائد الفيثاغوريين المتأخرين. ذلك أن هؤلاء الفلاسفة قد حولوا نظرية الأعداد التي قال بها كبيرهم إلى المبدأ القائل بأن الأشياء جميعها تتكون من أعداد أي من وحدات غير قابلة للانقسام(12). ولما أن أضاف فيلولوس الطيبي إلى هذا المبدأ أن "الأشياء جميعها تحدث بالضرورة والتوافق"(13) كان كل شي قد أعد لظهور المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد في الفلسفة اليونانية.
ففي عام 435 جاء لوقيبوس الملطي إلى إيليا وتلقى العلم على زينون. ولعله قد سمع هناك بالذرية العددية التي يقول بها الفيثاغوريون، ذلك أن زينون كان قد وجه بعض متناقضاته الدقيقة إلى عقيدة التعدد(14). واستقر لوقيبوس آخر الأمر في أبدرا وهي مستعمرة أيونية مزدهرة في تراقية. وقد ضاعت تعاليمه المباشرة فلم يبق منها إلا هتامة صغيرة هي قوله : "لا شي يحدث من غير علة، بل إن الأشياء كلها تحدث لعلة، وبالضرورة"(15). ولعل لوقيبوس قد أوجد فكرة الفراغ ليرد بها على أقوال زينون وبارمنيدس، وكان يأمل بهذه الطريقة أن يجعل الحركة مستطاعة من الوجهة النظرية كما هي واقعية من الناحية الحسية. ويقول : إن العالم يحتوي على جواهر فردية وعلى فراغ ولا شي غيرهما، وإن هذه الجواهر التي تتساقط في دوامة كبرى تسقط بالضرورة إلى الصور الأولية للأشياء جميعها، وينضم كل شي إلى مثيله، وبهذه الطريقة وجدت الكواكب والنجوم(16)، والأشياء جميعها بما فيها النفس البشرية مكونة من جواهر فردية(ذرات).
وكان دمقريطس تلميذ لوقيبوس أو زميله في تحويل فلسفة الجوهر الفرد إلى نظرية مادية كاملة. وكان والده من ذوي المكانة الملحوظة والثراء العظيم في أثينة(17)، ويقال إنه ورث منه مائة وزنة من المال (000ر800 ريال أمريكي) أنفق معظمها في الأسفار(18). وتقول بعض الروايات التي لا نجد ما يؤيدها إنه سافر إلى مصر وبلاد الحبشة وبابل وفارس والهند(19)، ويقول هو نفسه في ذلك : "لقد طفت بين معاصري في أكبر جزء من الأرض للبحث عن أبعد الأشياء، ورأيت أكثر الجواء والأقطار، وسمعت إلى أكبر عدد من المفكرين" . وأقام في بؤوتية الطيبية زمناً يكفي لتشبعه بنظرية فيلولوس في الذرية العددية(22)، ولما فرغت منه نقوده لجأ إلى الفلسفة، واخشوشن في معيشته، ووجه جهوده كلها إلى الدرس والتفكير، وقال : "إن الكشف عن برهان واحد (في الهندسة) خير لي من الحصول على عرش فارس"(23). وكان على شيء من التواضع لأنه كان يبتعد عن الجدل والنقاش، ولم يوجد مدرسة خاصة، وأقام في أثينة من غير أن يتعرف إلى أحد من فلاسفتها(24). وقد ذكر ديوجين ليرتيوس Diogenese Laertius (ديوجانس) ثبتاً طويلاً من كتبه في علوم الرياضة والطبيعة والفلك والملاحة، والجغرافية، والتشريح، ووظائف الأعضاء، وعلم النفس، والعلاج النفساني، والطب، والفلسفة، والموسيقى(25). ويسميه ثراسيلس Thrasyllus صاحب التمارين الخمسة في الفلسفة، ويطلق عليه بعض معاصريه اسم الحكمة (Sophia) نفسها(26). وقد بلغت معارفه من السعة والتعدد ما بلغته معارف أرسطاطاليس نفسه، ونال أسلوبه من الإعجاب ما ناله أفلاطون(27)، ووصفه فرانسس بيكن Francis Bacan في ساعة تخلى فيها عن عناده بأنه أعظم الفلاسفة الأقدمين على بكرة أبيهم(28).
وهو يبدأ كما يبدأ بارمنيدس ببحث تحليلي في الحواس فيقول إنه لا بأس علينا من الوثوق بها في الأغراض العملية، ولكننا لا نكاد نحلل ما تمدنا به من المعلومات حتى نجد أنفسنا ننتزع من العالم الخارجي طبقة بعد طبقة مما تضفيه عليه الحواس من اللون، والحرارة، والطعم، والنكهة، والحلاوة، والمرارة، والصوت. وهذه "الصفات الثانوية" كائنة فينا نحن أو في عملية الإدراك الكلية، لا في الشيء الموضوعي، وفي العالم الخالي من الآذان لا تحدث الغابة الساقطة صوتاً، ولا يكون لماء البحر مهما غضب هدير "والعرف (Nomos) هو الذي يجعل الحلو حلواً والمر مراً، والحار حاراً، والبارد بارداً، أما الحقيقة فهي أنه لا وجود إلا للجواهر الفردية (الذرات) والفراغ"(29). ومن ثم فإن الحواس لا تمدنا إلا بالمعلومات أو الآراء العامة، أما المعرفة الحقة فلا سبيل إليها إلا البحث والتفكير". والواقع أننا لا نعرف شيئاً، فالحق مدفون على بعد منا عظيم... ولسنا نعرف شيئاً معرفة أكيدة، بل كل ما نعرفه هو ما يحدث في جسمنا من تغيرات بتأثير القوى التي تصطدم به"(30). وكل الأحاسيس ناشئة من الجواهر الفردية التي يقذف بها الجسم الخارجي فتقع على أعضاء الحواس(31)، وليست الحواس كلها إلا أشكالاً من اللمس(32).
وتختلف الجواهر الفردية التي يتكون منها العالم في شكلها وحجمها ووزنها، وكلها تنزع إلى السقوط إلى أسفل، وتنتج من هذا حركة دائرية تتحد فيها الجواهر المتماثلة بعضها ببعض فتنتج من اتحادها الكواكب والنجوم. وهذه الجواهر لا يقودها فكر (Nous) أو ذكاء، ولا يرتبها "حب" أو "كراهية" كما يقول أنبادوقليس، بل إن الضرورة- أي الأثر الطبيعي للعلل الكامنة فيها هي التي تسيطر عليها جميعاً(33). وليس ثمة مصادفة، بل المصادفة خرافة اخترعت لتبرير جهلنا(34). وكمية المادة تبقى على حالها، لا يضاف إليها شيء جديد، ولا يفنى منها شيء(35)، وكل الذي يحدث هو تغير في اتحاد الجواهر الفردية. لكن صور الأشياء مع هذا لا حصر لها، وحتى العوالم نفسها يوجد منها في أكبر الظن عدد "غير محدود"، وهي تنشأ وتزول في موكب لا نهاية له(36). وقد نشأت الكائنات العضوية في مبدأ أمرها من التراب المبلل(37)، وكل شيء في الإنسان مصنوع من جواهر فردية، والروح نفسها مكونة من جواهر جد صغيرة ملساء مستديرة كجواهر النار، والعقل، والنفس، والحرارة الحيوية، والمبدأ الحيوي، كلها شي واحد، لا يختص بها الإنسان أو الحيوان بل هي منتشرة في العالم كله موزعة عليه، والجواهر الفردية العقلية الكائنة في الإنسان وغيره من الحيوانات التي بها نفكر في جميع أجزاء الجسم .
بيد أن هذه الجواهر الفردية الدقيقة التي تتكون منها النفس هي أكثر أجزاء الجسم نبلاً وأعظمها إثارة للدهشة. والرجل العاقل ينمي فكره، ويحرر نفسه من الانفعالات، والخرافات، والمخاوف، ويبحث بالتأمل والإدراك عن السعادة العقلية التي في متناول الحياة البشرية. والسعادة لا تنشأ من الطيبات الخارجية، بل ينبغي للإنسان أن يتعود على أن يجد في داخل نفسه مصادر متعته وسعادته"(42). والثقافة خير من الغنى...ولا تستطيع قوة أو ثروة أن ترجح اتساع دائرة العلم"(43). والسعادة تأتي متقطعة، و "اللذائذ المادية لا تشبع صاحبها إلا زمناً قصيراً"(44)، لكن الإنسان ينال سروراً أدوم إذا حصل على سلا م النفس وصفائها (أتاركسيا Ataraxia) وعلى البهجة (Euthumia). والاعتدال (Metriotes) قدر من النظام والتناسب في الحياة (Biou Symmetria). وفي وسعنا أن نتعلم الشيء الكثير من الحيوانات - "الغزل من العنكبوت، والبناء من العصفور، والغناء من العندليب والتَّمَّ" (45)، و "قوة الجسم لا تكون من أسباب النبل إلا في دواب النقل، أما قوة الخلق فهي سبب النبل في الإنسان"(46). وهكذا يفعل دمقريطس ما فعله من بعده الضالون في إنجلترا في عصر الملكة فكتوريا فيقيم على ميتافيزيقاه الشائنة صرحاً من المبادئ الخلقية الخلابة الظاهرة. "والأعمال الحسية يجب أن تصدر عن عقيدة لا عن قسر، ويجب أن يفعلها الإنسان للرغبة فيها لا أملاً فيما يناله عليها من جزاء..." ومن واجب الإنسان أن يشعر بالعار أمام نفسه إذا فعل الشر أكثر مما يشعر به أمام العالم كله" (47). وقد أوضح حكمته، ولعله برر أيضاً نصائحه، بأن عاش حتى بلغ من السن مائة عام وتسعة أعوام، أو تسعين عاماً كما يقول بعضهم(48). ويروي ديوجين ليرتيوس أنه لما قرأ دمقريطس على الجماهير أهم مؤلفاته كلها وصور كتاب العالم الأكبر Megas Diakosmos أهدت إليه مدينة أبدرا مائة وزنة (000ر600 ريال أمريكي)، ولكن لعل أبدرا كانت وقتئذ قد خفضت قيمة نقدها. ولما سأله بعضهم عن سر عمره الطويل أجاب بأنه كان يأكل عسل النحل في كل يوم وأنه كان يستحم بالزيت(49). ولما رأى آخر الأمر أنه قد عاش من العمر ما يشتهي أخذ يقلل من طعامه يوماً عن يوم يريد بذلك أن يميت نفسه جوعاً شيئاً فشيئاً(50)، ويقول ديوجين "إنه بلغ أرذل العمر(51) وإنه خيل إلى الناس أنه يحتضر. وحزنت أخته لأنه سيموت في أثناء عيد ثزموفوريا Thesmophoria فيحول موته دون قيامها بما يجب عليها نحو الإلهة، فما كان منه إلا أن أمرها بأن تخفف من لوعتها، وأن تأتيه كل يوم ببضعة أرغفة من الخبز الساخن (أو بقليل من عسل النحل(52). وأخذ يضع هذا الطعام فوق منخريه، واستطاع بذلك أن يطيل حياته خلال أيام العيد. فلما أن انقضت ثلاثة أيام العيد لفظ آخر أنفاسه دون أي ألم، كما يؤكد لنا هباركس وذلك بعد أن عاش مائة عام وتسعة أعوام".
واحتفلت مدينته بجنازته احتفالاً عاماً، وأثنى عليه تيمن الأثيني Timon of Athens. ولم ينشئ دمقريطس مدرسة خاصة، ولكنه صاغ أهم فرض من الفروض العلمية وأوجد للفلسفة نظاماً بقي بعد أن عفا الزمان على غيره من النظم التي ظلت تندد به، ولا يزال يظهر في العالم جيلاً بعد جيل.
الفصل الثالث: أنبادوقليس
المثالية تضايق الحواس، والمادية تكدر النفس، لأن أولاهما تفسر كل شيء ما عدا العالم، والأخرى تفسر كل شيء ما عدا الحياة، وإذا أريد مزج هذين النصفين من أنصاف الحقائق فلا بد من العثور على مبدأ محرك دافع يتوسط بين التركيب والنماء، وبين الأشياء والأفكار، وقد حاول أنكساغوراس أن يبحث عن هذا المبدأ في العقل الكوني، وحاول أنبادوقليس أن يبحث عنه في القوى الكامنة التي تنزع إلى الثورة والانقلاب. وكان مولد هذا الأكرغامي الشبيه بليوناردو Leonarda في عام مرثون، من أسرة غنية كانت مولعة بسباق الخيل ولعاً لم يكن يرجى معه أن ينبغ أحد أبنائها في الفلسفة. وقد درس بعض الوقت مع الفيثاغوريين، فلما نضج عقله أخذ يفشي بعض عقائدهم السرية فطرد من زمرتهم(54). وأولع أشد الولع بعقيدة تناسخ الأرواح، وأعلن بخيال الشعراء وعواطفهم أنه كان "في سالف الأيام شاباً، وفتاة، وغصناً مزهراً، وطائراً، وسمكة تسبح صامتة في البحر العميق" (55). وذم أكل الطعام الحيواني ووصفه بأنه لا يخرج عن أن يكون صورة من أكل اللحوم البشرية، أليست هذه الحيوانات تجسيداً جديداً لبعض الآدميين(56)؟ وكان يعتقد أن الناس جميعاً كانوا من قبل آلهة، ولكنهم خسروا مكانهم في السماء لارتكابهم شيئاً من الدنس أو العنف. ويقول إنه واثق بأنه يشعر في قرارة نفسه بما يوحي إليه بألوهيته قبل مولده. "وأي مجد عظيم وأية سعادة ليس فوقها سعادة قد تدهورت منهما الآن، وأصبحت أطوف الأرض مع الآدميين!" (57). وإذ كان واثقاً من هذا الأصل الإلهي فقد احتذى حذاءين من الذهب، ولبس ثوبين أرجوانيين، ووضع على رأسه إكليلاً من الغار، وقال لأبناء وطنه متواضعاً إنه محبوب أبلو، ولم يعترف لغير أصدقائه بأنه إله. وادعى أن لها قوى فوق قوى البشر، ومارس بعض طقوس السحر، وحاول بطريق العزائم والرقى أن ينتزع من العالم الآخر أسرار مصير الإنسانية. وعرض على الناس أن يشفي مرضاهم بسحر الألفاظ، وشفى كثيرين منهم حتى كاد الناس يصدقون دعواه. أما الحق فإنه كان طبيباً نطاسياً ذا آراء كثيرة في علم الطب، ومتمكناً من سيكولوجية الفن، وكان فوق ذلك خطيباً مصقعاً، "اخترع" كما يقول أرسطاطاليس، أصول البلاغة وعلمها غورغياس، فعرضها هذا للبيع في أثينة، وكان مهندساً أنجى سلينس من الوباء بتجفيف المستنقعات وتحويل مجاري الأنهار(59). وكان سياسياً شجاعاً تزعم، وهو أرستقراطي الأصل، ثورة على الأرستقراطية الضيقة، وأبى أن يكون حاكماً بأمره، وأقام حكماً ديمقراطياً معتدلاً. وكان شاعراً كتب في الطبيعة وفي التطهير شعراً بديعاً اضطر أرسطاطاليس وشيشرون إلى أن يضعاه في مصاف الشعراء المجيدين، وأظهر لكريشيوس إعجابه به بمحاكاته. وقال فيه ديوجين ليرتيوس : "وإذا ذهب إلى الألعاب الأولمبية استلفت جميع الأنظار، حتى لم يكن يذكر إنسان آخر بمثل ما يذكر به هو"(61)، ولعله كان كما يقول إلهاً.
ولم يبق لنا من أشعاره إلا 470 بيتاً لا نجد فيها إلا إشارات متقطعة لفلسفته، فنرى منها أنه كان يختار مبادئه من فلسفات مختلفة، ويرى في كل طريقة من طرائقها شيئاً من الحكمة، ولا يوافق بارمنيدس على رفض جميع ما يجيء إلينا من المعلومات عن طريق الحواس، بل يثني على كل حاسة ويرى أنها "طريقاً موصلاً للإدراك"(63). وعنده أن الحس ينشأ من انبعاث جزيئات تنتقل من الجسم الخارجي، وتقع على "مسام" (Poroi) الحواس، ومن أجل هذا يحتاج الضوء إلى بعض الوقت لكي يصل إلينا من الشمس(64)، وينشأ الليل من اعتراض الأرض لأشعة الشمس(65)، والأشياء كلها تتكون من عناصر أربعة : الهواء، والنار، والماء، والتراب، وتعمل في هذه العناصر قوتان رئيسيتان هما قوتا الجذب والطرد، أو قوتا الحب والبغض.
وينتج من اجتماع العناصر وتفرقها بفعل هاتين القوتين اجتماعاً وتفرقاً لا آخر لهما عالم الأشياء والتاريخ. فإذا كانت الغلبة للحب أي النزعة إلى الاتحاد تحولت المادة إلى نبات، واتخذت الكائنات العضوية أشكالاً مطردة الرقي. وكما أن تناسخ الأرواح يؤلف من الأنفس كلها سيرةً واحدة، كذلك لا يوجد في الطبيعة فرق واضح بين جنس وجنس، أو بين نوع ونوع. ألا ترى مثلاً أن "الشَّعر، وأوراق الشجر، وريش الطيور السميك، والحراشف التي تتكون على الأعضاء الصلبة، كلها من نوع واحد؟"(68). والطبيعة تنتج كل نوع من أنواع الأعضاء والأشكال، والحب يؤلف بينها، فيجعل منها تارةً هولات غريبة تهلك لعدم قدرتها على التكيف لتلائم البيئة المحيطة بها، وتارةً أخرى يجعل منها كائنات عضوية قادرة على التكاثر ومواءمة ظروف الحياة(69). والأشكال العليا كلها تنشأ من الأشياء السفلى(70)، وقد كانت الذكورة والأنوثة في بادئ الأمر مجتمعين في جسم واحد، ثم انفصلا وظلت كلتاهما تتوق إلى الاتحاد مع الأخرى . ويوجد في مقابل عملية التطور هذه عملية الانحلال، يمزق فيها الكره، أو قوة التقسيم، البنيان المعقد الذي أقامه الحب، فتعود الكائنات العضوية والنباتية عوداً بطيئاً إلى صور تزداد بدائية يوماً بعد يوم، ويظل هذا يحدث حتى تختلط الأشياء جميعها مرة أخرى في كتلة فطيرة غير محددة الشكل(72) وهاتان العمليتان المتبادلتان عملية التطور وعملية الانحلال مستمرتان إلى أبد الدهر في كل جزء على حدة وفي الكل مجتمعاً، وتتنازع القوتان قوة الائتلاف وقوة التفرقة، قوة الحب وقوة الكره، قوة الخير وقوة الشر، وتتوازنان في نظام عالمي شامل هو نظام الحياة والموت. ألا ما أقدم فلسفة هربرت اسبنسرا!(73). ومكان الله في هذه العملية غير واضح، وذلك لأن من الصعب أن نفرق بين الحقيقة والمجاز أو بين الفلسفة والشعر في أقوال أنبادوقليس، فهو في بعض الأحيان يوحد بين الإله وبين الكون نفسه، وفي بعضها الآخر يوحد بينه وبين حياة كل حي أو عقل كل عاقل، ولكنه يدرك أننا لن نستطيع قط أن نكون فكرة صحيحة عن القوة الخالقة الأساسية الأصلية. انظر مثلاً إلى قوله: "لن نستطيع أن نقرب الله منا قرباً يمكننا من أن ندركه بأعيننا، ونمسكه بأيدينا... ذلك أنه ليس له رأس بشري ملتصق بأعضاء جسمه، وليس له ذراعان متفرعتان تتدليان من كتفيه، وليس له قدمان ولا ركبتان ولا أعضاء مكسوة بالشعر. إنه كله عقل لا غير، عقل مقدس لا ينطبق عليه وصف، يومض في طيات العالم كله وميض الفكر الخاطف"(74). ويختم أنبادوقليس حديثه هذا بنصيحة الشيخوخة التي أنطقته بها الحكمة والكلالة: "ما أضعف وما أضيق القوى المودعة في أعضاء الإنسان، وما أكثر المصائب التي تثلم حد التفكير، وما أقصر الحياة التي يكدح فيها الناس والتي تنتهي بالموت. فإذا حل بهم زالوا من الوجود وتلاشوا كما يتلاشى الدخان وصاروا هواء، يعرفون أن ما يحلمون به ليس إلا الصغائر التي عثر عليها كل واحد منهم أثناء تجواله في هذا العالم. ومع هذا تراهم جميعاً يفخرون بأنهم عرفوا كل شيء. ألا ما أشد حمقهم وأكثر غرورهم! ذلك أن هذا الكلي الذي يفخرون بمعرفته لم تره عين ولم تسمعه أذن، ولا يمكن أن يدركه عقل إنسان"(75). واستحال في آخر سن من حياته واعظاً دينياً أكثر مما كان من قبل، منهمكاً في نظرية التجسيد، وأخذ يتوسل إلى بني جنسه أن يتطهروا من الخطيئة التي طردوا بسببها من السموات، ويدعو الجنس البشري، بما أوتي من حكمة بوذا وفيثاغورس، وشوبنهور، أن يمتنع عن الزواج، والتناسل(76). ولما حاصر الأثينيون سرقوصة في عام 415، بذل أنبادوقليس كل ما في وسعه لتأييد المقاومين وأغضب بذلك أكرجاس، التي كانت تحقد على سرقوصة بكل ما في قلوب الأقارب من حقد دفين، ونفي من بلده، فذهب إلى أرض اليونان القارية حيث وافاه الأجل في ميغارا كما تقول بعض الروايات(78). ولكن ديوجين ليرتيوس يروي عن هبوبوتس Hippobotus أن أنبادوقليس بعد أن أعاد إلى الحياة الكاملة امرأة اعتقد الناس أنها قضت نحبها غادر الوليمة التي أقيمت احتفاءً بشفائها، واختفى فلم يُرَ بعد ذلك أبداً. وتقول بعض الأساطير إنه ألقى بنفسه في فوهة بركان إتنا الثائر لكي يموت من غير أن يخلف وراءه أثراً، فيؤيد بذلك دعواه أنه إله. ولكن النار العنصرية غدرت به، فقذفت بخفيه النحاسيين، وتركتهما على حافة كأس البركان، كأنهما رمزان ثقيلان للفناء(80).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرّابع: السوفسطائيون
إن الذين يقولون إن بلاد اليونان هي أثينة يكذبهم أن أحداً من كبار المفكرين اليونان قبل سقراط لم يكن من أهل تلك المدينة، وأنه لم يعقبه مفكر من أهلها حتى جاء أفلاطون. إن المصير الذي لاقاه أنكساغورس وسقراط ليدل على أن الجمود الديني كان في أثينة أقوى منه في المستعمرات، وذلك لأن انفصال هذه المستعمرات من الناحية الجغرافية قد حطم بعض قيود التقاليد القديمة. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن أثينة كانت تبقى مدينة غير متسامحة إلى حد السخف والغباء ولا مجال فيها للتفكير الحر لو لم تقم فيها طبقة دولية من التجار، ولم يفد إليها جماعة السوفسطائيين. وقد كانت المناقشات التي تدور في الجمعية، والمحاكمات التي تجري أمام الهيليا، والحاجة المتزايدة إلى القدرة على التفكير تفكيراً منطقي الظاهر، وإلى التعبير عن الأفكار تعبيراً واضحاً مقنعاً، لقد كانت هذه كلها مضافة إلى ثراء المجتمع الإمبراطوري وتشوفه عاملاً في إشعار الناس بالحاجة إلى شيء لم يكن معروفاً في أثينة قبل بركليز، ونعني بذلك الدراسة العليا المنظمة للآداب، والخطابة، والعلوم، والفلسفة، وأساليب الحكم، والسياسة. ولم تُقابَل هذه الحاجة في بادئ الأمر بتنظيم الجامعات، بل قوبلت بوجود طائفة العلماء الجوالين يستأجرون قاعات المحاضرات، ويدرِّسون فيها ما يضعونه للتعليم من مناهج، ثم ينتقلون إلى مدن أخرى ليعيدوا فيها هذه الدراسة. وكان بعض هؤلاء المعلمين، ومنهم بروتاغوراس Protagoras، يطلقون على أنفسهم لقب سوفسطاي أي معلمو الحكمة(81)، وكان الناس يفهمون من هذا اللفظ ما نفهمه نحن من لفظ "أستاذ جامعي"، ولم يكن له معنى محط بالكرامة حتى قام النزاع بين الدين والفلسفة فأدى إلى هجوم المحافظين على السوفسطائيين، وأثارت نزعة بعضهم التجارية أفلاطون إلى أن تسوئ سمعتهم بأن عزا إليهم تهمة "السفسطة" بغية المكسب، وهي الوصف الذي ظل لاصقاً بهم إلى يومنا هذا. ولعل الجمهور كان يشعر نحو هؤلاء بشيء من الكره الخفي من بدء ظهورهم، لأن ما كانوا يتقاضونه من باهظ الأجر نظير تدريس المنطق والبلاغة لم يكن يطيقه إلا الأغنياء الذين أفادوا من علمهم هذا في دور القضاء(82). ولسنا ننكر أن المشهورين من السوفسطائيين كانوا يتقاضون ممن يعلمونهم أكثر ما يرضى هؤلاء أن يؤدوه إليهم من الأجر، وذلك هو قانون الأثمان في كل مكان... فكان بروتاغوراس، وغورغياس، كما يقول الرواة، يطلبان عشرة آلاف درخمة (000ر10 ريال أمريكي) أجراً لتعليم تلميذ واحد. غير أن من كانوا أقل من هذين شأناً كانوا يقنعون بأجور معتدلة، فكان برودكس Prodicus مثلاً - وهو الذي ذاع صيته في جميع أنحاء اليونان - يطلب ما بين درخمة وخمسين أجراً للاشتراك في مناهجه(83). وقد ولد بروتاغوراس أشهر السوفسطائيين جميعهم في أبدرا قبل مولد دمقريطس بجيل من الزمان. وكان في أثناء حياته أشهر الرجلين وأعظمهما نفوذاً، وفي وسعنا أن نستدل على ما كان له من شهرة واسعة بما أحدثته زياراته لأثينة من حماسة بالغة واهتياج فيها كبير، وحتى أفلاطون نفسه - وهو الذي لم يقل كلمة طيبة في السوفسطائيين عن قصد - كان يجله ويصفه بأنه على خلق عظيم. وفي الحوار الأفلاطوني الذي سمي باسمه نرى بروتاغوراس أحسن مظهراً من سقراط الشاب الكثير الجدل، فسقراط في هذا الحوار هو الذي يتحدث كما يتحدث السوفسطائيين. وبروتاغوراس هو الذي يسلك مسلك الرجل المهذب والفيلسوف، فلا يغضب أو يثور، ولا يحقد على أحد ما يبديه من دلائل الفطنة والذكاء، ولا يُحَمِّل حجج مناظريه من الجدل أكثر مما تتحمله، ولا يهتم قط بأن يتكلم. ويعترف بأنه أخذ على نفسه أن يعلم تلاميذه التبصر والحذر في الشئون الخاصة والعامة، وحسن تنظيم المنزل والأسرة، وفنون البلاغة أو الكلام المقنع والقدرة على فهم شئون الدولة وحسن إدارتها(86). وهو يبرر ما يأخذه من أجور عالية بقوله إن من عادته، إذا عارض تلميذ فيما يطلبه من أجر، أن يقبل منه أي أجر يراه التلميذ عادلاً على شريطة أن يؤكد ذلك في خشوع أمام مزار مقدس(87) - وتلك لعمري خطة حمقاء من معلم يشك في وجود الآلهة. ويتهمه ديوجين ليرتس بأنه "أول من سلح المجادلين بسلاح المغالطات المنطقية" وهي تهمة يسر منها سقراط بلا ريب، ولكن ديوجين يضيف إلى قوله: "كان بالإضافة إلى هذا أول من اخترع ذلك النوع من الجدل الذي يسمونه الجدل السقراطي"(88) -وهي تسمية قد لا يرتاح لها سقراط.
وكان من أفضاله الكثيرة أنه وضع أساس النحو وفقه اللغة الأوربيين، ويقول عنه أفلاطون إنه بحث في الطريقة الصحيحة لاستعمال الألفاظ، وإنه كان أول من قسم الأسماء إلى مذكرة ومؤنثة وغير مذكرة ولا مؤنثة، وأول من ذكر أزمان الأفعال وحالاتها (إخبارية أو شرطية الخ(90)). ولكن أهم ما يعنينا من أمره أن به، لا بسقراط، تبدأ النظرة الذاتية في الفلسفة. فقد كان على عكس الأيونيين يُعنى بالأفكار أكثر مما يعنى بالأشياء، ونعني بالأفكار عملية الإحساس، والإدراك، والفهم والتعبير بأكملها. فبينما كان بارمنيدس يرى أن الإحساس لا يهدي إلى الحقيقة، كان بروتاغوراس يرى كما يرى لُك Locke أنه السبيل الوحيد إلى المعرفة، ويأبى أن يعترف بوجود أية حقيقة تعلو على العقل ولا تدركها الحواس. ومن أقوال بروتاغوراس أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، وأن كل ما يوجد هو الحقائق التي يعتنقها بعض الناس في ظروف خاصة، وقد تكون الأقوال المتناقضة حقائق متساوية القيمة في اعتقاد أشخاص مختلفين أو في أزمنة مختلفة(91). والحقيقة كلها والخير والجمال، أمور نسبية وشخصية، "والإنسان هو المقياس الذي تقاس به جميع الأشياء فهو الذي يقرر أن الأشياء الكائنة كائنة، وأن الأشياء غير الكائنة غير كائنة"(92). ولقد يخيل إلى المؤرخ أن العالم كله قد بدأ يرتجف ويتزعزع كيانه حين أعلن بروتاغوراس هذا المبدأ البسيط من مبادئ الإنسانية والنسبية، وأن الحقائق المقررة والمبادئ المقدسة جميعها أخذت تتصدع وتنهار، وأن الفردية قد وجدت صوتاً ينادي بها وفلسفة تؤيدها، وأن الأسس فوق الطبيعية للنظام الاجتماعي قد تعرضت كلها لخطر الزوال.
ولولا أن بروتاغوراس قد طبق في وقت من الأوقات هذا التشكيك البعيد الأثر، والذي يتضمنه هذا القول الذائع الصيت، على شئون الدين لبقي قولاً نظرياً مأمون العاقبة. ذلك أن بروتاغوراس قرأه على جماعة من كبار المفكرين في بيت يوربديز الملحد الحر التفكير البغيض إلى الشعب. وقد أثارت أول جملة في هذه الرسالة ثائرة الناس في أثينة وكانت الجملة الأولى فيها هي: "أما من حيث الآلهة فلست أدري أهي موجودة أم غير موجودة كما لا أعلم لها شبهاً. وثمة أشياء كثيرة تقف في سبيل هذه المعرفة: فالموضوع غامض، وحياتنا الفانية قصيرة الأجل"(93).وارتاعت الجمعية الأثينية من هذه الكلمة الافتتاحية التي تنذر بشر مستطير فقررت نفي بروتاغوراس، وأُمر الأثينيون على بكرة أبيهم أن يسلموا كل ما عساه أن يكون لديهم من كتاباته، وأحرقت كتبه في السوق العامة. وفر بروتاغوراس إلى صقلية ولكنه، على ما ترويه القصة، غرق في الطريق(94).
وواصل غورغياس الليونتيني Gorgias of Leontini هذه الثورة التشكيكية، ولكنه أوتي من الحكمة ما جعله يقضي معظم حياته في خارج أثينة. وكانت سيرته أنموذجاً لسير الرجال الذين يجمعون بين الفلسفة والسياسة في بلاد اليونان. وقد ولد في عام 483، ودرس الفلسفة والبلاغة مع أنبادوقليس، وبلغ من شهرته في الخطابة وفي تدريسها أن أرسلته ليونيني في عام 427 سفيراً لها في أثينة. واستحوذ في الألعاب الأولمبية التي أقيمت في عام 408 على قلوب حشد كبير من الناس بخطاب له طلب فيه إلى اليونان المتحاربين أن يعقدوا الصلح فيما بينهم لكي يواجهوا وهم متحدون واثقون من الفوز قوة بلاد الفرس الآخذة في الانتعاش، وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ويشرح أينما حل آراءه بأسلوب خطابي طلي، وألفاظ ممتعة وعبارات منسقة في معناها ومبناها، متزنة اتزاناً دقيقاً بين الشعر والنثر، لم يجد معها أية صعوبة في جذب الطلاب إليه يعرضون عليه مائة مينا نظير منهجه الدراسي. وقد حاول في كتابه في الطبيعة أن يثبت ثلاث قضايا مدهشة مروعة هي أنه: (1) لا وجود لشيء ما. (2) ولو أن شيئاً وجد لكانت معرفته غير ممكنة. (3) ولو أن شيئاً كانت معرفته ممكنة لما أمكن نقل هذه المعرفة من شخص إلى آخر . ولم يبق من كتابات غورغياس غير هذه القضايا. وبعد أن استمتع بكرم كثير من الدول وأجورها ألقى عصا التسيار في تساليا وهدته حكمته إلى استهلاك معظم ثروته الطائلة قبل وفاته(96). ويؤكد لنا كل من أرَّخوا له أنه عاش حتى بلغ من العمر مائة سنة وخمس سنين على أقل تقدير، ويقول لنا كاتب قديم إن غورغياس، وإن بلغ من العمر مائة سنة وثمان سنين، لم يضعف جسمه من طول العمر، بل ظل إلى آخر حياته في جيد الصحة لا تقل قوة حواسه عن قوة حواس الشباب(97).
وإذا كان السوفسطائيين مجتمعين قد كونوا مدرسة متفرقة، فإن هيبياس الإليسي (Elis) كان مدرسة بمفرده، وكان أنموذجاً للرجل المتعدد المعارف في عالم لم تكن المعرفة فيه قد بلغت من الاتساع حداً يجعلها في غير متناول عقل واحد. فقد كان يعلم الفلك والرياضيات، وكانت له بحوث مبتكرة في الهندسة وكان شاعراً، وموسيقياً، وخطيباً. وكان يلقي محاضرات في الأدب، والأخلاق والسياسة، وكان مؤرخاً، وضع أساس التأريخ اليوناني وتقويمه وتسلسله بأن جمع ثبتاً من أسماء الفائزين في الألعاب الأولمبية، وأرسلته إليس مبعوثاً لها لدى دول أخرى، وكان يعرف من الفنون والحرف عدداً كبيراً أمكنه به أن يصنع ملابسه وأدوات زينته(98). وكان عمله في الفلسفة صغيراً ولكنه خطير، فقد كان يعترض على حياة المدن المصطنعة المؤدية إلى الانحلال، ويوضح الفرق بين الطبيعة والقانون، ويقول: إن القانون الظالم مستبد بالخلق(99). وواصل برودكس ألكيوس عمل بروتاغورس في النحو، وحدد أجزاء الكلام، وأدخل السرور على الشيوخ بوضعه قصة خرافية يصف فيها هرقل وهو يختار الفضيلة المجهدة بدل الرذيلة الهينة(100).ولم يكن غيره من السوفسطائيين أتقياء مثله: وكان منهم أنتيفون الأثيني الذي حذا حذو دمقريطس في ماديته وإنكاره الآلهة، والذي عرّف العدالة تعريفاً يجعلها هي الطريقة الملائمة للظروف الموصلة إلى الغاية المطلوبة، ومنهم ثرازيماكس الخلقدوني Thrasymachus of Chalcedon الذي قال إن الحق هو القوة (إذا أخذنا بما يقوله عنه أفلاطون) وإن نجاح الأوغاد ليبعث في نفوسنا الشك في وجود الآلهة(101). والسوفسطائيين في مجموعهم يعدون من العوامل التي كان لها أعظم الأثر في تاريخ اليونان، فهم الذين اخترعوا لأوربا النحو والمنطق، وهم الذين رقوا فن الجدل، وحللوا أشكال الحوار، وعلموا الناس كيف يكشفون الخطأ المنطقي وكيف يمارسونه، وبفضل ما بعثوه في اليونان من حافز قوي وما ضربوه بأشخاصهم من أمثلة شغف مواطنوهم بالمناظرة والاستدلال، وهم الذين استخدموا المنطق في اللغة فزادوا الأفكار وضوحاً ودقة، ويسروا انتقال المعرفة انتقالاً صحيحاً دقيقاً. وهم الذين جعلوا النثر صورة من صور الأدب والشعر ووسيلة للتعبير عن الفلسفة، وطبقوا التحليل على كل شيء، وأبوا أن يعظموا التقاليد المتواترة التي لا تؤيدها شواهد الحس أو منطق العقل، وكان لهم شأن كبير في الحركة العقلية التي حطمت آخر الأمر دين اليونان القديم عند طبقات الذهنيين. وفي ذلك يقول أفلاطون: إن "الرأي السائد" في زمنه هو أن "العالم وكل ما فيه من حيوان ونبات... وجماد نشأ من علة تلقائية غير مدركة" ولا عاقلة. ويحدثنا ليسياس Lysias عن وجود مجتمع يكفر بالآلهة يطلق على نفسه اسم "نادي الشياطين Kadodatimoniotai" كان أعضاؤه يتعمدون أن يجتمعوا ليطعموا في الأيام المقدسة التي كان الصيام مقرراً فيها(103). وكان بندار في بداية القرن الخامس يقبل ما ينطق به الوحي في دلفي قبول الأتقياء الصالحين، وكان إسكلس يدافع عنه دفاع السياسيين، وفي عام 450 انتقده هيرودوت وهو خائف وجل، وكفر به توكيديدس صهره في آخر ذلك القرن، وشكا أوطيفرون Euthyphro من أن الناس كانوا يسخرون منه إذا تحدث عن النبوءات في الجمعية، ويعدونه من البلهاء الذين دالت دولتهم(104).
وليس من حقنا أن نعزو الفضل في هذا كله إلى السوفسطائيين أو أن نلومهم عليه، فقد كان الكثير منه في الجو الذي يحيط بهم، وكان نتيجة طبيعية لازدياد الثراء، والفراغ، والأسفار، والبحث، والتفكير. وكذلك كان نصيبهم في تدهور الأخلاق أنهم اشتركوا في هذا التدهور مع غيرهم، ولم يكونوا العامل الأساسي فيه، ذلك أن الثراء في حد ذاته، إذا لم تقترن به الفلسفة، يقضي على التزمت وعلى الرواقية. ولكن السوفسطائيين عجلوا في نطاق هذه الحدود الضيقة وعلى غير علم منهم سير حركة الانحلال. لقد كان معظمهم، إذا غضضنا النظر عن حبهم الجم للمال وهو حب متأصل في طبائع البشر، من ذوي الأخلاق الطيبة والحياة المحتشمة المهذبة، ولكنهم لم ينقلوا إلى تلاميذهم التقاليد أو الحكمة التي جعلتهم أو أبقتهم فضلاء رغم علمهم أن المبادئ الخلقية قد نشأت بين بني الإنسان ولم تنزل عليهم من آلهة السماء، وأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان. ولعل نشأتهم في المستعمرات لا في بلاد اليونان الأصلية قد جعلتهم يستخفون بقوة العادة، بوصفها بديلاً سلمياً للقوة أو القانون، في المحافظة على النظام والأخلاق. ولقد كان تعريفهم للأخلاق أو لقيمة الإنسان تعريفاً قائماً على أساس المعرفة، كما فعل بروتاغوراس قبل سقراط بجيل من الزمان(105)، كان هذا التعريف باعثاً قوياً على التفكير، ولكنه كان ضربة زلزلت قواعد الأخلاق نفسها، كذلك كانت توكيد المعرفة والتعظيم شأنها من الأسباب التي رفعت مستوى اليونان العلمي والثقافي، ولكنه لم يقو من ذكائهم بنفس السرعة التي حرر بها عقولهم. ولم يكن قولهم إن المعرفة شيء نسبي سبباً في حمل الناس على التواضع كما يجب أن يكون، بل إنه أغرى كل إنسان بأن يتخذ من نفسه معياراً يقدر به جميع الأشياء، فأصبح كل شاب نابه يحس بأنه خليق بأن يحكم على القانون الأخلاقي الذي يسير عليه بنو وطنه، وأن يرفضه إذا لم يفهمه أو يعجبه، ثم يصبح بعدئذ حراً في أن يبرر رغباته حسب ما يراه هو بعقله، ويقول إنها فضائل النفس التي تحررت من رق القانون. وكانت التفرقة بين "الطبيعة" والعرف، وميل صغار السوفسطائيين إلى القول بأن ما تبيحه "الطبيعة" خير في ذاته على الرغم من حكم العادة أو القانون، كان هذا الميل وتلك التفرقة عاملاً في تقويض الدعائم القديمة للأخلاق اليونانية، ومشجعاً للناس على القيام بكثير من التجارب في أساليب العيش. وأخذ الشيوخ يأسفون لانقضاء ما كان يسود المنزل من بساطة وإخلاص، ولانهماك الناس في السعي وراء اللذة وجمع المال متحللين في ذلك من قيود الدين(106). ويحدثنا أفلاطون وتوكيديدس عن المفكرين والقادة الذين يقولون إن الأخلاق وهم وخرافة، والذين لا يعترفون بأي حق غير حق القوة. وهذه الفردية العارمة التي لا قيد لها من الضمير هي التي جعلت منطق السوفسطائيين وبلاغتهم وسيلة للاحتيال القانوني والتهريج السياسي، وحطت من قيمة نزعتهم العالمية الواسعة الأفق فجعلتها مجرد إحجام وحذر عن الدفاع عن بلادهم أو استعداد لبيعها لمن يؤدي فيها أغلى الأثمان، دون أن يشعروا بشيء من وخز الضمير. وأخذ الزراع المتدينون والأشراف المحافظون يرون ما يراه عامة المواطنين من أهل الحواضر الديمقراطيين وهو أن الفلسفة قد أصبحت خطراً يهدد كيان الدولة وينذرها بشر مستطير. واشترك بعض الفلاسفة أنفسهم في مهاجمة السوفسطائيين، فاتهمهم سقراط (كما اتهم أرسطوفان سقراط من بعد) بأنهم يموهون الخطأ بزخرف المنطق ويقنعونه بقوة البلاغة، وكان يحتقرهم لأنهم يتقاضون من الناس أجوراً(107). ويبرر جهله بالنحو بأنه لم يكن يستطيع حضور منهج برودكس الذي يكلف خمسين درخمة، ويقول إن كل ما كان في وسعه أن يحضر منهج الدرخمة الواحدة الذي يقتصر على المبادئ الأولية(108). وكتب في ساعة مشئومة تلك المقارنة القاسية يكشف فيها عن أمرهم:
"إنا لنعتقد يا أنتيفون أن في وسعنا أن نتصرف في الجمال أو في الحكمة تصرفاً شريفاً أو غير شريف، فالشخص إذا باع جماله بالمال إلى كل راغب في شرائه، سماه الناس "عاهراً" ذكراً، أما إذا صادق إنسان شخصاً يعرف أنه إنسان شريف جليل القدر يعجب به حسبناه رجلاً فطناً حصيفاً. والذين يبيعون الحكمة بالمال لكل من يتقدم لشرائها يسميهم الناس سوفسطائيين أو عاهري الحكمة إذا صح هذا التعبير.أما من يصاحب شخصاً يعرف أنه جدير بصحبته، ويعلمه كل ما يعرف من الخير فإنا نصفه بأنه يضطلع بالعمل الذي يليق بالمواطن الشريف"(109). ولم ير أفلاطون حرجاً في أن يوافق على هذا الرأي لأنه كان من الأثرياء. وبدأ إسقراط Isocrates حياته بخطبة ضد السوفسطائيين، ثم صار أستاذاً ناجحاً للبلاغة، يتقاضى ألف درخمة (ألف ريال أمريكي) عن النهج الواحد(110)، وواصل أرسطاطاليس هجومه عليهم وعرف السوفسطائي بأنه الرجل "الذي لا يحرص إلا على أن يثرى من وراء التظاهر بالحكمة"(111) ، واتهم بروتاغورس بأنه "يعد الناس بجعل أسوأ الأسباب يبدو كأنه أحسنها" (112).
وكان شر ما في هذه المأساة أن كلتا الطائفتين كانت على حق. فالشكوى من الأجور كانت غير عادلة. ذلك أنه لم تكن ثمة وسيلة غيرها يستطاع بها الإنفاق على التعليم العالي إلا إذا أمدته الدولة بالمال، وإذا ما انتقد السوفسطائيين التقاليد والأخلاق السائدة في عصرهم فلم يكن ذلك بطبيعة الحال عن سوء قصد فقد كانوا يظنون أنهم بعملهم هذا يحررون الناس من رق العقول، وكانوا بهذا الوصف وهم الطبقة الراجحة العقل في زمانهم يتصفون بما يتصف به أهل ذلك الجيل من شغف بالحرية العقلية، وقد فعلوا ما فعله علماء الموسوعات في عصر الاستنارة في فرنسا إذ انقضوا على الماضي الميت انقضاضاً جديراً بالإعجاب فاكتسحوه أمامهم دفعةً واحدةً. ولم يطل عمرهم، أو لم يكونوا بعيدي النظر في تفكيرهم، حتى يقيموا نظماً جديدة بدل النظم التي قوضها العقل بعد انطلاقه من عقاله. ولا بد في كل حضارة أن يحين الوقت الذي يتحتم فيه بحث الأساليب القديمة من جديد إذا أريد أن تكيف الحضارة نفسها لكي توائم التغيرات الاقتصادية التي لا تستطاع مقاومتها. ولقد كان السوفسطائيون أداة هذا البحث الجديد، ولكنهم عجزوا عن أن يضعوا السياسة المؤدية إلى هذا التكيف. وكفاهم فخراً أنهم كانوا حافزاً قوياً لطلب المعرفة، وأنهم جعلوا التفكير سنة العصر، وأنهم جاءوا من كافة أركان العالم اليوناني إلى أثينة بأفكار جديدة وأسباب للتفكير جديدة، وأيقظوا فيها الوعي الفلسفي والنضوج الذهني. ولولاهم لما وجد سقراط أو أفلاطون أو أرسطاطاليس.
الفصل الخامِس: سقراط
1- قناع سيلينس Silenus
مما يغتبط له الإنسان أن يقف آخر الأمر وجهاً لوجه أمام شخصية تبدو في ظاهر أمرها واقعية كشخصية سقراط. ونقول في ظاهر أمرها لأننا إذا تدبرنا المصدرين الذين لا مناص لنا من الاعتماد عليهما في كل ما نعرفه عن سقراط، وجدنا أن أحدهما وهو أفلاطون يكتب مسرحيات خيالية، وأن الآخر وهو أكسانوفون يكتب روايات تاريخية، وهذه وتلك لا يمكن أن تعدا من التاريخ الصادق الصحيح. وقد كتب ديوجين ليرتيوس في ذلك يقول : "يقولون إن سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً : أي هرقل ! ما أكثر الأكاذيب التي قالها عني هذا الشاب ! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هو بشيء منها"(113). والحق أن أفلاطون لا يدعي بأنه يقصر أقواله على الحقائق، وأكبر الظن أنه لم يدر بخلده قط أن المستقبل قد يعدم الوسائل التي يفرق بها بين ما هو سيرة حقة وما هو من نسج الخيال في كتابه. ولكن أفلاطون يرسم في المحاورات صورة منسقة لأستاذه من أيام شباب سقراط الوجل في البارمنيدس وثرثرته الوقحة في البروتاغوراس إلى تقواه المكبوتة واستسلامه في الفيدون، لا يسع الإنسان معها إلا أن يعتقد أنه إذا لم يكن هذا سقراط بحق فإن أفلاطون يعد من أكبر مبتدعي الشخصيات في الأدب بأجمعه. ويعتقد أرسطاطاليس أن الآراء المعزوة إلى سقراط في البروتاغوراس هي آراؤه بحق(114). وقد كشفت حديثاً هتامات من كتاب عن ألقبيادس كتبها إسكنيز الاسفتوزي Aeschines of Sphettos أحد تلاميذ سقراط نفسه ترجح تأييد الصورة التي رسمها له أفلاطون في الأجزاء الأولى من محاوراته كما ترجح تأييد قصة العلاقة الوثيقة التي كانت بين الفيلسوف وبين ألقبيادس(115). غير أن أرسطاطاليس من جهة أخرى يعد الذكريات Memorabilia والمائدة Banquet من القصص الموضوعة، أي الأحاديث الخيالية التي يردد سقراط في أكثرها آراء أكسانوفون نفسه. وإذا كان أكسانوفون قد صدق فيما نقله عن سقراط صدق إكرمان Eckerman فيما نقله عن جيته، فإن كل ما نستطيع أن نقوله في هذه الحال أنه عني بجمع سخافات المعلم التي لا ضرر منها، وأنه ليس من المعقول أن رجلاً أوتي من الفضائل ما أوتي سقراط حسب ما وصفه به أكسانوفون يستطيع أن يقلب الحضارة القائمة رأساً على عقب. على أن غير أكسانوفون من الكتاب الأقدمين لم يصوروا الحكيم القديم في صورة القديسين الصالحين كما صوره أكسانوفون. من ذلك أن أرسطوقسانيس التارنتي Aristoxenus of Tarentum ينقل عن أبيه - الذي يدعي أنه كان يعرف سقراط شخصياً - حوالي عام 318 أن الفيلسوف كان شخصاً مجرداً من التعليم "جاهلاً فاجراً"(117) ، وأن يوبوليس Eupolis الشاعر الهزلي فاق منافسه أرسطوفان في الافتراء على المشاء العظيم(118). وإذا أسقطنا من حسابنا ما يجر إليه الجدل من قسوة في اللفظ اتضح لنا على الأقل أن سقراط كان رجلاً نال من كره الناس وحبهم أكثر مما ناله أي إنسان آخر في عصره. وكان أبوه مَثالاً، ويقال إنه هو نفسه نحت تمثالاً لهرمس، وآخر لربات القدر الثلاث أقيم قرب مدخل الأكروبوليس(119). أما أمه فكانت قابلة، وكان من الفكاهات التي لا ينفك ينطق بها عن نفسه أنه لم يفعل أكثر من مواصلة حرفة أمه، ولكنه نقلها إلى دائرة الأفكار، فكان يساعد غيره على أن يخرجوا للعالم آراءهم. وتقول إحدى الروايات إنه ابن أحد الأرقاء(120)، ولكنا نرجح بطلان هذه الرواية لأنه عمل هيليتا أي جندي في فرق المشاة الثقيلة (وذلك واجب لا يضطلع به إلا المواطنون(121))، وأنه ورث عن أبيه بيتاً، وكان عنده من المال سبعون مينا (000ر7 ريال أمريكي)، يستثمرها له صديقه أقريطون(122)، أما فيما عدا هذا فإنه يصور لنا على أنه رجل فقير(123). وقد عني عنايةً كبيرةً بصحة جسمه، وكان في غالب أيامه قوي البنية جيد الصحة، واكتسب شهرةً فائقةً في الجندية أثناء حرب البلوبونيز، وحارب في بوتيديا Potidaea عام 432، وفي ديليوم Delium عام 424، وفي أمفبوليس عام 422. وفي بوتيديا أنقذ حياة الشاب ألقبيادس وسلاحه، ونزل عن جائزة الشجاعة إكراماً لخاطر هذا الشاب، وفي ديليوم كان آخر من تقهقر من الأثينيين أمام الإسبارطيين، ويلوح أنه أنجى نفسه بالتحديق في العدو، فخافه الإسبارطيين وهم قوم لا يخافون. ويقال إنه في هذه الوقائع كلها بز جميع أقرانه في قوة الاحتمال وفي الشجاعة، وإنه كان يصبر على الجوع والتعب والبرد فلا يشكو ولا يتململ(124). أما في بلده، إذا طاوعته نفسه على الإقامة فيه، فكان يشتغل بقطع الأحجار ونحت التماثيل، ولم يكن مولعاً بالأسفار، وقلما كان يخرج من المدينة ومرفئها. وتزوج من إكسانثبي Xanthippe التي كانت تعيب عليه إهمال شئون أسرته، فكان يعترف بعدالة شكواها(125)، ويثني على كرم أخلاقها وحسن معاملتها لابنه وأصدقائه. ولم يكن الزواج يضايقه قط فقد يبدو أنه اتخذ لنفسه زوجة ثانية حين أباح القانون تعدد الزوجات مدة قصيرة لكثرة من قتل في الحروب من الذكور(128). والعالم كله يعرف وجه سقراط وملامحه. وإذا حكمنا عليه من تمثاله النصفي المحفوظ في متحف ترمي Museo Dell Terme برومة، وذلك حكم لا يستند إلى أساس قوي، قلنا أنه لم يكن أنموذجاً صادقاً للوجه اليوناني(129). ذلك أن سعة وجهه، وأنفه الأفطس العريض، وشفتيه الغليظتين، ولحيته الكثة، كلها توحي بأنه ينتمي إلى أرض السهوب التي جاء منها أناكارسيس Anacharsis صديق صولون، أو ذلك السكوذي الحديث تولستوي. وقد كتب عنه ألقبيادس في إصرار عجيب، حتى في الوقت الذي يجهر فيه بحبه يقول: "أقول إن سقراط يشبه كل الشبه أقنعة سيلينس، التي يمكن رؤيتها في حوانيت التماثيل، وفي أفواهها مزامير وصفارات، وتنفتح في أوساطها فترى في داخلها صور الآلهة. وأقول أيضاً إنه يشبه مارسياس Marsyas الكائن الخرافي الذي يتكون نصفه الأعلى من إنسان ونصفه الأسفل من ماعز (Satyr)، ولست أعتقد أنك يا سقراط تنكر أن وجهك هو وجه ذلك المخلوق الخرافي"(130). ولم يعترض سقراط على هذا القول، بل إنه فعل ما هو شر من هذا فقد اعترف بأن له كرشاً مفرطة في الكبر وأنه يرجو أن ينقصها الرقص(131). ويتفق أفلاطون وأكسانوفون في وصفهم عاداته وأخلاقه. من هذه أنه كان يقنع بثوب بسيط رث يلبسه طول السنة، ويفضل الحفاء على الأحذية أو الأخفاف(132). وقد تحرر إلى حد لا يصدقه العقل من داء التملك الوبيل المصاب به الجنس البشري، ويقال إنه أبصر ذات مرة كثرة البضائع المعروضة للبيع فقال: "ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها!"(133) وكان يشعر بأنه غني في فقره. وكان مضرب المثل في الاعتدال وضبط النفس، ولكنه كان أبعد الناس عن حياة القديسين. وكان في وسعه أن يشرب كما يشرب أي رجل مهذب مثقف، ولم يكن في حاجة إلى الزهد لكي يحتفظ باستقامة خلقه . ولم يكن ناسكاً يعتزل الناس، بل كان يحب الرفقة الطيبة، وكان لا يأبى أن يُدعى إلى ولائم الأغنياء من حين إلى حين، ولكنه لم يخضع لهم أو ينحني امتثالاً لأمرهم، وكان في وسعه أن يعيش أحسن العيش دون معونتهم، وكان يرفض هدايا الكبراء والملوك وولائمهم(135). وجملة القول أنه كان رجلاً محظوظاً يعيش من غير كد، ويقرأ من غير أن يكتب، ويعلم من غير أن يلتزم خطة رتيبة، ويشرب دون أن يدور رأسه، ثم يموت قبل أن يدركه وهن الشيخوخة، وكان موته بلا ألم. وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق الملائمة لعصره، ولكنها أخلاق يصعب أن يرضى بها كل الرجال الصالحين الذين يثنون عليه. فقد "سرت نار" الحب في جسمه حين رأى كرميدس Charmides، ولكنه ضبط عواطفه بأن سأل نفسه هل لهذا الفتى هو الآخر "نفس نبيلة(136)؟". ويصف أفلاطون سقراط وألقبيادس بأنهما عاشقان، ويقول عن الفيلسوف إنه "يطارد الفتى الوسيم" (137) ، والشيخ وإن كان يبدو أنه قد جعل حبه في الغالب حباً أفلاطونياً، لم يستنكف أن يقدم النصح للائطين وللسراري عن خير الوسائل لاصطياد المحبين. وقد دفعته شهامته إلى أن يعد الحظية ثيودروا بمعونته، وقد جازته على هذه المعونة بدعوتها إياه أن "يتردد عليها ليزورها"(139). ولم تكن تفارقه دعابته ورقة حاشيته، ومن أجل هذا فإن الذين يطيقون آراءه السياسية يجدون من السهل عليهم أن يحتملوا أخلاقه. ولما قضى نحبه قال عنه أكسانوفون إنه "بلغ من إنصافه أنه لم يظلم إنساناً حتى في أتفه الأمور...، وبلغ من عدالته أنه لم يفضل في وقت من الأوقات اللذة عن الفضيلة، وبلغ من حكمته أنه لم يخطئ قط في تمييز الخبيث من الطيب، ومن قدرته على تبين أخلاق الناس ومن حضهم على اتباع سبيل الفضيلة والشرف أن بدا أنه بلغ أحسن ما يأمله أحسن الناس وأسعدهم"(140). وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى نفسه ببساطة خلابة فقال إنه "كان بحق أعقل، وأعدل، وأحسن من عرفت من الناس في حياتي كلها"(141).
2- صورة ذبابة الخيل
وإذ كان سقراط طلعة محباً للجدل فقد عمد إلى دراسة الفلسفة وأعجب وقتاً ما بالسوفسطائيين الذين غزوا أثينة في أيام شبابه. وليس لدينا شاهد على أن أفلاطون قد اخترع نبأ التقاء سقراط ببارمنيدس، وبروتاغوراس، وغورغياس، وبرودكس، وهيبياس، وثرازمكس. وما دار في لقائه بهم من أحاديث، وليس ببعيد أيضاً أن يكون قد رأى زينون حين وفد هذا إلى أثينة حوالي عام 450 ق.م. وأنه تأثر بجدله تأثراً لم يفارقه طول حياته(142). وأكبر الظن أنه عرف أنكساغورس بشخصه إن لم يكن عن طريق مبادئه، وذلك لأن أركلوس الملطي تلميذ أنكساغوراس كان في وقت ما معلم سقراط. وقد بدأ أركلوس هذا حياته العلمية عالماً في الطبيعة ثم اختتمها بأن كان دارساً لعلم الأخلاق، وقد فسر أصل هذا العلم وأساسه على قواعد العقل، ولعله هو الذي حول سقراط من الطبيعة إلى علم الأخلاق. ومن هذه الطرق كلها وصل سقراط إلى الفلسفة، ومذ تم له ذلك وجد "الخير أعظم الخير في حديثي كل يوم عن الفضيلة، وفحصي عن نفسي وعن غيري، لأن الحياة التي لا يفحص عنها غير خليقة بالرجال" .وهكذا أخذ يطوف بمعتقدات الناس، يخزهم بالأسئلة، ويطلب إليهم إجابات دقيقة محددة وآراء منسقة غير متناقضة، ويلقي الرعب في قلب كل من لا يستطيع أن يتحدث حديثاً واضحاً، وحتى في الجحيم نفسه يعرض أن يكون مشاء طلعة "يعرف مَن من الناس حكيم ومن منهم يدعي الحكمة وهو من غير أهلها"(144) وقد حمى نفسه من التعرض لأسئلة الناس ومناقشتهم إياه بمثل ما يناقشهم هو بأن أعلن أنه لا يعرف شيئاً، وأنه يعلم الأسئلة جميعها ولكنه لا يعلم شيئاً من أجوبتها، وقال عن نفسه متواضعاً إنه من "هواة الفلسفة"(145). ولعل الذي يقصده بقوله هذا أنه ليس واثقاً من شيء غير تعرض الإنسان للخطأ، وأنه ليس لديه طائفة من العقائد والمبادئ المقررة الجامدة. ولما أن أجاب مهبط الوحي في دلفي جوابه المزعوم عن سؤال كريفون Chaerephon المزعوم : "هل في الناس من هو أعقل من سقراط" وهو : "لا أحد"(146)، عزا سقراط هذا الجواب إلى اعترافه هو بجهله، وشرع من تلك اللحظة يقوم بذلك الواجب العملي واجب الحصول على أفكار واضحة، وقال عن نفسه : "إنه سيتحدث من حين إلى حين عما يهم الجنس البشري، فيبحث عن الصالح وغير الصالح، والعادل وغير العادل، وما يتفق مع العقل وما لا يتفق معه، وعما يعد شجاعة وما يعد جبناً، وعن ماهية الحكومة التي تسيطر على الناس، وعن صفات الرجل البارع في حكمهم، ثم يستطرد إلى موضوعات أخرى... يرى أن من يجهلونها يعدون بحق في طبقة العبيد"(147). وكان إذا صادف فكرة غامضة، أو تعميماً هيناً غير قائم على الحقائق، أو هوى خامرَ المتحدث إليه على غير علم منه، تحدى محدثه بقوله: "ما هو؟" ثم سأله أن يحدد ما يقول تحديداً دقيقاً. وأصبح من عادته أن يصحو مبكراً، ويذهب إلى السوق العامة، أو ساحات الألعاب أو مدارسها أو إلى حوانيت الصناع، ويأخذ في مجادلة أي إنسان يتوسم فيه الذكاء الحافز أو الغباء المسلي، وكان يسأل: "ألم يعمل الطريق إلى أثينة لكي يتحدث الناس فيه" (148)، وكانت الطريقة التي يتبعها سهلة خالية من التعقيد : كان يطلب إلى من يحدثه أن يعرف فكرة عامة شاملة، ثم يبحث هذا التعريف ليكشف في العادة عما فيه من نقص، أو تناقض، أو سخف وبطلان، ثم يستدرج محدثة بأسئلته المتعاقبة إلى تعريف أتم وأصح لا يقوله هو أبداً. وكان ينتقل أحياناً إلى فكرة عامة أو عرض فكرة أخرى جديدة ببحث سلسلة طويلة من الحالات المفردة الخاصة مكنته من أن يدخل قدراً من طريقة الاستقراء في المنطق اليوناني، وكان في بعض الأحيان يكشف بطريقة التهكم السقراطي المشهور عن النتائج المضحكة السخيفة التي تترتب على التعريف أو الرأي الذي يريد أن يهدمه. وكان مولعاً بالتفكير المنظم شغوفاً به، يحب أن يصنف الأشياء المفردة حسب جنسها، ونوعها، وما بينها من فوارق معينة، وبذلك مهد السبيل إلى طريقة أرسطاطاليس في التعريف، وإلى نظرية أفلاطون في الأفكار. وكان يصف الجدل بأنه فن التمييز بين الأشياء بعناية، وأنار دياجير المنطق المظلمة بفكاهته التي قدر عليها ألا يطول أجلها في تاريخ الفلسفة.
وكان معارضوه يعيبون عليه أنه يهدم ولا يبني، وأنه يرفض كل جواب ولا يجيب هو بشيء من عنده، وأنه بهذا أفسد الأخلاق وشل التفكير، وأنه في كثير من الحالات ترك الفكرة التي أراد أن يوضحها وهي أكثر غموضاً من ذي قبل وكان إذا حاول شخص حازم مثل أقريتياس Critias أن يسأله حوّل جوابه إلى سؤال آخر فأصبحت له من فوره ميزة على سائله. نعم إنـا نراه في البروتاغوراس يعرض أن يجيب على الأسئلة لا أن يسأل، ولكن هذه النية الطيبة لا تدوم إلا لحظة قصيرة، وعندئذ ينسحب بروتاغوراس، وهو الذي تمرس في المنطق من زمن طويل، من ميدان الجدل بهدوء(149). ويستشيط هيبياس غضباً من تملص سقراط وهروبه من الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة، ويرفع عقيرته بقوله: "قسماً بزيوس إنك لن تسمع (جوابي) حتى تعلن أنت ما ترى أنه العدالة، لأنه لا يكفي أن تسخر من الناس، وأن تسأل كل إنسان وتربكه، ثم تأبى أن تفصح عن سبب لأي إنسان، أو أن تعلن عن رأيك في موضوع ما"(150). وقد أجاب سقراط عن هذا التقريع وأمثاله بقوله إنه ليس إلا قابلة كأمه، "إن اللوم الذي يوجه إليّ كثيراً، وهو أني أسأل الناس أسئلة وأن ليس لدي من العقل ما أستطيع به أن أجيب عنها، لوم عادل لا اعتراض لي عليه، وسببه أن اللّه قد أرغمني على أن أكون قابلة، ونهاني عن أن ألد"(151). وذلك لعمري هروب واضح ما أخلقه بصديقه يوربديز.
وهو يشبه السوفسطائيين من وجوه كثيرة، ولم يكن الأثينيون يترددون في أن يطلقوا عليه هذا الاسم، على أنهم لم يكونوا يقصدون بهذا أن يعيبوه أو ينقصوا من قدره(152). والحق أنه كان سوفسطائياً بالمعنى الحديث لهذا اللفظ أي كان بارعاً في المراوغات الماكرة، والحيل الجدلية، يبدل مجال الألفاظ أو معانيها بحذق ودهاء، ويغرق المسألة التي يجادل فيها بالتشبيهات والاستعارات المفككة، ويماحك ويغالط كما يغالط صبيان المدارس، ويحارب بالألفاظ حرب الأبطال ولكن إلى غير غاية(153). وقد يعفو الإنسان عمن جرعوه السم لأنا لا نرى أن ثمة آفة شراً من المنطقي العارف بقوة منطقه. وكان يختلف عن السوفسطائيين في أربعة أمور : كان يكره البلاغة، وكان يرغب في تقوية الأخلاق، ولم يكن يدعي أنه يعلم أكثر من فن بحث الأفكار، وكان يأبى أن يأخذ أجراً على تعليمه - وإن كان يبدو أنه قبل في بعض الأحيان عوناً من بعض الأغنياء من أصدقائه(154). وكان تلاميذه يحبونه أشد الحب رغم عيوبه التي كانت تضايقهم، وقد قال مرة لواحد منهم : "ربما استطعت أن أساعدك في السعي لنيل الشرف والفضيلة، لأن كلامنا يميل إلى حب صاحبه، وأنا إذا أحببت الناس من كل قلبي وبادلوني هم حبهم من كل قلوبهم، يسوءني غيابهم عني كما يسوءهم غيابي عنهم. وأتوق لصحبتهم كما يتوقون لصحبتي"(155).
ويمثل أرسطوفان في رواية السحب تلاميذ سقراط بأنهم قد أنشأوا مدرسة ذات مكان معين يجتمعون فيه، وفي أكسانوفون فقرة تؤيد هذه الفكرة بعض التأييد(156)، ولكنه يصور لنا عادة بأنه يعلم في أي مكان يجد فيه من يعلمه، أو من يستمع إليه، غير أننا لا نجد عقيدة خاصة أو مبدأ خاصاً يجمع علينا أتباعه، فقد كانوا يختلفون فيما بينهم اختلافاً بلغ من شدته أن أصبحوا زعماء لأشد المدارس اختلافاً في بلاد اليونان - الأفلاطونية، والكلبية، والرواقية والأبيقورية، والتشككية. فكان منهم أنتستان Antisthenes الفخور الذليل الذي أخذ عن أستاذه مبدأ البساطة في الحياة وحاجاتها، وأسس المدرسة الكلبية. ولعله كان حاضراً حين قال سقراط لأنتيفون : "يبدو أنك تظن أن السعادة في الترف والإسراف، أما أنا فأرى أنك إذا لم تكن في حاجة إلى شيء كنت شبيهاً بالآلهة، وأنك إذا أقللت من حاجاتك قدر استطاعتك أصبحت أقرب ما تكون إلى الآلهة"(157). وكان منهم أيضاً أرستبوس الذي بنى على اعتراف سقراط بأن "في اللذة خيراً" العقيدة التي نشرها بعدئذ في قوريني Cyrene والتي دعا إليها أبيقور أثينة فيما بعد. ومنهم إقليدس الميغاري الذي جعل من الجدلية السقراطية تشككية تنكر المقدرة على كل معرفة حقة. وكان منهم الشاب فيدون الذي كان قد انحط إلى طبقة العبيد ثم افتداه قريطون Crito بإيعاز سقراط، وأحب سقراط هذا الشاب و "جعله فيلسوفاً". وكان منهم أكسانوفون القلق المضطرب الذي تخلى عن الفلسفة ليكون جندياً، ولكنه أثبت أن "لا شيء أعظم نفعاً من صحبة سقراط، والتحدث إليه في أية مناسبة وفي أي موضوع مهما يكن شأنه"(159). ومنهم أفلاطون الذي تأثر خياله القوي بالفيلسوف الحكيم تأثراً لم يفارقه طول حياته حتى امتزج العقلان وصارا في تاريخ الفلسفة عقلاً واحداً. ومنهم أقريطون الثري، الذي كان يهيم حباً بسقراط، والذي كان يحرص أشد الحرص على ألا يكون الفيلسوف الكبير في حاجة إلى شيء ما"(160). وكان منهم الشاب ألقبيادس المتهور الجريء الذي أساء بعدم وفائه إلى معلمه، وعرضه للأخطار في مستقبل الأيام، ولكنه كان في الوقت الذي نتحدث عنه يحب سقراط ويهيم به هيام الواله المتيم، والذي يقول فيه: "إنـا إذا سمعنا متحدثاً غيرك، وإن كان من أحسن الناس حديثاً، لم يكن لألفاظه أثر قط إذا قورنت بألفاظك، أما نتف ألفاظك أنت يا سقراط، ولو لم نسمعها منك أنت بل نقلت إلينا عنك مهما أخطأ فيها الناقلون، أما هذه النتف فإنها تخلب الألباب وتستحوذ على نفس كل رجل أو امرأة وكل طفل يستمع إليها... وإني لأعرف أني إذا لم أصم أذني عن سماع أقواله وأفر من صوته الذي يسلب العقل للازمته حتى بلغ سن الشيخوخة وبقيت جالساً تحت قدميه... ولقد أحسست في نفسي أو قلبي... بذلك الألم الشديد الذي هو أشد إيلاماً لنفس الشاب الشريف من أنياب الأفاعي ألا وهو ألم الفلسفة...وأنت يا فيدروس وأنت يا أغاثون، وأنت يا إركسماكوس، وأنت يا بوزنياس، وأنت يا أرسطوديموس وأنت يا أرسطوفان، أنتم كلكم، ولا حاجة لي بأن أضم إليكم سقراط نفسه، قد طافت بكم هذه التجربة نفسها وشغفتم بالفلسفة شغفي أنا بها"(161).
وكان منهم الزعيم الألجركي كرتياس الذي كان يستمتع بتهكم سقراط على الديمقراطية والذي كانت له يد في إدانته بأن كتب مسرحية وصف فيها الآلهة بأنها من ابتداع مهرة الصناع الذين يستخدمونها كما يستخدم خفراء الليل ليرهبوا بها الناس ويرغموهم على حسن الأدب(162). وكان منهم أيضاً ابن الزعيم الدمقراطي أنيتوس Anytus وهو شاب آثر أن يستمع إلى حديث سقراط عن العناية بعمله وهو الاتجار في الجلود. وشكا أنيتوس من أن سقراط قد أفسد عقل الغلام بما بث فيه من تشكك، فلم يعد يبجل أبويه أو يعظم الآلهة؛ هذا إلى أن أنيتوس كان يشمئز من نقد سقراط للديمقراطية ويقول : "أي سقراط! إني أظنك مفرطاً في استعدادك لأن تتحدث بالشر عن الناس، فإذا قبلت نصحي أشرت عليك أن تصطنع الحذر، ولعله لا توجد قط مدينة ليس إيذاء الناس فيها أيسر من عمل الخير لهم، وتلك بلا شك حال أثينة نفسها"(164) وأخذ أنيتوس يتربص به الدوائر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3- فلسفة سقراط
وكان من وراء هذه الطريقة فلسفة مراوغة، تجريبية، تجري على غير نظام، ولكنها فلسفة بلغ من جديتها وحقيقتها أن مات الرجل في واقع الأمر من أجلها. وقد يبدو لأول وهلة أن ليست هناك فلسفة سقراطية، ولكن أكبر السبب في هذا أن سقراط قبل نزعة بروتاغوراس النسبية فرفض النزعة التحكمية ولم يكن واثقاً إلا من جهله. وقد حكم على سقراط لأنه لا يؤمن بالدين، ولكنه مع هذا كان يعبد آلهة المدينة بلسانه إن لم يعبدها بقلبه، ويشترك في احتفالاتها الدينية، ولم يعرف عنه أنه نطق مرة بكلمة تدل على عدم تقواه(166). وكان يعترف بأنه يتبع في جميع قراراته الهامة السلبية روحاً Diamonion داخلياً كان يصفه بأنه إشارة من السماء، ومن يدري فلعل هذا الروح كان هو الآخر سخرية من سخريات سقراط وتهكماته، فإن كان كذلك فإن سقراط لم يكن ينفك يؤكد دعواه هذه تأكيداً عجيباً، ولم تكن هذه الدعوى إلا مثلاً من أمثلة عدة لالتجاء سقراط إلى النبوءات والأحلام وقوله إنها وحي من عند الآلهة(167). وكان يقول إن في الكون من الأمثلة الدالة على التناسق المدهش العجيب، ومن الخطة الواضحة المرسومة، ما لا يصح معه أن يعزى وجود العالم إلى الصدفة المحضة أو إلى أية علة غير عاقلة، أما الخلود فلم يكن واثقاً منه مثل هذه الثقة أو قاطعاً في أمره هذا القطع، فهو يستمسك به ويدافع عنه في الفيدون Phaedo أما في الأبولوجيا Apology فهو يقول : "إذا جاز لي أن أدعي بأني أكثر حكمة من غيري فسبب ذلك أني لا أعتقد أن عندي كثيراً من العلم بالدار الآخرة، وأنا في واقع الأمر لا علم لي بها على الإطلاق"(168). ويطبق هذه النزعة اللا أدرية نفسها على الآلهة في كتابه الكراتلس فيقول : "أما الآلهة فلسنا نعرف عنها شيئاً"(169). وكان ينصح أتباعه بألا يجادلوا في مثل هذه الأمور، يسألهم كما يسأل كنفوشيوس أتباعه هل عرفوا شئون البشر حق المعرفة فأصبحوا بعدئذ على استعداد لأن يتدخلوا في شئون السماء(170)؟ وكان يحس أن خير ما نفعله في هذه الناحية أن نقر بجهلنا، وأن نطيع في الوقت نفسه وحي دلفي حين سئل كيف يعبد الإنسان الآلهة فأجاب : "حسب قانون بلادكم"(171).
وكان يطبق هذا التشكك نفسه تطبيقاً أشد من هذا صراحة في العلوم الطبيعية فيقول إن من واجب الإنسان ألا يزيد في دراستها على القدر الذي يهتدي به في حياته، أما فيما عدا هذا فإن هذه العلوم بيداء يضل فيها العقل، يكشف كل لغز غامض فيها حين يحل عن لغز آخر أشد منه غموضاً(172). وكان في شبابه قد درس العلوم الطبيعية مع أركلوس Archelaus، فلما كبر ونضج عقله تركها وهو يعتقد أنها أسطورة خداعة إلى حد ما، ولم يعد يهتم بالحقائق أو بأصول الأشياء بل وجه اهتمامه إلى القيم والغايات. وفي ذلك يقول أكسانوفون "إنه كان على الدوام يتحدث في البشرية(174). وكان السوفسطائيون أيضاً قد حولوا اهتمامهم من العلوم الطبيعية إلى الإنسان، وبدءوا يدرسون الإحساس، والإدراك والمعرفة، ولكن سقراط تعمق أكثر من هذا في داخل الإنسان وأخذ يدرس الأخلاق والأغراض البشرية : "قل لي يا يوثيديموس، هل ذهبت في حياتك إلى دلفي؟". " وهل لاحظت ما هو مكتوب على جدار الهيكل- أعرف نفسك ؟" "نعم لاحظته". "وهل لم تفكر في هذه الكتابة، أو هل عنيت بها، وحاولت أن تفحص عن نفسك وتعرف عن يقين حقيقة أخلاقك؟"(175). فلم تكن الفلسفة إذن عند سقراط هي الدين، أو ما وراء الطبيعة، أو الطبيعة نفسها، بل كانت علم الأخلاق والسياسة، مدخلها والوسيلة إليها المنطق، وإذ كان قد عاش في ختام عصر السوفسطائيين فقد أدرك أن هذه الطائفة قد أوجدت حالة من أشد الحالات خطورة في تاريخ أية ثقافة من الثقافات وتلك هي إضعاف أحد الأسس التي تقوم عليها الأخلاق ونعني به خوارق الطبيعة. وبعد أن أدرك هذا لم يعد خائفاً مرتاعاً إلى الإيمان بالدين بل سلك السبيل إلى أعمق الأسئلة في علم الأخلاق : هل يستطاع وجود علم للأخلاق قائم على أساس من الطبيعة ؟ أي هل يمكن أن تبقى الأخلاق من غير الاعتقاد بخوارق الطبيعة ؟ وهل في مقدور الفلسفة إذا صاغت قانوناً قوياً أخلاقياً دنيوياً غير ديني أن تنقذ الحضارة التي تهددها حريتها الفكرية بالانهيار والزوال ؟ وحين يقول سقراط في الأوطيفرون أن ليس الخير خيراً لأن الآلهة ترضى عنه، بل إن الآلهة ترضى عن الخير لأنه خير، حين يقول هذا يعرض في واقع الأمر ثورة فلسفته. ولم تكن فكرته عن الخير فكرة دينية، بل كانت فكرة دنيوية إلى حد يجعلها نفعية. فهو يرى أن الصلاح ليس فكرة عامة مجردة، ولكنها فكرة خاصة عملية فالصالح صالح لشيء ما"، والصلاح والجمال شكلان من أشكال المنفعة والفائدة البشرية، وحتى السلة من الروث تكون جميلة إذا أحسن إعدادها للغرض الذي تؤديه(176). وإذ لم يكن ثمة (في رأي سقراط) شيء غير المعرفة يعادلها في نفعها، فإن المعرفة هي أسمى الفضائل والرذيلة جميعها هي الجهل(178)، وإن كان المقصود بالفضيلة (Arete) هنا هو التفوق لا البراءة من الذنوب. والعمل الصالح غير مستطاع بغير المعرفة الحقة، وبالمعرفة الحقة يكون العمل الصالح أمراً محتوماً لا مفر منه، والناس لا يفعلون قط ما يعرفون أنه خطأ- أي مضاد للعقل، ضار بهم. وأسمى أنواع الخير السعادة، وخير سبيل للوصول إليها هي سبيل المعرفة أو الذكاء.
ويقول سقراط إنه إذا كانت المعرفة هي أسمى الفضائل كانت الأرستقراطية خير أشكال الحكم، وكانت الديمقراطية سخفاً وعبثاً. وفي ذلك يقول أكسانوفون على لسان سقراط : "من السخف أن نختار الحكام بالقرعة على حين أن أحداً لا يفكر قط في أن يختار بالقرعة مرشد السفن أو البناء أو النافخ في الناي، أو أي صانع على الإطلاق، مع أن عيوب هؤلاء أقل ضرراً من عيوب أولئك الذين يفسدون حكوماتنا"(179). وهو يعيب على الأثينيين حبهم للتقاضي، وتحاسدهم الصاخب، ومرارة أحقادهم ومنازعاتهم السياسية، ويقول في ذلك : "ولهذه الأسباب تراني على الدوام أخشى أشد خشية أن يحل بالدولة شر تنوء به وتعجز عن تحمله"(180). وكان يظن أن لا شيء ينجي أثينة إلا حكم أصحاب المعرفة والكفاية، وليست السبيل إلى هذا الحكم هي الاقتراع، كما أن الاقتراع لا يصلح سبيلاً لتقدير كفاية مرشد السفن أو الموسيقى أو الطبي أو النجار. كذلك يجب ألا يختار موظفو الدولة على أساس جاههم أو ثرائهم، ذلك أن الاستبداد وسلطان المال لا يقل شرهما عن شر الديمقراطية. والسبيل الوسطى المعقولة هي النظام الأرستقراطي الذي تقصر فيه المناصب على الذين تؤهلهم لها عقولهم والذين يدربون على القيام بما تتطلبه من الواجبات(181). على أن سقراط كان يعترف بما للديمقراطية الأثينية من مزايا رغم ما يوجهه إليها من نقد، ويقدر ما أسدته إليه من حريات وما أتاحته له من فرص. وكان يبتسم ساخراً من ميل بعض أتباعه للدعوة إلى "العودة إلى الطبيعة"، وقد وقف من أنستانس ومن الكلبيين نفس الموقف الذي وقفه فلتير من روسو فيما بعد- وهو أن الحضارة، رغم عيوبها الكثيرة، كنز ثمين لا يصح أن تتخلى عنه لتستبدل به البساطة الأولية(182).
ومع هذا كله فقد كان الأثينيون ينظرون إليه نظرة الريبة والسخط، فأما المتمسكون منهم بالدين فقد كانوا يرونه أشد السوفسطائيين خطورة، لأنه وإن راعى ما في الدين القديم من أسباب المتعة والمسرة، رفض التقاليد المرعية، وأراد أن يخضع كل قاعدة من قواعده إلى حكم العقل بعد تقص وفحص، وأن يقيم قواعد الأخلاق على أساس ضمير الأفراد لا على أساس خير المجتمع أو أوامر الآلهة، وانتهى به الأمر إلى تشكك ترك العقل في حال من الاضطراب زعزعت كيان كل عادة وكل عقيدة. وكان الذين يمجدون الأيام الخوالي أمثال أرسطوفان يعزون إليه كما يعزون إلى بروتاغوراس ويوربديز زعزعة أركان الدين، وقلة احترام الصغار للكبار، والانحلال الخلقي عند الطبقات المتعلمة، وفوضى العزوبة التي كانت تقوض أركان الحياة الأثينية. ولقد كان الكثيرون من زعماء الحزب الألجركي من تلاميذ سقراط أو من أصدقائه، وإن كان هو نفسه قد أبى أن يؤيد هذا الحزب، ولما أن قام رجل منهم يدعى أقريتياس وقاد الألجركيين في ثورة بسطوا خلالها عهداً من الإرهاب الوحشي، اتهم الديمقراطيون أمثال أنيتوس، وملاتوس سقراط بأنه العقل المحرك للرجعية الألجركية، وأجمعوا أمرهم على إبعاده عن مجرى الحياة الأثينية.
وأفلحوا فيما أجمعوا أمرهم عليه، ولكنهم لم يفلحوا في القضاء على ما كان من نفوذ لا حد لقوته. ذلك أن الطريقة الجدلية التي تلقاها عن زينون انتقلت منه عن طريق أفلاطون إلى أرسطاطاليس فحولها هذا إلى نظام منطقي بلغ من الكمال درجة استطاعت بها أن تبقى دون أن يطرأ عليها تغيير ما تسعة عشر قرناً كاملة. أما العلم فقد كان له فيه أثر ضار، ذلك أنه حول الطلاب من البحث في العلوم الطبيعية، كما أن نظرية الغرض الخارجي لم تكن من العوامل المشجعة للتحليل العلمي. وربما كان لنزعة سقراط الفردية والذهنية في علم الأخلاق بعض الأثر فيما أصاب الأخلاق في أثينة من انحلال، ولكن رفعها من شأن الضمير، وقولها إنه أعلى من القانون، أصبحا من العقائد الجوهرية في الديانة المسيحية. وقد انتقل الكثير من آرائه على أيدي تلاميذه فأصبح مادة جميع الفلسفات الكبرى في القرنين التاليين. وكان أقوى أسباب نفوذه هو المثل الذي ضربه للناس بحياته وأخلاقه، فلقد أضحى في التاريخ اليوناني شهيداً وقديساً، حتى لقد كان كل جيل يبحث عن مثل أعلى للحياة البسيطة والتفكير الجريء يعود إلى الماضي ليستمد من ذكرى سقراط غذاء لمثله العليا. وفي ذلك يقول أكسانوفون : "كلما فكرت في حكمة الرجل ونبل أخلاقه رأيت أن ليس في مقدوري أن أنساه أبداً، أو أن أحاجز نفسي عن الثناء عليه حين أذكره، وإذا كان من بين أولئك الذين جعلوا الفضيلة غايتهم لإنسان قد اتصل بشخص أكثر معونة له في هذا الغرض النبيل من سقراط، فإني أرى أن هذا الرجل خليق بأن يعد أسعد الناس على الإطلاق"(183).